مجالس العجمان الرسمي


مجلس الدراسات والبحوث العلمية يعنى بالدراسات والبحوث العلمية وفي جميع التخصصات النظرية والتطبيقية.

رد
 
أدوات الموضوع طرق مشاهدة الموضوع
  #11  
قديم 15-04-2005, 11:09 PM
د.فالح العمره د.فالح العمره غير متصل
 
تاريخ التسجيل: Feb 2005
الدولة: في قلوب المحبين
المشاركات: 7,593
معدل تقييم المستوى: 27
د.فالح العمره is on a distinguished road

لمحة تاريخية عن الدولة العبيدية
إعداد: عبد الرحمن كيلاني

--------------------------------------------------------------------------------

مقدمة
كثيرة هي الدعوات التي ظهرت في تاريخ المسلمين والتي تدعي الانتساب لآل بيت النبي صلى الله عليه وسلم، وأن الخلافة من حقهم منصوص عليها بأحاديث مكذوبة نسبوها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقد اخترنا أن نتكلم عن أحد هذه الدعوات والتي نتجت عنها دولة العبيديين والتي تدعى تضليلاً للناس دولة الفاطميين، نسبة إلى فاطمة رضي الله عنها. سندرس كيف بدأت هذه الحركة وعقيدتها وتاريخها، وعلاقتها بالتشيع والحركات الأخرى، وما هي الفرق التي تفرعت عنها. وقد اخترنا أن ننقل ما أورده باختصار الأستاذ محمود شاكر في كتابه «التاريخ الإسلامي» عن بدء هذه الحركة، ثم ننتقل إلى الدولة العبيدية وتاريخها..

يقول الأستاذ محمود شاكر:

«نشطت الحركات القرمطية، وتعددت جماعاتها، وإذا كانت قد نُسبَت في أول أمرها إلى قرمط وهو حمدان بن الأشعث، إلا أنه قد أصبحت كل جماعة تحمل فكرة قرمط تُنسب إليه، وهي تعتمد على إطلاق العنان للشهوات البهيمية لاستغلال الشباب واستغلال المحرومين من الحياة الزوجية لبعدهم عن مواطنهم وعدم إمكاناتهم من الزواج، والحاقدين في الوقت نفسه على المتزوجين المنعّمين، كما تعتمد على شيوعية الأموال واستغلال الفقراء والناقمين على الأثرياء، أو استغلال الأرقاء على ساداتهم، ثم الإفساد بالأرض بكل وجوهه وأساليبه.

ففي جنوبي العراق وجد زكرويه بن مهرويه، وهو من أصل فارسي، شدّةً عليه، فمن ناحية ينقم عليه أتباع قرمط وابن عمه عبدان، ومن ناحية ثانية فقد اشتد الخليفة المعتضد في ملاحقة أتباع هذه الأفكار الكافرة من جهة والدنيئة من جهة أخرى، فأما الناحية الأولى فقد انتهى منها بالتخلص من «عبدان» بقتله، ويبدو أن يحيى بن زكرويه هو الذي تولى عملية القتل، ثم تلاه التخلص من حمدان. أما الناحية الثانية وهو ضغط الخليفة فلم يستطع أن يتخلص منه بل اشتدت وطأته عليه، لذا فقد بقي في مخبئه وظن أنه يمكنه أن يضم إليه أتباع قرمط في المستقبل بزوال رئيسهم حمدان، ومفكرهم عبدان ما دامت الفكرة واحدة، ورأى أن بلاد الشام تعمّها الفوضى، والحكم الطولوني فيها قد أصبح ضعيفاً لذا يمكن أن تكون مجالاً لنشاطه فأرسل أولاده. بعث يحيى بعد أن بايعه أتباع أبيه زكرويه في سواد الكوفة عام 289 هـ، ولقّبوه بالشيخ، كما كان يُعرف بأبي القاسم. ادّعى يحيى نسباً إسماعيلياً فزعم أنه محمد بن عبد الله بن محمد بن إسماعيل بن جعفر الصادق، وادّعى لجماعته أن ناقته مأمورة، فإن تبعوها ظفروا، وأظهر لهم عضداً ناقصة وزعم أنها آية، وقد تسمّوا بالفاطميين، وأرسل لهم هارون بن خمارويه جيشاً بقيادة «طغج بن جف» فهزمته القرامطة، وسارت نحو دمشق بعد أن انتهبت وانتهكت البلاد التي مرت عليها كلها، وحاصرت دمشق عام 290 هـ ولكنها عجزت عن فتحها، وأرسل الطولونيون لها جيشاً بقيادة «بدر الكبير» غلام أحمد بن طولون، فانتصر على القرامطة وقتل زعيمهم يحيى بن زكرويه.

أرسل زكرويه بن مهرويه من مخبئه ابنه الثاني «الحسين» وادّعى الآخر نسباً إسماعيلياً فزعم أنه أحمد بن عبد الله بن محمد بن إسماعيل بن جعفر الصادق، ووضع شامة على وجهه، لذا عُرِف باسم «صاحب الخال» أو «أبو شامة» وذكر لأصحابه أنها آية له (!)، وسار في إثر أخيه قبل أن يُقتَل.

لما شعر يحيى بن زكرويه أنه عاجز عن فتح دمشق إذ جاءت أهلها نجدات من بغداد ومن مصر، وأحسّ أنه مقتول لا محالة ادّعى أنه سيطلع إلى السماء غداً، وأنه سيبقى فيها أربعين يوماً، ثم يعود، وأن أخاه «الحسين» سيأتي غداً في نجدة -وكان قد بلغه ذلك- فعليهم بيعته والقتال معه والسير وراءه، وفي اليوم الثاني جرت المعركة قرب دمشق قُتِل فيها يحيى بن زكرويه وكان قد عرف يومذاك بصاحب الجمل حيث كان يمتطي جملاً خاصاً.

وكما اشتدت وطأة المعتضد على القرامطة في جنوبي العراق اشتدت في كل مكان، ففي السلمية في بلاد الشام زاد الطلب على أسرة ميمون القداح التي تزعم أنها تعمل لأبناء محمد ابن إسماعيل، وتريد في الواقع أن تعمل لنفسها وتخفي في الباطن ما تدعو إليه، ولها هدف سياسي واضح من أصلها اليهودي. وبسبب هذا الطلب فقد فرّ عبيد الله بن الحسين بن أحمد بن عبد الله بن ميمون القداح من السلمية وهو رأس هذه الأسرة واتجه نحو الجنوب حيث اختفى في الرملة. وفي هذا الوقت كان الحسين بن زكرويه في طريقه من الكوفة إلى أخيه يحيى بدمشق، فعرج الحسين إلى الرملة وعرف مكان عبيد الله، والتقى به، وحاول استرضاءه وإظهار الطاعة له عسى أن يستفيد منه. وأظهر عبيد الله رضاه عنه وموافقته على عمله خوفاً من أن يقتله أو يرشد عليه عامل العباسيين، حيث كان آل زكرويه يريدون التفرُّد بالسلطة، ويرجعون بأصولهم إلى المجوسية، وإن عبيد الله أقوى من أن يقف في وجههم. وما أن غادر الحسين بن زكرويه الرملة حتى انصرف منها أيضاً عبيد الله متجهاً نحو مصر.

سار الحسين من الرملة إلى دمشق فوجد أخاه يحيى قد قُتل، فالتفّ القرامطة حوله، وحاصر بهم دمشق، لكنه عجز عن فتحها، فطلبه أهل حمص فسار إليهم فأطاعوه، ثم انتقل إلى السلمية فامتنعت عنه، ثم فتحت أبوابها له بعد أن أعطى أهلها الأمان، وما أن دخلها حتى نكّل بقانطيها، فأحرق دورها، وهدم القلاع فيها، وقتل الهاشميين فيها [1][1]، دلالةً على الحقد الذي يغلي في صدور هذه الفئة على آل البيت رغم ادّعاء زعمائها بالانتساب إلى آل البيت، ودلالة أيضاً على كراهية الإسلام الذي قضى على المجوسية في فارس؛ ثم قتل عبيد الله بن الحسين القداحي حيث كل منهم يعمل لنفسه وكان عبيد الله قد رفض إعطاء آل زكرويه مراكز مهمة في الدعوة التي يعمل لها. ثم سار الحسين بن زكرويه من السلمية على رأس قرامطته إلى حماة والمعرة وبعلبك وعمل القتل في أهل كل بلد وصل إليها، وأغارت جماعته على حلب، غير أن القرامطة قد هُزِموا في جهات حلب لذا عادوا فاتجهوا إلى جهات الكوفة وهناك قاتلهم الخليفة المكتفي، فوقع الحسين بن زكرويه أسير فحمل إلى بغداد حيث قُتِل وصلب فيها عام 291. وعندما قُتل ولدا زكروبه يحيى والحسين خرج أبوهما من مخبئه الذي اختفى فيه مدة تقرب من ثلاث سنوات، وعندما خرج سجد له أنصاره المقربون الذين يعرفون أهداف الحركة، وسار بأتباعه نحو بلاد الشام فأمعنوا في القتل، واعترضوا طريق القوافل والحجاج، وارتكبوا من الفواحش ما يصعب وصفه، واتجه نحو مدينة دمشق فحاصرها، ولكنه عجز عن فتحها، وأخيراً هُزم وقتل عام 294 بعد أن عاث في الأرض الفساد، وتشتت أتباعه، فمنهم من انتقل إلى البحرين، ومنهم من سار إلى بلاد الكلبية وبهراء في بلاد الشام فاختلط مع أهلها الذين يعيشون في قلاعهم ومعاقلهم في الجبال الشمالية الغربية من بلاد الشام والذين يلتقون معهم ببعض الأفكار وإن كانوا أقرب إلى الأسرة القدّاحية حيث الأصل اليهودي، ومنهم من احتفى في البوادي ثم تحالف مع القبائل الضاربة فيها أو سار إلى أماكن نائية حيث ضاع فعله بين السكان الآخرين. وهكذا انتهى القرامطة من جنوبي العراق، واتجهوا نحو بلاد الشام فهزموا وذابوا.

أما عبيد الله بن الحسين القداحي فقد علم ما حلّ بأهله بالسلمية وما نزل بآل محمد بن إسماعيل فيها أيضاً، فنسب نفسه إلى آل محمد بن إسماعيل، وعلم كذلك أن الدعوة الشيعية قد قويت في بلاد المغرب على يد أبي عبد الله الشيعي الذي سار من اليمن عن طريق رستم بن الحسين بن حوشب الذي يدعو إلى آل البيت عن طريق آل محمد بن إسماعيل، فيمّمَ عبيد الله القداحي وجهه نحو المغرب على أنه عبيد الله بن الحسين بن أحمد بن عبد الله بن محمد بن إسماعيل بن جعفر الصادق!

أما في اليمن فقد كان نجاح رستم بن الحسين بن حوشب واضحاً إذ أسس دولته الإسماعيلية وبدأ يرسل الدعاة إلى عدة جهات ومنها المغرب، وكان من أكبر أعوانه وقادته علي بن الفضل الذي اختلف معه وافتتن بالتفاف الناس حوله، فسار شوطاً بعيداً في الفساد فحكم البلاد، ودخل زبيد وصنعاء، وادّعى النبوة، وأباح المحرمات، وكان المؤذن في مجلسه يوذن «أشهد أن علي ابن الفضل رسول الله». ثم امتد به عتوّه، فجعل يكتب إلى عمّاله: «من باسط الأرض وداحيها، ومزلزل الجبال ومرسيها علي بن الفضل إلى عبده فلان». ثم مات مسموماً عام 303، ولم تلبث دولة القرامطة في اليمن أن دالت.

أما في البحرين فقد قدم إليها عام 281 رجل يقال له يحيى بن المهدي، نزل القطيف ودعا أهلها إلى بيعة المهدي فاستجاب له رجل يقال له علي بن العلاء بن حمدان الزيادي وساعده في الدعوة إلى المهدي، وجمع الشيعة الذين كانوا بالقطيف فاستجابوا له، وكان من جملة من استجاب له أبو سعيد الجنابي واسمه الحسين بن بهرام، ويعود أصلة إلى بلدة (جنَّاب) قرب سيراف [2][2]، وقد نزل إلى البحرين منفياً فعمل سمساراً في الطعام يبيعه، ويحسب للناس الأثمان، ثم بدأ يعمل بالفراء وينتقل بين البحرين وسواد الكوفة، وصحب عبدان أو حمدان وتأثر به، وعندما رجع إلى القطيف برز بين جماعته بدعوته. أما يحيى بن المهدي فقد ادّعى النبوة وانفرد بمجموعة، وتزعم أبو سعيد الجنابي بقية المجموعة وأجابه عدد من السوقة ومن ساءت حالتهم المعاشية، وعددٌ من الشباب الذين أغراهم بالنساء التي جعلها جعلها مباحةً بينهم، كما منّاهم بالمال وامتلاك الأرض، وهيأ لهم طريق الشهرة بالقوة التي أظهرها إذ زاد عددهم وبدا لهم أنهم أصبحوا جماعة يُخشى جانبها فظهروا عام 286 فعاثوا في الأرض الفساد إذ قتلوا وسبوا في بلاد هجر كثيراً ثم ساروا إلى القطيف فقتلوا الكثير من أهلها، وأظهر أبو سعيد الجنابي أنه يريد البصرة فجهز له الخليفة جيشاً قوامه عشرة آلاف بإمرة العباس بن عمرو الغنوي، فانتصر القرامطة وأسروا الجيش العباسي كله، وقتل أبو سعيد الجنابي الأسرى جميعهم باستثناء أمير الجيش الغنوي الذي أطلق سراحه. واستمر نشاط القرامطة حتى عام 301 حيث قُتِل الجنابي على يد خادمه بالحمّام، ثم قَتَل خمسة آخرين من كبارهم وحتى فطن له الباقون إلى أمرهم فاجتمعوا على الخادم وقتلوه. ويبدو أن قرامطة البحرين كانوا من أنصار حمدان القرمطي وابن عمه عبدان، لذا لم يدعموا أبناء زكرويه عندما قاموا بحركاتهم، وإنما عملوا منفردين في منطقة البحرين[3]«[4]

أسس العبيديُّون «الفاطميون» دولتهم على أساس المذهب الإسماعيلي الباطني؛ وقد نصَّ أتباع هذه الفرقة الضالة بإمامة إسماعيل ابن جعفر بعد أبيه جعفر بن أبي عبد الله، بينما قالت فرقة الانثي عشرية (الشيعة) بإمامة أخيه موسى بن جعفر بدلاً منه. وقالت الإسماعيلية بإمامة محمد بن إسماعيل السابع التام بعد أبيه، وإنما تم دور السبعة به، ثم ابتدئ منه بالأئمة المستورين الذين كانوا يسيرون في البلاد ويظهرون الدعوة جهراً. وقالوا: إنما تدور أحكامهم على سبعة كأيام الأسبوع والسماوات السبع والكواكب السبع، والنقباء تدور أحكامهم على اثني عشر، قالوا: وعن هذا وقعت الشبهة للإمامية حيث قرروا عدد النقباء للأئمة، ثم بعد الأئمة المستورين كان ظهور المهدي والقائم بأمر الله وأولادهم نصاً بعد نص على إمام بعد إمام. ومذهبهم أنه من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية، وكذلك من مات ولم يكن في عنقه بيعة إمام زمانه مات ميتة جاهلية.. وأشهر ألقابهم الباطنية، وإنما لزمهم هذا اللقب لحكمهم بأن لكل ظاهر باطناً، ولكل تنزيل تأويلاً، ولهم ألقاب غير هذا من القرامطة والمزدكية والملحدة، وهم يقولون نحن إسماعيلية لأننا تميزنا عن فرق الشيعة بهذا الاسم[5].

أئمة الشيعة الجعفرية والإسماعيلية
1- علي بن أبي طالب

2- الحسن بن علي

3- الحسين بن علي

4- علي زين العابدين بن الحسين

5- محمد الباقر

6- جعفر بن محمد الصادق

الإسماعيلية
الشيعة الجعفرية

7-إسماعيل بن جعفر الصادق
7- موسى الكاظم بن جعفر

8- محمد بن إسماعيل (الإمام السابع التام)
8- علي الرضا بن موسى

دور الأئمة المستورين
9-محمد القانع بن علي

حكام العبيديين
10- علي بن محمد القانع


11-حسن بن علي العسكري


12- محمد المهدي، (لم يولد) [6]


تأسيس الحركة الإسماعيلية
ينسب الدور الأكبر في تنظيم الحركة الإسماعيلية ووضع مبادئها إلى ميمون القداح،والذي يدعى ابن الديصان، وابنه عبد الله. وقد اتبع أتباعه وأولاده أثره في توسيع نطاق الحركة. وقد ظهر ميمون القداح سنة 176هـ بالكوفة، وكان باطنياً خبيثاً، قال بأن لكل ظاهر باطناً، وأمر بالاعتصام بالغائب المفقود، وكان يعتقد اليهودية ويظهر الإسلام. وقد سكن السلمية وتقرب من إسماعيل بن جعفر. وينسب إليه القول بفكرة المنتظر قبل ولادة أبو الحسن العسكري الإمام الأحد عشر عند الشيعة (!).

ويقول الأستاذ أنور الجندي: «يؤكد مؤرخو الغرب، مثل دي ساسي وديموج بوجه خاص، بوجود دافع سياسي لدى عبد الله بن ميمون القداح في القضاء على سلطان العرب والإسلام الذي جلب إليهم تلك السلطة، وإرجاع مجد فارس القديم مرة أخرى. ويؤكد الدكتور عبد الله الدوري في كتابه (العصور العباسية المتأخرة) القول بأن القداح أراد أن يقوض الإسلام فأشعل الشعور الشيعي عند الجماهير وكون المذهب القرمطي المؤدي إلى الإلحاد واستغل اسم اسماعيل بن جعفر الصادق في إثارة حركة شيعية[7]قوية تنقل الملك إلى أحد أحفاده باسم المهدي» أهـ.

من المناسب هنا أن نشير إلى خطورة مرحلة «دور الستْر» التي مرَّت به الدعوة الإسماعيلية بعد الإمام التام محمد بن إسماعيل، لأنه لولا هذا الدور ما استطاع دعاتها أن يختفوا عن أنظار الدولة العباسية التي كانت تلاحقهم أولاً، ثم إنهم ثانياً استطاعوا من خلال هذا الدور أن يلفِّقوا مسألة النسب. فميمون القداح وابنه عبد الله استقروا في منطقة السلمية من أعمال حماة مع محمد بن إسماعيل وأهل بيته والذي كان من بينهم عبد الله بن محمد. وهنا يورد بايارد دودج Bayard Dodge في سلسلة مقالاته عن الإسماعيلية عبارة تثير الانتباه، قال: «وفي الحقيقة، إن كان بعض الناس يعتقدون أن الإمام محمد وميمون يمثلان شخصاً واحداً، فإنه من السهل أن يُعتقَد أنّ [عبد الله] ابن محمد [ابن إسماعيل] هو نفسه عبد الله بن ميمون!»[8] ومن النظر إلى سلسلة نسب ميمون وأولاده وإسماعيل وأولاد نعلم مدى دقة الخطة التي كان ينفذها ميمون وأولاده لسرقة نسب إسماعيل، وبالتالي ظهورهم على الناس بأنهم هم من أهل البيت وأنهم أحق بالحكم من بني العباس، ومن ثم تنفيذ خطتهم في تحطيم الدولة العباسية، والإسلام. وتاريخ العبيديين يشهد بهذا.

وقد أكد عبد القاهر البغدادي، صاحب كتاب (الفَرق بين الفِرَق) أن الذين وضعوا أساس الباطنية كانوا من أولاد المجوس، وكانوا مائلين إلى دين أسلافهم، وقال: «لا تجد على ظهر الأرض مجوسياً إلاّ وهو موالٍ لهم "أي الباطنية" منتظر لظهورهم على الديار».

مسألة نسب العبيديين لآل البيت
لقد أطلق جلال الدين السيوطي في كتابه (تاريخ الخلفاء) اسم «الدولة الخبيثة» على الفاطميين، فقال: «ولم أورد أحداً من الخلفاء العبيديين لأن إمامتهم غير صحيحة لأمور، منها:

أنهم غير قرشيين، وإنما سمتهم بالفاطميين جهلة العوام، وإلاّ فجدهم مجوسيّ. قال القاضي عبد الجبار البصري: «اسم جد الخلفاء المصريين سعيد]أول حكامهم] وكان أبوه (عبد الله بن ميمون) يهودياً حداداً نشابة». وقال القاضي أبوبكر الباقلاني: «القداح جَدّ عبيد الله الذي يسمى بالمهدي كان مجوسياً. ودخل عبيد الله المهدي المغرب وادعى أنه ينسب إلى علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- ولم يعرفه أحد من علماء النسب، وسماهم جهلة الناس الفاطميين».[9] وقال ابن خلكان: «أكثر أهل العلم لا يصححون نسب المهدي عبيد الله جد خلفاء مصر، حتى أن العزيز بالله ابن المعز في ولايته صعد المنبر يوم الجمعة، فوجد فيها هذه الأبيات:

يُتْلى علـى المنبر الجامـعِ
إنَّا سمعنا نسبا ً منكراً

فاذْكُرْ لنا أَبا بَعْد الأبِ السَّابِعِ [10]
إن كنتَ فيما تدَّعي صادقاً

فانْسِب ْ لنا نفسَك كالطَّائعِ
وإنْ كنتَ تُرِدْ تحقيقَ ما قُلتُه

وادخُلْ بِنا في النَّسَبِ الواسِعِ
أَوْ لا، دَعِ الأنسابَ مستورةً

يَقْصُر عنها طَمَعُ الطامِعِ
فإنَّ أنسابَ بني هــاشمٍ


وما أحسن ما قال المعز الفاطمي صاحب القاهرة؛ وقد سأله ابن طباطبا عن نسبهم، فجذب نصف سيفه من الغمد وقال: «هذا نسبي، ونثر على الأمراء والحاضرين الذهب، وقال: هذا حسبي».

· ومنها: أن أكثرهم زنادقة خارجون عن الإسلام، ومنهم من أظهر سب الأنبياء، ومنهم من أباح الخمر، ومنهم من أمر بالسجود له؛ والخير منهم رافضي خبيث لئيم يأمر بسب الصحابة رضي الله عنهم، ومثل هؤلاء لا تنعقد ولا تصلح لهم إمامة.

قال القاضي أبو بكر الباقلاني: «كان المهدي عبيد الله باطنياً خبيثاً حريصا على إزالة ملة الإسلام، أعدم العلماء والفقهاء ليتمكن من إغواء الخلق، وجاء أولاده على أسلوبه: أباحوا الخمور والفجور وأشاعوا الرفض».

وقال الذهبي: «كان القائم ابن المهدي شراً من أبيه زنديقاً ملعوناً أظهر سبّ الأنبياء». وقال: «وكان العبيديون شراً من التتار على ملة الإسلام».

وقال أبو الحسن القابسي: «إن الذين قتلهم عبيدُ الله وبنوه من العلماء والعباد أربعة آلاف رجل ليردوهم عن الترضي عن الصحابة، فاختاروا الموت».

قال القاضي عياض: «سئل أبو محمد القيرواني الكيزاني من علماء المالكية عمن أكرهه بنو عبيد على الدخول في دعوتهم أو يقتل؟ قال: يختار القتلَ، ولا يعذر أحد في هذا الأمر،.. لأن المقام في موضع يطلب من أهله تعطيل الشرائع وهو لا يجوز».

وقال ابن خلكان: «وقد كانوا يدعون المغيبات، وأخبارهم في ذلك مشهورة، حتى أن العزيز صعد يوماً المنبر فرأى ورقة فيها مكتوب:

بيِّن لنـا كاتبَ البــطاقَهْ
إن كنتَ أُعطيتَ علمَ الغيبِ

وليــس بالكفـرِ والحماقَهْ
بالظـلمِ والجـور قد رضينـا


وكتبت إليه إمرأة قصة فيها: بالذي أعز اليهود بميشا والنصارى بابن نسطور، وأذل المسلمين بك الا نظرت في أمري. وكان ميشا اليهودي عاملا (له) بالشام وابن نسطور النصراني في دمشق» اهـ

ومما يستدل به على زور نسب الفاطميين لآل البيت هي الرسائل التي تبودلت بين العزيز بالله الفاطمي والحكم المستنصر الأموي في الأندلس، فقد ذكر ابن خلكان في وفيات الأعيان (ج2 ص152) أن العزيز كتب إلى الحكم المستنصر يسبّه ويهجوه، فردّ هذا عليه بقوله: «أما بعد، فقد عرفتنا فهجوتنا ولو عرفناك لأجبناك». وكان الحكم يطعن على العزيز بنسبه وأن جدّه ميمون القداح الباطني.

وأما بالنسبة لنشرهم مذهبهم فقد بنوا الجامع الأزهر لينشروا من خلال هذا المركز مذهب الرفض، وكانوا يجبرون المسلمين على اعتناقه. ثم لما رجعت مصر إلى سلطة المسلمين من أهل السنة أبطل السلطان صلاح الدين مذهب الرفض وأعاد السنة إلى أرض مصر. وقد تركت الدولة العبيدية آثاراً سيئة من البدع والمنكرات ما زالت تمارس إلى زماننا هذا في مصر وغيرها.

موقف الشيعة الاثني عشرية من العبيديين
إنّ الشيعة الاثني عشرية تكفّر العبيديين مع أنهم يتبعهم شيعة اليوم ويقولون عن دولتهم: أنها كانت دولة شيعية، وأنهم بناة مجدنا ودعاة مذهبنا ومؤسسو العلم والحضارة في مصر، ومنشئو المساجد ودور الكتب والجامعات. فمع تكفيرهم إياهم واتفاقهم على خروجهم من الإسلام والملة الإسلامية الحنيفية، فقد كتب محضر في عصر الخليفة القادر العباسي في شهر ربيع الآخر سنة 402هـ وعليه توقيعات من أشراف القوم ونقبائهم وخصوصاً من يلقب بنقيب الأشراف وجامع نهج البلاغة، السيد رضى وأخيه السيد المرتضى، واحتفاظا على التاريخ والوثيقة التاريخية ننقلها بتمامها ههنا:

«إن الناجم بمصر وهو منصور بن نزار الملقب بالحاكم -حكم الله عليه بالبوار والخزي والنكال- ابن معد بن إسماعيل بن عبد الرحمن بن سعيد -لا أسعده الله- فإنه [أي سعيد] لما سار إلى المغرب تسمى بعبيد الله وتلقب بالمهدي وهو ومن تقدمه من سلفه الأرجاس الأنجاس -عليه وعليهم اللعنة- أدعياء الخوارج، لا نسب لهم في ولد علي بن أبي طالب، وإن ذلك باطل وزور، وإنهم لا يعلمون أن أحداً من الطالبيين توقف عن إطلاق القول في هؤلاء الخوارج إنهم أدعياء، وقد كان شائعاَ بالحرمين في أول أمرهم بالمغرب، منتشراً انتشاراً يمنع من أن يدلس على أحد كذبهم، أو يذهب وهم إلى تصديقهم، وإن هذا الناجم بمصر هم وسلفه كفار وفساق فجار زنادقة، ولمذهب الثنوية والمجوسية معتقدون، قد عطلوا الحدود، وأباحوا الفروج، وسفكوا الدماء، وسبّوا الأنبياء، ولعنوا السلف وادّعوا الربوبية.

التوقيعات: الشريف الرضي، السيد المرتضى أخوه، وابن الأزرق الموسوي، ومحمد بن محمد بن عمر بن أبي يعلى العلويون، والقاضي أبو محمد عبد الله ابن الأكفاني، والقاضي أبو القاسم الجزري، والإمام أبو حامد الاسفرائيني، وغيرهم الكثيرون الكثيرون»[11].

وبهذه الشهادات والبراهين التاريخية نردّ على الذين يحاولون أن يصححوا نسب الفاطميين لآل البيت وعلى المخدوعين والمبعدين عن الحقائق التاريخية والتي طالما لُقّنت لطلاب المسلمين في مدارسهم ومعاهدهم على غير حقيقتها.

رجال الإسماعيلية قبل تأسيس الدولة
1- ميمون القدّاح، ابن الديصان : وهو واضع دعامة المذهب الإسماعيلي الباطني، وهو فارسي. نُسِبَ إلى أحد أجداده «الديصان» الذي كان ثنوي المعتقد. [12]

2- عبد الله بن ميمون القداح: كان مركزه السلمية من أعمال حماة في بلاد الشام. وهو الذي ابتدع دعوة منظمة قسمها إلى سبع درجات زيدت بعده حتى أصبحت تسعاً في زمن الفاطميين، ولم يمت حتى راجت الدعوة الإسماعيلية في كثير من المناطق الإسلامية.

3- أحمد بن عبد الله بن ميمون القداح: وكان يلقب أبا الشَّلَعْلَع (أو أبا الشلغلغ)، وكان يرأس الدعوة في بعض مدن العراق كالكوفة وبغداد، وآلت إليه الرئاسة التامة من عام 260-270هـ. ثم جاء بعده ابن أخيه عبيد الله المهدي (سعيد ابن محمد)، والذي سنتكلم عنه فيما بعد. وأحمد هذا بعث ابن حوشب لنشر المذهب الإسماعيلي في اليمن، وبعث إليه بعد ذلك أبا عبد الله الشيعي حيث علمه ابن حوشب أصولَ المذهب، ثم أرسله إلى المغرب لنشر الدعوة هناك. ونلاحظ هنا أن دعاة الإسماعيلية كانوا يدعون لمذهبهم بعيداً عن بغداد، حاضرة الدولة العباسية، سراً حتى لا تصطدم بها في بادئ أمرها. ومن منطقة تونس -حالياً- ابتدأت الدولة االعبيدية.

حكّام العبيديين
عبيد الله المهدي، سعيد بن محمد بن عبد الله بن ميمون القداح (ت322هـ)

وهو أول من تسلم قيادة دولة العبيديين، واسمه الأصلي سعيد، وقد دعي إلى إفريقية بعد أن لقيت الدعوة الإسماعيلية نجاحاً في اليمن بفضل ابن حوشب -كما مر قريباً-، والذي تغلب على معظم أرجائها، والذي بعث دعاته إلى اليمامة والبحرين والسند والهند ومصر والمغرب، وابن حوشب هذا أرسله أبو سعيد محمد أخو أحمد بن عبد الله بن ميمون القداح سنة 270هـ إلى اليمن من السلمية.

لاقى سعيد (عبيد الله) بن محمد صعوبات شتى حتى استطاع الوصول إلى رقادة عام 296هـ في رجب. فلقد سجنه اليسع بن مدارا أمير سلجلماسة. فالرشوة التي قدمها عبيد الله المهدي له لم تجد نفعاً. وظل في سجنه حتى أطلق سراحه على يد أبي عبد الله الشيعي الذي بعثه ابن حوشب من اليمن إلى المغرب. وعندما وصل عبيد الله إلى القيروان تلقاه أهلها بسلام الخلافة اعتقاداً منهم بأنه علوي فاطمي، ولم يلبث أن قسم رؤساء كتامة، الذين ساعدوه على إقامة دولته، أعمال هذه الدولة. ثم دون الدواوين وجبى الأموال واستقرت قدمه في تلك البلاد.

ولم يكتف سعيد بما فعل، بل طمع بالسيطرة على مصر بعد انتصار جيوشه بالسيطرة على برقة تحت قيادة ولي عهده أبي القاسم، وحباسة بن يوسف، أحد زعماء كتامة. وقد واصلت جيوش المغرب سيرها إلى الإسكندرية، فاستولت عليها وسارت على الوجه البحري، ولكن الخليفة المقتدر العباسي بعث جيشا كبيرا مقداره أربعون ألف جندي أحل الهزيمة بالعبيديين وأرغموهم على العودة إلى المغرب .

وفي سنة 307هـ عاود أبو القاسم ابن المهدي المحاولة مرة أخرى واستولى على الإسكندرية فأرسل الخليفة العباسي خادمه مؤنس على رأس جيش فألحق بهم الهزيمة وأحرق كثيراً من مراكبهم في البحر وأرغمهم على العودة إلى بلادهم عام 309هـ.

أما الحملة العبيدية الثالثة على مصر فظلّت -كما قيل- ثلاث سنوات (321-324هـ)، أُبرِمَت خلالها معاهدة صلح بين الفريقين سنة 323هـ ولكن لم يطل أمده، فقد انضم بعض زعماء المصريين إلى جيش المغاربة الذي دخل الإسكندرية عام 324هـ، فبعث إليهم الإخشيد جيشاً هزمهم فعادوا إلى بلادهم منهزمين.

أقام سعيد (عبيد الله) بن محمد بالقيروان -كحاضرة لدولته- لغاية سنة 304هـ حيث اختط مدينة المهدية جنوب القيروان، وقد ظلّت هذه المدينة آهلة بالسكان إلى سنة 543هـ حيث أرسل روجر النورماندي صاحب صقلية أحدَ قواده فاستولى عليها، وبقيت في يده إلى أن حررها عبد المؤمن سنة 555هـ. مات سعيد (عبيد الله) سنة 322هـ وخلفه ابنه القاسم وتلقب بالقائم.

القائم والمنصور (322-341هـ)

كان القائم، كغيره من الملوك العبيديين، ينقم على السِّنِّيين حتى أنه أمر بلعن الصحابة -رضوان الله عليهم-، وقد أثار غضب المغاربة، وخاصة الخوارج منهم الذين ثاروا على العبيديين، وكانت أشد هذه الثورات خطراً وأشدها بلاء تلك الثورة التي أشعل نارها أبو يزيد مخلد بن كيداد، والتي استمرت طوال عهد القائم ولم تخمد إلا في عهد ابنه المنصور. توفي القائم في رمضان سنة 334هـ، وخلفه ابنه أبو الظاهر إسماعيل الذي تلقب بالمنصور، وكان في العشرين من عمره. وقد اشتهر المنصور بالشجاعة ورباطة الجأش وباستطاعته على التأثير على نفوس سامعيه بفصاحته وبلاغته وقدرته على ارتجال الخطب. وعندما مات أبوه القائم أخفى نبأ موته عن جيشه حتى لا يؤثر على حماسته في إخماد ثورة أبي يزيد مخلد بن كيداد. وقد انقطعت العلاقات بين مصر وبلاد المغرب طوال عهده، لأن همه كان هو القضاء على ثورة أبي يزيد، ثم قدر له أن يهزم جيش أبي يزيد وطارده إلى الصحراء وقبض عليه، ثم لما ساقه إلى المهدية مات أبو يزيد متأثراً بجراحه في محرم سنة 336هـ.

قضى المنصور البقية الباقية من خلافته في إعادة تنظيم بلاده، فأنشأ أسطولاً كبيراً، وأسس مدينة المنصورية سنة 337هـ واتخذها حاضرة لدولته. ومنذ ذلك الحين أصبحت حاضرة العبيديين. حكم المنصور سبع سنين وستة أيام ومات في يوم الجمعة في سوال سنة 341هـ وقبر بالمهدية.

المعز لدين الله (341-365هـ)

هو معد بن إسماعيل، أبو تميم، بنى القاهرة، وهو أول من ملك الديار المصرية من الملوك العبيديين. في عهده دانت له قبائل البربر كافة والمغرب كلّه. فلما رأى الأمر كذلك فكّر بفتح مصر، فبعث بين يديه جوهراً الصقلي حتى أخذها من كافور الإخشيدي بعد حروب جرت بينهما، وذلك في سنة 362هـ. وكان المعزّ ومن سبقه من خلفائهم متلبسون بالرفض ظاهراً وباطناً، كما قال القاضي الباقلاني من أن مذهبهم الكفر المحض. وقد أورد ابن كثير -رحمه الله- في [البداية والنهاية 11/284]: «أن المعز أُحضِر بين يديه الزاهد العابد الورع الناسك التقي أبو بكر النابلسي، فقال به المعز: بلغني أنك قلتَ لو أن معي عشرة أسهم لرميت الروم بتسعة ورميت المصريين [أي العبيديين] بسهم. فقال: ما قلتُ هذا. فظن أنه رجع عن قوله، فقال: كيف قلتَ؟ قال: قلتُ ينبغي أن نرميكم بتسعة ثم نرميهم بالعاشر. قال: ولم ؟ قال: لأنكم غيرتم دين الأمة وقتلتم الصالحين وأطفأتم نور الإلهية وادعيتم ما ليس لكم. فأمر بإشهاره في أول يوم ثم ضرب في اليوم الثاني بالسياط ضرباً شديداً مبرحاً، ثم أمر بسلخه في اليوم الثالث، فجيء بيهودي فجعل يسلخه وهو يقرأ القرآن، قال اليهودي: فأخذتني رقة عليه، فلما بلغت تلقاء قلبه طعنته بالسكين فمات، رحمه الله. فكان يقال له الشهيد» أهـ

والمعز بجانب ظلمه وبطشه ورفضه كان مثقفا يجيد عدة لغات منها الطليانية والصقلية، كما عرف اللغة السودانية. وكان ذا ولع بالعلوم ودراية بالأدب، فضلا عما عرف به من حسن التدبير وإحكام الأمور (!).

قضى المعز الشطر الأكبر من خلافته في بلاد المغرب، ولم يبق في مصر أكثر من سنتين إلا قليلاً. وقد مات المعز في شهر ربيع الآخر سنة 365هـ بعد أن حكم أربعاً وعشرين سنة.

العزيز بالله (365-386هـ)

هو نزار بن المعز، ويكنى أبا منصور، ويلقب بالعزيز، وكانت ولايته إحدى وعشرين سنة وخمسة أشهر وعشرة أيام. توفي عن اثنين وأربعين سنة، وقام بالأمر بعده ابنه الحاكم. اشتُهر عن العزيز أنه كان يستوزر اليهود والنصارى (!). فقد استوزر ابن نسطورس وأخر يهودياً اسمه ميشا. ويقول ابن كثير: فَعَزَّ بسببهما -أي ابن نسطورس وميشا- أهلُ هاتين الملتين في ذلك الزمان على المسلمين. أهـ

ويذكر د. حسن إبراهيم حسن في كتابه (تاريخ الإسلام السياسي) (3/167): «أن عهد الخليفة العزيز بالله الفاطمي عهد يسر ورخاء وتسامح ديني وثقافة (!)..» اهـ. وذكر أيضاً أن العزيز تزوج بنصرانية، وتوإلى عطفه (!) على الكنيسة القبطية.

وفي أيام العزيز تفاقم خطر القرامطة وأفتكين ببلاد الشام، وكان قد استعصى أمرهما على أبيه المعز من قبل، ولم يكد العزيز يوطد سلطته في مصر حتى وجّه عنايته لاسترداد بلاد الشام وفلسطين بعد سيطرة القرامطة عليهما، فوجّه العزيز جوهراً الصقلي إلى القرامطة وأفتكين، لكنّه هزُِم ولم يستطع استرداد الشام وفلسطين، ثم أشار جوهر على العزيز بحرب القرامطة وأفتكين بنفسه، فالتقى بجيوشهما في الرملة فهزمهم وذلك في محرم سنة 368هـ. وقبض على أفتكين لكنه عفا عنه وأغدق عليه.

ولا يخفى علينا أن العلاقة بين الإسماعيلية والقرامطة كانت وثيقة جداً في بداية نشأتهما، لكن حصلت اختلافات بينهما أدت إلى النزاع.

كان سبب انتزاع القرامطة وأفتكين الشام وفلسطين من العبيديين هو تذمّر أهلهما على مذهب العبيديين، فاضطروا إلى طلب معونة القرامطة وأفتكين ونجحوا في إسقاط حكم العبيديين على بلادهما، وحوادث دمشق مشهورة في هذا.

في عهد العزيز وجه العبيديون اهتمامهم إلى بثّ عقائد المذهب الإسماعيلي الشيعي الباطني، وأصبحت كل أمور الدولة في أيديهم.

مات العزيز ببلبيس سنة 386هـ، وهو في الرابع والأربعين من عمره. كان العزيز كريماً محباً للعفو -مع أمثاله- و كان رجلاً ممتعاً يميل إلى الأبهة، كما كان خبيراً بالجواهر، يحبّ الصيد -وخاصة السباع- وكان ذكياً أريباً مستنيراً، يجيد عدة لغات كأبيه المعز.

الحاكم بأمر الله (386-411هـ)

وهو أبو علي المنصور، ولد في شهر ربيع الأول سنة 375هـ، وعهد إليه أبوه بالخلافة من بعده في سنة 383هـ، ثم بويع بالخلافة في اليوم الذي توفي فيه أبوه العزيز، وذلك في رمضان سنة 386هـ و له إحدى عشرة سنة ونصف السنة، وتولى تربيته والوصاية عليه أستاذه برجوان الخادم.

ونترك المجال للمؤرخ ابن عماد الحنبلي يحدثنا عن الحاكم في ترجمته له في وفيات سنة 411هـ. قال: «وفيها الحاكم بأمر الله..... العبيدي صاحب مصر والشام والحجاز والمغرب، فُقِدَ في شوال وله ست وثلاثون سنة، قتلته أخته ست الملك بعد أن كتب إليها ما أوحشها وخوفها واتهمها بالزنا، فدسّت من قتله وهو طليب بن دواس المتهم بها، ولم يوجد من جسده شيء، وأقامت بعده ولده، ثم قتلت طليباً وكلَّ من اطلع على أمر أخيها.

وكان الحاكم شيطاناً مريداً خبيث النفس متلون الاعتقاد سمحاً جواداً سفاكاً للدماء، قتل عدداً من كبراء دولته صبراً، وأمر بشتم الصحابة وكتبه على أبواب المساجد، وأمر بقتل الكلاب حتى لم يبق في مملكته منها إلا القليل، وأبطل الفقاع والملوخية والسمك الذي لا فلوس له، وأتى بمن باع ذلك سراً فقتلهم ونهى عن بيع الرطب، ثم جمع منه شيئاً عظيماً وحرقه، وأباد أكثر الكروم وشدّد في الخمر، وألزم أهل الذمة بحمل الصلبان والقرامى في أعناقهم، وأمرهم بلبس العمائم السود، وهدم الكنائس، ونهى عن تقبيل الأرض له ديانة وأمر بالسلام فقط وأمر الفقهاء ببثّ ذلك، واتخذ له مالكييْن يفقهانه ثم ذبحهما صبراً، ثم نفى المنجمين من بلاده وحرم على النساء الخروج، وما زلن ممنوعات سبع سنين وسبعة أشهر حتى قتِل. ثم تزهّد وتألّه ولبس الصوف، وبقي يركب حماراً ويمر وحده في الأسواق ويقيم الحسبة بنفسه، ويقال أنه أراد أن يدعي الإلهية كفرعون وشرع في ذلك فخوّفه خواصُّه من زوال دولته فانتهى. وكان المسلمون وأهل الذمة في ويل وبلاء شديد معه، قال ابن خلكان: والحاكم المذكور هو الذي بنى الجامع الكبير بالقاهرة بعد أن شرع فيه والده فأكمله هو، وبنى جامع راشدة بظاهر مصر وكان المتولي بناءه الحافظ عبد الغني بن سعيد، والمصحّح لقبلته ابن يونس المنجم، وأنشأ عدة مساجد بالقرافة، وحمل إلى الجامع من المصاحف والآلات الفضية والستور والحصر ما له قيمة طائلة، وكان يفعل الشيء وينقضه.

