مجلس الدراسات والبحوث العلمية يعنى بالدراسات والبحوث العلمية وفي جميع التخصصات النظرية والتطبيقية.

رد
 
أدوات الموضوع طرق مشاهدة الموضوع
  #41  
قديم 28-09-2006, 12:54 AM
د.فالح العمره د.فالح العمره غير متصل
 
تاريخ التسجيل: Feb 2005
الدولة: في قلوب المحبين
المشاركات: 7,593
معدل تقييم المستوى: 27
د.فالح العمره is on a distinguished road

الصليبيون

(الحملة الصليبية الأولى)

إن الحقد النصراني على الإسلام والمسلمين والذي امتد عدة قرون بسبب الانتصارات على النصرانية وانتزاع أجزاء واسعة من أملاك النصرانية في بلاد الشام وشمالي إفريقية، وقد كان هذا الحقد مع كل انتصار جديد يحققه الإسلام. ولما كانت النصرانية وأبناؤها عاجزة عن القيام بردّ فعل لذا فقد انتظرت حتى تمر موجة الفتوة الإسلامية ولكن زاد انتظارها وطالت مدة هذا المد الإسلامي فعندما بدأ الضعف يظهر على المسلمين أرادت النصرانية أن تقوم برد الفعل السريع وشجعها على ذلك الخوف من عودة القوة المسلمين بعد الانتصارات التي أحرزها السلاجقة عام 463 هـ في معركة ملاذكرت بقيادة ألب أرسلان، والانتصار في معركة الزلاقة في الأندلس عام 479 هـ بقيادة يوسف بن تاشفين، والانتصارات التي تلتها، فخافت النصرانية من عودة الروح من جديد لتدب في العالم الإسلامي الذي توسع باستمرار وتدخل الإسلام مجموعات محاربة جديدة مثل السلاجقة والمرابطين، وخاصة بعد تدفق السلاجقة في آسيا الصغرى.

وشجعها دخول عناصر بربرية محاربة في النصرانية وهي القبائل التي كانت تنتقل في أوروبا وهذا ما أدى إلى ظهور روح حربية جديدة تدعم النصرانية، ومن هذه المجموعات، المجموعةالجرمانية والمجرية، وإن دخول المجر في النصرانية قد جعل الشعوب النصرانية على اتصال بعضها مع بعض من الغرب إلى الشرق في آسيا الصغرى.

وشجعها بعض الانتصارات التي حصلت عليها الإمارات الإيطالية إذ تغلبت علىأمراء البحر المسلمين الذين كانوا يعيقون عمل السفن الإيطالية في البحر الأبيض المتوسط إن لم تستجب لمطالبهم، فكانت هذه الإمارات الإيطالية ترغب في نشر تجارتها في البحر المتوسط، وبانتصارها على البحارة المسلمين زاد في رغبتها بل في محاولة إظهار قوتها ومد نفوذها إذ غدت لها قوة في البحر المتوسط تستطيع أن تستفيد منها في نقل جنودها وتحرك سفنها في هذا البحر، ومن الانتصارات التي شجعتها أيضاً احتلال النورمانديين لجنوب إيطالية وجزيرة صقلية وطرد المسلمين منها عام 484 هـ.

وشجعها الضعف الذي حصل على دولة السلاجقة عقب موت السلطان ملكشاه عام 485 هـ فأحبت النصرانية أن تهتبل هذه الفرصة قبل العودة إلى القوة ثانية، وخاصة أن العبيديين الذي هزِموا أمام السلاجقة وتخلوا عن بيت المقدس عام 471 هـ، ورأوا زيادة قوة السلاجقة خصومهم في العقيدة أيضاً لذا قد استنجدوا ببعض أمراء أوروبا لدعهم ضد السلاجقة.

