مجالس العجمان الرسمي


مجلس الدراسات والبحوث العلمية يعنى بالدراسات والبحوث العلمية وفي جميع التخصصات النظرية والتطبيقية.

رد
 
أدوات الموضوع طرق مشاهدة الموضوع
  #1  
قديم 13-09-2006, 04:14 PM
د.فالح العمره د.فالح العمره غير متصل
 
تاريخ التسجيل: Feb 2005
الدولة: في قلوب المحبين
المشاركات: 7,593
معدل تقييم المستوى: 27
د.فالح العمره is on a distinguished road
عين جالوت.. واإسلاماه!!



(في ذكرى نشوبها: 25 من رمضان 658هـ)

أحمد تمام




لم تتعرض دولة الإسلام لأوقات عصيبة وعواصف منذرة ورياح مرعبة مثلما تعرضت في القرن السابع الهجري؛ حيث دمّرت جيوش المغول بقيادة جنكيز خان حواضر الإسلام الكبرى في المشرق الإسلامي، وسفكت دماء المسلمين، وأتت على معالم الحضارة والمدنية، ولم تستطع قوة إسلامية أن توقف هذا الزحف الكاسح، وانهارت الجيوش الإسلامية وتوالت هزائمها، وتتابع سقوط الدول والمدن الإسلامية كأوراق الشجر في موسم الخريف.

وأطمع ضعف المسلمين وخور عزائمهم المغول في أن يتطلعوا إلى مواصلة الزحف تجاه الغرب، وإسقاط الخلافة العباسية وتقويض دعائمها، ولم تكن الخلافة في وقت من الأوقات أضعف مما كانت عليه وقت الغزو المغولي؛ فخرج هولاكو سنة (651هـ= 1253م) على رأس حملة جرارة، تضم مائة وعشرين ألف جندي من خيرة جنود المغول، المدربين تدريبًا عاليًا على فنون القتال والنزال، والمزودين بأسلحة الحرب وأدوات الحصار، تسبقهم شهرتهم المرعبة في القتل وسفك الدماء، ومهارتهم الفائقة في الحرب، وشجاعتهم وقوة بأسهم في ميادين القتال.

سقوط الخلافة العباسية

اجتاحت قوات المغول الأراضي الإيرانية، ولم تجد ما يعوق حركتها حتى وصلت إلى بغداد، فضربت حصارًا عليها، ولم يكن لها قدرة على رفع هذه الجيوش الجرارة؛ فاستسلمت في خنوع إلى الغازي الفاتك فدخلها في (4 من صفر 656 هـ = 10 من فبراير 1258م)، واستباح جنوده المدينة المنكوبة، وقتلوا السواد الأعظم من أهلها الذين قدروا بنحو مليون قتيل، ولم يكن خليفة المسلمين وأسرته بأسعد حال من أهالي المدينة، حيث لقوا حتفهم جميعًا، وأضرم التتار النار في أحياء المدينة، وهدموا مساجدها وقصورها، وخربوا مكتباتها، وأتلفوا ما بها من تراث إنساني، وأصبحت المدينة التي كانت عاصمة الدنيا وقبلة الحضارة أثرًا بعد عين.

أوضاع الشام قبل حملة هولاكو

كانت بلاد الشام في أثناء تلك المحنة يحكم الأيوبيون أجزاء كبيرة منها، ولم تكن العلاقات بينهم ودية على الرغم من انتسابهم إلى بيت واحد وأسرة كريمة هي أسرة صلاح الدين الأيوبي، وبدلا من أن توحدهم المحنة وتجمع بين قلوبهم ويقفوا صفًا واحدًا هرول بعضهم إلى هولاكو يعلن خضوعه له، مثلما فعل الناصر يوسف الأيوبي صاحب دمشق وحلب، وكان أقوى الأمراء الأيوبيين وأكثرهم قدرة على مواجهة هولاكو لو رغب، لكنه لم يفعل وأرسل ابنه العزيز إلى هولاكو يحمل إليه الهدايا، ويعلن خضوعه له، ويطلب منه أن يساعده على الاستيلاء على مصر وتخليصها من حكم دولة المماليك الناشئة التي انتزعت الملك من بيته.

لكن هولاكو رأى في عدم قدوم الناصر إليه بنفسه استهانة به، فكتب إليه رسالة غاضبة يأمره بالإسراع إليه وتقديم آيات الولاء والخضوع دون قيد أو شرط، فانزعج الناصر، وأدرك أن مسعاه قد خاب، واستعد استعداد الخائف لمواجهة المغول، وبعث بأسرته إلى مصر.

حملة هولاكو

خرج هولاكو في رمضان (657هـ= 1295م) من عاصمة دولته مراغة في أذربيحان، متجهًا إلى الشام، معه حلفاؤه من أمراء جورجيا وأرمينيا، يقود طلائعه قائده "كيتوبوقا"، متجهين إلى الشام، وكانت ميافارقين بديار بكر أول ما تبتدئ به الحملة الغازية، فصمدت المدينة للحصار مدة طويلة دون أن يفلح المغول في اقتحامها، غير أن طول الحصار ونفاد المؤن وانتشار الأوبئة وهلاك معظم السكان دفع إلى استسلام المدينة.

وفي أثناء الحصار كانت جيوش المغول تستولي على المدن المجاورة، فسقطت ماردين، وحران، والرها وسروج والبيرة، ثم واصل الجيش زحفه إلى حلب وحاصرها حصارًا شديدًا، حتى استسلمت في (9 من صفر 658هـ- 25 من يناير 1260م)، وأباح هولاكو المدينة لجنوده سبعة أيام فعاثوا فيها فسادًا، ونشروا الخراب في كل أرجائها، ولم تكد تصل هذه الأنباء المفجعة إلى دمشق حتى آثر أهلها السلامة بعد أن فر حاكمها الناصر يوسف الأيوبي، وسارعوا إلى تسليم المدينة، وشاءت الأقدار أن يغادر هولاكو الشام ويعود إلى بلاده تاركًا مهمة إكمال الغزو لقائده "كيتوبوقا" فدخل دمشق في (15 من ربيع الأول 658هـ= 1 من مارس 1260م).

الأوضاع في مصر

وكان من نتيجة هذا الغزو أن فر كثير من أهل الشام إلى مصر التي كانت تحت سلطان دولة المماليك، ويحكمها سلطان صبي هو الملك "المنصور نور الدين علي بن المعز أيبك"، وفي هذه الأثناء بعث الملك الناصر يوسف الذي أفاق بعد فوات الأوان برسول إلى مصر يستنجد بعساكرها للوقوف ضد الزحف المغولي، وكانت أخبار المغول قد انتشرت في مصر وأحدثت رعبًا وهلعًا.

ولما كان سلطان مصر غير جدير بتحمل مسئولية البلاد في مواجهة الخطر القادم، فقد أقدم نائبه "سيف الدين قطز" على خلعه، محتجًا بأنه لا بد من سلطان قاهر يقاتل هذا العدو، والملك الصبي صغير لا يعرف تدبير المملكة، ولم يجد قطز معارضة لما أقدم عليه؛ فالخطر محدق بالبلاد، والسلطان قد ازدادت مفاسده وانفض الجميع من حوله.

رسالة هولاكو

بدأ السلطان قطز يوطد أركان دولته ويثبت دعائم حكمه، فعين من يثق فيهم في مناصب الدولة الكبيرة، وقبض على أنصار السلطان السابق، وأخذ يستعد للجهاد وملاقاة المغول، وسمح برجوع بعض أمراء المماليك من خصومه وكانوا بالشام، وعلى رأسهم بيبرس البندقداري فرحب به، وأحسن معاملته، وأقطعه قليوب ومناطق الريف المجاورة لها، وأغرى قوات الناصر يوسف الأيوبي ـ الذي فر من دمشق وطلب نجدة المماليك بمصر ـ بالانضمام إلى جيشه وكانت بالقرب من غزة، فاستجابت لدعوته.

وفي تلك الأثناء وصلت رسل هولاكو إلى القاهرة تحمل خطابا تقطر كبرا وغطرسة، ويمتلئ بالتهديد والوعيد، ومما جاء فيه: ".. إنا جند الله في أرضه، خلقنا من سخطه، وسلطنا على من حل به غضبه، فلكم بجميع الأمصار معتبر، وعن عزمنا مزدجر، فاتعظوا بغيركم، وسلموا إلينا أمركم.. فنحن لا نرحم من بكى، ولا نرق لمن شكا.. فما لكم من سيوفنا خلاص ولا من أيدينا مناص، فخيولنا سوابق، وسيوفنا صواعق، ورماحنا خوارق...".

الاجتماع التاريخي

وأمام هذا الخطر الداهم عقد السلطان قطز مجلسًا من كبار الأمراء، واستقر الرأي على مقابلة وعيد المغول بالاستعداد للحرب، وعزز ذلك بقتل رسل المغول؛ ردًا على تهديد هولاكو وكان هذا التصرف إعلانًا للحرب وإصرارًا على الجهاد، وفي الوقت نفسه بدأ قطز يعمل على حشد الجيوش وجمع الأموال اللازمة للإنفاق على الاستعدادات والتجهيزات العسكرية، وقبل أن يفرض ضرائب جديدة على الأهالي جمع ما عنده وعند أمرائه من الحلي والجواهر، واستعان بها في تجهيز الجيش، استجابة لفتوى الشيخ "العز بن عبد السلام" أقوى علماء عصره.

ولم يقتصر الأمر على هذا، بل لقي صعوبة في إقناع كثير من الأمراء بالخروج معه لقتال التتار، فأخذ يستثير نخوتهم ويستنهض شجاعتهم بقوله: "يا أمراء المسلمين لكم زمان تأكلون أموال بيت المال، وأنتم للغزاة كارهون، وأنا متوجه، فمن اختار الجهاد يصحبني، ومن لم يختر ذلك يرجع إلى بيته فإن الله مطلع عليه..."؛ فأثرت هذه الكلمة في نفوسهم، وقوت من روحهم، فخرجوا معه وتعاهدوا على القتال.

الخروج إلى القتال

وفي (رمضان 658هـ= أغسطس 1260م) خرج قطز من مصر على رأس الجيوش المصرية ومن انضم إليه من الجنود الشاميين وغيرهم، وترك نائبا عنه في مصر هو الأتابك فارس الدين أقطاي المستعرب، وأمر الأمير بيبرس البندقداري أن يتقدم بطليعة من الجنود ليكشف أخبار المغول، فسار حتى لقي طلائع لهم في غزة، فاشتبك معهم، وألحق بهم هزيمة كان لها أثر في نفوس جنوده، وأزالت الهيبة من نفوسهم، ثم تقدم السلطان قطز بجيوشه إلى غزة، فأقام بها يومًا واحدًا، ثم رحل عن طريق الساحل إلى عكا، وكانت لا تزال تحت سيطرة الصليبيين، فعرضوا عليه مساعدتهم، لكنه رفض واكتفى منهم بالوقوف على الحياد، وإلا قاتلهم قبل أن يقابل المغول، ثم وافى قطز الأمير بيبرس عند عين جالوت بين بيسان ونابلس.

وكان الجيش المغولي يقوده كيتوبوقا (كتبغا) بعد أن غادر هولاكو الشام إلى بلاده للاشتراك في اختيار خاقان جديد للمغول، وجمع القائد الجديد قواته التي كانت قد تفرقت ببلاد الشام في جيش موحد، وعسكر بهم في عين جالوت.

اللقاء المرتقب

اقتضت خطة السلطان قطز أن يخفي قواته الرئيسية في التلال والأحراش القريبة من عين جالوت، وألا يظهر للعدو المتربص سوى المقدمة التي كان يقودها الأمير بيبرس، وما كاد يشرق صباح يوم الجمعة (25 من رمضان 658هـ= 3 من سبتمبر 1260م) حتى اشتبك الفريقان، وانقضت قوات المغول كالموج الهائل على طلائع الجيوش المصرية؛ حتى تحقق نصرًا خاطفًا، وتمكنت بالفعل من تشتيت ميسرة الجيش، غير أن السلطان قطز ثبت كالجبال، وصرخ بأعلى صوته: "واإسلاماه!"، فعمت صرخته أرجاء المكان، وتوافدت حوله قواته، وانقضوا على الجيش المغولي الذي فوجئ بهذا الثبات والصبر في القتال وهو الذي اعتاد على النصر الخاطف، فانهارت عزائمه وارتد مذعورا لا يكاد يصدق ما يجري في ميدان القتال، وفروا هاربين إلى التلال المجاورة بعد أن رأوا قائدهم كيتوبوقا يسقط صريعًا في أرض المعركة.

ولم يكتفِ المسلمون بهذا النصر، بل تتبعوا الفلول الهاربة من جيش المغول التي تجمعت في بيسان القريبة من عين جالوت، واشتبكوا معها في لقاء حاسم، واشتدت وطأة القتال، وتأرجح النصر، وعاد السلطان قطز يصيح صيحة عظيمة سمعها معظم جيشه وهو يقول: "واإسلاماه!" ثلاث مرات ويضرع إلى الله قائلا: "... يا ألله!! انصر عبدك قطز".. وما هي إلا ساعة حتى مالت كفة النصر إلى المسلمين، وانتهى الأمر بهزيمة مدوية للمغول لأول مرة منذ جنكيز خان.. ثم نزل السلطان عن جواده، ومرغ وجهه على أرض المعركة وقبلها، وصلى ركعتين شكرًا لله.

نتائج المعركة

كانت معركة عين جالوت واحدة من أكثر المعارك حسمًا في التاريخ، أنقذت العالم الإسلامي من خطر داهم لم يواجه بمثله من قبل، وأنقذت حضارته من الضياع والانهيار، وحمت العالم الأوروبي أيضًا من شر لم يكن لأحد من ملوك أوروبا وقتئذ أن يدفعه.

وكان هذا النصر إيذانًا بخلاص الشام من أيدي المغول؛ إذ أسرع ولاة المغول في الشام بالهرب، فدخل قطز دمشق على رأس جيوشه الظافرة في (27 من رمضان 658 هـ)، وبدأ في إعادة الأمن إلى نصابه في جميع المدن الشامية، وترتيب أحوالها، وتعيين ولاة لها، وأثبتت هذه المعركة أن الأمن المصري يبدأ من بلاد الشام عامة، وفي فلسطين خاصة، وهو أمر أثبتته التجارب التاريخية التي مرت على المنطقة طوال تاريخها، وكانت النتيجة النهائية لهذه المعركة هي توحيد مصر وبلاد الشام تحت حكم سلطان المماليك على مدى ما يزيد عن نحو مائتين وسبعين سنة.

من مصادر الدراسة:

المقريزي: السلوك لمعرفة دول الملوك- تحقيق محمد مصطفى زيادة- طبعة مصورة عن طبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر- القاهرة- بدون تاريخ.

ابن تغري بردي: النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة- الهيئة المصرية العامة للتأليف والترجمة والنشر- القاهرة- 1968م.

عبد السلام عبد العزيز فهمي: تاريخ الدولة المغولية في إيران- دار المعارف- القاهرة- 1981م.

أحمد مختار العبادي: قيام دولة المماليك الأولى في مصر والشام- دار النهضة العربية- بيروت- 1969م.