وكان الحاكم المذكور سيئ الاعتقاد كثير التنقل من حال إلى حال ابتدأ أمره بالتزيي بزي آبائه وهو الثياب المذهبة والفاخرة والعمائم المنظومة بالجواهر النفيسة وركوب السروج الثقيلة المصوغة، ثم بدا له بعد ذلك وتركه على تدرج بأن انتقل منه إلى المعلم غير المذهب ثم زاد الأمر به حتى لبس الصوف وركب الحمر وأكثر من طلب أخبار الناس والوقوف على أحوالهم، وبعث المتجسسين من الرجال والنساء، فلم يكن يخفى عليه رجل ولا امرأة من حواشيه ورعيته، وكان مؤاخِذاً بيسير الذنب لا يملك نفسه عند الغضب فأفنى رجالاً وأباد أجيالاً، وأقام هيبة عظيمة وناموساً، وكان يقتل خاصته وأقرب الناس إليه، وربما أمر بإحراق بعضهم، وربما أمر بحمل بعضهم وتكفينه ودفنه وبناء تربة عليه، وألزم كافة الخواص بملازمة قبره والمبيت عنده، وأشياء من هذا الجنس يموَّه بها على أصحاب العقول السخيفة فيعتقدون أنّ له في ذلك أغراضاً صحيحة. ومع هذا القتل العظيم والطغيان المستمر يركب وحده منفرداً تارة وفي الموكب أخرى وفي المدينة طوراً وفي البرية آونة، والناس كافة على غاية الهيبة والخوف منه والوجل لرؤيته، وهو بينهم كالأسد الضاري. فاستمر أمره كذلك مدة ملكه، وهو نحو إحدى وعشرين سنة، حتى عَنَّ له أن يدَّعيَ الإلهية ويصرِّح بالحلول والتناسخ ويحمل الناس عليه، وألزم الناس بالسجود مرة إذا ذكر، فلم يكن يذكر في محفل ولا مسجد ولا على طريق إلا سجد من يسمع ذكره وقبَّل الأرض إجلالاً. ثم لم يرضه ذلك حتى كان في شهر رجب سنة تسع وأربعمائة ظهر رجل يقال له حسن بن حيدرة الفرغاني الأخرم يرى حلول الإله في الحاكم ويدعو إلى ذلك ويتكلم في إبطال الثواب وتأوَّل جميع ما ورد في الشريعة، فاستدعاه الحاكم وقد كثر أتباعه، وخلع عليه خلعاً سنية وحمله على فرس مسرج في موكبه.... فينما هو يسير في بعض الأيام تقدم إليه رجل من الكرخ.. وهو في الموكب فألقاه عن فرسه ووالى العرب عليه حتى قتله فارتجّ الموكب..» اهـ

بعد أن هلك الحاكم العبيدي الباطني ورثه ابنه أبو الحسن الذي تلقب بالظاهر، وتولى الحكم بعد قتل أبيه بأيام. والجدير بالذكر هنا أن فرقة الدروز المارقة ظهرت بدعوة حسن بن حيدرة الفرغاني وهم يؤلهون الحاكم، والدرزية نسبة إلى أحد موالي الحاكم وهو هشتكين الدرزي.[13]

الظاهر لدين الله علي بن الحاكم العبيدي ( 411-427هـ)

ولد يوم الأربعاء في العاشر من رمضان سنة 395هـ بالقاهرة. ويذكر ابن العماد في شذرات الذهب أن أمر الدولة العبيدية بدأ بالانحطاط منذ ولايته عليها، حيث أخذ حسان بن مفرج الطائي أكثر الشام وأخذ صالح بن مرداس حلب، وقوي نائبهم على القيروان.

لم يتمتع الظاهر بالخلافة مدة طويلة -فقط سبعة عشر عاما-، فقد مرض بالاستسقاء ومات في منتصف شعبان سنة 427هـ. وكان الظاهر قد استوزر أبا القاسم علي بن أحمد الجرجرائي -وكان مقطوع اليدين من المرفقين، قطعهما الحاكم سنة 404 هـ- فعندما علم الجرجرائي بموته أخذ البيعة لابنه أبي تميم الذي تلقب بالمسنتصر. «وكان الظاهر -كما يقول د. حسن إبراهيم حسن-: سمحاً، عاقلاً، لين العريكة، استطاع بحسن سياسته (!) أن يكسب عطف أهل الذمة ومحبتهم له (!)، فتمتعوا في عهده بالحرية الدينية. كما وجه عنايته إلى ترقية شؤون البلاد وتحسين حالة الزراعة.»[14]

المستنصر أبو تميم معد بن الظاهر (427-487هـ)

بويع له بالخلافة في يوم وفاة أبيه وكان في السابعة من عمره، وبقي في الخلافة ستين سنة وأربعة أشهر، وهذا شيء لم يبلغه أحد من أهل بيته ولا من بني العباس.

في أيام المستنصر حدث الغلاء العظيم الذي ما عهد مثله منذ زمان يوسف عليه السلام، وأقام سبع سنين وأكل الناس بعضهم بعضاً، حيث انتشر الوباء والقحط في مصر، وانقطع النيل، ونكبت الأمم الإسلامية فيه من مصر إلى سمرقند.

في القسم الأول من عهد المستنصر امتد سلطان دولته على بلاد الشام وفلسطين والحجاز وصقلية وشمال أفريقيا، وكان اسمه يذاع على جميع منابر البلاد الممتدة من الأطلسي إلى البحر الأحمر. بل في بغداد نفسها حاضرة العباسيين، كان يخطب للمستنصر سنة على منابرها [15][15]. لكن هذه البلدان ما لبثت أن خرجت من سلطان العبيديين . فقد أعلنت الدولة الزيرية في سنة 36 هـ، وكذا الدولة الحمدانية سنة 39هـ ولم تأت سنة 443هـ حتى تقلص الحكم العبيدي من المغرب. وفي سنة 475هـ زالت سلطتهم من المغرب الأقصى، واستولى روجر النورماندي على جزيرة صقلية، وخلع أمير مكة والمدينة الطاعة سنة 462هـ.

في هذه الفترات انتشرت الفوضى وسادت مصر، حتى أن أربعين وزيراً تقلدوا الوزارة في تسع سنوات بعد قتل الوزير اليازوري سنة 451هـ. ثم عاد القحط وأعقبه من الوباء والموت في سنة 459هـ. وكان القحط الأول قد امتد من سنة 446هـ إلى 454هـ، وظلّت الحالة كذلك حتى سنة 464هـ. وظهرت الفتن والحروب الأهلية في مصر حتى تدارك مصر بدرُ الجمالي والي عكّا الذي استدعاه المستنصر في سنة 466هـ فأعاد النظام ووجه همه إلى الإصلاح والقضاء على المفسدين. مات المستنصر سنة 487هـ، وبويع ابنه المستعلي دون أخيه الأكبر نزار.

المستعلي أبو القاسم أحمد (487-495هـ)

عندما مات المستنصر سنة 487هـ كان قد عهد إلى ابنه الأكبر نزار، إلا أن الأفضل ابن بدر الجمالي قائد الجيوش خلع نزاراً هذا وولّى مكانه أخاه الأصغر المستعلي أبا القاسم، فثار نزار وهرب إلى الإسكندرية ودعا لنفسه وأخذ البيعة، فلحقه الأفضل وهزمه وسجنه حتى مات، واستقر الأمر للمستعلي.

لما خلع نزار لم تعترف الإسماعيلية بخلافة المستعلي وبقيت بجانب أخيه. ولما مات نزار هذا بقيت الإسماعيلية على رأيهم وأن الخلفاء من نسب نزار وليس المستعلي، وتعرف هذه المجموعة بالإسماعيلية الشرقية، ومنهم الحشاشون Assassins جماعة الحسن ابن الصباح، والذين عرفوا أيضاً بالباطنية كجزء من كلّ، وقاموا باغتيالات لشخصيات إسلامية عسكرية كانت ترابط في الجهاد ضد الصليبيين الذين استولوا على بعض أرض المسلمين. لذلك لابد هنا من الكلام عن هذه الفرقة ولو بشيء من الاختصار.

فرقة الحشاشين Assassins
كان لتأسيس جماعة الحشاشين على يد الحسن بن الصباح خطر كبير على الأمة الإسلامية في ذلك الوقت، وفي كل وقت. فقد درس الحسن ابن صباح كتب الإسماعيلية، واشترى قلعة "ألموت" الواقعة على الشاطئ الجنوبي لبحر قزوين (الخزر) وجعلها مقرّه، فمنها انطلق وبها اعتصم. وقد دخل قلعته مرة ولم يخرج إلا بعد خمس وعشرين عاماً، كان يدرس خلالها ويخطط.

لقد قامت حركة الحشاشين في اغتيال ثمانين شخصية إسلامية قيادية سُنِّيَّة، ما بين عالم وقائد عسكري مجاهد. وقد كان نظام الملك وزير ملكشاه السلجوقي أول ضحاياهم. وفي عام 523هـ ازداد خطر الإسماعيلية في مدينة دمشق -وكانت تشكل خط الدفاع ضد الصليبيين في ذلك الوقت وهم في فلسطين- ودعوا الفرنجة للحضور اليها حتى يتسلموها، وكان زعيمهم يدعى "المزدقاني"، فاكتشف أمره تاجُ الملوك -حاكم دمشق- فاستدعاه فقتله وعلّق رأسه على باب القلعة، ونودي في دمشق بقتل الباطنية، فقتل منهم ستة آلاف نفس. وعندما علم صاحب بانياس [16] بهذا -وكان إسماعيلياً باطنياً- راسل الفرنجة فسلم إليهم القلعة ورحل إلى بلادهم.

وقُتِل عماد الدين الزنكي -رحمه الله- على أيديهم أثناء حصاره لقلعة جعبر على شاطئ الفرات. وقتلوا من قبله الأمير مودود، قتلوه في دمشق يوم الجمعة بعد الصلاة في مسجدها. وقتلوا من العلماء قاضي أصفهان عبيد الله الخطيب، والقاضي أحمد قاضي نيسابور، قتلوه في شهر رمضان. ولاشك أن أيديهم امتدت في زماننا الحاضر إلى قتل بعض علماء المسلمين وقوادهم كأمثال فاضح الباطنية في وقتنا الكاتب إحسان إلهي ظهير. وإنّ محالفة الباطنيين مع أعداء المسلمين ضد المسلمين خلال التاريخ لهو أكبر دليل على عداوتهم للإسلام وولايتهم لأعداء المسلمين من يهود ونصارى وغيرهم من ملل الكفر.

يقول لويس برنارد في كتابه (الحشاشون The Assassins): «كانت هناك علاقة بين شيخ الجبل (رئيس الباطنية في الشام) وبين ملك القدس من الصليبيين وهو الكونت هنري"، و "عندما غزا سانت لويس بيت المقدس سنة 1250م تبادل الهدايا مع شيخ الجبل، وكان الصليبيون يسمونهم الملحدين، وأتت في كتاباتهم بـ Mulihet" . "وعندما مرَّ ماركو بولو Marco Polo من فارس سنة 1273م رأى قلعة وقرية "ألموت" وقال عنها أنها المقر الرئيسي للإسماعيلية» اهـ. وكان للإسماعيلية عمليات اغتيال في أوربا، فكان بعض الملوك فيها يستخدمونهم في التخلص من أعدائهم، وكانوا يطلقون كلمة رفيق على أعضائهم.

ومازال للإسماعيلية رجال يكتبون عنها ويشيدون بما فعل أجدادهم (!)، فمنهم د. مصطفى غالب، له كتاب (تاريخ الدعوة الإسماعيلية) و كتاب عن (الحركات السرية في الإسلام)، وكتاب عن الحسن بن الصباح أسماه (الطائر الحميري، الحسن بن الصباح)، وله موسوعة فلسفية حشاها بآراء الباطنيين كابن سينا والفارابي وإخوان الصفا وغيرهم ممن ينسبون إلى الإسلام. وهناك الكاتب عارف تامر له كتاب (على أبواب أَلَموت) وكتاب (الحاكم بأمر الله) وبعض التحقيقات على كتب الإسماعيليين.



قية حكّام العبيديين
جاء الآمر بعد المستعلي عام 495 هـ، وهو الذي قتل الأفضل بن بدر الجمالي قائد الجيوش عام 515هـ وقد خلفه ابنه الأكمل. ويبدو أن الآمر كان مختلفاً عن غيره من ملوك العبيدية، إذ أنه ألغى الاحتفالات التي كانت تقام بمناسبة المولد النبوي ومولد فاطمة وعلي ومولد الخليفة القائم بالأمر.

في عام 524 هـ قُتِل الآمر بيد الباطنية الذين كانوا يرَوْن أنّ أولاد نزار أحق بالملك من أولاد المستعلي. وخالف الأكمل العبيديين -وكان من الشيعة الاثني عشرية- فقتلوه.

وفي عام 529هـ -أي في عهد الحافظ الذي خلف الآمر المقتول- استُوزِر بهرام الأرمني على القاهرة وكثرت الأرمن فيها.

ازدادت حدّة الخلافات بعد الحافظ بين جنود ووزراء العبيديين. وقد جاء بعد الحافظ الظاهر ثم الفائز تلاه العاضد، والذي بعهده انتهت وعضدت دولة بني عبيد الباطنية، وذلك بعد أن حكمت لمدة 260 عاماً مساحات شاسعة من بلاد المسلمين شرقاً وغرباً.

انتهت دولة العبيديين على يد صلاح الدين يوسف بن أيوب -رحمه الله-، فانتهى عهد الباطنية وعادت مصر وما بقي من دولة بني عبيد إلى حظيرة أهل السنة والجماعة. ثم تابع صلاح الدين والمسلمون خلفه المسيرة الجهادية حتى فتحوا القدس وأعادوا المسجد الأقصى إلى رحاب الإسلام وذلك عام 583 هـ.[17]


--------------------------------------------------------------------------------

[1] انظر ما نقله الطبري في تاريخه عن سبي القرامطة لنساء أهل البيت وفعلهم بهن في حوادث سنة 290 هـ

[2] سيراف ميناء قديم على الخليج العربي من جهة فارس.

[3] انتهى ما نقلناه من كتاب «التاريخ الإسلامي» ج6 ص59-100

[4] للاستزادة والتفصيل انظر تاريخ الطبري حوادث سنة 298 إلى 301 هـ

[5] الشيعة والتشيع، إحسان إلهي ظهير.

[6] انظر «الشيعة وأهل البيت» إحسان إلهي ظهير، ص294

[7] من المعروف أن الإسماعيلية هي حركة مختلفة عن التشيع تماماً، بالرغم من أنها حملت راية التشيع لآل البيت ابتداءً واستغلت شعور العاطفة لأهل البيت عند العامة، لكنها ما لبثت أن كشفت عن وجهها الحقيقي بعد أن سيطرت على مصر.

[8] Al-Isma’iliyah and the Origin of the Fatimids. The Muslim World, vol. 49, p299

[9] أي أن الجد ميمون القداح كان مجوسياً، وتهوَّد ابنه عبد الله بن ميمون، ثم أظهر التشيع.

[10] يعني إسماعيل بن جعفر الصادق؛ ثم يأتي الأئمة المستورون.

[11] الشيعة وأهل البيت لإحسان إلهي ظهير (ص283-284).

[12] الديصان ثنوي فارسي مشهور في القرن الثاني الميلادي؛ تحول إلى النصرانية بعد أن عمل منجماً في مدينة أديسا (الرها/أُرفا). ومع كونه أصبح نصرانياً فقد كان يحمل بعض المعتقدات الإلحادية والزردتشية. ويبدو أن حفيده ميمون أظهر الإسلام ولكنه تبع خطا جده ديصان في الخلط بين أكثر من دين.

[13] الشيعة والتشيع: فرق وتاريخ، للكاتب إحسان إلهي ظهير (ص236).

[14] تاريخ الإسلام السياسي (3/173).

[15] أنظر فتنة البساسيري في كتب التاريخ.

[16] مدينة قرب أرض فلسطين، وهي غير بانياس التي على ساحل الشام.

[17] لا بد لي أن أذكر هنا أني استفدت كثيراً من تعليقات الأستاذ محمود شاكر رحمه الله على هذه العجالة عندما اطلع عليها.

 

التوقيع

 



من كتاباتي
صرخاااات قلم (( عندما تنزف ريشة القلم دما ))
قلم معطل وقلم مكسوووور
عندما ’تطرد من قلوب الناس !!!!!!(وتدفن في مقبرة ذاتك)
دعاة محترفون لا دعاة هواه ( 1)
الداعية المحترف واللاعب المحترف لا سواء(2)
نعم دعاة محترفين لا دعاة هواة!!!! (( 3 ))
خواطر وجها لوجه
همسة صاااااااااااارخه
خواطر غير مألوفه
اليوم يوم الملحمه ...
على جماجم الرجال ننال السؤدد والعزه
عالم ذره يعبد بقره !!!
معذرة يا رسول الله فقد تأخر قلمي
دمعة مجاهد ودم شهيد !!!!!!
انااااااااا سارق !!!!
انفلونزا العقووووووووول
مكيجة الذات
الجماهير الغبيه
شمووووخ إمرأه

 
 
رد مع اقتباس
  #12  
قديم 15-04-2005, 11:15 PM
د.فالح العمره د.فالح العمره غير متصل
 
تاريخ التسجيل: Feb 2005
الدولة: في قلوب المحبين
المشاركات: 7,593
معدل تقييم المستوى: 27
د.فالح العمره is on a distinguished road

حضارة العرب في صقلية

وأثرها في

النهضة الأوروبية

د. عبد الجليل شلبي


--------------------------------------------------------------------------------

ترجع صلة العرب بصقلية إلى عهد معاوية بن أبي سفيان، فقد أرسل إليها سميّه معاوية بن خديج الكندي، فكان أول عربي غزاها، ثم لم تزل تغزى حتى فتحها الأغالبة، وكان معاوية بن أبي سفيان، كما قال البلاذري، يغزو براً وبحراً، وهو أول من أسس أسطولاً إسلامياً، ووجه إلى صقلية أيضاً عبد الله بن قيس بن مخلد الدزقي فأصاب منها أصنام ذهب وفضة مكللة بالجواهر، ووجه بها معاوية إلى البصرة ثم إلى الهند لتباع هناك، وأغزى جنادة بن أمية الأزدي أيضاً جزيرة رودس ففتحها، وأقام المسلون بها سبع سنين في حصن اتخذوه لهم. وقد استرد يزيد بن معاوية جيش المسلمين وعادت الجزيرة الكبرى صقلية وما حولها إلى الحكومة البيزنطية. وكان من حسنات معاوية أنه أقام في الجزر التي فتحها جاليات إسلامية، وبنى فيها مساجد، وترك مقرئين يعلمون ويقرئون القرآن، هذا مع أن فتوحه كانت جزئية.

وتوقفت غزوات المسلمين البحرية بعد معاوية، وشغلت الدولة بحروب داخلية مدة كبيرة، ولما هدأت الأحوال بها لم يكن غزوها البحري نشيطاً، وكانت نهاية موسى بن نصير نهاية له وللإسلام وللدولة الإسلامية، ولكن البحريين من المسلمين في الشرق وفي إسبانيا ناوشوا جزر البحر الأبيض وشواطئ أوروبا، ولم تأت أعمالهم بفتوح ذات قيمة تاريخية ولكنهم لفتوا أنظار هذه البلاد إلى قوة العرب..

فتح صقلية..

كان قد مضى على صقلية ثلاث قرون وهي تحت حكم الدولة البيزنطية، وكانت سنين عجافاً سادها الفقر الفكري، وترتب على سيادة الجهل وجمود الأذهان: تفرق بين السكان، فكان كبار الملاك والتجار يتبادلون المكايد وينشطون في دس الدسائس وبث أسباب العداء، وكان من بين هؤلاء الكبار في المال والصغار في النفس رجل يدى إيو فيموس (Euphemius) وكان مغيظاً من حاكم الجزيرة، فرأى الانتقام منه أن يستعين بالأمير الأغلبي الثالث، وهو زيادة الله، في غزو الجزيرة والقضاء على الحكم البيزنطي كله. وتردد الأمير الأغلبي في بادئ الأمر في غزو بلد مهادن له، وكان على رأسه القاضيان المسنان: ابن الفرات وأبو محرز. وكان ابن الفرات متحمساً لهذا الغزو مستدلاً بالآية القرآنية: »فلا تهِنوا وتدعوا إلى السلم وأنتم الأعلونَ والله معكم ولن يتركم أعمالكم«. وكان ابن الفرات فقيهاً مالكياً طالت رحلته وتنقلاته في الشرق، وتلقىالفقه المالكي والحنفي، وجعل من مدونتي مالك وابن القاسم وآرائه الخاصة مدونة فقهية باسمه، وكان أيضاً محارباً شجاعاً، ورأى زيادة الله أن يجعله على رأس هذه الحملة، ويظهر أن إخلاصه في الجهاد أضفى على الجيش كله روح التضحية وحب الاستشهاد. ووصل الجمع إلى ميناء مزارا التي في جنوب الجزيرة، فألقى ابن الفرات فيهم خطبة لم تشر إلى شيء من الحرب والغنائم كما فعل طارق بن زياد عندما نزل جيشه بأرض الأندلس[1]، بل حثهم فقط على التقوى وتحصيل العلوم.

استهل خطبته بالشهادة، وأقسم لجيشه أنه ما كان من آبائه من ولي جيشاً، ثم قال: »فأجهدوا أنفسكم، وأتعبوا أبدانكم في طلب العلم وتدوينه، وكاثروا عليه واصبروا على شدته، فإنكم تنالون به خيري الدنيا والآخرة..« والخطبة بوجه عام توحي بالزهد، وتؤذن بأن الدنيا تخضع لذوي العلم والدين.

لم يكن فتح هذه الجزيرة هيناً ولا سريعاً، مع أن الحملة كان بها سبعون سفينة عليها عشرة آلاف مقاتل، وسبعمائة فرس، ولكنها اعتمدت على الحصار، وشقت طريقها إلى باليرمو Palermo، فاتخذها عاصمة، وهي في مستعمرة فينيقية، فجعلوها قاعدة حربية توجه منها الحملات، وأخذت الجزيرة تسقط تدريجياً في أيديهم، ولم يتم فتحها نهائياً إلا في العهد الفاطمي.

صقلية بعد الفتح..

صارت صقلية بعد فتحها إمارة أغلبية، يتولى أمرها والٍ من قبلهم، وكان الأغالبة في نزاع ومناوشات مستمرة مع الدولة الفاطمية[2] التي نشأت بالمغرب، وتريد الزحف نحو الشرق، وكان هناك أقوى بين المذهبين السني والشيعي، وكان ذلك ينعكس على جزيرة صقلية، وكان بين سكانها نزاع بين العرب والبربر من قبل.

ونوجر القول فنقول: إن الفاطميين تغلبوا على بني الأغلب في إفريقية، وحلوا محلهم في متسهل القرن الحادي عشر الميلادي، ثم انتزعوا منهم صقلية، وهي على انقسامها وتفرقها، فاضطروا إلى إعمال الشدة، فشهدت الجزيرة أياماً قاسية سوداً، حتى عين الخيلفة المنصور الفاطمي الحسنَ بن علي بن أبي الحسن والياً عليها، فبدأ عهداً جديداً عرف بعهد الكلبيين، والذي امتد قرناً من الزمان، كانت الدولة فيه كلبية فعلاً وإن لم تنقطع عن الفاطميين، ولم يدم هذا العهد طويلاً، ولسنا بسبيل الأسباب التفصيلية لسقوط الكلبيين، غير أن نهاية عهدهم كانت بداية فوضى واضطراب، وتقسمت الجزيرة الصغيرة إلى دويلات وأشتات قبائل وأحزاب، وعادوا جميعاً بعد الإسلام كفاراً يضرب بعضهم رقاب بعضهم. وكان بين رؤوسهم رجل يدعى ابن الثمنة ففعل فعلة أيو فيميوس وطلب تدخل النورمانديين، فوجدوا الجزيرة فريسة سهلة، فاستولوا عليها وضموها إلى جنوب إيطاليا، وبذا انتهى العهد الإسلامي في هذه الجزيرة بعد قرنين ونصف قرن أو ما يزيد عن ذلك ببضعة عشر عاماً.

وكان موقف المسلمين في صقلية كموقف المسلمين في إسبانيا، إذ ترقبوا نجدة من الدول الإسلامية، وعلى الأخص بني زيري الذين خلفوا الفاطميين على غرب إفريقية، ولكن لم يمد أحد لهم يد المساعدة، فاضطروا إلى التسليم والاستسلام.

أثر الفتح الإسلامي لصقلية
دخل النورمانديون صقلية فأدهشهم ما نقلها المسلمون إليه من رقي وحضارة. لقد بذلوا جهداً في ترقيتها في كل جوانب الحياة حتى بدا الفرق بينها وبين الدول التابعة لبيزنطة بعيداً جداً، شيدوا مبانٍ عظيمة، ونشطوا وسائل التجارة، وعملوا على استصلاح الأراضي وزرعها، وأدخلوا أنواعاً من النباتات ومن الحيوانات لم يكن للأوروبيين بها عهد ولا علم، إلى جانب ذلك كله وجدوا فنوناً راقية وأدباً عالياً، وعديداً من المساجد بها حلقات التعليم، تبدأ بتعليم الكتابة العربية والقرآن الكريم، وتنتهي بدراسات عليا في علوم كثيرة دينية وغير دينية. وهكذا تقدم ورقي في كل شيء. إن الفرق واسع جداً بين ما وجد العرب صقلية عليه بعد خروج البيزنطيين، وبين ما وجدها عليه النورمانديين بعد خروج المسلمين.

كان النورمانديين على حظ من الذكاء، وقد عرفوا به من قبل، لهذا لم يفعلوا بآثار المسلمين ما فعل بها الإسبان. فهناك –وهذا بعد تنصير صقلية بزمن بطويل- أفتى القسس بأن المسلمين رجس وآثارهم نجس لا يطهره إلا إحراقه بالنار، حتى الجدران أفتوا بهدمها وإحراقها، وبهذا تأخرت حضارة إسبانيا ثمانية قرون حقاً، أما هؤلاء فرأوا الإبقاء والمحافظة على حضارة العرب، وحاكوهم واستفادوا من كل ما تركوا إلا الدين الإسلامي، فقد كانت عداوة الإسلام، وعلى الأصح، كانت الصورة التي قرّت في أذهانهم عنه مما يصعب محوه، ولكن حضارة صقلية ظلت في تقدم لمدة طويلة بعد، وظلت مظاهر الحياة العربية بادية عليها، ولو تقبل النورمانديون الإسلام واتخذوه ديناً لكان عهد هذا الازدهار الحضاري أطول زمناً وأبقى.

العهد العربي النورماندي
أطلق على هذا العهد اسم »العهد العربي النورماندي«.. ذلك لأن مظاهر الحياة العربية ظلت بادية على كل شيء فيه حتى على حياة الملوك والحكام، وحتى على كنائس النصارى ومنازلهم، وعلى نسائهم وأطفالهم، واستمر ذلك كله أكثر من قرن ونصف القرن، وحقق ذلك ما قيل من أن المسلمين انتصروا في ميدان العلم والحضارة حين هزموا في ميادين الحرب والأعمال العسكرية.

وقبل أن نوضح جوانب هذا الانتصار، نشعر بسؤال تعجبي يبدوا أمامنا يضطرنا أن نوضح إجابة أولاً:

كيف حقق المسلمون ذلك كله وعهدهم كان مليئاً بالنزاع والخلافات المذهبية والعنصرية؟ وقد حكموا مدة لم تكمل ثلاثة قرون بثلاثة أنواع من الحكومات، أو على وجه الدقة بأربعة، وكانت كل حكوممة تخالف الأخرى وكل واحدة لها أتباع يتعصبون لها ضد الآخرين؟

هناك أمران جديران بملاحظة كل مؤرخ أو باحث في تاريخ صقلية:

أولهما: أن هذه الجزيرة فتحت باسم الدين الإسلامي، وأول وصاة من أول قائد كانت تدعو إلى العلم وتحصيله، وظل حكامها المختلفون المتنازعون يعملون على التوسع في بناء المساجد وتشجيع الدعوة الإسلامية بمعناها الواسع الكبير، فلم يكن ثمة عائق للحركة العلمية واستمرار الآداب والفنون في ازدهارها، ولم يملوا الإقامة في صقلية إلا في الأيام الأخيرة، وقبيل الغزو النورماندي.

والأمر الثاني: أن المسلمين دخلوا هذه الجزيرة وهم في أوج ازدهارهم ورقيهم الحضاري، وكان المشارقة قد ترجموا من علوم الأمم الأخرى، ودرسوا وابتكروا شيئاً كثيراً، فكانت البلاد الأوروبية التي دخلها المسلمون تتلقى ثماراً ناضجة وعلوماً قد آتت أكلها في جوانب الفكر والحضارة، ولم تكن صقلية منقطعة عن الشرق، كما لم تكن إسبانيا منقطعة، بل كانت رحلات الحج وطلب العلم ولقاء العلماء مما يغذي تيارات الثقافة بها، فطل النشاط الثقافي والحضاري بها مستمراً متجدداً.

وقد أعطانا ابن حوقل الذي زار باليرمو في عهد الكلبيين صورة عما شاهده فيها من كثرة المساجد، فقال: »إنها كانت نيفاً وثلائمائة مسجداً، وإنه عد في مساجد السنيين ستة وثلاثين صفاً، في كل صف نحو مائتي شخص، وكان بمدارسها العمومية ثلاثمائة مدرس، كانوا يمتازون بالصلاح والتقوى، ومن أعظم الناس رقياً وحسن مظهر.« كما ذكر: »أنه كان بجوار مسجد الشيخ القفصي –الفقيه المالكي- فرأى على مقدار رمية سهم نحو عشرة مساجد يدركها بصره، وبعضها في مقابلة الآخر لا يفصلها إلا عرض الطريق، وعلم أن القوم لتباهيهم وتفاخرهم كان كل واحد يحب أن يكون له مسجد باسمه، وربما كان أخوان دورهما متلاصقة، ولكل واحد منهما مسجده الخاص به«، وكثرة المساجد استلزمت كثرة الدراسة وسعة التعليم مما جعل بعض الباحثين يؤكد أن صقلية الإسلامية لم يكن فيها شخص أمي لا يقرأ ولا يكتب أو يحفظ حظاً من القرآن، وهذا سر ما نجده من كثرة العلماء وما نقرؤه من أسماء من ينتسبون إلى صقلية..

النورمانديون.. أنصار الثقافة العربية
ورث النورمانديون هذه الحضارة فلم يسعهم إلا الخضوع لها والاقتباس منها، وبرز بين الحكام أنصار الثقافة العربية (روجر الأول) فاتح الجزيرة، وابنه (روجر الثاني)، وسماهما ابن خلدون في تاريخه باسم (روجار)، والملك (فريدريك الثاني ووليم الثاني).

لم يكن روجر الأول مثقفاً ولكن كان ذا تسامح، ورأى أن يستفيد من المسلمين في كل شيء وجده، فكان في جيشه عدد من المسلمين يكون غالبيته، وكان حوله من المسلمين فلاسفة وأطباء، وكان بلاطه بلاط ملك شرقي، وكان كثير من كبار موظفيه مسلمين. وكان روجر الثاني يلبس ملابس المسلمين، ويطرز رداءه بحروف عربية، وكانت هذه ظاهرة شائعة، ولكن خصومه وصفوه بأنه نصف وثني، يعنون نصف مسلم! وجرى حفيده وليم الثاني علىنهج أسلافه، ولكن أسمى ازدهار للحضارة العربية كان أثناء حكم روجر الثاني.

كان الإدريسي، صاحب كتاب »نزهة المشتاق في اختراق الآفاق« يعيش في بلاطه ويحظى برعايته وتشجيعه، وقد سمى كتابه هذا باسم »الروجري«. والإدريسي من مشهوري الجغرافيين والرسامين للخرائط، ولا ينافسه أحد في هذا الميدان خلال العصور الوسطى كلها. وقد صنع لروجر كرة سماوية وخريطة للدنيا على شكل كرة، وكلاهما من الفضة.

وبنى روجر الثاني كنيسة في باليرمو زخرفَ سقفها بنقوش كوفيه. وكانت النساء النصرانيات يلبسن الملابس الإسلامية، وكان الصناع العرب والزراع العرب والملاحون العرب يقومون بكل الأعمال التي تتطلبها حال الدولة، ولم يكن عجيباً بعد هذا أن يفد رواد الدراسة الاستشراقية من أوروبا إلى صقلية، وأن تتبوأ هذه الجزيرة زعامة البحر الأبيض، وكل ذلك بفضل العرب فلاسفة وعلماء وعمالاً.

أما فريدريك الثاني – حفيد روجر الثاني – فكان أبرز وأعجب ملوك صقلية. كان وريث عرش ألمانيا من قبل أمه، ووارث الملك في صقلية من قبل أبيه وعن طريق زواجه من الأميرة إيزابيلا ولية عهد أبيها في ملك بيت المقدس – تلك المملكة التي نشأت أثناء الحروب الصليبية- صار أيضاً ملك بيت المقدس، ثم هو شأن النورمانديين جميعاً إمبراطور لإيطاليا، وكان يسمى إمبراطور الدولة الرومانية المقدسة. وقد شارك في الحروب الصليبية بغية الحكم والسيادة، ولكن اختلاطه بالمسلمين في الشرق جعله يوليهم تقديراً واحتراماً أكثر، وجعلت العادات والمظاهر الشرقية تتأصل فيه وفي دولته.

كان بعد حلمته الصليبية الفاشلة على صلة بخلفاء صلاح الدين، وكان هو والملك الكامل محمد يتبادلات الهدايا، ولم تخل سيرته من غرابة، أهمها: أنه كانت يجمع بين الأعمال الجادة النافعة والأعمال اللاهية التي لا طائل وراءها غير الأبهة والتباهي. كان في بلاطه عدد من الفلاسفة وفدوا من الشرق، وكانوا ذوي لحى طويلة وملابس فضفاضة، وكان الناس يحاكونهم في زيهم وسائر مظاهر حياتهم، وكان في بيته راقصات يهوديات من الشرق، وكان له مجموعة من الحيوانات النادرة ومن الطيور، وكان كلفاً بها حتى إنه يصطحبها في تنقلاته في أوروبا وحين يرحل من صقلية إلى ألمانيا. ولكن هذا اللهو لم يخل من وجهة نظر علمية، فقد أحضر من سورية مدربين للصقور التي لديه، ولكنه قام بتجربة علمية إذ ذاك، وهي تغطيته أعين الصقور بغطاء محكم ليرى مدى اهتدائها بحاسة الشم، وكان يقرأ الفلسفة والرياضة والفلك، ولما صادفته مرة مسائل معضلة فيها ولم يستطع حلها، أرسلها إلى السلطان الكامل الأيوبي طالباً للحل أو معجزاً لعلمائه، ولكن بعض العلماء المصريين حلها حلاً شافياً، وأضيف هذا إلى ما أخذ الغرب عن الشرق. وطلب مرة أخرى علماء مصريين ليجربوا تجارب على بيض النعام كي يمكن تفريخه وفقسه على حرارة الشمس، وترجمت له كتب عربية وفارسية في تدريب الصقور، وأخرج هو نفسه كتاباً عنها، كما ترجمت له كتب أرسطو عن الحيوان والنبات، وشروح ابن سينا عليها. وهكذا كان هذا الملك جاداً في لهوه، ولم يكن يعبث فيما يعمل ولا يجعل عمله لمجرد الإمتاع.

كان عصر هذا الإمبراطور يمثل فجر النهضة الأدبية في إيطاليا، وهي بداية النهضة الأوروبية كلها. وكنا نود من هذا الملك الحصيف بعد ما رأى من ثمار التسامح مع المسلمين ألا يحدث منه اضطهاد ينغصهم وينغص سيرته، ولكنه لم يستطع التخلص من التيارات التي كانت تعاصره، ولا من سيطرة الروح الصليبية عليه.

الخلاصة
ومهما يكن من أمر صقلية فإنها أسهمت بحظ وافر في نقل العلوم الشرقية إلى الغرب وكانت مركز ترجمة نشيطة، وبحكم موقعها وتاريخها كانت ملتقى أجناس ولغات، وسادت فيها اللغات الحية إذ ذاك الواسعة الانتشار، اليونانية واللاتينية والعربية، وكانت بها يهود مترجمون أيضاً على نحو ما كان في طليطلة. وفي صقلية ترجم المجسطي من اليونانية إلى اللاتينية مباشرة، وترجم في الأندلس من العربية. وفيها ترجم كتاب البصريات الذي كان بطليموس أخرجه في الاسكندرية، وفيها ترجمت كتب أدبية أخرى. وتوج فريدريك الثاني أعماله الجميلة بتأسيسه جامعة نابل في إيطاليا الجنوبية وأودعها مجموعة كبيرة من كتبه الخاصة، ودرست فيها مؤلفات ابن رشدج، وهذا عمل له قيمته، لأن أوروبا عادت فلسفة ابن رشد مدة طويلة، وقيمة جامعة نابل أنها أول جامعة رسمية، وكانت الجامعات الأخرى إلى ما بعد ذلك العهد جامعات أهلية تابعة للأديرة والكنائس، وكانت تقوم على التبرعات والهبات، أما جامعة نابل فقد نشأت ملكية مشمولة برعاية إمبراطور عالم، واستعارت منها بعض الجامعات الأخرى، وعلى الأخص جامعة باريس ما لديها من التراجم التي أمر بها فريدريك، ومن الذين تخرجوا في هذه الجامعة توما الإكويني، وأثره معروف في نشر الفلسفة والثقافة الشرقية في أوروبا.

ويكفي صقلية، وهي جزيرة صغيرة بجانب إسبانيا الواسعة، أن تكون قد أسهمت في نقل الحضارة الشرقية إلى الغرب، وأن يكون لها نصيب غير خفي في إيقاظ أوروبا العصر الوسيط من سباتها العميق، وأن تكون برزخاً في نقل جزء كبير من حضارة الشرق إلى الغرب.

هذا، وأخبار صقلية مبعثرة في مصادر كثيرة عربية، بعضها يكمل بعضاً، أو يوضح ويفصل ما أجمله الآخر، وقد جمع المستشرق الصقلي ميكي أماري أخبارها مستوفاة في مجموعة أسماها »تاريخ مسلمي صقلية«، ويقوم على درس هذه الحقبة من تاريخ هذه الجزيرة الآن الأستاذ أمبرتو ريزيتانو، وتنبئ كتابته وكتابة أماري عن المجهود الجبار الذي بذله كل منهما في قراءة الموسوعات العربية حتى خرجا بهذه المعلومات الدقيقة القيمة، وكل منهما أنصف المسلمين وأنصف أعمالهم النافعة، وما أخذاه على المسلمين نشاركهم أيضاً في مؤاخذتهما به، أخذا عليهم تفرقهم وميلهم إلى الأثرة، وحبهم مصالح أنفسهم أكثر من مصالح أوطانهم، وأخذا عليهم كما أخذ مستشرقون منصفون أنهم بعدوا بسرعة عما لهم القرآن وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو أنهم بوجه عام خالفوا الإسلام الذي بنى نهضتهم وحضارتهم، فسلبوا العزة التي جاءت بسببه، وهو كلام أولى أن يقوله المسلمون.


--------------------------------------------------------------------------------

مجلة الأمة، العدد 27، ربيع الأول 1403هـ

--------------------------------------------------------------------------------

[1] انظر: »المنطلق الأساسي في التاريخ الإسلامي – خطبة طارق بن زياد« في الفسطاط.

[2] انظر: »لمحة تاريخية عن الدولة العبيدية« في الفسطاط.

رد مع اقتباس
  #13  
قديم 15-04-2005, 11:16 PM
د.فالح العمره د.فالح العمره غير متصل
 
تاريخ التسجيل: Feb 2005
الدولة: في قلوب المحبين
المشاركات: 7,593
معدل تقييم المستوى: 27
د.فالح العمره is on a distinguished road

محمد الفاتح

وملحمة القسطنطينية الخالدة

بقلم: خليل حسن فخر الدين


--------------------------------------------------------------------------------

مولده وحكمه وشخصيته [1]

ولد محمد الثاني بن مراد الثاني بن محمد الأول في 26 رجب سنة 833 هـ (20 نيسان/أبريل 1429م)، وتولى الحكم في سنة 1451م وهو شاب لم يتجاوز عمره اثنتين وعشرين سنة وحكم لمدة ثلاثين سنة (1451-1481م). واشتهر في التاريخ بلقب محمد الفاتح لفتحه القسطنطينية، وهو من بين الفاتحين في التاريخ العالمي في هذه السن المبكرة، ومن بناة الحضارة الراقية والمجد الرفيع.

ورث محمد الفاتح دولة قوية واسعة، ولكنها لم ترض نفسه الطموح بأن يكتفي بأمجاد أسلافه، ويعيش في رفاهية ونعيم بل صمم على أن يزيد أمجاداً جديدة إلى أمجادهم الإسلامية بفتوحه في أوروبا وآسيا الصغرى، ويتوج تلك الأمجاد وأمجاد الإسلام عامة بتحقيق حلم راود المسلمين مدة ثمانمائة عام[2]، وهو فتح القسطنطينية، عاصمة الدولة الرومانية الشرقية، العدوّة القديمة للإسلام والمسلمين منذ عهدهم الأول. وكان هذا الفتح أقسى ضربة سددها الإسلام في وجه أوروبا النصرانية في تاريخها الطويل على يد هذا الفاتح، ومن ثم نرى معظم المؤرخين الغربيين ينالون من محمد الفاتح وينعتونه بأبشع الصفات، ولم يشذ عنهم حتى المستشرق الإنجليزي المعتدل (لين بول Lane Poole)، وهو محض افتراء وبهتان، لم يدفعهم إليه إلا الحنق والغيظ لمحو اسم الدولة البيزنطية وريثة الإمبراطورية الرومانية من خريطة التاريخ إلى الأبد.

كان السلطان محمد الفاتح عبقرية فذة من عبقريات الإسلام، فلم يكن مجرد فاتح مغوار وقائد عسكري مظفّر، بل كان يجمع بين صفات القيادة العسكرية الموفقة وبين الثقافة العلمية الرفيعة [3]، يقود الجيوش، ويفتح المدن والدول، ويتذوق العلوم والآداب والفنون بمختلف أنواعها ويقدرها ويرعاها وينشئ ويعمر. ولقد أشاد بذكره المؤرخون المسلمون المعاصرون له كابن تغري بردين وابن إياس، والسخاوي، والسيوطي، وابن العمادالحنبلي، فيما كتبوه من ترجمته في مؤلفاتهم التاريخية العامة، وأثنوا عليه ثناء عاطراً، ونوهوا بفتوحه وعلمه. فمن ذلك ما قاله المؤرخ ابن إياس عندما بلغه نبأ وفاته: »وفي ربيع الأول جاءت الأخبار بوفاة السلطان المجاهد الغازي صاحب القسطنطينية وهو محمد بن مراد بن محمد.. وانتشر ذكره بالعدل في سائر الآفاق، وحاز الفضل والعلم والعدل والكرم الزائد وسعة المال وكثرة الجيوش والاستيلاء على الأقاليم الكفرية وفتح الكثير من حصونها وقلاعها..«.[4]

فتح القسطنطينية
قبل التعرض لفتح القسطنطينية أراد السلطان محمد الثاني أن يحصن مضيق البوسفور حتى لا يأتي لها مدد من مملكة طرابزون [5] وذلك بأن يقيم قلعة على شاطئ المضيق من جهة أوروبا تكون مقابلة للحصن الذي أنشأه السلطان بايزيد ببرّ آسيا. ولما بلغ ملك الروم هذا الخبر أرسل إلى السلطان سفيراً يعرض عليه دفع الجزية التي يقررها فرفض راداً ذلك للتعديات التي كانت تحدث من قبل الروم على الجنود العثمانيين وتقتل بعضاً منهم، فحاصر السلطان المدينةفي أوائل نيسان/أبريل 1453م من جهة البر بجيش يبلغ المائتين وخمسين ألف جندي، ومن جهة البحر بعمارة مؤلفة من مائة وثمانين سفينة، وأقام حول المدينة أربعة وعشرين بطارية مدفعية كانت تقذف كرات من الحجر إلى مسافة ميل. وفي أثناء الحصار اكتشف قبر أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه الذي استشهد في حصار القسطنطينية في سنة 52 هـ في خلافة معاوية بن أبي سفيان. وبعد الفتح بنى له مسجداً جامعاً وما يزال قائماً، وجرت العادة بعد ذلك أن كل سلطان يتولى الحكم يتقلد سيف عثمان الأول الغازي بهذا المسجد.

