سعد العبدالله.. سيرة حافلة بالعطاء والإنجازات الخالدة
في ذكرى رحيل فارس الكويت وعاشقها
دبي الحربي
في هذا اليوم من العام 2008 م، احتضن ثرى الكويت، واحدا من ابرز محبيه، ففي هذا اليوم ودع الشعب الكويتي رجلا عشق ارضه وشعبها، في مثل هذا اليوم رحل الشيخ سعد العبدالله الصباح الى جوار ربه، راضيا مطمئنا على الكويت، التي تحررت من عدوان غادر واحتلال غاشم، وكان له دور بارز في هذا التحرير والتخلص من آثار العدوان وإعادة البناء والتعمير، رحل الشيخ سعد العبدالله السالم الصباح وهو يحمل لقبا استحقه عن جداره «سمو الأمير الوالد»، فكان نعم الوالد ونعم الأمير، رحل عاشق الكويت وفارسها. عندما نستذكر الراحل نستذكره من باب مآثره ولا نتذكره من باب اذكروا محاسن موتاكم، بل من باب الاعتزاز والاقتداء والوفاء، فالرجل لم يمت بل يعيش في ذاكرة الوطن وقلوب اهله، وسوف تتناقل الاجيال مآثره جيلا بعد جيل، عزاؤنا الدائم بخير خلف لخير سلف.
الأمير الوالد الراحل سعد العبدالله السالم الصباح لم يكن شخصية قيادية عابرة في تاريخ الكويت الحديث، وإنما بصماته باقية في كل ركن وزاوية في مسيرة بناء الدولة، ومؤسساتها العصرية، الكل يجمع على ذلك.
في تاريخ الرجل محطتان بارزتان ارتبطتا بالاستقلال والتحرير، وكان مع كوكبة من رجالات الكويت العظام الذين أرسوا قواعد الكويت المستقلة.. الحرة.. الديمقراطية.. وهما خير مانبدأ به رحلة التأبين للزعيم الراحل.
وضع الدستور
المحطة الأولى: كانت مساهمة المغفور له الأمير الوالد الفعالة في صياغة الدستور عام 1962.
إذ كان البناء المؤسساتي للكويت الحديثة قد بدأت إرهاصاته الاولى في عهد المغفور له الشيخ أحمد الجابر الصباح، الحاكم الحادي عشر في تاريخ الكويت، حين انشئ مجلس الشورى العام 1921م والمجلسان التشريعيان العام 1938 وباقي المجالس التنفيذية المتخصصة، فإن عهد والده الشيخ عبدالله السالم الصباح رحمه الله قد أرسى قواعد وبناء الدولة الحديثة بدءا من توليه مسند الامارة العام 1950، حتى الاستقلال العام 1961، وقد شهد المرحوم الشيخ سعد العبدالله السالم الصباح وشارك في أدق تفاصيل بناء وصياغة دستور الكويت في العام 1962، ويشهد له زملاؤه من أعضاء لجنة صياغة الدستور في المجلس التأسيسي أمثال ( عبدالله محمد ثنيان الغانم، وحمود الزيد الخالد، ويعقوب الحميضي، وسعود العبدالرزاق رحمة الله عليهم جميعا ) وباقي اعضاء المجلس التأسيسي بأن الشيخ سعد العبدالله كان يدقق في كل كلمة وعبارة ويستحضر او يستقرئ الانعكاسات الايجابية والسلبية لكل مادة عند التطبيق، ويدخل في حوارات مطولة ومناقشات مستفيضة لأدق التفاصيل الصغيرة، لانه ببعد نظره يرى بذلك الدستور مستقبل وطن وشعب، وكان حريصا على ان يخرج دستور دولة الكويت كـواحد من افضل الدساتير العربية، وليس دستوراً للتطبيق ودستور للاستقرار والنماء، لا دستور للتنظير والشعارات الجوفاء.
