الملك عبد العزيز والسفير البريطاني جورج بيلهام
د. شافي بن عبد الرحمن الدامر - - 23/09/1429هـ
لا يحلو الاحتفال باليوم الوطني دون الحديث عن القائد والمؤسس المغفور له بإذن الله الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود؛ ذلك القائد الذي ندين له (كسعوديين) بتأسيس وإرساء دعائم وطننا الشامخ.
مر علي أثناء قيامي بدراسة وثائقية عن العلاقات السعودية ـ البريطانية (انظر: Aldamer, Shafi Saudi Arabia and Britain: Changing Relations, 1939-1953. Ithaca Press, 2003.) عديد من المواقف العظيمة للملك المؤسس. الذي حسب علمي أنه لم يكتب عنها في الصحف والمجلات المقروءة والواسعة الانتشار. بهذا تأتي مشاركتي - في مناسبة هذا اليوم العزيز- لإيفاء جزء ولو يسير من دين المحبة والوفاء الذي أكنه لشخص القائد المؤسس. وفي الحقيقة أن اطلاعي ودراستي تلك المواقف -التي أتت في الوثائق البريطانية كما سجلت في حينه - زادت من محبتي وإعجابي بوالدنا وقائدنا ومؤسس مسيرة نهضتنا الملك عبد العزيز ـ طيب الله ثراه.
لقد ورد أحد هذه المواقف التي يجب ألا تهمل أو تنسى، أثناء تأجج الأزمة التي نشبت بين المملكة وبريطانيا حول منطقة البريمي, وتحديدا أثناء محادثات "دبلوماسية الأزمة" التي جرت في الرياض، في يوم 19 نيسان (أبريل) 1953، بين كل من الملك عبد العزيز والسفير البريطاني في السعودية آنذاك، السفير جورج بيلهام George Pelham.
قبل الحديث عن تفاصيل ذلك الموقف لا بد من التنويه إلى أن الخلاف الحدودي الذي دار حول منطقة البريمي في تلك الفترة؛ هو في حقيقة الأمر خلاف سعودي - بريطاني، ولم يكن يعتبر - بأي حال- خلافا سعوديا مع إمارة أبوظبي أو أي إمارة عربية أخرى. بل لقد كانت بريطانيا هي المسؤولة عن التفاوض الخارجي لتلك المناطق في ذلك الوقت؛ وبذلك كانت هي صاحبة ذلك النزاع. بهذا لم يعتبر ذلك النزاع بمثابة خلاف عربي –عربي, بل إن استقلال الإمارات العربية المتحدة - في وقت لاحق- أدى إلى إيجاد حل سريع وأخوي لهذا الموضوع على يد المغفور لهما: الملك فيصل بن عبد العزيز والشيخ زايد آل نهيان في مطلع السبعينيات من القرن الماضي.
كانت القوات البريطانية في ذلك اليوم تحاصر مركز حماسة السعودي (في وقته)، وكانت بريطانيا تضغط بكل ثقلها السياسي والعسكري لإخراج ممثلي الملك عبد لعزيز من كامل منطقة البريمي, حيث كان يوجد داخل المركز المحاصر عدد من الرسميين السعوديين الذين كانوا تحت قيادة ممثل الملك عبد العزيز في منطقة البريمي آنذاك؛ تركي بن عطيشان.
لقد كان السفير جورج بيلهام من أدهى وأذكى السفراء البريطانيين الذين مثلوا بريطانيا لدى الملك عبد العزيز. فلم تكن تغيب عن ذهن السفير توظيف أي شاردة أو واردة تمكن بريطانيا من تحقيق نجاح في تلك المفاوضات؛ ودون أدنى شك أن مناظره كان أروع في توظيف كل ما من شأنه إنجاح حق الجانب السعودي.