ولعل أهم الجوانب النصرانية التي دفعت بالموضوع هي النفوذ الذي حصل عليه البابا إيربان الثاني الذي اختير بابا لروما عام 481 هـ إذ أصبح السيد المطاع بين الشعوب النصرانية بل وبين الأمراء وهذا ما يجعله أهلاً لأن يستغل نفوذه لدى النصارى ويدعوهم للحرب الصليبية فدعا إلى اجتماع لرجال الدين عام 489 هـ في كليرمونت بفرنسا ودعا إلى الحرب الصليبية ونادى الأمراء بترك الخلافات القائمة بينهم، وقدّم لهم الصليب، وجعل مبرراً لهذه الحرب ما يقوم به السلاجقة من مضايقة للحجاج النصارى الذين يريدون بيت المقدس، وطلب أن يحتل النصارى بيت المقدس، وساهم بهذه الدعوة بطرس الناسك، وسار بجموع المتطوعين وسبق جيوش الأمراء النصارى النظامية، ولما كان هؤلاء المتطوعون يسيرون بلا نظام فقد سببوا الفوضى والدمار لكل المناطق التي مروا عليها حتى النصرانية منها وحتى شكا منهم إمبراطور القسطنطينية، وعندما وصلوا إلى بلاد المسلمين صبّوا جام غضبهم فأهلكوا الزرع والضرع، وأحرقوا الأخضر واليابس، وعاثوا في الأرض الفساد، وقتلوا ومثّلوا وانتهكوا من الحرمات ما شاء لهم هواهم أن يفعلوا ذلك، وتصدى لهم السلاجقة فالتقوا في نيقية فأفنوهم عن بكرة أبيهم عام 489. وكان إمبراطور القسطنطينية قد أراد أن يتقي شرهم فساعدهم إلى السير إلى آسيا الصغرى والتقدم إلى نيقية.

في هذه الأثناء كانت جيوش الأمراء النظامية تتحرك نحو القسطنطينية وقد أمر البابا أن تجتمع خارج أسوار القسطنطينية، ولم تكن هذه الجيوش أقل حقداً من الأولى وأقل فساداً ودماراً، كما لم يكن لها قائد واحد ينظمها ويصدر أوامره لها جميعاً، وإن كان لهاعدد من القواد أغلبهم من فرنسا، ولم يكن لهؤلاء القادة خطة واحدة، ولم يشترك ملوك أوروبا في هذه الحملة لأن ملوك نصارى الأندلس كانوا مشغولين بقتال المسلمين، ولأن ملك فرنسا فيليب الأول وملك ألمانيا هنري الرابع كانا مطرودين من رحمة الكنيسة. بلغ عدد المشتركين النصارى في هذه الحملة التي عرفت باسم الحملة الصليبية الأولى أكثر من مليون، غير أن عدد المقاتلين لم يزد على ثلاثمائة ألف والباقي إنما هم من المرافقين من الرجال والنساء.

وصلت هذه الحملة الصليبية إلى أبواب القسطنطينية وخاف إمبراطورها منهم فاتفق مع بعض القادة على أن يمدهم بالمؤن والذخيرة على أن لا يدخلوا المدينة وأن يردّوا عليه ما يستولون عليه من أملاكه، فاجتازوا البوسفور، ووصلوا إلى نيقية فحاصروها، ونقل أميرها قليج أرسلان مقره إلى قونية، واتفق مع الإمبراطور أن يدخل جنده نيقية دون القادمين من أوروبا وبهذا غضب الصليبيون لأن الإمبراطور بهذا التصرف لم يسمح لهم بنهب المدينة وبهذا يكون الإمبراطور البيزنطي قد دعم الصليبيين بكل قوته وسار معهم نحو نيقية، وحصل خلاف بين الصليبييين القادمين من أوروبا والبيزنطيين إذ وجد الإمبراطور أنه لا يستطيع التفاهم مع هؤلاء القادمين فانصرف لاسترداد آسيا الصغرى من السلاجقة فاتجه نحو الغرب ودخل إزمير وأفسوس وأخذهما من أمراء السلاجقة فيهما لانقطاعهم عن دولة السلاجقة، ولم يعد يدعم الصليبيين بل حرص أن يضم له ما أخذوه هم، فكان دعمه بقتال المسلمين بجهات ثانية ثم بعد مدة عادة لتقديم الدعم.

