بسم الله الرحمـن الرحيم
صحراء العرب ولادة..
ولدت أجيالاً من الفرسان.. بعد أجيال.. وكجبالها الشُّمّ، كان فرسانها جبالاً في رسُّوهم وارتفاعهم، أو أنهم صاروا على مرِّ الليالي أعلاماً يشار لها بالبنان..
وكما تنبت صحراء العرب الشيح والقيصوم.. العرار والأقحوان.. تنبت الرجال والفرسان.. وكما تعبق صحراء العرب بروائح الخزامى والريحان تعبق بمكارم الأخلاق..
فالفروسية جامعة لمكارم الأخلاق من شجاعة وشهامة وحب ومروءة.. وشعر ووجدان.. والفروسية جاءت العرب كابراً عن كابر، ورثاً من طبيعة صحرائهم الواسعة النقية والقوية والتي يعيش فيها الاقوى، ولا يسود غير فارس، وليس لأي قبيلة أمجاد بغير الفروسية.. أو مآثر.. صحراء العرب بقوتها.. عنفوانها وقسوتها... ربَّتْ أبناءها على الفروسية.. وأرستها فيهم كما ترسي الجبال الرواسي.. جبال جزيرة العرب التي تطاول السماء بغارب.. وتبقى شامخة تتحدى قسوة الاجواء وعوادي الظروف، وصروف الدهور..
وتوارث أعلام العرب الفروسية.. كابراً عن كابر.. فإذا مات فيهم سيِّدٌ قام سيد.. وإذا غاب فارس ناب عنه فرسان..
العرب شربوا الفروسية مع حليب الأمهات، وتنفسوها من هواء الصحراء، وتوارثوها من أمجاد الآباء، وتفاخروا بها في أشعارهم وأيامهم، وقائعهم وحروبهم.. لأنها هي عدة الحرب قبل السيوف، وهي علة البقاء قبل القوت، وبدونها تُقْبل جحافل الموت الحمراء، ويقدم ما هو أسوأ من الموت وأشأم: الذل والعار، الهَوَان والصَّغار..
٭ ٭ ٭
وفرسان العرب كثيرون، أكثر من قبائلهم المتكاثرة.. إن في كلِّ قبيلة فرساناً مشهودين، مشهورين، هم مفخرة القوم، وعزَّ القبيلة، وقدوة النشء، ومحل احترام الرجال، ومحط اعجاب النساء، وأمنية كل فتاة جميلة..
وفرسان العرب مع سطوتهم وقسوتهم يذوبون رقة أمام المرأة الجميلة:
نحن قومٌ تذيبنا الأعين النُّجلُ = على أننا نذيب الحديدا..
لهذا كان الفرسان يعشقون.. ويهيمون حُباً وغراماً، وكأن العشق من لوازم الفروسية، وكأنه جزء لا يتجزأ من الشهامة والكرامة والنُّبل..
لقد كانت الفروسية بمعناها الحقيقي.. تجمع المحاسن..
كلُّ الصيد في جوف الفرا.. = وكُلُّ النُّبل في عَبَق الفروسية..
٭ ٭ ٭
وأكثر فرسان العرب شعراء.. يتوهج الشعر في قلوبهم توهُّج الشجاعة.. ويصاحبونه مصاحبة السيوف.. فيصنعون به مواقعهم.. ومعاركهم.. ويخلِّدون به أيامهم.. ومآثرهم.. وحين يلْقون السيوف لا يلْقون الشعر.. فالذي في اليد يلْقى، والذي في القلب يبقى، وإذا يصمت زئير السيوف بعد انتهاء الحروب، يغرد عصفور الشعر في القلوب، فيغازلون معشوقاتهم، ويدللونهن برقة وحنان، ويخضعون لهن برضا وامتنان، وتعجب الأرجاء وجبال الصحراء من فارس قاس عابس يسفك الدماء ويهشم الرؤوس ويحطم العظام ويقطع الأعناق كأعنف جزار ثم يعود بعد هذا بقليل فيرق كالماء ويلين كالنسيم ويتذلل للحبيب!.
٭ ٭ ٭
بل إن فرسان العرب في حمأة الحرب وحموتها وطوفان ملك الموت، وطوفان الدم الأحمر القاني، وتساقط الرؤوس والأجساد، ومطاعن القلوب وثوران الأحقاد، يتغنون بمعشوقاتهم في عيون الموت، ويتغزلون بهن وأنهارالدم تجري، ويستمدون من ذكراهن حمِّية وبأساً واقداماً وقوة..
في وجدان العربي يتلازم الحب بالفروسية تلازم التمر بالنخلة، ويتمازج معها تمازج العطر بالوردة:
ولقد ذكرتك والرماحُ نواهل = مني وبيض الهند تقطر من دمي
فوددت تقبيل السيوف لأنها = لمعت كبارق ثغرك المبتسم!
في وجدان الفارس العربي حبيبته وقبيلته، جواده وسيفه، شيمه ومكارمه، شجاعته واقدامه:
لما رأيت القومَ أقبل جمعهم = يتذامرون كررتٌ غيرَ مُذَمَّم
يدعون عنتر والرماح كأنها = أشطان بئر في لبان الأدهم
فَوَدَدْتُ تقبيل السيوف لأنها = لمعتْ كبارق ثغرك المتبسم
في حَومْة الحرب التي لاتشتكي = غَمَراتها الأبطال غيرَ تغْمُغم
إذ يتقون بي الأسنة لم أخمْ = عنها ولكنْ تضايقَ مقْامي
ومْدَجَّج كره الكماة نزاله = لا ممعناً هرباً ولا مُسْتسلم
فشككت بالرُّمْح الأصم ثيابه = ليس الكريم على القَنَا بمحَّرم
هلا سألت الخيل يا ابنة مالك = إن كنت جاهلة بما لم تعلم
يخْبرْك من شهد الوقيعة انني = أغشى الوغى وأعف عند المغْنم!
