مجالس العجمان الرسمي


مجلس الدراسات والبحوث العلمية يعنى بالدراسات والبحوث العلمية وفي جميع التخصصات النظرية والتطبيقية.

رد
 
أدوات الموضوع طرق مشاهدة الموضوع
  #1  
قديم 15-04-2005, 10:21 PM
د.فالح العمره د.فالح العمره غير متصل
 
تاريخ التسجيل: Feb 2005
الدولة: في قلوب المحبين
المشاركات: 7,593
معدل تقييم المستوى: 27
د.فالح العمره is on a distinguished road
التاااااااااااريخ يتحدث

محمد صلى الله عليه وسلم

محرر الإنسان والزمان والمكان

د. محمد أحمد العزب


--------------------------------------------------------------------------------

[1]
حين يحدق الباحث في ملامح الحركة التاريخية قبل وبعد ميلاد محمد صلى الله عليه وسلم فإنه لا يحتاج إلى معاناة ليستجلي حقيقة موضوعية أكبر من أن تتوارى في غياهب الجدل، هذه الحقيقة الموضوعية هي أن هذا الميلاد العظيم كان إيذاناً بثورة كونية شاملة عملت عملها في تغيير علاقات الأشياء بعضها مع بعض، وفي تغيير علاقات الأحياء بعضهم مع بعض، حتى ليمكن القول بأن ما حدث كان تحريراً كاملاً لوضعية الإنسان في الأرض، ووضعية الأرض في الكون، ووضعية الزمان في التاريخ.

أجل، كان هذا الميلاد العظيم إيذاناً ببدء ثورة شاملة، حررت الإنسان والزمان والمكان، ورفعت عنها إصر عبوديات كثيرة كانت تعتاق انطلاقها جميعاً، فأخذ الإنسان حريته بيده، وصاغ هوية زمانه ومكانه صياغة جديدة فجرت عناصر الخير في كل شيء كان احتجاجاً قبلياً على كل عناصر الخير، فوقف الإنسان على ربوة التاريخ يسدد خطواته نحو الأشرف والأفضل، ووقف المكان ليلهم ويحتضن وينبت الأروع والأنصع، ووقف الزمان ليفسح ويتيح للأكمل والأشمل!

ولكن كيف؟

كيف حرر محمد صلى الله عليه وسلم الإنسان من ربقة عبودياته المتعددة؟

كيف حرر محمد صلى الله عليه وسلم الزمان من قبضة كونه إطاراً للحركة التاريخية الهابطة؟

كيف حرر محمد صلى الله عليه وسلم المكانَ من وضعية كونه صنماً أو مناطاً لصنم معبود على الأرض؟

القضية جرت بها أقلام كثير من الباحثين، ولكنهم تناولوها من منظور كمي إذا جاز أن يقال، بمعنى أنهم رصدوا كمَّ التحول التاريخي على مستوى سياسي واجتماعي وثقافي وعقائدي، دون أن يفطنوا إلى جدل هذه المستويات وإشعاعاتها التي تشكل خلفياتها الحقيقية، وهو ما نحاول تجليته في هذه السطور..

ولكن.. كيف.. مرة أخرى؟

[2]
التاريخ هنا لا يتسطيع أن يكذب على نفسه.. فإن ثورة محمد صلى الله عليه وسلم من أجل إنسانية الإنسان تكاد تشكل كل ملامح رسالته الشامخة، لأن القيم والأعراف والمبادئ والنواميس والأحكام والشرائع والقضايا والمقولات التي يمكن أن تشكل في النهاية مجموع الرسالة الإسلامية ليست بذات بال إن هي فقدت محور وجودها الصميمي الذي هو الإنسان.

إن قيام الإنسان بهذه المواضعات الإسلامية هو ما يعطيها معقولية وجودها على الأرض، ومن هنا نستطيع أن نفهم أن نزول القرآن »منجماً« كان ترتيباً طبيعياً على مقدمة أساسية وهي أن معاناة البشر الكادحين هي بالضرورة محور تنزل الوحي من السماء إلى الأرض، أي أن وجود الشرائع والرسالات هو وجود متوقف على وجود آخر قَبْلي ومسبق وهو الوجود الإنساني، فما لم يوجد الإنسان كان لا يمكن أن توجد الشرائع، وما لم يحفر البشر تاريخهم الحلولي على أخاديد الصخور وأعراف الجبال كان لا يمكن للرسالات أن تحفر تاريخها الحلولي على أخاديد الورق أو في أعراف الطبائع والنفوس!

وإذن فقد كان تحرير محمد صلى الله عليه وسلم للإنسان تحريراً مقصوداً وقَبْلياً، ولذلك فإن حجم هذا التحرير يعطي قناعة أن كل الجراح التي نزفت من محمد صلى الله عليه وسلم كانت جراحاً حميمة إلى قلبه، لأنها نزفت دماً هنا ورقَأَتْ دماً بلا حدود هناك، أعنى أن كل قطرة دم أو عرق نزفت من جبين محمد القائد الرسول صلى الله عليه وسلم قد استحالت في تاريخ الإنسان على امتداد هذا التاريخ إلى يد برة حانية تمسح عن جبينه طوفان الدم وشلال الدموع. إن الجراح التي نزفت هناك من جبين محمد صلى الله عليه وسلم وهو يعدل مسار الكون والتاريخ والإنسان، هي التي تتيح لهذا الإنسان أن يقبض في رحاب الكون والتاريخ على إنسانيته بيديه، غير غارق في طوفان الرجعة الذاهلة إلى حرب الأعراق الفاجرة، أو إلى انحناء الجذع الإنساني أمام حجم حجري بليد، أو إلى انصياع في مسارب اللذات غير مبدع ما يبقى على التاريخ عنواناً على عظمة البشر ومجد الإنسان في الأرض!

كان الإنسان –قبل محمد صلى الله عليه وسلم- يتكئ في قناعته على مسلّمات كثيرة، فأطلق محمد صلى الله عليه وسلم فيه ثورة العقل وثورة الجسد وثورة الروح.. لقد زلزل هذا الإنسان بثورة العقل معاقل الخرافة، وأسوار التجمد، وحوائط الانغلاق، فأطلق لفكره العنان يجول في أبهاء الزمن والتاريخ والكون والثقافات، يشيد من بعضها ما يراه موائماً لطبائع التطور، ويشيد علىأنقاض بعضها الآخر ما يراه عاجزاً عن مواكبة الطموح البشري في اندفاعه مع تيار التواصل الكوني والإنساني.. وزلزل هذا ا لإنسان بثورة الجسد مقاصير العنت، ومناطق الخوف، وأحراش الرهبوت، فأطلق للإبداع الإنساني آفاق طموحه المشروعة، وأمّن لخطوات التاريخ على طرائق الخير والحق، وجعل من »القيمة« وحدها مقياس التوافق مع الوجود الإنساني النبيل الذي يرفض أن يشارك في مهزلة الأعلى والأدنى على ضوء مقاييس البطش والإرهاب.. وزلزل هذا الإنسان أخيراً بثورة الروح تاريخ الهمجية على الأرض، فأطلق لأشواقه العليا أن تلوذ بمناطها الطبيعي، وأن تستريح من قرّها إلى دفء الألوهية.

وهكذا يتوافق إيقاع ثورات العقل والجسد والروح تلك التي أطلق شرارتها الأولى محمد صلى الله عليه وسلم لتؤلف في النهاية هذا الكون المسلم الذي يرفض إنسانه أن يوجد على الأرض بليداً بلا عقل، وكاسداً بلا فعل، ومعطلاً بلا أشواق، وهذا هو حجم التحول الذي قاده هذا الإنسان النبي صلى الله عليه وسلم في أحلك فترات التاريخ قتامة وجهامة وانطفاء!

[3]
وليس فعل محمد صلى الله عليه وسلم في تحرير الزمان بأقل من فعله في تحرير الإنسان، وإن كنا نلاحظ منذ البدء أن الفصل بين الإنسان والزمان فصل عشوائي وغير مبرر على الإطلاق، إلا أن التقسيم المرحلي لقيمة الفعل البطولي الذي قاده النبي محمد صلى الله عليه وسلم يحتم أن نقف عند كل مرحلة على مشارف لا نتعدى إطارها إلى إطار آخر حتى لا تختلط التخوم والأبعاد.. إن تحرير محمد صلى الله عليه وسلم للزمان يتوهج في حقيقة أولية توشك أن لا تلمحها البدائِهُ العَجلى، وهي اقتداره العظيم على اقتلاع حركة الزمان بما هو تاريخ من فوضى التدفق العشوائي إلى تحديد الملامح وتجسيد الهويات، بمعنى أن التاريخ الزمني كان إطاراً سائباً لا تجري داخله حركة عقائدية محددة تبدع للإنسان شوطاً يجريه، أو هدفاً يحققه، أو إنجازه يضعه على الأرض.. فجاء محمد صلى الله عليه وسلم ليجعل من هذا التاريخ الزمني إطاراً لحركة تبدأ تخومها من الأرض لتنتهي في السماء، أي أن حجم هذه الحركة العقائدية التي أعطاها محمد صلى الله عليه وسلم للتاريخ الزمني محتوىً ومضموناً، تبدأ بمفردات الوجود الإنساني على الأرض لتتوافق في نهاية الرحلة مع كلية الوجود الإلهي في الأشياء وما قبل الأشياء وما وراء الأشياء!

هذا شيء.. وشيء آخر لا يقل عن ذلك تأصلاً وإشعاعاً.. ذلك هو انتقال محمد صلى الله عليه وسلم بالتاريخ الزمني من شواطئ المواجهة للإنسان إلى شواطئ العناق للإنسان، بمعنى أن التاريخ الزمني كان قبل محمد صلى الله عليه وسلم عدواً للإنسان يتربص كل واحد منهما بالآخر في محاولة لإجهاض وجوده على الأرض، ولذلك نرى المساحة الكبرى من الإبداع العقلي والفني لإنسان ما قبل التاريخ الإسلامي تغص بقتل الإنسان لزمنه التاريخي في قصف هنا، أو لهوٍ هناك، أو حرب غير مبررة هنالك، ربما لإحساس هذا الإنسان بأن الزمن التاريخي يتربص به، فهو يحاول قتله قبل أن يستطيع هو أن يقتله، وكلاهما قاتل ومقتول في نفس اللحظة وعلى نفس التراب! حتى إذا جاء محمد صلى الله عليه وسلم انتقل بالتاريخ الزمني من شواطئ المواجهة إلى شواطئ المعانقة، وشكل للإنسان حاسة تاريخية ترى في اللحظة الآنية إثراءً طبيعياً للحظة الحاضرة، وفي الآن الماضي تربة طبيعية لتشكيل الآن المستقبل، استطاع الإنسان بعدها أن يفيق على حقيقة أن الزمن هو إطاره الطبيعي، وأن تدمير الإطار يعني على الفور تدمير الذات الساكنة في هذا الإطار، فعزف عن مناوأة تاريخه الزمني، وعقدا معاً ما يشبه الحلف المقدس، فأحس الإنسان المسلم دائماً أن الزمن ثروة ينبغي أن تستغل، وعمر يجب أن يمتلئ، وتاريخ لا بد أن يحتوي أروع ما في الإنسان من طاقات وإبداعات!

وما لنا لا نحاول أن نفهم من المواقيت الزمنية الصارمة للصلاة والصيام والحج والزكاة فوق حكمة مشروعيتها حكمة حلولها في وقت معين وزمن بذاته ربما لتحرك في أعماق الطبيعة الإنسانية قيمة الزمن والإحساس بتاريخية كل الأشياء؟

الحق أن حجم التحول الذي قاده النبي العظيم محمد صلى الله عليه وسلم في مجال تحرير الإنسان والزمان حجم يجب أن يظل في مناطق الضوء، لأن به وحده يمكن التعرف على ضخامة العطاء الإنساني والرسالي الذي وهبه لنا هذا النبي الإنسان صلى الله عليه وسلم، الذي حمل في عينيه أحلام مستقبل البشر.

[4]
فإذا انتقلنا إلى تأمل ملامح الحركة الثالثة وهي تحرير محمد صلى الله عليه وسلم للمكان، لراعنا أن قوة الفعل هنا لا تقل عن روعة الفعل هناك، فإذا تخطينا ملاحظة أن الفصل هنا كذلك بين الإنسان والزمان والمكان فصل مرحلي تحتمه طبيعة التأمل والفهم ولا تحتمه طبائع الأشياء لأن طبائع الأشياء ترفض هذا الفصل ولا تزكيه، إذا تخطينا ذلك كله إلى محاولة تأمل قيمة الفعل الذي أعطاه محمد صلى الله عليه وسلم لتحرير المكان تتميماً لتحرير الإنسان والزمان، لبدهنا على الفور أن علاقة الإنسان هنا بالمكان غير علاقة الإنسان هناك بنفس المكان –بمعنى أن المسرح المكاني الذي جرت عليه أحداث الحياة قبل البعثة المحمدية، ولكن علاقة إنسان الجاهلية بهذا المكان غير علاقة إنسان الحركة الإسلامية بنفس هذا المكان، لأن طبيعة الجدل بين الإنسان وإطاره الطبيعي الذي هو المكان قد وضعت في المنظور الإسلامي على مستوى آخر يرى في الأشياء صديقاً وملهماً ومحراباً، إن الأرض هنا تصبح »مسجداً وطهوراً«.. ويصبح »المكان« قبلة وكعبة ومنسكاً وبيتاً وحقلاً وميداناً وملاعب ذكريات.. وإذا كان محمد صلى الله عليه وسلم قد حرر جبين الأرض من أن تصبح مجرد صنم أو مجرد مناط لصنم، فإن ذلك يعني أن قد حررها من أن تكون بوضعيتها المكانية غير قادرة على الإلهام والعطاء، لأن صنمية الأشياء تعني رفض تعقل الأشياء، أن أن الصنم يتطلب عقلاً صنماً لا يفكر، لأنه إذا تحرك بالفكر رفض على الفور مقولة أن يخرّ لحجرة الصنم.. فإذا حرر محمد صلى الله عليه وسلم هذا التاريخ الطبيعي الذي نسميه الأرض، أو نسميه المكان من أن يكون صنماً أو مناطاً لصنم، فإن ذلك يعني أن أعطى هذا التاريخ الطبيعي اقتداره الطبيعي على أن يلهم ويحرك ويستثير، بمعنى أن الأرض بهذه الوضعية تصبح مجالاً لتأمل الفكر، وطموح العقل، وجسارة الاستشفاف، وما دام ذلك كذلك، فإن رحلة العروج الإيماني قد تبدأ من نبتة طالعة في الصخر، أو نبع متدفق في الرمال، أو شفق هائم على صدر الأفق، أو مضيق متعرج بين جبلين.. وهنا لا بد أن نفطن إلى نداءات محمد صلى الله عليه وسلم المتواصلة التي كان يعقد فيها صداقة كونية بين مظاهر الطبيعة وإنسان هذه الطبيعة، حتى لنراه يدمع وهو يفارق مكة، ونراه ينحني على الزرع الطالع في تعاطف حميم، ونراه يقبل الحجر الأسود، ونراه يميط الأذى عن الطريق.. إن هذا الفعل الرسولي ليس فعلاً عشوائياً يمتد من داخل الذات إلى محيط الإطار في عفوية ساذجة ولكنه يمتد من داخل الذات إلى محيط الإطار ليشكل هذا التواصل الوجداني بين الكون والإنسان، ربما ليستحيل الإنسان في الكون إلى طاقة متلقية وواهبة تعطي الكون معنى أن كان ومعنى أن يكون، وهذه هي قيمة الفعل في تجاوب النقائض والأضداد!

لا أدري بعد.. هل يمكن أن تغيم مقولة أن محمداً صلى الله عليه وسلم حرر الإنسان والزمان والمكان منذ لحظة وجوده على الأرض فاعلاً وغلاباً؟ أم أن هذه المقولة بعد تأمل كل هذه المفردات يمكن أن تكون كما يكون طلوع الشمس في أعقاب ليل بهيم، حركة كونية لها ثقل الحركة بكل أبعادها الهائلة، ولها جلال الكون بكل أسراره وغوامضه وضوافيه؟

أعرف أن الاختيار الأخير هو الأصوب، وأن ما عداه خرافة يجب أن نهزمها في عقل التاريخ!


--------------------------------------------------------------------------------

مجلة الأمة - العدد 15 - ربيع الأول 1402

 

التوقيع

 



من كتاباتي
صرخاااات قلم (( عندما تنزف ريشة القلم دما ))
قلم معطل وقلم مكسوووور
عندما ’تطرد من قلوب الناس !!!!!!(وتدفن في مقبرة ذاتك)
دعاة محترفون لا دعاة هواه ( 1)
الداعية المحترف واللاعب المحترف لا سواء(2)
نعم دعاة محترفين لا دعاة هواة!!!! (( 3 ))
خواطر وجها لوجه
همسة صاااااااااااارخه
خواطر غير مألوفه
اليوم يوم الملحمه ...
على جماجم الرجال ننال السؤدد والعزه
عالم ذره يعبد بقره !!!
معذرة يا رسول الله فقد تأخر قلمي
دمعة مجاهد ودم شهيد !!!!!!
انااااااااا سارق !!!!
انفلونزا العقووووووووول
مكيجة الذات
الجماهير الغبيه
شمووووخ إمرأه

 
 
رد مع اقتباس
  #2  
قديم 15-04-2005, 10:23 PM
د.فالح العمره د.فالح العمره غير متصل
 
تاريخ التسجيل: Feb 2005
الدولة: في قلوب المحبين
المشاركات: 7,593
معدل تقييم المستوى: 27
د.فالح العمره is on a distinguished road

حملة رسالة الإسلام الأولون

وما كانوا عليه من المحبة والتعاون على الحق والخير

وكيف شَوَّه المغرضون جمال سيرتهم

محب الدين الخطيب


--------------------------------------------------------------------------------

روى الإمام أبو عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري في صحيحه عن عمران بن حصين رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "خير القرون قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم"، (قال عمران بن حصين: فلا أدري أذكر بعد قرنه قرنين أو ثلاثاً) "ثم إن بعدكم قوماً يشهدون ولا يستشهدون، ويخونون ولا يؤتمنون، وينذرون ولا يفون، ويظهر فيهم السمن".

وروى البخاري مثله بعده عن عبد الله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم وحديث ابن مسعود هذا عند الإمام أحمد أيضاً في مسنده، وفي صحيح مسلم، وفي سنن الترمذي. وروى مسلم مثله في صحيحه عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها.

فالهدى كل الهدى، مما لم تر الإنسانية مثله -قبله ولا بعده- هو الذي تلقاه الصحابة عن معلِّم الناس الخير. وكان الصحابة به خيَر أمةِ محمد صلى الله عليه وسلم بشهادته هُوَ لَهم؛ وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم، أما الذين يدَّعون خلاف ذلك فهم الكاذبون.

إن الخير كل الخير فيما كان عليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن الدين كل الدين ما اتبعهم عليه صالحو التابعين، ثم نشأ على آثارهم التابعون لهم بإحسان.

ومن أحطِّ أكاذيب التاريخ زَعْمُ الزاعمين أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يضمر العداوة بعضهم لبعض، بل هم كما قال الله سبحانه عنهم في سورة الفتح: (أِشِدَّاءُ على الكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُم) وكما خاطبهم رَبُّنا في سورة الحديد: (وَلِلَّهِ مِيراثُ السماواتِ والأرضِ لا يَسْتَوي مِنْكُم مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الفَتْحِ وَقاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذينَ أنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وقاتَلوا وَكُلاًّ وَعَدَ اللهُ الحُسْنى) ولا يخلف الله وعده. وهل بعد قول الله عز وجل في سورة آل عمران: (كُنْتُم خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) يبقى مسلماً من يكذِّب ربَّه في هذا، ثم يكذِّب رسولَه في قوله: “خَيرُ أمَّتي قرني، ثم الذين يلونهم ..”؟!