اختلف القادة الصليبيون بعضهم مع بعض، فاتجه بعضهم إلى الرها تلبية لدعوة أميرها فدخلها وأسس بها إمارة نصرانية لاتينية وكان يطمع بتأسيس دولة صليبية في أرمينيا وقد دعمه في الأمر الأرمن. وسار باقي القادة إلى أنطاكية فألقوا الحصار عليها ودخلوها عنوة عام 491 هـ بعد حصار دام سبعة أشهر وقتلوا من أهلها أكثر من عشرة آلاف، ومثلوا بالقتلى وبالناس، وفعلوا أبشع الجرائم، وولوا عليها أحدهم وقد استقبل النصارى من أهلها والأرمن الصليبيين بكل ترحاب، ثم اتجهوا بعدها نحو بيت المقدس، فسار لقتالهم "كربوقا" صاحب الموصل، وصاحب دمشق "دقاق"، وصاحب حمص "جناح الدولة" غير أن الصليبيين قد انتصروا عليهم ودخلوا معرة النعمان، ووصلوا إلى بيت المقدس ودخلوها عام 492 هـ فقتلوا من أهلها أكثر من سبعين ألفاً وخاضت خيولهم ببحر من الدماء، وانتخب غودفري ملكاً على بيت المقدس، وأخذ لقب حامي قبر المسيح. وكان العبيديون قد استغلوا تقدم الصليبيين من الشمال فتقدموا هم من الجنوب ودخلوا القدس وطردوا السلاجقة منها (قبل وصول الصليبيين إليها) وجرت مفاوضات بين الأفضل بن بدر الجالي الوزير العبيدي وبين الصليبيين على أن يكون شمال بلاد الشام للصليبيين وجنوبيها للعبيديين ثم نقض الصليبيون العهد عندما شعروا بالنصر.

لقد فقدت هذه الحملة أكثر مقاتليها، فقد جاءت بثلاثمائة ألف مقاتل، ودخلت إلى القدس بأربعين ألف مقاتل فقط، ومهما بالغنا بعدد المقاتلين الصليبيين الذين ساروا إلى الرها فإن عددهم لا يزيد على أربعين ألفاً، وبذا يكون عدد من بقي من الصليبيين الذين جاءوا في الحملة الأولى ما يقرب من ثمانين ألفاً، ويكون قد فقدوا مائتين وعشرين ألفاً، قتِلوا في المعارك، وقتِلوا على أيدي الناس الذين كانوا يثورون على تصرف هؤلاء القادمين، يثورون على كره، ورغم خوفهم الشديد، ورغم معرفتهم بمصيرهم، يثورون لأن تصرّف الصليبيين كان على درجة من السوء والوقاحة والقباحة ما يثير أية نفس مهما بلغ بها الذل والخوف.

وبسيطرة الصليبيين على بيت المقدس ارتفعت معنويات سكان الإمارات الإيطالية فبدأت سفنهم تجوب أطراف البحر المتوسط وتقدم المساعدات والدعم للصليبيين، فاستطاعوا أن يأخذوا حيفا وقيسارية عام 494 هـ، وأخذوا عكا عام 497 هـ، وأخذوا طرابلس عام 503 بعد حصار سنتين، كما أخذوا جبلة في العام نفسه، ثم أخذوا صيدا عام 504. وطلب المسلمون هدنة فرفض ذلك الصليبيون ثم وافقوا مقابل مبالغ كبيرة يدفعها لهم المسلمون، وبعد أن استلموا الأموال غدروا بالمسلمين وذلك عام 504 هـ. وحاصر الصليبيون مدينة صور عام 505، وكانت بيد العبيديين فأمدهم بالمؤن والمساعدات طغتكين صاحب دمشق فامتنعت صور عن الصليبيين.