قاسم عبده قاسم: عصر سلاطين المماليك- عين للدراسات والبحوث الإنسانية والاجتماعية القاهرة- 1998م

 

التوقيع

 



من كتاباتي
صرخاااات قلم (( عندما تنزف ريشة القلم دما ))
قلم معطل وقلم مكسوووور
عندما ’تطرد من قلوب الناس !!!!!!(وتدفن في مقبرة ذاتك)
دعاة محترفون لا دعاة هواه ( 1)
الداعية المحترف واللاعب المحترف لا سواء(2)
نعم دعاة محترفين لا دعاة هواة!!!! (( 3 ))
خواطر وجها لوجه
همسة صاااااااااااارخه
خواطر غير مألوفه
اليوم يوم الملحمه ...
على جماجم الرجال ننال السؤدد والعزه
عالم ذره يعبد بقره !!!
معذرة يا رسول الله فقد تأخر قلمي
دمعة مجاهد ودم شهيد !!!!!!
انااااااااا سارق !!!!
انفلونزا العقووووووووول
مكيجة الذات
الجماهير الغبيه
شمووووخ إمرأه

 
 
رد مع اقتباس
  #2  
قديم 13-09-2006, 04:22 PM
د.فالح العمره د.فالح العمره غير متصل
 
تاريخ التسجيل: Feb 2005
الدولة: في قلوب المحبين
المشاركات: 7,593
معدل تقييم المستوى: 27
د.فالح العمره is on a distinguished road