في صدر هذه الأمة حفظ الله كتابه بحفظته أميناً على أمين، حتى أدوا أمانة ربهم بعناية لم يسبق لها نظير في أمة من الأمم، فلم يفرطوا في شيء من ألفاظ الكتاب على اختلاف الألسنة العربية في تلاوتها ونبرات حروفها، وتنوّع مدودها وإمالاتها، إلى أدق ما يمكن أن يتصوره المتصور، فتم بذلك وعدُ الله عز وجل في سورة الحجر: (إنَّا نحنُ نزَّلنا الذِّكْر وإنَّا له لحافِظون).

ومن صدر هذه الأمة تفرّغ فريق من الصحابة فالتابعين وتلاميذهم لحمل أمانة السنة، فكانوا يمحِّصون أحاديثَ رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويذرعون أقطار الدنيا ليدركوا الذين سمعوها من فم النبي صلى الله عليه وسلم فيتلقوها عنهم كما يتلقون أثمن كنوز الدنيا. بل كانت دار الإمارة في المدينة المنورة منتدى الفقهاء الأولين في صدر الإسلام يجتمعون إلى أميرهم مروان بن الحكم، فإذا عزيت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم سنة غير الذي كان معروفاً عندهم أرسل مروان في تحقيق ذلك إلى من نسبت تلك السنة إليه من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أو أزواجه، حتى يرد الحق إلى نصابه.

وبينما كان حفظة القرآن وحملة السنة المحمدية يجاهدون في حفظ أصول الشريعة الكاملة، كان آخرون من أبناء الصحابة وأبطال التابعين يحملون أمانة الإمامة والرعاية والجهاد والفتوح، ويعملون على نقل الأمم إلى الإسلام: يعربون ألسنتهم، ويطهرون نفوسها، ويسلكونها في سلك الأخوة الإسلامية لتتعاون معهم على توحيد الإنسانية تحت راية الهدى، وتوجيهها إلى أهداف السعادة.

وقد بارك الله لهؤلاء وأولئك بأوقاتهم، وأتمَّ على أيديهم في مائة سنة ما يستحيل على غيرهم -من أهل الطرائق والأساليب الأخرى- أن يعملوه في آلاف السنين.

هؤلاء هم الذين أخبر عنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنهم خير أمته، وقد صح ما أخبر به، فإن الإسلام إنما رأى الخير على أيديهم، فبهم حفظَ اللهُ أصولَه، وبهم هدى الله الأمم. والبلاد التي دخلت في الإسلام على أيديهم نبغ منها في ظل طريقتهم وعلى أساليبهم كبار الأئمة كالإمام البخاري والإمام أبو حنيفة والليث بن سعد وعبد الله بن المبارك، فكانت الأمم تقبل على هذه الهداية بشغف وتقدير وإخلاص، لما ترى من إخلاص دعاتها وصدقهم وإيثارهم الآجلة على العاجلة، والأمة التي تولت الدعاية لهذه الهداية تستقبل نوابغ المهتدين بصدر رحب، وتبوىء المستأهلين منهم المكانة التي هم أهلٌ لها.

هكذا كانت الحال في البطون الثلاثة الأولى التي امتدحها رسول الله صلى الله عليه وسلم ووصفها بأنها خير أمته. أما العصور التي أتت بعدهم فإن المسلمين يتميزون فيها بمقدار اتباعهم للصدر الأول فيما كان عليه من حق وخير. وهم كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم: "مثل أمتي مثل المطر، لا يدرى أوله خير أم آخره." رواه أحمد في مسنده و الترمذي في سننه عن أنس، ورواه ابن حبان والإمام أحمد في مسنده أيضاً من حديث عمار، ورواه أبو ليلى في مسنده عن علي بن أبي طالب، ورواه الطبراني في معجمه الكبير عن عبد الله بن عمر بن الخطاب وعبد الله بن عمرو، كل هؤلاء الصحابة رووه عن النبي صلى الله عليه وسلم. فأمة محمد صلى الله عليه وسلم إلى خير في كل زمان ومكان ما تحرَّت الطريق الذي مشى فيه هداة القرون الثلاثة الأولى وتابعوهم فيه. بل يرجى لمن يقيم الحق في أزماننا كما أقامه الصحابة والتابعون في أزمنتهم أن يبلغوا منزلتهم عند الله ويعدوا في بقيتهم، ولعلهم المعنيون بقول النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه الإمام أحمد والدارمي والطبراني من حديث أبي جمعة قال: قال أبو عبيدة: يا رسول الله، أأحد خير منا؟ أسلمنا معك، وجهدنا معك. فقال صلى الله عليه وسلم: "قوم يكونون من بعدكم يؤمنون بي ولم يَروني." وإسناده حسن، وصححه الحاكم. واحتج الحافظ أبو عمر بن عبد البر بأن السبب في كون القرن الأول خير القرون أنهم كانوا غرباء في إيمانهم لكثرة الكفار في الأرض، وصبرهم على الهدى وتمسكهم به، إلى أن عَمَّ بهم في أرجائها. قال ابن عبد البر: فكذلك أواخرهم إذا أقاموا الدين وتمسكوا به وصبروا على الطاعة حين ظهور المعاصي والفتن، كانوا أيضاً عند ذلك غرباء، وزكت أعمالهم في ذلك الزمان كما زكت أعمال أولئك. ويشهد له ما رواه مسلم عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "بدأ الإسلام غريباً، وسيعود كما بدأ، فطوبى للغرباء."

ومن غربة الإسلام بعد البطون الثلاثة الأولى ظهور مؤلِّفين شوَّهوا التاريخ تقرباً للشيطان أو الحكام؛ فزعموا أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكونوا إخواناً في الله، ولم يكونوا رحماء بينهم، وإنما كانوا أعداء يلعن بعضهم بعضاً، ويمكر بعضهم ببعض، وينافق بعضهم لبعض، ويتآمر بعضهم على بعض، بغياً وعدواناً. لقد كذبوا. وكان أبو بكر وعمر وعثمان وعلي أسمى من ذلك وأنبل، وكانت بنو هاشم وبنو أمية أوفى من ذلك لإسلامهما ورحمهما وقرابتهما وأوثق صلة وأعظم تعاوناً على الحق والخير.

حدثني بعض الذين لقيتهم في ثغر البصرة لما كنت معتقلاً في سجن الإنجليز سنة 1332هـ أن رجلاً من العرب يعرفونه كان يتنقل بين بعض قرى إيران فقتله القرويون لما علموا أن اسمه (عمر)! قلت: وأي بأس يرونه باسم (عمر)؟ قالوا: حباً بأمير المؤمنين علي. قلت: وكيف يكونون من شيعة علي وهم يجهلون أن علياً سمى أبناءه -بعد الحسن والحسين ومحمد بن الحنفية- بأسماء أصدقائه وإخوانه في الله (أبي بكر) و(عمر) و(عثمان) رضوان الله عليهم جميعاً، وأم كلثوم الكبرى بنت علي بن أبي طالب كانت زوجة لعمر بن الخطاب ولدت له زيداً ورقية، وبعد مقتل عمر تزوجها ابن عمها محمد بن جعفر بن أبي طالب ومات عنها فتزوجها بعده أخوه عون بن جعفر فماتت عنده. وعبد الله بن جعفر ذي الجناحين ابن أبي طالب سمى أحد بنيه باسم (أبي بكر) وسمى ابناً آخر له باسم (معاوية)، ومعاوية هذا -أي ابن عبد الله ابن جعفر بن أبي طالب- سمى أحد بنيه (يزيد). وعمر بن علي بن أبي طالب كان من نسل عيسى بن عبد الله بن محمد بن عمر بن علي بن أبي طالب اشتهر بالمبارك العلوي وكان يكنى (أبا بكر). والحسن السبط بن علي ابن أبي طالب سمى أحد أولاده باسم أمير المؤمنين (عمر) تيمناً وتبركاً. ولِعمر هذا ذرية مباركة منهم العلماء والشرفاء. والحسن السبط كان مصاهراً لطلحة بن عبيد الله، وإن أم إسحاق بنت طلحة هي أم فاطمة بنت الحسين بن علي. وسكينة بنت الحسين السبط كانت زوجاً لزيد بن عمر بن عثمان بن عفان الأموي. وعقد لها قبله على الأسبغ ابن عبد العزيز بن مروان بن الحكم الأموي. وأختها فاطمة بنت الحسين السبط بن علي بن أبي طالب كانت زوجة عبد الله الأكبر بن عمرو بن عثمان بن عفان، وكانت قبل ذلك زوجة الحسن المثنى، وله منها جدُّنا عبد الله المحض. وأم أبيها بنت عبد الله بن جعفر ذي الجناحين بن أبي طالب كانت زوجة لأمير المؤمنين عبد الملك بن مروان ثم تزوجها علي بن عبد الله بن العباس ابن عبد المطلب. وأم كلثوم بنت جعفر ذي الجناحين كانت زوجة للحجاج بن يوسف وتزوجها بعد ذلك أبان بن عثمان بن عفان. والسيدة نفيسة المدفونة في مصر (وهي بنت حسن الأنور بن زيد بن الحسن السبط) كانت زوجة لأمير المؤمنين الوليد بن عبد الملك وولدت له. وعلي الأكبر ابن الحسن السبط بن علي بن أبي طالب أمه ليلى بنت مرة بن مسعود الثقفي وأمها ميمونة بنت أبي سفيان بن حرب الأموي. والحسن المثنى بن الحسن السبط أمه خولة بنت منظور الفزارية وكانت زوجة لمحمد بن طلحة بن عبيد الله، فلما قتل يوم الجمل -ولها منه أولاد- تزوجها الحسن السبط فولدت له الحسن المثنى. وميمونة بنت أبي سفيان بن حرب جدة علي الأكبر ابن الحسين ابن علي لأمه. ولما توفيت فاطمة بنت النبي صلى الله عليه وسلم تزوج علي بعدها أمامة بنت أبي العاص بن الربيع بن عبد العزى بن عبد شمس بن أمية.

فهل يعقل أن هؤلاء الأقارب المتلاحمين المتراحمين الذين يتخيرون مثل هذه الأمهات لأنسالهم، ومثل هذه الأسماء لفلذات أكبادهم، كانوا على غير ما أراده الله لهم من الأخوة في الإسلام، والمحبة في الله، والتعاون علىالبر والتقوى؟

لقد تواتر عن أمير المؤمنين علي كرم الله وجهه أنه كان يقول على منبر الكوفة: "خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر ثم عمر". روي هذا عنه من أكثر من ثمانين وجهاً، ورواه البخاري وغيره، ولا يوجد في تاريخ في الدنيا، لا تاريخ الإسكندر المقدوني، ولا تاريخ نابليون، صحت أخباره كصحة هذا القول -من الوجهة العلمية التاريخية- عن علي بن أبي طالب. وكان كرم الله وجهه يقول: "لا أُوتَى بأحد يفضلني على أبي بكر وعمر إلا ضربته حدَّ المفتري" أي أن هذه الفرية توجب على صاحبها الحدَّ الشرعي، ولهذا كان الشيعة المتقدمون متقفين على تفضيل أبي بكر وعمر. نقل عبد الجبار الهمداني في كتاب (تثبيت النبوة) أن أبا القاسم نصر بن الصباح البلخي قال في (كتاب النقض على ابن الراوندي): سأل سائل شريك بن عبد الله فقال له: أيهما أفضل أبو بكر أو علي؟ فقال له: أبو بكر. فقال السائل: تقول هذا وأنت شيعي؟ فقال له: نعم، من لم يقل هذا فليس شيعياً. والله لقد رقي هذه الأعواد علي فقال: “ألا إن خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر ثم عمر” فكيف نردّ قوله؟ وكيف نكذبه؟ والله ما كان كذاباً. وفي ترجمة يحيى بن يعمر العدواني من (وفيات الأعيان) للقاضي ابن خلكان أن يحيى بن يعمر كان عداده في بني ليث لأنه حليف لهم، وكان شيعياً من الشيعة الأولى القائلين بتفضيل آل البيت من غير تنقيص لذي فضل من غيرهم. ثم ذكر قصة له مع الحجاج، وإقامته الحجة على أن الحسن والحسين من ذرية رسول الله صلى الله عليه وسلم من آية (ووهبنا له إسحاق ويعقوب) إلى قوله تعالى: (وزكريا ويحيى وعيسى). قال يحيى بن يعمر: وما بين عيسى وإبراهيم أكثر مما بين الحسن والحسين ومحمد صلى الله عليه وسلم فأقرّه الحجاج على ذلك وكبر في نظره وولاه القضاء على خراسان مع علمه بتشيعه. وأنت تعلم أن الحجاج هو ما هو، ومع ذلك فقد كان -مع فاضل متجاهر بشيعيته المعتدلة محتج للحق بالحق- أكثرَ إنصافاً من هؤلاء الكذبة الفجرة الذي جاءوا في زمن السوء، فصاروا كلما تعرضوا لأهل السابقة والخير في الإٍسلام، ومن فُتحت أقطار الأرض على أيديهم، ودخلت الأمم في الإسلام بسعيهم ودعوتهم وبركتهم، وكلهم من أهل خير القرون بشهادة رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم، وما منهم إلا من يتصل ببني هاشم وآل البيت بالخؤولة أو الرحم أو المصاهرة؛ وبالرغم من كل ذلك يتعرضون لسيرتهم بالمساءة كذباً وعدواناً، ويرضون لأنفسهم بأن يكونوا أقل إنصافاً وإذعاناً للحق حتى من الحجاج بن يوسف. وإني أخشى عليهم لو أنهم كانوا في مثل مركز الحجاج بن يوسف كانت فيهم مآخذ كل الصالحين عليه، مع التجرد من كل مزاياه وفضائله وفتوحه التي بلغت تحت رايات كبار قواده وصغارهم إلى أقصى أقطار السند، وغشيت جبال الهند وما صاقبها.

وإن خطبة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب في نعت صديقه وإمامه خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم أبي بكر يوم وفاته من بليغ ما كان يستظهره الناس في الأجيال الماضية. وفي خلافة عمر دخل علي في بيعته أيضاً وكان من أعظم أعوانه على الحق، وكان يذكره بالخير ويثني عليه في كل مناسبة، وقد علمتَ أنه بعد أخيه وصهره سمّى ولدين من أولاده باسميهما ثم سمى ثالثاً بعثمان لعظيم مكانته عنده، ولأنه كان إمامه ما عاش، ولولا أن عثمان -بعد أن أقام الحجة على الذين ثاروا عليه بتحريض أعداء الله رجال عبد الله بن سبأ اليهودي- منع الصحابة من الدفاع عنه حقناً لدماء المسلمين، وتضييقاً لدائرة الفتنة، ولما يعلمه من بشارة رسول الله صلى الله عليه وسلم به بالشهادة والجنة، لولا كل ذلك لكان علي في مقدمة من في المدينة من المهاجرين والأنصار الذين كانوا كلهم على استعداد للدفاع عنه ولو ماتوا في سبيل ذلك جميعاً. ومع ذلك فإن علياً جعل وليده الحسن والحسين على باب عثمان، وأمرهما بأن يكونا طوع إشارته في كل ما يأمرهما به ولو أدى ذلك إلى سفك دمهما، و أوعز إليهما بأن يخبرا أباهما بكل ما يحب عثمان أن يقوم له به. وكذبٌ على الله وعلى التاريخ كلُّ ما اخترعه الكاذبون مما يخالف ذلك ويناقض وقوف الحسن والحسين في بابه واستعدادهما لطاعته في كل ما يأمر. ولقد كان من عادة سلفنا أن يدوِّنوا أخبار تلك الأزمان منسوبة إلى رواتها، ومن أراد معرفة قيمة كل خبر على طريقة (أنَّى لكَ هذا؟) فرجع إلى ترجمة كل راوٍ في كل سند لتمحَّصت له الأخبار، وعلم أن الأخبار الصحيحة التي يرويها أهل الصدق والعدالة هي التي تثبت أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا كلهم من خيرة من عرفت الإنسانية من صفوة أهلها، وأن الأخبار التي تشوِّه سيرة الصحابة وتُوهِمُ أنهم كانوا صغار النفوس هي التي رواها الكذبة من المجوس الذين تسموا بأسماء المسلمين.

ولعلك تسألني: إذن ما هو أصل التشيع، وهل لم يكن لعلي شيع ة في الصدر الأول؟ وما هي وقعة الجمل، وما الباعث على وقوعها؟ وما هي حقيقة التحكيم؟

إن الجواب على هذه الأسئلة بالأسانيد التي ترتاح إليها قلوب المنصفين مهما اختلفت مشاربهم ومذاهبهم، يحتاج إلى كتابة تاريخ المسلمين من جديد، وإلى أخذه -عند كتابته- من ينابيعه الصافية، ولا سيما في المواطن التي شوهها أهل الذمم الخَرِبَة من ملفِّقي الأخبار. وأعيد هنا ما قلته غير مرة، وهو أن الأمة الإسلامية أغنى أمم الأرض بالمادة السليمة التي تستطيع أن تبني بها كيان تاريخها، إلا أنها لا تزال أقل أهل أمم الأرض عناية ببناء تاريخها من تلك المواد السليمة، والناس الآن بين قارئ لكتب قديمة أراد مؤلفوها أن يتداركوا الأخبار قبل ضياعها فجمعوا فيها كل ما وصلت إليه أيديهم من غثّ وسمين، منبهين على مصادر هذه الأخبار وأسماء رواتها ليكون القارئ على بينة من صحيحها وسقيمها، ولكن لبعد الزمن وجهل أكثر القراء بمراتب هؤلاء الرواة ودرجتهم في الصدق والكذب، وفي الوفاء للحق أو الميل مع الهوى، تراهم لا يستفيدون من هذه المصادر، ولا من الكتب التي اعتمدت عليها بلا تمحيص وتحقيق. وهنالك كتب قديمة أيضاً ولكنها دون هذه الكتب، لأن أصحابها من أهل الهوى، وممن لهم صبغات حزبية يصبغون أخبارهم بألوانها، فهي أعظم ضرراً، ولعلها أوسع من تلك انتشاراً. أما الكتب الحديثة كمؤلفات جرجي زيدان، والبحوث التي يستقيها حملة الأقلام من مؤلفات المستشرقين على غير بصيرة بدسائسهم، فإنها ثالثة الأثافي وعظيمة العظائم، ولذلك باتت هذه الأمة محرومة أغزر ينابيع قوتها وهو الإيمان بعظمة ماضيها، في حين أنها سليلة سلف لم ير التاريخ سيرة أطهر ولا أبهر ولا أزهر من سيرته.

ومع أن كثيراً من أمهات الكتب النفيسة فُقِدَت في كارثة هولاكو، ثم في الحروب الصليبية واكتساح الأندلس، وما تلا ذلك كله من انحطاط المستوى العلمي في القرون الأخيرة، إلا أن كثيراً من تحقيقات لمحققين لا تزال منبثة في مطاوي الكتب الإسلامية. والأمل عظيم في قيام نهضة جديدة لبعث ماضي هذه الأمة المجيد على ضوء ما تركه علماؤها من نصوص وتوجبهات.