أما من جهة الداخل فقد جاء الصليبيون من جهة الجنوب فالتقى بهم صاحب دمشق "أمين الدولة" وهزمهم ولاحق فلولهم الذين وصل بعضهم إلى ملاطية وقد استطاع أن يدخلها وأن يتملكها وذلك عام 493.

وهاجم الصليبيون دمشق من جهة الشمال عام 497 ولكنهم هزِموا وأسِر أمير الرها الصليبي، غير أنهم استطاعوا في العام نفسه أن يدخلوا حصن أفاميا.

لقد دعم العبيديون الصليبيين في أول أمر، ووجدوا فيهم حلفاء طبيعيين ضد السلاجقة خصومهم، وقد ذكرنا أنهم اتفقوا معهم على أن يحكم الصليبيون شمالي بلاد الشام ويحكم العبيديون جنوبيها، وقد دخلوا بيت المقدس، غير أن الصليبيين عندما أحسوا بشيء من النصر تابعوا تقدمهم واصطدموا بالعبيديين وبدأت الخلافات بينهم، فالعبيديون قد قاتلوا الصليبيين دفاعاً عن مناطقهم وخوفاً على أنفسهم ولم يقاتلوا دفاعاً عن الإسلام وحماية لأبنائه، ولو استمر الصليبيون في اتفاقهم مع العبيديين لكان من الممكن أن يتقاسموا وإياهم ديار الإسلام.

لقد استقبل سكان البلاد من النصارى والأرمن الصليبيين استقبالاً حاراً ورحبوا بهم ترحيباً كبيراً، وقد ظهر هذا في أثناء دخولهم أنطاكية وبيت المقدس، كما قد دعموهم في أثناء وجودهم أيام وجودهم في البلاد وقدّموا لهم كل المساعدات، وقاتلوا المسلمين، وكانوا عيوناً عليهم للصليبيين.

وتشكلت أربع إمارات صليبية في بلاد الشام وهي:

إمارة في الرها – إمارة في طرابلس – إمارة بيت المقدس – إمارة أنطاكية.

لم يجد الصليبيون الأمن والاستقرار في بلاد الشام في المناطق التي سيطروا عليها وشكلوا فيها إمارات رغم انتصارهم، إذ كان السكان المسلمون ينالون منهم كلما سنحت لهم الفرصة، كما يغير عليهم الحكام المسلمون في سبيل إخراجهم من البلاد، ودفاعاً عن عقائدهم ومقدساتهم التي كان الصليبيون ينتهكونها.


--------------------------------------------------------------------------------

المصدر: التاريخ الإسلام، محمود شاكر، جزء 6، ص 252-257

 

التوقيع

 



من كتاباتي
صرخاااات قلم (( عندما تنزف ريشة القلم دما ))
قلم معطل وقلم مكسوووور
عندما ’تطرد من قلوب الناس !!!!!!(وتدفن في مقبرة ذاتك)
دعاة محترفون لا دعاة هواه ( 1)
الداعية المحترف واللاعب المحترف لا سواء(2)
نعم دعاة محترفين لا دعاة هواة!!!! (( 3 ))
خواطر وجها لوجه
همسة صاااااااااااارخه
خواطر غير مألوفه
اليوم يوم الملحمه ...
على جماجم الرجال ننال السؤدد والعزه
عالم ذره يعبد بقره !!!
معذرة يا رسول الله فقد تأخر قلمي
دمعة مجاهد ودم شهيد !!!!!!
انااااااااا سارق !!!!
انفلونزا العقووووووووول
مكيجة الذات
الجماهير الغبيه
شمووووخ إمرأه

 
 
رد مع اقتباس
  #42  
قديم 27-11-2006, 03:46 PM
د.فالح العمره د.فالح العمره غير متصل
 
تاريخ التسجيل: Feb 2005
الدولة: في قلوب المحبين
المشاركات: 7,593
معدل تقييم المستوى: 27
د.فالح العمره is on a distinguished road

الحروب الصليبية.. متى تكون النهاية ؟



بقلم / د قاسم عبده قاسم



)الحروب الصليبية)... (الحملة الصليبية)... (العدوان الصليبي).. هذه العبارات, وعبارات أخرى مشابهة, ترددت بكثرة بعد الهجوم العنيف الذي تعرضت له الولايات المتحدة الأمريكية في سبتمبر 2001م, وربما يكون السبب المباشر في إثارة هذه الزوبعة أن الرئيس الأمريكي تحدث عن (حملة صليبية), ثم تراجع بحجة أنها (زلة لسان), ثم ترجم (اعتذاره) على الصعيد العملي بهجوم عنيف على أفغانستان.