قطز قاهر التتار
في معركة عين جالوت
بقلم اللواء الركن: محمود شيت خطاب
السلطان
الملك المظفر قطز قاهر التتار هو السلطان الملك المظفر سيف الدين قطز بن عبد الله المعزي، تسلطن بعد أن خلع الملك المنصور علي ابن الملك المعز أيبك في يوم السبت 17من ذي القعدة سنة 657 هـ- 1959م، بعد أن تفاقم خطر التتار، وأصبحت مصر مهددة بغزوهم الوشيك.
وكانت مصر على إثر وفاة ملكها الصالح، ومقتل ولده الملك المعظم قد رفعت على عرشها امرأة هي: شجرة الدر -أرملة الملك الصالح-، فكانت أول ملكة، كما كانت آخر ملكة اعتلت عرش مصر الإسلامية. وأقيم للسلطنة نائب قوي، هو الأمير عز الدين أيبك -كبير المماليك البحرية-، ليعاون شجرة الدر في تدبير الأمور، وبالرغم مما أبدته شجرة الدر من حزم وبراعة في تسيير أمور الدولة، وتصفية الموقف مع الصليبيين وإجلائهم عن مصر فقد كان جلوس امرأة على عرش مصر نذيرًا بوقوع الفتن والاضطرابات، حيث أبى معظم الأمراء أن يحلفوا يمين الطاعة للملكة الجديدة، لذلك رأت شجرة الدر أن تتزوج من الأمير عز الدين أيبك، فلما لم تفلح هذه الخطوة في تهدئة الأمور رأت أن تتنازل عن العرش لزوجها، فتولى الأمير عز الدين أيبك عرش مصر باسم الملك المعز، وذلك في آخر ربيع الثاني سنة 648 هـ 1250م، وحكم مصر زهاء سبع سنين.
وكانت شجرة الدر وراء زوجها تعينه في تصريف الأمور، حتى دب الخلاف بين الزوجين، لاعتزام المعز الزواج ثانية، فدبرت شجرة الدر مؤامرة لاغتياله، ونفذتها في بيتها يوم الثلاثاء 23 من ربيع الأول من سنة 655 هـ - 1257م.
وتولى الملك المنصور علي ابن الملك المعز أيبك، المُلْكَ يوم الخميس 25 من ربيع الأول من سنة 655 هـ 1257م، وكان عمره 15 سنة، فلم يكن قادرًا على تحمل أعباء الملك في ظروف حرجة للغاية؛ إذ كانت البلاد مهددة بالغزو التتري، لذلك خلعه قطز، وتولى الملك مكانه سنة 657 هـ - 1259م، وكان هدفه: حرب التتار، وإنقاذ مصر خاصة والبلاد العربية عامة من خطر غزوهم الكاسح.
الموقف العام
ولعل في عرض الموقف العام العصيب التي كانت مصر والبلاد العربية تجتازه من جراء الغزو التتري الجارف ما يبرز مبلغ التضحية التي بذلها قطز في قبوله تحمل المسؤولية حينذاك، في بلد مهدد بغزو خارجي ماحق، وارتباك داخلي فظيع، وقد كان بإمكانه أن يستمتع بالسلطة الفعلية بالرغم من بقاء الملك المنصور في الحكم دون أن يكون المسؤول الأول في مثل تلك الظروف الحرجة، ولكنه آثر المصلحة العامة على مصلحته الشخصية، فقضى أولاً على الارتباك الداخلي، ووضع الأمور في نصابها، ثم وجه همه إلى العدو الخارجي، فاستطاع بأعجوبة خارقة حقًا إحراز النصر وإنقاذ مصر والبلاد العربية من التتار وقواتهم الضاربة.
ففي سنة أربع وخمسين وستمائة هجرية 1256م، مَلَكَ التتار سائر بلاد الروم بالسيف، فلما فرغوا من ذلك، نزل هولاكو بن طولوي بن جنكيز خان كالإعصار على بغداد في صفر من سنة ست وخمسين وستمائة هجرية 1285م، ودخلوها دخول الضواري المفترسة، وقتلوا مئات الآلاف من أهلها، ونهبوا خزائنها وذخائرها، وقضوا على الخلافة العباسية، وعلى معالم الحضارة الإسلامية، ثم قتلوا الخليفة المستعصم بالله وأفراد أسرته وأكابر دولته..
وتقدم التتار إلى بلاد الجزيرة، واستولوا على "حران" و"الرُّها" و"ديار بكر" في سنة سبع وخمسين وستمائة هجرية 1259م، ثم جاوزا الفرات، ونزلوا على "حلب" في سنة ثمان وخمسين وستمائة هجرية 1260م، واستولوا عليها وجرت الدماء في الأزقة أنهارًا.
ووصل التتار إلى "دمشق"، وسلطانها الناصر يوسف بن أيوب، فخرج هاربًا ومعه أهل اليسار، ودخل التتار دمشق، وتسلموها بالأمان، ثم غدروا بأهلها وفتكوا بهم، ونهبوا وسلبوا ودمروا.
وتعدوا دمشق، فوصلوا إلى "نابلس"، ثم إلى "الكرك" وبيت المقدس، وتقدموا إلى "غزة" دون أن يلقوا مقاومة تذكر، واضطر هولاكو فجأة إلى مغادرة سورية، بعد أن جاءته الأخبار بوفاة أخيه الأكبر "منكوقاآن" في الصين، وبتنازع أخويه الآخرين "قوبيلاي" و"أريق بوكا" ولاية العرش.
وقد استثمر التتار حرب الصاعقة، التي تعتمد على سرعة الحركة، كما استثمروا حرب الأعصاب إلى أقصى مدى، فنشروا الذعر والخوف في كل مكان، وحيثما اتجهت قواتهم كانت تسبقهم الأقاصيص عن طغيانهم وقسوتهم ومذابحهم.
موقف أوروبا
فرحت أوروبا النصرانية بانتصار التتار على المسلمين، فقد كانوا من أصدقاء النصارى وفيهم بعض النصارى، ولهولاكو نفسه زوجة نصرانية، فضلاً عن أن القائد الذي ولي أمر سورية عندما غادرها هولاكو كان نصرانيًا، كل هذا جعل البابوات وحكام غرب أوروبا ينظرون إلى التتار وكأنهم حلفاؤهم في قتال المسلمين.
والواقع أن فكرة تكوين حلف من الأوروبيين والتتار لتدمير البلاد الإسلامية، كانت موضع تفكير البابوات في عصور متتالية، وكانت سياسية هؤلاء تهدف إلى نشر الدين النصراني بين التتار، وقد تبادل التتار وحكام أوروبا البعوث، وعلى سبيل المثال: فقد دعا لويس التاسع قسمًا من رجال أمير التتار إلى فرنسا، حيث فاوضهم على عقد اتفاقية عسكرية، تنص على أن يقوم طرفاها بعمليات حربية على المسلمين، يكون فيها دور التتار غزو العراق وتدمير بغداد والقضاء على الخلافة الإسلامية، ويكون دور الصليبيين حماية هذا الغزو التتري من الجيوش المصرية, وتجريد جيوشهم لمنع نجدة القوات المصرية للمسلمين في آسيا، وبالأحرى تقوم بعزل مصر عزلاً تامًا عن سائر البلاد العربية.
ولم يكفّ لويس التاسع عن العمل لاستمالة التتار، وتسخير قوتهم المدمرة لضرب الإسلام، ففي السابع عشر من يناير سنة 1249م سنة 646هـ أرسل إلى أمير التتار هدايا ثمينة حملها إلى الأمير وفد على رأسه الراهب الدومنيكي "أندريه دي لونجيمو"، ومما يذكر أنه كان من بين هذه الهدايا قطعة من الصليب المقدس وصورة للسيدة العذراء، ومختلف النماذج الصغيرة لعديد من الكنائس.
ويقول الأسقف "دي مسنيل Du Masnil" -نائب مدير البعثات التبشيرية في روما- في كتابه عن الكنيسة والحملات الصليبة: "اشتهر هولاكو بميله إلى النصارى النسطوريين، وكانت حاشيته تضم عددًا كبيرًا منهم، من بينهم قائدهم الأكبر "كتبغا" وهو تركي الجنس نصراني نسطوري، كما كانت الأميرة "دوكس خاتون" زوجة هولاكو نصرانية أيضًا.
ولقد لعب نفوذ هذه الأميرة على زوجها دورًا خطيرًا، تفخر به الكنيسة في تجنيب أوربا النصرانية أهوال الغزو التتري، وتوجيه غزوهم إلى العرب المسلمين في الشرق العربي، حيث ذبحت قوات التتار العرب المسلمين في مذابح بغداد، في الوقت الذي أبقت فيه على النصارى في تلك المدينة، فلم تمسهم في أرواحهم أو أموالهم بأذى، كما لعبت الأميرة دورًا في إغراء زوجها باحتلال سورية الإسلامية.
ويصف الأسقف حملة التتار فيقول: "لقد كانت الحملة التترية على الإسلام والعرب حملة صليبية بالمعنى الكامل لها، حملة نصرانية نسطورية، وقد هلل لها الغرب وارتقب الخلاص على يد "هولاكو" وقائده النصراني "كتبغا" الذي تعلق أمل الغرب في جيشهما، ليحقق له القضاء على المسلمين، وهو الهدف الذي أخفقت في تحقيقه الجيوش الصليبية، ولم يعد للغرب أمل في بلوغه إلا على أيدي التتار خصوم العرب والمسلمين.
وقد بادر "هاتون الأول" -ملك إرمينية - و"بوهومونت السادس" - أمير طرابلس -، وأمراء الإفرنج "صور" و"عكا" و"قبرص" بادر هؤلاء جميعًا إلى عقد حلف مع التتار، يقوم على أساس القضاء على المسلمين كافة في آسيا، وتسليم هؤلاء الأمراء بيت المقدس.
ويقول "دي مسنيل" في كتابه عن تاريخ التبشير: "إن النصارى هم الذين حرضوا "هولاكو" على الرحيل عن سورية إلى بلاده، ومحاربة أخيه هناك، بسبب موالاته للإسلام".
وأخيرًا انتهى أمل الصليبيين بدخول التتار في الإسلام، وفي ذلك يقول الأسقف "دي مسنيل" واصفًا هذه الخاتمة: "وهكذا نرى الإسلام الذي كان قد أشرفت قوته على الزوال، يسترد مكانته، ويستعيد قوته، ويصبح أشد خطرًا من ذي قبل".
لقد كانت مهمة قطز صعبة جداً، لأنه كان عليه أن يواجه الخطر الداخلي المتمثل بالارتباك والفوضى في نظام الحكم والصراع على السلطة، وفي الوقت نفسه كان عليه أن يواجه الخطر الخارجي المتمثل بالغزو التتري الداهم المتحالف مع الصليبيين في الغرب والشرق معًا.
زحف التتار
قبل مغادرة "هولاكو" سورية أرسل رسولاً من رجاله وبرفقته أربعون رجلاً من الأتباع إلى قطز يحملون إليه رسالة منه جاء فيها:
"من ملك الملوك شرقًا وغربًا القائد الأعظم: باسمك اللهم، باسط الأرض، ورافع السماء، يعلم الملك المظفر قطز الذي هو من جنس المماليك الذين هربوا من سيوفنا إلى هذا الإقليم، يتنعمون بأنعامه، ويقتلون من كان بسلطانه بعد ذلك، يعلم الملك المظفر قطز وسائر أمراء دولته وأهل مملكته بالديار المصرية وما حولها من الأعمال، إنا نحن جند الله في أرضه، خلقنا من سخطه، وسلطنا على مَن حَلَّ به غضبه، فلكم بجميع البلاد معتبر، وعن عزمنا مزدجر، فاتعظوا بغيركم وأسلموا لنا أمركم. قبل أن ينكشف الغطاء، فتندموا ويعود عليكم الخطأ، فنحن ما نرحم من بكى، ولا نرقّ لمن شكر، وقد سمعتم أننا قد فتحنا البلاد، وطهرنا الأرض من الفساد، وقتلنا معظم العباد، فعليكم بالهرب، وعلينا الطلب، فأي أرض تؤويكم، وأي طريق تنجيكم، وأي بلاد تحميكم؟! فما لكم من سيوفنا خلاص، ولا من مهابتنا مناص، فخيولنا سوابق، وسهامنا خوارق، وسيوفنا صواعق، وقلوبنا كالجبال، وعددنا كالرمال، فالحصون عندنا لا تمنع، والعساكر لقتالنا لا تنفع، ودعاؤكم علينا لا يُسمع، فإنكم أكلتم الحرام، ولا تعفُّون عند كلام، وخنتم العهود والأيمان، وفشا فيكم العقوق والعصيان، فأبشروا بالمذلة والهوان، فاليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تستكبرون في الأرض بغير الحق وبما كنتم تفسقون، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون، فمن طلب حربنا ندم، ومن قصد أماننا سلم، فإن أنتم لشرطنا وأمرنا أطعتم، فلكم ما لنا وعليكم ما علينا، وإن خالفتم هلكتم، فلا تهلكوا نفوسكم بأيديكم، فقد حذّر من أنذر. وقد ثبت عندكم أنا نحن الكفرة، وقد ثبت عندنا أنكم الفجرة، وقد سَلَّطَنا عليكم من له الأمور المقدّرة، والأحكام المدبرة، فكبيركم عندنا قليل، وعزيزكم عندنا ذليل، فلا تطيلوا الخطاب، وأسرعوا برد الجواب، قبل أن تضرم الحرب نارها، وترمي نحوكم شرارها، فلا تجدون منا جاهاً ولا عزًا، ولا كافيًا ولا حرزًا، وتدهون منا بأعظم داهية، وتصبح بلادكم منكم خالية، فقد أنصفناكم إذ راسلناكم، وأيقظناكم إذ حذرناكم، فما بقي لنا مقصد سواكم، والسلام علينا وعليكم، وعلى من أطاع الهدى، وخشي عواقب الردى، وأطاع الملك الأعلى".
وكان ذلك في سنة ثمان وخمسين وستمائة هجرية "أوائل سنة 1260م".
فلما سمع قطز ما في هذا الكتاب جمع الأمراء، واتفقوا على قتل رُسُل هولاكو، فقبض عليهم، واعتقلوا، وأمر بإعدامهم فأعدموا توسيطًا-أي:ضربوا بالسيف في وسطهم ليشطروا شطرين -، كل مجموعة منهم أمام باب من أبواب القاهرة، وعُلقت رؤوسهم على باب "زويلة". لقد عقد قطز العزم على حرب التتار، وكان قراره نهائيًا لا رجعة عنه؛ إذ هو المسوغ الوحيد لاستيلائه على السلطة، وتواترت المعلومات الموثوق بها عن زحف التتار باتجاه مصر، كما علم المصريون باستيلاء التتار على سورية وفلسطين، كما وصل إلى القاهرة كمال الدين عمر بن العديم أحد العلماء الأعلام رسولاً من الملك الناصر صلاح الدين يوسف صاحب حلب والشام يطلب من قطز النجدة على قتال التتار.
وجمع قطز القضاة والفقهاء والأعيان لمشاورتهم فيما يعتمد عليه من أمر التتار، وأن يؤخذ من الناس ما يستعان به على جهادهم، وحضر أصحاب الرأي في دار السلطنة بقلعة الجبل، وحضر الشيخ عز الدين بن عبد السلام، والقاضي بدر الدين السنجاري -قاضي الديار المصرية-، وأفاضوا الحديث، فكان الاعتماد على ما يقوله ابن عبد السلام، وخلاصة ما قال: "إنه إذا طرق العدو بلاد الإسلام وجب على العالم قتالهم، وجاز لكم أن تأخذوا من الرعية ما تستعينون به على جهادكم، بشرط ألا يبقى في بيت المال شيء، وتبيعوا مالكم من الحوائص-أي:حزام الرجل وحزام الدابة- المذهبة والآلات النفيسة، ويقتصر كل الجند على مركوبه وسلاحه، ويتساووا هم والعامة، وأما أخذ الأموال من العامة، مع بقايا في أيدي الجند من الأموال والآلات الفاخرة فلا يجوز".
وانفض المجلس على ذلك، ولم يتكلم السلطان، وهو الملك المنصور علي ابن الملك المعز أيبك، لعدم معرفته بالأمور ولصغر سنه، فلهج الناس بخلع السلطان وتولية قطز حتى يقوم بهذا الأمر المهم. فقد علم قطز أنه لا بد من خروجه من مصر على رأس قواته العسكرية لقتال التتار، ولكنه لا يستطيع أن يفعل ما يريد، لأن الآراء مغلولة لصغر سن السلطان، ولأن الكلمة مختلفة، فجمع قطز الأمراء والعلماء من أصحاب الرأي، وعرفهم أن الملك المنصور هذا صبي لا يحسن التدبير في مثل هذا الوقت الصعب، ولا بد من أن يقوم بأمر الملك رجل شهم يطيعه كل أحد، وينتصب للجهاد في التتار، فأجابه الجميع: ليس لها غيرك.
لقد كان الجواب على رسالة هولاكو هو: القتال، ولا شيء غير القتال. وكان هذا القرار متفقًا عليه من الجميع قبل وصول وفد هولاكو، وقبل وصول رسالته إلى القاهرة.
ولم يكن إعدام الوفد إلا حافزًا جديدًا لقطز وقواته على القتال، دون أن يتركوا الباب مفتوحًا لحل آخر غير القتال.
وهذا موقف لقطز في مثل تلك الظروف التي كانت تحيط به، موقف يُحمد عليه، لأنه انتزع آخر أمل من نفوس المترددين والانهزاميين في احتمال رضوخ قطز إلى مطالب التتار، فقال قطز قولته الحاسمة: "إن الرأي عندي هو أن نتوجه جميعًا إلى القتال، فإذا ظفرنا فهو المراد، وإلا فلن نكون مسلمين أمام الخلق".
الحشد
خرج قطز يوم الإثنين الخامس عشر من شعبان سنة 658 هـ - 1260م بجميع عسكر مصر ومن انضم إليهم من عساكر الشام ومن العرب والتركمان وغيرهم من قلعة الجبل في القاهرة، يريد معسكر الصالحية، معسكر مصر الكبير في شرق الدلتا.
وقبل ذلك، وفي اليوم نفسه، أحضر قطز رسل "هولاكو" وأعدمهم، ليضع قواته المسلحة أمام الأمر الواقع: لا مفر من القتال.
ونودي في القاهرة والفُسطاط وسائر أقاليم مصر بالخروج إلى الجهاد، وتقدم قطز إلى جميع الولاة يحث الأجناد للخروج إلى القتال، وسار حتى وصل إلى الصالحية، وتكامل حشد قواته، فجمع الأمراء وكلمهم بالرحيل، فأبوا كلهم عليه وامتنعوا عن الرحيل، فقال لهم: "يا أمراء المسلمين، لكم زمان تأكلون أموال بيت المال، وأنتم للغزاة كارهون، وأنا متوجه، فمن اختار الجهاد يصحبني، ومن لم يختر ذلك يرجع إلى بيته، فإن الله مطلع عليه، وخطيئة حريم المسلمين في رقاب المتأخرين".
وتكلم الأمراء الذين اختارهم وحلّفهم مؤيدين له في المسير، فلم يسع البقية غير الموافقة. لقد جمع قطز قادته قبل المسير، وشرح لهم خطورة الموقف، وذكرهم بما وقع من التتار في البلاد التي غزوها من شنيع السفك والتخريب، وما ينتظر مصر وأهلها من مصير مروع إذا انتصر التتار، وحثهم وهو يبكي على بذل أرواحهم في سبيل إنقاذ الإسلام والمسلمين من هذا الخطر الداهم، فضج القادة بالبكاء، ووعدوا ألا يدخروا وسعًا في سبيل مقاتلة التتار، وإنقاذ مصر والإسلام من شرهم.
ولكن لماذا خاف قادة قطز التتار؟
كان هولاكو في خلق لا يحصيهم إلا الله، ولم يكونوا من حين قدومهم على بلاد المسلمين سنة 616 هـ - 1219م يلقاهم عسكر إلا فلّوه، وكانوا يقتلون الرجال ويسبون النساء ويستاقون الأسرى وينهبون الأموال، لذلك آثر قادة قطز بعد إكمال حشد قواتهم حماية مصر لا غير، لكثرة عدد التتار واستيلائهم على معظم بلاد المسلمين، لأن التتار لم يقصدوا إقليمًا إلا فتحوه، ولا عسكرًا إلا هزموه، ولم يبق خارج حكمهم إلا مصر والحجاز واليمن، وقد هرب جماعة من المغاربة الذين كانوا بمصر إلى المغرب، لقد كانت المعنويات منهارة، فلا عجب أن يبذل قطز كل جهده لرفع معنويات قادته ورجاله خاصة، والشعب المصري عامة، وأن يستحث القادرين على حمل السلاح للجهاد بأرواحهم، والقادرين على تقديم الأموال للجهاد بأموالهم، وأن يحشد كل طاقاته المادية والمعنوية للحرب، فلا يعلو صوت على صوت المعركة، ولا يُقبل عذر من أحد قادر على الجهاد بماله وروحه، وقد قدم قطز مثالاً شخصيًا رائعًا في الجهاد بماله وروحه في سبيل الله.
كما أن قطز صمّم على لقاء التتار خارج مصر، وألا ينتظرهم في مصر للدفاع عنها على الأرض المصرية، حتى يجنب مصر ويلات الحرب أولاً، ويرفع معنويات رجاله ومعنويات المصريين ثانيًا، ويوحي للتتار بأنه لا يخافهم فيؤثر ذلك على معنوياتهم ثالثًا، ولأن المدافع لا ينتصر مطلقًا إلا في نطاق ضيق محدود بعكس المهاجم الذي يؤدي انتصاره إلى كارثة تحيق بعدوه رابعًا، ولأن الهجوم أنجح وسائل الدفاع خامسًا وأخيرًا.
إن تصميم قطز على قبول المعركة خارج مصر، كان قرارًا عسكريًا فذًا.
المعركة
وخرج قطز من مصر في الجحافل الشامية والمصرية، في شهر رمضان من سنة 658 هـ- 1260م وغادر معسكر الصالحية بجيشه، ووصل مدينه "غزة" والقلوب وجلة، وكان في "غزة" جمع التتار بقيادة "بيدر"، وكان بيدر هذا قد أخبر قائده "كتبغا نوين" الذي كان في سهل "البقاع" بالقرب من مدينة "بعلبك" بزحف جيش قطز، فرد عليه: "قف مكانك وانتظر". ولكن قطز داهم "بيدر" قبل وصول "كتبغا نوين" فاستعاد غزة من التتار، وأقام بها يومًا واحدًا، ثم غادرها شمالاً باتجاه التتار.
وكان "كتبغا" مقدم التتار على جيش "هولاكو" لما بلغه خروج قطز، وكان في سهل البقاع قد عقد مجلسًا استشاريًا، واستشار ذوي الرأي في ذلك، فمنهم من أشار بعدم لقاء جيش قطز في معركة، والانتظار حتى يجيئه مدد من "هولاكو" ليقوى على مصاولة جيش المسلمين، ومعنى هذا مشاغلة جيش قطز بالقوات المتيسرة لديه ريثما ترده النجدات التي تضمن له النصر، ومنهم من أشار بغير ذلك -قبل المعركة- اعتمادًا على قوات التتار التي لا تقهر، وهكذا تفرقت الآراء، وكان رأي "كتبغا نوين" قبول المعركة ومواجهة جيش قطز، فتوجه من فوره جنوبًا باتجاه القوات المصرية.
وكان أول الوهن اختلاف الآراء وظهور رأي يحبذ الانسحاب، ورأي يحبذ عدم الانسحاب وقتال قطز.
وبعث قطز طلائع قواته بقيادة الأمير ركن الدين بيبرس البندقداري لمناوشة التتار واختبار قواتهم، واستحصال المعلومات المفصلة عن تنظيمهم وتسليحهم وقيادتهم، فالتقى بيبرس بطلائع التتار في مكان يقع بين "بيسان" و"نابلس" يدعي: "عين جالوت" في "الغور" غور الأردن، وشاغل التتار حتى وافاه قطز على رأس القوات الأصلية من جيشه، وفي يوم الجمعة 25 رمضان سنة 658هـ- 6 سبتمبر1260م نشبت بين الجيشين المتقابلين معركة حاسمة، وكان التتار يحتلون مرتفعات "عين جالوت"، فانقضوا على جيش قطز تطبيقًا لحرب الصاعقة التي دأب التتار على ممارستها في حروبهم، تلك الحرب التي تعتمد سرعة الحركة بالفرسان، وكان القتال شديدًا لم يُر مثله، حتى قتل من الجانبين جماعة كثيرة.
وتغلغل التتار عميقًا، واخترقوا ميسرة قطز، فانكسرت تلك الميسرة كسرة شنيعة، ولكن قطز حمل بنفسه في طائفة من جنده، وأسرع لنجدة الميسرة، حتى استعادت مواقعها.
واستأنف قطز الهجوم المضاد بقوات "القلب" التي كانت بقيادته المباشرة، وكان يتقدم جنوده وهو يصيح: "واإسلاماه.. واإسلاماه.." واقتحم قطز القتال، وباشر بنفسه، وأبلى في ذلك اليوم أعظم البلاء، وكانت قوات "القلب" مؤلفة من المتطوعين المجاهدين من الذين خرجوا يطلبون الشهادة، ويدافعون عن الإسلام بإيمان، فكان قطز يشجع أصحابه، ويحسّن لهم الموت، ويضرب لهم المثل بما يفعله من إقدام ويبديه من استبسال.
وكان قطز قد أخفى معظم قواته النظامية المؤلفة من المماليك في شعب التلال، لتكون كمائن، وبعد أن كر بالمجاهدين كرة بعد كرة حتى زعزع جناح التتار، برز المماليك من كمائنهم وأداموا زخم الهجوم بشدة وعنف.
وكان قطز أمام جيشه يصرخ: "واإسلاماه.. واإسلاماه.. يا الله انصر عبدك قطز على التتار"، وكان جيشه يتبعه مقتديًا بإقدامه وبسالته، فقتل فرس قطز من تحته، وكاد يعرض للقتل لولا أن أسعفه أحد فرسانه، فنزل له عن فرسه.
وسارع قطز إلى قيادة رجاله متغلغلاً في صفوف أعدائه، حتى ارتبكت صفوف التتار، وشاع أن قائدهم "كتبغا نوين" قد قُتل، فولوا الأدبار لا يلوون على شيء.
وكان "كتبغا نوين" يضرب يمينًا وشمالاً غيرة وحمية، وكان يكر على المسلمين، فرغَّبه جماعة من أتباعه في الهرب، ولكنه لم يستمع إليهم وقال: "لا مفر من الموت هنا، فالموت مع العزة والشرف خير من الهرب مع الذل والهوان".
ورغم أن جنوده تركوه وهربوا فقد ظل يقاتل حتى قُتل، وفي رواية أخرى أن جواده كبا به، فأسره المسلمون، والرواية الأولى أصح.
وكانت هناك مزرعة للقصب بالقرب من ساحة القتال، فاختفى فيها فوج من التتار، فأمر قطز جنوده أن يضرموا النار في تلك المزرعة، وأحرقوا فوج التتار جميعًا.
وبدأ المسلمون فورًا بمطاردة التتار، كما طاردهم المسلمون الذين لم يكونوا من جيش قطز، حتى دخل قطز دمشق في أواخر شهر رمضان المبارك، فاستقبله أهلها بالابتهاج.
وامتدت المطاردة السريعة إلى قرب مدينة حلب، فلما شعر التتار باقتراب المسلمين منهم تركوا ما كان بأيديهم من أسارى المسلمين، ورموا أولادهم، فتخطفهم الناس، وقاسوا من البلاء ما يستحقونه.
أسباب النصر
يجدر بنا أن نتوقف قليلاً لمعرفة أسباب انتصار قطز على التتار.
إن كل الحسابات العسكرية تجعل النصر إلى جانب التتار بدون أدنى شك، ولكن الواقع يناقض كل تلك الحسابات، فقد انتصر قطز، وانهزم التتار.
فقد كان لقادة التتار تجارب طويلة في الحروب، ولم يكن لقطز وقادته مثل تجارب قادة التتار ولا ما يقاربها، والقائد المجرب أفضل من القائد غير المجرب قطعًا، وكذلك الجيش المجرب أفضل من الجيش الذي لا تجربة له.
وكانت معنويات التتار قادة وجنودًا عالية جدًا، لأنهم تقدموا من نصر إلى نصر، ولم تهزم لهم راية من قبل أبدًا، وكانت معنويات قادة قطز وجنوده منهارة، وقد خرج أكثر القادة إلى القتال كرهًا.
وقد انتصر التتار في حرب الأعصاب، فكانوا ينتصرون بالرعب، مما يؤثر في معنويات أعدائهم أسوأ الأثر، والجيش الذي يتحلى بالمعنويات العالية ينتصر على الجيش الذي تكون معنوياته منهارة.
وكانت كفاية جيش التتار متفوقة على كفاية جيش قطز فواقًا كاسحًا، لأن جيش التتار خاض معارك كثيرة، لذلك كانت تجربته العملية على فنون القتال باهرة إلى أبعد الحدود، أما جيش قطز، فقليل التجربة العملية قليل التدريب.
والجيش الذي يتحلى بالكفاية -خاصة في ميدان التدريب العملي- ينتصر على الجيش الذي لا كفاية عملية لديه.
وكان جيش التتار متفوقًا على جيش قطز عَددًا وعُددًا، وقد ازداد تعداد جيش التتار بالذين التحقوا به من الموالين والمرتزقة والصليبيين، بعد احتلاله أرض الشام، والتفوق العَددي والعُددي من عوامل إحراز النصر.
وكان جيش التتار يتمتع بمزية فرسانه المتدربين، وكان تعداد فرسانه كبيرًا، مما ييسر له سرعة الحركة، ويؤدي إلى تطبيق حرب الصاعقة التي كانت من سمات حرب التتار، والجيش الذي يتحلى بسرعة الحركة يتغلب عل الجيش الذي لا يتحلى بهذه الميزة.
وكانت مواضع جيش التتار في عين جالوت أفضل من مواضع جيش قطز، لأن تلك المواضع كانت محتلة من التتار قبل وصول جيش قطز إلى المنطقة التي كانت تحت سيطرة التتار.
وللأرض أثر عظيم في إحراز النصر
وكان جيش التتار متفوقًا على جيش قطز في قضاياه الإدارية؛ إذ كان يستند على قواعده القريبة في أرض الشام، وهي التي استولى عليها واستثمر خيراتها، بينما كانت قواعد جيش قطز بعيدة عنه، لأنه كان يعتمد على مصر وحدها في إعاشته، والمسافة بين مصر وعين جالوت طويلة؛ خاصة في تلك الأيام التي كانت القضايا الإدارية تنقل على الدواب والجمال مخترقة الصحاري والوديان والقفار.
هذا التفوق الساحق الذي بجانب التتار في سبع مزايا حيوية:
التجربة العملية، والمعنويات العالية، والكفاية القتالية، والعدد والعدة، وسرعة الحركة، والأرض، والقضايا الإدارية، هذا التفوق له نتيجة متوقعة واحدة، هي: إحراز النصر على قطز وجيشه أسوة بانتصاراتهم الباهرة على الروم والفرس والعرب والأمم الأخرى في زحفهم المظفر الطويل.
ولكن الواقع أن الجيش المصري انتصر على جيش التتار، فكيف حدث ذلك؟
أولاً: قدّم شيوخ مصر، وعلى رأسهم الشيخ العز بن عبد السلام إرشاداتهم الدينية لقطز، فأخذ بها ونفذها على نفسه وعلى رجاله بكل أمانة وإخلاص، وأمر رجاله بالمعروف ونهاهم عن المنكر، فخرج الجيش من مصر تائبًا منيبًا طاهرًا من الذنوب.
وكان على رأس المجاهدين جميع القادرين من شيوخ مصر على السفر وحمل السلاح وتحمل أعباء الجهاد.
ثانيًا: قيادة قطز الذي كان يتحلى بإرادة القتال بأجلى مظاهرها، فكان مصممًا على قتال التتار مهما تحمل من مشاق، وبذل من تضحيات، ولاقى من صعاب.
ولعل إصراره على مهاجمة التتار خارج مصر، وعدم بقائه في مصر، واختياره الهجوم دون الدفاع، واستبعاده خطة الدفاع المستكن، هو الذي جعل رجاله قادة وجنودًا في موقف لا يؤدي إلا إلى الموت أو النصر، مما جعلهم يستقتلون في الحرب، لأنه لم يكن أمامهم في حالة الهزيمة غير الإبادة والإفناء.
إن قطز لم يجاهد ليتولى السلطة، بل تولى السلطة من أجل الجهاد.
ثالثًا: إيمان قطز بالله واعتماده عليه، وإيمان المتطوعين في جيشه من المجاهدين الصادقين الذين خرجوا طلبًا للشهادة، كان له أثر عظيم في إحراز النصر.
إن أثر قطز والمجاهدين معه في معركة عين جالوت كان عظيمًا، وحين اطمأن قطز إلى نصر الله ترجل عن فرسه، ومرغ وجهه في التراب تواضعًا، وسجد لله شكرًا على نصره، وحمد الله كثيرًا وأثنى عليه ثناءً عاطرًا.
لقد كان انتصار المسلمين في "عين جالوت" على التتار انتصار عقيدة لا مراء.
الشــهيد
لم تمض أسابيع قلائل، حتى طُهرت بلاد الشام كلها من فلول التتار، فرتب قطز أمور البلاد، واستناب على دمشق أحد رجاله، ثم خرج من دمشق عائدًا إلى مصر، إلى أن وصل إلى "القصير"، وبقي بينه وبين الصالحية المعسكر الذي حشد فيه قواته قبل الحركة لقتال التتار مرحلة واحدة، ورحلت قواته إلى جهة الصالحية، فانقض عليه عدد من الأمراء وقتلوه على مقربة من خيمته، ذلك يوم السبت 16 من ذي القعدة سنة 658 هـ- أكتوبر- 1260م، ولم يمض يومان على قتله حتى حلّ "بيبرس" مكانه باسم الملك الظاهر.
وقد دفن قطز في موضع قتله، وكثر أسف الناس وحزنهم عليه، وكان قبره يُقصد دائمًا للزيارة..
وكانت سلطنة قطز سنة إلا يومًا واحدًا.
وكان قطز بطلاً شجاعًا مقدامًا حسن التدبير، يرجع إلى دين وإسلام وخير، كما قال فيه الذهبي، وله اليد البيضاء في جهاد التتار، فعوض الله شبابه بالجنة ورضي عنه.
لقد كان قطز صادقًا عزيز النفس، كريم الأخلاق، مجاهدًا من الطراز الأول.
قُتل قاهر التتار مظلومًا، فخسر روحه وربح الدنيا والآخرة، وسجله التاريخ في أنصع صفحاته - رضي الله عنه وأرضاه-، وجعله قدوة صالحة لقادة العرب والمسلمين، فما أشبه غزو التتار بغزو الصهاينة، وما أشبه دعم الصليبيين القدامى للتتار بدعم الصليبيين الجدد للصهاينة، وما أحوجنا اليوم إلى مثله قائدًا يتخذ الهجوم مبدأ، ولا يكتفي بالدفاع، ويتخذ العمل منهجًا ولا يكتفي بالكلام، ويقاتل العدو الصهيوني في الأرض المحتلة، ولا ينتظر أن يقاتله في أرضه، ويطلب الموت لتوهب له الحياة


