التنوير كلمة لها دلالات نفسية كبيرة ، قبل أن يكون لها مدلولات منهجية وفكرية وفلسفية ، ينطلق الانسان المفكر من كلمة " تنوير " ليشير بأصبعه إلى نفسه ، ويطرح نفسه " المنقذ " للامة بفكره " المتنور" ، وليته حين يطرح أفكاره يطرحها بروح المتواضع الذي يرى أن فكره خاضع للنقد ، والتصحيح ، والتخطئة ، ولكن الملحوظ على تيار " التنويريين " صفات كثيرة منها :
اولا : من حيث المنطلق ، فان انطلاقتهم آتية من خارج حدود الأمة ، فهم مترجمون غير امناء لفكر الاخرين ، وأحيانا كثيرة يعييهم الحصول على ترجمات دقيقة لافكار الاخرين ، فيقعون في " التلفيق " الفكري ، واللعب على القارئ ، ومن هذا ما أشار اليه الاستاذ الفيلسوف الكبير طه عبدالرحمن في كتاب تجديد المنهج في تقويم التراث ، حيث أشار إلى إن الجابري ينقل أفكار المفكر الالماني هايدغر وهو من فلاسفة التنوير ، ولكنه للاسف لم يكن يفهم ما يقرأ ، ولم يكن نقله أمينا لافكار الغير ، فضلا عن كونه سيطرح الفكر المنقذ للامة ، أو المنهج النقدي المستقيم في تقويم التراث .. واعادة قراءته !!
ثانيا : من حيث المصب ، فإن المحصلة النهائية لفكر " التنويريين " هو الارتماء في احضان المنظومة الحضارية الغربية بكل جوانبها ، لان نهاية المطاف عندهم هو " القطيعة " مع التراث الاسلامي ، والانطلاق من اللحظة الفلسفية الغربية المتمثلة في المنطلق الارسطوطاليسي ، والذي يلمعونه بادعاء " الرشدية " التي تصب هي الاخرى في الفكر اليوناني احد المكونات للمنهج الغربي التأملي المعاصر !!
ثالثا : التأخر في النقل والمحاكاة ، حتى بات هؤلاء اصداء تاتي بعد سنوات لتلك الافكار التي عفى عليها الدهر في الغرب ، ومن لاحظ سياق الافكار الحداثية في العالم الاسلامي يجد أن الفكرة الغربية تنشأ في بيئتها ، ومحيطها الخاص ، ثم تنتشر ، وتنقد ، وتذوب ، وتلفظ ، ثم يتم النقل والترجمة ، وهذا ما تجده باديا من مثقفينا المتنورين العقلانيين ، فقد عاشوا فترة يبشرون مثلا بالمشروع البنيوي ، وينافحون عنه ، وهو يلفظ انفاسه الاخيرة في الغرب ، فاذا بهم ينتقلون إلى فلسفة التقويض والهدم ، والتي باتت على شفا جرف هار في الوقت الذي انتقل الغرب إلى مرحلة " النقد الثقافي " ... وهكذا !!
رابعا : عدم التفريق بين ترشيح المنهج ، وظروفه المحيطة به ، وهذا أدى بهم إلى ترحيل المفاهيم الخاصة ، واعمالها في أي زمان ومكان ، مع إن المفاهيم والمناهج لا تنفصل عن السياق الحضاري والتاريخي والاجتماعي ، ولذا فهم تورطوا في الموائمة بين المناهج " المستوردة " وبين البيئة الإسلامية والعربية التي يراد تطبيقها عليها !!
خامسا : يلحظ على التيار " التنويري " الحنق الشديد على المخالف ، الامر الذي ينقمه على غيره من المناهج ، وخاصة الاتجاهات السلفية ، حتى يخيل اليك انهم يحملون حقدا دفينا ينضح من بين جنبات افكارهم ، واقوالهم ، ولا أدري أن تنوير هذا الذي لا يحترم وجهات نظر الاخرين ؟؟
سادسا : يعيش المتنور " غربة " في البيئة التي يحيا فيها داخل العالم الاسلامي ، لانه من جهة قد انبهر بالحضارة الغربية ، ومن جهة يرى المسافات الكبيرة بينها وبين الواقع الذي يعيشه ، بل ربما ينبذه في الوقت الذي يرى اكتساح التيار الاصولي – على حد قولهم – للمجتمع العربي والاسلامي ، في حين فشل التيار التنويري التغريبي في التغيير الاجتماعي !!
سابعا : المشروع " التنويري " أو ما يسمى بالنهضة أو اليقظة لا يعرف من انتاجه في الواقع الا حركة " التشكيك " في التراث ، والطعن في " السنة " ، وتزهيد الناس في " التاريخ " مع أن الجوانب المشرقة من التاريخ الاسلامي تفوق بشكل كبير تلك الممارسات السياسية الخاطئة التي شكلت مفهوم التراث الاسلامي عند الكثير ، وقد اسهم التنويريون في خرق القضايا المسلمة في الأمة ، والنيل منها دون إن يقدموا مشروعا نافعا في أي ميدان من ميادين الحياة العامة !!
هذه بعض الرؤى حول هذا التيار ... ارجو إن اكون مصيبا فيها !!