والمثير في الأمر أن الجانب الأفغاني أيضا استخدم مصطلح (الحملة الصليبية) في وصف العدوان الأمريكي على بلاده وشعبه , كما أن كثيراً من المسلمين في شتى أنحاء الدنيا قد وصفوا العدوان بأنه (حملة صليبية) ضد الإسلام.



فهل هي (حملة صليبية) حقا? وهل يمكن القول : إن (الروح الصليبية) لاتزال فاعلة في الغرب الأوربي وامتداده الأمريكي?



بدأ مصطلح الحروب الصليببية يظهر إلى الوجود أواخر القرن الثاني عشر الميلادي لكي يدل على تلك الحملات التي جرّدها الغرب الكاثوليكي ضد المنطقة العربية في أواخر القرن الحادي عشر الميلادي , وكانت هذه الحملات, التي دعت إليها البابوية, تعرف في بدايتها بـ(الحج) أو (الحملة المقدسة) أو (حملة الرب). كما كان الرجال الذين شاركوا فيها يعرفون بـ(الحجاج), وعرفها المؤرخون المسلمون المعاصرون باسم (حركة الفرنج( .



وبمرور الزمن ظهر مصطلح (الحملة الصليبية), كما ظهر مصطلح (الصليبيون) للدلالة على هذه الحملات العدوانية الاستيطانية الموجهة ضد المسلمين في المنطقة العربية, ثم اتسع مدلوله لكي يشمل الحملات السياسية العسكرية التي وجهتها البابوية ضد أعدائها , وخصومها في الغرب الأوربي نفسه , ولم يلبث أن اتسع المصطلح في مداه الزمني أيضاً ليشمل كل حروب الغرب الأوربي الاستيطانية ضد المسلمين حتى القرن الثامن عشر الميلادي على أقل تقدير.



المشروع الأول:



لأن الحركة الصليبية شغلت حيّزاً جغرافياً امتد على نطاق أوربا كلها, وكل المنطقة العربية في شرق المتوسط وجنوبه, كما شغلت أذهان الناس في أوربا على مدى عدة أجيال, سواء في أدوارها الفاعلة النشطة التي بدأت سنة 1095م واستمرت حتى القرن الثامن عشر, أو في تلك الآثار الفكرية والوجدانية التي جعلت كل السياسيين والعسكريين الأوربيين والأمريكيين الذين يتعاملون مع المنطقة العربية, ينطلقون من خلفية ذهنية تحكمها تجربة الحروب الصليبية, فإن ما قاله الرئيس الأمريكي جورج دبليو بوش عن أن الحملة ضد ما يسمى بالإرهاب (حملة صليبية) يصبح مفهوماً في هذا السياق.



فمنذ أريان الثاني - البابا الذي دعا إلى أول حملة صليبية ضد المسلمين في كليرمون بجنوب فرنسا في 27 نوفمبر سنة 1095 م- وحتى الآن, لاتزال تجربة الحروب الصليبية تحكم المشاعر والأفكار في الغرب.



ومن اللافت للنظر حقاً أن الفرنسيين في العصر الحديث اعتبروا أن تجربة الحروب الصليبية كانت مشروعهم الاستعماري الأول, كما أنهم أطلقوا مصطلح (ما وراء البحار) على الكيان الصليبي في المنطقة العربية, وهو المصطلح نفسه الذي أطلقوه على مستعمراتهم في شمال إفريقيا العربية وغيرها في القرنين التاسع عشر والعشرين. كما أن الإنجليز تحدّثوا في مصطلحات صليبية عندما احتلوا فلسطين في القرن العشرين. بل إن الحركة الصهيونية, وهي حركة غربية في أساسها وأصولها, كانت تكراراً للمشروع الصليبي القديم, ولكن في مصطلحات صهيونية.