رد مع اقتباس
  #3  
قديم 13-09-2006, 04:25 PM
د.فالح العمره د.فالح العمره غير متصل
 
تاريخ التسجيل: Feb 2005
الدولة: في قلوب المحبين
المشاركات: 7,593
معدل تقييم المستوى: 27
د.فالح العمره is on a distinguished road

قطز ... الصائح: "وا إسلاماه"
كان سيف الدين قطز عبدًا لرجل يسمى "ابن العديم" بدمشق ثم بِيع من يدٍ إلى يد حتى انتهى إلى "عز الدين أيبك" من أمراء مماليك البيت الأيوبي بمصر. وتدرج في المناصب حتى صار قائدًا لجند أيبك، ثم قائدًا للجيوش عندما تولى "عز الدين أيبك" السلطنة مع شجرة الدر.
ثم صار وصيًا على ابنه "المنصور" بعد مقتله ومقتل زوجته شجرة الدر من بعده. وقد استشار كبار رجال الدولة والعلماء في أمور البلاد في حضور "المنصور"، وقد انصرف "المنصور" عن المجلس دون أن ينطق بكلمة، فأشاروا على "قطز" بعزله وتولي أمر البلاد؛ فاستجاب لهم وعزل "المنصور"، وقام باعتقال مجموعة من أمراء المماليك الموالين لعز الدين أيبك وابنه، ووضع على قيادة الجيوش ركن "الدين بيبرس".
ويروي شمس الدين الجزري في تاريخه عن "سيف الدين قطز": ".. لما كان في رِقِّ ابن العديم بدمشق، ضربه سيده وسبَّه بأبيه وجده، فبكى ولم يأكل شيئًا سائر يومه، فأمر سيده الفرّاش أن يترضاه ويطعمه، فروى الفرّاش أنه جاءه بالطعام وقال له: كل هذا البكاء من لطمة؟ فقال قطز: إنما بكائي من سَبِّه لأبي وجدي وهما خير منه؛ فقلت: من أبوك؟ واحد كافر؟!.. فقال: والله ما أنا إلا مسلم ابن مسلم، أنا محمود بن ممدود ابن أخت خوارزم شاه من أولاد الملوك، فسكت وترضيته" كما يروي أنه أخبر في صغره أحد أقرانه أنه رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم- وقد بشَّره بأنه سيملك مصر ويكسر التتار، ومثل هذه الروايات- وإن كان الشك يحوطها- تعني أن الرجل كان يعتبر نفسه صاحب مهمة، وأن له دورًا في صناعة التاريخ، وتغيير الواقع الأسيف الذي يحيط به من كل جانب.
مُلك مصر
لقد وصل "سيف الدين قطز" للسلطة في مصر والأخبار تتوالى عن اقتحام التتار للشام، واستباحتهم للمدينة تلو الأخرى في طريقهم إلى مصر، وما لبثت رسلهم أن وقفت أمام "قطز" وهو في أيامه الأولى على عرشه تقرأ الرسالة التالية: "من ملك الملوك شرقًا وغربًا، القائد الأعظم، باسمك اللهم باسط الأرض ورافع السماء، نُعلم أمير مصر "قطز"، الذي هو من جنس المماليك الذين هربوا من سيوفنا إلى هذه الأرض، بعد أن ابتاعوا إلى التجار بأبخس الأثمان أما بعد.. "فإنا نعبد الله في أرضه، خلقنا من سخطه، يسلطنا على من يشاء من خلقه، فسلموا إلينا الأمر؛ تسلموا، قبل أن ينكشف الغطاء؛ فتندموا، وقد سمعتم. أننا أخربنا البلاد، وقتلنا العباد، فكيف لكم الهرب،؟! ولنا خلفكم الطلب، فما لكم من سيوفنا خلاص، وأنتم معنا في الأقفاص، خيولنا سوابق، وسيوفنا صواعق، فقلوبنا كالجبال، وعددنا كالرمال، فمن طلب حربنا ندم، ومن تأخر عنا سلم. .. فلا تهلكوا أنفكسم بأيديكم، فقد حذر من أنذر، وقد ثبت عندكم أننا كفرة، وثبت عندنا أنكم فجرة، والله يلقي الكفرة على الفجرة.."
وحذره في آخر الرسالة من أن يلقى مصير الخلافة العباسية المنكوبة في بغداد، فما كان من قطز إلا أن حبس الرسل حينًا، وأرسل يستشير الأمراء والعلماء. وفي ذات الوقت انتشر الهلع بين الناس، وشرع المغاربة في الرحيل تجاه الغرب، وآخرون رحلوا إلى الحجاز واليمن- فأشار الجميع بضرورة الخروج لملاقاة التتار، وإلا خربت البلاد بسبب الهلع والخوف قبل أن يخربها التتار بدخولها.
وهنا وقف العلماء وعلى رأسهم الشيخ "العز بن عبد السلام" رحمه الله- أمام الأمراء وقادة الجند، وهم في سبيلهم لجمع الأموال للإعداد للحرب، فقرروا ألا يؤخذ من الناس شيئًا إلا إذا كان بيت المال فراغًا، وأخرج الأمراء والتجار وأغنياء الناس من أموالهم وذهبهم وتساوى الجميع، فنزل قطز على حكم العلماء ممّا أحدث جفوة مع بعض الأمراء.
وتوجه قطز إلى رسل هولاكو فوسّطهم (أي قتلهم بأن ضربهم بالسيف ففصل أجسادهم من وسطها) وعلَّقهم على أبواب القاهرة؛ رغم أن الرسل لا يُقتلون، ولكنه أراد أن يشعر الناس بقوة وهيبة دولته. وجاء الخبر بوقوع أمير دمشق في قبضة هولاكو، وأن جموع التتار استباحت مدن الشام تعيث فيها فسادًا وتهتك الحرمات، وتنهب الثروات، فكان لا بد من سرعة التحرك لوقف الزحف المرتقب على مصر.
نادى "قطز" في البلاد للخروج لحرب التتار، فاستجاب له جند من مصر ومن الشام، واجتمع تحت يديه قرابة الأربعين ألفًا من الجند، فتقدم بهم إلى منطقة البقاع إلى أرض الشام. فوصل الخبر لأحد قادة التتار بالشام ويسمى "كتبغا نوين"، واستشار من حوله فاختلفوا فمنهم من رأى أن يتمهل حتى يصل إليه مدد من "هولاكو"، ومنهم من رأى أن يسرع بلقائه قبل أن يجتمع حول "قطز" الجند الفارون من الحرب السابقة؛ فتزيد خطورة الموقف. فاستجاب للرأي الأخير وذلك "ليقضي الله أمرًا كان مفعولاً".
فتقدم "كتبغا نوين" من جيش قطز، فتلاقيا عند "عين جالوت" من أرض فلسطين، وقد كان ذلك في 25 رمضان 658هـ - 6 سبتمبر 1260م.
عين جالوت
واشتعل القتال بين الطرفين، والمسلمون الأقل عددًا يحاولون أن يوقفوا هجمات التتار الشرسة، وضغط التتار على ميسرة جيش المسلمين فانكسرت، فما كان من "قطز" وقائد جيوشه "بيبرس" إلا أن التفا من الخلف مع فريق من المقاتلين ليمنعوا التفاف جيش المغول حول المسلمين، ونجحوا في نهاية اليوم في وقف هجمة المغول من هذا الجانب؛ ولكن بعد خسارة كبيرة. وبدأ اليوم الثاني: واستمر القتال فيه سجالاً بين الطرفين. وفي مطلع اليوم الثالث: خطب "قطز" في جيشه يرغبهم في الجنة. ويُحسن لهم الموت في سبيل الله، وما أن اشتعل القتال حتى انطلق جيش التتار في حملة شديدة كادوا أن يكسروا فيها جيش المسلمين، فما أن رأى قطز ذلك حتى نزل عن فرسه وضرب عنقه، وخلع عنه خوذته في وسط ميدان المعركة صائحًا "واإسلاماه" وثبت معه طائفة من الفرسان الأشداء، فما لبث أن عاد الفارون من الميدان إلى المعركة من جديد، ونزل أحد الفرسان عن فرسه ليركبه قطز، فرفض صائحًا: ما كنت أمنع نفعك عن المسلمين الآن (يقصد أن في هذا الموقف لكل فرد دور يجب أن يؤديه، وأن استمرار الفارس في ركوبه لفرسه أنفع من ركوبه هو وخروجه من هذا الموقف) فإذا بجند الإسلام ينقضون على جيش التتار، فتنكسر هجمة التتار وتتخلخل صفوفهم، فيشرع "كتبغا نوين" في قيادة جنوده بنفسه وينزل إلى ساحة المعركة، ولكن سيوف المسلمين تقتلع شره وتقضي عليه، فينهزم جيش التتار لأول مرة في المعركة، ولأول مرة منذ خروجهم لغزو أمة الإسلام. ويقود "بيبرس" مجموعة من الفرسان الأشداء ويتبعهم حتى يقضي على بقيتهم، وانطلق "قطز" بجيشه إلى "بيسان" من الشام حيث كان اللقاء الثاني مع التتار، وقد كانت سيوف المسلمين ذاقت دماء التتار في الوقعة الأولى وعرفت طريقها إلى رقابهم، فكان في هذا اللقاء مثل ما كان في اللقاء الأول، وانهزم جيش التتار، وتبعهم أيضًا "بيبرس" حتى دمشق، ففروا أمامه وتركوا ما كان في أيديهم من الأسرى المسلمين.
وزال خطرهم عن مصر والشام إلى حين (حيث تكررت محاولتهم مرة ثانية ولكن في عهد حكم بيبرس، وقد قضى عليهم تمامًا في هذه المرة) واستقر حكم "قطز" في كل من مصر والشام، وخضع أمراء البيت الأيوبي لسلطان قطز، ونظم شئون الشام، وقد كان وعد قائده "بيبرس" بحكم حلب؛ ولكنه أخلف وعده وأعطاها لآخر. وبدأ رحلة العودة، وأرسل البشير إلى القاهرة بانتصاره، وقد كان "قطز" كما قيل:

أحسنتَ ظنَك بالأيام إذ حسنت ولم تخفْ غبَّ ما يأتي به القدرُ
وسالمتْك الليالي فاغتررت بها وعند صفو الليالي يحدث الكدر
إذ تآمر عليه أمراء المماليك وعلى رأسهم قائد جنده ووضع على قيادة الجيش "ركن الدين بيبرس"!! فما أن خلى "قطز" لبعض شأنه حتى التفوا حوله فقتلوه!! وكان ذلك بالقرب من الصالحية في 16 من ذي القعدة عام 658هـ/ 1260م، وبالرغم أن فترة حكمه لم تتعدَ العام، إلا أنها ستبقى حاضرة في ذاكرة المسلمين عزة.. وكرامة.. ونصرًا..

رد مع اقتباس
  #4  
قديم 15-09-2006, 04:43 AM
سعود الخويطري سعود الخويطري غير متصل
 
تاريخ التسجيل: Jan 2005
المشاركات: 4,778
معدل تقييم المستوى: 24
سعود الخويطري is on a distinguished road

بارك الله فيك وبماكتبت



وسرد طيب عن المعركة التاريخية عين جالوت ودمـــت

 

التوقيع

 

 
 
رد مع اقتباس
  #5  
قديم 16-09-2006, 04:38 PM
د.فالح العمره د.فالح العمره غير متصل
 
تاريخ التسجيل: Feb 2005
الدولة: في قلوب المحبين
المشاركات: 7,593
معدل تقييم المستوى: 27
د.فالح العمره is on a distinguished road

مرحبا بك يا بو محمد ولا هنت على حضورك

رد مع اقتباس
  #6  
قديم 16-09-2006, 04:39 PM
د.فالح العمره د.فالح العمره غير متصل
 
تاريخ التسجيل: Feb 2005
الدولة: في قلوب المحبين
المشاركات: 7,593
معدل تقييم المستوى: 27
د.فالح العمره is on a distinguished road

هزيمة التتار في عين جالوت


ذكرنا في الحلقات الماضيات كيف قدم التتار إلى البلاد العربية الإسلامية ، وقد سبقتهم سمعتهم الرهيبة وأفعالهم المتوحشة ، فعاثوا في الأرض فساداً في بغداد وحلب ودمشق ، واتجهوا إلى الديار المصرية ليأخذوها ، وكانت تحت حكم السلطان المملوكي قطز ، وجاء الخبر إلى الناس في مصر أن عسكر هولاكو قد وصل إلى دمشق ، ونهب البلاد ، وقتل العباد ، فاضطربت من هذا الخبر القاهرة ، وعظمت البلية ، ووصلت رسل خمسة من هولاكو برسالة جاء فيها بعد كلام فيه احتقار للمماليك : ( سلموا إلينا الأمر تسلموا قبل أن ينكشف الغطاء فتندموا ، وقد سمعتم أنا أخربنا البلاد وقتلنا العباد ، فلكم منا الهرب ، ولنا خلفكم الطلب ، فمالكم من سيوفنا خلاص ، وأنتم معنا في الأقفاص ، خيولنا سوابق ، وسيوفنا صواعق ، فقلوبنا كالجبال ، وعددنا كالرمال ، فمن طلب حربنا ندم ، ومن تأخر عنا سلم ) .