الرجال مخابر
المحطة البارزة الثانية كانت عندما غزت جحافل الجيش العراقي بزعامة الدكتاتور العراقي السابق صدام حسين الكويت فجر 2/8/1990 في خطوة غادرة، وفي غفلة من الزمن، فكان للامير الوالد، رحمة الله عليه، موقفه المشهود في اللحظات الحرجة، وكان، بعد الله، سببا في الحفاظ على الشرعية، ممثلة برمزها الكبير الأمير الراحل جابر الأحمد الصباح، كان العالم بأسره قد فوجئ باجتياح القوات العراقية للاراضي الكويتية، في «فجر الخميس الأسود»، حيث جاء هذا الغزو الغادر بعد اجتماع جدة الذي زرع الأمل في حلحلة المشاكل المفتعلة من قبل النظام العراقي والسيطرة عليها.
وكانت الجهود، التي قام بها كل من المرحوم الملك فهد بن عبدالعزيز، والرئيس المصري حسني مبارك، قد اسفرت عن عقد اجتماع جدة في 31 يوليو 1990 بين وفدي العراق والكويت، لبحث اسباب الخلاف بين البلدين عن طريق الحوار الودي.
وترأس ولي العهد ورئيس مجلس الوزراء الشيخ سعد العبدالله في حينه، وفد دولة الكويت بينما ترأس الجانب العراقي نائب رئيس مجلس قيادة الثورة عزة ابراهيم الدوري، إلا ان الاجتماع واجه صعوبات، تمثلت في جمود الموقف العراقي ورفضه مناقشة اقتراحات الجانب الكويتي، حول مسألة الحدود، وطلبه تأجيل المحادثات لحين العودة إلى القيادة العراقية ممثلة بالدكتاتور صدام حسين.
وعاد الوفدان إلى بلديهما، ظهر يوم الأربعاء الأول من أغسطس، على أن يتم لقاء آخر لاستكمال المباحثات. وكان الرئيس العراقي السابق قد تعهد للملك السعودي والرئيس المصري بعدم استخدام القوة ضد الكويت، وبحل الخلافات بين البلدين بالحوار والطرق السلمية، وقد ثبت كذبه وغدره.
وفي صبيحة اليوم الثاني من شهر اغسطس 1990. فوجئ العالم بأسره باجتياح القوات العراقية للأراضي الكويتية، وتوجه ولي العهد اثر سماعه خبر دخول القوات العراقية الاراضي الكويتية إلى غرفة العمليات، برئاسة الاركان العامة للجيش الكويتي، وكان معه سمو ولي العهد الشيخ نواف الأحمد الجابر (وزير الدفاع آنذاك ) لمتابعة التحركات العراقية، التي ازدادت كثافتها وتحركها باتجاه مدينة الكويت.
إنقاذ الشرعية الكويتية
وعندما ادرك الشيخ سعد بأن هذه التحركات تستهدف القضاء على الشرعية الكويتية، اقترح مغادرة أمير البلاد قصر دسمان كإجراء احتياطي، ووافق أمير البلاد بعد إلحاح شديد، وكان معه المرحوم الشيخ جابر العلي، ووصلت السيارة التي يقودها النقيب فهد اليوسف الصباح إلى المركز الحدودي الكويتي في النويصيب، ومن ثم الى مركز الخفجي السعودي بعدها. وبعد ذلك اصدر الملك فهد توجيهاته الى أمير المنطقة الشرقية في المملكة العربية السعودية لمرافقة سمو أمير البلاد الى قصر الضيافة في الدمام. ويقول الراحل الكبير الشيخ سعد العبدالله الصباح عن تلك اللحظات الحاسمة في التاريخ :
«اتصالي مع صاحب السمو في تلك اللحظات المصيرية والاتفاق على الخروج من قصر دسمان افضل واخطر قرار في حياتي، إنها العناية الإلهية التي انقذت الشرعية، وأنقذت الكويت من شرور المخطط الإجرامي لرئيس النظام العراقي، فقد كان الفارق بين خروجنا من قصر دسمان وبداية هجومهم عليه لا يتجاوز نصف ساعة».