وجه التشابه :



يقودنا هذا إلى تحليل المواقف الغربية من العرب والمسلمين في العصر الحديث, ويقودنا أيضاً إلى النظر إلى المشروع الصهيوني على الأرض العربية باعتباره مشروعاً يتخذ من التجربة الصليبية مرشداً وهادياً , إذ إن المشروع الصهيوني كان ومازال يهدف إلى دق إسفين استيطاني عدواني يفصل جناحي المنطقة العربية كلا منهما عن الآخر.



والناظر إلى المنطقة العربية من الناحية الجغرافية السياسية يجد بسهولة أن الدولة الصهيونية قد فصلت الجناح الشرقي في العالم العربي عن الجناح الغربي من ناحية, وأن أي محاولات للوحدة أو التنسيق بين هذين الجناحين كانت هدفاً للعدوان الصهيوني الذي تسانده القوى الغربية مساندة قوية على المستويات السياسية والعسكرية والاقتصادية والبشرية من ناحية أخرى.



ومن المثير أن الفكرة الصهيونية قامت - في التحليل الأخير - على الأفكار نفسها التي قامت عليها الفكرة الصليبية قبل عدة قرون.



وتشير كتابات المؤرخين اليهود الذين اهتموا بالحركة الصليبية والاستيطان الصليبي إلى مدى عمق الاهتمام الذي يوليه أولئك المؤرخون لدراسة الكيان الصليبي, وعوامل القوة والضعف التي ميّزته, باعتبار أن الكيان الصليبي هو السابقة التاريخية للكيان الصهيوني, مع الأخذ في الحسبان كل المتغيرات في توازنات القوى الدولية, والتقدم العلمي والتكنولوجي, والوضع السياسي والعسكري في الدول العربية والإسلامية.



الأحمر والأخضر :



ومن ناحية أخرى, نجد أن الغرب الذي تقوده الولايات المتحدة الأمريكية قد أخذ يصطنع لنفسه عدواً يشكل خطراً عليه بعد انهيار الاتحاد السوفييتي, وحلّ الخطر الأخضر (الإسلام) محل الخطر الأحمر (الشيوعية) الذي زال بتفكك الاتحاد السوفييتي وانتصار الرأسمالية والإمبريالية.



وصدرت عشرات الكتب والمقالات في الغرب الأوربي والأمريكي لتبين جوانب هذا الخطر الذي يتهدد الحضارة الغربية ذات الأصول اليهودية - المسيحية.



وربما كانت احتكارات صناعات السلاح والبترول وراء الترويج لفكرة (الخطر الإسلامي), ولكن الأمر المؤكد أن مفكرين كباراً ممن يسمع الغرب لهم بدأوا يروّجون لهذه الفكرة من منظور أيديولوجي, ومن أبرزهم برنارد لويس الذي كتب عن الصراع التاريخي بين الإسلام والحضارة الغربية المسيحية اليهودية على حد تعبيره.



وروّج لفكرة مؤداها أن هذا الصراع نوع من الحتمية التاريخية التي ترقى إلى مستوى القدر الذي لا فكاك منه , وعلى الرغم من ذلك القدر الكبير من سوء الفهم والتعميم الذي ميّز كتابات المؤرخ اليهودي برنارد لويس, فإنه كشف أيضاً عن قدر كبير من سوء القصد.



وربما كان أشهر من كتب في هذا السياق, وروّج لفكرة الصدام الحتمي بين الإسلام والحضارة الغربية ذات الجذور اليهودية - المسيحية, هو هنتنجتون في كتابه) صراع الحضارات) الذي حظي بشهرة واسعة في الأوساط الفكرية , ولقي اهتماماً مريباً من وسائل الإعلام الغربية.