ثم قال له بعد كلام : ( فأسرعوا إلينا بالجواب قبل أن تضرم الحرب نارها ، وترميكم بشرارها ، فلا يبقى لكم جاه ولا عزّ ، ولا يعصمكم منا حصن ولا حرز ، وتترك الأرض منكم خالية ، والمنازل خاوية ، فقد أيقظناكم إذ حذرناكم ، فما بقي لنا مقصد سواكم ، وقد حذرنا قبلكم أهل بغداد بمثل ذلك فما سمعوا فجرى عليهم ما سمعتم به ، وقتلنا خطيبهم الذي يزعمون أنه الخليفة ، وخربنا عواقب الردى ) ، فها أنت ذا ترى أخي القارئ شدة التتار في كلامهم ، وقوة تهديدهم ، وجلبهم العبارات الميئسة ، خاصة أن هولاكو ختم الرسالة بهذين البيتين :
أين المفر ولا مفـرّ لهـارب ولنا البسيطان:الثرى والماء
ذلت لهيبتنا الأسود وأصبحت في يـدنا الأمـراء والخلفـاء


فماذا فعل المظفر قطز بعد هذا التهديد الذي لا مثيل له ؟ إن الرجل توكل على مولاه الذي لا يخيب قاصده ، وقرر أن يدخل الحرب ضد هولاكو ، وذلك بعد أن جمع الأمراء فاستشارهم فقال لهم فيما قال : ( إن تأخرتم عن قتالهم ملكوا الديار المصرية ، وفعلوا بنا كما فعلوا في بغداد )، فأجمع أمرهم على الخروج إلى هولاكو ، وهنا فعل قطز فعلاً عجيباً لا يقدم عليه إلا من كان قد عقد العزم على المناجزة ، وبث الرعب في العدو المقابل ، وذلك أنه أمر بالرسل الخمسة فقتلوا ، وهذا مخالف لما هو معروف من أن الرسل لا يقتلون ، لكنه صنع هذا ليخيف الأعداء ويشعرهم بقوته وهيبته وسطوته .

واستعد المظفر قطز للقتال وجمع عدداً ضخماً من الجنود بينهم كثير من عربان الشرقية والغربية ، ونادى بالنفير العام إلى الغزو في سبيل الله تعالى ، فاجتمع عنده من عساكر مصر نحو أربعين ألفاً ، ثم برزت مشكلة جمع الأموال اللازمة لهذا الجهاد ، فعقد مجلساً دعى إليه القضاة والمشايخ ، وكان على رأسهم شيخ الإسلام عز الدين عبد العزيز بن عبد السلام رحمه الله تعالى ، واستشار السلطان قطز عز الدين بن عبد السلام في شأن المال ، فقال الإمام كلاماً عظيماً لا يصدر إلا ممن وثق بنصر الله تعالى لعبيده فقال : (اخرجوا وأنا أضمن لكم على الله النصر )، فقال السلطان : ( إن المال في خزانتي قليل وأنا أريد أن أقترض من أموال التجار )، فقال له الإمام ابن عبد السلام إذا أحضرت ما عندك وعند حريمك ، وأحضر الأمراء ما عندهم من الحلي الحرام اتخاذه ، وضربته سكة ونقداً ، وفرقته في الجيش ولم يقم بكفايتهم ، ذلك الوقت اطلب القرض ، وأما قبل ذلك فلا )، فأحضر السلطان والعسكر كلهم ما عندهم من ذلك بحضرة الشيخ ، وكانت له عندهم عظمة ، وله في أنفسهم مهابة بحيث لا يستطيعون مخالفته ، فامتثلوا ما قاله ، وهذا يدل على أن لمشايخ الإسلام القدماء عظمة ومكانة لا تدانيها مكانة .

وأما قول العز بن عبد السلام اخرجوا وأنا أضمن لكم على الله النصر ) فهو من باب الثقة بنصر الله تعالى ، وأن النصر يتنزل إن حققت شروطه ، والشيخ قد رأى أن شروطه تحققت ، أو أن ذلك من باب الكرامة للشيخ رحمه الله تعالى ، ويشبه هذا ما وقع لشيخ الإسلام ابن تيمية فإنه كان يقسم للناس أن الله سينصرهم على التتار في وقعة شقحب سنة 702هـ وكانت مع التتار أيضاً ، وكان إذا قيل له : قل إن شاء الله يقول : إن شاء الله تحقيقاً لا تعليقاً .

ثم إن المظفر قطزاً جمع المال من الناس ، فقرر على كل رأس من أهل مصر والقاهرة من كبير وصغير ديناراً واحداً ، وأخذ من أجرة الأملاك شهراً واحداً ، وأخذ من أغنياء الناس والتجار زكاة أموالهم معجلاً ، وأخذ أشياء أخرى كثيرة ، واجتمع له من الأموال بسبب هذا ستمائة ألف دينار وكسور ، فأنفق ذلك على العسكر والعربان وجهز جيشه ، والطريف أن أحد الشعراء قال في صنيعه هذا الذي اتكأ فيه على فتوى الإمام ابن عبد السلام :
إن سلطاننا الذي نرتجيـه واسع الحال ضيق الإنفـاق
هو سـيف كما يقـال ولكـن قاطـع للرســوم والأرزاق

وصل المظفر قطز إلى فلسطين في موقع هنالك يقال له ( عين جالوت ) ، وكان ذلك في العشر الأواخر من رمضان سنة 658 ، وكان يوم جمعة ، فلما رأى جنود التتار وكثرتهم قال رحمه الله تعالى للأمراء والجيوش الذين معه: لا تقاتلوهم حتى تزول الشمس وتفيء الظلال وتهب الرياح ويدعو لنا الخطباء والناس في صلاتهم ، وقد التقى مع التتار فانكسر الجيش الإسلامي ابتداء ، فترجل عن جواده ورمى خوذته وقال : وا إسلاماه ، فكان لهذه الكلمة فعلها في النفوس ، فاجتهد الجند والأمراء وقاتلوا قتالاً هائلاً ، وكان بينهما ما تشيب من هوله النواصي ، وقتل من الفريقين عسكر لا يحصى في معركة هائلة ، ثم انجلت المعركة عن هزيمة شنيعة للتتار ما ذاقوا مثلها من قبل ، وقتل قائدهم المحنك كَتْبُغانُوِين نائب هولاكو على بلاد الشام ، ولله الحمد حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه ، وما قامت للتتار قائمة بعد تلك المعركة ، بل كان أمرهم إلى بوار ، وفرح المسلمون فرحاً شديداً بهذه النتيجة ، واتبعوا التتار يقتلونهم في كل موضع ، وهرب التتار من دمشق وحلب ، وأيد الله الإسلام وأهله ، وكبت الله النصارى واليهود والمنافقين الذين فرحوا بانتصار التتار قبل ذلك ، وظهر دين الله وهم كارهون .

وبعد : لقد نصر الله المسلمين في عين جالوت نصراً عظيماً لم يكن أكثر الناس تفاؤلاً يتوقعه ، والمسلمون اليوم تحيط بهم أخطار كثيرة من جهات عديدة لكن بشائر النصر قريبة إن شاء الله تعالى ، فهاهم أسود الله في فلسطين والشيشان وكشمير وغيرها يجاهدون في سبيل الله ، ويرفعون راية الدين عالية ، ويثبتون للدنيا جميعها أن هذه الأمة لا تموت ، ولا ينبغي لها أن تموت ، وأن رحمها ولود بالأبطال ، وأنها تستعصي على كل المؤامرات الدولية والمؤتمرات التيئيسية .

رد مع اقتباس
  #7  
قديم 28-09-2006, 04:58 AM
د.فالح العمره د.فالح العمره غير متصل
 
تاريخ التسجيل: Feb 2005
الدولة: في قلوب المحبين
المشاركات: 7,593
معدل تقييم المستوى: 27
د.فالح العمره is on a distinguished road

عين جالوت : الواقعة والمغزى

الإعصار

د. عماد الدين خليل


--------------------------------------------------------------------------------

في منتصف عام 758 هـ (1260 م) بعث هولاكو من الشام برسله يحملون رسالته المشهورة إلى سلطان مصر المملوكي: سيف الدين قطز..

كان هولاكو في قمة انتصاراته.. وكان المغول قد اكتسحوا القوى الإسلامية واحدة بعد الأخرى، وهدموا متاريسها وجدرانها، وسووا الطريق أمام جحافلهم المتقدمة غرباً.. ما من قيادة إسلامية، من أواسط آسيا وحتى أطراف سيناء، إلا وأذعنت لهم طوعاً أو كرهاً.. وكان السيف الوثني المغولي يعلو على السيوف، وكان الرأس الذي لا ينحني له يُطاح به في التوّ واللحظة.. وحتى أولئك الذين اختاروا السلامة ولووا رؤوسهم عجزاً عن المجابهة وهروباً من الموت.. وقعوا في مصيدة الموت التي كان المغول يتفننون في نصبها وفي تعذيب خصومهم وهم يتقلبون في شباكها.

والذي حدث في بغداد معروف.. ومعروف أيضاً المصير المفجع الذي آلت إليه أكبر قوتين إسلاميتين في المشرق: الخوارزميون في بلاد فارس وما وراء النهر، والعباسيون في العراق..

سنوات عديدة والمطاردات الرهيبة لا تفتر بين المغول وبين السلطان الخوارزمي الأخير جلال الدين منكبرتي.. وصراع الحياة والموت يعرض مشاهده الدامية في مساحات واسعة من الأرض، شهدت جهات ما وراء النهر وشمالي الهند وبحر قزوين وشمالي العراق والجزيرة الفراتية والأناضول بعضاً منها..

وعبثاً حاول السلطان أن يتصل بالأمراء المحليين من إخوانه المسلمين في سبيل تشكيل جبهة إسلامية موحدة لمقاومة السيل الزاحف، لأنه –هو- عبر سنوات حكمه الطويلة قد مارس خطيئة التمزيق والتفتيت وإشعال نار الخصومة والعداء بين القيادات الإسلامية بعضها ضد بعض.. وأخيراً استسلم لليأس وتخلف عنه كثير من أنصاره، ووجد نفسه في قلة من أصحابه وحيداً غريباً، مطارَداً في جبال ديار بكر.. ويذكر معاصروه كيف أن البكاء كان يغلب عليه في الليل والنهار، وكيف أنه هرب إلى الخمر يختبئ وراء غيبوبتها من شبح النهاية القريب.. وما لبث أحد سكان المنطقة أن طعنه بسكين وقضى عليه.

وأما العباسيون فأمرهم معروف.. وما شهدته بغداد حاضرة المسلمين الكبرى، غدا مثلاً يضرب على مداولة الأيام بين الناس.

ولكن ما شأن الإمارات المحلية؟

لم يكن مصيرها –بطبيعة الحال- بأحسن من مصير دول الإسلام الكبرى.. بعضها هادن ونافق ودعا إلى السلم وهو في مواقع الضعف والهوان، فلم ينجه ذلك من سيوف المغول، وبعضها الآخر وقف الوقفة التي تقتضيها كرامة المسلم ولقي من صنوف الأذى ما يشير إلى بشاعة الطرائق التي اعتمدها المغول لإلقاء الرعب في قلوب الخصوم..

قُتِلَ الكاملُ الأيوبي أميرُ ميافارقين في ديار بكر شرّ قتلة، إذ كان المغول يقطعون لحمه قطعاً ويدفعون بها إلى فمه حتى مات، ثم قطعوا رأسه وحملوه على رمح وطافوا به في بلاد الشام. وكان يتقدم الموكب مغنون وطبالون، وأخيراً علِّق في شبكة بسور أحد أبواب دمشق، ويقال أنه بقي هناك حتى تحرير المدينة من قبضة الغزاة.

ووضع الملك الصالح أمير الموصل في دهن ولباد وألقي في الشمس حتى تحول الدهن إلى ديدان بعد أسبوع، فشرعت الديدان تأكل جسده حتى مات على تلك الصورة البشعة بعد شهر.. أما ابنه الذي كان طفلاً في الثالثة من عمره فشقوه نصفين على ساحل نهر دجلة على مرأى من الناس.. وغير هؤلاء كثيرون لقوا مصارع لا تقل شناعة وبؤساً.. وما جرى في مدن الجزيرة الفراتية وشمالي الشام يعد واحداً مما شهدته الكثير من المدن والإمارات على مدى المشرق الإسلامي كله..

فمن الذي يسهل عليه أن يكتب نعي الإسلام؟
والمؤرخ ابن الأثير المتوفى عام 630 هـ، وهو يستعرض وقائع عام 617 هـ ويسطر بدايات خروج المغول على بلاد الإسلام، يتحدث عن الهول الذي ألمَّ بمعالم الإسلام، وقد كان في مطالعه يومها.. فماذا لو طال العمر بالمؤرخ المذكور وشهد أحداث العقود التالية.. ومآسيها؟

يقول الرجل: »لقد بقيت عدة سنين معرضاً عن ذكر هذه الحادثة استعظاماً لها، كارهاً لذكرها، فأنا أقدّم إليه رجلاً وأؤخر أخرى، فمن الذي يسهل عليه أن يكتب نعي الإسلام والمسلمين؟ ومن الذي يهون عليه ذكر ذلك؟ فياليتَ أمي لم تلدني، وياليتني مت قبل حدوثها وكنتُ نسياً منسياً. إلا أني حدّثني جماعة من الأصدقاء على تسطيرها وأنا متوقف، ثم رأيت أن ترك ذلك لا يجدي نفعاً. فنقول: هذا الفعل يتضمن ذكر الحادثة العظمى والمصيبة الكبرى التي عقمت الأيام والليالي عن مثلها، عمّت الخلائق وخصّت المسلمين، فلو قال قائل: إن العالم منذ خلق اللهُ سبحانه وتعالى آدم وإلى الآن، لم يبتلوا بمثلها، لكان صادقاً، فإن التواريخ لم تتضمن ما يقاربها ولا ما يدانيها. ومن أعظم ما يذكرون من الحوادث ما فعله بخت نصر ببني إسرائيل من القتل، وتخريب البيت المقدس بالنسبة إلى ما خرب هؤلاء الملاعين من البلاد التي كل مدينة منها أضعاف البيت المقدس.. وما بنو إسرائيل بالنسبة إلى من قُتِلوا؟ فإن أهل مدينة واحدة ممن قتلوا أكثر من بني إسرائيل، ولعل الخلق لا يرون مثل هذه الحادثة إلى أن ينقرض العالم وتفنى الدنيا.. إنهم لم يبقوا على أحد، بل قتلوا الرجال والنساء والأطفال، وشقوا بطون الحوامل وقتلوا الأجنة، فإنا لله وإنا إليه راجعون، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم«.

الانكسار من الداخل
كان الهجوم المغولي السريع الكاسح قد منح هؤلاء المغيرين سلاحاً نفسياً خطيراً: الرعب الذي كان ينقض على خصومهم من الداخل فيهزمهم قبل أن تلتمع السيوف أمام عيونهم.. إنه السيف الأكثر حدة والذي كان يذبح فيه القدرة على الحركة.. لقد كان المسلمون يومها يعانون من شلل تام أو نصفي أفقدهم الأرجل التي يسيرون عليها والأيدي التي يضربون بها.. وهذه الوقائع التي يرويها ابن الأثير تكاد تكون تجسيداً »كاريكاتيرياً« مضحكاً محزناً للأمر الذي آل إليه الكثيرون من أبناء عالم الإسلام.