أتت محادثات الرياض بعد أن أرسل الملك عبد العزيز عدداً من الرسائل بشأن الأزمة إلى رئيس الوزراء البريطاني آنذاك السير ونستن تشرشل، الذي قام الأخير بدوره بالرد عليها تمهيدا لمحادثات الرياض. وأوضح العاهل السعودي ـ في رسائله- عن امتعاضه من تشديد حصار القوات البريطانية على المركز السعودي؛ الذي منع من خلال تطبيقه إدخال جميع الأساسيات؛ بما فيها الأغذية. والذي تم كذلك من خلاله معاملة الرعايا السعوديين هناك معاملة غير جيدة. لقد تساءل الملك في إحدى رسائله الموجهة للسير ونستن تشرشل؛ وهي تحديدا، الرسالة التي أرسلت في يوم 10 نيسان (أبريل)؛ بقوله:
"ما إذا كان [تشرشل] مطلعا على تفاصيل تصرفات القوات البريطانية في البريمي أم لا؟ .. فإذا لم يكن مطلعا، فيتوقع [الملك] منه توقيف تلك التصرفات غير المسؤولة، وذلك من أجل إعادة تأسيس الثقة المتبادلة ومن أجل تثبيت علاقات الصداقة التاريخية بين البلدين, إما إذا كان تشرشل يعلم بتفاصيل تلك الأحداث ويريد الاستمرار فيها، فإن [عبد العزيز] يعتقد أن أجواء اجتماعه المقبل مع السفير البريطاني لن تكون مناسبة ألبتة".
لم ينكر تشرشل في رده على عبد العزيز، في 15 نيسان (أبريل) معرفته التامة (والمسبقة) بتفاصيل عمليات القوات البريطانية في البريمي. لكنه أكد في نص الرد نفسه رغبة وأمل الحكومة البريطانية في علاقة حميمة بين السعودية وبريطانيا، وفي التوصل لحل عادل لجميع الإشكاليات العالقة بينهما". كذلك بين تشرشل في الخطاب نفسه أن لقاء الملك مع السفير بيلهام؛ "سيكون في مصلحة البلدين وقد يمنع من تصعيد المزيد من أوجه الاختلافات بينهما".
لقد كانت جميع الأحداث - بما فيها التصرفات البريطانية - وكذلك جميع المراسلات والترتيبات تؤكد أهمية وحساسية وخطورة مفاوضات الملك عبد العزيز والسفير بيلهام. حيث كانت الظروف تتطلب أن تتم تلك المفاوضات بدبلوماسية بارعة وذكية؛ وإلا قد تكون نتائجها المواجهة العسكرية (والفعلية) بين الطرفين في منطقة البريمي. كذلك كان الملك عبد العزيز مدركاً عدم تكافؤ قوة مركز حماسة (الذي لم يكن عدد رجاله فيه يتجاوز المائة) وقوة القوات البريطانية الموجودة في (وحول) منطقة البريمي. لذا كان اتباع دبلوماسية العقلانية للوصول إلى حلول مشتركة أمرا مستحبا. إلا أن بعض الأحداث التي وقعت أخيرا في منطقة البريمي قد جعلت الملك يتفاوض مع بيلهام بحدية وحزم.
في أول لقاء بين الملك والسفير في صباح يوم 19 نيسان (أبريل)، كان جل الحديث يدور بشكل مبادئي حول الإمكانات المتاحة؛ بما فيها إمكانية إحالة موضوع النزاع (حول منطقة البريمي) إلى التحكيم. لقد كان ذلك الاجتماع بمثابة لقاء تمهيدي بكل المقاييس. حيث تبعه عديد من اللقاءات على مدى الأيام الخمسة اللاحقة، الذي اشترك فيها كذلك يوسف ياسين؛ التي تمخضت - عند نهايتها - في التوصل إلى صيغة تفاهم مشتركة حول آلية التحكيم.