ولايزال القطاع الأكبر من الأكاديميين الغربيين والصحفيين ومعدّي البرامج التلفزيونية يروّجون لهذه الفكرة التي تجسّد العالم الإسلامي في صورة (إمبراطورية الشر) التي تهدد الحضارة الغربية.



وعلى الرغم من أن هناك أصواتاً عاقلة حاولت أن تدعو إلى حوار الحضارات , وفهم الإسلام وتعاليمه على أسس سليمة, فإن هذه الأصوات ذهبت سدى في خضم الترويج النزق لفكرة الخطر الإسلامي, وقد ساعد على رواج هذه الفكرة في الغرب الأوربي صور المتشددين التي نشرتها الصحف ووسائل الإعلام بصورة مكثفة, وهم يهتفون, أو يرفعون لافتات كتب عليها (الموت لأمريكا), فضلاً عن أعمال العنف الدموية التي ارتكبتها جماعات الإسلام السياسي العنيفة التي تؤمن بالدم وسيلة لتحقيق أهدافها السياسية.



إمبراطورية الشر:



وبقدر ما استغلت الولايات المتحدة والغرب الأوربي هذه الصور الحمقاء لتبرير تصرفاتها السياسية والعسكرية ضد العالم الإسلامي, استغلت الحكومات المستبدة في العالم الإسلامي هذه الصور لتخويف الغرب من ناحية, وتبرير بطشها بشعوبها من ناحية أخرى.



وبرز نظام (طالبان) في (أفغانستان) تكريسا لهذه الصورة البربرية للإسلام , ويلفت النظر حقا في هذه الظاهرة أن الغرب مستريح إلى التعامل مع الإسلام والمسلمين في إطار هذه الصورة النمطية القبيحة, واعتبار أن العالم الإسلامي كتلة جامدة صماء تتميز بالعدوانية والرغبة في سفك الدماء.



ولم تحاول مراكز صنع القرار السياسي والعسكري في أوربا والولايات المتحدة الأمريكية أن ترى الفروق الجوهرية بين حركات الإسلام السياسي التي تعترف بشرعية النظام السياسي , وتعمل من داخله, ووفق شروطه, لتصل الى المشاركة في الحكم, وتلك الجماعات التي تنهج منهجاً دموياً عنيفاً للقضاء على النظام السياسي, والحلول محله.



كذلك فإن توازنات القوى التي تميل بشدة لصالح القوى الرأسمالية والإمبريالية العالمية التي تقودها الولايات المتحدة الأمريكية جعلت الغرب عازفاً عن محاولة الفهم , وراغباً بشدة في اختزال الإسلام والمسلمين في هذه الصورة المشوهة.



هكذا ترسخت صورة الإسلام باعتباره (إمبراطورية الشر), وهي صورة تذكرنا بتلك الدعايات النزقة التي روجتها البابوية ورجال الدين ضد الإسلام , وضد المسلمين طوال العصور الوسطى. وقد تركت هذه الدعايات أثرها في الوجدان الجمعي الغربي على مرّ القرون.



ومع إن الناس في الغرب الأوربي في العصور الوسطى لم يروا مسلماً واحداً على الطبيعة قبل خروج الحملات الصليبية في السنوات الأخيرة من القرن الحادي عشر, فإنهم كانوا يتحرقون شوقاً لقتل المسلمين وهم خارجون في الحملات الصليبية , كذلك فإن ردود الفعل الغاضبة والعدوانية تجاه العرب والمسلمين بعد تفجير مبنيي مركز التجارة العالمي في نيويورك, ومبنى البنتاجون في واشنطن تكشف عن أن ميراث الحروب الصليبية مازال يحكم مشاعر قطاع كبير من الناس (حكاماً ومحكومين) في أوربا والولايات المتحدة الأمريكية.



المصطلح والمدلول:



وربما يكون مفيداً في هذا السياق أن نوضح أن مصطلح (الحملة الصليبية ( ومصطلح (صليبي) مازال متداولاً في الأدبيات الغربية, وبين عامة الناس في الغرب الأوربي وأمريكا , ولكنه اكتسب مدلولاً آخر مع مرور الزمن.