يقول الرجل: »لقد حكي لي عن حكايات يكاد سامعها يكذب بها من الخوف الذي ألقى الله سبحانه وتعالى في قلوب الناس منهم، حتى قيل إن الرجل الواحد منهم كان يدخل القرية أو الدرب وبه جمع كثير من الناس، فلا يزال يقتلهم واحداً بعد واحدٍ لا يتجاسر أحد أن يمد يده إلى ذلك الفارس. ولقد بلغني أن إنساناً منهم أخذ رجلاً، ولم يكن مع التتري ما يقتله به، فقال له: ضع رأسك على الأرض ولا تبرح، فوضع رأسه على الأرض ومضى التتري فأحضر سيفاً وقتله به! وحكى لي رجل قال: كنت أنا ومعي سبعة عشر رجلاً في طريق، فجاءنا فارس من التتر وقال لنا حتى يكتف بعضنا بعضاً، فشرع أصحابي يفعلون ما أمرهم، فقلت لهم: هذا واحد فلم لا نقتله ونهرب؟ فقالوا: نخاف أمرهم. فقلت لهم: هذا يريد قتلكم الساعة فنحن نقتله فلعل الله يخلصنا، فوالله ما جسر أحد أن يفعل، فأخذت سكيناً وقتلته، وهربنا فنجونا«!!

التحدي
في هذه الظروف السياسية والنفسية، ومن خلال وهج السيوف التي تقطر دماً وأصداء المعارك التي أثار نقعها سيل لا أول له ولا آخر من خيول الغزاة بعث هولاكو برسالته تلك إلى سلطان مصر المملوكي: سيف الدين قطز.. وكان الطاغية يعرف جيداً خلفية الرعب والانهزام التي رسمتها العقود الأخيرة على مدى خارطة عالم الإسلام وفي أعماق نفوس أبنائه، فعرف كيف ينتقي كلماتها.. قال: »مِن ملك الملوك شرقاً وغرباً، الخان الأعظم، باسمك اللهم باسط الأرض ورافع السماء.. يعلم الملك المظفر قطز وسائر أمراء دولته وأهل مملكته بالديار المصرية وما حولها ومن الأعمال، إنا نحن جند الله في أرضه، خلقنا من سخطه وسلّطنا على من حل به غضبه، فلكم بجميع البلاد معتَبَر، وعن عزمنا مزدجر، فاتعظوا بغيركم، وأسلموا إلينا أمركم قبل أن ينكشف الغطاء فتندموا ويعود عليكم الخطأ.. وقد سمعتم أننا قد فتحنا البلاد وطهرنا الأرض من الفساد وقتلنا معظم العباد، فعليكم بالهرب وعلينا الطلب. فأي أرض تأويكم؟ وأي طريق تنجيكم؟ وأي بلاد تحميكم؟ فما لكم من سيوفنا خلاص، ولا من مهابتنا مناص، فخيولنا سوابق، وسهامنا خوارق، وسيوفنا صواعق، وقلوبنا كالجبال، وعددنا كالرمال، فالحصون لدينا لا تمنع، والعساكر لقتالنا لا تنفع، ودعاؤكم علينا لا يُسمع.. فمن طلب حربنا ندم، ومن قصد أماننا سلم، فإن أنتم لشرطنا ولأمرنا أطعتم، فلكم ما لنا وعليكم ما علينا، وإن خالفتم هلكتم. فلا تهلكوا نفوسكم بأيديكم، فقد حذر من أنذر.. فلا تطيلوا الخطاب، وأسرعوا برد الجواب قبل أن تضرب الحرب نارها، وترمي نحوكم شرارها، فلا تجدون منا جاهاً ولا عزاً ولا كافياً ولا حرزاً، وتدهون منا بأعظم داهية، وتصبح بلادكم منكم خالية، فقد أنصفناكم إذ راسلناكم، وأيقظناكم إذ حذّرناكم، فما بقي لنا مقصد سواكم«.

فمن اختار الجهاد يصحبني!
كان الرسالة بمثابة التحدي النهائي لآخر قيادة إسلامية، وعلى ضوء الموقف الذي ستقرر هذه القيادة اتخاذه سيتوقف مصير عالم الإسلام وحضارته التي صنعها كدح القرون الطوال.

كل المؤشرات كانت تقود إلى الاستسلام للتحدي والإذعان لضروراته..

ولكن الإيمان له منطق آخر.. إنه لا يمنح القدرة على الحركة في ظروف الشلل التام فحسب، ولكنه يهب بصيرة نافذة تخترق حجب العمى والظلام لكي تطل على الأفق الذي يشع ضياء..

وبالحركة القديرة والرؤية الصائبة تجابه القيادات الفذة تحديات التاريخ ومحنه وويلاته فتخرج منها ظافرة وتحقق بالاستجابة قفزة نوعية في مجرى الفعل والتحقق.

قرأ سيف الدين قطز الرسالة واستدعى أمراءه ليعرض الأمر عليهم.. وجرى هذا الحوار.

قطز: ماذا ترتؤون؟

ناصر الدين قيمري: إن هولاكو، فضلاً عن أنه حفيد جنكيزخان، فإن شهرته وهيبته في غنى عن الشرح والبيان، وإن البلاد الممتدة من تخوم الصين إلى باب مصر كلها في قبضته الآن، فلو ذهبنا إليه نطلب الأمان فليس في ذلك عيب وعار! ولكن تناول السم بخداع النفس واستقبال الموت أمران بعيدان عن حكم العقل! إنه ليس الإنسان الذي يطمأن إليه، فهو لا يتورع عن احتزاز الرؤوس وهو لا يفي بعهده وميثاقه، فإنه قتل فجأة الخليفة وعدداً من الأمراء بعد أن أعطاهم العهد والميثاق، فإذا ما سرنا إليه فسيكون مصيرنا هذا السبيل!

قطز: والحالة هذه، فإن كافة بلاد ديار بكر وربيعة والشام ممتلئة بالمناحات والفجائع، وأضحت البلاد من بغداد حتى الروم خراباً يباباً، وقضي على جميع من فيها من حرث ونسل.. فلو أننا تقدمنا لقتالهم وقمنا بمقاومتهم فسوف تخرب مصر خراباً تاماً كغيرها من البلاد، وينبغي أن نختار مع هذه الجماعة التي تريد بلادنا واحداً من ثلاثة: الصلح أو القتال أو الجلاء عن الوطن. أما الجلاء عن الوطن فأمر متعذر، ذلك لأنه لا يمكن أن نجد لنا مفراً إلا المغرب، وبيننا وبينه مسافات بعيدة..

قيمري: وليس هناك مصلحة أيضاً في مصالحتهم إذ أنه لا يوثق بعهودهم!

عدد من الأمراء: ليس لنا طاقة ولا قدرة على مقاومتهم، فمر بما يقتضيه رأيك..

قطز: إن الرأي عندي هو أن نتوجه جميعاً إلى القتال، فإذا ظفرنا فهو المراد، وإلا فلن نكون ملومين أمام الخلق.

الظاهر بيبرس: أرى أن نقتل الرسل ونقصد كتبغا –قائد المغول- متضامنين، فإن انتصرنا أو هُزِمنا فسنكون في كلتا الحالتين معذورين.

أيد الأمراء كافة هذا الرأي.. وكان على قطز أن يتخذ قراره.. وقد اتخذه فعلاً.. قتل الرسل وعلق رؤوسهم على باب زويلة أياماً.. ورفع رأسه متحدياً بمواجهة الطاغية، وأصدر أوامر بالتجهز للقتال »جهاداً في سبيل الله ونصرة لدين رسول الله صلى الله عليه وسلم«..

وإذ رأى تردداً وجبناً ونكوصاً من عدد من الأمراء ألقى كلمته المؤثرة: »يا أمراء المسلمين! لكم زمان تأكلون أموال بيت المال، وأنتم للغزاة كارهون، وأنا متوجه، فمن اختار الجهاد يصحبني، ومن لم يختر ذلك يرجع إلى بيته، فإن الله مطلع عليه، وخطيئة حريم المسلمين في رقاب المتأخرين«..

وما كان للأمراء جميعاً، إزاء قيادة مؤمنة كهذه، إلا أن يخلعوا رداء العجز والوهن ومحبة الدنيا.. ويقفوا متحدين بمواجهة الفتنة التي إن لم تدفع بالدم فإنها لن تكتفي لضرب الذين ظلموا منهم خاصة!

اليوم الفصل
انطلقت القوات الإسلامية بقيادة سيف الدين قطز واجتازت سيناء باتجاه غزة سالكةً الطريق المحاذي للبحر، وتولى الظاهر بيبرس قيادة المقدمة. ولم يكن في غزة سوى قوة صغيرة من المغول بقيادة بايدر الذي أرسل إلى القائد المغولي كتبغا الذي أنابه هولاكو لإتمام الغزو غرباً، يخطره بحركة الجيش الإسلامي، غير أن المسلمين اكتسحوا عساكره قبل أن تصل إليه النجدة.

كان كتبغا في بعلبك، فتجهز علىالفور للمسير إلى وادي نهر الأردن بعد أن يتجاوز بحر الجليل، غير أن منعه اشتعال ثورة المسلمين في دمشق ضد السلطة المغولية وأنصارها من النصارى المحليين حيث حطمت دورهم وكنائسهم، واشتدت الحاجة إلى العساكر المغولية لإعادة الأمن إلى نصابه. وفي تلك الأثناء كان قطز يواصل السير على الساحل الفلسطيني ثم انعطف إلى الداخل ومضى شمالاً لتهديد مواصلات كتبغا إذا حدث وتقدم إلى فلسطين.

عبر كتبغا نهر الأردن وتوجه صوب الجليل الشرقي، فبادر قطز على الفور بالانعطاف بقواته باتجاه الجنوب الشرقي مجتازاً الناصرة حيث وصل في الرابع عشر من رمضان (المصادف الثاني من أيلول عام 1260م) إلى عين جالوت. وفي صبيحة اليوم التالي قدم الجيش المغولي تعززه كتائب كرجية وأرمنية، دون أن يعلم أن جيش المماليك أضحى قريباً منه. وكان قطز يعرف جيداً تفوق جيشه في العدد على العدو ولذا أخفى قواته الرئيسية في التلال القريبة ولم يعرض للعدو إلا المقدمة التي قادها بيبرس. وما لبث كتبغا أن وقع في الفخ إذ حمل بكل رجاله على القوات الإسلامية التي شهدها أمامه، فأسرع بيبرس في تقهقره إلى التلال بعد أن اشتدت مطاردة كتبغا له، فلم يلبث الجيش المغولي بأسره أن جرى تطويقه فجأة، وجرت بين الطرفين معركة طاحنة، واضطربت قوات المماليك بعض الوقت، فدخل قطز المعركة لجمعهم، ولم تنقضِ سوى بضع ساعات حتى بدأ تفوق المسلمين في الميدان، وسحقت زهرة القوات المغولية ووقع قائدهم نفسه أسيراً. وبأسره انتهت المعركة، إذ جرى حمله مقيداً بالأغلال إلى السلطان حيث احتزّ رأسه!

توجه السلطان قطز إلى دمشق بعد أيام قلائل من المعركة حيث استقبل استقبال الأبطال وهرب نواب المغول منها بعد أكثر من سبعة أشهر من خضوعها لسيطرتهم، وقام قائده الظاهر بيبرس بملاحقة فلول العدو شمالاً وتطهير البلاد منهم، حيث قتل وأسر عدداً كبيراً، وتمكن خلال شهر واحد من دخول حلب، المعقل الشمالي، وتخليصه من قبضة الغزاة. وهكذا تم تحرير بلاد الشام وفلسطين من أقصاها إلى أقصاها. ومع أن هولاكو أرسل العساكر لاسترداد حلب فإنهم اضطروا للانسحاب بعد أربعين يوماً أجروا أثناءها المذابح في عدد كبير من المسلمين انتقاماً لمصرع كتبغا، غير أن ذلك كان كل ما استطاع هولاكو أن يفعله للانتقام لقائده الشهير.

لقطات من المعركة
· تقدم الملك المظفر إلى سائر الولاة بإزعاج الأجناد في الخروج للسفر ومن وجد منهم قد اختفى يضرب بالمقارع! فلما كان الليل ركب السلطان وحرك أعلامه وقال: أنا ألقى التتار بنفسي. فلما رأى الأمراء مسير السلطان ساروا على كره!

· أقسم المظفر لقادة الصليبيين في فلسطين أنه متى تبعه منهم فارس أو راجل يريد أذى عسكر المسلمين رجع وقاتلهم قبل أن يلقى التتر!

· أمر الملك المظفر بالأمراء فجمِعوا، وحضهم على قتال التتار وذكرهم بما وقع بأهل الأقاليم من القتل والسبي والحريق، وخوّفهم من وقوع مثل ذلك، وحثّهم على استنقاذ الشام من التتر ونصرة الإسلام والمسلمين، وحذّرهم عقوبة الله، فضجوا بالبكاء وتحالفوا على الاجتهاد في قتال التتر ودفعهم عن البلاد.

· عندما اصطدم العسكران اضطرب جناح عسكر السلطان وانتقض طرف منه فألقى الملك المظفر عند ذلك خوذته عن رأسه إلى الأرض وصرخ بأعلى صوته: »واإسلاماه!« وحمل بنفسه وبمن معه حملة صادقة، فأيّده الله بنصره..

· مرّ العسكر في أثر التتر إلى قرب بيسان فرجع التتر والتقوا بالمسلمين لقاء ثانياً أعظم من الأول فهزمهم الله وقتل أكابرهم وعدة منهم، وكان قد تزلزل المسلمون زلزالاً شديداً فصرخ السلطان صرخة عظيمة سمعه معظم المعسكر وهو يقول: »واإسلاماه!« ثلاث مرات: »يا الله انصر عبدك قطز على التتار!« فلما انكسر التتار الكسرة الثانية نزل السلطان عن فرسه ومرغ وجهه على الأرض وقبلها، وصلى ركعتين شكراً لله تعالى ثم ركب، فأقبل العساكر وقد امتلأت أيديهم بالمغانم!

· كتب السلطان إلى دمشق يبشر الناس بفتح الله وخذلانه التتر، وهو أول كتاب ورد منه إلى دمشق. فلما ورد الكتاب سرّ الناس به سروراً كثيراً وبادروا إلى دور النصارى الذي كانوا من أعوان التتار فنهبوها وخربوا ما قدروا على تخريبه، وقتلوا عدة من النصارى واستتر باقيهم، وذلك أنهم في مدة استيلاء التتر هموا مراراً بالثورة على المسلمين وخربوا مساجد ومآذن كانت بجوار كنائسهم، وأعلنوا بضرب الناقوس وركبوا بالصليب وشربوا الخمر في الطرقات ورشّوه على المسلمين!

· لما بلغ هولاكو كسرة عسكرة وقتل نائبه كتبغا، عظم عليه فإنه لم يكسر له عسكر قبل ذلك..

· .. وأتم الملك المظفر السير بالعسكر حتى دخل دمشق، وتضاعف شكر المسلمين لله تعالى على هذا النصر العظيم، فإن القلوب كانت قد يئست من النصرة على التتر لاستيلائهم على معظم بلاد الإسلام، فابتهجت الرعايا بالنصرة عليهم وبقدوم الملك المظفر إلى الشام. وفي يوم دخوله إلى دمشق أمر بشنق جماعة من المنتسبين إلى التتر فشنقوا.. وأنشد بعض الشعراء:

واستجدّ الإسلامُ بعد دحوضِهِ
هلك الكفرُ في الشآم جميعاً

رع سيف الإسلامِ عند نهوضِهِ
بالمليك المظفر الملك الأو

فاعتززنا بسحره وببيضهِ
ملك جاءنا بعزم وحزم

دائما ً مثل واجبات فروضِهِ
أوجب الله شكر ذاك علينا


الأرقام التي يريدها الله ورسوله
فليس من المبالغة القول بأن عين جالوت شهدت معركة حاسمة على المستويات العسكرية والسياسية والعقيدية والحضارية عموماً..

ها هنا، في قلب فلسطين، وبعد ما يقرب من مضي قرن على معركة حطين الفاصلة، أجرى التاريخ نزالاً لا يقل حسماً بين قوتين متقابلتين: الإسلام والوثنية، التحضر والجاهلية، والالتزام بالقيم والانفلات منها.. وكان انتصار المسلمين يعني انتصار على الوثنية، والتحضر على الجاهلية، والقيم على الانفلات..