وأعود بعد هذا إلى الأسئلة التي تقدمت آنفاً عن أصل الفتن والتشيع، فقد زعم الزاعمون لعليٍّ -كرم الله وجهه- ما لم يكن له به علم: زعموا أن النبي e عيّنه للخلافة بعده يوم استخلفه على المدينة وهو متجه إلى الشام في غزوة تبوك، وقال له يومئذ: “أنت مني بمنزلة هارون من موسى، إلا أنه لا نبي بعدي”. ورجال الحديث مختلفون في درجة هذا الخبر من الصحة، فبعضهم يراه صحيحاً، وبعضهم يراه ضعيفاً، وذهب الإمام أبو الفرج بن الجوزي إلى أنه موضوع مكذوب. ونحن إذا رجعنا إلى الظروف التي قالوا إنها لابست هذا الحديث نرى أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أراد الله له أن يتوجّه نحو تبوك- أمر علياً بأن يتخلف في المدينة، وكان رجالها والقادرون على الحرب من الصحابة قد خرجوا مع النبي صلى الله عليه وسلم، فوجد علي في نفسه وقال للنبي صلى الله عليه وسلم: "أتجعلني مع الناس والأطفال والضعفة؟” فقال له النبي صلى الله عليه وسلم تطييباً لنفسه: “أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى؟” أي في استخلاف موسى أخاه هارونَ لما ذهب إلى الجبل ليعود بالألواح. فهذا الاستخلاف لم يكن في نظر سيدنا علي -كرم الله وجهه- هذا المعنى الوهمي الذي اخترعه المتحزبون فيما بعد، بل هو على عكس ذلك كان يراه حرماناً له من مكانة أعلى وهي مشاركة إخوانه الصحابة في ثواب الجهاد لتكوين الكيان الإسلامي المنشود. زِدْ على ذلك أن هذا النوع من الاستخلاف لم ينفرد به علي كرم الله وجهه، بل تكرر من النبي صلى الله عليه وسلم استخلاف ابن أم مكتوم على المدينة نفسها، وكان ابن أم مكتوم يتولى الإمامة بالناس في المدينة مدة خلافته عليها. وقد ناظر كبارُ الشيعة في هذا الحديث علاَّمةَ العراق السيد عبد الله السويدي عندما جمعه بهم نادر شاه في النجف سنة 1156 هـ فأفحمهم السويدي وخذل باطلهم، كما ترى ذلك فيما دوَّنه رحمه الله بقلمه عن هذه الواقعة وأثبتناه في رسالة طبعناها بعنوان (مؤتمر النجف).

فالإمام علي كرم الله وجهه كان يعلم أن الخلافة الحقة هي التي انضوى فيها إلى إجماع إخوانه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم قدَّر الله لها بحكمته ما شاء، وقضي فيها بعدله ما أراد. وما كان لمسلم من عامة المسلمين -فضلاً عن مثل علي في عظيم مكانته في الأولين والآخرين- أن يسخط لقدر الله، أو يتمرد على قضاءه، أو يرضى غير الذي ارتضاه إخوانه من الصحابة، أو يداجي في إجماعه معهم على ما فيه صلاح المسلمين. ومن الافتئات عليه والانتقاص من قدره والتشويه لجمال الإسلام وتاريخه الشكُّ في إخلاص علي أو في اغتباطه بما بايع عليه خليفةَ رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر الصديق وصاحبيه من بعده عمرَ وعثمان رضوان الله عليهم أجمعين.

ومن المزايا التي تفرّد بها عليّ وطبقته ممن ولي الخلافة أو دخل في بيعتها في الصدر الأول أنهم كانوا يرون ولاية هذا الأمر واجباً يقوم به الواحد منهم إذا وجب عليه كما يقوم بسائر واجباته، ولا يرونها حقاً لأحدهم يعادي عليه المسلمين، ويعرّض دماءهم للخطر والشر، ليستأثر بها على غيره.

وجميع الوقائع -إذا جرِّدت من زيادات أهل الأهواء- تدل على هذه المكانة السامية لعلي وإخوانه، فلما شُوِّهت الوقائع وأخبارها بما دسَّه فيها المتزيِّدون من أكاذيب لا مصلحة فيها لعلي وآله، كانت بها لعلي وبنيه صورة قبيحة لا تنطبق على الحقيقة والواقع، وظن المخدوعون بها أن تلك الطبقة -الممتازة على جميع أمم الأرض بعفَّتها وطهارة نفوسها وترفُّعِها عن الصغائر- إنما كانت على عكس ذلك: تتنازع كالأطفال والرعاع على توافه الدنيا وسفاسف العاجلة. فالخلافة كانت في نظر الراشدين عِبئاً يتولَّى الواحد منهم حمله بتكليف من المسلمين أداءً للواجب، ولم تكن عند أحد منهم متاعاً ولا مأكلة حتى يتنازع غيره عليها. ولما تآمرت المجوسية واليهودية على سفك دم أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، وأبقى الله من حياته بقيَّة يدبر فيها للمسلمين أمرهم بعده، جعل الأمر شورى، واقترح عليه بعض الصحابة أن يريح المسلمين من ذلك فيعهد إلى ابنه عبد الله بن عمر -ولم يكن عبد الله بن عمر دون أبيه في علم أو حزم أو بعد نظر أو إخلاص لله ورسوله والمؤمنين- رفض عمر ذلك وقال: "بحسب آل الخطاب أن يليها واحد منهم؛ فإن كان خيراً فقد أصبنا منه، وإن كان رزءاً فقد قمنا بنصيبنا فيه." وعبد الله بن عمر نفسه عرضت عليه الإمامة فيمن عرضت عليهم عند مقتل عثمان في ذي الحجة سنة 35 هـ فهرب منها كما كان يهرب منها طلحة والزبير وعلي، ولم يتولَّها عليٌّ إلا قياماً بواجب، ولم يستمدَّها من خرافات المتحزِّبين وسخافاتهم، بل من إرادة الأمة في ذينك اليومين (الخميس ذي الحجة والجمعة منه) ما أعلن ذلك على رءوس الأشهاد وهو واقف على أعواد منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فعليٌّ إلى تلك الساعة لم تكن له شيعة خاصة به يعرفها وتتصل به، ولم يخطر على باله أن يجعل أحداً من الناس شيعة له، لأنه هو نفسه وسائر إخوانه من الصحابة كانوا شيعة الإسلام الملتفَّة حول خلفاء نبيها صلى الله عليه وسلم أبي بكر ثم عمر ثم عثمان. ولو حدَّثته نفسه باتخاذ شيعة خاصة به غير جمهور الأمة الذي يتشيع للبيعة العامة لكان ذلك نقضاً منه لما عقد عليه صفقة يمينه لإمامه، وما طُوِّق به عنقه من بيعة الإسلام لأصحابها. ولا شك أنه استمر على ذلك إلى عشية الخميس 24هـ من ذي الحجة سنة 35 للهجرة، وكان أهلاً لأن يستمر على ذلك بأمانة وإخلاص. ولو لم يكن علي كذلك لما كان في هذه المنزلة السامية عند الله والناس. ومن الثابت عنه في عشية ذلك اليوم أنه كان يدافع الخلافة عن نفسه، ويحاول أن يقنع أخاه طلحة بن عبيد الله - أحد العشرة المبشرين بالجنة- بأن يتولى هو هذا الأمر عن المسلمين، بينما طلحة أيضاً كان يدافعها عن نفسه ويحاول إقناع علي بأن يكون هو حاملَ هذا العبء القائمَ على المسلمين بهذا الواجب. وانظر الحوار بينهما في ذلك كما رواه عالم من كبار علماء التابعين وهو الإمام محمد بن سيرين على ما أورده أبو جعفر الطبري في تاريخه: فيقول علي لطلحة: ابسط يدك يا طلحة لأبايعك. فيقول له طلحة: أنت أحق، فأنت أمير المؤمنين، فابسط يدك. وكاد الثائرون من جماعة الفسطاط والكوفة والبصرة يثبون بعلي وطلحة والزبير فيقتلونهم لهربهم من ولاية الأمر وتعففهم جميعاً عن قبول الخلافة، فانتهى الأمر بقبول علي، وارتقى منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم في اليوم التالي (الجمعة 25 من ذي الحجة سنة 35هـ) فخطب خطبة حفظ الطبري لنا نصها، فقال: أيها الناس عن ملأ وأذن، إن هذا أمركم، ليس لأحد فيه حق إلا من أمَّرتم، وقد افترقنا بالأمس على أمر (أي على البيعة له) فإن شئتم قعدتُ لكم، وإلا فلا أجد على أحد. وبذلك أعلن أنه لا يستمد الخلافة من شيء سبق، بل يستمدها من البيعة إذا ارتضتها الأمة.

ومن مزايا الطبقة الأولى في الإسلام التي صحبت النبي صلى الله عليه وسلم وتأدبت بأدبه وتشبعت بسنته أنها كانت ترى الاعتدال ميزان الدين، والرفق جمال الإسلام؛ لأن نبيها صلى الله عليه وسلم كان يقول لها: إن الرفق ما كان في شيء إلا زانه، ولا نُزِع من شيء إلا شانه. وكان يقول لها: من يحرَم الرفق يحرَم الخير كله. ويقول: إن هذا الدين متين فأوغل فيه برفق. ويقول: إياكم والغلوّ في الدين، فإنما هلك من كان قبلكم بالغلوّ فيه. فلما نشأت الطبقة الثانية في حياة الطبقة الأولى أدَّب الآباء بنيهم بهذا الأدب. ولكن أكثر ما كانت هذه الطريقة ناجحة في الحجاز ونجد والشام. وكان في ناشئة الكوفة والبصرة والفسطاط من أخذ بهذه الطريقة، كما أن فيهم من شبَّ على الغلوِّ في الدين. ومن أكبر المصائب في الإسلام في ذلك الحين تسلُّط إبليس من أبالسة اليهود على الطبقة الثانية من المسلمين فتظاهر لها بالإسلام وادَّعى الغيرة على الدين والمحبة لأهله، وبدأ يرمي شبكته في الحجاز والشام فلم يعلق بشيء بسبب تشبُّعهم بفطرة الإسلام في اعتداله ورفقه، وحذَرِهم من طرفي الإفراط والتفريط. فذهب الملعون يتنقل بين الكوفة والبصرة والفسطاط ويقول لحديثي السن وقليلي التجربة من شبابها: عجباً لمن يزعم أن عيسى يرجع ويكذِّب بأن محمداً يرجع، وقد قال عز وجل: (إن الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد) فمحمد أحق بالرجوع من عيسى. وكان يقول لهؤلاء الشبان: كان فيما مضى ألف نبي، ولكل نبي وصي، وإن علياً وصي محمد. ويقول لهم: محمد خاتم الأنبياء، وعلي خاتم الأوصياء. ثم يقول لهم محرضاً على عثمان، وكان ذلك في أواخر خلافة عثمان سنة 30: ومن أظلم ممن لم يجز وصية رسول الله، وممن يثب على عليّ وصيِّ رسول الله وينتزع منه أمر الأمة. ويقول لهم: إن عثمان أخذ الخلافة بغير حق، وهنالك علي وصي رسول الله فانهضوا فحركوه وأظهروا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تستميلوا الناس.

إن هذا الشيطان هو عبد الله بن سبأ من يهود صنعاء، وكان يسمى ابن السوداء وكان يبث دعوته بخبث وتدرُّج ودهاء. واستجاب له ناس من مختلف الطبقات، فاتخذ بعضهم دعاة فهموا أغراضه وعوَّلوا على تحقيقها. واستكثر أتباعه بآخرين من البلهاء الصالحين المتشددين في الدين المتنطعين في العبادة ممن يظنون الغلوَّ فضيلة والاعتدال تقصيراً. فلما انتهى ابن سبأ من تربية نفر من الدعاة الذين يحسنون الخداع ويتقنون تزوير الرسائل واختراع الأكاذيب ومخاطبة الناس من ناحية أهوائهم، بث هؤلاء الدعاة في الأمصار -ولا سيما الفسطاط والكوفة والبصرة- وعُني بالتأثير على أبناء الزعماء من قادة القبائل وأعيان المدن الذين اشترك آباؤهم في الجهاد والفتح، فاستجاب له من بلهاء الصالحين وأهل الغلوّ من المتنطعين جماعاتٌ كان على رأسهم في الفسطاط الغافقي بن حرب العكي، وعبد الرحمن بن عديس البَلَوي التُّجيبي الشاعر، وكنانة بن بشر بن عتاب التجيبي، وسودان بن حمران السكوني، وعبد الله بن زيد بن ورقاء الخزاعي، وعمرو بن الحمق الخزاعي، وعروة بن النباع الليثي، وقتيرة السكوني. وكان على رأس من استغواهم ابنُ سبأ في الكوفة عمرو بن الأصم، وزيد بن صوحان العبدي، والأشتر مالك بن الحارث النخعي، وزياد بن النضر الحارثي، وعبد الله بن الأصم. ومن البصرة حرقوص بن زهير السعدي، وحُكيم بن جبلة العبدي، وذريح بن عباد العبدي، وبشر بن شريح، والحطم بن ضبيعة القيسي، وابن المحرش بن عبد عمرو الحنفي. أما المدينة فلم يندفع في هذا الأمر من أهلها إلا ثلاثة نفر وهم: محمد بن أبي بكر، ومحمد بن أبي حذيفة بن عتبة بن ربيعة ابن عبد شمس، وعمار بن ياسر. ومن دعاء ابن سبأ ومكره أنه كان يبثُّ في جماعة الفسطاط الدعوة لعلي (وعلي لا يعلم ذلك)، وفي جماعة الكوفة الدعوةَ لطلحة، وفي جماعة البصرة الدعوة للزبير، وليس هنا موضع تحليل نفسيات المخدوعين بدعوة هذا الشيطان، ولا نريد أن ننقل ذمَّ علي وطلحة والزبير لهم وما قالوه فيهم يوم نزل الثائرون في ذي خُشُب والأعوص وذي المروة، وكيف زوَّر ابنُ سبأ وشياطينه رسالة على لسان علي بدعوة جماعة الفسطاط إلى الثورة في المدينة، فلما واجهوا علياً بذلك قالوا له: أنت الذي كتبتَ إلينا تدعونا، فأنكر عليهم أنه كتب لهم، وكان ينبغي أن يكون ذلك سبباً ليقظتهم ويقظة علي أيضاً إلى أن بين المسلمين شيطاناً يزوِّر عليهم الفساد لخطة مرسومة تنطوي على الشر الدائم والشرر المستطير، وكان ذلك كافياً لإيقاظهم إلى أن هذه اليد الشريرة هي التي زوَّرت الكتاب على عثمان إلى عامله بمصر بدليل إن حامله كان يتراءى لهم متعمِّداً ثم يتظاهر بأنه يتكتم عنهم ليثير ريبتهم فيه، فراح المسلمون إلى يومنا هذا ضحيةَ سلامة قلوبهم في ذلك الحين. إن دراسة هذا الموضوع الآن على ضوء القرائن القليلة التي بقيت لنا بعد مضي ثلاثة عشر قرناً تحتاج إلى من يتفرغ لها من شباب المسلمين، وسيجدون مستندات الحق في تاريخهم كافية لوضع كل شيء في موضعه إن شاء الله.

فأول فتنة وقعت في الإسلام هي فتنة المسلمين بمقتل خليفتهم وصهر نبيهم الإمام العادل الكريم الشهيد ذي النورين عثمان بن عفان رضوان الله عليه. وقد علمتَ أن الذين قاموا بها وجنوا جنايتها فريقان: خادعون ومخدَعون. وقد وقعت هذه الكارثة في شهر الحج، وكان عائشة أم المؤمنين قد خرجت إلى مكة مع حجاج بيت الله ذلك العام، فلما علمت بما حدث في مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم أحزنها بغي البغاة على خليفة نبيهم. وعلمت أن عثمان كان حريصاً على تضييق دائرة الفتنة، فمنع الصحابة من الدفاع عنه، بعد أن أقام الحجة على الثائرين في كل ما ادعوه عليه وعلى عمَّاله، كان الحق معه في كل ذلك وهم على الباطل، وكان هو المثل الإنساني الأعلى في العدل وكرم النفس والنزول على قواعد الإسلام واتباع سننه، وكان في مدة خلافته أكرم وأصلح وأكثر إنصافاً بالحق واتباعاً للخير مما كان هو عليه في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم واجتمعت عائشة بكبار الصحابة، وتداولت الرأي معهم فيما ينبغي عمله -وقد عرف القراء ما كانوا عليه من نزاهة، وفرار من الولاية، وترفُّع عن شهوات النفس- فرأوا أن يسيروا مع عائشة إلى العراق ليتفقوا مع أمير المؤمنين علي على الاقتصاص من السبئيين الذي اشتركوا في دم عثمان وأوجب الإسلام عليهم الحد فيه، ولم يكن يخطر على بال عائشة وكل الذين كانوا معها -وفي مقدمتهم طلحة والزبير المشهود لهما من النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة- أنهم سائرون ليحاربوا علياً، ولم يكن يخطر ببال علي أن هؤلاء أعداء له وأنهم حرب عليهم. وكل ما في الأمر أن أولئك المتنطعين الغلاة الذين انخدعوا بدعوة عبد الله ابن سبأ واشتركوا في قتل عثمان انغمروا في جماعة علي، وكان فيهم الذين تلقنوا الدعوة له وتتلمذوا على ذلك الشيطان اليهودي في دسيسة أوصياء الأنبياء ودعوى خاتم الأوصياء، فجاءت عائشة ومن معها للمطالبة بإقامة الحد على الذين اشتركوا في جناية قتل عثمان، وكان علي -وهو ما هو في دينه وخلقه- ليتأخر عن ذلك، إلا أنه كان ينتظر أن يتحاكم إليه أولياء عثمان. وقبل أن يتفق الفريقان على ذلك شعر قتلةُ عثمان بأن الدائرة ستدور عليهم، وهم على يقين بأن علياً لن يحميهم من الحق عند ظهوره، فأنشب هؤلاء حرب الجمل، فكانت الفتنة الثانية بعد الفتنة الأولى. قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري معتمداً على كتاب (أخبار البصرة) لعمر بن شبة، وعلى غيره من الوثائق القديمة التي جاء فيها عن ابن بطال قولُ الملهب: ... إن أحداً لم ينقل أن عائشة ومن معها نازعوا علياً في الخلافة، ولا دعوا إلى أحد منهم ليولوه الخلافة، وإنما أنكرت هي ومن معها على علي منعَه مِن قَتْلِ قتلة عثمان وترك القصاص منهم. وكان علي ينتظر من أولياء عثمان أن يتحاكموا إليه، فإذا ثبت على أحد بعينه أنه ممن قتل عثمان اقتصَّ منه، فاختلفوا بحسب ذلك وخشي من نُسِبَ إليهم القتل أن يصطلحوا على قتلهم، فأنشبوا الحرب بينهم (أي بين فريقي عائشة وعلي) إلى أن كان ما كان.