فعلى الرغم من الفشل النهائي الذي منيت به الحركة الصليبية فإن المثال الصليبي تحول بمرور الوقت - تحت تأثير وسائل الإعلام التي عملت في خدمة الأهداف الاستعمارية الأوربية - إلى مثال برّاق يوحي بالشجاعة والتضحية بالنفس في سبيل المثل الأعلى.



واستقر في الوجدان الشعبي الأوربي والأمريكي أن (الحملة الصليبية) لا بد من أن تكون بالضرورة حملة خيّرة, نبيلة القصد والهدف, منزهة عن الغرض مثل: رعاية المرضى, ومساعدة المنكوبين , أو جمع التبرعات... وما إلى ذلك من أهداف.



وربما يكون الموروث الشعبي الأوربي المتداول حول الحروب الصليبية الذي حملته الأغنيات الشعبية الأوربية, وغيرها من عناصر هذا الموروث وراء تلك الصورة الأخاذة التي ترتسم في أذهان الناس عامة في أوربا والولايات المتحدة الأمريكية حين ترن في آذانهم عبارة (الحملة الصليبية). إذ إن الأغنيات والحكايات الشعبية الأوربية عن الحروب الصليبية تخلت عن الحقيقة التاريخية لصالح التعويض النفسي والقراءة الشعبية لتاريخ تلك الظاهرة التي كانت في حينها تجسيداً لأحلام الفقراء والمعدمين من أبناء الغرب الأوربي.



وربما يكون الحادث الوحيد الذي يتذكره خريج الجامعة العادي في الولايات المتحدة الأمريكية من حوادث تاريخ العصور الوسطى هو الحروب الصليبية التي يتصورها في صورة فرسان بواسل على جيادهم الفارهة, وقد فارقوا الأهل والوطن تحت راية الصليب ليطاردوا العرب ذوي البشرات الداكنة الذين يفرون أمامهم في جبن وتخاذل.



وعلى الرغم من أن هذه الصورة غير صحيحة جملة وتفصيلاً, فإن الكثيرين من السياسيين وقادة الرأي في أوربا , وفي الولايات المتحدة لا يعرفون غيرها ؛ ولذلك فإن كثيراً من رجال السياسة والقلم في الغرب يستخدمون مصطلح (الحملة الصليبية) بهذا المعنى الخيّر والنبيل.



ومادام الغرب قد اصطنع لنفسه عدواً هو الإسلام, ومادام الإعلام والكتابات الغربية قد استمرت في الصراخ محذرة من (الخطر الأخضر) الذي حلّ محل (الخطر الأحمر) بعد انهيار الاتحاد السوفييتي, فإن الرئيس الأمريكي جورج دبليو بوش عندما تحدث عن (حملة صليبية) ضد ما يسمى بالإرهاب بعد الحادي عشر من سبتمبر لم يكن خارجاً عن السياق العام لمفاهيم الثقافة الغربية.



فهل انتهت الحروب الصليبية التي بدأت منذ تسعة قرون ؟ !

المصدر : مجلة العربي الكويتية عدد 533 مايو 2002

رد مع اقتباس
رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 
أدوات الموضوع
طرق مشاهدة الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع إلى

المواضيع المتشابهه
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
@صدر المجالس@( لاخير بعنصريه على رفيق الدروب) أنور الخريصي مجلس الشعر النبطي 4 04-11-2005 11:06 PM
بشارة المجاهدين-القائم:عشرات المارينز وطائرتين و15آليـة..الجيوش تنهكهم saad المجلس السياسي 1 10-10-2005 08:34 AM

 


الوقت في المنتدى حسب توقيت جرينتش +3 الساعة الآن 10:19 AM .


مجالس العجمان الرسمي

تصميم شركة سبيس زوون للأستضافة و التصميم و حلول الويب و دعم المواقع