نعم الاخلاق.. أخلاق فارس!
ثم هو واسع الوجدان، في وجدانه محبوبته عبلة، وجواده الأدهم الذي يحبه ويكاد يتحاور معه:
ولقد شفى نفسي وأبرأ سُقمها = قيل الفوارس: ويك عنتر أقدم
يدعون عنتر والرماح كأنها = أشطان بئر في لبان الأدهم
مازلت أرميهم بثغرة نحره = ولبَانه حتى تَسْرَبَلَ بالدم
فازورَّ من وقْع القَنَا بلبانه = وشكى إليَّ بعْبَرة وتَحْمحم
لو كان يدري ما المحاورة اشتكى = ولكان لو علمَ الكلام مكلّمي!
ثم يتذكر محبوبته:
وتحلُّ عبلة بالجواء وأهلنا = بالحزْن فالصمّان فالمتثلَّم
فالمحبوبة بالجواء شمال نجد من أرض القصيم، وعنترة في الصمان وما حولها بشرق نجد!
ثم يخاطبها كفارس:
ولقد نزلت فلا تظني غيره = مني بمنزلة المُحبّ المكْرَم
ثم يذكر لها شمائله لتحبه أكثر.. وهي شمائل تؤخذ في جوها الجاهلي قبل الإسلام الحنيف:
أثني عليّ بما علمت فإنني = سَمْحٌ مخالقتي إذا لم أظْلم
فإذا ظلمْت فإن ظلْمي باسلٌ = مُرُّ مذاقته كطَعْم العلقم
ولقد شربت من المدامة بعدما = ركد الهواجر بالمشوف المعْلَم
فإذا شربت فانني مُسْتهلك = مالي، وعرضي وافرٌ لم يكْلَم
وإذا صحوت فما أقصِّر عن ندى = وكما علمت شمائلي وتكرُّمي
ويقول طرفة بن العبد:
إذا القوم قالوا من فتى خلت أنني = عنيت فلم أكسل ولم اتبلَّد!
ولا غرو أن يذكر فرسان العرب معشوقاتهم في لجج المعركة والموت يحصد الارواح، إن هذا من لباب الفروسية الممزوجة بالحب والمملوءة غيرةً على المحارم والعرض..
هذا
راكان بن حثلين يتذكر معشوقته في إحدى المعارك
يا قومنا ما من صديقْ = جمعين والثالث بحرْ
والله لابوج لها الطريقْ = لعيون برَّاق النَّحرْ
و(باج) لها الطريق.. شق الطريق لفرسه وقومه
٭ ٭ ٭
وقد مر عمرو بن معد يكرب الفارس المشهور بموقف يماثل موقف راكان بن حثلين، قبله بعشرات القرون، قبل الإسلام، حين أغار قوم كثيرون على قومه فجأة، وكادوا ينتصرون، ورأى نساء قومه يضربن الأرض الصلبة في جزع، كأنما تتمنى الواحدة أن تخسف بها الأرض قبل السبي والعار والذل، ورأى محبوبته لميس معهن قد ظهر من محاسنها ما كانت تخفيه لهول المفاجأة، فتجلت فروسيته كالنجوم في ظلمات ليل الموت وقال:
لما رأيت نساءنا = يفحصن بالمعزاء شدَّا
وبدتْ لميس كأنها = بدرُ السماء إذا تبدَّى
وبدت محاسنها التي = تُخْفي وكان الأمر جدا
نازلت كبشهم ولم أرَ = من نزال الكبش بدّا
إن الجمال مآثرٌ = ومعادنٌ أورثنَ مجدا
ليس الجمال بمئزر = فاعلم وإن رُدِّيت بردا..!
نعم إن الفروسية هي جمال الرجال!
٭ ٭ ٭
روحي وأنا راكان!!
ومن صفات الفروسية التي ورثناها عن العرب ورأيناها في شمائلهم، الترفع عن ساقط القول، ومواجهة المواقف المحرجة بشمم وشجاعة..
ومن هذا أن
راكان بن حثلين حين خرج من سجن الأتراك (وقد أسروه غدراً وسجنوه سبع سنوات عجافاً) كان مشوقاً لمعشوقته - وقيل انها كانت زوجته وفسخ القاضي النكاح بطلب منها لطول غيبته، في كل الأحوال حين خرج راكان علم أنها قد تزوجت من منافسة وهو أيضاً فارس شهم، فقال (وانظر جمال مخاطبته لمنافسه الكريم):
لوْمي على الطيِّب ولومه عليهْ = وراه يأخذ عشقتي ما تَنَاني؟!
وليته صبر عامين والاضحيِّهْ = والا توقّع صاحبي ويش جاني
أما قعد راكان ذيب السرية = والا يجي يصهل صهيل الحصان
انظر لكلمة الطيب في قوله:
(لومي على الطيب ولومه عليه = وراه ياخذ عشقتي ما تناني)
ما أجملها رغم صعوبة الموقف وألمه في القلب، ولكن من أخلاق الفروسية والفرسان الترفع عن ردي الكلام وكبر القلب عن الحقد:
لا يحمل الحقد من تعلو به الرتُّبُ = ولا ينال العُلا من طبعه الغضبٌ
٭ ٭ ٭
إن الفروسية ضاربة الجذور في أرض العرب كجذور أشجار النخيل فيها ومثل جبالها الشم، ومن الرائع تدريسها لأجيالنا منذ الصغر، إن فيها قيماً لا تبلى على الدهر..