ونجح قتلة عثمان في إثارة الفتنة بوقعة الجمل، فترتب عليها نجاتهم وسفك دماء المسلمين من الفريقين، وإنك لتجد الأسماء التي سجلها التاريخ في فتنة عثمان يتردد كثير منها في وقعة الجمل، وفيما بين الجمل وصفِّين، ثم في وقعة صفين وحادثة التحكيم، وفي هذه الحادثة الأخيرة اتسعت دائرة الغلوّ في الدين، فكثر المصابون بوبائه، وتفننوا في مذاهبه، إلى أن انتهى بانشقاق الخوارج عن علي، وتميَّز فريق من المتخلِّفين مع علي باسم الشيعة، ولم يقع نظري على اسم للشيعة في حياة علي كلها إلا في هذا الوقت سنة 37 هـ. ومن الظواهر التي تسترعي الأنظار في تاريخ هذه الفترة أن الغلاة من الفريقين -فريق الشيعة وفريق الخوارج- كانوا سواء في الحرمة للشيخين أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، تبعاً لما كان عليه أمير المؤمين علي نفسه، وما كان يعلنه على منبر الكوفة من الثناء عليهما والتنويه بفضلهما. أما الخوارج فإنهم والإباضية ظلوا على ذلك لم يتغيروا أبداً، فأبو بكر وعمر كانا عندهم أفضل الأمة بعد نبيها، استرسالاً منهم فيما كانوا عليه مع علي قبل أن يفارقوه. وأما الشيعة فإنهم عندما جددوا بيعتهم لعلي بعد خروج الخوارج إلى حروراء والنهروان قالوا له أوَّلاً: نحن أولياء من واليت وأعداء من عاديت. فشرط لهم -كرم الله وجهه- سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، أي يوالوا من والى على سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ويعادوا من عادى على سنته صلى الله عليه وسلم، فجاء ربيعة بن أبي شداد الخثعمي -وكان صاحب راية خثعم في جيش علي أيام الجمل وصفين- فقال له علي: بايِع على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فقال ربيعة: وعلى سنة أبي بكر وعمر. فقال علي: لو أن أبا بكر وعمر عملا بغير كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكونا على شيء من الحق. أي أن سنة أبي بكر وعمر إنما كانت محمودة ومرغوباً فيها لأنها قائمة على العمل بكتاب الله وسنة رسوله، فبيعتكم الآن على كتاب الله وسنة رسوله تدخل فيها سنة أبي بكر وعمر.

هكذا كان أمير المؤمنين من أخويه وحبيبيه خليفتي رسول الله صلى الله عليه وسلم أبي بكر وعمر في حياته كلها، وهكذا كانت شيعته الأولى: من خرج عليه، ومن جدد البيعة له بعد التحكيم.

وحكاية التحكيم هذه كانت مادة دسمة للمغرضين من مجوس هذه الأمة أتاحت لهم دسَّ السموم في تاريخنا على اختلاف العصور، وأول من شمَّر عن ساعديه للعبث بها وتشويه وقائعها أبو مخنف لوط بن يحى، ثم خلف خلْفٌ بعد أبي مخنف بلغوا من الكذب ما جعل أبا مخنف في منزلة الملائكة بالنسبة إلى هؤلاء الأبالسة، وأبو مخنف معروف عند ممحِّصي الأخبار وصيارفة الرجال بأنه أخباريٌّ تالف لا يُوثَق به. نقل الحافظ الذهبي في (ميزان الاعتدال) عن حافظ إيران ورأس المحققين من رجالها الرازي رحمه الله أنه تركه وحذَّر الأمة من أخباره، وأن الدار قطني أعلن ضعفه، وأن ابن معين حكم عليه بأنه ليس بثقة، وأن ابن عدي وصفه بأنه شيعيٌّ محتَرق.

ومن براعة هؤلاء المغرضين في تحريف الوقائع ودس أغراضهم فيها، وتوجيهها بحسب أهوائهم، لا كما وقعت بالفعل، أنهم كانوا يعمدون إل حادثة وقعت بالفعل فيوردون منها ما كان يعرفه الناس، ثم يلصقون بها لصيقاً من الكذب والإفك يوهمون أنه من أصل الخبر ومن جملة عناصره، فيأتي الذين من بعدهم فيجدون الخبر القديم مختصراً فيحكمون عليه بأنه ناقص، ويقولون: من حَفِظَ حُجَّةٌ على من لم يحفظ. ويتناولون الخبر بما لصق به من لصيق مفترى، حتى تكون الرواية الجديدة وما في بطنها من الإثم هي المتداولة بين الناس. وقد يعمد هؤلاء المغرضون إلى موهبة من مواهب النبوغ عرف بها أحد أبطال التاريخ الإسلامي وعظماء الدعاة الفاتحين، ولم يعرف عنه استعمالها إلا في سبيل الحق والخير، فيطلعون على الناس بأكاذيب يرتبونها على تلك الموهبة، ويوهمون أن رجل الحق والخير الذي حلاَّه الله بتلك الموهبة ولم يستعملها إلا في نشر دين الله وتوسيع نطاق الوطن الإسلامي، قد انقلب بزعمهم مع الزمن، وسخَّر نبوغه للباطل والشر؛ فإذا أخذ المحققون في تمحيص ذلك، وتحرِّي مصادر هذه التهم التي لا تلتئم مع ما تقدمها من سيرة ذلك البطل المجاهد، وجدوها من بضاعة الكذَّابين ومفترياتهم، ولكن قلَّما يُجدي ذلك بعد أن يكون (قد قيل ما قيل إن صِدقاً وإن كَذباً).

هذا أبو عبد الله عمرو بن العاص بن وائل السهمي بطل أجنادين، وفاتح مصر، وأول حاكم ألغى نظام الطبقات فيها، وكان السبب الأول في عروبتها وإسلام أهلها، وشريك مسلميها في حسناتهم من زمنه إلى الآن لأنه الساعي في دخولهم في الإسلام - هذه الرجل العظيم عرفه التاريخ بالدهاء ونضوج العقل وسرعة البادرة، وكان نضوج عقله سبب انصرافه عن الشرك ترجيحاً لجانب الحق واختياراً لما دلَّه عليه دهاؤه من سبيل الخير، فجاء مزيِّفو الأخبار من مجوس هذه الأمة وضحاياهم من البلهاء فاستغلُّوا ما اشتُهر به عمرو من الدهاء استغلالاً تقرُّ به عين عبد الله بن سبأ في طبقات الجحيم.

يقول قاضي قضاة أشبيلية بالأندلس الإمام أبو بكر محمد بن عبد الله بن العربي المعافري (المولود في أشبيلية سنة 468 والمتوفَّى بالمغرب سنة 543) في كتابه (العواصم من القواصم) ص177 بعد أن ذكر ما شاع بين الناس في مسألة تحكيم عمرو وأبي موسى، وما زعموه من أن أبا موسى كان أبله وأن عمْراً كان محتالاً: هذا كله كذب صراح، ما جرى منه حرف قط، وإنما هو شيء أخبر عنه المبتدعة، ووضعته التاريخية للملوك، فتوارثه أهل المجانة والجهارة بمعاصي الله والبدع. وإنما الذي روى الأئمة الأثبات أنهما -يعني عمراً وأبا موسى- لما اجتمعا للنظر في الأمر، في عصبة كريمة من الناس منهم ابن عمر، عزَل عمروٌ معاوية. ذكر الدار قطني بسنده عن حضين بن المنذر أنه لما عزل عمرو معاويةَ جاء (أي حضين) ضرب فسطاطه قريباً من فسطاط معاوية، فبلغ نبأه معاوية، فأرسل إليه فقال: إنه بلغني عن هذا (يعني عمرو بن العاص) كذا وكذا (يعني اتفاقه مع أبي موسى على عزل الأميرين المتنازعين لحقن دماء المسلمين وردَّاً للأمر إليهم يختارون من يكون به صلاح أمرهم). فاذهب فانظر ما هذا الذي بلغني عنه. قال حضين: فأتيته فقلت: أخبرني عن الأمر الذي وليت أنت وأبو موسى كيف صنعتما فيه؟ قال: قد قال في ذلك ما قالوا، والله ما كان الأمر على ما قالوا، ولقد قلت لأبي موسى: ما ترى في هذا الأمر؟ قال: أرى أنه النفر الذي توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راض. قلت: فأين تجعلني أنا ومعاوية؟ فقال: إن يُسْتَعَنْ بكما ففيكما معونة، وإن يُسْتَغْنَ عنكما فطالما استغنى أمر الله عنكما. فقال: فكانت هي التي فتل معاوية منها نفسه. فأتيته (أي أن حضيناً أتى معاوية) فأخبرته أن الذي بلغه عنه كما بلغه. أي أن الذي بلغ معاوية من أن عمراً وأبا موسى عزلاه هو كما بلغه، وأنهما رأيا أن يرجع في الاختيار من جديد إلى النفر الذي توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راض. ثم ذكر القاضي أبو بكر بن العربي بقية خبر الدارقطني عن إرسال معاوية رسولاً -وهو أبو الأعور الذكواني- إلى عمرو بن العاص يعاتبه، وأن عمراً أتى معاوية وجرى بينهما حوار وعتاب، فقال عمرو لمعاوية: إن الضجور قد يحتلب العلبة. وهو مثل معناه أن الناقة الضجور التي لا تسكن للحالب قد ينال الحالب من لبنها ما يملأ العلبة. فقال له معاوية: وتربذ الحالب فتدق عنقه وتكفأ إناءه.

فرواية الدار قطني هذه -وهو من أعلام الحديث- عن رجال عدول معروفين بالتثبت، ويقدرون مسئولية النقل، هي التي تتناسب مع ماضي عمرو وأبي موسى وأيامهما في الإسلام ومكانتهما من النبي صلى الله عليه وسلم وموضعهما من ثقة الفريقين بهما واختيارهما من بين السادة القادة المجربين. وأما الافتئات على أبي موسى والإيهام بأنه كان أبله فهو أشبه بالرقعة الغريبة في ردائه السابغ الجميل. يقول القاضي أبو بكر بن العربي (ص174): وكان أبو موسى رجلاً تقياً ثقفاً فقيهاً عالماً أرسله النبي صلى الله عليه وسلم إلى اليمن مع معاذ، وقدَّمه عمر بن الخطاب وأثنى عليه بالفهم. وزعمت الطائفة التاريخية أنه كان أبله ضعيف الرأي مخدوعاً في القول. ثم ردَّ هذه الأكاذيب وأحال في تفصيل الرد على كتاب له اسمه سراج المريدين.

وبعد فإن صحائف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت كقلوبهم نقاء وسلامة وطهراً. وما نتمناه من تمحيص التاريخ أول ما يشترط له فيمن يتولاه أن يكون سليم الطوية لأهل الحق والخير، عارفاً بهم كما لو كان معاصراً لهم، بارعاً في التمييز بين حملة الأخبار: من عاش منهم بالكذب والدس والهوى، ومن كان منهم يدين لله بالصدق والأمانة والتحرز عن تشويه صحائف المجاهدين الفاتحين الذي لولاهم لكنا نحن وأهل أوطاننا جميعاً لا نزال كفرة ضالين.

رد مع اقتباس
  #3  
قديم 15-04-2005, 10:24 PM
د.فالح العمره د.فالح العمره غير متصل
 
تاريخ التسجيل: Feb 2005
الدولة: في قلوب المحبين
المشاركات: 7,593
معدل تقييم المستوى: 27
د.فالح العمره is on a distinguished road

تحليل نوعي وكمّي
لغزوات النبي صلى الله عليه وسلم
اللواء الركن محمد جمال الدين محفوظ

--------------------------------------------------------------------------------

بلغ عدد العمليات الحربية في عصر النبوة أكثر من ستين عملية ما بين غزوة وسرية، وقاد الرسول القائد صلى الله عليه وسلم بنفسه من هذه العمليات ثماني وعشرين غزوة..

وإذا تناولنا هذه الغزوات بالتحليل الإحصائي، من حيث النوع والكمية والتوزيع الزمني، فسوف تتكشف لنا عدة مبادئ في القيادة الحربية في غاية الفائدة للأمة الإسلامية، وتعد من أبرز خصائص العسكرية الإسلامية..

أولاً- تحليل التوزيع الزمني والكمي:

ولعل أول ما يسترعي الانتباه، التوزيع الزمني للغزوات خلال الفترة التي دار فيها الصراع المسلح بين المسلمين وأعدائهم في عصر النبوة، والتي امتدت سبع سنوات تقريباً من السنة الثانية إلى السنة التاسعة للهجرة (من صفر سنة 2 هـ، إلى رجب سنة 9 هـ) حيث يتضح التوزيع كما يلي:

عدد الغزوات في السنة الثانية للهجرة: 8

عدد الغزوات في السنة الثالثة للهجرة: 4

عدد الغزوات في السنة الرابعة للهجرة: 3

عدد الغزوات في السنة الخامسة للهجرة: 4

عدد الغزوات في السنة السادسة للهجرة: 3

عدد الغزوات في السنة السابعة للهجرة: 2

عدد الغزوات في السنة الثامنة للهجرة: 3

عدد الغزوات في السنة التاسعة للهجرة: 1

ومن ذلك نلاحظ ما يلي:

1- أن الرسول القائد صلى الله عليه وسلم حرص على مباشرة القيادة بنفسه طوال فترة الصراع كلها. (من السنة الثانية إلى السنة التاسعة للهجرة) وفي كل سنة من سنواتها بلا استثناء، مع إتاحة الفرصة –في الوقت نفسه- لأصحابه أن يتولوا قيادة الأعمال الحربية المختلفة تحت إشرافه وتوجيهه بصفته القائد الأعلى، وهذه العمليات تسمى بالسرايا التي بلغ عددها خلال نفس الفترة أكثر من ثلاثين سرية.

2- أن الرسول صلى الله عليه وسلم قاد في السنة الثانية للهجرة –وهي أول سنوات الصراع- أكبر عدد من العلميات الحربية، وهو ثماني غزوات بينما لم يزد عدد العمليات التي قادها في كل سنة بعد ذلك عن ثلاث أو أربع عمليات في المتوسط. هذا التركيز في قيادة عمليات أولى سنوات الصراع له دلالاته التي لا تفوت القائد المحنك الخبير بفن الحرب، ويعد في نظر العلم العسكري والاستراتيجية الحربية من علامات القيادة الحربية الفذة.

· فهو يتيح للقائد –في بداية الصراع وقبل تصاعده- الفرصة لدراسة مسرح العلميات دراسة شخصية من الناحية "الطبوغرافية" (مثل طبيعة الأرض والطرق وموارد المياه والتضاريس.. الخ) ومن الناحية "الديموغرافية" (وهي الأهداف التي تسبب للعدو من الأضرار ما يؤدي إلى إحداث تغييرات حادة في الموقفين العسكري والسياسي ويؤثر تأثيراً بالغاً على تطور الصراع المسلح عامة).

· ويتيح للقائد كذلك الفرصة لدراسة عدوه عن طريق الاحتكاك المباشر، وتقييم كفاءته القتالية مادياً ومعنوياً، ودراسة أساليبه في القتال، وأسلحته التي يستخدمها، وكل ذلك يكسب القائد ما يسمى "بالخبرة القتالية".

· هذه الدراسة الشخصية الشاملة تمكن القائد من التخطيط السليم لجميع العمليات الحربية المقبلة، كما تمكنه من إدارة المعارك بكفاية تامة، ومن توجيه المقاتلين إلى ما يحقق لهم النصر على أعدائهم.

· ونتيجة لذلك تنمو لدى القائد ثقته بنفسه وبكفاءاته وقدراته، كما تنمو لدى سائر أفراد الجيش ثقتهم بأنفسهم وقائدهم، فيواجهون تحديات الصراع المقبلة واثقين من النصر.

3- ونلاحظ أيضاً من تحليلنا لهذا التوزيع الكمي والزمني للغزوات: أنه يكشف عن مبدأ من أهم مبادئ إعداد القادة العسكريين لتولي القيادة، وهو أن يتولى قادة المستقبل قيادة الوحدات الفرعية للجيش تحت قيادة القائد العام، وهذا الأسلوب يفيد القدة من عدة نواح نذكر منها:

· مباشرة القيادة عملياً تحت إشراف القائد الأكبر، والإفادة من ملاحظاته وتوجيهاته.

· إتاحة الفرصة لهم لملاحظة أسلوب القائد "المعلم" في القيادة الحربية من حيث التخطيط للمعركة وإدارتها، وتصرفه في مواقفها المختلفة، وهي فرصة ممتازة للتعليم على الطبيعة واكتساب الخبرة القتالية في الوقت نفسه.

· تدريب قادة المستقبل على فن التفكير واستخدام العقل والتعبير عن الرأي وذلك من خلال اشتراكهم مع القائد الأكبر في مرحلة التخطيط للمعارك، ويدخل ذلك في نطاق مبدأ الشورى الذي أمر به الإسلام وطبّقه القئاد صلى الله عليه وسلم خير ما يكون التطبيق حتى قال عنه أبو هريرة رضي الله عنه: "ما رأيت أحداً قط كان أكثر مشورة لأصحابه من رسول الله صلى الله عليه وسلم". وقد استشار الرسول صلى الله عليه وسلم أصحابه في كافة غزواته، ففي غزوة بدر مثلاً استشارهم في مبدأ دخول المعركة ضد قريش، واستقر الرأي على قبول المعركة، وعندما وصل جيش المسلمين إلى مكان المعركة نزل الرسول عليه الصلاة والسلام على رأي الحباب بن المنذر الذي أشار بأن ينتقل الجيش إلى مكان آخر أفضل من الأول، لأنه قريب من ماء بدر ويتحكم فيها. وفي غزوة أحد استشار عليه الصلاة والسلام أصحابه في مبدأ البقاء في المدينة ولقاء قريش فيها، أو لقائهم خارجها، فاستقر الرأي على الخروج، واستجاب صلى الله عليه وسلم لذلك الرأي وقال لهم: "لكم النصر ما صبرتم".

· ثم إن هذا الأسلوب بقيد قادة المستقبل من حديث أنه يكسبهم القدرة على إصدار القرارات السليمة، وفي وقتها المناسب، مما يعد من أهم خصائص القيادة الناجحة، ذلك لأن مشاركتهم في مرحلة التخطيط تتيح لهم معرفة واسعة بفكر القائد ونواياه وأهدافه، وإحاطة وافية بجوانب الموضوعات، والقضايا تمكنهم من اتخاذ القرارات السليمة في المواقف التي يواجهونها في المستقبل بهدي تفكيرهم وحده، ودون حاجة إلى الرجوع إلى القيادة العليا، وخاصة في المواقف المفاجئة أو التي لا تحتمل التأخير.

ثانياً: التحليل النوعي للغزوات:

وإذا تناولنا الغزوات بالتحليل من حيث النوع أو الطابع، فسوف تتكشف لنا جوانب أخرى في القيادة الحربية، وفي إعداد القادة وتدريبهم.

فقد احتوت الغزوات على شتى صور وأشكال العمليات الحربية كما يلي:

عمليات الإغارة ودوريات القتال والردع والتأثير المعنوي مثل:
غزوة ودان – بواط – العشيرة – بدر الأولى – بني سليم – ذي أمر – بحران – ذات الرقاع – بدر الآخرة – دومة الجندل – بني المصطلق – بني لحيان – الحديبية – عمرة القضاء.

العمليات الدفاعية مثل: غزوة بدر الكبرى – أحد – الخندق.
العمليات الهجومية مثل: غزوة فتح مكة – غزوة حنين – تبوك.
عمليات المطاردة مثل: غزوة السويق – حمراء الأسد – ذي قرد.
عمليات الحصار والقتال في القرى الحصينة مثل: غزوة بني قينقاع – بني النضير – بني قريظة – خيبر – الطائف.
ومن هذا التحليل نستخلص أن جيش الإسلام الأول (قادة وجنداً) قد تعلموا ومارسوا عملياً كل أشكال العمليات الحربية تحت قيادة القائد المعلم الرسول صلى الله عليه وسلم، وأنهم اكتسبوا بذلك خبرة قتالية فائقة.