وأجرى الشيخ سعد رحمه الله اتصالات هاتفية من مدينة الخفجي لمتابعة ما يجري في الكويت وإطلاع المسؤولين في المملكة العربية السعودية ودول مجلس التعاون على كافة التطورات، ومن جهة أخرى عقد اجتماع لمجلس الوزراء الكويتي لمتابعة التطـورات، وردود الفعل الدولية ازاء هذا الحدث الجلل، وحث المجلس الشعب الكـويتي على الصمود والتصدي للعدوان، كما قامت السلطات في المملكة العربية السعودية الشقيقة باستقبال النازحين من الكويت بمختلف فئاتهم وجنسياتهم، ووفرت لهم اسباب الراحة والاقامة والمعيشة، وانتقل الشيخ سعد بعد ذلك الى مدينة الدمام السعودية ثم الرياض ثم الى مدينة الطائف وجدة، ومن هناك واصل جهوده واتصالاته وزياراته الاقليمية والدولية لحشد الجهود لتحرير الكـويت ورعاية اهلها في الداخل والخارج..
مسيرة العطاء
أبصرت عينا الأمير الوالد سعد العبدالله النور في العام 1930 ليكون الابن البكر للشيخ عبدالله السالم الصباح، أمير الكويت الأسبق رحمهما الله، وتلقى علومه في المدرسة المباركية. وما ان بلغ سن الثامنة عشرة حتى انخرط في مهمات بناء الدولة تمهيدا لمرحلة الاستقلال.
وعين في دائرة الشرطة العامة العام 1949 وتم إيفاده إلى المملكة المتحدة لدراسة علوم الشرطة فمكث أربع سنوات هناك وعاد العام 1954، وحين عاد من بعثته الدراسية العام 1954 عين نائبا لدائرة الشرطة وبقي في هذا المنصب حتى 1959 وكانت البلاد على وشك نيل استقلالها، حيث صدر مرسوم أميري بتعيينه نائبا لدائرة الشرطة والأمن العام بعد دمجهما، ثم رئيسا لها، وبعد الاستقلال اصبح أول وزير للداخلية العام 1962 فكانت له بصمات واضحة على صعيد الكثير من التشريعات والقوانين الخاصة بالشؤون المدنية والإقامة والجنسية وما الى ذلك.
وفي العام 1964 أوكلت اليه حقيبة وزارة الدفاع، اضافة الى وزارة الداخلية، فشكل المجلس الأعلى للدفاع، وقام بتعزيز القدرات الدفاعية للكويت في البر والبحر والجو، من حيث الكوادر البشرية والعتاد.
وفور حكم المغفور له الشيخ جابر الأحمد الجابر الصباح البلاد، خلفا للشيخ صباح السالم الصباح في1977 بادر إلى تزكية الشيخ سعد العبدالله الصباح ليكون وليا للعهد وذلك في 31 يناير 1978.
رئيسا لمجلس الوزراء
وفي 16 فبراير 1978 كلف الشيخ سعد بتشكيل الحكومة وكانت هذه هي الوزارة العاشرة في تاريخ الكويت بعد الاستقلال ( واستمر في رئاسة الحكومة حتى العام 2003 بعد ان اشتد عليه المرض وذهب للتشافي والعلاج في الخارج، وحينها كلف صاحب السمو الشيخ صباح الأحمد الصباح في رئاسة الحكومة بعد ظهور نتائج الانتخابات البرلمانية.).
وقدر للشيخ سعد العبدالله رحمه الله أن يتولى رئاسة الحكومة ( منذ 1978 - 2003 ) في ظروف محلية وإقليمية ودولية بالغة التعقيد، الاضطرابات والمظاهرات في ايران كانت في أوجها وانتهت باقتلاع عرش الشاه محمد رضا بهلوي... العراق شهد انقلابا ومجازر دموية نفذها صدام حسين برفاقه ليستولي على الحكم، فتعقدت علاقة بغداد بدمشق، السوفييت احتلوا افغانستان وتعالت أصوات الجهاد واختلط الحق بالباطل في العالمين العربي والاسلامي، الحرب الأهلية اللبنانية وقد اختلطت اوراقها وتحالفاتها التى تتغير يوميا، وازدادت الامور تعقيدا بعد نشوب الحرب العراقية- الايرانية التي استمرت ثماني سنوات عجاف وساهمت في اعادة انتاج وتأجيج الخلافات الطائفية.... في ظل تلك الظروف بذل الشيخ سعد جهودا كبيرة لمواجهة هذه التحديات والحد ما امكن من انعكاساتها السلبية على الكويت، وعمل على تعزيز قدرات البلاد الدفاعية والأمنية ورفع كفاءتها البشرية والمادية.