المهم في اللقاء الأول الذي تم في صباح 19 نيسان (أبريل)، هو ملاحظة بيلهام؛ والذي لاحظ أن الملك لم يكن يهتم - أو يدقق- في الإجراءات والكيفيات التي من الممكن أن تؤدي إلى التوصل إلى صيغة مشتركة، بقدر ما كان يدور في ذهنه أمور أخرى.
وهذا بالفعل ما كان قد حصل؛ حيث وردت للملك في صباح ذلك اليوم (وربما في وقت سابق للقاء) أخبار غير سارة وغير مؤكدة –في الوقت نفسه - من منطقة البريمي. وهي أخبار حادث إمام مسجد صعراء؛ التي وردت تأكيداتها وتفاصيلها قبل الاجتماع التالي للملك والسفير. حسب تلك الأخبار: "فإن القوات البريطانية ألقت القبض (قبل يومين) على إمام مسجد قرية صعراء؛ وهي القرية المجاورة لحماسة من الناحية الشرقية. والأسوأ في الأمر أن عملية القبض تلك قد تمت أثناء وقت الصلاة، وأنه قد تم اقتياد ذلك الإمام من خلال جر لحيته في شوارع القرية؛ دون أدنى سبب يذكر، عدا كونه يحمل الجنسية السعودية".
تم الاجتماع الثاني، في مساء يوم 19 نيسان (أبريل)، في أجواء "متوترة إلى أبعد حد" حسب وصف السفير بيلهام. الذي وصف طبيعة النقاش فيه بالمستحيلة؛ حيث ذكر أنه "لم يكن بمقدوري إتمام جملة كاملة دون أن أعود لشرح بعض أجزائها. لقد كان الانزعاج والانفعال واضحا على الملك لدرجة كادت تنهي عملية التفاوض برمتها". لقد حاول بيلهام في بداية الأمر أن يؤكد "عدم وجود أي نيات لدي الحكومة البريطانية في الاعتداء على السعودية", إلا أن الملك عبد العزيز قد رد – بحزم - على تأكيدات السفير البريطاني بقوله "إن ما حصل في صعراء هو تجسيد لاعتداء بريطاني".
لقد أوضح الملك عبد العزيز أنه لم يكن يتصور أن تصل الأمور في علاقة مملكته ببريطانيا إلى هذا الحد، خصوصاً أن الأمر أصبح يمس الشرف والدين. لقد سجل السفير البريطاني في تقريره اللاحق إلى لندن فحوى قول الملك في لب إشكالية الموضوع:
"لم يكن [عبدالعزيز] يتخيل قط أن تودي به الأمور إلى خوض حرب ضد بريطانيا. ولكنه، على أتم الاستعداد بالتضحية (ولو) بآخر رجل في نجد، وبنفسه كذلك، ولا أن يجعل أي شائبة تشوب دينه وشرفه. لقد ضرب صدره بيده، ثم أشر إلي بأصبعه وقال عدة مرات بأسلوب معبر - لأبعد غاية متصورة: ديني وشرفي، ديني وشرفي".
لم تكن تلك العبارات (التحذيرية) البليغة والمعبرة تفوت على السفير جورج بيلهام، ولا على الحكومة البريطانية دون الملاحظة، ثم التدوين، ثم الدراسة. لقد أدت تلك العبارات إلى الاعتذار الفوري من قبل الحكومة البريطانية لما حصل في صعراء، وأدت كذلك إلى عدم تكرار حوادث مشابهه من قبل أي عناصر بريطانية في الأوقات اللاحقة. وحسب علمي أن السلطات البريطانية سارت بعد ذلك على النهج نفسه في التعامل (الطيب) مع جميع الرعايا المسلمين.
رحم الله الملك عبد العزيز، وأعاد هذا اليوم على وطننا بالخير والمسرات.
رئيس قسم الدراسات العامة وأستاذ العلوم السياسية المساعد
جامعة الملك فهد للبترول والمعادن
Aldamer@kfupm.edu.sa
24-09-2008, 01:56 AM
العرض العادي
المواضيع المتشابهه