كما نستخلص أنهم اكتسبوا خبرة حربية في مواجهة التنظيمات الحربية والنظريات القتالية المختلفة، فهم قد حاربوا المشركين من العرب الذي كانوا يقاتلون بأسلوب الكر والفر، وحاربوا اليهود الذين كانوا يحاربون "من وراء جدر" ومن داخل حصونهم وقراهم المحصنة.

فإذا ما أضفنا إلى ذلك المعارك التي دارت في مواجهة الروم في عصر النبوة "مؤتة وتبوك" يكون جيش الإسلام قد اكتسب الخبرة القتالية في مواجهة الجيوش المنظمة، بالإضافة إلى خبرته في قتال الجيوش غير المنظمة (قريش والقبائل العربية الأخرى).

وبعد، فإنه يبقى لنا من هذا التحليل درس عظيم، وهو أن نمط "القائد المعلم" هو النمط الذي يدعو إليه الإسلام والذي لا يرتضي عنه القائد المسلم بديلاً، وأن القائد في الإسلام "صاحب مدرسة ورسالة" يدرك تماماً أن قيامه بإعداد أجيال من القادة من أسمى واجباته لها، ولنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم الأسوة الحسنة، قال تعالى: )لقد كانَ لكم في رسولِ الله أسوة حسنة( صدق الله العظيم.


--------------------------------------------------------------------------------

مجلة الأمة، العدد 6، جمادى الأولى 1401 هـ

رد مع اقتباس
  #4  
قديم 15-04-2005, 10:26 PM
د.فالح العمره د.فالح العمره غير متصل
 
تاريخ التسجيل: Feb 2005
الدولة: في قلوب المحبين
المشاركات: 7,593
معدل تقييم المستوى: 27
د.فالح العمره is on a distinguished road

فتح مكة وعبرته لحاضر المسلمين ومستقبلهم

اللواء الركن محمود شيث خطاب


--------------------------------------------------------------------------------

الموقف العام
1. المسلمون:

كانت هناك هدنة الحديبية خيراً على المسلمين، فقد قضوا خلالها على يهود في المدينة المنورة وخارجها عسكريا، فلم يعد لهم أي خطر عسكري يهدد المسلمين. كما أتاحت للمسلمين السيطرة على القبائل العربية في شمالي المدينة حتى حدود الشام والعراق، وانتشر الإسلام بين القبائل العربية كلها، فأصبح المسلمون القوة الضاربة الأولى في شبه الجزيرة العربية كلها.

ولم يبق أمام المسلمين غير فتح مكة، تلك المدينة المقدسة التي انتشر الإسلام فيها أيضاً، ولم يحل دون فتحها وعودة المستضعفين الذين أخرجوا منها بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله، إليها، غير صلح الحديبية الذي يحرص النبيُّ صلى الله عليه وسلم على الوفاء به.

2. المشركون:

أدى انتشار الإسلام بين قسم كبير من القبائل ومن ضمنها قريش وبقاء القسم الآخر على الشرك إلى تفرق كلمة القبائل واستحالة جمع تلك الكلمة على حرب المسلمين. ولم يبق في قريش زعيم مسيطر يستطيع توجيهها إلى ما يريد حين يريد: المسلمون فيها لا يخضعون إلا لأوامر الإسلام، والمشركون فيها بين متطرف يدعو للحرب مهما تكن نتائجها، ومعتدل يعتبر الحرب كارثة تحيق بقريش.

إعلان الحرب:

أراد بنو بكر حلفاء قريش أن يأخذوا بثاراتهم من بني خزاعة حلفاء المسلمين، وحرضهم على ذلك متطرفو قريش بقيادة عكرمة بن أبي جهل وقسم من سادات قريش، وأمدوهم سراً بالرجال والسلاح. وقامت بكر بالهجوم المباغت على خزاعة فكبدوهم خسائر بالأرواح والأموال، والتجأت خزاعة إلى البيت الحرام فطاردتهم بكر مصممة على القضاء عليهم غير مكترثة بصلح الحديبية، فانتهت الهدنة بين قريش وحلفائها من جهة وبين المسلمين وحلفائهم من جهة أخرى، وكان الذي نقض هذه الهدنة قريش وبكر.

وسارع عمرو بن سالم الخزاعي بالتوجه إلى المدينة حاملاً أنباء نقض صلح الحديبية، فلما وصل إلى المدينة قصد المسجد وقص على النبي صلى الله عليه وسلم ما أصاب خزاعة من بكر وقريش في مكة وخارجها، فأجابه النبي صلى الله عليه وسلم: »نصرتَ يا عمرو بن سالم!«

وخرج بديل بن ورقاء في نفر من خزاعة حتى قدموا المدينة، فأخبروا النبي صلى الله عليه وسلم بما أصابهم فعزم النبي صلى الله عليه وسلم على فتح مكة.

وقدر قادة قريش المعتدلون وعقلاؤهم ماذا يعنيه انتهاء الهدنة بين قريش والمسلمين، فقرروا إيفاد أبي سفيان بن حرب إلى المدينة للتشبث بتثبيت العهد وإطالة مدته.

ولما وصل أبو سفيان »عسفان« في طريقه إلى المدينة لاقى بديل بن ورقة وأصحابه عائدين من المدينة، فخاف أن يكونوا جاؤوا النبيَّ صلى الله عليه وسلم وأخبروه بما حدث بين بكر وخزاعة، مما يزيد مهمته التي جاء من أجلها تعقيداً، إلا أن بديلاً نفى مقابلته للنبي صلى الله عليه وسلم، ولكن أبا سفيان فحص فضلات راحلة بديل فوجد فيه نوى التمر، فعرف أنه كان في المدينة.

ووصل أبو سفيان إلى المدينة، فقصد دار ابنته أم حبيبة رضي الله عنها زوجة النبي صلى الله عليه وسلم، فأراد أن يجلس على الفراش فطوته دونه فقال لها: »يا بنية! أما أدري أرغبتِ بي عن هذا الفراش، أم رغبتِ به عني؟« فقالت: »بل هذا فراش رسول الله، وأنت مشرك نجس.« فقال: »والله لقد أصابكِ بعدي شر.«

واستشفع أبو سفيان بأبي بكر الصديق رضي الله عنه ليكلم النبيَّ صلى الله عليه وسلم فأبى.. واستشفع بعمر بن الخطاب رضي الله عنه، فأغلظ له في الرد وقال: »أأنا أشفع لكم عند رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ واللهِ لو لم أجد إلا الذَّرَّ لجاهدتكم به.«

ودخل أبو سفيان على علي بن أبي طالب كرم الله وجهه وعنده فاطمة رضي الله عنها، فقال علي: »والله يا أبا سفيان لقد عزم رسول الله صلى الله عليه وسلم على أمر ما نستطيع أن نكلمه فيه.«

واستشفع أبو سفيان بفاطمة بنت النبي صلى الله عليه وسلم أن يجير ابنها الحسن بين الناس، فقالت: »ما يجير أحد على رسول الله صلى الله عليه وسلم.«

واستنصح أبو سفيان علياً بعد أن اشتدت عليه الأمور فنصحه أن يعود من حيث أتى، فقفل أبو سفيان عائداً إلى قريش ليخبرهم بما لقي من صدود، ولم يبق هناك شك في إعلان الحرب.

الاستعدادات للحرب:

أمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابَه بإنجاز استعداداتهم للحركة، وبعث من يخبر قبائل المسلمين خارج المدينة بإنجاز استعداداتهم للحركة أيضاً، كما أمر أهله أن يجهزوه، ولكنه لم يخبر أحداً بنياته الحقيقية ولا باتجاهه حركته، بل أخفى هذه النيات حتى عن أقرب المقربين إليه، ثم أرسل سرية أبي قتادة الأنصاري إلى بطن إضم ليزيد من اسدال الستار الكثيف على نياته الحقيقية.

ودخل أبو بكر الصديق رضي الله عنه على ابنته عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، فقال لها: أي بنية! أأمركم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تجهزوه؟ قالت: نعم، فتجهز. فقال: فأين ترينه يريد؟ قالت: والله لا أدري.

ولما اقترب موعد الحركة، صرح النبي صلى الله عليه وسلم بأنه سائر إلى مكة. وبث عيونه ليحول دون وصول أنباء اتجاه حركته إلى قريش، ولكن حاطب بن أبي بلتعة كتب رسالة أعطاها امرأة متوجهة إلى مكة، يخبرهم فيها بنيّات المسلمين، فعلم النبي صلى الله عليه وسلم بهذه الرسالة، وبعث علي بن أبي طالب والزبير بن العوام رضي الله عنهما، فأدركاها وأخذا منها تلك الرسالة التي كانت معها.

ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم حاطباً يسأله: ما حمله على ذلك؟ قال: يا رسول الله بين أظهرهم ولد وأهل، فصانعتهم عليهم. فقال عمر بن الخطاب: دعني فلأضرب عنقه، فإن الرجل قد نافق. ولكن النبي صلى الله عليه وسلم قال: »أمَا إنه قد صدقكم؛ وما يدريك، لعل الله اطلع على من شهد بدراً فقال: اعملوا ما شئتم«. وشفع لحالطب ماضيه الحافل بالجهاد، فعفا عنه النبي صلى الله عليه وسلم، وأمر المسلمين أن يذكروه بأفضل ما فيه.

قوات الجانبين
المسلمون: عشرة آلاف رجل، بقيادة الرسول القائد عليه أفضل الصلاة والسلام.
المشركون: قريش وبنو بكر، كل قبيلة منهما لها قائدها الخاص.
في الطريق إلى مكة المكرمة:

غادر المسلمون المدينة المنورة في رمضان من السنة الثامنة الهجرية قاصدين فتح مكة، وكان جيش المسلمين مؤلفاً من الأنصار والمهاجرين وسليم ومزينة وغطفان وغفار وأسلم.. وطوائف من قيس وأسد وتميم وغيرهم من القبائل الأخرى، في عدد وعُدد لم تعرفه الجزيرة العربية من قبل، وكلما تقدم الجيش من هدفه ازداد عدده بانضمام مسلمي القبائل التي تسكن على جانبي الطريق إليه. ومع كثافة هذا الجيش وقوته وأهميته، فقد بقي سر حركته مكتوماً لا تعرف قريش عنه شيئاً. فبالرغم من اعتقاد قريش أن النبي صلى الله عليه وسلم في حل من مهاجمتهم، ولكنها لم تكن تعرف متى وأين وكيف سيجري الهجوم المتوقع. ولشعور قريش بالخطر المحدق بها، أسرع كثير من رجالها بالخروج إلى المسلمين لإعلان إسلامهم، فصادف بعض هؤلاء، ومنهم العباس بن عبد المطلب عم النبي صلى الله عليه وسلم، جيشَ المسلمين في طريقه إلى مكة المكرمة.

ووصل جيش المسلمين إلى موضع مرّ الظهران على مسافة أربعة فراسخ من مكة، فعسكر المسلمون هناك. وأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يوقد كل مسلم في جيشه ناراً، حتى ترى قريش ضخم الجيش دون أن تعرف هويته فيؤثر ذلك في معنوياتها فتستسلم للمسلمين دون قتال، وبذلك يحقق النبي صلى الله عليه وسلم هدفه السلمي في فتح مكة بدون إراقة دماء.

وأوقد عشرة آلاف مسلم نيرانهم، ورأت قريش تلك النيران تملأ الأفق البعيد، فأسرع أبو سفيان وبديل بن ورقاء وحكيم بن حزام بالخروج باتجاه النيران، ليعرفوا مصدرها ونيات أصحابها، فلما اقتربوا من موضع معسكر المسلمين قال أبو سفيان: هذه والله خزاعة حمشتها [جمعتها] الحربُ. فلم يقتنع أبو سفيان بهذا الجواب، فقال: خزاعة أقل وأذل من أن تكون هذه نيرانها وعسكرها.

وكان العباس عم النبي صلى الله عليه وسلم قد خرج من معسكر المسلمين راكباً بغلة النبي صلى الله عليه وسلم ليخبر قريشاً بالجيش العظيم الذي جاء لقتالها والذي لا قبل لها به، حتى يؤثر في معنوياتها ويضطرها على التسليم دون قتال، فيحقن بذلك دماءها ويؤمن لها صلحاً شريفاً ويخلصها من معركة خاسرة معروفة النتائج سلفاً، فسمع وهو في طريقه محاورة أبي سفيان وبديل بن ورقة، فعرف العباس صوت أبي سفيان، فناداه وأخبره بوصول جيش المسلمين ونصحه بأن يلجأ إلى الرسول صلى الله عليه وسلم حتى ينظر في أمره قبل أن يدخل الجيش فاتحاً صباح غد، فيحيق به وبقومه ما يستحقونه من عقاب.

وأردف العباس أبا سفيان على بغلة النبي صلى الله عليه وسلم وتوجّها نحو معسكر المسلمين، فلما وصلا إلى المعسكر ودخلاه أخذا يمران بنيران الجيش في طريقهما إلى خيمة النبي صلى الله عليه وسلم، فلما مرّا ينار عمر بن الخطاب رضي الله عنه عرف أبا سفيان وأدرك أن العباس يريد أن يجيره، فأسرع عمر إلى خيمة النبي صلى الله عليه وسلم وسأله أن يأمره بضرب عنق أبي سفيان، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم أمر عمه أن يستصحب أبا سفيان إلى خيمته، ثم يحضره إليه صباح غد، فلما كان الصباح وجيء بأبي سفيان إلى النبي صلى الله عليه وسلم أسلمَ ليحقن دمه، فقال العباس: يا رسول الله، إن أبا سفيان رجل يحب هذا الفخر، فاجعل له شيئاً. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: نعم، من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن أغلق عليه بابه فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن.

وأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يستوثق من سير الأمور كما يحب بعيداً عن وقوع الحرب، فأوصى العباس باحتجاز أبي سفيان في مضيق الوادي حتى يستعرض الجيش الزاحف كله، فلا تبقى في نفسه أية فكرة للمقاومة.

قال العباس: خرجتُ بأبي سفيان حتى حبسته بمضيق الوادي حيث أمرني رسول الله، ومرت القبائل على راياتها، كلما مرت قبيلة قال: يا عباس، من هؤلاء؟ فأقول: سليم. فيقول: مالي ولسليم! ثم تمر به القبيلة فيقول: يا عباس، من هؤلاء؟ فأقول: مزينة. فيقول: ومالي ولمزينة! حتى نفدت القبائل، ما تمر به قبيلة إلا سألني عنها، فإذا أخبرته قال: مالي ولنبي فلان! حتى مرّ الرسولُ صلى الله عليه وسلم في كتيبته الخضراء، وفيها المهاجرون والأنصار لا يرى منها إلا الحدق من الحديد، فقال: سبحان الله، يا عباس! من هؤلاء؟ قلت: هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم في المهاجرين والأنصار. قال: ما لأحد بهؤلاء من قبل ولا طاقة! والله يا أبا الفضل، لقد أصبح ملك ابن أخيك الغداة عظيماً. قال العباس: يا أبا سفيان، إنها النبوة. قال: نعم إذن. عند ذلك قال العباس لأبي سفيان: النجاء إلى قومك، فأسرع أبو سفيان إلى مكة.

قبل دخول مكة المكرمة:

دخل أبو سفيان مكة مبهوراً مذعوراً، وهو يحس أن من ورائه إعصاراً إذا انطلق اجتاح قريشاً وقضى عليها. ورأى أهل ملكة قوات المسلمين تقترب منهم، ولم يكونوا حتى ذلك الوقت قد قرروا قراراً حاسماً بشأن القتال ولا اتخذوا تدابير القتال الضرورية، فاجتمعوا إلى ساداتهم ينتظرون الرأي الأخير، فإذا بصوت أبي سفيان ينطلق مجلجلاً جازماً: يا معشر قريش، هذا محمد قد جاءكم فيما لا قبل لكم به، فمن دخل دار أبي سفيان كان آمناً.

وسمعت هند بنت عتبة بن ربيعة زوج أبي سفيان التي كانت تشايع المتطرفين من مشركي قريش ما قاله زوجها، فوثبت إليه وأخذت بشاربه وصاحت: اقتلوا هذا الحميت الدسم الأحمس [أي هذا الزق المنتفخ]، قبّح من طليعة قوم.

ولم يكترث أبو سفيان بسباب امرأته، فعاود تحذيره: ويلكم لا تغرنكم هذه من أنفسكم، فإنه قد جاءكم ما لا قبل لكم به، فمن دخل دار أبي سفيان فهو آمن.

وقالت قريش: قاتلك الله، وما تغني عنا دارك؟ قال: ومن أغلق عليه بابه فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن.

وأصحبت مكة المكرمة تنتظر دخول المسلمين: اختفى الرجال وراء الأبواب الموصدة، واجتمع بعضهم في المسجد الحرام، وبقى المتطرفون مصرون على القتال.

خطة الفتح:

كانت مجمل خطة الفتح تتلخص: الميسرة بقيادة الزبير بن العوام، واجبها دخول مكة من شماليها.

والميمنة بقيادة خالد بن الوليد، واجبها دخول مكة من جنوبها، وقوات الأنصار بقيادة سعد بن عبادة، واجبها دخول مكة من غربيها، وقوات المهاجرين بقيادة أبي عبيدة بن الجراح واجبها دخول مكة من شماليها الغربي من اتجاه جبل هند. ومثابة اجتماع قوات المسلمين بعد إنجاز الفتح في منطقة جبل هند. وكان اجتماع قوات المسلمين بعد إنجاز الفتح في منطقة جبل هند.

وكانت أوامر النبي صلى الله عليه وسلم لقادته تنص: بألا يقاتلوا إلا إذا اضطروا اضطراراً على القتال، لغرض أن يتمّ الفتح سلمياً وبدون قتال.

الفتح:

قبل شروع أرتال المسلمين بدخول مكة المكرمة، سمع قسم من المسلمين سعد بن عبادة يقول: اليوم يوم الملحمة، اليوم تستحل الحرمة.. لذلك رأي النبي صلى الله عليه وسلم حين بلغه ما قال سعد، أن يأخذ الراية ويدفعها إلى ابنه قيس بن سعد، إذ كان قيس أهدأ أعصاباً من أبيه وأكثر سيطرة على نفسه، لكي يحول عليه الصلاة والسلام دون اندفاع سعد لإثارة الحرب وسفك الدماء دون مسوغ.

ودخلت قوات المسلمين مكة فلم تلق مقاومة، إلا جيش خالد بن الوليد، فقد تجمع متطرفو قريش مع بعض حلفائهم من بني بكر في منطقة الخندفة، فلما وصلها رتل خالد أمطروه بوابل من نبالهم، ولكن خالداً لم يلبث أن فرّقهم بعد أن قتل رجلان من رجاله ضلا طريقهما وانفصلا عنه، ولم يلبث صفوان بن أمية وسهيل بن عمرو وعكرمة بن أبي جهل حين رأوا الدائرة تدور عليهم أن تركوا مواضعهم في الخندمة وفروا مع قواتهم، واستسلمت المدينة المقدسة للمسلمين، وفتحت أبوابها لهم، وعاد المستضعفون الذين أخرجوا منها بغير حق إ لى ديارهم وأموالهم.