وبحكم رئاسته للحكومة لم تشغله هموم الخارج عن رعاية الأهل في الداخل حيث اهتمت الحكومات التي ترأسها الشيخ سعد في إصدار الكثير من التشريعات والقرارات المتعلقة بالرعاية السكنية والضمانات الاجتماعية والصحية للمواطنين وتحديث المرافق العامة وزيادة الخدمات في المجالات كافة وعنيت حكوماته بشؤون الثقافة ودعم المؤسسات التي تقوم بالبحث العلمي، ودعم صندوق احتياطي الأجيال المقبلة، والاستثمارات الخارجية وتنويع مصادر الدخل وحرص على تحقيق اقصى قدر ممكن من العدالة الاجتماعية... الخ.
وعند حصول الغزو العراقي على دولة الكويت عمل الشيخ سعد خلال فترة الاحتلال على رعاية مصالح المواطنين والمقيمين في الكويت وأعلن ضمان الحكومة لكل الودائع والمدخرات المصرفية والتزام الدولة تسديد جميع مرتبات الموظفين في القطاع الحكومي، بأثر رجعي وكذلك بسداد مكافأة نهاية الخدمة لجميع الذين غادروا البلاد من غير الكويتيين، وعمل على رعاية الكويتيين في الخارج وبذل جهودا كبيرة في دعم الصامدين ورجال المقاومة في الداخل، وزار دولا كثيرة وارسل الكثير من المبعوثين لدول اخرى، وكان يترأس مجلس الوزراء في اجتماع يومي، ويؤكد ان العدوان سيتم دحره وان الشرعية حتما ستعود.. وعندما تحررت البلاد في 26 فبراير 1991 كان الحاكم العرفي، حيث عمل على اعادة الاستقرار والأمن.
البعد القومي
كان للشيخ سعد العبدالله دور كبير في اعادة بناء الكويت بعد التحرير، حيث عمل على إصلاح ما تهدم خلال فترة الاحتلال وإزالة آثاره والتمهيد لعودة القيادة الشرعية. ومعاودة الكويت دورها الفاعل على الصعيدين العربي والدولي، والعودة الى منهجها الديمقراطي. وبقدر ما آمن المغفور له الشيخ سعد بأن قوة أبناء الكويت تكمن في وحدة الكلمة ووحدة الصف، آمن بأن قوة العرب الحقيقية في تضامنهم، ولذلك حرص باستمرار على لم الشمل العربي وتسوية المنازعات العربية بالطرق السلمية، والتركيز على الأهداف القومية للأمة العربية وقضاياها المصيرية. وليس ادل على ذلك من موقفه البطولي عندما اشتدت الازمة بين النظام الاردني من جهة ومنظمات المقاومة الفلسطينية في سبتمبر 1970 من جهة أخرى، وحوصر رئيس اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية ياسر عرفات في موقع الاشتباكات، لم يتردد الشيخ سعد عندما كان ضمن اللجنة التي شكلها مؤتمر القمة العربية الطارئ في القاهرة للعمل على وقف إطلاق النار بين الطرفين وكان الوفد برئاسة الرئيس السوداني الاسبق جعفر النميري، وقام الشيخ سعد رحمه الله باختراق خطوط النار غير عابئ بما يشكله ذلك من خطر على سلامته، ووصل الى مقر ياسر عرفات وأرغمه على ارتداء ثوبه «دشداشته» لينقذه مما كان ينتظره ويخرجه من منطقة المعارك التي كان محاصراً فيها، وكانت هذه المبادرة هي التي انقذت عرفات ومهدت لوقف الاقتتال بين الاشقاء وعقد صلح بين الاردن والمنظمة. طيب الله ثرى الشيخ سعد العبدالله السالم الصباح وتغمده بواسع رحمته فقد كان نعم القائد.. ونعم الوالد لوطنه وشعبه وأمته.
13-05-2009, 06:45 AM
في هذا اليوم من العام 2008 م،
العرض العادي
المواضيع المتشابهه