ولما شاهد قسطنطين آخر ملوك الروم هذه الاستعدادات استنجد بأهل جنوة [6] فأرسلوا له عمارة بحرية تحت إمرة جوستنياني ، فأتى بمراكبه، وأراد الدخول إلى ميناء القسطنطينية، فلقي معارضة شديدة، انتهت بفوزه ودخوله الميناء بعد أن رفع جنوده السلاسل الحديدية التي وضعت لمنع المراكب العثمانية من الوصول إليها، ثم أعيدت بعد مروره كما كانت.

بعدها أخذ محمد الفاتح يفكر في طريقة لدخول مراكبه إلى الميناء لإتمام الحصار براً وبحراً، فخطر بباله أن ينقل المراكب إلى البر ليجتازواالسلاسل الموضوعة لمنعه،وتم هذا الأمر بأن مهد طريقاً إلى البر رصّت فوقه ألواح من الخشب صبت عليها كميات من الزيت والدهن لسهولة زلق المراكب عليها، وبهذه الطريقة أمكن نقل سبعين سفينة في ليلة واحدة حتى أصبح النهار، ونظرها الروم، أيقنوا أن لا مناص من نصر العثمانيين عليهم.

أرسل السلطان محمد إلى قسطنطين يخبره أنه لو سلم البلد إليه طوعاً يتعهد له بعدم مس حرية الأهالي أو أملاكهم، وإن يعطيه جزيرة موره، فلم يقبل قسطنطين بذلك.

أمر الفاتح جنوده بالصيام قبل الهجوم بيوم لتطهير نفوسهم وتزكيتها، ثم قام بزيارة للسور وتفقد الأسطول، وفي تلك الليلة تعالت أصوات التكبير والتهليل، ورتلت آيات الجهاد على مسامع الجند، ودوت الأناشيد الإسلامية الحماسية.. ودعا الفاتح قادة جيشه، ثم خاطبهم قائلاً:

»إذا ثم لنا فتح القسطنطينية تحقق فينا حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومعجزة من معجزاته، وسيكون من حظنا ما أشاد به هذا الحديث من التقدير.. فأبلغوا أبناءنا العساكر فرداً فرداً أن الظفر العظيم الذي سنحرزه سيزيد الإسلام قدراً وشرفاً، ويجب على كل جندي أن يجعل تعاليم ديننا الحنيف نصب عينيه، فلا يصدر عن واحد منهم ما ينافي هذه التعاليم، وليتجنبوا الكنائس والمعابد، ولا يمسوها بسوء بأذى، وليدعوا القساوسة والضعفاء الذين لا يقاتلون..« [7]

وظل الجند المسلمون طوال الليل يهللون ويكبرون حتى إذا لاح الفجر صدرت إليهم الأوامر بالهجوم، فتسلقوا الأسوار حتى دخلوا المدينة من كل فج، وأعملوا السيف فيمن عارضهم، ودخلوا كنيسة آيا صوفيا حيث كان يصلي فيها البطريق وحوله عدد من الأهالي، أما قسطنطين فقاتل حتى قتل، فدخل عندئذ محمد الفاتح إلى قصر الإمبراطور، وعمت بشائر الفتح في جميع العالم الإسلامي، إذ كتب الفاتح إلى السلطان المملوكي الأشرف إينال وإلى شريف مكة، كما أرسل إليه بعض الهدايا من الغنائم والأسرى، وأقيمت في مصر الزينات والاحتفالات لمدة ثلاثة أيام ابتهاجاً بهذا الفتح حسب كلام المؤرخ ابن تغري بردي.

بعد ذلك زار السلطان محمد كنيسة آيا صوفيا، وأمر بأن يؤذن فيها بالصلاة إعلاناً بجعلها مسجداً للمسلمين[8]، وأصدر أوامره بمنع كل اعتداء، وبأنه لا يعارض في إقامة شعائر ديانة النصارى، بل يضمن لهم حرية عقيدتهم، وحفظ أملاكهم فرجع من هاجر منهم وأعطاهم نصف الكنائس وجمع أئمة دينهم لينتخبوا بطريقاً يكون رئيساً لطائفتهم.

محاولات العرب لفتح القسطنطينية
ولنذكر هنا أن المسلمين حاصروا القسطنطينية إحدى عشرة مرة قبل هذه المرة الأخيرة التي تم فيها فتحها، منها سبعة في القرنين الأولين للإسلام، فحاصرها معاوية بن أبي سفيان في خلافة الإمام علي بين أبي طالب رضي الله عنه سنة 34 هـ (654م)، وحاصرها يزيد بن أبي معاوية سنة 47 هـ (667م)، وحاصرها سفيان بن أوس في خلافة معاوية سنة 52 هـ (672م)، وفي سنة 97 هـ (715م) حاصرها مسلمة بن عبد الملك في زمن الخليفة عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه، وفي المرة السابعة حاصرها أحد قواد الخليفة العباسي هارون الرشيد سنة 182 هـ (798م).

نتائج هذا الفتح
لم يكن فتح القسطنطينية أمراً سهلاً كما يحلو لبعض المؤرخين أن يصوروه بسبب ضعف الدولة البيزنطية، والانشقاق الكنسي في الشرق والغرب، بل الحق يقال: إن الجنود الإسلاميين بذلوا أرواحهم رخيصة في سبيل ذلك، وقاموا بالتضحية والفداء حتى تم لهم النصر المبين، كما أن السلطان محمداً أعدّ كل ما يمكن من الوسائل العسكرية الناجحة، ولم يشك لحظة في ثقته بنصر الله عز وجل حتى تم له ذلك، وصدق المؤرخ الفرنسي الشهير (كارادي فو Carra De Vaux) في قوله بهذا الصدد: »إن هذا الفتح لم يتيسر لمحمد الفاتح اتفاقاً، ولا تيسر بمجرد ضعف الدولة البيزنطية، بل كان هذا السلطان يدبر التدابير الللازمة له من قبل ويستخدم له ما كان في عصره من العلم.« [9]

وكان من آثار هذا الفتح أن اتحد كلا القسمين الجنوبي والشمالي، الآسيوي والأوروبي للدولة الإسلامية العثمانية، وتحولت العاصمة من أدرنة إلى القسطنطينية التي سميت بأسماء عدة: إسلام بول (أي مدينة الإسلام)، ودار السعادة، واسمها الرسمي الآستانة، وفي العهد الكمالي قرر اسمها رسمياً إستنبول ولا تزال.

وأصبحت القسطنطينية بعد ذلك قاعدة للأعمال العسكرية في الشرق والغرب، وامتد النفوذ الإسلامي إلى شواطئ البحر الأسود الشمالي وكييف (حالياً في روسيا) [10] وإلى المجر واليونان وسواحل البحر الأدرياتيكي الشرقية، وإلى شرقي البحر الأبيض المتوسط.

وفاة محمد الفاتح
هكذا وبعد ثلاثين سنة من الحروب المتواصلة للفتح وتقوية الدولة وتعميرها، فاجأ الموتُ السطانَ محمد الفاتح في 4 ربيع الأول 886 هـ/3 مايو 1481م في أُسكُدار في معسكره وبين جنوده، إذ كان قد أعد في هذه السنة إعداداً قوياً لحملة لا يعرف اتجاهها لأنه كان شديد الحرص على عدم كشف مخططاته العسكرية حتى لأقرب وأعز قواده. وقد قال في هذا الصدد عندما سئل مرة: »لو عرفته شعرة من لحيتي لقلعتها.«

وهذه السرّية العسكرية التامة، مع الإيمان الصادق، كانت سر نجاحه في كثير من حملاته وفتوحه، ودفن في الضريح الذي شيده في جامعه بالقسطنطينية المعروف بجامع الفاتح، بينما غلبت روح الكآبة والحزن على الأتراك لفقدهم سلطانهم الحبيب وعمّ العزاء والرثاء في العالم الإسلامي لموت هذا المجاهد المسلم.


--------------------------------------------------------------------------------

مجلة الأمة، العدد 21، رمضان 1402 هـ


--------------------------------------------------------------------------------

[1] أفاض المؤلفون الغربيون في الكلام عن حياته وألفوا في سيرته، من أقدم هذه المؤلفات كتاب المؤلف الفرنسي في القرن السابع عشر الميلادي (جوييه)، وفي اللغة العربية كتابان عنه: »أبو الفتح السلطان محمد الفاتح وحياته« للقاضي التركي علي همت الأفسكي، ترجمة محمد إحسان بن عبد العزيز – القاهرة 1953م ، و»محمد الفاتح« للدكتور سالم الرشيدي.

[2] في الأصل »ألف عام« ولعله غلط في الطباعة. (الفسطاط)

[3] كان مولعاً بقراءة كتب التاريخ والسير ومكرماً للعلماء – انظر كتاب علي همت الأفسكي، وكتاب الشقائق النعمانية في علماء الدولة العثمانية لطاشكبري زادة.

[4] بدائع الزهور في وقائع الدهور أو تاريخ مصر ج2 ص204. ومثل ذلك ما كتبه ابن تغري بردي في النجوم الزاهرة ج7 ص 357-437، وكتابه الآخر حوادث الدهور ج2 ص 298-299، ج3 ص 448-449، السخاوي في الضوء اللامع ج10 ص47، والشوكاني في البدر الطالع ج2 ص 269، وابن العماد الحنبلي ج7 ص 344-345.

[5] مدينة قديمة بآسيا على البحر الأسود تبعد 140 كلم عن مدينة أرضروم، ويظن أنها معاصرة لمدينة طروادة الشهيرة.

[6] جنوة مدينة قديمة جداً يقال أنها أنشئت سنة 707 قبل الميلاد واستولى عليها الرومانيون. فتحها شارلمان الفرنسي. نافست جمهوريتي بيزا والبندقية. تقهقرت شيئاً فشيئاً فدخلت تارة في حمى إسبانيا وطوراً في حمى فرنسا. بعد سقوط نابليون الأول سنة 1815م ضمت إلى لومبارديا، وهي الآن تابعة لإيطاليا.

[7]الدكتور علي حسون في كتابه تاريخ الدولة العثمانية ص 300 وما بعدها. ألا يذكرنا هذا بوصية سيدنا الصديق رضي الله عنه لجيوش الفتح الإسلامي التي وجهها؟

[8] الأمير شكيب أرسلان: حاضر العالم الإسلامي ج 1، ص 220، نقلاً عن كتاب : مفكرو الإسلام، تأليف كارا دي فو الفرنسي.

[9] المصدر السابق.

[10] وهي الآن في جمهورية أوكرانيا. (الفسطاط)

رد مع اقتباس
  #14  
قديم 15-04-2005, 11:56 PM
د.فالح العمره د.فالح العمره غير متصل
 
تاريخ التسجيل: Feb 2005
الدولة: في قلوب المحبين
المشاركات: 7,593
معدل تقييم المستوى: 27
د.فالح العمره is on a distinguished road

ملحمة القصر الكبير

بقلم: أنور عبد العزيز الحمدوني


--------------------------------------------------------------------------------

في زمن كانت فيه الجيوش الصليبية تغير على الطرف الشرفي لدار الإسلام، فتحتل، وتنهب، وتشر، وفي زمن كانت فيه البرتغال، أقوى إمبراطورية في العالم، إلى جانب إسبانيا حيث تمتد رقعتها إلى مناطق شاسعة من العالم، في هذا الزمن حين بلغ الصليبيون قمة قوتهم، فكان لا بد –في نظرهم- من كسر شوكة الإسلام في جناحه الغربي.

في سنة 981 هـ تولى ملك المغرب محمد المتوكل [1]، وبقي على العرش حوالي السنتين، إذ انقلب عليه أبو مروان عبد الملك السعدي، وأخوه أحمد (وهما من عائلة المتوكل) بمساعدة العثمانيين الذين كانوا على الحدود الشرقية للمغرب، في الجزائر. فما كان من المتوكل إلا أن فرّ إلى البرتغال طالباً النجدة من إمبراطورها دونْ سباستيان على أن يسلمه كل شواطئ المغرب على المحيط الأطلسي دون استثناء.

هكذا وجد سباستيان فرصته الذهبية للقضاء على الإسلام في جناحه الغربي، وتنصير المسلمين فيه تطبيقاً لوصايا إيزابيلا الكاثوليكية. وبدأ الإمبراطور البرتغالي مشاوراته مع أباطرة أوروبا وملوكها، فاتصل أول الأمر بخاله فيليب الثاني عاهل إسبانيا، الذي سمح للمتطوعين من كل ممالكه بمرافقة سباستيان إلى المغرب للقتال في سبيل الصليب، وتحرك سباستيان بجيوش نظامية من ألمانيا وإيطاليا وإسبانيا والفاتيكان البابوية ومتطوعين من إنجلترا وفرنسا بالإضافة إلى جيوشه البرتغالية.

وعلم عبد المالك ملك المغرب بالمخطط الذي يحاك ضد بلاده، فبعث رسالة إلى إمبراطور إسبانيا يدعوه إلى حسن الجوار وإقامة علاقات صداقة، كما بعث لسباستيان يؤنّبه فيها على العمل الذي ينوي الإقدام عليه، ويهدده بسوء المصير،ويدعوه في الوقت نفسه إلى الدخول في السلم، والشروع في المفاوضات، ومما جاء في الرسالة:

»إنّ عزمك على محاربتي في عقر داري ظلم وعدوان، وأنت تعلم أني لا أضمر لك شراً، ولم أقم بحركة ضدك، فكيف تبيح لنفسك أن تسطو على حقوق وهبني الله إياها وتقدمها لشخص آخر هو محمد المتوكل، مقابل وعود (تسليم شواطئ الأطلسي)، لا يستطيع أن يفي لك بها ما دمت على قيد الحياة، وباستثناء العاصمة مراكش فإنني مستعد أن أتنازل لابن أخي (محمد المتوكل) على أي قضية، وإنك بإغرائك مغربياً على أخيه تقوم بعمل مشين لن يخدم سمعة البرتغال. إني أعلم أنك في طريقك لإبعادي عن مملكتي، ولكنك لا تعلم أنك بكل ما تملك وبما يوجد تحتك من ممالك لن تقدر على ذلك، ولا تظن أن الجبن هو الذي يملي علي ما أقول لك، فإن فعلتَ فإنك تعرض نفسك للهلاك، وإنني مستعد للتفاهم معك رأساً لرأس في المحل الذي تريده، وإنني أفعل كل هذا سعياً في عدم هلاكك المحقق عندي، ولا يملي علي هذه المشاعر إلا محبّتي للعدل، وإنني أقبل أن أتحاكم معك لدى محكمتك التي لا تستطيع ان تنتزع من أحد حقاً من حقوقه ظلماً وعدواناً لتعطيه لغيره، وإنني أقبل حكمها مسبقاً، وإنني أشهد الله على ما أقول، وأعلم أنك شاب لا تجربة لك، وأن في حاشيتك من يشير عليك بآراء فاشلة، لكن هيهات أن يمتنع الذي عزم«.

بداية المعركة واستراتيجية عبد المالك في الحوار مع إمبراطور البرتغال..

بدأت الحملة الصليبية في السابع من تموز (رمضان) 986 هـ، وانطلقت المراكب من ميناء قادس متوجهة صوب المغرب، حاملة جيوشاً صليبية هي أقوى جيوش العالم آنذاك عدداً وعدة.

وصلت الجيوش إلى مدينة أصيلة فاحتلتها ونواحيها، وكان ملك المغرب عبد المالك في مراكش آنذاك، فبعث إلى سباستيان برسالة قال فيها: »إنني أعترف بشجاعتك وشهامتك يا سباسيتان، ودليلنا على ذلك هو هجومك على بلادنا الآمنة، إنني أنحي عليك باللوم لآنك انتهزت فرصة غيابي وهجمت على المدن والقرى الوديعة تفتك بالمدنيين والفلاحين العزّل، وهذا لم أكن أعهده فيك، والآن ففي إمكانك أن تنتظرني أياماً أقدم عليك«.

وتأثر سباستيان بالرسالة بفعل الغرور، وكان هذا شيئاً هاماً ينم عن ذكاء عبد المالك، وذلك لكي لا تتوغل جيوش سباستيان في الآراضي المغربية، فيكسب سكانها الذي سيحاربون إلى جانبه بالإكراه.

وسافر عبد المالك إلى مدينة القصر الكبير، فكتب مرة إخرى إلى سباستيان: »لقد قطعت أنا المراحل والمسافات الطويلة لمقابلتك، أفلا تتحرك أنت يا سباستيان لمقابلتي، لتبرهن علىشجاعتك وشدة مراسك؟« وكانت هذه أيضاً خطة ناجحة لإبعاد الجيوش الأوروبية عن مراكز التموين على البحر.

الملحمة..

وفعلاً تحركت الجيوش الأوروبية الصليبية مهاجمةً المغاربة الذي استدرجوا هذه الجيوش إلى سهل القصر الكبير في مكان استراتيجي بين وادي المخازن في الخلف ونهر لوكوس على اليمين ووادي وارور في الأمام.

ثم كان الشطر الثاني من خطة المسلمين للمعركة، إذ هدموا جسر وادي الخازن لقطع خط الرجعة على الفلول الصليبية، وأخيراً كان الملتقى بعد فجر يوم الاثنين 30 جمادى الأولى سنة 986 هـ (4 آب/أغسطس 1578م). ويصف لنا المؤلف المغربي الأفراني المعركة في كتابه »نزهة الحادي في أخبار القرن الحادي« قائلاً: »نزل العدو علىوادي المخازن، وقطعه بجيوشه وعبر جسر الوادي، فأمر عبد المالك بالقنطرة أن تهدم، ووجه لها كتيبة من الخيل فهدموها، ثم زحف بجيوش المسلمين وخيل الله المسوّمة، فالتقت الفئتان، وحمي الوطيس، واسودّ الجو بنقع الغبار، ودخان مدافع البارود، إلى أن هبّت على المسلمين ريح النصر، فولّى المشركون الأدبار، وقُتِل الطاغية البرتغالي غريقاً في الوادي، ولم ينجُ من الروم إلا عدد نذر وشرذمة قليلة«.

وصدق الله العظيم: )إن تنصروا الله ينصركم ويثبّت أقدامكم( [محمد: 7]، صدق الذي أعزّ عبده، ونصر جنده، وهزم الأحزاب وحده. وسبحانه، ففي يوم واحد –في هذه المعركة- مات ثلاثة ملوك، الأول معتدٍ هو سباستيان، الذي قُتِل من جراء جرحين أصيب بهما في رأسه، وجرح آخر في ساعده، ثم غرق في الوادي، والثاني هو محمد المتوكل، غرق أيضاً فأخذوه وطافوا به في القصر الكبير، وفاس ومراكش، أما الأخير فهو أبو مروان عبد المالك، صعدت روحه إلى ربها راضية مرضية، بعد المرض الذي أصابه وهو يوجّه أوامره ويسيّر المعركة من داخل خيمته.[2]

نتائج معركة القصر الكبير
هل كانت معركة صليبية؟ لقد غيّرت معركة القصر الكبير مجرى مهماً في التاريخ، إذ فقدت البرتغال –مثلاً- استقلالها، وفقدت ممتلكاتها الواسعة في العالم وأوقفت الهجمات الصليبية الشرسة الأوروبية عموماً والبرتغالية خصوصاً على الخليج العربي. أما المغرب فقد جنى غنائم طائلة، وكسب سمعة عالية، حتى بدأت دول أوروبا نفسها تخطب ودّه، وهذا ما أوجد في نفس الأوروبيين عقدة حاصة، ذهبوا معها إلى أن المعركة لم تكن صليبية، ومن بين هؤلاء المؤرخ الفرنسي هنري تيراس الذي يقول: »إنها لم تكن من الصدمات الكبرى بين النصرانية والإسلام، بل كانت –حسب تواريخ البرتغال والمغاربة معاً- حادثاً عرَضياً بدون مقدمة ولا نتائج«.

وهذا خطأ، وإلا كيف نفسر ما ترتبت على المعركة من نتائج لا يجهلها هذا المؤرخ نفسه؟ وكيف نفسر الاستعدادات طويلة الأمد، ومشاركة جيوش كثيرة من أوروبا بلغ تعدادها 35 ألف مقائل صليبي[3] عدا المتطوعين الذين يزيدون على عشرة آلاف، على متن ألفي مركب شراعي، في الوقت الذي كان فيه تعداد المسلمين 37 ألف مقاتل ضمنهم أربعة آلاف من الجيوش العثمانية التي تكوّن فرق المدفعية والبارود.

ولعل من المفيد هنا أن أورد ما قاله كاستوني دوفوس[4] حول نظرة البرتغال إلى المعركة: »إن من المؤكد أن رجال البلاط في لشبونة كانوا ينظرون إلى تلك الحرب وكأنها رحلة من رحلات الساحة، وليس أدل على ذلك من أنهم كانوا يهيئون الصلبان لتعليقها على مساجد فاس ومراكش. وقد أبدى كثير من نساء الطبقة النبيلة رغبتهن في مصاحبة الجيش البرتغالي وكأنهن سيحضرن إلى ملعب لسباق الخيل، وكان الشاعر الكبير كاموانس، الذي اشتهر بكونه أنبغ الشعراء وأكثرهم قصائد في الحث على القضاء على المغاربة، على فراش الموت، وحيث لم يستطع ركوب البحر فإنه بعث مع الجنود أغنية مجّد فيها المحاربين الذي باركهم البابا، وصلى من أجل انتصارهم«.

وأورد مؤرخون آخرون حالة الاستعداد التي كانت عليها أوروبا قبل المعركة، إذ ذهب الخبال ببعض المهندسين إلى درجة أنهم وضعوا تصميمات لتحويل قبة القرويين إلى مذبح كنائسي تعلّق فيه صورة العذراء.

وهذا فقط يكفي للدلالة على أن معركة القصر الكبير كانت صداماً حاسماً بين الإسلام والنصرانية المزيفة، أي وبتعبير آخر: كانت معركة صليبية فاصلة في التاريخ.


--------------------------------------------------------------------------------

[1] محمد المتوكل: من ملوك دولة السعديين بالمغرب، وعبد المالك هو ابن عمه.

[2] بعض الروايات تقول: إنه سُقي سماً من طرف أحد خدامه الأتراك.

[3] بعض الوثائق الأجنبية تذكر أنهم كانوا ستة آلاف مقاتل، انظر الجزء 3 من سلسلة دي كاسطري، ص 397.

[4] مؤرخ فرنسي من القرن الماضي.

رد مع اقتباس
  #15  
قديم 15-04-2005, 11:57 PM
د.فالح العمره د.فالح العمره غير متصل
 
تاريخ التسجيل: Feb 2005
الدولة: في قلوب المحبين
المشاركات: 7,593
معدل تقييم المستوى: 27
د.فالح العمره is on a distinguished road

معركة شقحب

أو مرج الصفر

د. محمد لطفي الصباغ


--------------------------------------------------------------------------------

كان الرعب الذي يرافق تحركات المغول شديداً يملأ صدور الناس ويوهن من قواهم، فكلما سمع الناس قصدهم إلى بلد فرّوا من مواجهتهم. وقد سهّل هذا الرعب لهؤلاء الغزاة المعتدين سبيل النصر والغلبة.

وكان الخليفة المستكفي بالله والسلطان الناصر مقيمين في مصر كما هو معلوم، ويبدو أنّ أخبار عزم التتار على تجديد حملاتهم لدخول بلاد الشام وإزالة دولة المماليك بلغ المسؤولين في مصر، فعمل العلماء وأولوا الفكر والرأي على إشراك الخليفة والسلطان في مواجهة هؤلاء الغزاة.

ففي شهر رجب من سنة 702 هـ قويت الأخبار بعزم التتار على دخول بلاد الشام، فانزعج الناس لذلك، واشتدّ خوفهم جداً كما يقول الحافظ ابن كثير، وقنت الخطيب في الصلوات، وقُرِئ [صحيح] البُخاري، وهذه عادة كانوا يستعملونها في مواجهة الأعداء فيعمدون إلى قراءته في المسجد الجامع.

وشرع الناس في الهرب إلى الديار المصرية والكرك والحصون المنيعة، وتأخّر مجيء العساكر المصرية عن إبانها فاشتدّ لذلك الخوف.

قال ابن كثير:

(وفي يوم السبت عاشر شعبان ضربت البشائر بالقلعة - أي قلعة دمشق - وعلى أبواب الأمراء بخروج السلطان من مصر لمناجزة التتار المخذولين.. وفي ثامن عشر من شعبان قدمت طائفة كبيرة من جيش المصريين، فيهم كبار الأمراء من أمثال ركن الدين بيبرس الجاشنكير وحسام الدين لاجين وسيف الدين كراي).

ثم قدمت بعدهم طائفة أخرى فيهم بدر الدين أمير السلاح وأيبك الخزندار. فقويت القلوب في دمشق، واطمأن كثير من الخلق، ولكنَّ الناس في الشمال سيطر عليهم الذعر، واستبدّ بهم الفزع فنزح عدد عظيم منهم من بلاد حلب وحماة وحمص.. ثم خافوا أن يدهمهم التتار فنزلوا إلى المرج.

ووصل التتار إلى حمص وبعلبك وعاثوا في تلك البلاد فساداً، وقلق الناس قلقاً عظيماً لتأخُّر قدوم السلطان ببقية الجيش، وخافوا خوفاً شديداً، وبدأت الأراجيف تنتشر وشرع المثبِّطون يوهنون عزائم المقاتلين ويقولون: لا طاقة لجيش الشام مع هؤلاء المصريين بلقاء التتار لقلة المسلمين وكثرة التتار. وزَيَّنوا للناس التراجعَ والتأخُّرَ عنهم مرحلة مرحلة. ولكن تأثير العلماء ولاسيما شيخ الإسلام ابن تيمية كان يتصدّى لهؤلاء المرجفين المثبّطين، حتى استطاعوا أن يقنعوا الأمراء بالتَّصدِّي للتتار مهما كان الحال.

واجتمع الأمراء وتعاهدوا وتحالفوا على لقاء العدوّ وشجَّعوا رعاياهم، ونوديَ بالبلد دمشق أن لا يرحل منه أحد، فسكن الناس وهدأت نفوسهم وجلس القضاة بالجامع يحلِّفون جماعة من الفقهاء والعامّة على القتال، وتوقّدت الحماسة الشعبية، وارتفعت الروح المعنوية عند العامة والجند. وكان لشيخ الإسلام ابن تيمية أعظم التأثير في ذلك الموقف، فقلد عمل على تهدئة النفوس، حتَّى كان الاستقرار الداخلي عند الناس والشعور بالأمن ورباطة الجأش. ثم عمل على إلهاب عواطف الأمة وإذكاء حماستها وتهيئتها لخوض معركة الخلاص.. ثمّ توجّه ابن تيمية بعد ذلك إلى العسكر الواصل من حماة فاجتمع بهم في القطيفة، فأعلمهم بما تحالف عليه الأمراء والناس من لقاء العدو، فأجابوا إلى ذلك وحلفوا معهم.

وكان شيخ الإسلام ابن تيمية يحلف للأمراء والناس: إنكم في هذه الكرّة منصورون. فيقول له الأمراء: قل إن شاء الله. فيقول: إن شاء الله تحقيقاً لا تعليقاً. وكان يتأوَّل في ذلك أشياء من كتاب الله منها قوله تعالى : (ذلك ومَنْ عاقَبَ بِمِثْلِ ما عوقِبَ بهِ ثمَّ بُغِيَ علَيهِ لَيَنْصُرُّنَّهُ اللهُ).

وقد ظهرت عند بعضهم شبهات تفُتُّ في عضد المحاربين للتتار من نحوِ قولهم: كيف نقاتل هؤلاء التتار وهم يظهرون الإسلام وليسوا بُغاة على الإمام.. فإنهم لم يكونوا في طاعته في وقت ثم خالفوه؟

فردَّ شيخ الإسلام ابن تيمية هذه الشُّبهة قائلاً: هؤلاء من جنس الخوارج الذين خرجوا على عليٍّ ومعاوية رضي الله عنهما، ورأوا أنهم أحقُّ بالأمر منهما، وهؤلاء يزعمون أنهم أحقّ بإقامة الحقّ من المسلمين وهم متلبِّسون بالمعاصي والظُّلْم. فانجلى الموقف وزالت الشبهة وتفطّن العلماء والناس لذلك ومضى يؤكّد لهم هذا الموقف قائلاً:

إذا رأيتموني في ذلك الجانب-يريد جانب العدوّ- وعلى رأسي مصحف فاقتلوني، فتشجّع الناس في قتال التتار وقويت قلوبهم.

وامتلأت قلعة دمشق والبلد بالناس الوافدين، وازدحمت المنازل والطرق. وخرج الشيخ تقي الدين بن تيمية من دمشق صبيحة يوم الخميس من باب النصر بمشقّة كبيرة وصَحِبَتْهُ جماعة كبيرة يشهد القتال بنفسه وبمن معه. فظنّ بعض الرعاع أنه خارج للفرار فقالوا: أنت منعتنا من الجفل وها أنت ذا هارب من البلد.. فلم يردّ عليهم إعراضاً عنهم وتواضعاً لله، ومضى في طريقه إلى ميدان المعركة.

وخرجت العساكر الشامية إلى ناحية قرية الكسْوة. ووصل التتار إلى قارَة. وقيل: إنهم وصلوا إلى القطيفة فانزعج الناس لذلك، وخافوا أن تكون العساكر قد هربوا، وانقطعت الآمال، وألحّ الناس في الدعاء والابتهال في الصلوات وفي كلّ حال. وذلك في يوم الخميس التاسع والعشرين من شعبان.. فلمَّا كان آخر هذا اليوم وصل أحد أمراء دمشق، فبشَّرَ الناس بأنَّ السلطان قد وصل وقتَ اجتماع العساكر المصرية والشامية.

وتابع التتار طريقهم من الشمال إلى الجنوب ولم يدخلوا دمشق بل عرجوا إلى ناحية تجمُّع العساكر، ولم يشغلوا أنفسهم باحتلال دمشق وقالوا: إن غلبنا فإنّ البلد لنا وإن غُلِبنا فلا حاجة لنا به.

ووقفت العساكر قريباً من قرية الكسوة، فجاء العسكر الشامي، وطلبوا من شيخ الإسلام أن يسير إلى السلطان يستحثُّه على السير إلى دمشق، فسارَ إليه، فحثّه على المجيء إلى دمشق بعد أن كاد يرجع إلى مصر. فجاء هو وإيّاه جميعاً، فسأله السلطان أن يقف معه في معركة القتال، فقال له الشيخ ابن تيمية: السُّنَّةُ أن يقف الرجُلُ تحت راية قومه، ونحن من جيش الشام لا نقف إلاَّ معهم.

وحرّض السلطان على القتال، وبشَّره بالنصر، وجعل يحلف بالله الذي لا إله إلاَّ هو: إنَّكم منصورون عليهم في هذه المرَّة. فيقول له الأمراء: قل إن شاء الله. فيقول: إن شاء الله تحقيقاً لا تعليقاً.

وأفتى الناسَ بالفطر مدّة قتالهم، وأفطر هو أيضاً وكان يدور على الأجناد والأمراء فيأكل من شي معه في يده ليعلِمهم أنَّ إفطارهم ليتقوَّوْا به على القتال أفضل من صيامهم.

ولقد نظَّم المسلمون جيشهم في يوم السبت 2 رمضان أحسن تنظيم، في سهل شقحب الذي يشرف على جبل غباغِب. وكان السلطان الناصر في القلب، ومعه الخليفة المستكفي بالله والقضاة والأمراء. وقبل بدء القتال اتُّخِذَت الاحتياطات اللازمة، فمرّ السلطان ومعه الخليفة والقرَّاء بين صفوف جيشه، يقصد تشجيعهم على القتال وبثِّ روح الحماسة فيهم. وكانوا يقرؤون آيات القرآن التي تحضُّ على الجهاد والاستشهاد وكان الخليفة يقول: دافعوا عن دينكم وعن حريمكم.

ووضِعت الأحمال وراء الصفوف، وأُمر الغلمان بقتل من يحاول الهرب من المعركة. ولمَّا اصطفَّت العساكر والتحم القتال ثبت السلطان ثباتاً عظيماً وأمر بجواده فقُيِّد حتى لا يهرب، وبايع اللهَ تعالى في ذلك الموقف يريد إحدى الحسنيين إما النصر وإما الشهادة في سبيل الله، وصدق الله فصدقه الله. وجرت خطوب عظيمة، وقُتِل جماعة من سادات الأمراء يومئذ، منهم الأمير حسام الدين لاجين الرومي، وثمانية من الأمراء المقدَّمين معه.

واحتدمت المعركة، وحمي الوطيس، واستحرّ القتل، واستطاع المغول في بادئ الأمر أن ينزلوا بالمسلمين خسارة ضخمة فقتِل من قتِل من الأمراء.. ولكن الحال لم يلبث أن تحوّل بفضل الله عزّ وجلّ، وثبت المسلمون أمام المغول، وقتلوا منهم مقتلة عظيمة، وتغيَّر وجه المعركة وأصبحت الغلبة للمسلمين، حتّى أقبل الليل فتوقّف القتال إلاّ قليلاً، وطلع المغول إلى أعلى جبل غباغِب، وبقوا هناك طول الليل، ولما طلع النهار نزلوا يبغون الفرار بعد أن ترك لهم المسلمون ثغرة في الميسرة ليمرّوا منها، وقد تتّبعهم الجنود المسلمون وقتلوا منهم عدداً كبيراً، كما أنهم مرّوا بأرض موحِلة، وهلك كثيرون منهم فيها، وقُبض على بعضهم. قال ابن كثير:

(فلما جاء الليل لجأ التتار إلى اقتحام التلول والجبال والآكام، فأحاط بهم المسلمون يحرسونهم من الهرب ويرمونهم عن قوس واحدة إلى وقت الفجر، فقتلوا منهم ما لا يعلم عدده إلاَّ الله عز وجل، وجعلوا يجيئون بهم من الجبال فتُضرب أعناقهم). ثم لحق المسلمون أثر المنهزمين إلى القريتين يقتلون منهم ويأسرون.

ووصل التتار إلى الفرات وهو في قوة زيادته فلم يقدروا على العبور.. والذي عبر فيه هلك. فساروا على جانبه إلى بغداد، فانقطع أكثرهم على شاطئ الفرات وأخذ العرب منهم جماعة كثيرة.

وفي يوم الاثنين رابع رمضان رجع الناس من الكسوة إلى دمشق فبشَّروا الناس بالنصر، وفيه دخل شيخ الإسلام تقي الدين ابن تيمية البلد ومعه أصحابه من المجاهدين، ففرح الناس به، ودعوا له وهنّؤوه بما يسَّر الله على يديه من الخير.

وفي يوم الثلاثاء خامس رمضان دخل السلطان إلى دمشق وبين يديه الخليفة، وزُيِّنَتِ البلد، وبقِيا في دمشق إلى ثالث شوّال إذ عادا إلى الديار المصرية. وكان فرح السلطان الناصر محمد بن قلاوون والمسلمين بهذه المعركة فرحاً كبيراً، ودخل مصر دخول الظافر المنتصر، يتقدّم موكبَه الأسرى المغول يحملون في أعناقهم رؤوس زملائهم القتلى، واستُقبل استقبال الفاتحين.


--------------------------------------------------------------------------------

[عن كتاب معركة شقحب أو معركة مرج الصُّفَّر للدكتور محمد لطفي الصبّاغ].

رد مع اقتباس
  #16  
قديم 15-04-2005, 11:58 PM
د.فالح العمره د.فالح العمره غير متصل
 
تاريخ التسجيل: Feb 2005
الدولة: في قلوب المحبين
المشاركات: 7,593
معدل تقييم المستوى: 27
د.فالح العمره is on a distinguished road

الصليبيون

(الحملة الصليبية الأولى)

إن الحقد النصراني على الإسلام والمسلمين والذي امتد عدة قرون بسبب الانتصارات على النصرانية وانتزاع أجزاء واسعة من أملاك النصرانية في بلاد الشام وشمالي إفريقية، وقد كان هذا الحقد مع كل انتصار جديد يحققه الإسلام. ولما كانت النصرانية وأبناؤها عاجزة عن القيام بردّ فعل لذا فقد انتظرت حتى تمر موجة الفتوة الإسلامية ولكن زاد انتظارها وطالت مدة هذا المد الإسلامي فعندما بدأ الضعف يظهر على المسلمين أرادت النصرانية أن تقوم برد الفعل السريع وشجعها على ذلك الخوف من عودة القوة المسلمين بعد الانتصارات التي أحرزها السلاجقة عام 463 هـ في معركة ملاذكرت بقيادة ألب أرسلان، والانتصار في معركة الزلاقة في الأندلس عام 479 هـ بقيادة يوسف بن تاشفين، والانتصارات التي تلتها، فخافت النصرانية من عودة الروح من جديد لتدب في العالم الإسلامي الذي توسع باستمرار وتدخل الإسلام مجموعات محاربة جديدة مثل السلاجقة والمرابطين، وخاصة بعد تدفق السلاجقة في آسيا الصغرى.

وشجعها دخول عناصر بربرية محاربة في النصرانية وهي القبائل التي كانت تنتقل في أوروبا وهذا ما أدى إلى ظهور روح حربية جديدة تدعم النصرانية، ومن هذه المجموعات، المجموعةالجرمانية والمجرية، وإن دخول المجر في النصرانية قد جعل الشعوب النصرانية على اتصال بعضها مع بعض من الغرب إلى الشرق في آسيا الصغرى.

وشجعها بعض الانتصارات التي حصلت عليها الإمارات الإيطالية إذ تغلبت علىأمراء البحر المسلمين الذين كانوا يعيقون عمل السفن الإيطالية في البحر الأبيض المتوسط إن لم تستجب لمطالبهم، فكانت هذه الإمارات الإيطالية ترغب في نشر تجارتها في البحر المتوسط، وبانتصارها على البحارة المسلمين زاد في رغبتها بل في محاولة إظهار قوتها ومد نفوذها إذ غدت لها قوة في البحر المتوسط تستطيع أن تستفيد منها في نقل جنودها وتحرك سفنها في هذا البحر، ومن الانتصارات التي شجعتها أيضاً احتلال النورمانديين لجنوب إيطالية وجزيرة صقلية وطرد المسلمين منها عام 484 هـ.

وشجعها الضعف الذي حصل على دولة السلاجقة عقب موت السلطان ملكشاه عام 485 هـ فأحبت النصرانية أن تهتبل هذه الفرصة قبل العودة إلى القوة ثانية، وخاصة أن العبيديين الذي هزِموا أمام السلاجقة وتخلوا عن بيت المقدس عام 471 هـ، ورأوا زيادة قوة السلاجقة خصومهم في العقيدة أيضاً لذا قد استنجدوا ببعض أمراء أوروبا لدعهم ضد السلاجقة.

ولعل أهم الجوانب النصرانية التي دفعت بالموضوع هي النفوذ الذي حصل عليه البابا إيربان الثاني الذي اختير بابا لروما عام 481 هـ إذ أصبح السيد المطاع بين الشعوب النصرانية بل وبين الأمراء وهذا ما يجعله أهلاً لأن يستغل نفوذه لدى النصارى ويدعوهم للحرب الصليبية فدعا إلى اجتماع لرجال الدين عام 489 هـ في كليرمونت بفرنسا ودعا إلى الحرب الصليبية ونادى الأمراء بترك الخلافات القائمة بينهم، وقدّم لهم الصليب، وجعل مبرراً لهذه الحرب ما يقوم به السلاجقة من مضايقة للحجاج النصارى الذين يريدون بيت المقدس، وطلب أن يحتل النصارى بيت المقدس، وساهم بهذه الدعوة بطرس الناسك، وسار بجموع المتطوعين وسبق جيوش الأمراء النصارى النظامية، ولما كان هؤلاء المتطوعون يسيرون بلا نظام فقد سببوا الفوضى والدمار لكل المناطق التي مروا عليها حتى النصرانية منها وحتى شكا منهم إمبراطور القسطنطينية، وعندما وصلوا إلى بلاد المسلمين صبّوا جام غضبهم فأهلكوا الزرع والضرع، وأحرقوا الأخضر واليابس، وعاثوا في الأرض الفساد، وقتلوا ومثّلوا وانتهكوا من الحرمات ما شاء لهم هواهم أن يفعلوا ذلك، وتصدى لهم السلاجقة فالتقوا في نيقية فأفنوهم عن بكرة أبيهم عام 489. وكان إمبراطور القسطنطينية قد أراد أن يتقي شرهم فساعدهم إلى السير إلى آسيا الصغرى والتقدم إلى نيقية.

في هذه الأثناء كانت جيوش الأمراء النظامية تتحرك نحو القسطنطينية وقد أمر البابا أن تجتمع خارج أسوار القسطنطينية، ولم تكن هذه الجيوش أقل حقداً من الأولى وأقل فساداً ودماراً، كما لم يكن لها قائد واحد ينظمها ويصدر أوامره لها جميعاً، وإن كان لهاعدد من القواد أغلبهم من فرنسا، ولم يكن لهؤلاء القادة خطة واحدة، ولم يشترك ملوك أوروبا في هذه الحملة لأن ملوك نصارى الأندلس كانوا مشغولين بقتال المسلمين، ولأن ملك فرنسا فيليب الأول وملك ألمانيا هنري الرابع كانا مطرودين من رحمة الكنيسة. بلغ عدد المشتركين النصارى في هذه الحملة التي عرفت باسم الحملة الصليبية الأولى أكثر من مليون، غير أن عدد المقاتلين لم يزد على ثلاثمائة ألف والباقي إنما هم من المرافقين من الرجال والنساء.

وصلت هذه الحملة الصليبية إلى أبواب القسطنطينية وخاف إمبراطورها منهم فاتفق مع بعض القادة على أن يمدهم بالمؤن والذخيرة على أن لا يدخلوا المدينة وأن يردّوا عليه ما يستولون عليه من أملاكه، فاجتازوا البوسفور، ووصلوا إلى نيقية فحاصروها، ونقل أميرها قليج أرسلان مقره إلى قونية، واتفق مع الإمبراطور أن يدخل جنده نيقية دون القادمين من أوروبا وبهذا غضب الصليبيون لأن الإمبراطور بهذا التصرف لم يسمح لهم بنهب المدينة وبهذا يكون الإمبراطور البيزنطي قد دعم الصليبيين بكل قوته وسار معهم نحو نيقية، وحصل خلاف بين الصليبييين القادمين من أوروبا والبيزنطيين إذ وجد الإمبراطور أنه لا يستطيع التفاهم مع هؤلاء القادمين فانصرف لاسترداد آسيا الصغرى من السلاجقة فاتجه نحو الغرب ودخل إزمير وأفسوس وأخذهما من أمراء السلاجقة فيهما لانقطاعهم عن دولة السلاجقة، ولم يعد يدعم الصليبيين بل حرص أن يضم له ما أخذوه هم، فكان دعمه بقتال المسلمين بجهات ثانية ثم بعد مدة عادة لتقديم الدعم.

اختلف القادة الصليبيون بعضهم مع بعض، فاتجه بعضهم إلى الرها تلبية لدعوة أميرها فدخلها وأسس بها إمارة نصرانية لاتينية وكان يطمع بتأسيس دولة صليبية في أرمينيا وقد دعمه في الأمر الأرمن. وسار باقي القادة إلى أنطاكية فألقوا الحصار عليها ودخلوها عنوة عام 491 هـ بعد حصار دام سبعة أشهر وقتلوا من أهلها أكثر من عشرة آلاف، ومثلوا بالقتلى وبالناس، وفعلوا أبشع الجرائم، وولوا عليها أحدهم وقد استقبل النصارى من أهلها والأرمن الصليبيين بكل ترحاب، ثم اتجهوا بعدها نحو بيت المقدس، فسار لقتالهم "كربوقا" صاحب الموصل، وصاحب دمشق "دقاق"، وصاحب حمص "جناح الدولة" غير أن الصليبيين قد انتصروا عليهم ودخلوا معرة النعمان، ووصلوا إلى بيت المقدس ودخلوها عام 492 هـ فقتلوا من أهلها أكثر من سبعين ألفاً وخاضت خيولهم ببحر من الدماء، وانتخب غودفري ملكاً على بيت المقدس، وأخذ لقب حامي قبر المسيح. وكان العبيديون قد استغلوا تقدم الصليبيين من الشمال فتقدموا هم من الجنوب ودخلوا القدس وطردوا السلاجقة منها (قبل وصول الصليبيين إليها) وجرت مفاوضات بين الأفضل بن بدر الجالي الوزير العبيدي وبين الصليبيين على أن يكون شمال بلاد الشام للصليبيين وجنوبيها للعبيديين ثم نقض الصليبيون العهد عندما شعروا بالنصر.