في مكة المكرمة:

عسكر النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمون في منطقة جبل هند، بعد أن سيطر المسلمون على جميع مداخل مكة، فلما استراح وتجمعت أرتال الجيش، نهض والمهاجرون والأنصار بين يديه وخلفه وحوله، حتى دخل المسجد الحرام، فأقبل إلى الحجر الأسود فاستلمه، ثم طاف بالبيت العتيق وحول البيت، وكان في الكعبة ستون وثلاثمائة صنم، يطعنها بالقوس وهو يقول: )جاء الحق وزهق الباطلُ إن الباطل كان زهوقاً( )جاء الحق وما يُبدِئُ الباطل وما يعيد( ثم دعا عثمان بن طلحة، فأخذ منه مفتاح الكعبة ودخلها، فرأى الصور تملؤها، ومن بينها صورتان لإبراهيم وإسماعيل يستقسمان بالأزلام، فمحا ما في الكعبة من صور، ثم صلى ودار في البيت يكبر، ولما انتهى تطهير البيت من الأصنام والصور، وقف على باب الكعبة، وقريش تنظر ماذا يصنع، فقال: »لا إله إلا الله وحده لا شريك له، صدق وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده. إلا كل مأثرة أو مال فهو تحت قدمي هاتين، إلا سدانة البيت وسقاية الحاج. يا معشر قريش، إن الله قد أذهبَ عنكم نخوة الجاهلية وتعظمها بالآباء: الناس من آدم، وآدم من تراب )يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند اللهِ أتقاكم إن الله عليم خبير(. يا معشر قريش، ما ترون أني فاعل بكم؟« قالوا: خيراً، أخ كريم وابن أخ كريم. قال: »فإني أقول كما قال يوسف لإخوته: )لا تثريب عليكم اليوم(، اذهبوا فأنتم الطلقاء.«

طهر المسلمون البيت من الأصنام، وأتم النبي صلى الله عليه وسلم بذلك في أول يوم من أيام فتح مكة ما دعا إليه منذ عشرين سنة: أتم تحطيم الأصنام والقضاء على الوثنية في البيت الحرام بمشهد من قريش، ترى أصنامها التي كانت تعبد ويعبد آباؤها، وهي لا تملك لنفسها نفعاً ولا ضراً.

وأقام النبي صلى الله عليه وسلم خمسة عشر يوماً، نظّم خلالها شؤون مكة، وفقّه أهلها في الدين، وأرسل بعض السرايا للدعوة إلى الإسلام وتحطيم الأصنام، من غير سفك للدماء.

عبرة الفتح:

1. الكتمان:

ما أحوج المسلمين اليوم أن يتعلموا الكتمان من هذه الغزوة، فأمورهم كلها مكشوفة، بل مكشفة، وأعداؤهم يعرفون عنهم كل شيء، لا تكاد تخفى عليهم، فلا سر لدى المسلمين يبقى مكتوماً.

لقد حرص النبي صلى الله عليه وسلم أشد الحرص علىألا يكشف نياته لفتح مكة لأي إنسان، عندما اعتزم الحركة إلى مكة وكان سبيله إلى ذلك الكتمان الشديد.

لم يبح بنياته لأقرب أصحابه عن نفسه: أبي بكر الصديق، بل لم يبح بنياته لأحب النساء إليه عائشة بنت أبي بكر الصديق، وبقيت نياته مكتومة حتى أنجز هو وأصحابه جميع استعدادات الحركة، وحتى وصل أمر الاستحضار إلى المسلمين كافة خارج المدينة وداخلها، ولكنه كشف نياته في الحركة إلى مكة قبيل موعد خروجه من المدينة، حيث لم يبق هناك مسوغ للكتمان، لأن الحركة أصبحت وشيكة الوقوع.

ومع ذلك، بث عيونه وأرصاده، لتحول دون تسرب المعلومات عن حركته إلى قريش.

بث عيونه داخل المدينة ليقضي على كل محاولة لتسريب الأخبار من أهلها إلى قريش، وقد رأيتَ كيف اطلع على إرسال حاطب بن أبي بلتعة برسالته إلى مكة، فاستطاع حجز تلك الرسالة.

وبث عيونه وأرصاده داخل المدينة وخارجها ليحرم قريشاً من الحصول على المعلومات عن نيات المسلمين، وليحرم المنافقين والموالين لقريش من إرسال المعلومات إليها.

وبقي النبي صلى الله عليه وسلم يقظاً كل اليقظة، حذراً كل الحذر، حتى وصل إلى ضواحي مكة، ونجح بترتيباته في حرمان قريش من معرفة نيات المسلمين أعظم نجاح.

ولكي يلقي النبي صلى الله عليه وسلم ظلاً كثيفاً من الكتمان على نياته، بعث سرية أبي قتادة الأنصاري إلى بطن إضم، شمالي المدينة المنورة، بينما كان يستعد لفتح مكة في جنوب المدينة المنورة، فسارت أخبار المسلمين بأنهم يتجهون شمالاً لكتمان اتجاههم نحو الجنوب.

ولو انكشفت نيات المسلمين لقريش في وقت مبكر، لاستطاعت حشد حلفائها وتنظيم قواتها وإعداد خطة مناسبة لمقابلة المسلمين، ولاستطاعت مقاومة المسلمين أطول مدة ممكنة دفاعاً عن مكة المكرمة ولأوقعت بهم خسائر في الأرواح والأموال، وكانت قريش قد استطاعت حشد عشرة آلاف مقاتل في غزوة الأحزاب كما هو معروف، وباستطاعتها أن تحشد مثل هذا الحشد وأكثر دفاعاً عن مكة.

وليس من السهل أن يتحرك جيش ضخم تعداده عشرة آلاف مقاتل من المدينة إلى مكة بالمراحل دون أن تعرف قريش وقت حركته وموعد وصوله ونياته، حتى يصل ذلك الجيش اللجب إلى ضواحي مكة القريبة، فيفلت الأمر من قريش، ولا تعرف ما تصنع إلا اللجوء إلى الاستسلام دون مقاومة.

إن تدابير النبي صلى الله عليه وسلم في الكتمان أمّنت له مباغتة كاملة لقريش، وأجبرتها على الرضوخ للأمر الواقع: الاستسلام.

وهذا الكتمان لا مثيل له في سائر الحروب، ما أحرانا أن نتعلمه ونقتدي به ونسير على منواله.

2. بعد النظر:
القائد المتميز هو الذي يتسم ببعد النظر، بالإضافة إلى مزاياه الأخرى، ويتخذ لكل أمر محتمل الوقوع التدابير الضرورية لمعالجته، دون أن يترك مصائر قواته للاحتمالات بدون إعداد كامل.

إن النصر من عند الله، يؤتيه من يشاء، ولكن الله سبحانه وتعالى ينصر من أعدّ عدّته واحتاط لكل احتمال كبير أو صغير قد يصادفه، لذلك يشدد العسكريون على إدخال أسوأ الاحتمالات في حسابهم في أية عملية عسكرية.

لقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يحبس أبو سفيان في مدخل الجبل إلى مكة، حتى تمر عليه جنود المسلمين، فيحدث قومه عن بينة ويقين،ولكي لا يتكون إسراعه في العودة إلى قريش قبل أن تنهار معنوياته تماماً، سبباً لاحتمال وقوع أية مقاومة من قريش، مهما تكن نوعها ودرجة خطورتها. وفعلاً اقتنع أبو سفيان بعد أن رأى قوات المسلمين كلها، أن قريشاً لا قبل لها بالمقاومة.

وقد أدخل النبي صلى الله عليه وسلم في حساباته أسوأ الاحتمالات أيضاً، عند تنظيمه خطة الفتح، فكانت تلك الخطة تؤمن تطويق البلد من جهاته الأربع بقوات مكتفية بذاتها، بإمكانها العمل مستقلة عن القوات الأخرى عند الحاجة، وبذلك تستطيع القضاء على أية مقاومة في أية جهة من جهات مكة، كما تؤمن توزيع قوات قريش إلى أقسام لمقاومة كل رتل من أرتال المسلمين على انفراد، فتكون قوات قريش ضعيفة في كل مكان.

واتخذ النبي صلى الله عليه وسلم هذه التدابير الفاعلة بالرغم من اعتقاده بأن احتمال مقاومة قريش للمسلمين ضعيف جداً، وذلك ليحول دون مباغتة قواته وإيقاع الخسائر لها، مهما تكن الظروف والأحوال.

فما أحرى أن يتعلم المسلمون هذا الدرس ويطبقوه في إعداد خططهم المصيرية!

3. العقيدة:
كان جيش الفتح مؤلفاً من المهاجرين والأنصار ومسلمي أكثر القبائل العربية المعروفة في حينه، لا يوحد بينه غير العقيدة الواحدة، التي يضحي الجميع من أجلها، وتشيع بينهم الانسجام الفكري الذي يجعل التعاون الوثيق بيهم سائداً.

لقد كانت انتصارات المسلمين الأولين انتصارات عقيدة بلا مراء، وكان النصر من أول ثمرات هذه العقيدة على النطاق الجماعي.

أما على النطاق الفردي، فقد رأيت كيف طوت أم حبيبة زوج النبي صلى الله عليه وسلم فراش النبي صلى الله عليه وسلم عن أبيها أبي سفيان، وقد جاء من سفر قاصد بعد غياب طويل ذلك لأنها رغبت به عن مشرك نجس، ولو كان هذا المشرك أباها الحبيب.

وعندما جاء أبو سفيان مع العباس ليواجه النبي صلى الله عليه وسلم، رآه عمر بن الخطاب، فغادر خيمته واشتد نحو خيمة النبي صلى الله عليه وسلم، فلما وصل إليها قال: يا رسول الله! دعني اضرب عنقه. قال العباس: يا رسول الله! إني قد أجرته، فلما أكثر عمر قال العباس: مهلاً يا عمر، ما تصنع هذا إلا لأنه من بني عبد مناف، ولو كان من بني عدي ما قلت هذه المقالة، فقال عمر: مهلا يا عباس، فوالله إسلامك يوم أسلمت كان أحب لي من إسلام الخطاب لو أسلم. لقد كان يمثل عقيدة المسلمين الأولين، بينما كان العباس حديث عهد بالإسلام.

وكيف نعلل إقدام المهاجرين على المشاركة في غزوة الفتح، التي لم يكن من المستبعد أن تصطرع فيها قوات المسلمين وقوات قريش؟

إن عقيدة المسلمين لا تخضع للمصالح الشخصية، بل هي رهن المصالح العامة وحدها، وقد انتصر المسلمون بالعقيدة الراسخة، وهي اليوم غائبة عنهم فذلوا وهزموا، فما أحراهم أن يعودوا إلى عقيدتهم ليستعيدوا مكانتهم بين الأمم، ولينتصروا على أعدائهم، فقد غاب عنهم النصر منذ غاب عنهم الإسلام.

4. المعنويات:
لم تكن معنويات المسلمين في وقت من الأوقات أعلى وأقوى مما كانت عليه أيام فتح مكة، البلد المقدس عند المسلمين الذين يتوجهون إليه في صلاتهم كل يوم، ويحجون بيته كل سنة. وكانت أهمية مكة للمهاجرين أكثر من أنها بلد مقدس، فهي بلدهم الذي هاجروا منه فراراً بدينهم وخلفوا فيها أموالهم وذويهم وكل عزيز عليهم.

لذلك لم يتخلف أحد من المسلمين عن هذه الغزوة إلا القليل من ذوي الأعذار القاهرة الصعبة.

أما معنويات قريش، فقد كانت متردية للغاية، فقد أثرت فيهم عمرة القضاء، كما أثر فيهم انتشار الإسلام في كل بيت من بيوت مكة تقريباً، وبذلك فقدت مكة روح المقاومة وروح القتال. ومما زاد في انهيار معنويات قريش، ما اتخذه النبي صلى الله عليه وسلم من إيقاد عشرة آلاف نار في ليلة الفتح، ومرور الجيش كله بأبي سفيان قائد قريش أو أكبر قادتها، ودخول أرتال المسلمين في كل جوانب مكة.

لقد كانت غزوة الفتح معركة معنويات بالدرجة الأولى، ما أحرانا أن نتعلمها لحاضرنا ومستقبلنا.

5. السلم:
حرص النبي صلى الله عليه وسلم من خروجه لفتح مكة على نياته السلمية، ليؤلف بذلك قلوب المشركين، ويجعلها تقبل على الإسلام.

وقد عهد عليه الصلاة والسلام إلى قادته حين أمرهم أن يدخلوا مكة ألا يقاتلوا إلا من قاتلهم. وبقي النبي صلى الله عليه وسلم مصراً على نياته السلمية بعد الفتح أيضاً، فقد أصدر العفو العام عن قريش قائلاً: »اذهبوا فأنتم الطلقاء«.

وكما حرص النبي صلى الله عليه وسلم الجماعي، حرص كذلك على السلم الفردي، فمنع القتل حتى لفرد واحد من المشركين، مهما تكن الأسباب والأعذار.

فقد قتلت خزاعة حلفاء المسلمين رجلاً من هذيل غداة يوم الفتح لثأر سابق لها عنده، فغضب النبي صلى الله عليه وسلم أشد الغضب، وقام في الناس خطيباً، ومما قاله: »يا معشر خزاعة، ارفعوا أيديكم عن القتل فقد كثر إن نفع، لقد قتلتم قتيلاً لأدينه، فمن قتل بعد مقامي هذا فأهله بخير النظرين، إن شاؤوا قدم قاتله، وإن شاؤوا فعقله«، أي ديته، ثم ودي بعد ذلك الرجل الذي قتلت خزاعة.

بل إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقتل رجلاً من المشركين أراد اغتياله شخصياً وهو يطوف في البيت، بل تلطف معه. فقد اقترب فضالة بن عمير يريد أن يجد له فرصة ليقتله، فنظر إليه النبي صلى الله عليه وسلم نظرة عرف بها طويته، فاستدعاه وسأله: »ماذا كنت تحدث به نفسك؟« قال: لا شيء، كنتُ أذكر الله! فضحك النبي صلى الله عليه وسلم وتلطف معه ووضع يده على صدره، فانصرف الرجل وهو يقول: ما رفع يده عن صدري حتى ما من خلق الله شيء أحب إلي منه.

ورأى علي بن أبي طالب رضي الله عنه مفتاح الكعبة بيد النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، اجمع لنا الحجابة مع السقاية، فقال عليه الصلاة والسلام: »أين عثمان بن طلحة؟« فلما جاء عثمان قال له: »يا ابن طلحة، هاكَ مفتاحك، اليوم يوم بر ووفاء«.

وقد رأى المسلمون النبي صلى الله عليه وسلم يوم الفتح يتواضع لله، حتى رأوه يوم ذلك ورأسه قد انحنى على رحله، وبدا عليه التواضع الجم، حتى كادت لحيته تمس واسطة راحلته خشوعاً، وترقرقت في عينيه الدموع تواضعاً لله وشكراً.

تلك هي سمات الخلُق الإسلامي الرفيع في السلم والوفاء والتواضع، ولكنه سلم الأقوياء لا سلم الضعفاء، ووفاء القادرين لا وفاء العاجزين، وتواضع العزة لا تواضع الذلة.

إن سلم الأقوياء القادرين هو السلام الذي يأمر به الإسلام، أما سلم الضعفاء العاجزين فهو الاستسلام الذي ينهى عنه الإسلام.

ذلك ما ينبغي أن نتعلمه من فتح مكة، لحاضر المسلمين ومستقبلهم، لحاضر أفضل ومستقبل أحس، وهي عبر لمن يعتبر.
مجلة الأمة - العدد 12 - عام 1401 هـ

رد مع اقتباس
  #5  
قديم 15-04-2005, 10:41 PM
د.فالح العمره د.فالح العمره غير متصل
 
تاريخ التسجيل: Feb 2005
الدولة: في قلوب المحبين
المشاركات: 7,593
معدل تقييم المستوى: 27
د.فالح العمره is on a distinguished road

أمجاد الأسطول الإسلامي
في معركة ذات الصواري

اللواء الركن

محمد جمال الدين محفوظ


--------------------------------------------------------------------------------

بيزنطة والبحر الأبيض المتوسط
كان للدولة البيزنطية في العصور الوسطى السيطرة والسيادة على البحر الأبيض المتوسط بلا منافس، فعلى شواطئه الشمالية امتدت أملاكها إلى شبه جزيرة البلقان والجزر الملحقة بها وآسيا الصغرى، ومن الشرق كان تتبعها سورية وفلسطين، ومن الجنوب مصر وشمالي إفريقية، كذلك امتد سلطانها السياسي إلى وسط وجنوبي إيطاليا، وبعض بلاد محددة ولفترة قصيرة على الساحل الجنوبي لإسبانيا القوطية.

وكان لبيزنطة أسطول دائم ومهيب، وعدة قواعد بحرية، ودور للصناعة (صناعة السفن) في القسطنطينية وعكا والإسكندرية وقرطاجة، وسرقوسة بصقلية ورافنا بإيطاليا وغيرها، فقد بلغت عنايتها بالسلاح البحري أقصاها منذ عهد «جستنيان» (يوستانيوس) في منتصف القرن السادس الميلادي، وعهد هرقل قبل منتصف القرن السابع ومن جاء بعده من الأباطرة.

وإلى جانب الأسطول البحري، كان لبيزنطة عدد من السفن التجارية تستخدم في عمليات نقل الجند والإمدادات، وكان تتحكم في منافذ البحر الأبيض: القسطنطينية ومصر وسبتة، مما استحال معه دخول أية تجارة خارجية إلى هذا البحر دون موافقتها، وشملت تجارتها العالم كله آنذاك.

الأسطول الإسلامي
ولم يكن للمسلمين عهد بركوب البحر أو الحرب في أساطيله، لكنهم وجدوا - خلال فتوح الشام – أن الأسطول البيزنطي مصدر تهديد خطير ومباشر لأمنهم وأمن المناطق المفتوحة واستقرار الإسلام فيها، فأدركوا أن بناء أسطول إسلامي ضرورة «استراتيجية» حيوية، فكان نواة هذا الأسطول من السفن التي وجدوها في موانئ االشام ومصر، ثم انطلقوا إلى صناعة السفن في دور الصناعة، وهكذا دخل السلاح البحري في «الاستراتيجية» العسكرية الإسلامية لأول مرة في تاريخ المسلمين،[1] وبدأ هذا السلاح الناشئ بسرعة مذهلة في ممارسة العمليات البحرية.

وكان من الطبيعي ألا تقف بيزنطة مكتوفة الأيدي أمام تلك القوة البحرية التي قامت في البحر الأبيض المتوسط، وأصبح تحت يدها أغلى ما كانت تملك من دور للصناعة وقواعد بحرية في عكا والإسكندرية، مما يشكل تهديداً خطيراً لسيادتها التي امتدت زمناً بلا منافس.

واتخذت العمليات البحرية للأسطول الإسلامي شكلين: الأول، عمليات تستهدف غزو جزر البحر الأبيض ذات الأهمية «الاستراتيجية» في تأمين الشام ومصر؛ والثاني، عمليات القتال البحري ضد أسطول بيزنطة مثل معركة ذات الصواري موضوع هذا البحث.

