كن طبيباً رقيقاً يضع دواءه حيث ينفع
بمعنى لا تضع العلم عند غير أهله فتجهل، ولا تمنع العلم أهله فتأثم، من الناس من يطلب العلم لشر كامن ومكر باطن فيستعمله في شبه دينية، وتلبيس دنيء وحيل فقهية فلا يعان على إمضاء مكره وإكمال شره بل مهان غير مكرم يُحرمه، ومنهم من هو بليد الذهن، بعيد الفطنة، فلا يحمل عليه بكثير العلم فيظلم، ولايمنع من اليسير فيحرم، وإنما ينفع سمع الآذان إذا قوي فهم القلوب في الأبدان، وقد صدق القائل ونصح يوم قال:
لا تؤتين العلم إلا إمرءا ........... يعين باللب على درسه
ويمنع من كثيره أيضا السفهاء الذين إن سكت لم يسألوك وإن تكلمت لم يعوا عنك وإن رأوا حسنا دفنوه، وإن رأوا سيئا أذاعوه، وإن يعلموا الخير أخفوه، وإن علموا شرا أذاعوا، وإن لم يعلموا كذبوا، وإن حاورتهم شتموا، وعليك جهلوا.
كحمار السوء إن أشبعته ........... رمح الناس وإن جاع نهق
فإذا حملت إلى سفيه حكمة ......... فلقد حملت بضاعة لا تنفق
هذا كله يحتاج إلى فراسة وممارسة ومران واختبار يتوسم من خلاله المتعلم حقا من غيره، كفراسة ابن عباس رضي الله عنه يوم قال : ما سألني سائل إلا عرفت أفقيه هو أم غير فقيه .أو كفراسة الأعمش رحمه الله يوم رأى شعبة رحمه الله يحدث قوما يرى أنهم غير أهل للحديث فقال: ويحك يا شعبة تعلق اللؤلؤ على الخنازير .
فإن عناء أن تفهم جاهلا ......... فيحسب جهلاً أنه منك أفهم
متى يبلغ البنان يوما تمامه ........ إذا كنت تبنيه وغيرك يهدم
فلا تحدث بالحكمة عند السفهاء فيكذبوك، ولا تحدث بالباطل عند الحكماء فيمقتوك، إن وضع العلم عند غير أهله كمقلد الخنازير اللؤلؤ والجوهر فلكل تربة غرس ولكل بناء أس.
فجرد السيف في يوم يفيد به .......... فإن للسيف يوما ثم ينصرم
عرف ذلك العلماء حقا حتى قال قائلهم وهو عكرمة : إن لهذا العلم ثمناً فقدروا له قدره، قيل وما ثمنه؟ قال: أن تضعه عند من يحفظه ولا يضيعه. ورحم الله ابن حزم في ذلك حين قال: (نشر العلم عند من ليس من أهله مفسد لهم. كإطعامك الحلوى من به احتراق وحمى، أو كتـشميمك المسك والعنبر من به صداع من احتدام الصفرا).
قالوا نراك طويل الصمت قلت لهم .... ما طول صمتي من عيّ ولا خرس
أأنشر البز فيمن ليس يعرفه ........... أم أنشر الدر بين العمى في الغلس
فمن حوى العلم ثم أودعه .............. بجهله غير أهله ظلمه
وكان كالمبتـني البناء إذا ............. تم له ما أراده هدمه
وقد قالها الشافعي رحمه الله في مصر مدوية عندما كلمه من لا يرى فقه فقال:
أأنثر در بين راعية الغنم ........... وأنشر منظوما لراعية النعم
لئن كنت قد ضُيعت في شر بلدة .... فلست مضيعا بينهم غرر الكلم
فإن فرج الله الكريم بلطفه .......... وأدركت أهلا للعلوم وللحكم
بثثت مفيدا واستفدت ودادهم ........ وإلا فمخزون لديّ ومكتـتم
ومن منح الجهال علما أضاعه ..... ومن منع المستوجبـين فقد ظلم
وقد أحسن أيضا وحلق يوم قال:
العلم جهل عند أهل الجهل ........ كما الجهل جهل عند أهل العلم
ومنزلة الفقيه من السفيه .......... كمنزلة السفيه من الفقيه
فهذا زاهد في قرب هذا .......... وهذا فيه أزهد منه فيه
فعلى الطريقِ أخي ضع العلم في أهله على تفاوت فالذكي يحتاج إلى الزيادة والبليد يكتفي بالقليل والسفيه يمنع ويزجر وذو الشر يذل ويحرم ولا يعان ويكرم والجميع يذكر ويعظ، (كِل على الطريق لكل سالك بمعيار عقله وزن له بميزان فهمه حتى تسلم منه وينتفع بك وإلا وقع الإنكار لتفاوت المعيار) ولكل ثواب لابس ولكل علم قابس.
فلا تكون كمن ألقى رحالته ........... على الحمار وخلى صهوة الفرس
وقفة جانبية على الطريق: عرض ولا تصرح فالحال ناطقة .
أقول وستر الدجى مسبل .......... كما قال حين شكا الضفدع
كلامي إن قلته ضائع ............. وفي الصمت حتفي فما أصنع
إشـــارات على الطريق
الشيخ علي القرني