ومؤشرات الثقة بالنفس والإيمان بالنصر والقدرة على تجاوز الهزائم والنكسات والتي كادت تصل بالمسلمين إلى نقطة الصفر.. جاءت هذه المعركة المباركة لكي ترتفع بها ثانية صوب الأرقام التي تليق بمكانة المسلمين في العالم.

وها هنا –أيضاً- نشهد المعادلة الواضحة التي لا تمنح جوابها العادل إلا إذا تجمع طرفاها في تكافؤ متقابل: الأخذ بالأسباب، والإيمان الواثق العميق بالله وبعدالة القضية التي يجاهد المسلمون من أجلها.. وبدون تحقق هذا التقابل فلن يكون هناك نصر أو توفيق.. ولن يحتاج الأمر إلى مزيد شواهد أو نقاش، فإن مجرى التاريخ الإسلامي الطويل يعرض علينا عشرات بل مئات وألوفاً من الشواهد علىهذا الذي تعرضه علينا واقعة عين جالوت..

وهذه شهادة المؤرخ الإنجليزي المعاصر ستيفن رنسيمان في كتابه الحروب الصليبية يقول: »تعتبر معركة عين جالوت من أهم المعارك الحاسمة في التاريخ.. ومن المحقق لو أن المغول عجلوا بإرسال جيش كبير عقب وقوع الكارثة لتيسر تعويض الهزيمة، غير أن أحكام التاريخ حالت دون نقض ما اتخذ في عين جالوت من قرار. فما أحرزه المماليك من انتصار أنقذ الإسلام من أخطر تهديد تعرض له. فلو أن المغول توغلوا إلى داخل مصر لما بقي للمسلمين في العالم دولة كبيرة شرقي بلاد المغرب، ومع أن المسلمين في آسيا كانوا من وفرة العدد ما يمنع من استئصال شأفتهم، فإنهم لم يعودوا يؤلفون العنصر الحاكم. ولو انتصر كتبغا النصراني، لازداد عطف المغول على النصارى ولأصبح للنصارى السلطة لأول مرة منذ سيادة النحل الكبيرة في العصر السابق على الإسلام. على أنه من العبث أن نفكر في الأمور التي قد تحدث وقتئذ، فليس للمؤرخ إلا أن يروي ما حدث فعلاً إذ أن معركة عين جالوت جعلت سلطة المماليك بمصر القوة الأساسية في الشرق الأدنى في القرنين التاليين، إلى أن قامت الدولة العثمانية.. فما حدث من ازدياد قوة العنصر الإسلامي وإضعاف العنصر النصراني لم يلبث أن أغوى المغول الذين بقوا في غرب آسيا على اعتناق الإسلام. وعجلت هذه المعركة بزوال الإمارات الصليبية، لأن المسلمين المظفرين، حسبما تنبأ مقدم طائفة فرسان التيوتون، أضحوا حريصين على أن يتخلصوا نهائياً من أعداء الدين«.

ولم يشأ رنسيمان أن يشير إلى أن انتماء مغول غربي آسيا إلى الإسلام لم يكن بسبب وجودهم في قلب أكثرية إسلامية فحسب، بل وهذا هو الأهم، لما يمتلكه الإسلام نفسه من قدرة ذاتية على الجذب والتأثير، وفاعلية دائمة في التغلب على العناصر المناوئة الغريبة واحتوائها.

ومهما يكن من أمر فإن المعركة الفاصلة حققت وحدة بين مصر والشام كانت ذات قيمة استراتيجية كبيرة في صراع الإسلام ضد خصومه التاريخيين.. إذ أصبحت الدرع الذي يقي المسلمين هجمات المغول الشرسة، ويمكن –في الوقت نفسه- من مجابهة التحدي الصليبي ومحاولة استئصال وجوده من الأرض الإسلامية.

وليس ثمة غير الوحدة من طريق
إنها الوحدة نفسها التي سهر عماد الدين زنكي وابنه نور الدين محمود على إقامتها، وجاء الناصر صلاح الدين من بعدهما لكي يبني عليها انتصاراته الحاسمة ضد الصليبيين الغزاة ويحرر القدس.. وها هي معركة عين جالوت تشد الآصرة مرة أخرى وتمنح المسلمين الأرضية التي سيتحركون عليها عبر العقود القادمة لمجابهة الخصوم ودفعهم إلى إحدى اثنتين: الاذعان لكلمة الإسلام أو العودة من حيث جاؤوا.. لقد ملأت المعركة الفراغ المخيف الذي كان يمكن أن يتمخض عن سقوط الخلافة العباسية وتفتت السلاجقة من قبل، فأتاحت للقيادة المملوكية الشابة أن تعوض عالم الإسلام عما فقدَ هناك..

.. وهناك البعد الحضاري
وثمة من يقول بأن المعركة خدمت أوربا نفسها وحفظت مدنيتها، كما يرى بروان وغيره، وهذا حق.. فإن المغول كانوا يطمحون لغزوها وتخريبها، ولكن تقليم أظافرهم في عين جالوت فضلاً عن عوامل أخرى صدّهم عن المضي في الطريق إلى نهايته.

هذا إلى أن المعركة حققت للحركة الحضارية الإسلامية القدرة على مواصلة المسير، وعلى أن تتجاوز محنة الدمار والتخريب الذي شهدته بغداد.. فها هي ذي في مصر والشام والمغرب تنجز المزيد من العطاء وتتحقق بالإبداع في جوانب عديدة وساحات شتى.. وليس كما يقال من أن عالم الإسلام دخل عصر الظلمة بعد سقوط بغداد.. وليس ابن خلدون وابن كثير وابن تيمية وأبو الفدا والسيوطي والسخاوي وابن القيم والجزري.. وغيرهم كثيرون، سوى إشارات على طريق هذا التحقق المبدع الذي شهدته حضارة الإسلام يومَها..

آن الأوان لكي نتعلم من التاريخ
لقد شهد تاريخ الإسلام سلسلة متطاولة من المعارك الفاصلة، منذ وقعة بدر التي فرق الله بها بين الحق والباطل، ومكّن لدعوته الناشئة في الأرض.. وإلى أن يشاء الله.. ولكن يبقى لمعركة عين جالوت ثقلها وأهميتها وخصوصيتها.. ذلك أنها جاءت وظلام الإعصار الوثني المتحالف مع الصليبية يكاد يطبق على نور التوحيد ويطمس على ألقه.. فردّت علىالقوة بالقوة، وقارعت سيف الشيطان بسيف الله، وعلمت الناس عموماً والناس خاصة، بالانتصار الباهر الذي حققته، كيف يكون الإيمان الجاد المعزز بالرؤية الواعية والتخطيط المدروس، قديراً على تحقيق المعجزات..

واليوم وقوى الضلال، المادية والصهيونية والاستعمارية الجديدة، تتجمع مرة أخرى في محاولة شرسة للاطباق على الإسلام عقيدة وشريعة وأمة وحضارة ودولاً..

فإن لم نتعلم من (عين جالوت) سوى حقيقة أنه بالإيمان والثقة والعزم والتصميم، يمكن أن نجابه المحنة ونتفوق عليها.. فكفى بذلك من كسب تمنحنا إياه مطالعاتنا الجادة في التاريخ.. وإنه قد آن الأوان لكي نتعلم من التاريخ..

مجلة الأمة، العدد التاسع، رمضان 1401 هـ
رد مع اقتباس
  #8  
قديم 27-11-2006, 03:51 PM
د.فالح العمره د.فالح العمره غير متصل
 
تاريخ التسجيل: Feb 2005
الدولة: في قلوب المحبين
المشاركات: 7,593
معدل تقييم المستوى: 27
د.فالح العمره is on a distinguished road

عين جالوت



بقلم / د ـ عبد المجيد وافي



أمة المسلمين منذ أن اتسعت بهم آفاق الأرض ، في القرن الهجري الأول ، كانوا هداة ينشرون الإسلام , ويوطنون العدل والسماحة ، يخرجون العباد من استعباد العباد ، إلى الحرية وعبادة رب العباد ، فكان ذلك من أسباب انفتاح الآفاق بين أيديهم ، وتأييد الله لهم.




وما كاد يستقر بهم المقام حتى ينتشر بين أيديهم العلم والعمران ، فتأسست مدن كالكوفة والبصرة والفسطاط ، والقيروان وغيرها من مدن العلم ومحاوره , والعمارة ومفاخرها.



ولم تلبث دولة بني العباس أن ورثت دولة بني أمية في المشرق 133هـ 750م حتى حاول الرومان الشرقيون – جاهدين – استرداد ما حرره المسلمون من امبراطوريتهم في عصر الراشدين ، فباءت محاولاتهم بالفشل ، رغم الكر والفر الذي تبادلوه مع بني العباس والحمدانيين ، في ربوع آسيا الوسطى وشمال سوريا.



ثم جاءت الحملات الصليبية ، في وقت كان سلطان الخليفة اسميا على دويلات انتشرت فيما وراء النهر وديار بكر ، ووجود دولة العبيديين([1]) في مصر والشمال الأفريقي ، وملوك الطوائف بالأندلس ، فشغلت المسلمين قرنين من الزمان بين 490هـ 1096م إلى 690هـ 1291م.



وهي حملات اتخذت شعارها استرداد مهد النصرانية من بين أيدي المسلمين ، لكنهم لم يكونوا في سماحة عيسى بن مريم كلمة الله ، فعاثوا فسادا في هجماتهم البربرية ، ونشروا المذابح والنهب والسلب.



وقد نجح عماد الدين زنكي , وولده نور الدين محمود , ومن بعدهم صلاح الدين – رحمهم الله – في فل شوكتهم ، فاسترد بيت المقدس بعد نصره المؤزر في حطين 583هـ 1187م ثم استرد انطاكية 585هـ 1189م وحرر كثيراً من سواحل الشام.



ولم يكن صلاح الدين وقواد المسلمين بعيدين عن سماحة الإسلام حينما رفضوا الانتقام للمذابح التي شنها الصليبيون ، ولكن تركوهم يرحلون , اللهم إلا حاكم حصن الكرك الغادر ، الذي أصر صلاح الدين على قتله بيده بعد أسره ، لما تجرأ به على قوافل حجاج بيت الله في البحر الأحمر وبادية الأردن ، وما أعلنه من غزو المدينة النبوية براً وبحراً.



الطوفان القادم من الشرق :



في غمار هذه المعارك والأحداث ، التي شغلت قلب العالم الإسلامي كانت هناك نذر ظهور إعصار بربري ، بدأ مرجل غليانه يرتفع في شرق آسيا ، حيث أعلن : تيموجين بن بيسوكاي تأسيس دولة المغول / 600هـ 1203م ، وسمى نفسه جنكيز خان.



وكان تيموجين مقاتلا شرسا ، ما لبث أن انضم تحت لوائه زعماء قبائل البراري حوله ، طعماً فيما ينالهم من الغنائم والسبي في ركاب غزاوته المدمرة الكاسحة ، التي كان فيها السلب والقتل والدمار والحرائق جنداً من جنده ، فنشر الرعب في أواسط آسيا حتى الخليج العربي قبل أن تسحق جحافلهم بغداد عاصمة الخلافة.



الموجة الأولى :



وقد بدأت حجافل المغول أو التتار في مداهمة بلاد خوارزم وبخارى وسمرقند عام 617هـ 1220م ، فتخرب تحت سنابك خيولهم ، وبين يدي مقاتليهم ، نفائس العمائر المساجدية ، والمدارس والمكتبات العامرة بكريم المصنفات بين تخريب وتحريق.



وكان جزءا من يحاول الوقوف في وجه غزواتهم القتل والصلب والتمثيل بالجثث ، وتعليق الرؤوس والجثث على أبواب المدن المنهوبة.



ولقد كان شاهات خوارزم – قبل أن يجتاحهم التتار – يتصارعون فيما بينهم على ملك السلطنات والمدن المتجاورة ، تماماً كم فعل ملوك الطوائف في الأندلس – في نفس الزمان – حتى سقطت قرطبة في يد النصارى القشتاليين سنة 636هـ 1238م بعد أن نشرت الحضارة والعمران في غرب أوروبا.



ولم تلبث ضربات المغول أن عاجلت آخر شاهات خوارزم جلال الدين منكبرتي بالمطاردة من بلد الآخر , دون أن يجد نصيراً ممن كان يصارعهم على السلطات ,حتى غلب عليه الكمد والبكاء والنحيب إلى أن قتل غيلة في ديار بكر سنة 618هـ 1221م.



وبينما كانت آفاق آسيا ، فارس وديار بكر والأناضول ، تنوء من الطوفان الزاحف ، هلك جنكيز خان سنة 625هـ 1227م وانقسمت وراثته بين أبنائه الأربعة.



واضطلع (هولاكو) بن تيموجين بخطة إتمام التوسع المغولي في اتجاه الغرب ، فاقترب الخراب الداهم من قلب دولة الخلافة العباسية ، التي كان خلفاؤها رسوماً لا حول لهم ولا قوة ، بين بدي من اتخذوهم من الأتراك حماة لهم وحفاظاً عليهم يعزلون ويولون من يريدون.



وزرعت هجمات هولاكو الرعب حيث سارت : يبدؤها بالرسائل المدمدمة بالوعيد والويل والثبور لمن يعلن العصيان ، والأمان ـ الكاذب ـ لمن استكان وأطاع,فمن استسلم ضعفاً وهواناً ، لم تنجه طاعته من ظبات سيوف الغالبين .



وأما من حاول المقاومة حمية ودفاعاً عن دينه وعرضه لم يكن حالة بأسعد ممن ذل واستسلم ، ولكنه كان يلقي نوعاً متميزاً من القتل فريداً في بابه ، يبدأ بقطع أعضائه حياً جزءا جزءا , حتى إذا مات طاف الطبالون والزمارون برأسه,محمولة على الرماح في المدن المنهوبة.



مات المؤرخ ابن الأثير (630هـ 1232م) دون أن يشهد سقوط بغداد وما نالها من خراب ودمار ، لكنه ظل مدة يحجم عن وصف مذابح المسلمين على أيدي التتار منذ خروجهم ، لكنه عندما عزم على تسجيلها في تاريخه ، قال:"لقد بقيت عدة سنين معرضا عن ذكر هذا الحوادث ، استعظاماً لها , كارهاً لذكرها , فمن الذي يسهل عليه أن يكتب نعي الإسلام والمسلمين , ياليت أمي لم تلدني ، وياليتني مت من قبل حدوثها ، وكنت نسيا منسيا.



ومع بشاعة ما وصف مما حدث قبل وفاته بين 617هـ إلى 630هـ فإن ما جرى بعد ذلك تشيب لهوله الولدان.



كان زحف هولاكو وجيوشه سريعا ، ليس بين غارة وأخرى فرصة لالتقاط الأنفاس , وسرعان ما دهمت ألوفهم ـ أرتالاً هادرة مدمرة ـ بغداد الجميلة بمعاهدها وقصورها ومغانيها ، فلم ينج من هدمهم جدار , ولم يسلم من سيوفهم ورماحهم صغير أو كبير ، وتلوثت الأنهار بلون الدماء ومداد الكتب ، التي جعلوها جسوراً في النهر ، لتعبر عليها سنابك خيولهم..



روائع المصنفات المموهة بماء الذهب ، والمسطرة بالأحبار المعطرة من كنوز خزانات الكتب في القصور والمساجد ، والمدارس من نيسابور إلى بغداد.



أما الصراخ والدمار ، وبقر بطون الحبالى ، واقتطاع آذان النساء ورقابهن وأذرعهن ، لاستلاب حلي الذهب ، فحدث عنه ولا حرج.



وقتل الخليفة وأهله وخدمه ونساؤه شر قتلة ، بعد تعذيب رهيب وتمثيل بالجثث يعف اللسان عن ذكره.



في الطريق إلى مصر :



واستمر زحف الطوفان غربا ، فلم تسلم من غشيانه حلب ودمشق وحمص ، وما حولها من مدن الشام ، يقود ألوفهم كوتوبوغا – أو كتبغا – كما يسميه مؤرخو العربية ، وكان نصرانيا ، ففرح لمقدمه نصارى الشام , واستعان بهم على التنكيل بالمسلمين ، فاستباحوا المساجد والمدارس والخوانق – دور اليتامى وأبناء السبيل ـ وعانوه في إذلال المسلمين.