لقد فقدت هذه الحملة أكثر مقاتليها، فقد جاءت بثلاثمائة ألف مقاتل، ودخلت إلى القدس بأربعين ألف مقاتل فقط، ومهما بالغنا بعدد المقاتلين الصليبيين الذين ساروا إلى الرها فإن عددهم لا يزيد على أربعين ألفاً، وبذا يكون عدد من بقي من الصليبيين الذين جاءوا في الحملة الأولى ما يقرب من ثمانين ألفاً، ويكون قد فقدوا مائتين وعشرين ألفاً، قتِلوا في المعارك، وقتِلوا على أيدي الناس الذين كانوا يثورون على تصرف هؤلاء القادمين، يثورون على كره، ورغم خوفهم الشديد، ورغم معرفتهم بمصيرهم، يثورون لأن تصرّف الصليبيين كان على درجة من السوء والوقاحة والقباحة ما يثير أية نفس مهما بلغ بها الذل والخوف.

وبسيطرة الصليبيين على بيت المقدس ارتفعت معنويات سكان الإمارات الإيطالية فبدأت سفنهم تجوب أطراف البحر المتوسط وتقدم المساعدات والدعم للصليبيين، فاستطاعوا أن يأخذوا حيفا وقيسارية عام 494 هـ، وأخذوا عكا عام 497 هـ، وأخذوا طرابلس عام 503 بعد حصار سنتين، كما أخذوا جبلة في العام نفسه، ثم أخذوا صيدا عام 504. وطلب المسلمون هدنة فرفض ذلك الصليبيون ثم وافقوا مقابل مبالغ كبيرة يدفعها لهم المسلمون، وبعد أن استلموا الأموال غدروا بالمسلمين وذلك عام 504 هـ. وحاصر الصليبيون مدينة صور عام 505، وكانت بيد العبيديين فأمدهم بالمؤن والمساعدات طغتكين صاحب دمشق فامتنعت صور عن الصليبيين.

أما من جهة الداخل فقد جاء الصليبيون من جهة الجنوب فالتقى بهم صاحب دمشق "أمين الدولة" وهزمهم ولاحق فلولهم الذين وصل بعضهم إلى ملاطية وقد استطاع أن يدخلها وأن يتملكها وذلك عام 493.

وهاجم الصليبيون دمشق من جهة الشمال عام 497 ولكنهم هزِموا وأسِر أمير الرها الصليبي، غير أنهم استطاعوا في العام نفسه أن يدخلوا حصن أفاميا.

لقد دعم العبيديون الصليبيين في أول أمر، ووجدوا فيهم حلفاء طبيعيين ضد السلاجقة خصومهم، وقد ذكرنا أنهم اتفقوا معهم على أن يحكم الصليبيون شمالي بلاد الشام ويحكم العبيديون جنوبيها، وقد دخلوا بيت المقدس، غير أن الصليبيين عندما أحسوا بشيء من النصر تابعوا تقدمهم واصطدموا بالعبيديين وبدأت الخلافات بينهم، فالعبيديون قد قاتلوا الصليبيين دفاعاً عن مناطقهم وخوفاً على أنفسهم ولم يقاتلوا دفاعاً عن الإسلام وحماية لأبنائه، ولو استمر الصليبيون في اتفاقهم مع العبيديين لكان من الممكن أن يتقاسموا وإياهم ديار الإسلام.

لقد استقبل سكان البلاد من النصارى والأرمن الصليبيين استقبالاً حاراً ورحبوا بهم ترحيباً كبيراً، وقد ظهر هذا في أثناء دخولهم أنطاكية وبيت المقدس، كما قد دعموهم في أثناء وجودهم أيام وجودهم في البلاد وقدّموا لهم كل المساعدات، وقاتلوا المسلمين، وكانوا عيوناً عليهم للصليبيين.

وتشكلت أربع إمارات صليبية في بلاد الشام وهي:

إمارة في الرها – إمارة في طرابلس – إمارة بيت المقدس – إمارة أنطاكية.

لم يجد الصليبيون الأمن والاستقرار في بلاد الشام في المناطق التي سيطروا عليها وشكلوا فيها إمارات رغم انتصارهم، إذ كان السكان المسلمون ينالون منهم كلما سنحت لهم الفرصة، كما يغير عليهم الحكام المسلمون في سبيل إخراجهم من البلاد، ودفاعاً عن عقائدهم ومقدساتهم التي كان الصليبيون ينتهكونها.


--------------------------------------------------------------------------------

المصدر: التاريخ الإسلام، محمود شاكر، جزء 6، ص 252-257

رد مع اقتباس
  #17  
قديم 16-04-2005, 12:15 AM
د.فالح العمره د.فالح العمره غير متصل
 
تاريخ التسجيل: Feb 2005
الدولة: في قلوب المحبين
المشاركات: 7,593
معدل تقييم المستوى: 27
د.فالح العمره is on a distinguished road

واقع التجزئة العربية وانعكاساته

على فهرسة التراث العربي والإسلامي *



د. محمود السيد الدغيم

باحث أكاديمي سوري مقيم في لندن

كلية الدراسات الشرقية والإفريقية

Soas


--------------------------------------------------------------------------------

إن التراث دليل عراقة الأمة في الماضي، ومنارة لشحذ الهمم المعاصرة في الحاضر، ولذلك نجد الأمم الهجينة تحاول أن تختلق لنفسها تراثاً تباهي به الأمم العريقة، ولو كان ملفَّقاً، ولكن الأمم المعاصرة المريضة التي تمتلك تراثاً عريقا تتكاسل عن الاهتمام به، ولا سيما إن كان زاهياًّ وهي تعاني من الخمول غير المحدود، ولعل انعكاسات مرض التجزئة العربية المتضافرة مع الأمية غير المحدودة هي التي وضعت أُسسَ إهمال التراث الإسلامي والعربي من قِبل أصحاب هذا التراث، وساهمت الأنظمة الحاكمة بتكريس هذا الإهمال جراء عدم رصد ما يلزم من مبالغ مالية بينما تصرف أضعاف أضعافها على المشعوذين والأفاقين والمنافقين، وعتاولة الانحلال والضلال.

هنالك سؤال يتكرر في جميع الدول العربية من خلال وسائل الإعلام المتنوعة، والجميع يقولون: لماذا تأخر العرب، وتقدم الآخرون؟

وتتنوع الأجوبة، ومعظمها يعلِّق التخلُّف على شَمَّاعة المؤامرات الخارجية، ويتجاهل التآمر الداخلي الذي يُشخِّصه المثل الشعبي الذي يقول: "دود الخلّ منه وفيه. أو: دود الجبن منه وفيه" والدليل هو ذلك الإهمال المقصود الذي نتجت عنه كوارث تراثية تتراوح بين إتلاف التراث في البلدان العربية داخل حدود الوطن، وبين سرقته وتهريبه وبيعه للآخرين حتى أصبحت هجرة التراث وتهجيره أشبه ما تكون بهجرة العلماء وتهجيرهم، ومازالت مسيرات الإهمال مستمرة مع استمرار الإهمال السياسي للتراث بدعوى الأخذ بأسباب المعاصرة للحاق بالأمم والأقوام التي سبقت الأمتين العربية والإسلامية خلال القرن الماضي، وبداية القرن الحاضر.

إن الذين يدَّعون العمل لمواكبة روح العصر يجهلون كيفية رُقيّ الأمم التي تقود العالم المعاصر، فالأمم المتقدّمة لم تهمل تراثها بل اهتمت به وسطت على تراثنا، فاختلسته منا، وحفظته وصانته لأنها تعلم قيمته، أما نحن الجهلة فنلهث وراءهم، ونتخلى عن قناديلنا المنيرة التي استنار بها العالم في غفلة منا. فمما لاشك فيه أن تراث الأمة هو: جذورها، وأساس رُقيّها، وفيه مقوّمات شخصيتها، وإحياؤه: حياتها، وإهماله: موتها وتخلفها، واحترامه: يجسّد احترام الأمة لذاتها، واحتقاره: أهم أسباب انحطاطها وعجزها عن الإبداع، فمَن لا ماضي ليس له حاضر ولا مستقبل.

إن تراث العرب والمسلمين يشكّل وحدةً لا تتجزأ، والذين يحاولون الفصل بين التراثين يسعون عن قصدٍ أو عن غير قصد إلى تدمير العرب والمسلمين جرّاء التجزئة والفصل بينهما، فالعروبة مِن غير إسلام هي جسد بلا روح، والعرب هم مادة الإسلام الأساسية إنْ صلحوا أصلحوا، وإن فسدوا فإن فسادهم يمتدّ إلى العالم الإسلامي ظاهرا وباطناً، ولو أن العرب تيقظوا لأهمية التراث لسرت العدوى الحميدة إلى بقية الشعوب الإسلامية، ولكن واقع الحال ينبئ عن غيبوبة طال أمدُها، وامتدَّ خطرها، وما نلاحظه من يقظة محدودة، ونهضة مختزلة إنما يصدر عن جهود فردية غير كافية، وصُدف لا تلبي ما يحتاجه العرب والمسلمون لأن الصُّدف ينقصها التخطيط، والأعمال الفردية آنية غير مستمرة، وليست لها صفة الديمومة الضرورية لتحقيق النهوض الحضاري.

فهرسة التراث

لقد اهتم القدماء بفهرسة التراث، وتصنيفه حسب العلوم، وحسب المؤلفين، ومازالت مدارس الفهرسة تعتمد لوائح عناوين الكتب، ومواضيعها، وأسماء مؤلفيها، وقد تباينت طرق الفهرسة وتطورت كثيرا مع الثورة الإليكترونية، وتيسرت طُرق البحث من خلال قواعد المعلومات والبيانات، ولكن فهرسة التراث العربي والإسلامي العامّة الشاملة مازالت خارج إطار الاهتمام المطلوب، ومازالت الجهود العربية ضمن إطار التقصير والقصور عن اقتفاء آثار الأعاجم الذين فهرسوا تراثنا، واقتصرت جميع الجهود العربية على ترجمة جزئية لبعض الأعمال الأجنبية الرائدة.

فهرسة التراث المخطوط والمطبوع

تتوزع فهارس التراث المخطوط بين نوعين أساسيين من الفهارس، فهنالك الفهارس المخطوطة والفهارس المطبوعة، ويتنوع كل نوع منها حسب طريقة المفهرس، فمنها ما هو بدائي يشبه البطاقات، ومنها ما هو متطور يقدم وصفاً للمخطوط ويحدد مكانه، ولكن المخطوطات المذكورة في الفهارس القديمة قد ضاع بعضها وتلف البعض الآخر، وبقيت بعض محتوياتها في الكتب التي اقتبست منها، ووصلت إلى زماننا الحاضر.

لقد خلف لنا القدماء أعمالا رائدة في مجال الفهرسة منها كتاب الفهرست لابن النديم الذي مات سنة 385 هـ/995 م، وضمّن كتابه معلومات غزيرة لكتب الدِّين والتاريخ والأدب والفلسفة وسواها، وترك في كتابه نقصاً، فأكمله الوزير المغربي المتوفى سنة 418 هـ/ 1027م، وقد قُسِّمت العلوم في الفهرست إلى عشرة فروع، استوعبت محصلة الثقافة الإسلامية حينذاك، وأحصى الفهرست 8360 كتاباً لـ 2238 مؤلفاً، منهم 22 إمرأة و 65 مترجماً.

وطُبع الفهرست أول مرة في ليبسك سنة 1872م بعناية المستشرق الألماني فلوجل، ويقال: إن ديوي اعتمد عليه في إصداره التصنيف العشري سنة 1876م، وذلك بعد طباعة الفهرست بأربع سنوات. وتكررت طباعة الفهرست في العديد من الدول، وترجمه إلى اللغة الإنجليزية عميد الكلية الأمريكية ببيروت د. بايارد دودج، وطبع في كولومبيا 1970م.

وتضمنت كتب الطبقات معلومات عن مؤلفات الذين ترجمت لهم، وتضمَّنت كتب الوفيات أسماء مؤلفات الذين ترجمت لهم.

كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون

وأشمل المصادر التراثية التي وصلتنا هو كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون لمؤلفه العثماني التركي مصطفى بن عبد الله، المعروف عند الأتراك بكاتب جلبي، وعند العرب بحاجي خليفة، الذي بدأ تأليفه في حلب الشهباء سنة 1042هـ/ 1632م، وأتمّ تأليفه سنة 1062هـ/ 1652م، وبيضه بخطه حتى مادة: الدروس، ثم اجتمع ستة رجال فأتموا تبييضه، فشمل الكتاب أسماء 15000 كتاب، وأسماء نحو 9500 مُؤلِّف، وبلغ عدد علومه وفنونه 300 علم وفن.

وحظي كشف الظنون باهتمام العلماء وعشاق الكتب قديما وحديثاً، فاختصره وزاد عليه السيد الحسين العباسي النبهاني الحلبي تـ 1095هـ/ 1684م، وسماه: التذكار الجامع للآثار، ووضعت عليه ذيول كتب أحدها محمد عزتي أفندي بوشنه زاده تـ 1092هـ/ 1681م. وثانيها إبراهيم الرومي العربجي تـ 1189هـ/ 1775م، وثالثها حنيف زاده تـ 1217هـ/ 1802م الذي ضمن ذيله 5000 كتاب، وقد ألحق فلوجل هذا الذيل بالمجلد السادس من طبعته العربية التي أصدرها في ليبسيك مع ترجمة باللاتينية، ما بين سنة 1251 هـ/ 1835م وسنة 1275هـ/ 1858م.

وأعدّ الذيل الرابع شيخ الإسلام عارف حكمت صاحب المكتبة المشهورة في المدينة المنورة تـ 1275هـ/ 1858م ووصل فيه إلى حرف الجيم، والخامس إسماعيل باشا البغدادي تـ1339هـ/ 1921م، وسمى ذيله: إيضاح المكنون، وضمّنه 19000 كتاب، وهذا الذيل طبع في مجلدين مع كشف الظنون، وللبغدادي كتاب في تراجم المؤلفين هو: هدية العارفين، الذي طبع مع كشف الظنون أيضاً في طبعة جامعة إسطنبول سنة 1941م، ولم تتوقف مسيرة التذييل على كشف الظنون حيث ذيل عليه كلّ من إسماعيل صائب سنجر، وجميل العظم، ومحمد الصادق النيفر، ومحمد بن مصطفى البكري، وعلي خيري، ومحمد الخانجي البوسنوي، وذيله مخطوط في كتبة الغازي خسرو بك في سراييفو عاصمة البوسنة والهرسك.

فهارس السلطان عبد الحميد

بويع الخليفة العثماني عبد الحميد الثاني في 11 شعبان سنة 1293هـ / 31 آب/ أغسطس 1876م، وأدرك أهمية فهرسة المخطوطات، فأصدر أمراً سلطانياًّ (فرمان) يقضي بفهرسة المخطوطات الوقفية في مكتبات السلطنة وجوامعها، وقد طبقت التعليمات السلطانية في إسطنبول، وكتبت فهارس لأكثر من مئة مكتبة تراثية، ومازالت نسخ كثيرة محفوظة من تلك الفهارس التي اعتمدت تثبيت أرقام المخطوطات، وأسماءها، وأسماء المؤلفين، وملاحظات حول وفيات المؤلفين، وتاريخ النسخ.

وقد استفاد من تلك الفهارس جميع الذين كتبوا عن المخطوطات الإسلامية، وأماكن وجودها وأرقامها، وبعدما جُمِعت محتويات أكثر من مئة مكتبة في المكتبة السليمانية في إسطنبول تمَّ اعتماد تلك الفهارس للفرز بين محتويات مكتبة وأخرى، وقد استفاد كارل بروكلمان من تلك الفهارس، ولكن محتويات تلك الفهارس قد تعرضت للتلف والسرقة حينما وقعت إسطنبول تحت الاحتلال الأوروبي في أواخر الحرب العالمية الأولى، وتلت ذلك مرحلة إلغاء السلطنة والخلافة وقيام النظام الجمهوري الذي ألغى استعمال الحروف العربية العثمانية سنة 1928م مما انعكس سلباً على المخطوطات بشكل عام، ثم عاد إليها منذ منتصف القرن العشرين.

دراسة المستشرق كارل بروكلمان الموسوعية

أدرك المستشرق الألماني كارل بروكلمان أهمية التراث الإسلامي ومخطوطاته، فكتب تاريخ الأدب العربي، وذكر فيه ما يقرب من عشرين ألف مخطوطة مع ذكر أماكن وجودها وأرقامها، وصدر من كتابه مجلدان ما بين سنة 1898 وسنة 1902 م، ثم صدر ذيل كتاب بروكلمان في ثلاثة مجلدات ما بين سنة 1927 وسنة 1942 م، ثم أعيدت طباعة المجلدين الأصليين ما بين سنة 1943م وسنة 1949م، فكان عدد صفحات المجلد الأول: 676 صفحة، والثاني: 686 صفحة، والمجلد الأول من الذيل: 973 صفحة، والثاني من الذيل: 1045 صفحة، والثالث من الذيل: 1326 صفحة، وفيه قسم من الذيل مع الفهارس العامة، وبذلك يبلغ عدد صفحات الكتاب: 4706 صفحات.

ترجمات كتاب بروكلمان العربية

اتسمت الهمم العربية بالخمول فيما يخصّ الاهتمام بالتراث العربي والإسلامي، ويعتبر كتاب تاريخ الأدب العربي لكارل بروكلمان من الكتب التي حظيت بالاهتمام أكثر من غيرها، ولكن هذا الاهتمام تحت المستوى المطلوب، ومسيرة الاهتمام طويلة ومستمرة، ولكنها غير تامة.

اهتمَّ بترجمة القسم الأول من الكتاب عبد الحليم النجار، وصدر الجزء الأول عن دار المعارف بمصر سنة 1959م بالتعاون مع المنظمة العربية للثقافة والعلوم - جامعة الدول العربية، واقتصرت تلك الترجمة على إصدار ستة أجزاء من مواد المجلد الأول من كتاب بروكلمان، ثم نام المشروع نوم أهل الكهف.

واهتمّ بفهرسة تلك الترجمة المبتسرة معهد التراث العلمي العربي بجامعة حلب، فأصدر فهارس تلك الطبعة التي أعدّتها درية الخطيب فصدر الجزء الأول سنة 1403 هـ/ 1983م، والثاني 1984، والثالث سنة 1985، والرابع سنة 1988م، وصدر الجزء الخامس سنة 1411 هـ/ 1991م، وذلك بعدما كتبته صاحبته سنة 1986م، إلخ..

ثم عادت الروح إلى استكمال ترجمة ونشر تاريخ الأدب العربي لبروكلمان، وتعاونت هيئة الكتاب بالقاهرة مع المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، فترجم ربع المجلدين الأصليين ما بين سنة 1959م وسنة 1988، وصدر القسم الثاني من الكتاب بالعربية سنة 1993م، وضم الجزئين الثالث والرابع المترجمين سابقاً، وأشرف على الترجمة الدكتور محمود فهمي حجازي، وضم القسم الثالث الجزئين السابقين الخامس والسادس، وصدر القسم الرابع الذي يتكون من الجزء السابع والثامن، والقسم الخامس الذي يتكون من الجزء التاسع، وبذلك يكون قد انتهى المجلد الأول من كتاب تاريخ الأدب العربي لبروكلمان، وذلك سنة 1993م، واستمر العمل به 34 سنة، وذلك بعد صدور الطبعة الألمانية بمدة خمس وتسعين سنة شمسية.

وأصدرت هيئة الكتاب في القاهرة من محتويات المجلد الثاني من تاريخ بروكلمان القسم السادس الذي يتكون من الجزء العاشر والحادي عشر، والقسم السابع، ويتضمن الجزء 12، ومواده منذ سقوط بغداد سنة 656 هـ/ 1258م حتى الفتح العثماني لمصر سنة 1517م، والقسم الثامن الذي يتكون من الجزء 12 والجزء 13، ويتضمن منذ الفتح العثماني لمصر حتى احتلال الحملة الفرنسية سنة 1798م، والقسم التاسع الذي يتكون من الجزء 13، والجزء 14، ويضم منجزات العهد العثماني في شمال الجزيرة العربية، واليمن وعُمان، وشرقي إفريقيا والحبشة، وإيران وطوران والهند والملايو، وبلاد الروم والأناضول، والمغرب وبلاد السودان، وبذلك تتم ترجمة المجلدين الأصليين من تاريخ الأدب العربي لكارل بروكلمان.

هذه الترجمة تعني أن ما ترجمه العرب من تاريخ الأدب العربي لبروكلمان هو 1362 صفحة، وبقيت من الكتاب 3344 صفحة دون ترجمة من أصل 4706 صفحات، ونأمل أن تُترجم في ظل عدم وجود تخطيط سليم لإصدار موسوعة تاريخ الأدب العربي اعتماداً على آخر المعلومات حول ما بقي من المخطوطات مع ذكر أسماء الكتب والمؤلفين بشكل سليم بعيداً عن الأخطاء الناتجة عن الترجمة من العربية إلى الألمانية ثم إلى العربية.

تاريخ التراث العربي لسزكين

انتبه الدكتور فؤاد سزكين إلى الكثير من المعلومات التي فاتت بروكلمان، ولذلك ألف تاريخ التراث الإسلامي، وضمن كتابه المعلومات التي وردت عند بروكلمان مع تعديلات واستدراكات وتمحيص جراء مستجدات فهرسة التراث المخطوط، ولاسيما في تركيا، ولكنه قَصَرَ كتابه على المخطوطات التي أُلِّفَتْ قبل سنة 430 هـ/ 1039م.

وصدر المجلد الأول من تاريخ التراث الإسلامي لسزكين عن مطبعة بريل في لايدن سنة 1967م، وتوالى صدور مجلدات الكتاب 2،3، 4، 5، 6، 7، 8، عن مطبعة بريل حتى صدر المجلد التاسع سنة 1984م، ثم صدر مجلد الفهارس عن جامعة فرانكفورت الألمانية سنة 1995م، ثم صدر عن جامعة فرانكفورت المجلد العاشر والمجلد الحادي عشر سنة 2000م، وتضمن المجلدان تاريخ التراث الإسلامي في الرياضيات والفلك والجغرافيا، وصدر المجلد الثاني عشر بحجمه الموسوعي، وورقه المصقول الذي يتضمن مجموعة نادرة من الخرائط الملونة تثبت أن المسلمين هم أساتذة العالم في الجغرافيا ورسم الخرائط.

ترجمة تاريخ التراث الإسلامي

بدأ ترجمة تاريخ التراث الإسلامي لسزكين الدكتور محمود فهمي حجازي، وصدر من ترجمته مجلدان في القاهرة سنة 1974 - 1975م، ثم نام المشروع حتى سنة 1403 هـ/ 1983م، فصدرت طبعة لترجمة الدكتور محمود فهمي حجازي عن جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية في المملكة العربية السعودية، واقتصرت تلك الترجمة على محتويات المجلدين الأولين من كتاب سزكين، فقد صدرت محتويات المجلد الأول في الأجزاء 1/1 و 1/2 و 1/3 و 1/4 ، وشملت علوم القرآن الكريم، والتدوين التاريخي، والفقه، والعقائد والتصوف. وصدرت محتويات المجلد الثاني في الأجزاء 2/1 و 2/2 ,2/3 و 2/4 و 2/5 ،وشملت الشعر مع مقدمات ودراسات، والشعر في العصر الجاهلي، والشعر في صدر الإسلام، والشعر في العصر العباسي في الشام والعراق والحجاز ومصر والشام والأندلس. ونشر مع هذه الترجمة جزءاً ثالثا حول مجموعات المخطوطات العربية في مكتبات العالم.

يقع المجلدان الأول والثاني من تاريخ سزكين في 1804 صفحات، وقد تمت ترجمتهما إلى اللغة العربية، وبما أن مجموع صفحات الكتاب باللغة الألمانية هو 7334 صفحة، وقد ترجم منها 1804 صفحات، فهذا يعني أنه بقيت 5530 صفحة من الكتاب لم تتمّ ترجمتها إلى اللغة العربية، وهذه نتائج مخيبة للآمال، ومن المحزن أن ما يتوفر من معلومات عن التراث الإسلامي للباحثين الألمان بلغتهم لا يتوفر للباحثين العرب باللغة العربية رغم أنها اللغة الأم للمخطوطات العربية والإسلامية التي تشكل المادة الأساسية لمؤلفات التراث باللغات الأجنبية.


--------------------------------------------------------------------------------

* نشر هذا المقال في في جريدة الحياة، العدد: 15285 صفحة التراث: 15، يوم السبت 5 / 2/ 2005م.

رد مع اقتباس
  #18  
قديم 16-04-2005, 12:16 AM
د.فالح العمره د.فالح العمره غير متصل
 
تاريخ التسجيل: Feb 2005
الدولة: في قلوب المحبين
المشاركات: 7,593
معدل تقييم المستوى: 27
د.فالح العمره is on a distinguished road

الحصار الاقتصادي الأوروبي لمصر

الوجه الآخر للحروب الصليبية

بقلم: فاطمة حافظ[1]


--------------------------------------------------------------------------------

مثلت الحروب الصليبية ذروة الصراع الدامي بين الغرب المسيحي والشرق المسلم في العصور الوسطى ، وعلى الرغم من قسوة الحرب واستمرارها قرابة قرنين من الزمان إلا أنها لم تنجح في حسم الصراع لصالح الغرب الذي حاول استخدام كل أنواع الضغط على الدولة الإسلامية ومن بينها فرض حصار اقتصادي عليها بغية إنهاء الصراع لصالحه .

ومع بدايات الحرب أعلنت الباباوية عن تطبيقها حصاراً اقتصادياً على الدولة الإسلامية في مصر والشام لتكون عاملاً مساعداً في الحرب ، وبمرور الوقت تحول هذا الحصار وما استتبعه من فرض مقاطعة شاملة للدولة الإسلامية وكل من يتعامل معها تجارياً ليصبح الملمح الأبرز للحروب الصليبية وذلك بعد انقضاء العمليات العسكرية باقتلاع الصليبيين من جيوبهم الإستيطانية في الشام أواخر القرن الثالث عشر . وكان من المفهوم أن الغرب يستهدف من وراء حصاره أن ينقل ساحة المواجهة من الميدان العسكري إلى الميدان الاقتصادي ليحقق عن طريق الإقتصاد ما لم يستطع تحقيقه عن طريق الحرب العسكرية.

وينبغي الإشارة إلى أن المراسيم الباباوية بإيقاف التعامل مع مصر وفرض الحظر التجاري عليها قد تعددت خلال فترة الحروب الصليبية ، وذلك نظراً للخروقات الكثيرة التي تعرضت لها هذه المراسيم من جانب التجار الأوروبيين ، وكان الحديث يتجدد في الغرب عن ضروريات فرض الحصار والتشدد في تطبيقه مع كل هزيمة تلحق بالصليببين في الشام ، مما يحملنا على الإعتقاد أن الحصار الاقتصادي أصبح ورقة الضغط الوحيدة أمام الباباوية والغرب ككل لمعاقبة مصر على حربها ضد الصليبيين .

خلفية تاريخية

قبل الشروع في استعراض المحطات الأساسية للحصار الأوروبي علينا أن نوضح أولاً الدور الذي مثلته التجارة بالنسبة للدولتي الأيوبية ثم المملوكية – وهما الدولتان اللتان تعاقبتا على حكم مصر والشام إبان هذه الفترة - فالمعروف أن الأهمية التجارية لمصر قد ازدادت بشكل ملحوظ نتيجة حركة توسع المغول التي نتج عنها توقف طرق التجارة العالمية بين الشرق والغرب والتي كانت تمر بالخليج العربي أو البحر الأسود ثم فارس ولم يعد آمناً من هذه الطرق سوى طريق البحر الأحمر ومصر وهو ما جنى منه سلاطين مصر الربح الوفير ومكنهم من توفير الإعتمادات المالية الكفيلة بتمويل حربهم ضد الصليبيين ، وقد نتج عن ذلك أن تحكمت مصر بطريق التجارة العالمي ، باعتبارها البوابة التي تمر من خلالها البضائع الشرقية إلى الغرب كما تمر بها أيضا البضائع الغربية للشرق .

وكان التبادل التجاري بين الشرق والغرب قد شهد زيادة ملحوظة خلال هذه الفترة على عكس المتوقع ؛ فقد أسهمت إقامة الصليبيين في الشام في التعرف عن قرب على السلع الشرقية المميزة - وبخاصة التوابل - وتطلع أبناء الغرب الأوروبي للحصول على هذه السلع ولعل هذا يفسر لنا مشاركة المدن التجارية الغربية مثل جنوة وبيزا والبندقية في الحرب ، وقد حقق أبناء هذه المدن مكاسب طائلة نظير قيامهم بالتوسط بين الشرق والغرب كما قاموا بعقد الكثير من الصفقات التجارية الرابحة مع التجار الشرقيين .

الباباوية والقرصنة باسم الدين

غداة قيام الحروب الصليبية سارعت الباباوية بإعلانها عن مقاطعة تجارية شاملة لمصر وكل من يتعامل تجارياً معها ، ونجحت في إقناع المدن التجارية الإيطالية الشريك التجاري الرئيسي لمصر بتطبيق هذه المقاطعة ، غير أن هذه المدن تضررت تضرراً اقتصادياً واضحاً من جراء ذلك وهو ما دفعها للضرب بتعليمات الباباوية عرض الحائط وإعادة إرسال السفن الإيطالية إلى الموانئ المصرية ، وجدير بالذكر أن سلاطين مصر بصفة عامة قد تسامحوا مع التجار الأوروبيين ، وعلى سبيل المثال أبدى صلاح الدين الأيوبي "سلطان مصر" سعة صدر في التعامل معهم ، وبرغم استمرار الحرب وتجريد الصليبيين الحملات العسكرية في الشام إلا أنه لم يشأ معاقبتهم لاشتراك مدنهم في القتال لجانب الصليبيين ، بل على العكس أظهر قدراً غير قليل من الترحاب بهم وبسفنهم في الموانئ المصرية ، الأمر الذي شجعهم على تحدي قرارات الباباوية الخاصة بمقاطعة مصر ، وإعادة العلاقات التجارية إلى سابق عهدها وتوقيع عدة معاهدات تجارية بين الطرفين .

عادت الباباوية وجددت الإعلان عن فرض حظر اقتصادي شامل على مصر وتشددت في تطبيقه بسبب النجاحات العسكرية المتوالية التي حققتها الدولة المملوكية في مصر ضد الصليبيين والتي انتهت بتصفية آخر الجيوب الإستيطانية الصليبية في الشام بإسقاط عكا عام 1291 ميلادية ، وعلى الفور أصدر البابا نيقولا الرابع مرسوماً حرم فيه على العالم المسيحي التجارة مع مصر مع توقيع قرار الحرمان الكنسي على كل من يخالف هذا القرار فضلاً عن مصادرة جميع أمواله وممتلكاته ، والمعلوم أن القرار كان موجهاً بالأساس ضد التجار الأوروبيين المتعاملين مع الدولة المملوكية والذين أمدوها ببعض المواد الحربية الأساسية مثل الحديد والأخشاب والقار والكبريت . ويبدو أن هذه القرارات لم تردع التجار وتحملهم على إيقاف تعاملهم مع مصر ، الأمر الذي ألجأ البابا إلى إتخاذ أسلوب أكثر حزماً فأمر بتجهيز عشر سفن حربية تجول في البحر المتوسط وآسيا الصغرى ومصر ، وهي التي صارت تعرف باسم "فرسان القديس يوحنا" وقد ازداد عددها حتى وصلت إلى خمس وثلاثون سفينة في نهاية فترة الحظر ، وقد قامت هذه السفن بمهمة إرهاب السفن المسيحية التي تخرق الحظر التجاري على مصر ، وكذلك مهاجمة السفن المسلمة التي تجوب البحر المتوسط وسرقة ونهب محتوياتها ، وقد اتسع نشاط هذه السفن مع نهايات الحروب الصليبية وتكررت اعتداءاتها على الموانئ المصرية وبخاصة مينائي الإسكندرية ودمياط ، وكانت تقوم بالسطو على السفن الراسية فيهما واقتيادها في بعض الأحيان إلى قبرص مقر قوات "فرسان القديس يوحنا".

ولاشك أن موقف الباباوية المتشدد تجاه التعامل التجاري مع مصر بحاجة إلى بعض التوضيح فالمعروف أن إخفاق الصليبيين في تكوين بؤر إستيطانية تستوطن فلسطين ، والفشل في هزيمة المماليك عسكرياً قد جعل الباباوية تؤمن بأن النجاح الذي تؤمله لن يتحقق بالحرب وإنما يتحقق عن طريق تطويق مصر اقتصادياً في البحر المتوسط ، وقد أفصحت الباباوية عن خطتها في رسالة تحت عنوان "أسرار حماة الصليب" وهي الرسالة التي أعدها أحد الفرسان الصليبيين وتبناها البابا ونشرت على العالم المسيحي عام 1321 ميلادية ، وقد جاء بها أن الحملة الصليبية الناجحة لابد وأن تمر بثلاث مراحل: أولها إضعاف قوة مصر الاقتصادية عن طريق فرض حصار بحري كامل لمدة ثلاث سنوات ، وثانيها مرحلة إرسال الحملة العامة ، وثالثها مرحلة الصمود في الأرض المفتوحة والاحتفاظ بالأرض المقدسة في أيدي الصليبيين.

وكما أن الحرب التي أعلنت على الإسلام واتخذت من الصليب شعاراً لها بعيدة كل البعد أن تكون ذات منطلق ديني فكذلك القرارات الباباوية المتعلقة بالحظر الاقتصادي وفرض المقاطعة على الدولة الإسلامية في مصر ، فقد أراد بعض الباباوات من وراء إصدار هذه القرارات أن يحصلوا على بعض المكاسب المادية ، إذ أن المدن الإيطالية والتجار الأوروبيين في سبيل رفع الحصار التجاري عن مصر ، والذي عصف باقتصادياتهم وكبدهم خسائر فادحة اضطروا للجوء إلى دفع الأموال للباباوية نظير الحصول على بعض التراخيص التي تجيز لهم التعامل مع مصر . وكانت مدينة البندقية الإيطالية قد دفعت أموالاً طائلة نظير الحصول على هذه التراخيص ، وذلك بعد أن تقدمت بعدة شكاوي توضح فيها أنها قد تضررت أبلغ الضرر من جراء فرض الحصار على مصر ، وأن لها الحق في أن تحمل إلى مصر البضائع التي لا تدعم قوة المماليك الحربية غير أن الباباوية تمسكت بموقفها في حظر كافة أشكال التعامل حتى وإن كانت السلع المراد تصديرها لا تخدم قوة المماليك العسكرية ، وقد ظلت الباباوية تتشدد في هذه المقاطعة والحظر ما يربو على العشرين عاماً «1323 -1344م» ولم يحملها على تغيير موقفها إلا ما بذلته البندقية من أموال طائلة – وبعبارة أدق رشاوٍ- فقامت بإصدار بعض التراخيص التي تجيز التعامل التجاري مع مصر ، مع استمرار حظر تصدير المواد التي يمكن أن تدعم قوتها العسكرية.

التحالف ضد مصر

إذا كانت المدن الإيطالية قد تعارضت مصالحها مع الباباوية فإن الأخيرة لم تعدم وجود مؤيدين لسياستها من الدول المسيحية فقد دخلت في تحالف طويل الأمد مع مملكة قبرص المسيحية والتي كانت خاضعة آنذاك لأسرة آل لوزجنان والتي جمعت لفترة من الوقت بين تاجي قبرص وإمارة بيت المقدس الصليبية في عكا ، وهو الأمر الذي جعلها تضطلع بدور هام في محاولة تأديب الدولة المملوكية وخنق اقتصادها. وكان بطرس الأول ملك قبرص قد دعا الدول الأوروبية في عام 1365 ميلادية للمشاركة في تجريد حملة صليبية إلى الإسكندرية بقصد الإستيلاء على المدينة وتهديد طريق التجارة العالمي الذي يمر بها ، وقد فطن النويري- أحد مؤرخي ذلك العصر- إلى هذا البعد الاقتصادي الكامن وراء هذه الحملة حين ذكر أن غايتها قطع الطريق على المراكب الآتية إلى الإسكندرية على الرغم من تسترها بستار الصليب ، وقد بارك هذه الحملة البابا أوربان الثاني الذي قام بجمع أموال الأديرة والكنائس للاستعانة بها في تجهيزها ووعد القساوسة بأنه سيردها لهم من غنيمته لأموال المسلمين. وما إن وصلت الحملة إلى الإسكندرية حتى قامت بنهب محتويات السفن الراسية في البحر ، ولم تكتف بهذا بل هاجمت منازل الأهالي والتجار وقامت بنهب محتوياتها هي الأخرى بعد أن أشاعت الروع في قلوب المصريين.

وهكذا نهضت قبرص بالعبء الأكبر في الحملة الاقتصادية الموجهة ضد المماليك وشن ملوكها حرباً شعواء ضد التجار الأوروبيين الذين ظلوا يتاجرون مع مصر، كما مارس القبارصة أعمال القرصنة في البحر المتوسط وقطعوا الطرق على المراكب الآتية إلى دمياط والاسكندرية ، واستطاعوا تجنيد عدد من التجار الأوروبيين المتعاملين مع مصر، وذلك بقصد الحصول على معلومات عن التحصينات بالسواحل والموانئ المصرية، ومواعيد وصول سفن التجار المسلمين. وقد دفعت تلك الأعمال العدائية المتكررة الدولة المملوكية إلى محاولة غزو قبرص ونجحت في الاستيلاء عليها عام 1426 ميلادية.

مشروعات استعمارية لتحويل مجرى النيل

لاشك أن خروج قبرص من حلبة الصراع قد أضعف كثيراً من إمكانيات نجاح الحظر الاقتصادي عبر البحر المتوسط شمالاً ، لذا حاول الصليبيون أن يمدوا الحصار إلى البحر الأحمر في الجنوب حتى تكتمل محاولات تطويق مصر اقتصادياً، ولم تجد الباباوية أفضل من مملكة الحبشة المسيحية لتؤازرها في مخططاتها لذلك أرسل البابا عدة رهبان ومبشرين إلى الحبشة من أجل إقناع ملكها بفرض حصار اقتصادي على مصر من الجنوب، وقد نجح رسل البابا في إقناع ملك الحبشة بالانضمام إلى الشركاء الأوروبيين الذين يفرضون حصاراً حول مصر ، كما اقترحوا أن تقوم الحبشة باستغلال موقعها المتحكم في منابع النيل وتعمل على تحويل مجرى نهر النيل، إلا أن الاقتراح لم يلق قبولاً من الحبشيين خشية رد الفعل المصري.

وقد ظلت فكرة تحويل منابع مجرى نهر النيل تراود عقول الدعاة الصليبيين فقد أرسل ملك أراجون – والتي توحدت مع قشتالة فيما بعد وصارت تعرف باسم مملكة إسبانيا – إلى ملك الحبشة عام 1450 ميلادية يطلب منه العمل على تحويل مجرى النيل ومهاجمة مصر من الجنوب. كما لاقت الفكرة قبولاً من البرتغاليين الذين كانوا قد شرعوا في الالتفاف حول أفريقيا في محاولة لاكتشاف طريق بديل لطريق مصر التجاري. وقد عقد البرتغاليون تحالفاً مع الحبشة التي توافدت عليها البعثات الأوروبية والدعاة الصليبيون من كل حدب وصوب، وعقب اكتشاف طريق رأس الرجاء الصالح 1498 ميلادية طلب قائد الأسطول البرتغالي من ملك البرتغال إمداده بعدد من العمال المدربين على قطع الصخور وحفر الأرض للعمل على تحويل مجرى النيل، وعلى الرغم من أن هذه المشروعات لم يكتب لها النجاح إلا أنها تظهر مدى تصميم الأوروبيين الصليبييين على القضاء على اقتصاديات الدولة المملوكية قضاءً مبرماً، وهو ما يؤكد استمرار الحروب الصليبية واستقرارها في شكل اقتصادي.

ويمكن القول أن فكرة الحصار الاقتصادي التي تم تطبيقها من جانب الغرب لم تنجح في خنق الاقتصاد المصري تماماً إلا بعد اكتشاف طريق رأس الرجاء الصالح، فقد استطاع البرتغاليون باكتشافهم هذا الطريق تحقيق أهداف الحرب الاقتصادية، وعلى الرغم من طول الطريق وكثرة تكاليفه مقارنة بطريق مصر القصير فقد أقبل الغرب على ارتياده وعزف عن المرور بمصر ، واستطاع الحصول على الحاصلات الشرقية وبخاصة التوابل من الهند وإيران مباشرة دون الاحتياج إلى وساطة مصر ، الأمر الذي ألحق أفدح الخسائر باقتصاد مصر وترتب عليه إضعافها عسكرياً. وباكتشاف طريق رأس الرجاء الصالح يكون الستار قد أسدل بصورة نهائية على هذه الحروب التي اتخذت من الدين شعاراً لها لتخفي وراءه دوافعها المادية البحتة.




--------------------------------------------------------------------------------



المصادر:

سعيد عبد الفتاح عاشور : الظاهر بيبرس ، الهيئة المصرية العامة للكتاب ، 2001.

سعيد عبد الفتاح عاشور : الحصار الإقتصادي الأوروبي على مصر ، 1962.

عثمان علي محمد عطا : الأزمات الإقتصادية في مصر في العصر المملوكي ، الهيئة المصرية العامة للكتاب،2002.

علي السيد علي : المرأة المصرية والشامية في عصر الحروب الصليبية ، المجلس الأعلى للثقافة ، 2002.

محمد عبد الغني الأشقر : تجار التوابل في مصر في العصر المملوكي ، 1997.

ياسر حلمي أحمد عبده : طبقة التجار في مصر في عهد دولة المماليك ، القاهرة ، 1996.



--------------------------------------------------------------------------------

[1] طالبة دكتوراه في التاريخ.

رد مع اقتباس
  #19  
قديم 16-04-2005, 11:49 PM
د.فالح العمره د.فالح العمره غير متصل
 
تاريخ التسجيل: Feb 2005
الدولة: في قلوب المحبين
المشاركات: 7,593
معدل تقييم المستوى: 27
د.فالح العمره is on a distinguished road

حركات التمرد في مصر في بداية العهد العثماني (1517-1524م)

والنتائج المترتبة عليها



د. أسامة محمد أبو نحل
الأستاذ المساعد في التاريخ الحديث ورئيس قسم التاريخ
كلية الآداب والعلوم الإنسانية في جامعة الأزهر ـ غزة


1424هـ/2003م



--------------------------------------------------------------------------------


ملخص


تؤرّخ هذه الدراسة مرحلةٍ مهمة من تاريخ مصر العثمانية، التي شهِدت مرحلة التمرد في مصر في بداية العهد العثماني (1517 ـ1524م) والنتائج المترتبة عليها. فقد أفاض كثيرٌ من المؤرخين والباحثين في التأريخ لاستيلاء العثمانيين على مصر، غير إن قلة منهم تحدّثت باقتضاب عن حركات التمرد التي اشتعلت ضد الوجود العثماني فيها في بداية عهدهم بها، بينما تجاهلها الآخرون تجاهلاً يكاد يكون تاماً رغم أهميتها على قِصر مدتها الزمنية.