أسباب المعركة
تقدم المصادر والمراجع العربية والأجنبية أسباباً مختلفة لمعركة ذات الصواري البحرية، نذكر أهمها فيما يلي:

إجهاض قوة البحرية الإسلامية النامية. يقول أرشيبالد. د. لويس بعد أن تحدث عن غزو الأسطول الإسلامي لقبرص: "ويظهر أن الغارات التي انتهت باحتلال الجزيرة أثارت حماسة الدولة البيزنظية نحو البحر، ودفعتها للقيام بعمليات بحرية جديدة، وكان هذه العمليات قد توقفت منذ فشلها في معركة الإسكندرية عام 645 م – 25 هـ. أعدّ قنسطانز الثاني خليفة هرقل أسطولاً كبيراً تراوح عدده من 700 إلى 1000 سفينة شراعية، والتقى هذا الأسطول في السنة ذاتها بأسطول صغير مشترك بين العرب والمصريين مكون من 200 سفينة أقلعت من شواطئ سورية قرب موضع يقال له فونيكس Phoenicus بآسيا الصغرى، وتعرف هذه الواقعة بواقعة ذات الصوراي." [2]
ويقول إرنست وتريفور ديبوي: "لقد بدأ العرب بشدة في تحدي سيادة بيزنطة البحرية، وهزموا أساطيل الإمبراطور قنسطانز الثاني واستولوا على بعض الجزر شرقي البحر الأبيض المتوسط." وفي موضع آخر يقول: "وفي البحر استولى المسلمون على رودس 654 م، وهزموا أسطولاً بيزنطياً يقوده قنسطانز بنفسه في معركهة بحرية عظمى خارج ساحل ليكيا (655 م)."

ويقول الدكتور عبد المنعم ماجد: "ويظهر أن النشاط المتزايد من قبل العرب أخاف بيزنطة بحيث إن الإمبراطور قنسطانز الثاني (642-668 م) جمع عدداً من المراكب لم يجمعها من قبل تزيد على ألف مركب، وسار بها بقصد ملاقاة أسطول العرب، أو بقصد احتلال الإسكندرية العظمى كبرى موانئ البحر الأبيض، فخرجت إليه أساطيل العرب في أعداد كبيرة بقيادة عامل مصر عبد الله بن سعد بن أبي سرح." [3]

انتقام البيزنطيين لما أصابهم على أيدي المسلمين في إفريقية واسترداد مصر. وذلك ما يراه الطبري حيث يقول: "وخرج عامئذٍ قسطنطين بن هرقل لما أصاب المسلمون منهم بإفريقية."[4] ويتفق معه في ذلك ابن الأثير فيقول: "وأما سبب هذه الغزوة فإن المسلمين لما أصابوا من أهل إفريقية وقتلوهم وسبوهم، خرج قسطنطين بن هرقل في جمع له لم تجمع الروم مثله مذ كان الإسلام." [5]
وقال عبد الرحمن الرافعي وسعيد عاشور: "وفي سنة 34هـ - 654 م خرج الإمبراطور قنسطانز الثاني على رأس حملة بحرية كبرى في محاولة للاستيلاء على الإسكندرية واسترداد مصر من العرب." [6]

إجهاض تدابير المسلمين لغزو القسطنطينية عاصمة بيزنطة. وذلك هو ما يراه المؤرخ البيزنطي تيوفانس حيث يقول: "في هذا السنة جهز معاوية –رضي الله عنه- الجيش وزوده بأسطول ضخم قاصداً محاصرة القسطنطينية، وأمر بتجميع الأسطول كله في طرابلس فينيقيا. فلما علم بذلك أخوان نصرانيان [7] من أهل المدينة، هاجما السجن وحطما الأبواب وأطلقا سبيل المحجوزين جميعاً، ثم هاجموا رئيس المدينة وقاتلوه ورجاله كلهم وهربوا إلى تخوم الروم، غير أن معاوية لم يغير رأية في حصار القسطنطينية، بل جاء بجيشه –يقصد أسطولي الشام ومصر- إلى قيصرية وكيادوكيا، وعيّن أبولا باروس Abula Barus-يقصد عبد الله بن سعد بن أبي سرح – قائداً للأسطول، فقدم هذا فينيقيا إلى مكان في ليكيا Lycia [8] حيث كان الإمبراطور قنسطانز مقيماً بمعسكره وأسطوله ودخل معه في معركة بحرية."[9]
حرمان المسلمين من الحصول على الأخشاب اللازمة لصناعة السفن. وهذا السبب ذكره أرشيبالد لويس كسبب محتمل لمعركة ذات الصواري، حيث قال: "ومما يلفت النظر أن المكان الذي دارت فيه المعركة، وهو ساحل الأناضول، يزدحم بغابات السرو الكثيفة، وهو الشجر المستخدم في صواري السفن، ولعل البيزنطيين قرروا القيام بتلك المعركة ليحولوا بين الخشب اللازم لصناعة السفن هناك، وبين وقوعه في قبضة العرب، وإذا صح هذا الزعم فإنه يقوم دليلاً على أهمية الخشب في الصراع البحري بين العرب وبيزنطة."[10]
أحداث المعركة
والواقع أن الأسباب التي ذكرناها كما وردت في المصادر والمراجع التاريخية أسباب مقبولة، لأنها جميعاً تعبر عن الدوافع المنطقية التي لا بد وأن تنشأ في عقول البيزنطيين الذين رأوا أغلى ممتلكاتهم تسقط في أيدي المسلمين في الشام ومصر وإفريقية، وأدركوا خطر الأسطول الإسلامي الناشئ الذي يهدد سيادتهم البحرية في البحر المتوسط الذي أطلق على بحر الروم دليلاً على تلك السيادة.

وأيا كانت الأسباب التي ذكرت، فقد التقى الأسطول الإسلامي بقيادة عبد الله بن سعد بن أبي سرح والي مصر، وكان يتألف من مائتي سفينة، بالأسطول البيزنطي بقيادة الإمبراطور قسطنطين الثاني خارج ساحل ليكيا في آسيا الصغرى (انظر الخريطة) ويمكن وصف أحداث المعركة باختصار على النحو التالي:

[1] نزلت نصف قوة المسلمين إلى البر بقيادة بُسر بن أبي أرطأة للقيام بواجبات الاستطلاع وقتال البيزنطيين المرابطين على البر، وذلك تطبيقاً لواجبات أمير البحر عندما تكون المعركة البحرية قرب البر والسوائل والجزائر، فعليه "ألاَّ يهجم على المراسي لئلا تكون مراكب العدو بها كامنة، ولا يتقدم إلى البر إلا بعد المعرفة والاحتراز من الأحجار والعشاب والأحارش التي تنكسر عليها المراكب، وإن كان القتال قرب البر والسواحل والجزائر فيجعل عيونه وطلائعه على الجبال فيتأهب لذلك.." [11]

[2] بدأ القتال بين الأسطولين – عندما أصبحت المسافة بينهما في مرمى السهام – بالتراشق بالسهام.

[3] وبعد أن نفدت السهام جرى التراشق بالحجارة، ومن أجل ذلك كانوا "يجعلون في أعلى الصواري صناديق مفتوحة من أعلاها يسمونها التوابيت يصعد إليها الرجال قبل استقبال العدو فيقيمون فيها للكشف ومعهم حجارة صغيرة في مخلاة معلقة بجانب الصندوق يرمون العدو بالأحجار وهم مستورون بالصناديق." [12]

[4] وبعد أن نفدت الحجارة ربط المسلمون سفنهم بسفن البيزنطيين وبدأ القتال المتلاحم بالسيوف والخناجر فوق سفن الطرفين.

[5] انتهت المعركة بعد قتال شديد بانتصار المسلمين بإذن الله. ونذكر فيما يلي روايات المؤرخين عن أحداث المعركة.

رواية ابن عبد الحكم
وهي توضح مراحل المعركة، وكيف نجا عبد الله بن سعد قائد الأسطول من الأسر الذي كاد يقع فيه، فيقول: "إن عبد الله بن سعد لما نزل ذات الصواري، أنزل نصف الناس مع بسر بن أبي أرطأة سرية في البر، فلما مضوا أتى آتٍ إلى عبد الله بن سعد فقال: ما كنت فاعلاً حين ينزل بك هرقل - يقصد قسطنطين- في ألف مركب فافعله الساعة." أي: أنه يخبره بحشد قسطنطين لأسطوله لملاقاته، وإنما مراكب المسلمين يومئذ مائتا مركب ونيف، فقام عبد الله بن سعد بين ظهراني الناس، فقال: قد بلغني أن هرقل قد أقبل إليكم في ألف مركب، فأشيروا علي، فما كلّمه رجل من المسلمين، فجلس قليلاً لترجع إليهم أفئدتهم، ثم قام الثانية، فكلمهم، فما كلمه أحد، فجلس ثم قام الثالثة فقال: إنه لم يبق شيء فأشيروا علي، فقال رجل من أهل المدينة كان متطوعاً مع عبد الله بن سعد فقال: أيها الأمير إن الله جل ثناؤه يقول: )كم من فئةٍ قليلةٍ غلبتْ فئةً كثيرةً بإذن اللهِ والله مع الصابرين( فقال عبد الله: اركبوا باسم الله، فركبوا، وإنما في كل مركب نصف شحنته، وقد خرج النصف إلى البر مع بُسْر، فلقوهم [أي أسطول البيزنطيين] فاقتتلوا بالنبل والنشاب، فقال: غلبت الروم [أي انتصرت] ثم أتوه، فقال: ما فعلوا؟ قالوا: قد نفد النبل والنشاب، فهم يرتمون بالحجارة وربطوا المراكب بعضها ببعض يقتتلون بالسيوف، قال: غُلِبَتْ. وكانت السفن إذ ذاك تقرن بالسلاسل عند القتال، فقرن مركب عبد الله يومئذ، وهو الأمير، بمركب من مراكب العدو، فكاد مركب العدو يجتر مركب عبد الله إليهم [أي يجذبه نحوهم] فقال علقمة بن يزيد العطيفي، وكان مع عبد الله بن سعد في المركب فضرب السلسلة بسيفه فقطعها."[13]

رواية ابن الأثير
قال: "فخرجوا [أي البيزنطيين] في خمسمائة مركب أو ستمائة، وخرج المسلمون وعلى أهل الشام معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما، وعلى البحر عبد الله بن سعد بن أبي سرح، وكان الريح على المسلمين لما شاهدوا الروم، فأرسى المسلمون والروم، وسكنت الريح، فقال المسلمون: الأمان بيننا وبينكم. فباتوا ليلتهم والمسلمون يقرؤون القرآن ويصلون ويدعون، والروم يضربون بالنواقيس. وقربوا من الغد سفنهم، وقرب المسلمون سفنهم، فربطوا بعضها مع بعض واقتتلوا بالسيوف والخناجر، وقتل من المسلمين بشر كثير، وقتل من الروم ما لا يحصى، وصبروا صبراً لم يصبروه في موطن قط مثله، ثم أنزل الله نصره على المسلمين فانهزم قسطنطينن جريحاً ولم ينجُ من الروم إلا الشريد، وأقام عبد الله بن سعد بذات الصواري بعد الهزيمة أياماً ورجع." [14]

رواية المؤرخ البيزنطي تيوفانس
وهي توضح هزيمة البيزنطيين وفداحة خسائرهم، وكيف فرّ الإمبراطور ناجياً بنفسه: "ضم [أي قسطنطين] صفوف الروم إلى المعركة، وأخذ يتحرّش بالعدو، فنشبت المعركة بين الطرفين، وهزم الروم واصطبغ البحر بدمائهم، فغيّر الإمبراطور ملابسه مع أحد جنوده، وقفز أحد الجنود على مركبه واختطفه وذهب به هنا وهناك ونجا بمعجزة." [15]

لماذا سمّيت بذات الصواري؟
بعض المؤرخين يرجع سبب تسمية المعركة بذات الصواري إلى كثرة عدد صواري السفن التي اشتركت فيها من الجانبين؛ وبعضهم الآخر يذكر أن هذا الاسم نسبة إلى المكان الذي دارت قريباً منه، وهو ما نميل إليه وما يستنتج مما يلي:

1- قول الطبري: "فركب من مركب وحده ما معه إلا القبط حتى بلغوا ذات الصواري، فلقوا جموع الروم في خمسمائة مركب أو ستمائة." وقوله أيضاً: "وأقام عبد الله بذات الصواري أياماً بعد هزيمة القوم."

2- قول ابن الأثير: (وأقام عبد الله بن سعد بذات الصواري بعد الهزيمة أياماً ورجع.)

3- ويضاف إلى ذلك أن المكان الذي دارت المعركة قريباً منه اشتهر بكثرة الأشجار التي تستخدم أخشابها في صناعة صواري السفن، وقد أشار إلى ذلك أرشيبالد لويس بقوله: (ومما يلفت للنظر أن المكان الذي دارت فيه هذه المعركة، وهو ساحل الأناضول، يزدحم بغابات السرو الكثيفة وهو الشجر المستخدم في صواري السفن.)

الآثار الاستراتيجية لذات الصواري
أولاً: تأكيد النظرية الإسلامية في النصر على العدو المتفوق.

لقد كانت المقارنة المجردة بين قوة الأسطول الإسلامي وقوة الأسطول البيزنطي تكشف التفوّق الساحق للبيزنطيين، وتدفع أي خبير في فن الحرب إلى أن يتوقع أن ينهزم المسلمون في تلك المعركة غير المتكافئة بالنظر إلى العوامل الآتية:

1- الأسطول الإسلامي أسطول ناشئ لا يزيد عمره على بضعة سنوات، ورجاله حديثو عهد بركوب البحر فضلاً عن القتال فيه، ولا يتعدى عدد سفنه المائتين إلا قليلاً.

2- والأسطول البيزنطي أسطول عريق مهيب له السيادة على البحر، وله تاريخ طويل في العمليات البحرية، ورجاله على أعلى درجة من الكفاءة فيها، وعدد سفنه يزيد على ثلاثة أضعاف عدد سفن المسلمين.

لكن المسلمين حين قبلوا التحدي، وقاتلوا أسطول بيزنطة المتفوق، وانتصروا عليه، يقدمون للمسلمين في كل عصر التأكيد على أن النظرية الإسلامية في مواجهة العدو المتفوق وقهره – التي وضع عناصرها وطبقها الرسول القائد e في معاركه مع أعدائه المتفوقين – كفيلة بترجيح كفتهم على أعدائهم المتفوقين في موازين القوى.

وفي ذات الصواري برزت عناصر تلك النظرية:

1- الإيمان وقوة العقيدة:

فقد ذكر المسلمون قول الله تعالى: )كم من فئةٍ قليلةٍ غلبتْ فئةً كثيرة بإذن الله واللهُ مع الصابرين(، ورأينا كيف امتلأت نفوسهم بأقوى الدوافع المعنوية، وكيف صبروا يومئذ صبراً لم يصبروا في موطن قط مثله، وكيف قاتلوا أشد القتال كما ورد في المصادر التاريخية التي ذكرناها حتى أنزل الله عليهم نصره. فهذا الدرس يؤكد أن الإيمان وقوة العقيدة من أهم العوامل التي ترجح كفة المسلمين في موازين القوى، مهما كان ثقل أعدائهم في تلك الموازين.

2- الإدارة السليمة والاستثمار الأمثل للقدرات المتاحة:

لقد أدرك المسلمون أنهم أمام عدو متفوق فكانت إدارتهم للمعركة على النحو الذي يجرده من هذا التفوق، وليس من شك في أن جوهر تفوق البيزنطيين هو كفاءتهم العالية في فن القتال البحري وقدرتهم الفائقة في المناورة البحرية.[16] ويكفي للدلالة على ذلك أن المسلمين حين عرضوا - قبل المعركة- على البيزنطيين أن يختاروا بين القتال على البر والقتال في البحر، فإنهم اختاروا البحر بإجماع الأصوات، وهذا ما رواه الطبري على لسان شاهدعيان هو مالك بن أوس بن الحدثان، قال: (كنتُ معهم، فالتقينا في البحر فنظرنا إلى مراكب ما رأينا مثلها قط.. ثم قلنا للبيزنطيين إن أحببتهم فالساحل حتى يموت الأعجل منا ومنكم، وإن شئتم فالبحر، قال: فنخروا نخرة واحدة وقالوا: الماء. فدنونا منهم فربطنا السفن بعضها إلى بعض حتى كنا يضرب بعضنا بعضاً على سفننا وسفنهم..) [17] فالبيزنطيون اختاروا الميدان الذين يجيدون القتال فيه وهو البحر، والذي يعلمون تماماً انه هو الميدان الذي سوف ينتصرون فيه على المسلمين لضعف خبرتهم فيه. لكن المسلمون – رغم ذلك – كانوا يعلمون أن كفاءتهم في القتال على البر تفوق البيزنطيين، فأداروا المعركة البحرية على النحو الذي حولها إلى معركة برية وذلك بربط سفنهم إلى سفن البيزنطيين ومباشرة القتال المتلاحم بالأسلحة البيضاء، واستغلوا مهارتهم في هذا الفن إلى الحدّ الذي جعل الإمبراطور وهو يتابع المعركة يوقن بانتصار المسلمين حين علم بذلك – وهو ما ورد في رواية ابن عبد الحكم السابق ذكره – فقال: غُلِبَت الروم.

وقد شهد للمسلمين بذلك بعضُ المؤرخين الأجانب، فيقول أرشيبالد لويس: (ويبدو أن انتصارهم –أي المسلمين- جاء نتيجة لخطط غير عادية، إذ ربطوا سفنهم بعضها إلى بعض بسلاسل ثقيلة، فاستحال على أعدائهم اختراق صفوفهم واستخدموا في تلك المعركة خطاطيف طويلة يصيبون بها صواري وشرع سفن الأعداء، الأمر الذي انتهى بكارثة بالنسبة للبيزنطيين. [18]

3- التعاون والتكامل:

لقد كان الانتصار الإسلامي في مجال البحر ثمرة للتعاون والتكامل وحشد الطاقات بين الشام ومصر؛ ابتداءً من إنشاء الأسطول وصناعة السفن إلى قيام أسطول الشام مع أسطول مصر بالعمليات البحرية المشتركة في هيئة أسطول مشترك، فكانت أغلب العمليات تتم على هذا النحو.

ثانياً: انتهاء عصر السيادة البيزنطية في البحر المتوسط.

إذا كانت موقعة أكتيوم سنة 31 قبل الميلاد جعلت من البحر الأبيض بحيرة رومانية وأصبحت من المعارك الفاصلة في التاريخ، فإن معركة ذات الصواري البحرية قد دخلت التاريخ من أوسع أبوابه، حين سجلت انتصار الأسطول الإسلامي الناشئ على أسطول بيزنطة ذي التاريخ البحري الطويل. وليس هذا فحسب، بل كان من أهم نتائجها الاستراتيجية انتهاء عصر السيادة البيزنطية في البحر الأبيض المتوسط، وبروز المسلمين قوة مؤثرة ذات ثقل عسكري وسياسي واقتصادي في عالم هذا البحر.



مجلة الأمة – العدد 71/سنة 1406 هـ


--------------------------------------------------------------------------------

[1] انظر مقالنا (السلاح البحري في الاستراتيجية العسكرية الإسلامية) المنشور في العدد(68) من المجلة.

[2] أرشيبالد لويس: (القوى البحرية والتجارية في حوض البحر المتوسط) ترجمة: أحمد محمد عيسى؛ ص 91

[3] عبد المنعم ماجد: (التاريخ السياسي للدولة العربية) ص244-245

[4] الطبري: (تاريخ الأمم والملوك) ج4، ص290

[5] ابن الأثير: (الكامل في التاريخ) ج3، ص58

[6] عبد الرحمن الرافعي وسيد عبد الفتاح وسعيد عاشور: (مصر في العصور الوسطى من الفتح العربي حتى الغزو العثماني) ص 71

[7] يعتقد أنهما من عملاء بيزنطة، وأنهما أبلغا الإمبراطور بنوايا معاوية رضي الله عنه.

[8] (ليكيا) موضع على الساحل بآسيا الصغرى.

[9] ثيوفانس: (كرونوجرافيا) عمود 703 لاتيني، في حوادث سنة 646 م.

