دوافع الإنجاز والتميّز
ان صناعة الانجاز والتميز والعقول المبدعة لا يتأتى عن طريق الصدفة، ولا بضربة حظ. ذلك أنه من بين ملايين البشر الذين عاشوا حياة عادية على كوكبنا ثم رحلوا عن هذه الحياة دون أن يتركوا خلفهم بصمة أو تغيير، برزت في مقابل ذلك قلة من الأفراد في كل عصر، ممن تميزوا بفاعليتهم وإنجازهم، بحيث غيروا وجه مجتمعاتهم بل العالم أجمع، ونقلوا البشرية إلى واقع جديد ومختلف، فأصبحت الحياة من بعدهم مختلفة عما قبلهم.
وتنوعت هذه القلة المتميزة من الناس، فكان من بينهم الأنبياء، والقادة الدينيون، والمصلحون الذين عملوا طويلاً في مختلف الأزمنة والعصور على سيادة القيم والمبادئ، وتغيير واقع الضلال والفساد، والانحراف الأخلاقي في مجتمعاتهم، وأبرزهم وأعظمهم نبينا محمد ، الذي دشن عصراً جديداً للبشرية، فأصبحت البشرية من بعده تختلف عن ما قبله.
وعلى ذات المنوال كان هناك رواد العلم والمعرفة، الذين برعوا في اكتشافاتهم واختراعاتهم، فغيروا وجه العالم، وليتسنى للبشرية بعدهم أن ترى المصباح الكهربائي، وغزو الفضاء، وتطوير تكنولوجيا الحاسب الآلي، والانترنت، وتكنولوجيا الاتصالات، لقد غير جميع ذلك واقع البشرية، فأصبح العالم يعيش وضعاً جديداً غير الذي كان عليه من قبل، ولملايين السنين.
والحقيقة التي لا يجب أن تغيب عن بالنا هنا؛ هي أن هناك مبدعين ومتميزين وناشطين في الميادين المختلفة، يقفون خلف هذا التقدم الهائل.
والأهم من ذلك كله أن هذه العقول المبدعة لم تأتِ جراء الصدفة المحضة.
إن بروز الطاقات المبدعة والمتميزة هو ثمرة طبيعية للجد والاجتهاد والعمل. فليس هناك من اختلاف خلقي أو تكويني لدى رواد الإبداع والتميز والتأثير عن سائر البشر، وإنما حباهم الله بذات النعم التي أعطاها لكل إنسان في هذه الحياة، والله تعالى يقول: ﴿وَاللّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ الْسَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾.
لا وجود للصدفة ولا لضربة الحظ في صناعة التميز والإبداع، فقد جعل الله سنناً كونية تحكم الحياة، فهناك في القرآن الكريم خمسة عشر آية تتحدث عن السنن الإلهية الجارية في المجتمعات البشرية، ومنها الآية الكريمة ﴿وَلاَ تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلاً﴾، والآية الكريمة ﴿سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَّقْدُوراً﴾، وآية ثالثة ﴿وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً﴾. فالمسألة ليست تميزاً تكوينياً ولا ضربة حظ أو صدفة، وإنما هي جد واجتهاد يدفع بالإنسان إلى آفاق أرحب، وبلوغ مستويات متقدمة في التميز والإبداع.
وللتعرف على أهم دوافع الانجاز والتميز الذي قدمته القلة المتميزة من أبناء البشر، يمكن الإشارة إلى ما يلي:
أولاً: وعي الإنسان بأهمية وجوده
إن وعي الانسان بأهمية وجوده في هذه الحياة تشكل أول وأهم دوافع السعي نحو التميز والابداع. فالله سبحانه وتعالى لم يخلق الانسان ليأكل ويشرب وينام، كما يقول الشاعر:
إنما الدنيا شراب وطعام ومنام فإذا فاتك هذا فعلى الدنيا السلام
على النقيض من ذلك، يقول الله تعالى: ﴿أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ﴾. ولذلك فالإنسان الذي يعي مهمة وجوده في هذه الحياة يعيش حياة مختلفة ومتقدمة على الآخر الذي لا يعي هدف وجوده. ويقول الله تعالى في آية أخرى: ﴿الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً﴾، هذه الآية دعوة للإنسان للإنجاز والتميز والإبداع.
وانطلاقا من آي الذكر الحكيم نجد بأن مهمة الإنسان في هذه الدنيا هي عمارة الارض، اذ يقول تعالى في محكم آياته: ﴿هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا﴾ أي طلب منكم عمارتها،، ويقول تعالى:﴿أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾، فالكون مسخر لكل إنسان، وفي السياق نفسه يقول أمير المؤمنين علي : (ما خلقت ليشغلني أكل الطيبات كالبهيمة المربوطة همها علفها أو المرسلة شغلها تقممها)[1] . نستطيع القول هنا بأن كل المبدعين والمتميزين الذين مروا على هذا العالم كانوا ملتفتين إلى هذا الأمر، ولا يعني ذلك بالضرورة أنهم كانوا قارئين لآيات القرآن الكريم ، لكن من المؤكد بأن فطرتهم السليمة وعقلهم السوي هداهم لهذه الحقيقة، وذلك بخلاف أولئك الذين يكتفون بالعيش دون هدف سوى طلب الدعة والراحة. فالمنجزون في هذا العالم هم الذين يعون مهمتهم في هذه الحياة، وهي تلك المتمثلة في عمارة الأرض واستثمار خيرات الكون.
ثانياً: معرفة القدرات الذاتية
يكمن الدافع الثاني للإنجاز والتميز لدى بعض الأفراد في تشخيص ومعرفة القدرات الذاتية. فالأشخاص ذوي الانجازات الضخمة هم أولئك الذين يكتشفون ما منحهم الله من طاقات وقدرات، ويمكن القول هنا أن المرء مهما حاول استكشاف قدراته فإنه يبقى قاصراً عن اكتشاف جميع قدراته وطاقاته الكامنة، ويعبر القرآن الكريم عن هذه الحقيقة في الآية الكريمة: ﴿وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً﴾. ويبقى الإنسان مدعواً باستمرار لاستكشاف قدراته لأنها تبقى الدافع الرئيس للإبداع والتميز.
ثالثاً: البيئة المشجعة
تمتاز المجتمعات المتقدمة بتوفر البيئة المشجعة على الانجاز. وتنبع عناصر التشجيع من العائلة أولاً، بأن تربي أبنائها على روحية الانجاز والإبداع والتطوير، ويأتي بعدها دور مناهج التعليم، وأخيرا المجتمع الذي يشجع المنتجين والعاملين.
إن قوة المجتمع في بناء طاقاته وكفاءته، وخاصة في هذا العصر، فهي التي تصنع المستقبل، وتصنع التقدير للمجتمع.
. وكم يفرحنا رؤية ابنائنا يحرزون التقدم في مختلف المجالات، من الفنون والثقافة، والعلم والمعرفة، والعمل التطوعي.
نسأل الله أن يوفق أبناءنا للمزيد من التقدم والابداع في كل المجالات.
والحمد لله رب العالمين .