لم يبيّن هؤلاء المؤرخون الدوافع الرئيسة لتلك الحركات، مثل حركة تمرد المماليك عام 928هـ/1522م بزعامة جانم السيفي وأينال السيفي، وحركة تمرد والي مصر العثماني أحمد باشا الخائن عام 930هـ/1524م.

أما النتائج التي ترتبت على تلك الحركات، فقد أسهبت الروايات التاريخية في سردها، وكان أهمها على الإطلاق ما أصدره السلطان سليمان القانوني من مجموعة تنظيمات إدارية، أو ما أُطلق عليه اسم "قانون نامه مصر".



المقدمة
أفاض الكثير من المؤرخين والباحثين في التأريخ لاستيلاء العثمانيين على مصر، وأفاضوا في سرد تفاصيل التنظيمات الإدارية التي اتبعوها في هذه الولاية المهمة، غير إن قلة منهم اهتمت ببحث حركات التمرد التي اشتعل أوارها ضد الوجود العثماني في مصر، بينما لم يولِها الكثير أدنى اهتمام، بل تجاهلوها تماماً رغم أهميتها على قِصر مدتها الزمنية.

وأهم ما ترتّب على تلك الحركات اهتمام العثمانيين من جديد بأهمية مصر وموقعها وخشيتهم من فقدانها، فقرر السلطان العثماني سليمان القانوني إصدار ما سُمي "بقانون نامه مصر"، في محاولةٍ للحد من نفوذ السلطات الإدارية المختلفة في الولاية المصرية، خاصة سلطة المماليك.

وأولى الاضطرابات التي برزت في مصر مع مطلع الحكم العثماني لها، قادها الشيخ عبد الدايم بن أحمد بن بقر، شيخ العرب في إقليم الشرقية، وذلك في عام 924هـ/1518م، بعدما خرج عن طاعة والي مصر خاير بك. وكان من قبل قد خرج عن طاعة السلطان المملوكي قانصوه الغوري من قبل.

ومما يلفت النظر أن حركة التمرد التي قادها المماليك بزعامة جانم السيفي وأينال السيفي عام 928هـ/1522م، لم يوضّح المؤرخون الذين أرّخوا لها الدوافع التي من أجلها قام المماليك بها، ويأتي على رأسها عداء الأمراء المماليك للسلطة الحاكمة الجديدة، وإحساسهم بفقدان امتيازاتهم، وأنهم أصبحوا أتباعاً بعدما كانوا متبوعين.

وفيما يخص حركة التمرد التي قادها والي مصر العثماني أحمد باشا الخائن، فقد أهمل المؤرخون السبب الذي دعاه للقيام بها، وهو حقده على الصدر الأعظم إبراهيم باشا الذي سلبه هذا المنصب من وجهة نظره، فقرر الانتقام منه ومن الدولة بإعلان استقلاله بمصر وتحالفه مع شيخ العرب في إقليم الشرقية عبد الدايم بن بقر.

أما النتائج التي ترتّبت على تلك الحركات فقد أسهبت الروايات التاريخية في سردها، وكان أهمها إصدار السلطان العثماني سليمان القانوني مجموعة من التنظيمات الإدارية والقوانين ما سُمى "بقانون نامه مصر".

منهج الدراسة:

اعتمدت الدراسة على المنهج الوصفي التحليلي للروايات التاريخية الخاصة بموضوع البحث على قلتها مع عدم إغفال المنهج السردي للأحداث التاريخية لِما لذلك من أهمية. وقد اعتمدت الدراسة على عددٍ من المصادر الأوّلية مثل: أخبار الأُول فيمن تصرف في مصر من أرباب الدول لمحمد ابن عبد المعطي الإسحاقي، والنزهة الزهية في ذكر ولاة مصر والقاهرة المعزية، والمنح الرحمانية في الدولة العثمانية، مخطوطين لمحمد بن أبي السرور البكري الصديقي، ونزهة الناظرين فيمن ولي مصر من الخلفاء والسلاطين، مخطوط لمرعي بن يوسف الحنبلي، وأوضح الإشارات فيمن تولى مصر القاهرة من الوزراء والباشات، مخطوط لأحمد شلبي عبد الغني.

وكذلك المراجع الثانوية، مثل: العرب والعثمانيون لعبد الكريم رافق، وجذور مصر الحديثة لدانيال كريسيليوس، والحياة الاقتصادية في مصر في القرن الثامن عشر لإستيف.

إرهاصات حركات التمرد في مصر العثمانية:

بات من الأدبيات التاريخية ما يمكن اعتباره أن الفتح العثماني للأقاليم العربية التي كانت خاضعة من قبل لسيطرة السلطنة المملوكية، قد أصبح بداية عهد لأوج الدولة العثمانية، غير أن الباحث لتلك الفترة التاريخية المهمة في تاريخ المنطقة يجد أن العثمانيين قد ارتكبوا أخطاءً إداريةً كان أهمها في الإقليم المصري ما جعل نفوذهم فيه في مهب الريح لفترةٍ من الزمن.

صحيح أن الفتح العثماني للأقاليم العربية 922-923هـ (1516-1517م)، قد وضع نهايةً مؤلمة للسلطنة المملوكية في الشام ومصر، وبالتالي أعاد تشكيل شخصية واهتمامات الدولة العثمانية ذاتها، غير أن الاعتبارات والمصالح العثمانية تقدّمت على المصالح الطبيعية لمصر في الأقاليم المجاورة لمدةٍ طويلةٍ من الزمن، ومع ذلك فقد ظلت مصر هي القاعدة التي يشع منها النفوذ العثماني على أغلب هذه المناطق ذات الأهمية التاريخية بالنسبة لمصر(1).

ومما يجدر ذكره أن استيلاء العثمانيين على مصر وغيرها من الأقاليم العربية، قد حدث عندما وصلت دولتهم ذروة مجدها، وكادت تصل إلى أقصى حدود اتساعها، أي أن الاهتمام العثماني بالمنطقة العربية إنما حدث عندما اجتازت دولتهم عهد الشباب الدافق، ودخلت في طور الكهولة المكتملة، فوصلت إلى حدود التوسع والاعتلاء من الوجهتين المادية والمعنوية(2)، وهذا ما يؤكّد صحة ما ذكرناه آنفاً.

ولمّا استولى العثمانيون على مصر وغيرها من الأقاليم العربية لم يحاولوا صِبغة أهالي هذه الأقاليم بالصِبغة العثمانية أو يربطوهم برباط الحضارة العثمانية أو حتى أن يوجدوا بينهم شيئاً من التعاون المتبادل أو لوناً من النشاط المشترك، بل اتبعوا المبدأ نفسه الذي ساروا عليه في كل أملاكهم تقريباً، وذلك بأن تركوا العناصر الأصليّة في حكم البلاد المفتوحة بعد إجراء بعض التعديلات التي تضمن لهم بقاء السيادة والسيطرة، بحيث سارت شعوبها على ما ألِفته من عادات وتقاليد لا يضيرها إلاَّ تعسف ولاتها في بعض الأحيان ومفاسد الحكم والإدارة، وكانت عناصر هذا الفساد في أغلبها موروثة عن فترة الحكم المملوكي وليست كلها مستحدثة في العصر العثماني(3).

إن ما تميّز به الحكم العثماني في بداية عهده لمصر؛ أنه كان حكماً غير مباشر رغم مركزيته، لكنّه غير شامل، فالنظام الذي أسسه العثمانيون في مصر كان في حقيقته خليطاً من عناصر عثمانية ومملوكية، فالقوات المملوكية التي بقيت بعد هزائمها في مرج دابق في الشام والريدانية في مصر أُعطيت لها واجبات وتم دمجها في الوحدات العسكرية العثمانية أو شُكّلت في وحدات منفصلة خاصة واُستعين بها كقواتٍ احتياطية بمعرفة القادة العسكريين العثمانيين. ونجح النظام الإداري العثماني الجديد في امتصاص كل الموظفين العاملين في النظام المملوكي المهزوم، ويبدو أن الهدف من وراء هذا الدمج والامتصاص كان توفير الخبرة والاستمرار للنظام العثماني الجديد(4).

لقد منحت الإدارة العثمانية في مصر حكومات الأقاليم المصرية أو ما يُطلق عليه اسم السنجقيات والكاشفيات لبكواتٍ من المماليك، رغم أن العنصر المملوكي لم يكن عنصراً أصيلاً في حكم مصر، لكنه على أية حال أقدم من العنصر العثماني، والسيادة المملوكية على مصر كانت أسبق من السيادة العثمانية. وقد ظلت مصر تحيا الحياة التي كانت تحياها في عصر سلاطين المماليك فيما عدا الخزنة السنوية والخطبة والسكّة وملكية السلطان نظرياً للأرض(5). ومن أهم البكوات المماليك الذين تسلّموا منصب الكشوفية في بداية العهد العثماني لمصر، أينال السيفي وجانم السيفي(6).

يتضح لنا مما سبق ذكره أن تعيين البكوات المماليك في تلك المناصب المهمة؛ إنما كان تمشّياً مع مبدأ العثمانيين في إيجاد نوعٍ من التوازن بين القوى الحاكمة في مصر، لبقائها دوماً تحت سيطرتهم.

استمر السلطان سليم الأول في إدارة شؤون مصر وضبط خراجها في أثناء وجوده بها، رغم تعيينه لأحد وزرائه وهو يونس باشا كنائبٍ عنه في حكم الإقليم المصري، وكان يُلقّب بنائب السلطنة طيلة وجود سليم في مصر؛ لكن الأخير قُبيل مغادرته الأراضي المصرية عام 923هـ/1517م، عزل يونس باشا وعيّن عِوضاً عنه الأمير خاير بك أحد أمراء السلطان المملوكي قانصوه الغوري، بعدما أثبت له إخلاصه وأبقى على لقبه الذي كان يُلقّب به من قبل وهو "ملك الأمراء"(7). ويبدو أن سليماً وافق على جعل مصر تحت حكم خاير بك طيلة حياته(8) بعدما ترك له بها من القوات العثمانية نحو خمسة آلاف فارس، إضافةً إلى نحو خمسمائة من الرماة(9).

نجح خاير بك إبان ولايته على مصر في استتباب الأمن فيها بعدما أطلق سراح عدد كبير من المماليك الجراكسة ومنحهم الأمان، وفي هذا يقول المؤرخ ابن إياس: "… وفي يوم السبت خامس عشرينه (أي شهر شعبان 923هـ) نادى خاير بك في القاهرة بأن المماليك الجراكسة تظهر وعليهم أمان الله تعالى. فظهر منهم الجمّ الغفير وهم في سوء حال"(10).

ويبدو أن خاير بك جابه خلال فترة ولايته اضطراباً أمنياً محدوداً من جانب القبائل العربية في إقليم الشرقية قادها شيخ العرب عبد الدايم بن بقر، وقد فشل خاير بك في استمالته، مما اضطره إلى تعيين والده الشيخ أحمد بن بقر في مشيخة جهات الشرقية، فازدادت الاضطرابات بعدما نهب الشيخ عبد الدايم وأعوانه منية غمر وأحرقها وغيرها من القرى في الشرقية، ويؤكّد ابن إياس ذلك بقوله: "وفي يوم السبت تاسعه (أي شهر صفر 924هـ) قويت الإشاعات بعصيان عبد الدايم؛ وأن قد التفّ عليه عربان كثيرة من الشرقية والغربية، وطرد أباه الأمير أحمد من الشرقية، واضطربت أحوال الشرقية إلى الغاية"(11).

وبعدما توفى خاير بك عام 928هـ/1522م، تعاقب على حكم مصر عدة ولاة منهم مصطفى باشا زوج أخت السلطان سليمان القانوني الذي نعته البعض بأنه عنجهيٌ، متعاظم على المصريين، ومترفّعٌ عن التعرّف بهم(12). بينما نعته آخرون بأنه متديّنٌ، محبٌ لعمله، وحسن السيرة(13)، وفي عهد هذا الوالي حدث أول تمرد مملوكي في مصر، وهو ما سنأتي على تفاصيله.

تمرد أينال السيفي وجانم السيفي على الحكم العثماني:

يحق للمرء التساؤل عن الدوافع التي دعت اثنين من قادة المماليك للتمرد والثورة على الحكم العثماني في مصر. فالدافع الأول لهذا التمرد هو أن بعضاً من الأمراء المماليك رغم انهيار سلطنتهم تماماً عام 923هـ/1517م، فإنهم ظلوا يكنّون العداء والضغينة للعثمانيين؛ ومما يدلّل على ذلك انضمام الكثيرين منهم لحركة التمرد التي قادها والي الشام جان بردي الغزالي، الأمير المملوكي الذي عيّنه السلطان سليم الأول في أثناء عودته للآستانة، وهؤلاء كانوا من المماليك الناقمين على والي مصر خاير بك، الذي بطش بهم فيما بعد(14).

أما الدافع الثاني أن بعضاً من المماليك قد أحسّوا؛ أنهم في ظل العهد الجديد قد فقدوا امتيازاتهم وجاههم، بينما قبِل البعض الآخر سياسة الأمر الواقع بالخضوع للحكم العثماني(15). ويتمثّل الدافع الثالث وهو الأهم؛ أن متزعمي التمرد كانوا من المخلصين لآخر سلاطينهم طومان باي حتى بعد إعدامه حيث عمد أحدهم وهو أينال السيفي لقتل الشيخ حسن بن مرعي وأخيه شُكر وهما اللذان سلما السلطان طومان باي للسلطات العثمانية لتقوم بدورها بإعدامه(16).

نستنتج مما سبق ذكره أن ولاء المماليك المهزومين للحكام الجدد لم يكن قد ترسّخ بعد، مما دعاهم للقيام بحركات تمرد ضدهم في محاولةٍ لإعادة مجدهم الذي داسه العثمانيون، فأصبحوا أتباعاً بعدما كانوا متبوعين، لهم الصولة والجولة.

ومهما يكن من أمر، فإنه طيلة فترة ولاية خاير بك على مصر لم تأخذ أية ثورة على السيادة العثمانية مكانها، لكن بعد وفاته أصبحت سلطة السلطان الجديد سليمان القانوني على المحك، حيث بدأ بمجابهة حركات التمرد التي لم تظهر في عهد أبيه سليم، فقضى في عام 927هـ/1521م على حركة والي الشام الأمير جان بردي الغزالي، وبعدها بعام جوبه بحركة جديدة في مصر تزعمها اثنان من قادة المماليك هما أينال السيفي كاشف الغربية التي تقع في الجزء الغربي من الدلتا على الضفة اليمنى لفرع رشيد من النيل، وجانم السيفي كاشف البهنسا والفيوم في مصر الوسطى(17). وكان تعيين السلطان سليمان لمصطفى باشا والياًَ على مصر بعد خاير بك في محله، فقد كان ذا شأنٍ بما فيه الكفاية؛ إذ لم يكن من نخبة المماليك وإنما عثمانياً ذا مكانة سامية مرموقة وصهراً للسلطان وكفواً لمواجهة الخطر المحدق بأهم الولايات العثمانية في الشرق(18).

ويبدو أن قادة التمرد قد استحسنوا التعبير عن رؤيتهم للنخبة العسكرية لقدامى المماليك وذلك بتباهيهم بشجاعتهم وبسالتهم وازدرائهم للأسلحة النارية الحديثة التي بواسطتها تمكّن العثمانيون من قهر سلطنتهم، وتقليلهم من شأن السلطان سليمان الذي كان صغير في السن، وذلك بقولهم أنه لو قدِم بنفسه لمحاربتنا فسوف نهزمه، فنحن لن نترك هذه البلاد لهؤلاء التركمان الذين لا يعرفون قتال الفروسية(19).

وجاهر الثائرون بعدم طاعتهم للسلطان العثماني وتوجهوا نحو إقليم الشرقية الواقع إلى الشرق من دلتا النيل وهي منطقة استراتيجية حيث يكون في مقدورهم قطع المواصلات بين مصر وبلاد الشام، كما أنهم تحكموا بطريق المواصلات والمؤن بين الصعيد والقاهرة(20).

وكان أينال السيفي قد وصل إلى الشرقية قبل جانم السيفي، وقد انضم إليه بعض المماليك وبعض القبائل العربية بالشرقية، فصمم الوالي مصطفى باشا على قمع هذا التمرد قبل أن يتفاقم أمره ويخرج عن السيطرة والتوجه بنفسه لمقاتلتهم، غير أن القاضي موسى بن بركات والمعروف في المصادر التاريخية باسم الزيني بركات(21) ألحّ على الباشا بالتريث في شأن القتال، وطلب منه أن يكتب لزعماء التمرّد كتاباً بالأمان والعفو ووعده بإحضارهم إليه، فاستجاب الباشا لطلبه، وتوجه إلى معسكر المتمردين لإقناعهم بالتسليم، غير أن فصاحته فشلت في إغراء أينال السيفي، الذي قطع رأسه كخائنٍ للقضية المملوكية(22).

وفي اليوم التالي انضم جانم السيفي إلى حليفه أينال وبقيا معاً في الشرقية في انتظار وصول أعيان المماليك الذين كانوا على علمٍ مسبق بالمؤامرة وتخلّفوا عنهم، ولمّا سمع مصطفى باشا بمقتل الزيني بركات اشتاط غضباً وأمر بتشكيل حملة مسلحة مؤلفة بالكامل من الفرق العثمانية وجعل قيادتها لموسى أغا الإنكشارية وسليمان أغا التفكنجية، وفي الشرقية دارت رحى معركة انتهت بمقتل جانم بعدما تعثّر عن فرسه ووقع فقطع العثمانيون رأسه، بينما تمكن أينال من الفرار باتجاه غزة واختفى نهائياً ولم يعُدْ له ذكر، وادّعى البعض من الجهلة السذّج، أنه ارتدى طاقية غير مرئية لا يراه أحد إذا لبسها(23).

أمر مصطفى باشا بتعليق رأس جانم السيفي على باب زويلة في القاهرة لإرهاب من تسوّل له نفسه من المماليك في الخروج عن طاعة السلطة العثمانية، ثم أرسلها فيما بعد إلى السلطان سليمان في الآستانة، الذي شكره بدوره على صنيعه وأرسل له قفطاناً هديةً وأمر بترقية جميع العساكر الذين أسهموا في القضاء على التمرد(24).

تمرد والي مصر العثماني أحمد باشا الخائن

بعد أن تمكن مصطفى باشا من إنهاء حركة التمرد التي قادها المماليك هدأت الأمور في مصر؛ لكنه هدوءاً مؤقتاً؛ إذ سرعان ما تفاقمت حركة تمرد جديدة بعد ما يزيد عن العام، فبعد عام وعشرة أشهر من تولي مصطفى باشا الولاية في مصر تم عزله في 16 ذي الحجة 928هـ، وحلّ محله قاسم جزل باشا الذي بقي والياً على مصر لمدة عام واحد فقط ثم عُزل وتولى منصبه أحمد باشا في صفر 930هـ(25).

وثمة سببٌ أدّى إلى تولي أحمد باشا ولاية مصر، فقد أسهم المذكور في الفتوحات العثمانية في أوروبا، خاصةً في البلقان، وطمِع في تولي منصب الصدارة العظمى بسبب المرض العضال الذي ألمّ بالصدر الأعظم محمد باشا الصدّيقي، فأعجزه عن الحركة وطلب إعفائه من الخدمة، وعيّن مكانه "أود باشا"، وكان أحمد باشا أقدم منه وكان يتوقع أن يتولى هو المنصب، غير أن منافسه إبراهيم باشا نجح في الحصول على هذا المنصب؛ ولكي يُبعِد أحمد باشا عن الآستانة، عيّنه والياً على مصر بعد موافقة السلطان تعزيةً له عن المنصب الأهم ـ الصدارة العظمى، ويبدو أن هذا التعيين لم يمنع حالة العداء المستحكم بين الرجلين لفارق الأهمية بين منصبيهما(26).

ومهما يكن من أمر؛ فقد استمر أحمد باشا فور توليه حكم مصر في إلحاق الموظفين والقوات المملوكية في جهازه(27) لأمرٍ دبّر له على ما يبدو هو الانتقام لذاته من الخيبة في الحصول على منصب الصدارة العظمى.

ويبدو أن أحمد باشا كان من الرعونة بمكان، أنه تعجّل إعلان تمرده على السلطان العثماني قبل أن يُكمل استعداداته بفعل قوة الحقد والعداء الذي يكنّه للصدر الأعظم إبراهيم باشا فانفجر في أعماقه الضغط النفسي الدفين وتذرّع بذريعةٍ واهيةٍ لإعلان تمرده لكسب الأنصار من حوله؛ بادّعائه أن السلطان سليمان أرسل تعليماتٍ لقائد الإنكشارية في القاهرة باغتياله وقتل أمراء المماليك، كما ادّعى أنه ألقى القبض على حامل الكتاب الذي به تلك التعليمات، ومن ثمّ أصبح ذا مزاجٍ حاد ومستبد، وقام بمصادرة ثروات أعيان مصر وأمر بقتل كبار الضباط العسكريين(28).

وقد توفر لأحمد باشا في مصر العديد من عناصر الثورة والتمرد الضرورية، في مقدمتها بُعد مصر الجغرافي عن مركز الدولة العثمانية، ثم يلي ذلك ما تتمتع به مصر من غنىً وكِبر مساحتها، ووجود المماليك الناقمين فيها على الحكم العثماني، والذين يجمع بينهم وبينه النسب الجركسي القوقازي(29)، متوهماً أن تلك العناصر كفيلة بتحقيق نجاحٍ باهرٍ في تهديد الوجود العثماني في مصر.

ومن بين الذين استهدفهم غضب أحمد باشا، الأمير جانم الحمزاوي(30) ذو الأصل المملوكي ومن كبار الأمراء في مصر ومحمود بك، وعندما حاول قائد الإنكشارية التوسّط لديه من أجل إطلاق سراح جانم الحمزاوي، اعتقله بدوره ثم قتله(31). والواقع إن تخلص أحمد باشا من قائد الإنكشارية لم يكن حادثاً عرضياً بل متعمداً لسببين اثنين هما: اعتقاده أولاً بأن هذا القائد هو الذي رشحه السلطان سليمان لتولي نيابة مصر عوضاً عنه بعد التخلص منه. وثانياً أن فرق الإنكشارية كانت موالية للسلطان العثماني وتمكنت من كسب ثقته بصورةٍ مطلقة، ويبدو أن أحمد باشا أراد تحطيم الروح المعنوية لتلك الفرق العسكرية عن طريق قتل قائدهم(32).

إن الإجراءات السالف ذكرها أقنعت أحمد باشا أن علاقته بالسلطة المركزية العثمانية قد وصلت إلى نقطةٍ لا يجوز له العودة عنها، وأن قانون المرحلة يقتضي منه الاندفاع قُدماً في مخططه إلى آخر الشوط مهما كلفه الأمر، معتمداً على أعوانه الذين ربما منّوا أنفسهم بإمكانية تحقيق الانفصال عن الدولة العثمانية، وأن يُصبح لهم شأوٌ ذو أهمية في الدولة المنتظرة.

انتقل أحمد باشا فيما بعد للشروع في الثورة، في مطالبته بحقه في سلطنة مصر وإصراره على امتيازاته الملكية في ذكر اسمه في خطبة الجمعة وسك اسمه على العملة. وفي تلك الأثناء ابتنى جيشاً خاصاً به غالبيته إلى حدٍ بعيد من المماليك، وطلب من الإنكشارية التي تحصّنت في قلعة القاهرة بالانصياع له، فلما رفضت فرض عليها الحصار، وأمام قسوة الحصار اضطر هؤلاء من شق طريقهم عن طريق نفقٍ سري تحت الأرض داخل الحصن، فسقطت القلعة بيد أحمد باشا في 7 شباط (فبراير) 1524م، ثم أعلن نفسه سلطاناً في الثاني عشر من الشهر نفسه، وذكر اسمه في الخطبة وعلى السكّة(33).

بعدما تغلّب أحمد باشا على مناوئيه الخطيرين، حاول فعل أي شيء لإضفاء الشرعية على مركزه ومنصبه الجديد؛ بأن طلب من فقهاء المذاهب الأربعة في مصر ومن سليل البيت العباسي ابن آخر خليفة عباسي مهمش حلف اليمين له. ولم تذكر المصادر التاريخية إطلاقاً كم كان عدد المؤيدين لحركته والذين وثِقوا به؛ لكن الواضح أنه أكثر من مصادرة الأملاك وممارسة الابتزاز ضد اليهود والمسيحيين، كما عمد لكسب حلفاء جدد له من خارج القاهرة فمنح حق ضرائب الأراضي الزراعية لمنطقة الشرقية لشيخ العرب عبد الدايم بن بقر، الذي كان قد ثار من قبل على حكومة خاير بك، وقد أدّى هذا التحالف إلى تهديد الحدود المصريةـ الشامية(34).

وأمام تفاقم الأوضاع في مصر وتدهورها وخشية السلطة المركزية العثمانية من فقدان أهم ولاياتها في الشرق الإسلامي عمدت إلى استخدام سلاح لا يقل خطورة عن السلاح الذي يُستخدم في المعارك الحربية؛ إن لم يضاهه أهميةً ويفوقه وهو سلاح الدعاية (أو ما يُطلق عليه في أيامنا باسم حرب الشائعات). ويبدو أن العثمانيين نجحوا في استخدامه إلى حدٍّ بعيد، حيث أشاع العثمانيون في القاهرة أن أحمد باشا الذي تم تلقيبه بالخائن على علاقةٍ وطيدة بالصفويين الذين يحكمون في بلاد فارس ويعتنقون المذهب الشيعي، وأنه تحت إغراء ظهير الدين الأردبيلي تحوّل عن المذهب السّنّي، وأصبح من أتباع الشاه إسماعيل الصفوي. وكان ظهير الدين الأردبيلي قد استقر في إحدى المقاطعات العثمانية وتظاهر بولائه للمذهب السُنّي وقد رأى الأردبيلي أن من المناسب الكشف عن سرّه وماهيته وإظهار حقيقة أمره لكي يُحوّل أحمد باشا إلى اعتناق المذهب الشيعي، وليؤكّد بأن أملاك السّنّة قد أصبحت غنائم شرعية(35).

ويبدو أن العثمانيين استخدموا تلك الوسيلة الدعائية بمهارة لتشويه سمعة أحمد باشا بين أتباعه من ناحية والأهلين في مصر من ناحية أخرى؛ ذلك لخشيتهم من قيام تحالفٍ فعلي بين والي مصر والشاه إسماعيل الصفوي(36). ونجحت الدعاية بالفعل واتت أُكلها رغم افتقارها إلى الدليل المادي في إثارة الأهلين ضد أحمد باشا، وأعلن قضاة المذاهب الأربعة كفره وأوصوا بالجهاد ضده(37).

وكان من النتائج التي ترتبت على هذه الدعاية انهيار قوة أحمد باشا بشكلٍ فُجائي وعلى نحوٍ دراماتيكي؛ إذ حدث انقلابٌ مضاد تم تخطيطه من جانب الأمير جانم الحمزاوي الذي نجح في فك أسره مع أحد المسئولين العثمانيين إضافةً لأحد الأعيان المماليك، فنصبا صنجقاً (رايةً) سلطانياً، وناديا من أطاع الله ورسوله والسلطان فليقف تحت هذا الصنجق، وتمكنا من جمع الكثير من الأهلين وفاجأوا أحمد باشا في 23 شباط (فبراير) 1524م/930هـ، وهو في الحمّام. وبينما كانت قواتهم تشتبك مع مؤيديه نجح في الفرار من خلال الأسطح ولم يكن بعد قد أتمّ حلاقة رأسه، وتمكن من الوصول إلى الشرقية والتجأ عند الشيخ عبد الدايم بن بقر، ونهب أعداؤه كل ما يملكه من عتادٍ وسلاح(38).

تمكن أحمد باشا خلال وجوده في الشرقية من تأسيس قوة عسكرية قوامها في الغالب من العربان والجراكسة وبعض العثمانيين، وتعهّد لهم باسترداد القاهرة ونهبها، كما كفل للقبائل العربية الإعفاء التام من الضرائب لمدة ثلاث سنوات، وفي تلك الأثناء كان المجلس السياسي الموالي للعثمانيين في القاهرة قد تولّى الإدارة، وعيّن مجلسُ الأعيان العسكريُّ الأمير جانم الحمزاوي لقيادة الإنكشارية وزملاءهُ المماليك لقيادة قوات الخيالة الجراكسة، كما تم تعيين القائد العثماني كحاكمٍ للقلعة، وأُعلنت في القاهرة التعبئة العامة للجيش للمشاركة في التخلص من أحمد باشا الذي تم وصمه بالخيانة والكُفر لموالاته الشاه إسماعيل الصفوي(39).

تسارعت الأحداث فيما بعد بصورةٍ حثيثة وأرسلت الحكومة الجديدة التي تم تعيينها في القاهرة حملة صغيرة لإلقاء القبض على أحمد باشا، لكنها باءت بالفشل، مما اضطر الأمير جانم الحمزاوي لقيادة حملة عسكرية مؤلفة من ألف مقاتل مع تسعة مدافع لمواجهة المتمردين. ويبدو أن تلك الحملة ساعدها الحظ في النجاح بسبب الانشقاق الذي دبّ بين الجماعات العربية المنشقة المنافسة التي ترامى لمسامعها أن نحو ألف من الجند الإنكشارية قد نزلوا إلى الإسكندرية، فحثّ كلاً من والد الشيخ عبد الدايم وأحد أبنائه، عبد الدايم عن التخلي عن أحمد باشا لكي يحفظوا أنفسهم من الدمار والقتل الذي سيلحقه بهم العثمانيون.

وأمام إلحاح أقاربه اضطر الشيخ عبد الدايم للإذعان، فأخذت قوات أحمد باشا بالتلاشي تدريجياً، مما أدّى إلى إلقاء القبض عليه في أثناء القتال وقطع رأسه في 6 آذار 1524م/930هـ، وحُملت رأسه إلى القاهرة وتم تعليقها على باب زويلة، وبعد فترة تم إرسالها إلى الآستانة ليتأكد السلطان من الإجهاز على تمرده، ويعتبر أحمد باشا الأول من عدة ولاة حمل لقب ثابت وبارز هو الخائن(40).

وقد شاءت الصدفة أن يُلاقي أحمد باشا مصيره بالقتل بعد أسبوع فقط من مقتل ظهير الدين الأردبيلي، الذي قُتل في 20 ربيع الأول 93هـ/26 شباط (فبراير) 1524م(41).

النتائج المترتبة على حركات التمرد:

أدّى القضاء على حركات التمرد السالفة الذكر إلى نتائجَ غايةً في الأهمية؛ فقد أحسّت السلطة المركزية في الآستانة بضرورة إجراء تعديلات إدارية في أنماط الحكم في مصر خشيةً من فقدانها للأبد، أو استهانة المماليك والولاة ذوي النزعة الانفصالية في مقدرة الدولة العثمانية على إبقاء مصر تحت سيطرتها، فاستلزم الأمر من العثمانيين إعادة فتح مصر مرة أخرى، لكن هذه المرة ليس فتحاً عسكرياً بل إدارياً، فأرسلت الدولة جيشاً عثمانياً تحت قيادة الصدر الأعظم "إبراهيم باشا" الذي حمل لقب والي مصر أيضاً، كما منحته الدولة أيضاً حق إجراء تنظيم البلاد من جديد بواسطة مجموعة التنظيمات الصادرة تحت رعاية السلطان سليمان القانوني والمُسماة "قانون نامه مصر" عام 1524م(42).

بقي إبراهيم باشا في مصر أسابيع عدّة فقط (شهرين وأربعة وعشرين يوماً)، لكنه ترك فيها ذكرى طيبة لولايته من خلال قانون نامه مصر، هذا المرسوم الذي جمع القوانين الإدارية ونسّقها وعمل على تطبيقها(43). وقد أكّد محمد بن أبي السرور البكري الصديقي بقوله: "وقد أحاط (أي إبراهيم باشا) بأحوال مصر ورتّب الديوان والعساكر والجيوش وكتب قانوناً لطيفاً وارتفاع الأقاليم وضبط مقاطعاتها وطينها من السلطاني والأوقاف، وجعل لها قطايع معلومة بموجب دفاتر الجراكسة القديمة (السلطنة المملوكية السابقة) وأودعها ديوان مصر"(44).

وبناءً على ما سبق، فالدولة العثمانية قررت بذلك وضع نظام معقّد من التوازنات والاختبارات العسكرية والبيروقراطية في محاولةٍ منها لتقليل فرص طموحات ولاتها في مصر في المستقبل(45).

ويتكوّن قانون نامه مصر من جزء ين رئيسين: الأول ـ يتناول المؤسسة العسكرية في مصر، وتألّف من ست فرق من الجنود أو ما سُمي بالأوجاقات(46)، وبيانها كالتالي:

1ـ أوجاق الإنكشارية (المستحفظان): ووظيفته حراسة القاهرة ومداخلها، إضافةً إلى تولي مهام الشرطة في العاصمة وبعض المدن المصرية الكبرى.

2ـ أوجاق العزبان: ومهامه كثيرة ومماثلة لمهام المستحفظان. وهذا الأوجاق يتولى حراسة أعمال الدورية في النيل بالقوارب، لكن هذا الأوجاق أقل عدداً ورواتبَ من المستحفظان.

3ـ أوجاق الجاووشان (الجاويشية): ويعمل كحرسٍ خاص للوالي ويؤدي وظيفة حمل الأوامر الصادرة عن الوالي إلى الجهات المُرسلة إليها.

4ـ أوجاق التفنكجيان (التفقنجية): وهم عبارة عن رماة.

5ـ أوجاق الجوكلليان (الهجّانة): وينطقها المصريون "الجموليان" بمعنى راكبي الجمال، وهم من المتطوعين الذين عملوا في الأقاليم.

6ـ أوجاق الجراكسة: وهم الخيّالة من بقايا النظام المملوكي ومهمتها مشابهة لمهام أوجاقي الخيّالة التفنكجيان والجوكلليان.

وقد أُضيفت فيما بعد لتلك الأوجاقات، أوجاق آخر في عام 1554م هو المتفرّقة وهو الحرس الخاص للوالي أيضاً بحيث مكّنه من المحافظة على سلطته بين الأوجاقات العسكرية حتى القرن السابع عشر الميلادي(47).

والواضح أن السلطان سليمان إنما أراد بتأسيس تلك الأوجاقات ودعمها، أن تكون بمثابة جيشٍ احتياطي(48) يمكن الاستعانة به وقت الحاجة إليه في حروب الدولة العثمانية الخارجية.

أما الجزء الآخر من هذا القانون فهو وصف للإدارة المدنية التي ورثت بعض السمات من السلطنة المملوكية السابقة(49)، وهي مختصة بإدارة البلاد. ويكون على رأس هرم هذه الإدارة والٍ يقيم في قلعة القاهرة وهو الموظف التنفيذي الأول وممثل السلطان العثماني في ولاية مصر، ويحمل لقب باشا، وله القيادة الاسمية لقوات الحامية العثمانية فيها؛ لأن سلطته على هذه القوات كانت غامضة وضعيفة. وكان يتم اختياره وتعيينه بواسطة الديوان السلطاني في الآستانة من بين الوزراء الكبار في الدولة، ومن المهام الصعبة المُلقاة على كاهله في مصر المحافظة على النظام والانضباط بين قوات الحامية العسكرية، وكشف أية مطامح عسكرية لدى الزعامات المملوكية(50).

كان الوالي بناءً على قانون نامه يباشر مهامه ويُصدر أوامره من خلال الديوان(51) في مصر، وهو مجلس مكوّن من كبار الموظفين الدينيين والإداريين والعسكريين في الجهاز العثماني في ولاية مصر(52)، وسلطة الوالي (الباشا) متمثلة في رئاسته للديوان والتصديق على قراراته وإعطاء الأوامر لوضعها موضع التنفيذ، وكان الهدف من إنشاء هذا الديوان الحد من سلطة الباشا(53)، الذي كان يساعده في الحكم الكيخيا (الكتخدا)(54) والدفتردار(55) حيث كانا يتلقيان منه الأوامر قبل المداولات ثم يحيطانه علماً بالقرارات التي أعقبت أوامره(56).

لم يكتفِ السلطان بوضع والٍ على مصر يحكمها نيابةً عنه؛ لذا أنشأ سلطات عدّة أخرى للحد من نفوذه، فكان قاضي القضاة هو الموظف القانوني الأول في الولاية ويتم انتخابه من بين طائفة العلماء بواسطة السلطات في الآستانة، ثم يتم إرساله إلى مصر لإدارة النظام في المحاكم العثمانية، وكان من بين واجبات قاضي القضاة مراقبة أعمال الوالي والتأكّد من صحة تنفيذه الأوامر السلطانية وإحاطة الديوان السلطاني علماً بسلوك هذا الوالي، وكان احتجاج قاضي القضاة إلى الديوان السلطاني بشأن تصرفات الوالي كفيلاً بإقالة الأخير من منصبه وإعادته إلى الآستانة(57).

وهنالك الروزنامجي(58) الذي كان رئيس الديوان المختص بجمع الأموال الأميرية التي يتم تحصيلها من الأرض والجمارك، ويُسمى هذا الديوان ديوان الروزنامة. ويُشار إلى أن الروزنامجي كان يتم تعيينه من الآستانة مباشرةً حتى النصف الثاني من القرن السابع عشر، عندما تدهورت الإدارة العثمانية في مصر، فوقع المنصب تحت سيطرة البيوت المملوكية خلال القرن الثامن عشر(59).

كما أنشأ السلطان سليمان مناصب إدارية جديدة قوامها 24 رتبة "بك طبلخانة" ـ أي يكون لأصحابها الحق في أن تصحبهم فرقة موسيقية. وقد أُسندت لاثني عشر منهم مهام خاصة ومحددة ، بينما أُوكلت للآخرين مهامٌّ استثنائيةٌ أو أن يحلّوا محل زملائهم الذين كانت تزول عنهم وظائفهم بعد مضي عام من ممارستهم لها. والإثنا عشر بكاً الأوائل فهم الذين تتشكّل منهم الإدارة المحلية لمصر وهم: كيخيا الباشا ـ أي نائبه، وأمير الحج ووظيفته مراقبة شؤون الحج ومرافقة الحجاج وتوزيع الهبات على فقراء المدن المقدسة في الحجاز، والخازندار ومهمته حمل الخراج سنوياً إلى الآستانة ويُسمى أمير الخزنة، والقبودانات وعددهم ثلاثة يحكمون ثغور الإسكندرية ودمياط والسويس، إضافةً إلى الروزنامجي كما سبق الإشارة(60).

ولم يكن كل البكوات الكبار وعددهم 24 بكاً والذين رُفّعوا إلى هذه الرتبة من جانب الدولة العثمانية في القرن السادس عشر الميلادي من طبقة المماليك، فقد كان البعض كالدفتردار والقبودانات الثلاثة قادة الأساطيل في المدن المذكورة آنفاً يتم تعيينهم من بين أصحاب الرُّتب العثمانيين(61).

ويبدو أن المماليك رغم حركة التمرد التي قادها جانم السيفي وأينال السيفي لم تهتز مكانتهم كثيراً، ولم يتأثروا بنتائج تلك الحركة، فقانون نامه مصر قد يوحي للوهلةِ الأولى بهيمنة النظام العثماني وسيطرته على البناء المملوكي المهزوم، إلاَّ أن هذا النظام كان في حقيقته نوعاً من الحكم العثماني ـ المملوكي الثنائي؛ لأن المماليك تم منحهم مناصب سلطوية رفيعة في هذا النظام الجديد، بل اندمجت السلطة العثمانية واقعياً مع القوة العسكرية والإدارية المملوكية، ورغم أن تقدماً ملموساً وملحوظاً قد تم في أعقاب إعلان قانون نامه مصر فيما يتعلق بعثمنة الإدارة في مصر وخاصةً في شأن إجراءات جمع الإيرادات فإن عدم قدرة النظام العثماني الجديد على كبح جماح المطامح السياسية المملوكية أدّى فيما بعد إلى فقدان الدولة العثمانية السيطرة الفعّالة على مصر بشكلٍ عام مع مطلع القرن السابع عشر(62).

والحقيقة التي لا يختلف بشأنها اثنان أن السلطة التنفيذية بقيت في أيدي البكوات المماليك، فأسند إليهم السلطان حكم مديريات الولاية المصرية، لكنه حرمهم من التعيين في الديوان. وما كان ذلك من جانب السلطان إلاَّ لخلق عدة قوى متنافسة أحياناً ومتصارعة أحياناً أخرى، ولكي يصعُب عليها الاتفاق فيما بينها على سياسةٍ واحدةٍ تتعارض مع سياسة الدولة العليا(63).

وقد استمر هؤلاء البكوات المماليك الذين أصبحوا يحكمون مديريات الولاية المصرية يُسمون بنفس ألقابهم القديمة زمن السلطنة المملوكية ـ أي كُشّافاً وتُسمى مديرياتهم سناجق، وكانت واجباتهم الرئيسية تتعلق بصيانة أعمال الري التي يعتمد عليه رخاء البلد، وجمع الضرائب التي يدفعها الفلاحون، وإقامة الترع والمصارف والجسور، لِما لذلك من أهميةٍ تتعلق بنمو الحاصلات الزراعية التي تُعتبر عماد ثروة البلاد(64).

وشملت قوائم قانون نامه مصر أسماء أربعة عشر من نواب الولايات باسم كُشّاف. ثلاثة عشر منهم حكموا في مصر السفلى ومصر الوسطى وآخر حكم في واحة الخارجة النائية في الصحراء الغربية، بينما بقيت مصر العليا من أسيوط جنوباً تُحكم إدارياً بواسطة شيوخ العرب من بني عُمر الذين وُصفوا في قانون نامه بأنهم يؤدون مهاماً شبيهةً بوظائف الكُشّاف. ورغم أنه كان يقع بين الفينة والأخرى اصطدامٌ بين الإدارة العثمانية ومشايخ القبيلة، فإنهم لم يُجرّدوا من نفوذهم إلاَّ عام 1576م، عندما تم تعيين أحد البكوات كحاكمٍ على مصر العليا(65).

وبناء على سياسة العثمانيين تجاه المماليك وعدم القضاء عليهم وعلى نفوذهم، بل عدم الممانعة في جلب الكثير منهم إلى مصر ستتكرّر ثوراتهم ضد الوجود العثماني في المستقبل(66) وسيزداد نفوذ البيوت المملوكية مما أدّى إلى حركات تمرد واسعة النطاق بعد منتصف القرن الثامن عشر، كحركة شيخ البلد المملوكي علي بك الكبير، وازدياد نفوذ كلٍّ من إبراهيم بك ومراد بك حتى وصول الحملة الفرنسية إلى مصر عام 1798م.

وتبقى الإشارة إلى أنه قامت في مصر في أعقاب الفتح العثماني لها عدة ثورات للقبائل البدوية، لكنها لا تتساوى من حيث الأهمية مع ثورات المماليك، لكونها مألوفة في تاريخ المنطقة التي شهدت باستمرار الصراع الأزلي بين سلطات المدن والقوى البدوية. ويكون رجحان طرفٍ على الآخر بمقدار ما يكون عليه كلٌّ منهما من قوةٍ وضعف، كما أنه من الطبيعي أن تكثُر ثورات البدو عندما تنتقل السلطة من دولةٍ إلى أخرى، بغُية الحصول على ما يمكنها من امتيازات. وكان من الطبيعي ألاَّ تقف الدولة العثمانية موقف المتفرج إزاء تلك الثورات كي لا تتطور الأمور إلى الأسوأ، وقد لعبت القبائل العربية في مناطق الشرقية والغربية والبحيرة حيث سيطر على التوالي بنو بقر وبنو بغداد وبنو مرعي دوراً مهماً في تأييد أو تقويض قوة الثائرين على سلطة الدولة العثمانية، كما كان الحال في حركة تمرد المماليك بزعامة أينال السيفي وجانم السيفي أولاً وحركة تمرد والي مصر العثماني أحمد باشا الخائن ثانياً(67).