وبلغت طلائعهم بقيادة "بيدار"عسقلان وغزة ، وعسكرت هناك ، ريثما وصل ركب رسل المغول إلى القاهرة ، يحملون رسالة هولاكو وقائده كتبغا إلى سلطان مصر المملوكي "سيف الدين قطز: .



الرسالة والرسل :



وكانت الرسالة من شقين : شق ظاهر هو الرسالة المكتوبة ذات العبارة الملتهبة بالوعيد والنذير وعظائم الأمور.



وأما الشق الثاني : فكان فرقة من الدساسين ، انتشرت بين العامة في الأزقة والحارات ، ينثرون الدنانير بين يدي ضعاف النفوس ، لترويج أخبار الرعب القادم ، والخطر الداهم.



وكانت الرسالة : "من ملك الملوك شرقاً وغرباً : الخان الأعظم باسمك اللهم ، باسط الأرض ورافع السماء.



يعلم الملك المظفر قطز ، وسائر أمراء دولته وأهل مملكته بالديار المصرية ، وما حولها من الأعمال : أنا نحن جند الله في أرضه ، خلقنا من سخطه ، وسلطنا على من حل به غضبه ، فلكم بجميع البلاد معتبر ، وعن عزمنا مزدجر.



فاتعظوا بغيركم ، وأسلموا إلينا أمركم ، قبل أن ينكشف الغطاء ، فتندموا ويعود عليكم الخطأ ، وقد سمعتم أننا قد فتحنا البلاد ، وطهرنا الأرض من الفساد ، وقتلنا معظم العباد.



فعليكم الهرب وعلينا الطلب ، فأي أرض تؤويكم ؟ وأي طريق ينجيكم ؟ وأي بلاد تحميكم ؟ فمالكم من سيوفنا خلاص ، ولا من مهابتنا مناص ، فخيولنا سوابق ، وسهامنا خوارق ، وسيوفنا صواعق ، وقلوبنا كالجبال وعددنا كالرمال ، فالحصون لدينا لا تمنع ، والعساكر لقتالنا لا تنفع ، ودعاؤكم علينا لا يسمع ، فمن طلب حربنا ندم ، ومن قصد أماننا سلم ، فإن أنتم لشرطنا ولأمرنا أطعتم ، فلكم ما لنا وعليكم ما علينا.



وإن خالفتم هلكتم ، فلا تهلكوا نفوسكم بأيديكم ، فقد حذر من أنذر.



فلا تطيلوا الخطاب وأسرعوا برد الجواب ، قبل أن تضرم الحرب نارها ، وترمي نحوكم شرارها فقد أنصفناكم إذ راسلناكم : وأيقظناكم إذ حذرناكم ، فما بقي لنا مقصد سواكم.



الإرهاب والتخذيل :



هكذا بدت الرسالة في صياغتها إلقاء الرعب في قلوب الأمراء والحكام ، بينما يعمل الدساسون الذين انبثوا في الحواري والأزقة ، على خط متواز مع الرسالة ، ينشرون بين العامة, ويهولون من شأن ما كان من مذابح جرت في بغداد وانطاكية وحلب وغيرها من المدن المستباحة.



وبذلك يحدث الانهبار في الدولة : من قمة الدولة إلى عامة الناس , وهو سلاح من أخطر أسلحة التتار ، التي فتكت بالبلاد التي اقتحموا أرضها , يسبقهم الرعب منهم ، لتسهل عليهم الغارة والنهب والسلب والتخريب.



واجتمع سيف الدين قطز سلطان المماليك في مصر ، مع أمراء المماليك يتداولون أمرهم ، ويتبنون موقعهم من ذلك الخطر المائل والزحف القادم , ولم يكن لهم إلا خيار بين أمور ثلاثة.



الاستسلام أو المواجهة بالقتال أو الخروج من مصر , وقد استبعد الأمراء الأمر الأول ، لما هو معلوم من غدر المغول بكل من طلب الأمان والاستسلام ، بشكل لا يقاومه جدال أو بيان.



وبقي خياران أمامهم : الخروج نحو المغرب نجاة بأنفسهم ، وهو خروج إلى مسافات بعيدة دونها مشقات ، فضلا عن خيبة أمل الشعب في حكامه وفرسان قيادته ، الفارين من وجه التحدي بجلودهم , وقد رفض هذا الخيار أيضا.



وأصبح الخيار الثالث مطلبا أعلنه قطز وركن الدين بيبرس في إباء وشمم : أعلناه بين الأمراء والقواد ، على أن يكون ذلك بالتجهز والخروج إلى العدو ، قبل أن يقترب من حدود مصر ، تفادياً لوقوع الفوضى في الجبهة الداخلية.



وكانت حيثيات هذا القرار والرأي : إما أن يكون النصر عالياً ، وهو المرجو من الله تعالى ، وإما الشهادة بشرف ، ولن يلام من طلب النصر فنال الشهادة.



وهكذا أعلن ركن الدين بيبرس وجوب قتل حملة الرسالة ، فقتلوا وعلقت رؤوسهم على باب زويلة ، الباب الجنوبي للقاهرة.



قيادات شعبية :



وأما شرذمة الدساسين : فقد تصدت لها القيادات الشعبية ، والتي كانت تتمثل في ركنين جديرين بالاحترام والتبجيل.



الركن الأول : العلماء ذوو الرأي والهمة , وعلى رأسهم العزبن عبدالسلام ذلك العالم الجليل الذي لم يهب سلطانا ولا حاكما ، ولم يكتم رأيا بين يدي حاكم.



الركن الثاني : هم فتية الفداوية ، الذين اشتهرت مواقعهم مع الصليبيين في دمياط والمنصورة ، أيام حملة لويس التاسع – 646هـ - 1248م ، وما بعدها ، وعلى رأسهم عز الدين شيحا صاحب الحيل والملاعب الخداعية والفدائية الباهرة التي أوقعت بلويس التاسع وجنده.



وقد كان بين العلماء والفداوية مشاورات وتخطيط ، نجح في تحقيق التماسك بين طوائف التجار والحرافيين والعامة ، وتركوا للمماليك مهمة الاستعداد الحربي ، وبذلك تم القضاء على الدساسين في هدوء كامل , فلم يحس بهم أحد.



وكان للعز بن عبدالسلام مواجهة مع أمراء المماليك ، حيث أبى أن تفرض الضرائب على التجار والحرفيين والعامة ، قبل أن تؤخذ صحاف الذهب والفضة ، وحلي الأميرات – الخواتين والخوندات – من القصور ومناظر المماليك في جزيرة الروضة.



وكادت أن ترتكس الحركة لرفض بعض الأمراء ما رآه العز بن عبدالسلام لولا شجاعة قطز وركن الدين بيبرس ، اللذين واجها المماليك بفدائيتهما وإصرارهما وبدءا بنفسيهما.



سوق السلاح :



وفي شارع سوق السلاح – خلف سوق الرماحة بحي القلعة – سهر السلاحيون ليل نهار في صناعة السيوف ورؤوس الرماح والسهام ، وضربت الدروع والخوذات ، وقصمان الزرد ، ودبابيس المبارزة ، ومعاول الحصار ، حتى يكون السلاح والعتاد جاهزاً بين يدي الحملة([2]).



الخطة وفرق الجند :



وقبيل خروج الحملة ، اجتمع مجلس الحرب ، حيث برزت عبقرية ومكر ركن الدين بيبرس البندقداري ، واتفق قطز على أن يقود بيبرس طلائع الجيش ، بينما يكون قطز على رأس قلب الجيش مع اتصاله بأمراء المجنبات ، وبثه العيون على دروب فلسطين ، حتى لا يفاجؤوا بأنفسهم بين براثن – كتبغا – وقواده.



وخرجت الجيوش مشيعة بدعاء العامة بالنصر ، وفي صفوف الجيش كان لكل فرقة قائدها من أمراء المماليك ، وإمامها من العلماء والدعاة ، يلهبون عزائم المقاتلين بسير المجاهدين الأولين ، ويقضون ردحاً من الليل بين الذكر وتلاوة القرآن والصلاة.



وجاءت العيون إلى بيبرس بخبر بمواقع – بايدار – وطلائع المغول ، فصبحهم بيبرس بقواته ، وقضى عليهم ، بينما أفلت نفر منهم فراراً لينذروا كتبغا ويطلبوا النجدة.






كتبغا وثورة دمشق :



وانطلقت جيوش الإسلام المصرية شمالاً على طريق الساحل في فلسطين ، قوات بيبرس في المقدمة ، يتبعها وعلى اتصال بها قطز وسائر الامراء مع باقي فرق الجيش.



فلما جاءتهم الأنباء عن كتبغا بقواته في بعلبك ، انعطفت الجيوش الإسلامية شرقا لتقطع الطريق على كتبغا وقواته التي كان قوامها جموع المغول ، تعززها كتائب من الكرج والأرمن.



وبلغت كتبغا – في بعلبك – كارثة بيدار وجنده ، فغضب وثار وتعبأ للسير إلى نهر الأردن عبر الجليل.



إلا أن سكان دمشق من المسلمين – هبوا فجأة – في وجه حامية دمشق من المغول ، ومن يعاونهم من نصارى الشام ، وخربوا الدور والكنائس انتقاماً للمساجد والمدارس والدور التي خربوها.



فأعاقت هذه الثورة كتبغا عن الانطلاق ، ريثما يخمد هذه الثورة ، مما أفقده سرعة المبادرة.



واستفاد قطز وبيبرس من ذلك التأخير ، فاتجها إلى الناصرة ليلقوا المغول على غرة وتعبئة كاملة مدبرة بليل ، واختفت كتائب المسلمين عند تلال عين جالوت.



جحيم المعركة :



وفي صبيحة يوم الخامس عشر من رمضان 659هـ النصف الثاني من سبتمبر – أيلول سنة 1260م أقبلت جموع التتار لتفاجأ بالجيش الإسلامي يقود طلائعه ركن الدين محمود بيبرس البندقداري في تعبئة متحركة : قوامها الفرسان والرماحة ، بينما حملة السيوف والسهام يناوشون على هيئة كراديس صغيرة تلذغ وتفر , لدغ العقارب , لدغا تتهاوى معه الرقاب.



ووقع الصدام ثقيلا في يوم شديد الحرارة ، لم يستعد له التتار بتعبئة المياه ، التي لم يعرفوا مصادرها ، بينما كانت الجيوش الإسلامية قد تزودت لذلك اليوم الكريه ، واختاروا موقع النزال والصدام.



وزاد من حرارة الجو ما ارتفع من النقع وغبار سنابك الخيل والبغال ، والتهب القتال ساعة غرت كتبغا , فواجه كتائب بيبرس بكل قواته ، ليقضي على ما يرى من قوات المسلمين.



وهنا بدأت جموع الكتائب في مناورة انسحاب وتقهقر , أطمع كتبغا فتابع الهجوم بثقل الجيش ، كي يتخلص من لدغ كراديس بيبرس السريعة التي فتكت فتكا ذريعا بأطراف جموع المغول ، وخطفاتها السريعة التي تدربوا عليها في ميدان ـ القبق ـ ([3]) عند قبة الفداوية بالعباسية – الآن.



وفجأة واجه كتبغا الكارثة الماحقة ، عندما توقفت قوات بيبرس عن القهقرى ، بينما خرجت قوات قطز من كمينها ، في تنظيم رهيب تلعب فيه الميمنة والميسرة أطراف الكماشة ، بينما يقوم القلب الكثيف العدد والعدة بدور المطرقة ، وجموع بيبرس بدور السندان ، ثم يتبادلان مهمة الطرق والطعان.



واإسلاماه :



ولم يكن القتال سهلاً ، وذلك لشراسة مقاتلي التتار والكرج والأرمن ، مما سبب بعض الاضطراب في قوات المماليك لفترة ، ردها إلى نظامها صياح العلماء والدعاة ، وهم يحملون بسيوفهم على أعداء الله ، واستبسال حملة الرايات والألوية لتظل مرفوعة خفاقة.



وأرى ذلك قطز فخلع بيضته – خوذته – وانقض في جمع من المغاوير يتبعونه ، وهو يصيح واإسلاماه ... واإسلاماه ...



وحاول كتبغا التخلص من هذا الهلاك ، ليعيد ترتيب فلوله ، ولكن فرسان بيبرس ، كانوا أسرع إليه ، وهو في غاية اليأس والذهول ، كبلوه بالسلاسل وحملوه إلى خيمة السلطان ، بينما كان قطز ساجداً خاشعاً , يعفر وجهه بتراب المعركة , وفرت فلول الناجين من المعركة أمام قوات قطز وبيبرس ، ليستعينوا بما تركوا من حاميات في المدن ، وحاولوا الكرة على قوات المماليك ، وعند بيسان كانت الجولة الثانية أشرس من الأولى ، حيث قاتل المغول قتال اليائس.



ولكن صيحات قطز : واإسلاماه ، بينما يجول بسيفه بين الجحافل يخطف الرؤوس ويشق الهامات ، وصوته تردده الأصداء في ساحة المعركة ، حتى كانت الهزيمة الثانية خلال أيام لجيش المغول الذي لم يذق طعم الهزيمة من قبل ، وبارد سيف الدين قطز ، فأرسل إلى دمشق والقاهرة ، يبث البشر بنصر الله ، بينما كان ركن الدين محمود بيبرس البندقداري يلاحق فلول المغول شمالاً ليطهر بلاد الشام ، وتمكن خلال شهر من دخول حلب وتحريرها.



وتقدم قطز إلى دمشق فدخلها وسط أفراح أهلها وأهازيجهم بالنصر المبين.



وقد حاول كثير من مؤرخي الشرق والغرب أن يسأل : ماذا لو تخطى المغول سيناء ، وانساحوا عبر مصر إلى الشمال الأفريقي ؟؟ هل كانت رايات الإسلام لتعود إلى الظهور.



والجواب : أن مؤرخي الغرب لا يعرفون عمق عقيدة الإيمان التي كانت عماد البناء في الجيوش الإسلامية التي خرج علماؤها مقاتلين دعاة ، فضلا عن إيمان القادة بأن لا نصر إلا بالإيمان الذي يعمر القلوب ويحميها من الوهن.



والمؤمنون يعلمون أن الله يدافع عن الذين آمنوا ، ومن هذا البعد كانت حملة جند مصر فنصرهم الله وشد أزرهم.



ودخل المغول الإسلام :



لم تنقض على تلك المعارك حقبة من زمان حتى بدأ أمراء المغول يدخلون في دين الله ، وبدؤوا في عمران ما خربوا من مدن الإسلام ، فبدؤوا يشيدون المساجد والمدارس والمشاهد في سمرقند وبخارى وخوارزم ، ما تزال مآذنها في جمهوريات آسيا الوسطى شامخة وقبابها لامعة ، وأهلها يقاومون نظم الماركسية الغازية إلى أن شاء الله.



المصدر : مجلة منار الإسلام , العدد التاسع ( رمضان سنة 1411هـ )







--------------------------------------------------------------------------------

([1])وهي دولة باطنية ملحدة تسترت بالإسلام ظاهرا ـ المجلة.





([2])بينما كان شارع السروجية نشيطا في صناعة السروج للخيل والبغال , وشارع الخيامية مشغولا في إعداد خيام الجند والأمراء , فلم يبق مكان إلا وشغل بالاعداد والإمداد .





([3])نوع من التدريب العنيف على ظهور الخيل في أقصى سرعتها لأصابة الأهداف الثابة والمتحركة بالسيوف والرماح والسهام .

رد مع اقتباس
رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 
أدوات الموضوع
طرق مشاهدة الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع إلى

المواضيع المتشابهه
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
قلب بحاجة إلى Delete محمد الحويله المجلس العــــــام 10 03-04-2006 12:26 PM

 


الوقت في المنتدى حسب توقيت جرينتش +3 الساعة الآن 02:55 AM .


مجالس العجمان الرسمي

تصميم شركة سبيس زوون للأستضافة و التصميم و حلول الويب و دعم المواقع