خاتمة الدراسة

بالإمكان استنتاج نتائج عدّة ترتبت على هذه الدراسة منها:

أن الاضطرابات التي جابهت والي مصر العثماني خاير بك مع بداية حكمه والتي قادها الشيخ عبد الدايم بن بقر كانت محدودة، لكونها لم تخرج عن نطاق مناطق إقليم الشرقية.

أن سياسة العثمانيين في تعيينهم للبكوات المماليك في المناصب المهمة؛ إنما كان تمشياً مع مبدأهم في إيجاد نوعٍ من التوازن بين القوى الحاكمة في مصر، لبقائها دوماً تحت سيطرتهم.

وفيما يخص حركة تمرد المماليك بزعامة أينال السيفي وجانم السيفي، فثمة دوافع عدة أدّت إلى هذا التمرد منها أن الكثيرين من الأمراء المماليك بعد انهيار سلطنتهم ظلّوا يكنّون العداء للعثمانيين، وأن بعضهم أحسّ في ظل العهد العثماني الجديد بفقدان الامتيازات التي كان قد اكتسبها من قبل، إضافةً إلى أن متزعمي حركة التمرد كانوا من أشد المخلصين لآخر سلاطينهم طومان باي المملوكي حتى بعد وفاته، وقد اشمأزوا من كونهم قد صاروا أتباعاً بعدما كانوا متبوعين لهم الصولة والجولة.

أما حركة التمرد الأخرى التي قادها والي مصر العثماني أحمد باشا الذي لُقّب بالخائن، فيبدو أن فشله في الحصول على منصب الصدارة العظمى في الآستانة، فقرر الانتقام لذاته بعدما انفجرت في أعماقه قوة الضغط النفسي الدفين للتنفيس عن حقده وعداءه للصدر الأعظم إبراهيم باشا الذي سلبه هذا المنصب من وجهة نظره.

وكان السبب الرئيس لفشل حركة أحمد باشا الخائن، استخدام الدولة العثمانية سلاح الدعاية أو الشائعات ضده، وهو سلاح لا يقل خطورةً عن السلاح الذي يُستخدم في المعارك الحربية؛ إن لم يوازه أهميةً ويفوقه. ذلك أن العثمانيين أشاعوا في مصر اعتناق أحمد باشا للمذهب الشيعي، وأنه أصبح من أتباع الشاه إسماعيل الصفوي، العدو اللدود والمركزي للدولة العثمانية.

وقد أدّى القضاء على تلك الحركات إلى نتائج غاية في الأهمية، فالسلطة المركزية العثمانية في الآستانة شعرت بضرورة إجراء تعديلات إدارية في أنماط الحكم في مصر خشيةً من فقدانها مرة أخرى، لذلك أصدرت مجموعةً من القوانين الإدارية سُميت "بقانون نامه مصر" عام 1524م، تم تقسيمه إلى جزأين. الأول ـ خاص بالتنظيمات العسكرية. والآخر خاص بالإدارة المدنية.

والنتيجة المهمة التي لا يجب تجاهلها، أن العثمانيين رغم محاولاتهم الدؤوبة للحد من نفوذ المماليك، فإنهم فشلوا في القضاء عليهم تماماً، بل بقيت أعداد كبيرة من المماليك الجدد تفِد إلى مصر عن طريق الشراء، مما أدّى إلى تكرار ثوراتهم في المستقبل ضد الوجود العثماني خاصة في القرنين السابع عشر والثامن عشر.




--------------------------------------------------------------------------------



الحواشي

(1) كريسيليوس، دانيال: جذور مصر الحديثة. ترجمة: د.عبد الوهاب بكر، مكتبة نهضة الشرق، القاهرة 1985، ص42-43.

(2) الحصري، ساطع: البلاد العربية والدولة العثمانية. ط2، دار العلم للملايين، بيروت 1960، ص11-12.

(3) رمضان، محمد رفعت: علي بك الكبير. دار الفكر العربي، القاهرة 1950، ص6.

(4) كريسيليوس: المرجع السابق، ص46.

(5) رمضان: المرجع السابق، ص8-9، أنيس، محمد: الدولة العثمانية والشرق العربي (1514-1914). مكتبة الأنجلو المصرية، القاهرة 1985، ص142.

(6) رافق، عبد الكريم: العرب والعثمانيون 1516-1916. ط1، دمشق 1974، ص64.

(7) ابن إياس، محمد بن أحمد: بدائع الزهور في وقائع الدهور. تحقيق: د. محمد مصطفى، 5 أجزاء، ج5، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة 1404هـ (1984م)، ص202-203، ونخلة، محمد عرابي: تاريخ العرب الحديث. ط1، منشورات جامعة القدس المفتوحة، عمّان 1998، ص53.

(8) الإسحاقي، محمد بن عبد المعطي: أخبار الأُول فيمن تصرف في مصر من أرباب الدول. القاهرة 1315هـ، ص164.

(9) الصديقي، محمد بن أبي السرور البكري: النزهة الزهية في ذكر ولاة مصر والقاهرة المعزية. مخطوط في دار الكتب المصرية، رقم 2266، ورقة 21أ.

(10) ابن إياس: المرجع السابق، ص205، 208، الإسحاقي: المرجع السابق، ص158، وبكر، عبد الوهاب: الدولة العثمانية ومصر في النصف الثاني من القرن الثامن عشر. ط1، دار المعارف، القاهرة 1982، ص11.

(11) ابن إياس: المرجع السابق، ص221، 240.

ومما يجدُر ذكره أن الشيخ عبد الدايم بن بقر هذا كان قد استغل فرصة انشغال السلطنة المملوكية بالتصدي للتوسع العثماني، سواء في الشام أم في مصر، فقام بتخريب أغلب مناطق إقليم الشرقية ونهب أموالها وأموال التجار، كما عمل على قتل الكثير من جنود المماليك واستولى على ما يملكونه من خيولٍ وسلاح. ويُضاف إلى ذلك أنه استغلَّ فرصة هزيمة الجيش المملوكي في الريدانية وتشتت أمرائه في مناطق إقليم الشرقية، فصار حسب ما ذكره ابن إياس: "يأخذ ما عليهم من الثياب والسلاح والخيول وغير ذلك، وفرح بأموال وتحف ما لا فرح به آباؤه ولا أجداده، وقد غنم أموال التجار وأموال العسكر من المماليك الجراكسة وغيرها من أموال المقطعين من البلاد، وعمل من المفاسد في الشرقية ما لا يُسمع بمثلها".

المرجع السابق، ص221.

(12) شلبي، أحمد: موسوعة التاريخ الإسلامي والحضارة الإسلامية، ج5، ط4، مكتبة النهضة المصرية، القاهرة 1979، ص269.

(13) الصديقي: المرجع السابق، ورقة 22أ.

(14) ابن إياس: المرجع السابق، ص319، ورافق: المرجع السابق، ص85.

(15) بكر: المرجع السابق، والصفحة نفسها.

(16) ابن إياس: ص295-296 (بتصرف).

(17) كان خاير بك قد عيّن جانم السيفي في عام 928هـ/1522م أميراً لقافلة الحج المصري للمرة الثالثة.

المرجع السابق، ص443.

(18) Holt (P.M.), Egypt and The Fertile Crescent, 1516-1922, Cornell University Press, New York 1966, pp.47-48.

وابن زنبل، أحمد: تاريخ مصر. مخطوط في المكتبة الوطنية بميونخ، رقم cod. Arab 4111 ، ورقة 137ب.

(19) Op.Cit, p. 48.

(20) رافق، المرجع السابق، ص85، وابن زنبل: الورقة نفسها، و Ibid. .

(21) الزيني بركات: كان موظفاً بيروقراطياً رفيع الشأن في أثناء فترتي حكم المماليك والعثمانيين، وكان قد تولى قيادة قافلة الحج عام 1518م.

Ibid.

(22) لمزيد من التفاصيل. أنظر: ابن زنبل: ورقة 137ب – 138أ، ونخلة: المرجع السابق، ص54.

(23) لمزيد من التفاصيل. أنظر:

ابن زنبل: ورقة 138أ، عبد الغني، أحمد شلبي: أوضح الإشارات فيمن تولى مصر القاهرة من الوزراء والباشات. مخطوط في The Beinecke Rare and Manuscript Library بجامعة Yale بالولايات المتحدة الأمريكية، رقم Land berg. 3 ، ورقة 3ب.

يذكر محمد بن أبي السرور البكري الصديقي أن أينال السيفي قد قُتل في المعركة نفسها، ويبدو أنه الوحيد الذي ذكر هذه الرواية.

المنح الرحمانية في الدولة العثمانية. مخطوط في دار الكتب المصرية ، رقم 1926 ، ورقة 37ب.

(24) ابن زنبل: ورقة 138أ-138ب.

(25) الإسحاقي: المرجع السابق، ص164. بينما يذكر أحمد شلبي عبد الغني، أن أحمد باشا تولى حكم مصر في 4 شوال 930هـ.

أوضح الإشارات، ورقة 3ب.

(26) الإسحاقي، المرجع السابق، والصفحة نفسها، ورافق، المرجع السابق، ص85-86، والشهابي، حيدر: تاريخ الأمير حيدر الشهابي. علّق على حواشيه: د. مارون رعد، 4 أجزاء، ج3، دار نظير عبود، بيروت 1993، ص789.

(27) كريسيليوس: المرجع السابق، ص46، عبد اللطيف، ليلي: الإدارة في مصر في العهد العثماني. مطبعة جامعة عين شمس، القاهرة 1978، ص431.

(28) الحنبلي، مرعي بن يوسف: نزهة الناظرين فيمن تولى مصر من الخلفاء والسلاطين. مخطوط في المكتبة الوطنية بميونخ، رقم Cod. Arab. 889 ، ورقة 206أ ، والإسحاقي: المرجع السابق، ص164-165، وعبد الغني، أحمد شلبي: المرجع السابق، ورقة 3ب، والشهابي: المرجع السابق ، ص790 ، Holt, Op. Cit. Pp. 48-49.

(29) رافق: المرجع السابق، ص86، و Op. Cit. P. 48.

(30) الأمير جانم الحمزاوي: هو جانم بن يوسف بن أركماس السيفي قاني باي الحمزاوي، الذي تولى نيابة الشام من قبل، وقيل أنه وُلد بمدينة حلب. وقد أرتفع شأنه في أثناء فترة حكم خاير بك على مصر وصار من أصحاب الحل والعقد بها، كما أنه لعب دور مهم في السنوات الأولى من الحكم العثماني لمصر حيث اشتغل على ما يبدو كضابط اتصال بين السلاطين وحاشية الوالي في مصر.

ابن إياس: المرجع السابق، ص352، و Op. Cit. P. 49.

(31) الإسحاقي: المرجع السابق، 165، و Ibid. .

(32) Ibid.

(33) رافق: المرجع السابق، والصفحة نفسها، و Ibid. .

(34) Op.Cit. Pp.49-50.

(35) Op.Cit. p.50.

(36) Ibid.

(37) رافق: الصفحة نفسها، والشهالي، علي بن حسن: نزهة الناظرين فيمن تولى مصر من البشوات والسلاطين. مخطوط في مكتبة الأسد بدمشق، رقم 8376، ورقة 13ب.

(38) الحنبلي: المرجع السابق، ورقة 207أ، والإسحاقي: المرجع السابق، ص165، والشهابي: المرجع السابق، ص790، والصديقي: النزهة الزهية، ورقة 22أ-22ب.

(39) Ibid.

(40) الحنبلي: الورقة نفسها، وعبد الغني، أحمد شلبي: المرجع السابق، ورقة 3أ، الصديقي: النزهة الزهية، ورقة 22أ، والصديقي: المنح الرحمانية، ورقة 41أ، و Ibid. .

(41) رافق: ص86.

(42) كريسيليوس: المرجع السابق، ص46.

(43) الصديقي: النزهة الزهية، ورقة 22ب.

(44) نفسه.

(45) كريسيليوس: الصفحة نفسها.

(46) الأوجاقات (جمع أوجاق): أقسام عسكرية، والأوجاق كمصطلح يعني وعاء النار بالتركية.

بكر: المرجع السابق، ص11.

(47) كريسيليوس: ص51-53. ولمزيد من التفاصيل عن الإدارة العثمانية في مصر في القرن العاشر الهجري / السادس عشر الميلادي. أنظر: عبد اللطيف، ليلى: المرجع السابق، ص37-49.

(48) يحيى، جلال: المُجمل في تاريخ مصر الحديثة. المكتب الجامعي الحديث، الإسكندرية، بدون تاريخ، ص59.

(49) Ibid.

(50) بكر: ص12، وكريسيليوس: ص47.

(51) استبدل السلطان سليمان القانوني الديوان بديوانين. الأول هو الديوان الكبير الذي يتشكّل من كبار ضباط الحامية وكبار الموظفين وله الحق المطلق في البت في شؤون البلاد العامة. والثاني هو الديوان الصغير الذي ينعقد يومياً في القلعة ويساعد الوالي في النظر في الأمور العادية ويتألّف من رؤساء فرق الجيش ونائب الوالي، ومهمته تسيير الشؤون الجارية بحيث تدخل كافة نواحي الإدارة ضمن اختصاصاته فيما عدا الأمور التي لا بد من معالجتها بمعرفة الديوان الكبير.

يحيى: المرجع السابق، ص59، واستيف: الحياة الاقتصادية في مصر في القرن الثامن عشر (النظام المالي والإداري في مصر العثمانية) من مجموعة كتب وصف مصر لعلماء الحملة الفرنسية. ترجمة: زهير الشايب، ج2، ط1، مكتبة الخانجي، القاهرة 1979، ص52.

(52) كريسيليوس: الصفحة نفسها.

(53) استيف: المرجع السابق، ص51-52.

(54) الكيخيا أو الكتخدا: وظيفته الأساسية أنه يكون بمثابة نائباً أو وكيلاً عن الوالي.

المرجع السابق، ص53.

(55) الدفتردار: هو ناظر الأموال والمسؤول الأول عن مالية الولاية، وهو أحد المناصب العثمانية المهمة في البناء الإداري العثماني. أي أن الدفتردار وظيفته ضبط الحسابات وحفظ الدفاتر والسجلات، ولا يُنفّذ أمر بيع عقار إلاَّ بعد توقيعه عليه، إشارة إلى تسجيله في دفاتره.

كريسيليوس: ص78، وعوض، أحمد حافظ: فتح مصر الحديث. القاهرة 1926، ص23.

(56) استيف: الصفحة نفسها.

(57) كريسيليوس: ص47.

(58) الروزنامجي: مهمته إدارة الخراج وضرائب الأطيان. والروزنامة مصطلح فارسي مركّب (روز بمعنى يوم ونامة بمعنى كتاب)، أي كتاب اليوم أو دفتر اليومية. وكان للروزنامجي عدة مساعدين هم المباشرين أو الخلفا أو القلفا وأهم هؤلاء الباش مباشر، وهو وكيل الروزنامجي الأول ويحل محله عند إقالته، وهؤلاء يشرفون على أعمال موظفين يُسمون الأفندية. وهناك مساعدون آخرون يُسمون صبيان شاكردية وكيسه دار.

أنظر: استيف: ص54، وعبد اللطيف، ليلى: ص196، وسليمان، أحمد السعيد: تأصيل ما ورد في تاريخ الجبرتي من الدخيل. دار المعارف، القاهرة 1979، ص117-118.

(59) كريسيليوس: ص48.

(60) استيف: ص53-54.

(61) كريسيليوس: ص56.

(62) نفس المرجع، ص55-56.

(63) يحيى: ص59.

(64) نفس المرجع، ص60، ونخلة: ص54، و Op. Cit. P.51.

(65) Ibid.

(66) رافق: ص85.

(67) نفس المرجع، ص86-88.




--------------------------------------------------------------------------------



ثبت المصادر والمراجع



أولاً ـ المخطوطات:

1ـ الحنبلي، مرعي بن يوسف: نزهة الناظرين فيمن ولى مصر من الخلفاء والسلاطين. موجود في المكتبة الوطنية بميونخ، رقم Cod. Arab.889.

2ـ ابن زنبل، أحمد: تاريخ مصر. موجود في المكتبة الوطنية بميونخ، رقم Cod. Arab. 411 .

3ـ الشهالي، علي بن حسن: نزهة الناظرين فيمن تولى مصر من البشوات والسلاطين. موجود في مكتبة الأسد بدمشق، رقم 8376.

4ـ الصديقي، محمد بن أبي السرور البكري: النزهة الزهيّة في ذكر ولاة مصر والقاهرة المعزية. موجود في دار الكتب المصرية، رقم 2266.

5ـ ــــــ : المنح الرحمانية في الدولة العثمانية. موجود في دار الكتب المصرية، رقم 1926.

6ـ عبد الغني، أحمد شلبي: أوضح الإشارات فيمن تولى مصر القاهرة من الوزراء والباشات. موجود في The Beinecke Rare and Manuscript Library بجامعة Yale بالولايات المتحدة الأمريكية، رقم Land berg.3 .

ثانياً ـ المصادر الأوليّة:

1ـ الإسحاقي، محمد بن عبد المعطي: أخبار الأُول فيمن تصرف في مصر من أرباب الدول. القاهرة 1315هـ.

2ـ ابن إياس، محمد بن أحمد: بدائع الزهور في وقائع الدهور. تحقيق: د. محمد مصطفى، 5 أجزاء، ج5، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة 1404هـ (1984م).

3ـ الشهابي، حيدر: تاريخ الأمير حيدر الشهابي. علّق على حواشيه: د. مارون رعد، 4 أجزاء، ج3، دار نظير عبود، بيروت 1993.

ثالثاُ ـ المراجع العربية والمترجمة:

1ـ استيف: الحياة الاقتصادية في مصر في القرن الثامن عشر (النظام المالي والإداري في مصر العثمانية). من مجموعة كتب وصف مصر لعلماء الحملة الفرنسية. ترجمة : زهير الشايب ، ج2 ، ط1 ، مكتبة الخانجي ، القاهرة 1979.

2ـ أنيس، محمد (الدكتور): الدولة العثمانية والشرق العربي (1514-1914). مكتبة الأنجلو المصرية، القاهرة 1985.

3ـ بكر، عبد الوهاب (الدكتور): الدولة العثمانية ومصر في النصف الثاني من القرن الثامن عشر. ط1، دار المعارف، القاهرة 1982.

4ـ الحصري، ساطع: البلاد العربية والدولة العثمانية. ط2، دار العلم للملايين، بيروت 1960.

5ـ رافق، عبد الكريم (الدكتور): العرب والعثمانيون 1516-1916. ط1، دمشق 1974.

6ـ رمضان، محمد رفعت: علي بك الكبير. دار الفكر العربي، القاهرة 1950.

7ـ سليمان، أحمد السعيد (الدكتور): تأصيل ما ورد في تاريخ الجبرتي من الدخيل. دار المعارف، القاهرة 1979.

8ـ عبد اللطيف، ليلى (الدكتورة): الإدارة في مصر في العهد العثماني. مطبعة جامعة عين شمس، القاهرة 1978.

9ـ عوض، أحمد حافظ: فتح مصر الحديث. القاهرة 1926.

10ـ كريسيليوس، دانيال (الدكتور): جذور مصر الحديثة. ترجمة: د. عبد الوهاب بكر، مكتبة نهضة الشرق، القاهرة 1985.

11ـ نخلة، محمد عرابي (الدكتور): تاريخ العرب الحديث. ط1، منشورات جامعة القدس المفتوحة، عمّان 1998.

12ـ يحيى، جلال (الدكتور): المُجمل في تاريخ مصر الحديثة. المكتب الجامعي الحديث، الإسكندرية، بدون تاريخ.

رابعاً ـ المراجع الأجنبية:

1- Holt (P.M.), Egypt and the Fertile Crescent, 1516-1922, Cornell University Press, New York 1966.

رد مع اقتباس
  #20  
قديم 16-04-2005, 11:54 PM
د.فالح العمره د.فالح العمره غير متصل
 
تاريخ التسجيل: Feb 2005
الدولة: في قلوب المحبين
المشاركات: 7,593
معدل تقييم المستوى: 27
د.فالح العمره is on a distinguished road

علاقة الأمير فخر الدين المعني الثاني بالزعامات المحلية الفلسطينية وموقف الدولة العثمانية منه

999 –1043 هـ /1590 –1633 م

د. أسامة محمد أبو نحل

الأستاذ المساعد في التاريخ الحديث

ورئيس قسم التاريخ بكلية الآداب والعلوم الإنسانية

جامعة الأزهرـ غزة

1423هـ /2003م

osamabunahel@hotmail.com


--------------------------------------------------------------------------------

ملخص

تتناول هذه الدراسة فترة مهمة من تاريخ لبنان وفلسطين العثماني، حيث حاولت شخصية بارزة كشخصية الأمير فخر الدين المعني الثاني، إقامة إمارة إقليمية على حساب الدولة العثمانية، وقد أسميت هذه الدراسة: "علاقة الأمير فخر الدين المعني الثاني بالزعامات المحلية الفلسطينية 999 ـ1043هـ/1590ـ1633م".

وأهمية هذه الدراسة ناجمة عن قلة المراجع التي تناولت علاقة فخر الدين الثاني بالزعامات والأسر الفلسطينية، كما تنبع أهميتها في بيان الدافع الرئيسي لفخر الدين الذي جعله يضع فلسطين على سلم أولوياته السياسية والعسكرية، وقد نفت هذه الدراسة عن فخر الدين صفة المغامرة، وأرجعت تصرفاته التوسعية في فلسطين تحديداً إلي طموحه في بناء مجد ذاتي يخلده رغم محدودية الإمكانيات المتاحة لديه.

وقد حاولت من خلال هذه الدراسة إعادة الأمور إلي نصابها الحقيقي، وعدم الانسياق وراء الدراسات التي تبنت نتائج مفادها أن مشاريع فخر الدين التوسعية في الأراضي الفلسطينية كانت ناجمة عن استشراء نفوذه السياسي والعسكري في لبنان، وأوضحت أن المرة الوحيدة التي كان لفخر الدين نفوذ مؤقت في فلسطين كان ناجماً عن سياسته الحكيمة في شراء المناصب من الباب العالي، والتي تمكن من خلالها أن يصبح حاكماً علي كل عربستان من حدود حلب إلى القدس.

المقدمة
رغم وفرة المصادر والمراجع التاريخية التي تناولت سيرة حياة الأمير اللبناني فخر الدين المعني الثاني، إلاّ أن معظمها تناول أهم أعماله في لبنان مع لفتةٍ موجزةٍ لاهتماماته بضم فلسطين إلى ممتلكاته، وقليلة جداً تلك المراجع التي تناولت مشاريعه التوسعية بفلسطين مع بعض الإسهاب، والحقيقة أن معظم هذه المراجع كان يعوزها التحليل.

وفيما يخص المراجع التي اهتمت بتفاصيل حملات فخر الدين الثاني على الأراضي الفلسطينية، فقد اشتطّ بعضها في ذكر دوافع تلك الحملات وأعادها إلى دوافع طائفية في المقام الأول، غير أن الدراسة التي بين أيدينا نفت ذلك، وأرجعت تلك الدوافع لأسبابٍ حزبية ليس إلاّ.

ولماّ تقاعست المراجع التاريخية في بيان أهمية فلسطين في مشروع فخر الدين الثاني التوسعي، وجدنا أنه لا بأس من التطرق لتلك الفكرة في محاولة متواضعة لكشف اللثام عما أغفله البعض، صحيح أن شخصية كفخر الدين لم تكن مجهولة أو مغمورة، بل بالغة الصيت ومرموقة، حتى أن صيته وسمعته وصلت أوروبا قبل أن يصلها بجسده، ولا ندّعي لأنفسنا إضافة الكثير لتلك الشخصية التي تستحق الدراسة أكثر من مرة؛ وإن اختلفنا معها في تحليل دوافعها ونتائج تصرفاتها.

أما المنهج الذي اعتمدته الدراسة، فهو مزيج من السرد التاريخي والتحليل الوصفي نظراً لأهميتهما في إيصال الفكرة للقارئ بشكل سلس مباشر ومبسط، ودون الإخلال بالوقائع التاريخية الأخرى، التي وقعت أحداثها خارج فلسطين وكان لها ردود أفعال سياسية تأثرت بها الساحة الفلسطينية كموقعة عنجر الشهيرة عام 1033هـ/1623 م.

وما يخص مصادر ومراجع الدراسة فهي كثيرة ومتنوعة، بعضها كانت فائدته بصورة مباشرة ككتاب تاريخ الأمير فخر الدين المعني الثاني لأحمد بن محمد الخالدي الصفدي، وتاريخ حيدر الشهابي للأمير حيدر الشهابي، وخلاصة الأثر في أعيان القرن الحادي عشر لمحمد الأمين المحبي، وتراجم الأعيان من أبناء الزمان للحسن بن محمد البوريني، و العرب والعثمانيون لعبد الكريم رافق، وغير ذلك من المراجع الأجنبية مثل:

Holt (P.M), Egypt and the Fertile Crescent 1516-1922.

تمهيد

أصبح من الأمور المسلم بها في المصادر التاريخية، أن بلاد الشام كانت تابعة لسلطة السلطان العثماني تبعية اسمية، حيث ترك العثمانيون الحكم في تلك الأنحاء لأصحاب السطوة والنفوذ المنتمين لبيوتات تمتلك الكثير من مقوّمات القوة والزعامة، واكتفوا بتعيين والٍ لإقرار الأمن والنظام في الولايات الثلاث التي أقاموها وهي: دمشق وطرابلس وحلب، إضافة إلى بعض المأمورين (1). كما أصبح من الأمور المسلم بها أيضاً، أن العثمانيين ذوي الباع الطويل في المسائل العسكرية وبحكم خبراتهم السابقة في نظم الإدارة، خاصة العسكرية منها في الميدان الأوروبي، وبحكم انشغالهم في الحروب المتتالية في أوروبا وعلى كافة الأصعدة، كانوا أكثر ميلاً لترك أمور الحكم للأُسر الإقطاعية المتواجدة بكثرة في كافة أرجاء بلاد الشام مكتفين باعتراف تلك الأُسر بسيادتهم على المناطق التي يحكمونها؛ لأنهم في نهاية المطاف يحصلون على مشروعيّة حكمهم من الولاة العثمانيين في دمشق وطرابلس فيما عدا شمال سورية التي بقيت تحت الحكم العثماني المباشر.

ومن هنا فان مصلحة السلطان العثماني سليم الأول اقتضت بعد استيلائه على دمشق الاعتراف بزعامة الأمراء اللبنانيين مثل الأمير فخر الدين المعني الثاني حاكم جبل الشوف (لبنان)، بعد اشتراكه إلى جانب العثمانيين في موقعة مرج دابق عام 922 هـ/1516 م (2)، وجعله حاكماً على لبنان من يافا إلى طرابلس(3).

ومهما يكن من أمر، يجب أن نضع نصب أعيننا حقيقة لا يمكن تجاهلها، مفادها أن الطائفة الدرزية في لبنان كانت تتمتع بحس سياسي يتسم بالذكاء المطلق نتيجة لتواجدها في منطقة تتقاطع فيها الانتماءات المذهبية والسياسية، فلبنان على صغر مساحته، يضم بين دفتيه العديد من المذاهب الدينية المختلفة، وكان الدروز تائهين بين الاستقلالية الدينية وانتمائهم الإسلامي.

هذا الحس السياسي، جعل من الدروزـ إن جاز التعبيرـ أساتذة في المكيافيللية (الانتهازية) على مدار تاريخهم حتى قبل ظهور ساسة البندقية بزمن طويل(4)، وفي حالة الأمير فخر الدين الأول يؤكد حيدر الشهابي صحة هذا الوصف، بأنه لم يشارك منذ الوهلة الأولى في موقعة مرج دابق، بل آثر البقاء على الحياد بين الطرفين المتحاربين (أي العثمانيين والمماليك) حتى يرى لمن ستكون الغلبة، ثم يدخل القتال إلى جانب الطرف المنتصر(5)، ليبدو في مظهر المسعف له، وبالتالي يحصل على ثمن مساعدته له.

ويقول عادل إسماعيل؛ أنه كان لدى سليم الأول من الحكمة ما جعله يوافق على أن يحكم الدروز أمراء منهم، فأعطى فخر الدين الأول إمارة الشوف التي بقيت خاضعة لنفوذ المعنيين حتى القرن السابع عشر(6). والحقيقة أن الحكمة التي دفعت سليماً وما تلاه من سلاطين العثمانيين لجعل حكام لبنان يحكمون مناطقهم، لا يعود في المقام الأول لضعف السلطة العثمانية في توطيد نفوذها في لبنان بقدر ما يعود إلى خشيتها من التورط في المستنقع اللبناني الآسن المليء بالتناقضات المذهبية والسياسية، لذا وجد السلطان سليم نفسه في غنى عن هذا التورط الذي قد يبذل من أجله خسائر جسيمة قد تؤثر على موقف دولته في أوروبا.

ويستطرد عادل إسماعيل في القول: "بينما أعطيت بقية المقاطعات السورية واللبنانية في هذا العهد إلى حكام أجانب"(7)؛ لكن هذا القول تعوزه الدقة فيما يخص لبنان وفلسطين باستثناء مناطق سورية الشمالية، فمن المعلوم أن وادي التيم اللبناني كانت تحكمه الأسرة الشهابية، والبقاع يحكمه آل حرفوش الشيعة، وجبل عامل كان يحكمه عدة أسر إقطاعية شيعية. وفي فلسطين كانت الأسر الإقطاعية هي من تتولى إدارة زمامها، وإن كانت مؤيدة ومحالفة للسلطة العثمانية.

ويؤكد البعض صحة هذا الطرح؛ بأنه لم يقع تحت سلطة الحكم العثماني المباشر سوى القليل من مدن الشام وضواحيها، حيث ظل الكثير من المناطق خاصة المناطق الجبلية تحت حكم أمرائها وشيوخها المتوارثين، الذين كانوا كالسابق يعقدون الكونفدراليات فيما بينهم، ويقومون بالحملات مع قواتهم، ويخوضون الحروب ضد بعضهم البعض، كما أن لبنان كان في بداية العهد العثماني لبلاد الشام بمثابة إمارة ذات استقلال ذاتي تحت سيطرة الأسرة المعنية(8).

وكما الحال مع أمراء لبنان، فان النهج نفسه اتبعه السلطان سليم الأول مع الزعامات المحلية في فلسطين وهي ذات مرتكزات بدوية وإقطاعية، وقد وازنت السلطات العثمانية فيما بين هذه الزعامات واستغلتها كأدوات في الحكم، وفي تصريف الشؤون الإدارية المحلية، وكانت فلسطين تتبع إدارياً ولاية دمشق، وقسمت إلي خمسة سناجق(9) أو ألوية هي: القدس وغزة وصفد ونابلس واللجون، إضافة إلى سنجقي عجلون والكرك مع الشوبك في شرقي الأردن(10).

واللافت للنظر، أن العثمانيين قسّموا فلسطين وحدها على صغر مساحتها إلى خمسة سناجق، بينما بقية ولاية الشام كانت تضم على اتساعها أربعة سناجق فقط، وهذا يعود لأهمية موقع فلسطين وحيويته؛ فهي تربط دمشق بمصر والحجاز، أي أنها محور الطرق الرئيسية وعصبها، فقرب فلسطين من الطريق السلطاني الذي كانت تستخدمه قافلة الحج الشامي المتجهة من دمشق إلي الحجاز، زاد من أهميتها الأمنية بالنسبة لهذه القافلة؛ لأن عدداً من القبائل الموجودة فيها أو القريبة منها كان يهدد طريق الحج، وكانت هذه القافلة عندما تشعر بخطر تلك القبائل في طريق العودة من الحجاز، تضطر لتحويل طريقها السلطاني إلى غزة، حيث الطريق التجاري بين مصر ودمشق وهو أكثر أمناً، وهو الطريق الذي أصطلح على تسميته"بالطريق الغزاوي"(11).

ولتحقيق الأمن في فلسطين، حرص العثمانيون على الإكثار من ألويتها، نظراً لكثرة الزعماء المحليين فيها، وهم بمعظمهم من أصول بدوية وبعضهم من بقايا المماليك، وكان من شأن هذه الألوية إحكام الرقابة على هؤلاء الزعماء، أو تقريبهم من السلطة بتعيينهم حكاما عليها، ومن أشهر الزعماء المحليين الذين استقطبهم العثمانيون، طراباي ابن قراجا، أحد زعماء نابلس الذي عيّنوه أميراً على منطقة اللجون، وكان استقطاب هؤلاء الزعماء من عوامل الاستقرار البارزة في فلسطين في بداية العهد العثماني، نظراً لخبراتهم بطبيعة المنطقة وظروف سكانها، وتمتعهم بأفضل الأساليب الإدارية الملائمة لطبيعة هؤلاء السكان(12).

بقي أن نشير إلى مسألة غاية في الأهمية، هي أن الإقطاع في لبنان اختلف عن بقية المناطق السورية الأخرى، إذ كان في الغالب ذا طابع طائفي، حيث كان فيها أرسخ جذوراً أقوى من الإقطاع الحكومي(13).

طموح فخر الدين الثاني(14)بتكوين إمارة إقليمية:

سبق التنويه إلى أن السلطان سليم كان قد أقر الأمير فخر الدين الأول على حكم جبل لبنان وسماه "سلطان البر"؛ لكن الأخير حاول الاستقلال بالجبل، فقتله العثمانيون سنة 951 هـ/1544 م، ودفنوا معه طموحاته، لكنهم لم يقضوا على النفوذ القبلي والطائفي للمعنيين، وخلف الأمير قرقماز والده في الحكم؛ لكنه لم يستوعب الدرس الذي مرّ به والده، وحاول بدوره أن يحقق طموحاً سياسياً إقليمياً في بعض نواحي الشام وفلسطين، فدفع هو الآخر حياته ثمناً لمغامرته عام 993هـ/1585م، في إحدى مغارات جزّين في سفوح جبل الشوف(15).

تولى فخر الدين الثاني مقاليد الحكم في جبل لبنان عام 999 هـ/1590 م، وكان عمره وقتذاك ثمانية عشر عاما(16)، وبذلك فتحت صفحة جديدة من تاريخ لبنان الحديث، فقد اتصف فخر الدين بأنه سياسي ماهر، بارع في حبك الدسائس، كما كانت له عيون في الآستانة وفي قصور الباشوات ودور الأتباع، وبذر الشقاق في صفوف أعدائه، ولإرضاء السلطان العثماني عنه، قام بدفع أموال ضخمة لخزينة الدولة، وتقاسم معه الغنائم الحربية(17).

ولم يتوان فخر الدين بعد ذلك في إعادة بناء موقع أسرته في الشوف بثبات، ومن ثمّ تمكن من الحصول على قيادة لا ينازعه فيها أحد على كامل جبل لبنان والمقاطعات المجاورة، وإتباعاً لسياسته الحكيمة، فقد اتخذ من الأسرة الشهابية حكام وادي التيم حلفاء مخلصين له(18).

وقبل التطرق إلى كيفية تمكن فخر الدين من إقامة إمارة معنية مترامية الأطراف على شكل مؤقت، نجد لزاماً علينا بسط الخريطة السياسية اللبنانية والفلسطينية بما عليها من قوى محلية متصارعة وتكتّلات متحالفة، لنعرف المدى الذي نجح من خلاله في إقامة تلك الإمارة. ففي منطقة بعلبك وسهل البقاع اللبناني، كان آل حرفوش الشيعة (1000-1282 هـ/1591ـ1865 م ) يتمتعون بشبه استقلال سياسي في مقاطعاتهم. ولم يقتصر نفوذ الحرافشة على البقاع، بل كثيراً ما كانوا يتدخلون في شؤون المقاطعات المجاورة لهم(19)، وفي جبل عامل بيوتات إقطاعية شيعية أيضاً كبني صعب في مقاطعة الشقيف، وبني منكر في مقاطعة الشومر، وبني علي الصغير في بلاد بشارة، حيث تمتعوا هم الآخرون بحكم ذاتي تحت قيادة شيوخهم(20).

وفي شمال لبنان كان آل سيفا ذوو الأصل الكردي يحكمون في طرابلس، وأشهر حكامها يوسف باشا سيفا الذي عينته الدولة العثمانية والياً على طرابلس عام 987 هـ/1579 م، واشتهر بعدائه الشديد لفخر الدين الثاني، فقد كان لعدائهما الشخصي مدلول حزبي؛ فآل سيفا كانوا من اليمنية(21)، بينما آل معن من القيسية رغم أنهم كانوا في الأصل يمنيين(22)، وتمكن فخر الدين من الحصول على أول نصر له على يوسف باشا سيفا في موقعة نهر الكلب عام 1007 هـ/1598 م، غير أنه لم ينجح في تملّك الإقليم الشمالي لأكثر من سنة؛ لأن العثمانيين كانوا يدعمون يوسف باشا دعماً معنوياً(23).

أما في فلسطين، فقد عاصرت زعامات محلية فيها تولي فخر الدين الثاني مقاليد السلطة، وقد تنافرت بينها وبين فخر الدين المصالح؛ نظراً لأطماع الأخير في الاستيلاء على ممتلكاتهم، ففي منطقة اللجون كان آل طراباي لهم السيادة والزعامة، واشتهر منهم الأمير أحمد بن طراباي (979 ـ1057 هـ/1571 ـ1647 م) الذي حكم لمدة نصف قرن تقريباً (1010 ـ1057 هـ/1601 ـ1647 م)(24)، ودارت بين الزعيمين عدة مواقع سنأتي على ذكرها.

وثمة أسرة من أصل شركسي كان زعماؤها حكاما على نابلس والقدس، هم آل فرّوخ، وكانت تلك الأسرة حلقة الوصل بين آل طراباي في شمال فلسطين وآل رضوان في الجنوب (غزة)، وقد شغل أفراد آل فرّوخ وظيفة إمارة الحج الشامي لعدة أعوام، وتعاونوا مع حلفائهم على منع فخر الدين الثاني من الاستيلاء على القدس كما خطط لذلك، وقاموا بحماية الحجاج كل عام، ومن أشهر آل فرّوخ الذين تصدّوا لتوسعات فخر الدين، الأمير محمد بن فرّوخ الذي تولى الحكم بعد وفاة أبيه الأمير فرّوخ بن عبد الله وهو في طريقه إلى مكة على رأس قافلة الحج الشامي. وكان محمد قد عزل عن نابلس عدة مرات، ثم عاد إليها بفضل الدعم الذي لقيه من العثمانيين ضد عدوه الأمير فخر الدين الذي طمع بمنح حكومة نابلس لأبنائه وأعوانه، وتولى محمد بن فرّوخ إمارة الحج الشامي في معظم الفترة ما بين 1031 هـ/1622 م إلى 1048 هـ/1639 م، تاريخ وفاته(25).

أما مركز القوى الثالث في فلسطين فكان آل رضوان حكّام غزة ذوو الأصل التركي، الذين توارثوا حكم سنجق غزة بضعة أجيال من منتصف القرن العاشر الهجري/السادس عشر الميلادي إلى أواخر القرن الحادي عشر الهجري/السابع عشر الميلادي، أي قرابة القرن ونصف القرن(26)، وكان آل رضوان أبرز وأقوى أمراء الحلف الثلاثي الذي ضمهم مع آل طراباي وآل فرّوخ، حيث واجهوا فخر الدين ومخططاته، وأهم أمراؤهم الذي يعنينا في هذه الدراسة، حسن بن أحمد رضوان (1009 ـ1054 هـ/1600 ـ1644 م) بسبب دوره في صد خطر فخر الدين(27).

ومهما يكن من أمر، فثمة أسباب عدة دعت فخر الدين فور توليه مقاليد السلطة للنظر إلى أبعد من إمكانياته المتاحة لديه ولأسرته منها:

طموحه بإقامة لبنان على نطاق أوسع، وبالتالي قطع أخر صلة له بالدولة العثمانية.
السير في إمارته نحو التطور والازدهار(28).
علاقته المتميزة مع المسيحيين خاصة الموارنة منهم، بعدما شعر بعدم ارتياحهم لسياسة آل سيفا تجاههم. وكان ذلك حافزاً له يعطيه القدرة على تحقيق مطامحه في التوسع.
تجاوزات آل سيفا وانتقاصهم من حقوق أسرته بالاعتداء على ممتلكاتها وامتيازاتها.
طموحه بتحقيق أمجاد جده فخر الدين الأول التي لم يستطع استكمالها بسبب مقتله(29).
استغلاله لبوادر الضعف والترهل التي بدأت تظهر على جسد الدولة العثمانية خاصة عندما تم السماح لغير الإنكشاريين من الفلاحين والحرفيين بالانخراط في سلك الانكشارية بعد أن كانت حكراً لهم(30).
كما استفاد فخر الدين كذلك من المواهب التي منحته إياها الطبيعة، فاندفع بخطىً حثيثة نحو الميدان السياسي الذي شغف به، وسرعان ما استطاع أن يحكم بنفسه، فأظهر مقدرة فائقة في تسيير دفة الحكم مستلهماً السياسة والمخططات التي اتبعها وسار عليها أسلافه من الأمراء واتبع منهجها بعدما وجدها ترضي طموحه البعيد المدى(31).

بعدما استهل فخر الدين الثاني حكمه على جبل لبنان تسلّم من السلطان العثماني سنجقي بيروت وصيدا. وبدأ طموحه السياسي يتّقد في توسيع رقعة إمارته، فساعد العثمانيين في القضاء على عدوه الأمير منصور بن الفريخ حاكم البقاع ونابلس وصفد وعجلون بعدما خشيت السلطات العثمانية، خاصة والي دمشق مراد باشا، من ازدياد قوته ونفوذه، فتم قتله في 13ربيع الأول 1002هـ/7كانون الأول (ديسمبر) 1593م(32).

كما حمل فخر الدين على جاره ووالد زوجته، يوسف باشا سيفا، وبعد معارك عدة أشهرها موقعة نهر الكلب عام 1007هـ/1598م ـ كما أسلفنا الإشارة ـ تمكن من السيطرة المؤقتة على شمال لبنان، ولم يلبث أن خضع له بنو حرفوش في بعلبك، وزعماء البدو في البقاع وفي المنطقة الجنوبية حتى الجليل، مستغلاً فترة انشغال السلطان أحمد بقتال المجريين في أوروبا والصفويين في بلاد فارس(33).

ورغم أن العثمانيين لم يتخذوا موقفاً بعينه من فخر الدين بعد تحرشه بيوسف باشا حليفهم الرئيسي في لبنان، إلا أنهم سرعان ما انقلبوا عليه بعد تحالفه مع علي باشا جانبولاد (جنبلاط)(34) أحد أفراد الأسرة الكردية الحاكمة في كِلّس والذي كان قد اغتصب السلطة في حلب عام 1015هـ/1606م، وكان علي باشا هذا مناوئاً ليوسف باشا سيفا منافس فخر الدين، لذلك عندما هُزم ابن جنبلاط من العثمانيين آثر فخر الدين إيجاد تسوية عاجلة مع العثمانيين، غير أن الوقت كان قد أدركه، فالخصومة المحلية بين آل معن وآل سيفا كانت قد كلفت فخر الدين توريط نفسه في الاشتراك في تواطؤ خطير مع المتمردين على الحكم العثماني، الأمر الذي سيكلفه فيا بعد فقدان إمارته لبعض الوقت(35).

فلسطين ومشروع فخر الدين الإقليمي التوسعي:

ليس بوسع أيّ من الباحثين قراءة أهمية فلسطين في المخطط التوسعي الذي وضعه الأمير فخر الدين إلاّ من خلال زاوية الصراع القيسي ـ اليمني الذي اشتعلت أواره حتى قبل استيلاء العثمانيين على بلاد الشام، هذا الصراع الذي شمل مساحة واسعة من لبنان وفلسطين، لسيادة النظام القبلي فيهما.

وبناءً عليه؛ فإن أبرز السمات التي ميّزت المجتمع في المقاطعات اللبنانية في العهد المعني، هي انقسام هذا المجتمع انقساماً حزبياً لا طائفياً، بحيث يلتقي في الحزب القيسي كما في الحزب اليمني أُسر ورجال من جميع الطوائف دون عقد طائفية ولا حساسيات مذهبية، وكانا هما الحزبان الوحيدان اللذان عُرفا في ذلك العهد، وبمعنى آخر كان الحزب الواحد يضم أتباعاً من مذاهب مختلفة، كالسنّة والمتاولة (الشيعة) والموارنة المسيحيين والدروز(36)، وفي الوقت نفسه كان الحزب الآخر يضم أيضاً أتباعًا من المذاهب ذاتها، وخلاصة الأمر أن ولاء الفرد كان للحزب الذي ينضم إليه، وليس للمذهب الديني الذي ينتمي إليه.

أما في فلسطين ونظراً لعدم وجود اختلافات مذهبية عميقة كشأن لبنان، ونظراً لديانة معظم القبائل العربية فيها بالإسلام، خاصة المذهب السنّي، فقد كان الانقسام فيها إلى حزبين اثنين أيضاً وتحت ذات المسمى، القيسي واليمني؛ ولكن على أساس الأصول الأولى لتلك القبائل.

ومهما يكن من أمر، فقد استطاع الأمير فخر الدين والمعنيون رغم هذا الانقسام الاجتماعي إلى إثبات نفوذهم في لبنان الجنوبي(37) أولاً، ثم في شمال فلسطين ثانياً، وكان بعض الأمراء المحليين في فلسطين قد استفادوا من انشغال فخر الدين في تقوية نفسه لمواجهة ولاة دمشق المتعاقبين وأعدائه التقليديين آل سيفا، فتنفسوا الصعداء على إثر القضاء على حكم آل فرّيخ الذين سبق أن وسّعوا نفوذهم على حسابهم، وأشهر هؤلاء الأمراء أحمد بن رضوان حاكم غزة الذي توفي عام 1015هـ/1606 ـ1607م(38)، وحمدان بن قانصوه أمير عجلون والكرك، وطراباي بن قراجا حاكم اللجون الذي خلفه بعد وفاته عام 1010هـ/1601 ـ1602م، ابنه أحمد(39)، والأمير فرّوخ بن عبد الله حاكم نابلس والقدس(40).

وكانت إمارة الحج الشامي تنتقل بين هؤلاء الأمراء المحليين، حسب قوتهم ورضى الدولة عنهم، ولكن فيما بعد تعرض هؤلاء الأمراء لضغط فخر الدين وقتاله لهم، بعد أن ازدادت قوته وترسّخ نفوذه، وكان ضغطه يخف عنهم عندما ينشغل بالقتال مع الولاة العثمانيين أو آل سيفا(41).

غير أن هؤلاء الحكام لم يكونوا على قدر من القوة الكافية لبسط نفوذهم على مساحات من الأرض، كما كانت سلطاتهم غير ثابتة ومعرضة للتغيير من حين لآخر؛ بسبب سياسة الباب العالي، وبما أن جبل لبنان وجنوبه كان يرضخ لنفوذ الأسرة المعنية التي تميّزت بطموحها السياسي الإقليمي على زمن فخر الدين الثاني؛ فإنه من الطبيعي أن تتعرض فلسطين لتجاذب القوى المحلية والإقليمية، وأن تترك الأسرة المعنية آثارها السياسية على مساحات واسعة من أراضيها، وبخاصة في المناطق الساحلية والشمالية(42).

ويعزو البعض السبب الذي دعا المعنيين بزعامة فخر الدين للاهتمام بمنطقة شمال فلسطين، إلى وجود عدد من الروابط الاجتماعية والقبلية والطائفية بين المعنيين وبعض الأسر الدرزية الفلسطينية التي تقطن صفد وبعض نواحي الجليل، حيث كان لهذه الروابط دورها وأثرها الخاص في صياغة الطموح المعني في فلسطين؛ وبالتالي في تشكيل طبيعة العلاقة السياسية التي ربطت ولازالت تربط بين الإقليمين، ويتأكد ذلك إذا علمنا أن زعامة المعنيين في لبنان نفسها كانت مهددة في كثير من الأحيان، بعددٍ من المنافسين الأقوياء سواء كانوا منافسين قبليين أم من الطوائف الدينية الأخرى(43).

هذا السبب السابق ذكره ليس كافياً لزعيمٍ في حجم فخر الدين للاهتمام بأمور شمال فلسطين، لكي يشنّ عدة حملات متتالية كان هدفها الاستيلاء على كامل فلسطين لا الجزء الشمالي منه فحسب، وبالإمكان إيراد بعض النقاط التي تهدم الفكرة من أساسها:

أن القتال خلال القرون الثلاثة السادس عشر والسابع عشر والثامن عشر لم تكن لأسباب طائفية، بل حزبية في المقام الأول، متعلقة بالصراع بين الحزبين القيسي واليمني، وبالتالي ليس كل الدروز من القيسية لكي يناصرهم فخر الدين، فهنالك دروز ينتمون للحزب اليمني كآل علم الدين المنافسين للمعنيين، لذلك كان من الممكن أن يدخل فخر الدين نفسه في صراع مع أسرة درزية مغايرة له في الانتماء الحزبي لو كانت مصالحه تتعارض مع مصالحها.
لا يُعقل أن يرهن فخر الدين مصيره السياسي كله ويضحي بمجمل ما حققه من مكتسبات في لبنان من أجل عدد من الأسر الدرزية التي تسكن منطقة الجليل الفلسطيني، ولا يُعقل أساساً أن يكون قد صاغ مخططاته وطموحاته من أجل تلك الأسر فقط، خاصة إذا ما علمنا أن الطائفة الدرزية في شمال فلسطين لم تكن آنذاك معرضة للخطر أو أية ابتزازات سياسية من الطوائف الأخرى، حيث لم يرد في أيّ من المصادر التاريخية ما أفاد عكس ما قررناه.
أن العلاقة السياسية التي ربطت بين لبنان وفلسطين في عهد فخر الدين جد مختلفة؛ ففي لبنان ثائر انفصالي حاول قصارى جهده فصل لبنان عن محيطه العثماني، وفي فلسطين زعامات محلية موالية تماماً للسلطات العثمانية وتأتمر بأمرها. وما محاولة فخر الدين للاستيلاء على فلسطين، إلاَّ نوع من الطمع والشبق في الاستحواذ على أملاك الآخرين من أمراء فلسطين المحليين.
ليس من المقبول منطقياً في العُرف السياسي والعسكري أن تكون زعامة أسرة مهددة في كثير من الأحيان بعدد من المنافسين الأقوياء في منطقة ما؛ أن تدفع عنها هذا التهديد بالتوجه نحو مناطق أخرى للاستيلاء عليها، وفخر الدين ليس ساذجاً إلى هذا الحد ليورط نفسه في مشاكل جديدة؛ لأنه بذلك يدفع مصيره السياسي ومستقبل أسرته نحو الهاوية؛ فالذي يتعرض لمشاكل داخلية في بلده حري به معالجتها والقضاء عليها قبل التوجه للغزو خارجها، وكما ستكشف الدراسة؛ فإن الأوقات التي جرّد فيها فخر الدين حملاته على فلسطين وشرقي نهر الأردن كانت فيها سلطته قوية بعدما يكون قد انتصر على أحد منافسيه في لبنان أو حتى على والي الشام نفسه، ومع هذا فإن معظم حروبه في فلسطين انتهت بهزيمته.
ومهما يكن من أمر، فأولى اهتمامات فخر الدين لبسط سيادته علي فلسطين كانت عقب استيلائه على منطقة البقاع الغنية، مستغلا فرصة القضاء على حكامها من آل فريخ، فمد نفوذه من البقاع حتى صفد في شمال فلسطين(44)، ويلاحظ هنا أن امتداد نفوذ فخر الدين إلى صفد كان ناجما عن استيلائه لمنطقة كانت تخضع لنفوذ أسرة إقطاعية (آل فريخ) كان حكمها يمتد من البقاع إلى صفد ونابلس وعجلون، أو إن جاز التعبير، فقد ورث ممتلكات آل فريخ حتى صفد في المرحلة الأولى، وليس بسبب ارتباطه الطائفي بإخوانه الدروز في شمال فلسطين.

وأدى زوال حكم آل فريخ الذين كانوا يشكّلون قوة عازلة بين ولاة دمشق وفخر الدين وامتداد نفوذ الأخير على البقاع إلى ازدياد الاحتكاك والمنافسة بين الطرفين، خاصة وأن المناطق التي أصبح فخر الدين يسيطر عليها كانت تمر فيها الطرق الرئيسية التي تربط بين دمشق والساحل، وبين دمشق وفلسطين ومصر؛ وبالتالي تتحكّم في سلامة قافلة الحج الشامي، ومن ثمّ بدأت المشاحنات والصراعات بين فخر الدين وولاة دمشق(45).

ورويداً رويداً، رسّخ فخر الدين موقعه السياسي باللعب بمهارة على وتر جشع وخلافات نُخب الحكم العثماني. وكانت سياسة "فرّق تسُد" إحدى السياسات التي مارسها بدقة فائقة، بل وأكثر انتظاماً مما مارسها العثمانيون أنفسهم، حيث كان أعوانه ووكلاؤه في الآستانة يسارعون في إحباط وتفادي أية معارضة من جانب مسئولي الدولة بالرشاوى الباهظة(46)، كما أنه عمد إلى تكوين جيشٍ خاصٍ من السكّبان(47) المرتزقة، إضافة إلى أتباعه من الدروز والقيسية، وحصّن القلاع في منطقته، وأجرى اتصالات مع آل مديتشي Midici حكّام دوقية توسكانيا Tuscany في فلورنسا(48) الإيطالية للحصول منهم على مساعدة عسكرية وفنية، إضافة إلى تنشيط التبادل التجاري بين إمارته معهم، خاصة تجارة الحرير، التي كانت مزدهرة في منطقة الشوف(49).

وفي ظل هذه الظروف تعرّض شمال فلسطين عند مطلع القرن السابع عشر لنفوذ الأسرة المعنية إلى حدٍ كبير، فقد كان من أهم أهداف سياسة فخر الدين توسيع مجال نفوذه إلى ما وراء جبل لبنان ليشمل أراضٍ جبلية أخرى، خاصة حوران في سوريا ونابلس وعجلون في فلسطين وشرقي نهر الأردن، وكانت هذه المناطق شأنها شأن لبنان نفسه تسكنها أقوام مضطربة ومتمردة وسلطة العثمانيين عليها هشّة، وتمكن فخر الدين من اصطناع أعوان له بين رؤساء ووجهاء تلك المناطق ودعمهم ضد منافسيهم، مما شكّل تحدٍ مباشر للولاة العثمانيين المتعاقبين في دمشق بعدما أصبح بمقدوره تهديد طريق الحج إلى الحجاز، وقد واصل فخر الدين بوجه عام سياسته الشمالية بثبات بحيث لم يجعل من نفسه شخصاً غير مرغوب فيه لدى السلطات العثمانية، لكنه تحرّك في الجنوب بصعوبة محاولاً قدر الإمكان عدم الإثارة ولفت الانتباه لما يقوم به من توسّع(50).

ومهما يكن من أمر، فقد نجح فخر الدين في استرضاء الباب العالي وانتزع ببراعته وحنكته السياسية فرماناً سلطانياً عام 1012هـ/1603م يقضي بتوليه على كل لبنان، وعلى الأجزاء الشمالية من فلسطين وتملكه على بلاد صفد، في مقابل تعهده للباب العالي بتقديم المستحقات المالية المترتبة عليه، بالإضافة إلى وعده للسلطان العثماني بمقاسمته في كل ما يحصل عليه من أموالٍ وغنائمٍ في حروبه المقبلة(51).

ويرى البعض أن هذا الاتفاق قد أباح لفخر الدين ولو بصورة غير مباشرة بسط نفوذه على القوى المجاورة في فلسطين، حتى وان كانت هذه القوى معينة من قبل الباب العالي وموالية له(52)، غير أن هذا الرأي ينافي تماماً صحة ما سبق أن ذكرناه آنفاً، من أن تقدم فخر الدين نحو فلسطين واصطناعه للأعوان بين زعمائها، قد أثار حفيظة ولاة دمشق العثمانيين، نظراً للتهديد المباشر الذي سيشكّله فخر الدين في حال نجاحه في مشروعه التوسعي من تهديد لطريق قافلة الحج الشامي، ناهيك عن مصلحة السلطان العثماني في ذاك الوقت، التي تقتضي استقرار الأوضاع الأمنية في منطقة حساسة بالنسبة لإمبراطوريته وتعتبر من أهم مفاصلها الرئيسية، خاصة وأن الصراع العثماني ـ الصفوي مازال مستعراً، من هنا، فإن مصلحة العثمانيين اقتضت دعم أعوانهم في فلسطين لا إثارة قوى جديدة ضدهم، وهو ما حدث بالفعل كما قررت المصادر التاريخية، الأمر الذي سوف نفصله لاحقاً.

وسرعان ما توترت العلاقات بين فخر الدين والدولة العثمانية بعد صلحها مع النمسا عام 1015هـ/1606م، وقضائها على تمرد علي باشا جنبلاط ـ الذي كان متحالفاً مع فخر الدين ـ في شمال سوريا في العام التالي، فكلّفت ولاة دمشق بالتصدي له خوفاً من استشراء نفوذه، وتهديده للطرق الرئيسية، بالإضافة لخشية الدولة من طعنه لها في الخلف في أثناء انشغالها في حروب الصفويين(53).

والظاهر أن الأمير أحمد بن طراباي الحارثي حاكم اللجون أقحم نفسه في الصراع الذي دار بين العثمانيين ومعهم يوسف باشا سيفا والي طرابلس وعلي باشا جنبلاط؛ فبعد هزيمة يوسف باشا أمام قوات ابن جنبلاط قرب حماة 1015هـ/ 1606م استقبله الأمير أحمد بكل حفاوة وإكرام، ورفض تسليمه لابن جنبلاط، لأن ابن سيفا كان حليفه الطبيعي تجاه مطامع فخر الدين في الأجزاء الشمالية من سورية الجنوبية، وبصفة خاصة بعدما استولى فخر الدين على سنجق صفد، وأظهر طمعه بسنجق عجلون، إضافة إلى أن هذا التصرف من جانب ابن طراباي كان منسجماً مع ميوله اليمنية مقابل ميول فخر الدين القيسية، وأخيراً موالاته للسلطة العثمانية مقابل تمرد فخر الدين عليها(54).

وبناءً على ما سبق؛ فإن الصراع في بلاد الشام عامة وفي لبنان وفلسطين خاصة لم يكن وقتذاك ذا نعرة طائفية بقدر ما كان تنافس على الإقطاع والسلطة والنفوذ والمطامع التوسعيّة بين القوى المحلية المنقسمة إلى حزبي القيسية واليمنية.

ويبدو أن الأمير أحمد بن طراباي رغم مناصرته للعثمانيين في حربهم ضد ابن جنبلاط، قد آثر عدم الانضمام إلى حملة مراد باشا والي دمشق على الأخير، معتذراً عن السفر ومكتفياً بإرسال رسول وهدية، بعدما رأى أن لا مصلحة له في حرب بعيدة عن حدوده، خاصة وأن خطر فخر الدين محدق به وأطماعه مجاورة له، بعد أن مدّ الأخير نفوذه على سناجق صيدا وبيروت وغزير(55).

ولمواجهة الخطر الذي شكله فخر الدين على نفوذ العثمانيين في فلسطين، وللحد من نفوذه المتصاعد، عيّن الباب العالي والياً جديداً على دمشق عام 1018هـ/1609م هو أحمد باشا الحافظ، الذي جعل كل همّه مقاومة فخر الدين، وقد بدأ أحمد باشا عهده بإثارة الأمراء المحليين المعادين لفخر الدين ضده(56)، مع العلم أنه نادراً ما كان يحدث اتفاق وإجماع بين مناوئ فخر الدين المحليين ووالي دمشق والحكومة المركزية في الآستانة، وقد أدّى هذا الاتفاق إلى إمكانية وجود عمل جماعي مؤثر ضد فخر الدين(57).

عمد أحمد باشا الحافظ إلى تشجيع آل سيفا حكّام طرابلس وأثار الاضطرابات على فخر الدين في منطقتي البقاع وعجلون الخاضعتين لسيطرته ونفوذه، كما حاول القضاء على حلفاء فخر الدين مثل الأمير يونس الحرفوش حاكم بعلبك والأمير أحمد الشهابي حاكم وادي التيم؛ لكنه فشل في مسعاه بعدما أرسل فخر الدين النجدة لهما. هذا الفشل الذي لقيه أحمد باشا دعاه إلى طلب مقابلة الصدر الأعظم نصوح باشا في حلب ـ الذي كان بدوره معادياً لفخر الدين ـ والاشتكاء له من تصرفات فخر الدين، وممن رافق الوالي في المقابلة المذكورة الأمير فرّوخ بن عبد الله الذي أنعم عليه نصوح باشا بسنجقية نابلس وعجلون والكرك عوضاً عن حمدان بن قانصوه(58)، كما عزل الصدر الأعظم الشيخ عمرو شيخ عرب المفارجة عن بلاد حوران وأعطاها للشيخ رشيد شيخ عرب السرديّة، ما دعا الزعيمين المعزولين لطلب النجدة والمساعدة من فخر الدين، لكنه تلكّأ في نجدتهما وطلب منهما إمهاله بعض الوقت لتسوية الأمر مع الصدر الأعظم(59).

ويبدو أن الأمير فخر الدين واجه ضغوطاً من جانب رجال حاشيته، فاضطر لتجريد حملة عسكرية جعل قيادتها لولده الأمير علي ذو الخمسة عشر عاما ً، فتمكن من إلحاق الهزيمة بفرّوخ وعرب السرديّة في المزيريب بأرض حوران في غرة ربيع الثاني 1022هـ/1613م، ونجح الأمير علي وأعوانه من دخول عين جالوت في بلاد عجلون، فأعاد الأمير حمدان بن قانصوه إلى عمله السابق في سنجقية عجلون(60).

ولما كان الوقت في غير صالح فخر الدين بعدما تكالبت القوى المعادية له لا للحد من نفوذه فحسب، بل للقضاء المبرم عليه وعلى إمارته، فقد أصدرت السلطات العثمانية الأوامر لأحمد باشا الحافظ بالزحف على فخر الدين، وانضم إليه الأمراء المحليون كالأمير فرّوخ، والأمير أحمد بن طراباي، وآل سيفا، ومدّه السلطان بقواتٍ من حلب والأناضول، كما أُرسلت مجموعة من السفن الحربية إلى الساحل اللبناني، فاكتسحت القوات العثمانية فخر الدين.

ولما رأى فخر الدين ألاَّ طاقة له بالتصدّي لقوة والي الشام وحزبه، ورأى شدة حصاره لقلعة الشقيف في جنوب لبنان المحصنة، وإلى إرساله لقوات أخرى ضد الشوف نفسه معقل فخر الدين، إضافة إلى تيقّن الأخير من عجز حلفائه وعدم اكتراثهم به وبمصيره، عند ذاك اضطر إلى التوجه إلى صيدا، ومنها سافر بحراً إلى ليغهورن Leghorn أحد مرافئ دوقية توسكانيا الإيطالية في غرة شعبان 1022هـ/أيلول (سبتمبر) 1613م، حيث ظل فيها مدة خمسة أعوام عند أصدقائه من آل مديتشي، وخلفه ابنه الأمير علي في إمارة الشوف بمساعدة عمه الأمير يونس المعني، وبهذا التصرف أنقذ فخر الدين الإمارة المعنية من الانهيار لتبقى تحت تصرف عائلته(61).

ترتب على فرار فخر الدين إلي إيطاليا أن ولّت الدولة العثمانية على صفد بستانجي حسن باشا، بالإضافة إلى صيدا وبيروت وغزير في جمادى الأول 1023هـ/1614م، كما حاولت الدولة في العام نفسه إجراء تنظيم إداري جديد في ولاية دمشق، فاقتطعت ناحيتي صيدا وبيروت ولواء صفد وشكّلت منهم ولاية جديدة عُرفت باسم "ولاية صيدا"، لكن هذه المحاولة لم يكتب لها النجاح، فصرفت الدولة العثمانية النظر عنها وأعادت الولاية الجديدة إلى ما كانت عليه في السابق من حيث تبعيتها لولاية دمشق(62).

لم يؤدِ اختفاء فخر الدين المؤقت عن الساحة اللبنانية إلي خفت وميض المعنيين السياسي، فقد واصل الأمير علي بن فخر الدين سياسة والده التوسعية لاستعادة ما تم فقدانه، وانتهز فرصة تعيين والٍ جديد على دمشق نشانجي أحمد باشا عام 1027هـ/1617م، فطلب منه سنجقية صفد كما كانت قبل سفر والده إلى أوروبا، فصدر فرماناً سلطانياً بتقرير سنجق صفد وصيدا وبيروت وغزير للأمير علي(63).

ويبدو أن حكّام فلسطين المحليين قد تنفسوا الصعداء خلال فترة الخمس سنوات التي قضاها فخر الدين في أوروبا، فاستراحوا خلالها من الضغوط التي كان يمارسها عليهم، كما أن ابنه الأمير علي كان مشغولاً بترتيب بيته من الداخل. وعلى أية حال، فخلال الفترة التي أمضاها فخر الدين في أوروبا، كان الوضع في الدولة العثمانية قد بدأ يتغيّر لصالحه، فعدوه اللدود نصوح باشا عُزل عن الصدارة العظمى، وأحمد باشا الحافظ والي دمشق ترك منصبه، والدولة نفسها منهمكة في حروبها مع الصفويين، وبوساطة مستشاره والأمير يونس الحرفوش أمير البقاع حصل من الدولة العثمانية على عفو، وعاد إلى لبنان عام 1027هـ/1618م(64).

وتجدر الإشارة إلى أن عودة فخر الدين من أوروبا لم تكن مباشرة إلى أحد المرافئ اللبنانية كصيدا أو بيروت، وإنما رست السفينة التي أقلته في مرفأ عكا(65) الفلسطيني، وقد يحتار المرء لهكذا تصرف من جانب فخر الدين، فيقيناً هو يعلم مسبقاً بأن بيروت وصيدا تخضعان لنفوذ ابنه "علي"، وبالتالي فبإمكانه النزول في إحدى هاتين المدينتين، ويرى الباحث أن اختيار فخر الدين لعكا لتكون أول بقعة تطأها قدمه بعد عودته من منفاه الاختياري، لها رمزية خاصة لديه، تبيّن أهمية فلسطين في مشروعه التوسعي سواء كان قبل مغادرته إلى أوروبا أو في مخطّطاته اللاحقة التي نوى أن يشرع في تنفيذها، هذا من جانب، أما من جانب آخر، فهي توضح بجلاء أن عكا وقتذاك كانت تحت سيطرة ابنه الأمير علي، وفخر الدين يقيناً على علمٍ بذلك مسبقاً.

وللتدليل على صحة ما سبق الإشارة إليه، فقد أوردت بعض المصادر التاريخية، أن فخر الدين لما نزل عكا سأل عمن يحكم في تلك المنطقة، فأخبره مستقبلوه بأن ولده عليّاً هو الحاكم فيها، وأنه يقوم الآن بجولة في قرية أبي سنان الفلسطينية ليجمع المال منها، فأرسل فخر الدين في استدعائه(66).

والحقيقة أنه رغم التأكيد بأن المرفأ الذي نزل فيه فخر الدين هو عكا، لكن من غير المعقول هو تصديق ما أورده كلٌ من الخالدي الصفدي وحيدر الشهابي من عدم معرفة فخر الدين لحاكم عكا وقتذاك، الأمر الذي يدعو للحيرة واللبس، فالمنطق يحتم علينا الجزم بمعرفته المسبقة لهذا الحاكم قبل أن تطأ قدماه منطقة نفوذه لسببين اثنين هما:

يُفترض أن عودة فخر الدين من منفاه الاختياري إلى الشرق قد تمت بتنسيق مسبق مع أعوانه وعلى رأسهم ولده "عليّاً.
لو لم يكن يعلم أن ابنه "عليّاً" هو الحاكم الفعلي لعكا، لِما أقدم على هذا الأمر خشية وقوعه في أيدي أعدائه من زعماء فلسطين المحليين.
وما أورده الخالدي الصفدي وحيدر الشهابي لا يعدو أكثر من مبالغة لإظهار فخر الدين بمظهر الزعيم القوي الذي لا يخشى بأس أعدائه، والعائد لاسترداد ممتلكاته التي افتقدها من قبل.

ومهما يكن من أمر، فقد بدأ فخر الدين إثر عودته من أوروبا بتوطيد سلطته من جديد، فاهتم بتطوير اقتصاديات بلاده، خاصة في مجال الزراعة، واستخدم عائدات الجمارك في بيروت وصيدا لتمويل جيشه(67)، وعمد بعض مناوئيه إلى استرضائه، فأرسلوا له الهدايا كالأمير أحمد بن طراباي، والأمير أحمد بن حمدان بن قانصوه، والأمير أحمد بن الحرفوش، ويوسف باشا سيفا، وقد قبل فخر الدين جميع الهدايا المقدمة له من الأمراء عدا هدية يوسف باشا التي ردّها عليه(68)، تعبيراً عما يكّن في صدره من عداوة له.

ويؤخذ على فخر الدين أنه بدأ العمل بنشاطٍ وهمّةٍ لتحقيق أهدافه القديمة متبعاً الأسلوب القديم الذي كان قد اتبعه من قبل(69)، ففي غرة رجب 1028هـ/1618م عزل العثمانيون الأمير أحمد بن حمدان بن قانصوه عن سنجق عجلون، كما عزلوا الشيخ عمرو عن مشيخة حوران، وولوا مكانهما ابن قلاوون وهو من أصل تركي والشيخ رشيد، واضطر الأميران المعزولين لطلب النجدة من فخر الدين لإعادتهما إلى منصبيهما السابق، فنجح في استصدار فرمان من الباب العالي بهذا الشأن في شوال من العام نفسه(70).

ويبدو أن الأمير أحمد بن طراباي قد شعر في تلك الأثناء بأن موازين القوى آخذة في التغيير لصالح فخر الدين، فبعد نجاح الأخير في مسعاه السابق بإعادة أعوانه إلى مناصبهم، انتهز فرصة وجود فخر الدين في تل الهريج بالقرب من صفد، وأرسل إليه ابنه الأمير طراباي ومعه هدية قبلها فخر الدين، فازدادت بينهما أواصر الأُلفة والمودة(71).

وفي عام 1030هـ/1620م وفي أثناء وجود الأمير فرّوخ أمير الحج الشامي في الآستانة بدعوة من السلطان عثمان الثاني، كلّفه السلطان المذكور ببناء قلعة في الطريق الذي تسلكه قافلة الحج يُسمى "المُعظّم"، ورصد لذلك المشروع خمسين ألف غرش، وانتهز فرّوخ باشا تلك المناسبة والتمس من السلطان تعيين الأمير بشير عم الأمير أحمد بن قانصوه حاكماً على سنجق عجلون لكونه أحد مرافقيه وحلفائه، ليساعده في بناء القلعة، وتعيين الشيخ رشيد لمشيخة حوران، فتم له ذلك.

ومرة أخرى استنجد الأمير أحمد بن قانصوه والشيخ عمرو بالأمير فخر الدين لمساعدتهما على العودة إلي منصبيهما، لكنه هذه المرة كان حازماً في رفضه لطلبهما خشية اتهامه بتعطيل بناء القلعة التي أُوكل لفرّوخ باشا بإنجازها من جهة، وللبرود الذي كان قد اكتنف علاقته بالأمير أحمد والشيخ عمرو بسبب قتل فخر الدين لسلطان كتخدا الأمير أحمد، فاضطرا للتوجه إلى بلاد الأمير أحمد بن طراباي حيث توفى الشيخ عمرو في دياره، ثم توجه ابن قانصوه للآستانة في محاولة لاستعادة سنجقه(72).

وتلاحقت الأحداث فيما بعد بصورة دراماتيكية بين مدٍ وجزر بين القوى المحلية في ادعاء كلاً منها بملكيته للسناجق، فالأمير أحمد بن قانصوه نجح في الحصول على قرارٍ بعودته إلى سنجق عجلون، لكن باشا دمشق لم ينفذه لحلول موعد خروج قافلة الحج الشامي، وخشيته من عزل الأمير بشير والشيخ رشيد في ذلك الوقت حتى لا يعطّلا سير القافلة، وهو الموقف نفسه الذي سلكه فخر الدين معه عندما استنجد به، وكان فخر الدين يحاول قدر الإمكان تعطيل تسلّم الأمير أحمد بن قانصوه لسنجق عجلون طمعاً منه بمنحها لابنه الأمير حسين(73).

توجه الأمير أحمد بن قانصوه إلى ديار الأمير أحمد بن طراباي مرة أخرى طلباً للاستقرار فيها، وخلال إقامته عند ابن طراباي تعرّض لهجومٍ من جانب عمه الأمير بشير، فتضايق ابن طراباي من تلك الفعلة وكتب لفخر الدين ملتمساً منه مساعدة أحمد بن قانصوه في استعادة سنجقه، ويبدو أن فخر الدين قد يئس من وصول فرمان من الآستانة بمنحه سنجقية عجلون لابنه حسين، فخشي من وجود أعداء مجاورين لمناطق نفوذه، وقرّر بالفعل مساعدة أحمد بن قانصوه وجرّد حملة في ذي القعدة 1031هـ/1621م على الأمير بشير، ضمت الأمير قاسم ابن الأمير علي الشهابي، والأمير طراباي ابن الأمير أحمد بن طراباي، فلما سمع الأمير بشير بوصول التحالف المذكور إلى جسر المجامع هرب مع الشيخ رشيد، واستعاد أحمد بن قانصوه سنجقية عجلون الذي قام فيما بعد ـ اعترافاً منه بالجميل ـ بتأجير منطقة الغور الغربي نواحي بيسان للأمير علي بن فخر الدين(74).

أضحت قوة فخر الدين طاغية لدرجة أن والي دمشق في العام التالي التمس منه تقديم إعانة مالية لقافلة الحج والخروج لملاقاتها في طريق عودتها، كما منحه سنجقية عجلون باسم ابنه الأمير حسين بعد أن كان قد قنط تماماً من حصوله عليها. ويبدو أن الأمير أحمد بن قانصوه قد قبِل هذا الأمر مُكرهاً، وفي ذلك يقول الخالدي الصفدي: "وكان جواب الأمير أحمد السمع والطاعة لله ولرسوله ولولي أمره، ولكن كأنما في قلبه الجمر. وقال: أنا أولاً وآخراً منك وإليك وبسنجق وغير سنجق محسوب عليك". ثم غادر عجلون وتوجه بـأهله إلى بلاد حوران في ضيافة الشيخ حسين بن عمرو(75).

ولما كان الأمير فرّوخ حاكم نابلس قد تُوفي في مكة أثناء قيادته لقافلة الحج الشامي في 1030هـ/1621م، أصدر الصدر الأعظم "مرّه حسين" أحكاماً بتعيين محمد بن فرّوخ محل أبيه، لكن مصطفى باشا والي الشام رفض التصديق على تلك الأحكام، ما دعا ابن فرّوخ للتوجه للآستانة للمطالبة بحقه بسنجقية نابلس حتى تمكن من الحصول عليها، لكنه لم يهنأ طويلاً بمنصبه الجديد، فسرعان ما سيحصل الأمير حسين بن فخر الدين على فرمانٍ بتوليه سنجقي نابلس وعجلون. ومرة أخرى توجه ابن فرّوخ للآستانة وحصل من الصدر الأعظم على قرارٍ بتوليه إمارة الحج وتقرير سنجق نابلس عليه، كما تم منح سنجق عجلون للأمير بشير بن قانصوه، وصفد لبوستانجي باشا رغم محاولات فخر الدين الحثيثة للحصول على حكم هذه السناجق(76).

استمر فخر الدين في مناصرة أعوانه في فلسطين وشرقي نهر الأردن، خاصة وأن الخلافات قد عادت إلى السطح بين الأمير أحمد بن طراباي وفخر الدين عام 1032هـ/1622م عندما ساند الأول الأمير يونس الحرفوش في صراعه ضد فخر الدين، وعندما شعر ابن طراباي بأطماع فخر الدين التوسعيّة، رغم محاولات ابن طراباي الإصلاحية بين الشيخ عاصي أحد مشايخ نابلس ومصطفى كتخدا أحد أعوان فخر الدين، ونجاحه في إيقاف الاقتتال بينهما، كما مدّ ابن طراباي حكمه على بلاد عجلون واربد ونابلس وأعطى الحكم فيها لمشايخ موالين له في المناطق المجاورة، فاضطر فخر الدين لمهاجمة الأراضي الخاضعة لحكم أحمد بن طراباي واستولى على برج حيفا، وأمر بإحراق قرى الكرمل، وإزاء هذا الاجتياح المدمّر رحل ابن طراباي والأمير بشير بن قانصوه باتجاه نهر العوجا على حدود غزّة(77).

حاول فخر الدين التوغّل جنوباً للحاق بابن طراباي، وتمكن من إحراز نصراً مؤقتاً، إلى أن دارت رحى معركة عنيفة اشترك فيها عرب المفارجة إلى جانب فخر الدين، وعرب السوالمة إلى جانب ابن طراباي، حقق الأخير فيها نصراً مدوّياً، واسترجع وحلفاؤه ما سبق أن فقدوه، بل ولاحقوا فلول جيش فخر الدين، وألحقوا به الكثير من الإصابات رغم محاولات المؤرخ الخالدي الصفدي التقليل من شأن هذا الانتصار بقوله: "وصارت هزيمة من جانب الحق سبحانه وتعالى، وليس هذا ما يعيب الأمير فخر الدين لأن الحرب سجال تارة وتارة والرجال في الحرب لم تزل غدارة…"(78).

وفي الوقت الذي كانت فيه ممتلكات فخر الدين في لبنان مهددة من جانب يوسف باشا سيفا والأمير يونس الحرفوش اللذان بدأا بمهاجمتها مستغلين فرصة عدم وجود فخر الدين فيها، قرر الأخير العودة لمواجهة الموقف الجديد، وفي أثناء ذلك أغار الأمير علي بن طراباي شقيق الأمير أحمد، على ساحل عكا، وفي طريق عودته إلى بلاده مرّ بحيفا واصطدم بأحد أعوان فخر الدين، نصوح بلوكباشي وسكمانيته، فقتله ولجأ أعوانه الباقون إلى برج حيفا ثم فرّوا بحراً إلى عكا، كما تلاحقت اغارات أحمد بن طراباي ضد أتباع فخر الدين، خاصة في قرية كفر كنّا(79).

تلاحقت الأحداث وبدأت الأمور تتجه نحو أزمة جديدة، فالعداوات القديمة بين فخر الدين والأمير يونس الحرفوش زعيم البقاع اندلعت من جديد، وكان الأمير يونس في وضعٍ سيئ، وتمكن فخر الدين من الاستيلاء على بلدة قب الياس الاستراتيجية التي من خلالها بسط تحكمه على الطريق الرئيسي المهم الذي يربط دمشق ببيروت، علماً بأن الأمير يونس هذا كان حليفاً لفخر الدين من قبل وساعده في العودة إلى لبنان بعد توسطه لدى الباب العالي، ولكنها السياسة بكل تقلباتها.

أدى ازدياد قوة فخر الدين إلى تنبيه مصطفى باشا والي دمشق الذي عمل على التحالف مع الأمير يونس الحرفوش ويوسف باشا سيفا للإطاحة بغريمهم، ومهما يكن من أمر، فقد نجح فخر الدين في بادئ الأمر عن طريق إغداق الرشاوى الباهظة على حاشية الباب العالي في الآستانة، في الحيلــول دون تدخّل الحكومة المركزية، كما تمكن كذلك من تثبيت امتلاكه لصفد ونابلس وعجلون(80).

غير أن سياسة الباب العالي المعتدلة تجاه فخر الدين لم تستمر طويلاً لصالحه فقد أعاد الأخير صلاته بحكومة توسكانيا وسمح لتجارها بالنزول في موانيه، وأعاد جيش السكّبان الذي بلغ مائة ألف من شعوبٍ شتى، عندئذ منح الباب العالي الإذن لوالي دمشق وحلفائه بمهاجمة فخر الدين لتحجيم دوره، وفي هذا السياق دارت معركة شهيرة في تاريخ لبنان الحديث، هي موقعة عنجر عام 1033هـ/1623م هُزم خلالها مصطفى باشا وتم أسره، أما حلفاؤه فقد دُحروا وتشتت فلولهم تماماً، ثم أُطلق سراح الباشا ـ بوساطة وفدٍ من علماء دمشق ـ الذي اضطر فيما بعد للاعتراف بسلطة فخر الدين وممتلكاته، وبذلك بلغ نفوذه الذروة(81).

كانت موقعة عنجر علامة فارقة في تاريخ فخر الدين الثاني، فآل سيفا قبِلوا أخيراً الخضوع المطلق لسلطته وتقديم المال إليه بعد استيلائه على عكار وهدم قلعتها، ومدّ نفوذه شمالاً حتى حدود إنطاكية(82)، أما الوضع في فلسطين فكان مختلفاً تماماً، فالأمراء المحليون فيها رفضوا الانصياع والرضوخ لسلطته، فهاجم أحمد بن طراباي في العام نفسه أعوان فخر الدين الذين يتولون السناجق الفلسطينية وشرقي نهر الأردن وحوران، واستولى على ممتلكات الأمير أحمد بن قانصوه حاكم عجلون والشيخ حسين بن عمرو حاكم حوران ومنح سناجقهما للأمير بشير عم أحمد بن قانصوه والشيخ رشيد، غير أن فخر الدين لم يُسلّم للأمر الواقع بل ساعد أعوانه في استرداد أملاكهم فيما بعد(83).

وتمكن فخر الدين من الحصول على قلعة الصلت (السلط) وعيّن فيها نائباً عنه، كما استولى على نابلس وعزل محمد بن فرّوخ عنها، وبلغ الأمر بفخر الدين مداه بعدما حصل لابنه الأمير منصور على سنجق اللجون بما فيه مدينة جنين مركز آل طراباي الرئيسي، الأمر الذي لم يتقبله الأمير أحمد بن طراباي فكانت ردة فعله أن شكّل تحالفاً من عرب السوالمة وخيالة نابلس وبلاد عجلون والغور بقيادة محمد بن فرّوخ وعرب غزّة الخاضعين لسلطة حسن باشا رضوان حاكم غزّة، لمهاجمة حلفاء فخر الدين من عرب المفارجة، كما هاجم سواحل عكا وأعمل فيها النهب والتخريب، واستمرت المعارك بين الطرفين سجالاً، وأثبتت القبائل العربية بإمرة ابن طراباي ومؤيديه صلابة في المقاومة تجاه فخر الدين وقواته من السكمانية المرتزقة، خاصة في الموقعة التي دارت عند نهر العوجا قرب يافا عام 1033هـ/1623م، التي انتصر فيها ابن طراباي واسترجع مدينة جنين، وألحق الكثير من الخسائر في جيش خصمه، وقد أشار المؤرخ المحبي لهذه الموقعة بقوله:"أشهر وقعاته (أي أحمد بن طراباي) وقعة يافا، ومعه حسن باشا (رضوان) حاكم غزة، والأمير محمد بن فرّوخ أمير نابلس، فقتل من جماعة معن مقتلة عظيمة"(84).

وتوالت هجمات أحمد بن طراباي على ممتلكات الأمير فخر الدين وتخريبها، واستولى على قرية أبي سنان التابعة لسنجق عكا، وحقق عدة انتصارات أذهلت فخر الدين وولده الأمير علي، ولما كانت تكاليف القتال باهظة على الطرفين المتحاربين فقررا التعايش وفتح صفحة جديدة من الوفاق السلمي أو ما يُصطلح على تسميته في التاريخ المعاصر بالحرب الباردة، وقامت بين الطرفين مفاوضات أسفرت عن صلحٍ في شوال من العام نفسه، من أهم شروطه أن تنسحب قوات فخر الدين من حيفا وبرجها بعد هدمه، وأن يمنع ابن طراباي عربانه عن تخريب بلاد صفد التابعة لفخر الدين، كما يتعهد أيضاً بتأمين الطريق بين بلاد صفد وبلاد حارثة، وتخلّى فخر الدين عن جبل نابلس لابن طراباي، واعترف بامتداد حدود سلطته إلى حيفا، وبذلك لم يعُد أي من الطرفين يتعرض للطرف الآخر(85).

ويبدو أن المتاعب التي واجهت فخر الدين في فلسطين وشرقها قد ازدادت فيما بعد، ففي العام نفسه تعرضت قلعتي الصلت وعجلون لخطر داهم من جانب الأمير بشير بن قانصوه بعدما فرض عليهما حصاراً خانقاً، دعا القائمين على أمرها لتسليمهما له، ولما كان الأمير بشير يدرك أن فخر الدين لن يدعه يهنأ بما حصل عليه من مكاسب أرسل في طلب الصلح معه، وبعد المباحثات التي تمت بين الطرفين، اتفقا على أن يكون الأمير بشير حاكماً على سنجق عجلون نائباً عن الأمير حسين بن فخر الدين(86).

وبحلول عام 1034هـ/1624م استتب الأمر لفخر الدين في فلسطين وما جاورها بعد تيقنه من استمرار أواصر المودة وعلاقته الحسنة بالأمير أحمد بن طراباي، وبشير بن قانصوه، واحتفاظ ابنه الأمير علي بسنجق صفد الاستراتيجي، ووفاة منافسه التقليدي يوسف باشا سيفا(87)، هذا الأمر جعل العثمانيين في موقفٍ صعب لا قِبل لهم بمواجهته بسبب انشغالهم آنذاك بمحاربة الصفويين، لذلك اضطر السلطان مراد الرابع للاعتراف بسلطة فخر الدين ومنحه فرماناً ولاه بموجبه على بلاد عربستان(88) من حدود حلب إلى القدس، كما منحه لقب سلطان البرـ الذي حمله جدّه فخر الدين الأول من قبل ـ شريطة أن يقوم بتقديم مال الميري لخزينة الدولة، وأن يحافظ على الأمن في منطقته، هذا الفرمان المهم حصل عليه فخر الدين مقابل ما دفعه من ثمنٍ غالِ ومرتفع(89).

استمرت سياسة الوفاق بين فخر الدين وأحمد بن طراباي حوالي عشرة سنوات، لكن التوتر عاد بينهما عام 1043هـ/1633م عندما حرّض الأمير علي بن فخر الدين عرب الوحيدات ضد آل طراباي، ويبدو أن فخر الدين كان على دراية بما قام به ولده، فرّد آل طراباي بمساعدة الأمير محمد بن فرّوخ بمهاجمة بلاد صفد التابعة للأمير علي ونهبها، وكان والي دمشق أحمد باشا كوجك قد لعب دوراً مشبوهاً في تأجيج التوتر بين القوى المحلية من جديد، مما أدى إلى مقتل الأمير علي بن فخر الدين(90)، والظاهر أن المهمة التي قام بها والي دمشق جاءت كرد فعل من جانب الباب العالي لعدم سماح فخر الدين لفرقة عسكرية عثمانية كانت متجهة لحرب الصفويين عام 1041هـ/1631م من قضاء فصل الشتاء في دياره، بل وصل الأمر لحد طرده لهذه الفرقة بقوة السلاح(91).

شعر فخر الدين أن ساعة الحسم بينه وبين السلطات العثمانية قد حانت، فبدأ بتعزيز دفاعاته، فبنى حصناً في المنطقة الواقعة بين حلب وإنطاكية، وحُصناً اُخر في قب الياس في البقاع، وبانياس في الجنوب، وتدمر ما زال يُعرف باسمه، وإذا كان السلطان مراد الرابع قد اضطر في بداية عهده لمنح فخر الدين سلطات واسعة في بلاد الشام، لِصغر سنه؛ لكنه عمد فيما بعد إلى إحكام سيطرة الدولة وإبراز هيبتها بعدما بدت عليها بعض الإشارات التي تنمُّ عن تجديد حيويتها، وبعدما خشي من الترتيبات الدفاعية التي قام بها فخر الدين، واستمرار اتصالاته مع الأوروبيين. تلك الأمور مجتمعة دعت السلطان مراد الرابع إلى توجيه أمرٍ لأحمد باشا كوجك عام 1043هـ/1633م بالتوجه لقتال فخر الدين على رأس جيشٍ كبير من جنود الأناضول ومصر، كما أرسل أسطولاً بحرياً لمهاجمة المرافئ والحصون الساحلية، مما أدى لهزيمة فخر الدين واختبائه في قلعة نيحا بضعة أشهر ثم انتقاله إلى كهفٍ حصين قرب جزّين، حتى تمكن العثمانيون أخيراً من إلقاء القبض عليه وإرساله إلى الآستانة أسيراً، ثم إعدامه فيها في 13 نيسان (أبريل) 1635م/1045هـ(92).

أدّى القضاء على فخر الدين وحركته الانفصالية الطموحة لإقامة كيان مستقل عن الدولة العثمانية إلى حدوث فوضى شاملة في لبنان وفلسطين؛ ففي لبنان تجددت العداوات القديمة بين الأُسر الإقطاعية التي كانت تخضع لسلطة المعنيين(93)، كما عمد العثمانيون إلى فصل صيدا عن دمشق، وجعلوا منها ولاية مستقلة عام 1071هـ/1660م لمراقبة شؤون لبنان، وتم فصل بيروت كذلك وألحقوها بدمشق، ولم يظهر في البيت المعني شخصية قوية من طراز فخر الدين الثاني تواصل سياسته(94)، أما في فلسطين، فقد كان فخر الدين قد أضعف في أثناء فترة حكمه بطريقٍ مباشر أو غير مباشر، الأمراءَ المحليين فيها، وبعد مقتله كانت بعض هذه الأُسر الحاكمة قد تلاشت على يديه، بينما بعضها الآخر كان في طريقه للانحلال بفعل تأثيره(95).

وتجدر الإشارة إلى أن بعض الأُسر الحاكمة في فلسطين تصرّفت طوال فترة حكم فخر الدين تصرف الندّ له، خاصة الأمير أحمد بن طراباي الذي كانت ممتلكاته مجاورة لمناطق نفوذ فخر الدين من ناحية، ولأنه هو الآخر كانت له مطامحه في السيادة على الجزء الشمالي من فلسطين كله؛ فكان بذلك شوكة في خاصرة فخر الدين ومنافساً له(96).

وبمقتل فخر الدين الثاني انتبهت الدولة العثمانية لجنوب الشام ولطريق الحج التي تعطّلت بسببه، فأرسلت حملة بقيادة عبد الله باشا النمر أحد قادة منطقة نابلس، حيث تمكن هو وأولاده وأحفاده فيما بعد من إقامة إمارة مستقرة، موالية للحكم العثماني(97).

وفي هذا المضمار تجدر الإشارة أيضاً إلى عدة عوامل دفعت الأمراء المحليين في فلسطين من سيطرة فخر الدين عليهم، منها:

إحساسهم العميق بأنه ينافسهم على السيادة أو الزعامة القبلية، ويريد أن يفرض سيادة قبيلته عليهم، في الوقت الذي كانوا يشعرون فيه أنهم ليسوا أقل منه كفاءة ولا أضعف منه عصبية قبلية.
أنهم كانوا يدركون حقيقة أطماعه ونواياه التوسعية تجاه سناجقهم من ضم وسيطرة.
أن ولاة دمشق المتعاقبين لم يرغبوا في الاستسلام لرغبات فخر الدين وأطماعه في ولايتهم بسهولة، وقد دفعهم هذا الموقف للتنسيق مع حكّام الألوية الخاضعة لنفوذهم، للقيام بعمل عسكري بهدف الحد من نفوذه وتغيير الوضع السياسي الذي فرضه عليهم(98).
بقي أن نشير إلى الوجه الحضاري الذي خلفه فخر الدين في فلسطين، على قلته، فقد اهتم بتشجيع التجارة مع أوروبا، ولهذا الغرض ابتنى في عكا حصناً وخاناً لإقامة التجار الأجانب بعد أن اتخذ عدداً من التجار الفرنسيين والإنكليز والهولنديين من عكا مركزاً لتجارة القطن. فقد أشار حيدر الشهابي في حوادث سنة 1032هـ/1622م إلى وصول مركبين تجاريين فرنسيين إلي عكا لشحن القطن(99)، كما كانت فرنسا تستورد في السنوات التي بها جفاف كميات كبيرة من القمح والأرز من عكا وحيفا، حيث شوهدت في ميناء عكا 32 مركباً حمولة أصغرها 150 طناً، وحمولة أكبرها 600 طن، قدمت لشحن القمح(100)، كما سمح فخر الدين لمجموعة من التجار الفرنسيين باستيطان عكا في الفترة ما بين 1034ـ1043هـ/1624ـ1633م(101).

وفي صفد شيّد فخر الدين مغارة الحمام سنة 1022هـ/1613م، وسُميت قلعة ابن معن، كما أنجز سور تل الهريج بالقرب من صفد(102)، أما يافا فلم تشهد في عهد فخر الدين سِوى أثراً عمرانياً وحيداً هو القلعة وعمل على ترميم أسوارها(103).

وتحسنت أحوال المسيحيين في الناصرة زمن فخر الدين نتيجة لسياسة التسامح الديني التي انتهجها؛ ففي عام 1030هـ/1620م سمح للرهبان الفرنسيسكان بترميم كنيستها القديمة المعروفة بالسانتا، وبناء ديرٍ بالقرب منها؛ ولكن في عام 1040هـ/1630م قبيل القضاء على فخر الدين، بدأت أحوال المسيحيين في الناصرة بالتدهور نتيجة لاستيلاء آل طراباي على جزءٍ كبير من الجليل، حيث شرعوا في مضايقة الرهبان نكاية بفخر الدين(104).

خاتمة الدراسة

نستطيع القول، أن طموح فخر الدين المعني الثاني لإقامة إمارة إقليمية يكون هو زعيمها، لم تكن وليدة الصدفة أو نتاج التراكمات السياسية التي جعلت من بلاد الشام عامة ولبنان وفلسطين خاصة مرتعاً للكثير من الحكّام المحليين الذين كان كلٌ منهم يحكم منطقة بعينها، لكن هذا الطموح كان بالدرجة الأولى يعود لخططٍ طموحة من جانب أسلافه، كجده فخر الدين المعني الأول ثم والده قرقماز، ورغم أن أسلافه فشلوا مبكراً في تحقيق أي من أهدافهم، إلا أن فخر الدين الثاني تمكن من تحقيق كل النجاح في لبنان، وقضى على منافسيه الأقوياء، وحقق بعض النجاحات المؤقتة في فلسطين، لكنه لم يستطع فرض كامل سلطته عليها.

والسبب المباشر والرئيسي لاهتمام فخر الدين الثاني بالتوسع في فلسطين لا يعود في المقام الأول لدوافع طائفية كما ذكر البعض، وإنما لأسباب حزبية بحتة، ولا سيما الصراع بين الحزبين الرئيسيين في بلاد الشام، القيسي واليمني، حيث اشتعلت أوار الحروب والمنازعات بين هذين الحزبين من أجل سيادة النظام القبلي، خاصة في لبنان وفلسطين.

وأثبتت الدراسة أن تدخل فخر الدين الثاني في شؤون فلسطين العثمانية، كان لأهدافٍ شخصيةٍ بحتة لا لمصلحة قومية عليا كقمع ثائر متمرد على السلطة المركزية على سبيل المثال، فجلّ حكّام فلسطين المحليين كانوا من الموالين للسلطات العثمانية سواء في دمشق أو في الآستانة نفسها، وكان هدف فخر الدين هو منح السناجق الفلسطينية سواء في شرقي نهر الأردن أو في غربه إما لأبنائه أو لأعوانه الموالين له.

وشخصية فخر الدين الثاني لم تكن تصرفاتها تنم عن اتجاه مغامر كما يحلو للبعض وصفه بذلك، ولكنها تصرفات رجل طموح شابت أفعاله الكثير من الأطماع لبناء مجدٍ ذاتي يخلده في المدونات التاريخية، ورجل بمثل تلك المواصفات يصعب عليه المقامرة بمستقبله ومشروعه السياسي التوسعي في خضم مغامرة قد تنجح وغالباً ما ستفشل، وما يحُسب لفخر الدين أنه كان متأنياً في اتخاذ القرارات فحقق الكثير من النجاحات.

كما أثبتت الدراسة أن عودة فخر الدين من أوروبا ـ منفاه الاختياري ـ واختياره لمرفأ عكا لتكون أول بقعة في الشرق تطأه قدماه، لها رمزية خاصة لديه، تبيّن أهمية فلسطين في مشروعه التوسعي سواء كان قبل مغادرته إلى أوروبا أو في مخططاته اللاحقة التي نوى الشروع في تنفيذها.

ومما يجدر ذكره أن موقعة عنجر عام 1033هـ/1623م كانت علامة فارقة في تاريخ فخر الدين، فحكّام لبنان المحليون والموالون للسلطات العثمانية خضعوا بعدها لنفوذه، وازدادت محاولاته للحصول على أكبر قدر ممكن من الكاسب في السناجق الفلسطينية، وأكثر من ذلك اضطرت الدولة العثمانية للاعتراف بسلطته بعد أربعة وثلاثين عاماً من صراعه الطويل مع ممثليها، ومنحته فرماناً يكون بموجبه حاكماً على بلاد عربستان من حدود حلب إلى القدس، كما منحته لقب سلطان البر وهو اللقب نفسه الذي منحته من قبل لجده فخر الدين الأول.

ولم تسِرْ العلاقة بين فخر الدين والزعامات المحلية الفلسطينية على وتيرة واحدة، فهي دوماً صدامية بين الطرفين تتجاذبها حالتي المد والجزر؛ وان كانت هذه الزعامات قد حققت الكثير من الانتصارات على فخر الدين، أما بعض المكاسب التي حققها الأخير في فلسطين؛ فإنما تعود لسياسته الحكيمة في بعض الأحيان لا لقوته العسكرية وذلك من خلال وكلائه في الآستانة حيث أغدق عليهم الأموال الطائلة ليسهّلوا له مهمة شراء المناصب وتعيينه على بعض السناجق في فلسطين وشرقي نهر الأردن، وأحياناً قليلة كانت سياسة الوفاق ترجح بين فخر الدين من ناحية والأمير أحمد بن طراباي حاكم اللجون من ناحية أخرى، لكنها فشلت في النهاية لعدم وجود دعائم ترسّخها، وأُخذ على فخر الدين أنه فشل في الاحتفاظ بفلسطين بسبب عدم محاولته رأب الصدع بين الحزبين المتنافسين وقتذاك، وكان هو شخصياً زعيماً لإحداهما ولم ينجح في التقريب بين وجهات نظرهما، وبالتالي فشل في أن يطوي زعماء فلسطين بين جناحيه.


--------------------------------------------------------------------------------

الحواشي

(1) علي، محمد كرد: خطط الشام.ج3، دمشق 1343هـ (1925م). ص236. والعابدي، محمود: صفد في التاريخ. عمان1977، ص64-65.

(2) الشهابي، حيدر (الأمير): تاريخ الأمير حيدر الشهابي. علق على حواشيه: د.مارون رعد، 4 أجزاء، ج3، دار نظير عبود، بيروت 1993، ص738.

(3) تشرشل، تشارلز: جبل لبنان (عشر سنوات إقامة) 1842-1852. ترجمة: فندي الشعار، دار المروج للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت 1985، ص56.

(4) حتي، فيليب: تاريخ سورية ولبنان وفلسطين. ترجمة: د.كمال اليازجي، جزءان، ج 2، دار الثقافة، بيروت1959، ص279.

(5) الشهابي، حيدر: نفس الصفحة.

واستطراداً لما ذهبنا إليه من ذكاء فخر الدين الأول؛ أنه لما دخل على السلطان سليم في دمشق، دعا له دعاءً بليغاً. وقد أدهشت بلاغته سليماً فكرّمه ومنحه شرف الأولوية على كل أمراء الشام، ومنحه لقب سلطان البر.

نفس المرجع، ص740-741.

(6) Ismail,Adel,Histoire du Liban du xvII siècle a nos jours, vol.1,Le Liban au temps de Fakhr-eddin II (1590-1633), Paris1955,p.54.

(7) Ibid.

(8) بازيلي، قسطنطين: سورية وفلسطين تحت الحكم العثماني. ترجمة: طارق معصراني، دار التقدم، موسكو1989، ص28. ولوتسكي، فلاديمير: تاريخ الأقطار العربية الحديث. ترجمة: د.عفيفة البستاني، مراجعة: يوري روشين، ط8، دار الفارابي، بيروت 1985، ص14.

(9) السنجق أو الصنجق: لفظ تركي استعمل بمعنى العَلَم، أو الراية، وبمعنى الرمح، أو اللواء. والسنجق وحدة إدارية ضمن الولاية، عُرف حاكمه بلقب سنجق بك بالتركية وأمير لواء بالعربية، وعُرفت المنطقة التي يحكمها بالسنجق أو اللواء. وكان السنجق يُقّسم إلى عددٍ من النواحي، ويُسمى السنجق أو اللواء عادة باسم عاصمته وهي أكبر مدنه مثل سنجق القدس وغزّة…الخ. أما لواء اللجون فلم يُسمَّ نسبة إلى مدينة؛ لأنه استحُدث بخاصة لأسرة طراباي الحارثية وأبناؤها من زعماء بني حارثة التي كانت تتصرف بالمنطقة كإقطاع.

انظر: دهمان، محمد أحمد: معجم الألفاظ التاريخية في العصر المملوكي. ط1، دار الفكر، دمشق1410هـ (1990م)، ص93. ورافق، عبد الكريم: فلسطين في عهد العثمانيين (1). الموسوعة الفلسطينية، القسم الثاني-الدراسات الخاصة، المجلد الثاني، الدراسات التاريخية، ط1، بيروت 1990، ص699.

(10) رافق: المرجع السابق، ص698-699.

(11) لمزيد من التفاصيل عن طريق الحج الغزّاوي، أنظر:هيئة الموسوعة الفلسطينية: الموسوعة الفلسطينية. القسم العام، 4 أجزاء، ج3، ط1، دمشق 1984، ص112-113.

(12) رافق: المرجع السابق، ص700-702.

(13) عبد الكريم، أحمد عزت: "التقسيم الإداري لسورية في العهد العثماني". حوليات كلية الآداب، جامعة عين شمس، المجلد الأول، مايو 1951، ص134، 173-175. وبولياك: الإقطاعية في مصر وسورية وفلسطين ولبنان. ترجمة: عاطف كرم ، بيروت1948، ص137-146.

(14) وُلد فخر الدين المعني الثاني عام 980هـ/1572م في بعقلين عاصمة الإمارة المعنية آنذاك، من أم تنوخية ذات شخصية فذّة وصيت نبيل هي "الست نسب" شقيقة الأمير سيف الدين التنوخي. وكان والده الأمير قرقماز قد ورث الإمارة عن أبيه الأمير فخر الدين الأول ، فترعرع فخر الدين الثاني مع أخيه يونس في كنف والديه حتى بلغ الثانية عشرة من عمره عام 992هـ/1584م. وبعد موت أبيهما احتضنتهما أمهما الست نسب وخالهما الأمير سيف الدين التنوخي. ولما بلغ فخر الدين الثامنة عشرة من عمره عام 999هـ/1590م ولاه خاله المذكور إمارة أبيه، فأصبح فخر الدين أميراً للدروز والشوف.

انظر: الشهابي ، حيدر: نفس المرجع ، ج3، ص807. وسويد، ياسين: التاريخ العسكري للمقاطعات اللبنانية في عهد الإمارتين. جزءان، ج1، المؤسسة العربية للدراسات، بيروت1985، ص153.

بينما يذكر تشارلز تشرشل، أن الأمير فخر الدين وأخوه الأمير يونس كانا بعد وفاة أبيهما تحت رعاية الشيخ أبو نادر الخازن الماروني، الذي أسندت إليه أمهما العناية بهما لإنقاذهما من أعوان العثمانيين.

جبل لبنان، ص61.

(15) مجهول المؤلف: نزهة الزمان في حوادث لبنان. مخطوط في المكتبة الوطنية بباريس، رقم Arabe 1684 ، ورقة 17أ-17ب. والشهابي، حيدر: المرجع السابق، ص806. والحتّوني، منصور طنوس: نبذة تاريخية في المقاطعة الكسروانية. بدون بيانات نشر، بدون تاريخ، ص60-61.

(16) سويد: المرجع السابق، ص153. و:

-Holt (P.M.),Egypt and the Fertile Crescent1516-1922,Cornell University press, New York 1966,p.115.

(17) لوتسكي: المرجع السابق، ص35-36.

(18)Ibid.

(19) المعلوف، عيسى اسكندر: "الأمراء الحرفشيون". مجلة العرفان، مجلد9 (من ربيع الأول إلى ذي الحجة 1342هـ )، ص291-297.

(20) العورة، إبراهيم: تاريخ ولاية سليمان باشا العادل. نشره وعلق عليه: قسطنطين الباشا المخلصي، صيدا 1936، ص111. و:

-Charles-Roux (F.), Les Echelles des Syrie et de Palestine au XV III siècle, Paris 1928, p207.

(21) Lammens (S.J.), La Syrie précis Historique, vol.II, Beyrouth 1921, pp.71-72.

-Holt,op.cit,p.115.

(22) الصليبي، كمال: تاريخ لبنان الحديث. ط2، دار النهار للنشر، بيروت 1969، ص34-35. والمعلوف، عيسى اسكندر: تاريخ الأمير فخر الدين المعني الثاني. ط2، منشورات المطبعة الكاثوليكية، بيروت 1966، ص56.

ويبدو أن السبب الذي دعا المعنيون للتخلي عن الحزب اليمني والتحالف مع الحزب القيسي، يعود لخلاف حصل بين فخر الدين الأول والأمير جمال الدين الأرسلاني، وكلاهما من اليمنية بسبب التنازع على حكم الشوف والغرب وغير ذلك من الأمور، فانحاز فخر الدين الأول إلى القيسية ومعه كامل أسرته ومن خلفه منها في الحكم بعده.

المعلوف: المرجع السابق والصفحة نفسها.

(23) الحتّوني: المرجع السابق، ص63. و:Holt, op.cit, p.115.

.(24) الموسوعة الفلسطينية، ج1، ص100.

ولمزيد من التفاصيل عن أسرة طراباي الحارثية. أنظر:

كرمل ، ألكس: تاريخ حيفا في عهد الأتراك العثمانيين. ترجمة: تيسير الياس، دار المشرق، حيفا1979، ص47-48. ومناع، عادل: تاريخ فلسطين في أواخر العهد العثماني 1700-1918 (قراءة جديدة). ط1، مؤسسة الدراسات الفلسطينية، بيروت 1999، ص11-12. والصباغ، ليلى: فلسطين في مذكرات الفارس دارفيو. ط1، مؤسسة المصادر للتأليف والترجمة والطباعة والنشر، بيروت 1416هـ (1996م)، ص172-173. والبوريني، الحسن بن محمد: تراجم الأعيان من أبناء الزمان. تحقيق: د.صلاح الدين المنجد، جزءان، ج2، دمشق 1959، 1966، ص273. والمحبي، محمد الأمين: خلاصة الأثر في أعيان القرن الحادي عشر. 4 أجزاء، ج1، القاهرة 1284هـ (1869م)، ص221. وابن طولون، محمد: مفاكهة الخلاّن في حوادث الزمان. نشر: محمد مصطفى، جزءان، ج1، ص22 وج2، ص43، 72، 79، 145، القاهرة62-1964.

(25) المحبي: المرجع السابق، ج1، ص187 وج2، ص417 وج3، ص271. والخالدي الصفدي: المرجع السابق، ص102. والبوريني: ج1، ص202 وج2، ص289. ومناع: المرجع السابق، ص13.

ولمزيد من التفاصيل عن فرّوخ بن عبد الله الشركسي. أنظر:

المحبي: ج3، ص271. والخالدي الصفدي: ص7. والمقاري، محمد بن جمعة: الباشات والقضاة في العهد العثماني. جمعها وحققها ونشرها: د. صلاح الدين المنجد ، في كتاب: ولاة دمشق في العهد العثماني ، دمشق1949، ص18. والدباغ، مصطفى مراد: بلادنا فلسطين. القسم الثاني، ج2، في الديار النابلسية (1)، دار الهدى، كفر قرع 1991، ص145.

(26) الموسوعة الفلسطينية، ج2، ص460. والمبيض، سليم عرفات: وقفية موسى باشا آل رضوان سنة1081 هـ، مكتبة ابن سينا للنشر والتوزيع والتصدير، القاهرة2000، ص19.

(27) الموسوعة الفلسطينية، ج2، ص460-461. ومناع: المرجع السابق، ص9-10.

ولمزيد من التفاصيل عن أسرة آل رضوان. أنظر:

البوريني: ج1، ص 112، 191. ورافق، عبد الكريم: بلاد الشام ومصر من الفتح العثماني إلى حملة نابليون بونابرت (1516-1798). ط1، دمشق 1967، ص164.

(28) حتي: تاريخ سورية، ج2، ص327.

(29) تشرشل: المرجع السابق، ص61.

(30) رافق، عبد الكريم: العرب والعثمانيون 1516-1916. ط1، دمشق 1974، ص148. وعوض، عبد العزيز محمد: الإدارة العثمانية في ولاية سورية1864-1914. تقديم: د.أحمد عزت عبد الكريم، دار المعارف، القاهرة1969، ص13.

(31) دي سان بيير، بيجيه: الدولة الدرزية. ترجمة: حافظ أبو مصلح، ط1، المكتبة الحديثة للطباعة والنشر، بيروت 1983، ص39.

استخدم فخر الدين الثاني عدة وسائل لتحقيق طموحاته منها: التزاوج والدس والرشوة وإقامة التحالفات والتورط في القتال وتحريض الأهالي بالتمرد على موظفي الدولة العثمانية وآل سيفا.

حتي: المرجع السابق والصفحة نفسها. وتشرشل: المرجع السابق والصفحة نفسها.

(32) المحبي: ج4، ص426-428. والغزّي، نجم الدين محمد بن بدر الدين: لطف السحر وقطف الثمر من تراجم أعيان الطبقة الأولى من القرن الحادي عشر، أو ذيل الكواكب السائرة بمناقب أعيان المائة العاشرة، مخطوط موجود في مكتبة الأسد بدمشق، رقم 3406، ورقة 212أ -212ب. والأنصاري، شرف الدين بن موسى: نزهة الخاطر وبهجة الناظر. مخطوط في مكتبة الأسد بدمشق، رقم 7814، ورقة 117ب-119ب. والنمر، إحسان: تاريخ جبل نابلس والبلقاء. ج1، ط2، نابلس1395هـ (1975م)، ص32-33.

(33) حتي: المرجع السابق، ص327. والدبس، يوسف: تاريخ سورية. راجعه ودققه: د.مارون رعد، 10 أجزاء ، ج7، دار نظير عبود، بيروت، بدون تاريخ، ص152.

(34) تقطن هذه الأسرة الكردية الأصل الآن في لبنان بعدما تم القضاء على ثورة علي باشا جنبلاط ومقتله. وقد تحولت إلى العقيدة الدرزية بعدما كان أفرادها مسلمون سُنَّة.

لمزيد من التفاصيل عن تمرد آل جنبلاط في شمال سورية. أنظر:

رافق: العرب، ص156-162.

(35) الغزّي: المرجع السابق، ورقة 211أ-211ب. وحتي: المرجع السابق والصفحة نفسها. وHolt,op.Cit, p.116.

(36) سويد: المرجع السابق، ص77. ورافق: المرجع السابق، ص151.

(37) رافق: المرجع السابق والصفحة نفسها.

(38) المحبي: ج1، ص187-189. والبوريني: ج1، ص191-192.

(39) المحبي: ج1، ص221. والبوريني: ج2، ص273-289.

(40) المحبي: ج2، ص127. والبوريني: ج1، ص202 وج2، ص289.

(41) رافق: المرجع السابق، ص154.

(42) الأسطل، رياض محمود: تاريخ فلسطين الحديث والمعاصر. ط2، غزة 2000، ص39.

(43) نفس المرجع، ص44.

(44) رافق: المرجع السابق، ص153.

(45) نفسه.

(46) Holt, op.cit, p.116.

(47) السكَّبان أو السجَّمان: لفظة من أصل فارسي بمعنى (سكّ) الكلب و(بان) الحافظ والصاحب، والسكَّبان هو المتولّي أمر كلاب الصيد. فالسكبانية في الدولة العثمانية بعد عام 1350م كانوا مستقلين عن الإنكشارية، ويرافقون السلطان في الحرب والصيد.

دهمان: معجم الألفاظ التاريخية، ص89.

(48) في النصف الأول من القرن الخامس عشر تمكنت أسرة من التجار وأصحاب البنوك تُدعى أسرة مديتشي Midici من الاستيلاء على الحكم عندما تمكن أحد رؤسائها ويُسمى كوزيمو دي مديتشي في عام 1434م أن يقوم بثورة ضد الحاكم ويؤسس جمهورية توالى على حكمها رؤساء من تلك الأسرة.

طهبوب، فائق وحمدان، محمد سعيد: تاريخ العالم الحديث والمعاصر. ط2، منشورات جامعة القدس المفتوحة، عمان 1998، ص100. والنمر: المرجع السابق، ج1، ص33.

(49) Ismail, op.cit, pp.77-78.

(50) Holt, op.cit, p.116.

(51) الأسطل: المرجع السابق، ص48. والشهابي، حيدر: المرجع السابق، ص812. وبروكلمان، كارل: تاريخ الشعوب الإسلامية. ترجمة: نبيه أمين فارس ومنير البعلبكي، ط13، دار العلم للملايين، بيروت 1998، ص513.

(52) الأسطل: نفس الصفحة.

(53) رافق: العرب، ص163.

(54) الشهابي، حيدر: المرجع السابق، ص816-817. والموسوعة الفلسطينية، ج1، ص100. والدباغ: بلادنا فلسطين، القسم الثاني، ج3، في الديار النابلسية (2)، ص38-39.

(55) الخالدي الصفدي: المرجع السابق، ص6. والشهابي، حيدر: ص817. والموسوعة الفلسطينية، ج1، ص100.

(56) رافق: المرجع السابق، ص163. والمقاري، محمد بن جمعة: المرجع السابق، ص29.

(57) Ibid.

(58) الخالدي: ص7-8. والشهابي: نفس الصفحة. والدبس: المرجع السابق، ج7، ص153.

تضارب الخالدي الصفدي وحيدر الشهابي في ذكرهما ابن قانصوه الذي تم عزله عن عجلون والكرك، فتارة يذكرون أنه حمدان بن قانصوه وتارة أخرى يذكرون أنه أحمد بن قانصوه، والأرجح أن يكون حمدان؛ لأن المصدرين نفسيهما قد استقرا فيما بعد على حمدان.

(59) الخالدي: ص8-9. والشهابي: ص817-818. و Holt, op.Cit, p.117.

(60) لمزيد من التفاصيل. أنظر:

الخالدي: ص9-10. والشهابي: ص818-820.

(61) لمزيد من التفاصيل.انظر:

الخالدي: ص15-16. والشهابي: ص820-823. والمحبي: ج1، ص380-382 وج3، ص266-267. والدبس: المرجع السابق ، ج7، ص154. والبوريني: ج1، ص201-210. والحتّوني: المرجع السابق، ص67-68. والمعلوف: المرجع السابق، ص90-110. و Holt, op.Cit, p.117.

(62) الخالدي: ص33. والشهابي: ص829. والبخيت، محمد عدنان: "من تاريخ حيفا العثمانية: دراسة في أحوال الساحل الشامي". مجلة شؤون فلسطينية (94)، أيلول (سبتمبر) 1979، ص100.

(63) لمزيد من التفاصيل حول جهود الأمير علي لاسترداد أملاك أبيه فخر الدين. أنظر:

الخالدي: ص19-65. والشهابي: ص823-851.

(64) رافق: العرب، ص164. و Ibid.

يذكر إحسان النمر أن الصدر الأعظم محمد باشا الخازندار الذي خلف نصوح باشا، كان مرتشياً من حكومة توسكانيا، فكان له دور في إصدار عفو عن فخر الدين وغيره من الثائرين على الدولة العثمانية.

جبل نابلس، ج1، ص39.

ويبدو أن فخر الدين قد قام في عام 1615م بزيارة قصيرة للبنان ثم عاد بعدها إلى أوروبا. وفترة الخمس سنوات التي قضاها المذكور في أوروبا زار خلالها ليغهورن وفلورنسا حيث أعدّ له البلاط الفلورنسي استقبالاً حافلاً، ونابولي وبالرمو ومسينا ومالطة وغيرها من المدن. وقد أثار ظهور فخر الدين أمير الدروز فضول أوروبا التي كانت لا تزال تجهل أية معلومات عنهم. كما شاعت في الغرب أسطورة تزعم أن اسم الدروز نفسه مشتقاً من اسم كونت صليبي يُدعى دي ديريه Dreux، أي أن الدروز هم أعقاب الصليبيين الذين تاهوا في جبال لبنان. ويبدو أن فخر الدين كان يؤكد هذه الأسطورة التي جعلته محط الأنظار والاهتمام الشديد في الغرب.

وبالإضافة إلى ما سبق؛ فإن فخر الدين رغم أنه أُصيب بخيبة أمل في فشل مساعيه للعودة من أوروبا مصحوباً بحملة من الدول الأوروبية والبابا لمساعدته في حرب العثمانيين، غير أنه استفاد من الغرب كثيراً حيث تشرّب فيها من الأفكار ما قوّى اعتقاده بصحة المبادئ التي عمل في السابق بوحيها، بدلاً من أن يِضعفه بشأنها ويحوله عنها. حتي: تاريخ سورية، ج2، ص329. وبازيلي: تاريخ سورية، ص31.

(65) الخالدي: ص69. والشهابي: ص855. والحتّوني: ص71.

(66) الخالدي: نفس الصفحة. والشهابي: ص856.

(67) رافق: العرب، ص164.

(68) الخالدي: ص69-70.

(69) Holt, p.117.

(70) الخالدي: ص84-87. والشهابي: ص863-864.

(71) الخالدي: ص87.

(72) نفس المرجع ، ص95-96 ، 104-105.

(73) نفس المرجع ، ص112.

(74) نفس المرجع ، ص113-116. والشهابي: ص877-878.

(75) الخالدي: ص117-120. و Ibid.

(76) نفس المرجع، ص124-125، 130-133. والدباغ: القسم الثاني، ج2، في الديار النابلسية (1)، ص146.

(77) لمزيد من التفاصيل. أنظر:

الخالدي: ص129-139. والشهابي: ص885-890. والدباغ: ق2، ج3، ص40.

(78) الخالدي: ص139-141. والشهابي: ص890-892.

(79) الخالدي: ص142.

(80) Holt, op.cit, pp.117-118.

(81) Ibid. والنمر: المرجع السابق، ج1، ص39- 40.

(82) رافق: العرب، ص165. وتشرشل: المرجع السابق، ص77.

(83) الخالدي: ص177،183-184. والشهابي: ص910-911.

(84) لمزيد من التفاصيل عن حروب أحمد بن طراباي مع فخر الدين. أنظر:

الخالدي: ص184-194. والمحبي: ج1، ص221-222 وج3، ص267 وج 4، ص295. والشهابي: ص912 - 915. والدباغ: المرجع السابق، ق 2، ج2، في الديار النابلسية (1)، ص147.

(85) الخالدي: ص196-198. والشهابي: ص916-917.

(86) لمزيد من التفاصيل. أنظر:

الخالدي: ص201-204. والشهابي: ص918-920.

(87) الخالدي: ص205-206.

(88) بلاد عربستان: هي المنطقة التي تقع من حدود حلب شمال سورية إلى حدود القدس، أي المناطق القبلية الواقعة خارج نطاق المقاطعات والمدن التي يديرها الولاة العثمانيين.

Holt, p.118.

(89) الخالدي: ص242. والحتّوني: ص76. و Ibid.

(90) الخالدي: ص245-247.

(91) بروكلمان: تاريخ الشعوب الإسلامية، ص514. والنمر: المرجع السابق، ج1، ص40.

(92) لمزيد من التفاصيل. أنظر:

المحبي: ج1، ص385-388 وج 3، ص267-268. والمقاري ، محمد بن جمعة: المرجع السابق ، ص32. والمعلوف: المرجع السابق، ص188-243، 247، 302. ومجهول المؤلف: نزهة الزمان، ورقة 23ب. وتشرشل: جبل لبنان، ص89-90. وحتي: المرجع السابق، ص332-333. و Holt, pp.118-119.

(93) حتي، فيليب: مختصر تاريخ لبنان. ترجمة: فؤاد جرجس نصار، ط1، دار الثقافة، بيروت1968، ص188.

(94) نفسه. وأنيس، محمد: الدولة العثمانية والشرق العربي (1514-1914). القاهرة 1977، ص156. والبخيت: من تاريخ حيفا، ص100. و Lammens, op.Cit, p.60.

(95) رافق: العرب، ص168.

(96) الموسوعة الفلسطينية، ج1، ص101 (بتصرف).

(97) النمر: تاريخ جبل نابلس، ج1، ص40-41.

(98) الأسطل: المرجع السابق، ص48-50.

(99) الشهابي: ص822. وغنايم، زهير: لواء عكا في عهد التنظيمات العثمانية 1281-1337هـ/1864-1918م. ط 1، مؤسسة الدراسات الفلسطينية، بيروت 1999، ص20.

(100) الصباغ، ليلى: الجاليات الأوروبية في بلاد الشام في القرنين السادس عشر والسابع عشر. ج1، بيروت 1409هـ (1989م)، ص291.

(101) الكردي، فايز: عكا بين الماضي والحاضر. دار البشير، عكا 1972، ص66.

(102) الخالدي: ص87. والعابدي: المرجع السابق، ص66.

(103) الموسوعة الفلسطينية، ج4، ص611-612.

(104) منصور أسعد: تاريخ الناصرة. القاهرة 1924 ، ص45-46. والمعلوف، عيسى اسكندر: دواني القطوف في تاريخ آل المعلوف، زحلة1908، ص129.


--------------------------------------------------------------------------------

مصادر ومراجع الدراسة

أولاً- المخطوطات:-

(1) الأنصاري، شرف الدين بن موسى: نزهة الخاطر وبهجة الناظر. موجود في مكتبة الأسد بدمشق، رقم 7814.

(2) الغزّي، نجم الدين محمد بن بدر الدين: لطف السحر وقطف الثمر من تراجم أعيان الطبقة الأولى من القرن الحادي عشر، أو ذيل الكواكب السائرة بمناقب أعيان المائة العاشرة، موجود في مكتبة الأسد بدمشق، رقم 3406.

(3) مجهول المؤلف: نزهة الزمان في حوادث جبل لبنان. موجود في المكتبة الوطنية بباريس. رقم Arabe1684 .

ثانياً- المصادر الأوليّة:-

(1) البوريني، الحسن بن محمد: تراجم الأعيان من أبناء الزمان. تحقيق: د.صلاح الدين المنجد، جزءان، دمشق 1959، 1966.

(2) الحتّوني، منصور طنوس: نبذة تاريخية في المقاطعة الكسروانية. بدون بيانات نشر، بدون تاريخ.

(3) الخالدي الصفدي، أحمد بن محمد: لبنان في عهد الأمير فخر الدين المعني الثاني. نشره: د.أسد رستم وفؤاد افرام البستاني، منشورات الجامعة اللبنانية، بيروت 1969.

(4) الدبس، يوسف (المطران): تاريخ سورية. راجعه وحققه: د.مارون رعد ، عشرة أجزاء، ج7، دار نظير عبود، بيروت، بدون تاريخ.

(5) الشهابي، حيدر أحمد (الأمير): تاريخ الأمير حيدر الشهابي. علق على حواشيه: د.مارون رعد، 4 أجزاء، ج 3، دار نظير عبود، بيروت 1993.

(6) ابن طولون، محمد: مفاكهة الخلاّن في حوادث الزمان. نشره: محمد مصطفى، جزءان، القاهرة 62-1964.

(7) العورة، إبراهيم (المعلم): تاريخ ولاية سليمان باشا العادل. نشره وعلق عليه: قسطنطين الباشا المخلصي، صيدا 1936.

(8) المحبي، محمد الأمين: خلاصة الأثر في أعيان القرن الحادي عشر. 4 أجزاء، القاهرة 1284هـ (1869م).

(9) المقاري، محمد بن جمعة: الباشات والقضاة. جمعها وحققها ونشرها: د.صلاح الدين المنجد، في كتاب: ولاة دمشق في العهد العثماني، دمشق 1949.

ثالثاً-المراجع العربية الثانوية والمترجمة:-

(1) الأسطل، رياض محمود (الدكتور): تاريخ فلسطين الحديث والمعاصر. ط2، غزة 2000.

(2) أنيس، محمد (الدكتور): الدولة العثمانية والشرق العربي (1514-1914). القاهرة 1977.

(3) بازيلي، قسطنطين: سورية وفلسطين تحت الحكم العثماني. ترجمة: طارق معصراني، دار التقدم، موسكو 1989.

(4) بروكلمان، كارل: تاريخ الشعوب الإسلامية. ترجمة: نبيه أمين فارس ومنير البعلبكي، ط13، دار العلم للملايين، بيروت 1998.

(5) بولياك: الإقطاعية في مصر وسورية وفلسطين ولبنان. ترجمة: عاطف كرم، بيروت 1948.

(6) تشرشل، تشارلز: جبل لبنان (عشر سنوات إقامة) 1842-1852، دراسة لديانة وعادات وتقاليد أهل الجبل. ترجمة: فندي الشعار، دار المروج للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت 1985.

(7) حتي، فيليب (الدكتور): تاريخ سورية ولبنان وفلسطين. ترجمة: د.كمال اليازجي، أشرف على مراجعته وتحريره: د.جبرائيل جبور، جزءان، ج 2، دار الثقافة، بيروت 1959.

(8) ـــــــ: مختصر تاريخ لبنان. ترجمة: فؤاد جرجس نصار، ط1، دار الثقافة، بيروت 1968.

(9) الدباغ، مصطفى مراد: بلادنا فلسطين. القسم الثاني، ج2، 3، في الديار النابلسية (1)، (2)، دار الهدى، كفر قرع 1991.

(10) دي سان بيير، بيجيه: الدولة الدرزية. ترجمة: حافظ أبو مصلح، ط1، المكتبة الحديثة للطباعة والنشر، بيروت 1983.

(11) رافق، عبد الكريم (الدكتور): العرب والعثمانيون1516-1916. ط1، دمشق 1974.

(12) ـــــــــ: بلاد الشام ومصر من الفتح العثماني إلى حملة نابليون0 بونابرت (1516-1798). ط1، دمشق 1967.

(13) سويد، ياسين (الدكتور): التاريخ العسكري للمقاطعات اللبنانية في عهد الإمارتين. جزءان، ج1، المؤسسة العربية للدراسات، بيروت 1985.

(14) الصباغ، ليلى (الدكتورة): الجاليات الأوروبية في بلاد السام في القرنين السادس عشر والسابع عشر. جزءان، ج1، بيروت 1409هـ (1989م).

(15) ـــــــــ : فلسطين في مذكرات الفارس دارفيو. ط1، مؤسسة المصادر للتأليف والترجمة والطباعة والنشر، بيروت 1416هـ (1996).

(16) الصليبي، كمال (الدكتور): تاريخ لبنان الحديث. ط2، دار النهار للنشر، بيروت 1969.

(17) طهبوب، فائق وحمدان، محمد سعيد (الدكتور): تاريخ العالم الحديث والمعاصر. ط2، منشورات جامعة القدس المفتوحة، عمان 1998.

(18) العابدي، محمود: صفد في التاريخ. عمان 1977.

(19) علي، محمد كرد: خطط الشام. ج3، دمشق 1343هـ (1925م).

(20) عوض، عبد العزيز محمد (الدكتور): الإدارة العثمانية في ولاية سورية1864-1914. تقديم: د.أحمد عزت عبد الكريم، دار المعارف، القاهرة 1969.

(21) غنايم، زهير: لواء عكا في عهد التنظيمات العثمانية1281-1337هـ/1864-1918م. ط1، مؤسسة الدراسات الفلسطينية، بيروت 1999.

(22) الكردي، فايز: عكا بين الماضي والحاضر. دار البشير، عكا 1972.

(23) كرمل، ألكس (الدكتور): تاريخ حيفا في عهد الأتراك العثمانيين. ترجمة: تيسير الياس، مراجعة: د.بطرس أبو منه، دار المشرق، حيفا 1979.

(24) لوتسكي، فلاديمير: تاريخ الأقطار العربية الحديث. ترجمة: د.عفيفة البستاني، مراجعة: يوري روشين، ط8، دار الفارابي، بيروت 1985.

(25) المبيض، سليم عرفات: وقفية موسى باشا آل رضوان سنة 1081هـ (الأسرة التي حكمت غزة ومعظم فلسطين قرن ونصف 1530-1681م). مكتبة ابن سينا للنشر والتوزيع والتصدير، القاهرة 2000.

(26) المعلوف، عيسى اسكندر: تاريخ الأمير فخر الدين المعني الثاني. ط2، منشورات المطبعة الكاثوليكية، بيروت 1966.

(27) ـــــــــ : دواني القطوف في تاريخ آل المعلوف. زحلة 1908.

(28) مناع، عادل (الدكتور): تاريخ فلسطين في أواخر العهد العثماني 1700-1918(قراءة جديدة). ط1، مؤسسة الدراسات الفلسطينية، بيروت 1999.

(29) منصور، أسعد (القس): تاريخ الناصرة. القاهرة 1924.

(30) النمر، إحسان: تاريخ جبل نابلس والبلقاء. ج1، ط2، نابلس 1395هـ (1975م).

رابعاً-الدوريات والمعاجم والموسوعات:-

(1) البخيت، محمد عدنان: "من تاريخ حيفا العثمانية: دراسة في أحوال الساحل الشامي". مجلة شؤون فلسطينية (94)، أيلول (سبتمبر) 1979.

(2) دهمان، محمد أحمد: معجم الألفاظ التاريخية في العصر المملوكي. ط1، دار الفكر، دمشق 1410هـ (1990).

(3) رافق، عبد الكريم (الدكتور): فلسطين في عهد العثمانيين(1). الموسوعة الفلسطينية، القسم الثاني-الدراسات الخاصة، المجلد الثاني، الدراسات التاريخية، ط1، بيروت 1990.

(4)عبد الكريم، أحمد عزت (الدكتور): "التقسيم الإداري لسورية في العهد العثماني". حوليات كلية الآداب، جامعة عين شمس، المجلد الأول، مايو 1951.

(5) المعلوف، عيسى اسكندر: "الأمراء الحرفشيون". مجلة العرفان، مجلد 9، (من ربيع الأول إلى ذي الحجة 1342هـ).

(6) هيئة الموسوعة الفلسطينية: الموسوعة الفلسطينية. القسم العام، 4 أجزاء، ط1، دمشق 1984.

خامساً- المراجع الأجنبية:-

1. Charles-Roux (F.), Les Echelles des Syrie et de Palestine au XV III siècle, Paris 1928.

2. Holt (P.M.), Egypt and the Fertile Crescent 1516-1922,Cornell University press, New York 1966.

3. Ismail (Adel),Histoire du Liban du XV II siècle a nos jours, vol.1,Le Liban au temps de Fakhr-eddin II (1590-1633),Paris 1955.

4. Lammens (S.J.), La Syrie précis Historique, vol.II, Beyrouth 1921.






اشترك معنا

ضع بريدك هنا

رد مع اقتباس
رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 
أدوات الموضوع
طرق مشاهدة الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع إلى

 


الوقت في المنتدى حسب توقيت جرينتش +3 الساعة الآن 08:35 PM .


مجالس العجمان الرسمي

تصميم شركة سبيس زوون للأستضافة و التصميم و حلول الويب و دعم المواقع