[10] أ رشيبالد لويس: (القوى البحرية والتجارية في حوض البحر المتوسط) ترجمة: أحمد محمد عيسى؛ ص 92

[11] عبد الفتاح عبادة: (سفن الأسطول الإسلامي) ص: 15

[12] المرجع السابق: ص 8

[13] ابن عبد الحكم: (فتوح مصر وأخبارها) ص: 129-130

[14] ابن الأثير: (الكامل في التاريخ) ج 3، ص 58

[15] ثيوفانس: (كرونوجرافيا) عمود 706 لاتيني.

[16] يطلق لفظ المناورة على عملية تحريك القوات والوسائل من موضع إلى آخر وفي مختلف الاتجاهات، بقصد تهيئة ظروف أفضل لصالح المعركة، والمناورة الناجحة بالقوات والوسائل تدل على براعة القائد في إدارة المعركة.

[17] الطبري (تاريخ الأمم والملوك) ج 4، ص290-291

[18] أرشيبالد لويس (القوى البحرية في حوض البحر المتوسط) ص 92

رد مع اقتباس
  #6  
قديم 15-04-2005, 10:43 PM
د.فالح العمره د.فالح العمره غير متصل
 
تاريخ التسجيل: Feb 2005
الدولة: في قلوب المحبين
المشاركات: 7,593
معدل تقييم المستوى: 27
د.فالح العمره is on a distinguished road

فتح كاشغر

بقلم: محمود شيث خطاب


--------------------------------------------------------------------------------

»لا يزال أهل تركستان الشرقية (سينكيانج) مسلمين حتى اليوم، ولكن القابض منهم على دينه كالقابض على الجمر«.

المدينة والسكان..

كاشغر: مدينة من أشهر مدن تركستان الشرقية وأهمها، وكانت عاصمة تركستان الشرقية، ولها مركز عظيم في التجارة مع روسيا من جهة والصين من جهة ثانية وبلاد ما وراء النهر[1] من جهة ثالثة، وتشتهر بمنسوجاتها الصوفية الجميلة.

وكانت كاشغر تعتبر قديماً من بلاد ما وراء النهر، وهي تضم قرى ومزراع كثيرة، يسافر إليها من سمرقند وإقليم الصغد، وهي في وسط بلاد الترك، وأهلها مسلمون.

وينسب إلى كاشغر علماء كثيرون، منهم أبو المعالي طفرل شاه محمد بن الحسن بن هاشم الكاشغري الواعظ، وكان عالماً فاضلاً، سمع الحديث الكثير، وطلب الأدب والتفسير، ومولده سنة 490 هـ، وتجاوز سنة 550 هـ في عمره.

ومنهم أبو عبد الله الحسين بن علي خلف بن جبرائيل بن الخليل بن صالح بن محمد الألمعي الكاشغري، كان شيخاً فاضلاً واعظاً، وله تصانيف كثيرة بلغت في الحديث وحده ما تصانيف كثيرة بلغت في الحديث وحده مائة وعشرين مصنفاً وأكثر، وتوفي ببغداد سنة 484 هـ.

وهكذا كان المسلمون في أيام عزهم، ينتقلون لطلب العلم والرزق من كاشغر شرقاً إلى الأندلس غرباً، إلى سيبيريا شمالاً، إلى المحيط جنوباً، بدون جوازات سفر ولا سمات دخول وبغير حدود ولا سدود، وقد أصبحت دولة الإسلام اليوم، دولة الإسلام الواحدة، سبعاً وثمانين دولة ما بين ملكية وجمهورية وإمارة ومشيخة ومستعمرة، يحتاج الذي يريد زيارتها –إن استطاع وسمح له- إلى عشرات سمات الدخول ومئات العراقيل وآلاف العقبات، وأصبح المسلم في دار الإسلام غريباً.

وتركستان الشرقية التي تقع فيها مدينة كاشغر، يحدها من الجنوب: الباكستان والهند (كشمير) والتبت، ومن الجنوب الغربي والغرب: أفغانستان وتركستان الغربية، ومن الشمال: سيبيريا، ومن الشرق والجنوب الشرقي: الصين ومنغوليا.

وقد اجتاحت تركستان الشرقية القوات الصينية الشيوعية سنة 1949م واحتلتها، فأطلق عليها الصينيون اسم (سينكيانج) وهي كلمة صينية تعني: المستعمرة الجديدة، وتبعهم بهذه التسمية الأوروبيون وبعض المصادر العربية الحدينة، إلا أن أهل تركستان الشرقية المسلمون يحبون أن تسمى بلادهم باسمها القديم: تركستان الشرقية، ولا يحبون تسميتها بالاسم الصيني الجديد.

وقد لعبت تركستان الشرقية دوراً تاريخياً مهماً في التجارة العالمية. وكان طريق الحرير المشهور يمر بها، وهو الطريق الذي كان يربط بين الصين، أبعد بلاد العالم القديم، والدولة البيزنطية.

وبدأ الإسلام يدخل تركستان الشرقية على عهد عبد الملك بن مروان سنة ست وثمانين الهجرية (705م)، ولكن البلاد أصبحت إسلامية حكومة وشعباً سنة ثلاث وخمسين وثلاثمائة الهجرية (964م) بدخول السطان ستوق بغراخان الإسلام، فشمل الإسلام البلاد كافة.

ولا يزال أهل تركستان الشرقية مسلمين حتى اليوم، ولكن القابض على دينه كالقابض على الجمر.

التمهيد للفتح..

قطع قتيبة بن مسلم الباهلي النهر –نهر جيحون- في سنة أربع وتسعين للهجرة (712م) متوجهاً إلى فرغانة. وفرغانة اسم مدينة واسم إقليم. وإقليم فرغانة من أقاليم نهر سيحون في بلاد ما وراء النهر، متاخمة لتركستان، وليس فما وراء النهر أكثر قرى من فرغانة، وربما بلغ حد القرية مرحلة لكثرة أهلها وانتشار مواشيهم وزروعهم.

أما فرغانة المدينة فكثيرة الخيرات، كثيرة القرى والحقول والمزارع، بينها وبين سمرقند خمسون فرسخاً.

واصطدمت قوات قتيبة بقوات أهل فرغانة في مدينة خجندة إحدى مدن إقليم فرغانة، فقاوم أهل فرغانة ومن معهم من الترك القادمين مدداً لهم من مدينة كاشغر المجاورة، وكانت مقاومتهم شديدة اضطر قتيبة على الاشتباك بهم مراراً، وفي كل مرة يكون الظفر فيها للمسلمين. وأخيراً انتهت مقاومة أهل فرغانة وحلفائهم الباسلة، ففتح المسلمون الإقليم كافة.

وكان سبب حشد أهل فرغانة قواتهم الضاربة في خجندة، هو لأنها أول مدن إقليم فرغانة من الغرب، وهي على حدود إقليم الصغد الشرقية التي فتحها المسلمون من قبل، فهي الخط الدفاعي الأول عن إقليم فرغانة.

وخُجندة، بلدة مشهورة بما وراء النهر، تقع على شاطئ سيحون، بينها وبين سمرقند عشرة أيام شرقاً، وهي مدينة نزهة، ليس بذلك الصقع أنزه منها، وفي وسطها نهر جار، ولأهلها سفن يسافرون بها في سيحون، وتقوم على ضفة سيحون اليسرى.

ولعل موقع هذه المدينة القريب من إقليم الصغد الذي فتحه المسلمون قبل اليوم، وتيسر وسائط النقل فيها، وكثرة موادها الغذائية، وأهميتها القصوى لإقليم فرغانة، هي أهم أسباب حشد قوات إقليم فرغانة على أرضها، وقبول المعركة الدفاعية الحاسمة عن إقليم فرغانة في ربوعها.

الفتح
كان الاحتفاظ بإقليم فرغانة بيد المسلمين، يقضي على المسلمين فتح منطقة كاشغر التي تقع شرقي إقليم فرغانة، ويقطنها الترك كما يقطنون إقليم فرغانة. وفي سنة ست وتسعين الهجرية (714م) غزا قتيبة مدينة كاشغر، وهي أدنى مدائن الصين وأقربها إلى فرغانة.

وسار قتيبة من مرو عاصمة خراسان على رأس جيشه، وحمل الناس عيالاتهم لتستقر في سمرقند.

وعبر الجيش الإسلامي نهر جيحون، فاستعمل قتيبة رجلاً على معبر النهر، ليمنع من يرجع من جنده إلا بجواز منه وبموافقته الخطية.

ومضى جيش المسلمين إلى فرغانة، مروراً بسمرقند، حيث أبقى الناس عيالاتهم فيها بحماية المسلمين من أهل سمرقند، وكان الإسلام قد انتشر فيها انتشاراً سريعاً موفقاً.

وفي فرغانة، أكمل قتيبة استعدادات جيشه للقتال، وأرسل إلى (شعب عصام) الفَعَلَة لتمهيده، حتى يجتاز الجيش بسهولة ويسر وسرعة، فأكمل الفعلة مهمتهم، وأخبروا قتيبة بإكمالها.

والفعلة هم سلاح الهندسة، كما نطلق عليه اليوم في المصطلحات العسكرية الحديثة: وهم الذين يمهدون الطرق، ويبنون القناطر والجسور، ويزيلون العقبات الطبيعية، ويؤمّنون وسائط عبور الأنهار، ويشرفون على العبور والمعابر.

ويبدو أن (شِعب عصام) أو وادي عصام، عارض من العوارض الطبيعية الوعرة، يعرقل مسيرة الجيش بقوات كبيرة، ويقع بين فرغانة والحدود الصينية القديمة.

وتقدم قتيبة على رأس جيشه من فرغانة، سالكاً الطريق التجارية التي تربط مدينة فرغانة بمدينة كاشغر، ماراً بجنوب بحيرة (جاتيركول) السوفييتية حالياً، على الحدود الصينية-السوفييتية، مقتحماً ممر (تيترك) في تركستان الشرقية.

وبعث قتيبة مقدمة أما جيشه إلى كاشغر، فتقدمت حتى وصلت إلى هدفها، بعد أن أزاحت المقاومات الطفيفة التي صادفتها في طريقها، وغنمت وسبت.

وأوغل قتيبة حتى قارب حدود الصين القديمة، ففتح كاشغر، وجنغاريا الواقعة على حدود منغوليا، وترفان على مقربة من الحدود المنغولية، وخوتن الواقعة شمالي التبت وكشمير، وقانو التي تقع تماماً في منتصف الصين الحالية.

ولكن المصادر العربية المعتمدة تقتصر على فتح كاشغر في هذه السنة ولا تقدم التفاصيل الإضافية الأخرى عن فتوح المدن الصينية الأخرى.

المفاوضات
بات الاصطدام بين المسلمين من جهة وبين ملك الصين من جهة ثانية وشيكاً، فطلب ملك الصين التفاوض بين الجانبين، وعرض التفاوض على قتيبة، فقد أوغل قتيبة حتى قارب الصين واخترق حدودها الغربية، فكتب إليه ملك الصين: «ابعث إلي رجلاً شريفاً يخبرني عنم وعن دينكم»، فوافق قتيبة على طلب ملك الصين.

واختار قتيبة من بين رجال جيشه اثني عشر رجلاً، لهم جَمال وألسن وبأس وتجمّل وصلاح، وأمر لهم بعُدّة حسنة ومتاع حسن من الخز والوشى وغير ذلك وخيول حسنة، وكان منهم هُبيرة بن المشمرج الكلابي مفوّهاً سليط اللسان، وقال لهم: «إذا دخلتم على ملك الصين، فأعلموه أني حلفتُ أني لا أنصرف حتى أطأ بلادهم، وأختم ملوكهم، وأجبي خراجهم»..

وسار وفدُ قتيبة إلى ملك الصين، عليهم هبيرة بن المشمرخ الكلابي، فلما قدموا الصين، دعاهم ملكها، فلبسوا ثياباً بياضاً تحتها الغلائل، وتطيبوا ولبسوا الأردية، ودخلوا على الملك، وكان عنده عظماء قومه، فأخذوا أماكنهم في مجلسه، فلم يكلم الملك الوفد ولا أحد ممن عنده.

ولما انصرف الوفد من مجلس الملك، قال الملك لمن حضره: «كيف رأيتم هؤلاء؟» قالوا: «رأينا قوماً ما هم إلا نساء».

وبالطبع قال من حول الملك ما يحب الملك أن يسمع، لا ما يجب على الملك أن يسمع، أسوة من حول أصحاب السلطان في كل زمان وكل مكان.

وفي غد دعاهم الملك إلى مجلسه، ولبسوا الوشي وعمائم الخز والمطارف –ألبسة من خزّ مربعة لها أعلام- وغدوا عليه، فلما دخلوا عليه قيل لهم: ارجعوا.

وقال الملك لأصحابه بعد انصراف وفد المسلمين: كيف رأيتم؟ فقالوا: هذه أشبه بهيئة الرجال من تلك.

وفي اليوم الثالث دعاهم الملك إلى مجلسه أيضاً، فشدوا سلاحهم، ولبسوا البيض –الخوذ والمغافر- (جمع مِغفر)، وهو زرد ينسج على قدر الرأس، يلبس تحت القلنسوة.. وأخذوا السيوف والرماح والقسي، وركبوا خيولهم العربية المطهمة الأصيلة.

ونظر إليهم ملك الصين، فرأى أمثال الجبال المقبلة، فلما دنوا من مجلس الملك، ركزوا رماحهم ثم أقبلوا مشمرين.

وقيل لهم قبل أن يدخلوا على الملك: »ارجعوا..« لِما دخل في قلوب الملك ومن معه من رجال الصين وقادتها من خوف ورهبة.

وانصرف الوفد عائداً إلى مستقره، بعد أن أخذوا رماحهم واستعادوا سلاحهم وامتطوا خيولهم، ثم دفعوا الخيل حضراً –عدْو ذو وثب، وهو ركض الخيل بأقصى سرعتها، كالذي يجري في سباق الخيل- كأنهم يتطاردون، فقال الملك لأصحابه: كيف ترونهم؟ فقالوا: ما رأينا مثل هؤلاء!

وفي مساء ذلك اليوم، بعث ملك الصين إليهم، أن ابعثوا إليّ زعيمكم. فبعثوا إليه هبيرة، فقال له الملك: قد رأيتم عظم ملكي، وأنه ليس أحد يمنعكم مني، وأنت في يدي بمنزلة البيضة في كفي، وإني سائلكم عن أمر، فإن لم تصدقوني قتلتكم.

وما كان هبيرة بحاجة إلى التهديد والوعيد، وليس هو من الرجال الذين يخيفهم التهديد والوعيد، فهو لا يكذب أبداً حتى ولو قتل على أن يكذب لا على ألا يكذب، فلا مجال لتهديده بالقتل إذا لم يصدق.

وسأل الملك هبيرة: لماذا صنعوا في الزي الأول ما صنعوا، ثم الزي الثاني، والزي الثالث؟

وكان جواب هبيرة: أما زيّنا الأول، فلباسنا في أهالينا وريحنا عندهم، وأما يومنا الثاني فإذا أتينا أمراءنا، وأما الثالث فزيّنا لعدوّنا.

وقال الملك: ما أحسن ما دبرتم دهركم، فانصرفوا إلى صاحبكم، فقولوا له: ينصرف، فإني قد عرفت حرصه وقلة أصحابه، وإلا بعثتُ عليكم من يهلككم ويهلكه.

وإذا كانت الجبال الراسيات تهتز قيد أنملة من خطرات النسيم العليل، فإن هبيرة قد اهتز يومئذ من وعيد الملك وتهديده، فلا بد له من أن يبلغ هذا الملك رسالة قتيبة بقوة وأمانة وصدق، فقال للملك في ثقة كاملة وهدوء تام: كيف يكون قليل الأصحاب مَن أول خيوله في بلادك، وآخرها في منابت الزيتون! وكيف يكون حريصاً من خلّف الدنيا وغزاك؟

وأما تخويفك بالقتل، فإن لنا آجالاً إذا حضرت فأكرمها القتل، فلسنا نكرهه ولا نخافه.

واستخذى الملك في مجابهة قولة الحق، فنسي تهديده ووعيده، ثم تساءل في قول ليّن رقيق: فما الذي يُرضي صاحبك؟ فأجابه هبيرة بقول فصل لا مساومة فيه: إنه حلف ألا ينصرف حتى يطأ أرضكم، ويختم ملوككم، ويُعطَى الجزية.

واستخذى الملك إلى درجة الانهيار بعد أن سمع كلمة الحق تزهق الباطل، فقال: فإنا نخرجه من يمينه: نبعث إليه بتراب من تراب أرضنا فيطأه، ونبعث أبناءنا فيختمهم، ونبعث له مالاً يرضاه..

ودعا الملك بصحاف من ذهب فيها تراب من أرض الصين، وبعث بحرير وذهب وأربعة غلمان من أبناء ملوكهم، ثم أجاز الوفد فأحسن جوائزهم، فقدموا على قتيبة الذي قبل الجزية، وختم الغلمان، وردّهم إلى الملك، ووطئ تراب الصين.

وقد لجأ الوفد الإسلامي إلى تبديل أزيائهم للتأثير في معنويات ملك الصين ومن معه، مما أدّى إلى انهيار معنويات الصينيين واستجابتهم لمطالب المسلمين.

حقيقة الفتح
المؤرخون العرب يذكرون أن مدينة كاشغر هي أدنى مدائن الصين، ولكن البلدانيين العرب يذكرون أنها من مدن تركستان. وما أخطأ المؤرخون العرب، لأن حدود الصين كانت تمتد غرباً فتضمّ حدودُها تركستان الشرقية بكاملها، أو جزءاً منها في حالة اشتداد قوة ملوك الصين، وتنحسر تلك الحدود نحو الشرق، فتستقل تركستان الشرقية بحدودها الطبيعية، أو تمتد حدود تركستان الشرقية فتضم إليها أجزاء من الصين، في حالة قوة ملوك تركستان وضعف ملوك الصين. وما أخطأ البلدانيون العرب القدامى في ذكرهم أن مدينة كاشغر من مدن تركستان الشرقية، فهي في الواقع كذلك أصلاً، ولكنها تدخل في حدود الصين تارة، وتكون خارج حدودها تارة أخرى.

وقد ظلت تركستان الشرقية خاصة عرضة لهجمات الصينيين حتى أصبحت اليوم من أجزاء الصين كما هو معلوم.

ومن مراجعة تاريخ تركستان الشرقية القديم يتضح لنا أن منطقة كاشغر والمناطق التي حولها التي امتدت الفتوحات الإسلامية إليها، كانت ضمن دولة (كول تورك) التي كانت من سننة 552 م إلى سنة 745 م، ومعنى هذا أن الفتح الإسلامي في تركستان سنة ست وتسعين الهجرية (714 م) كان على عهد تلك الدولة التركية التي كانت في عداء مستمر مع جارتها الشرقية الصين، وكانت على ولاء كامل مع بلاد ما وراء النهر، وخاصة مع إقليم فرغانة، لأن العنصر التركي كان يسيطر على هذا الإقليم، فكان تعاونه مع تركستان الشرقية تعاوناً وثيقاً.

ويذكر لنا تاريخ تركستان الشرقية القديم، أن الاضطرابات شملت تركستان الشرقية سنة إحدى وعشرين ومائة الهجرية (738 م)، فاستغل الصينيون هذه الاضطرابات واعتدوا على تركستان الشرقية وضمّوها إلى بلادهم.

ولكن الأتراك من سكان تركستان الشرقية تمكنوا من الحصول على المعونات العربية الإسلامية سنة أربع وثلاثين ومائة الهجرية (751 م) على عهد الدولة العباسية في بغداد، وتمكنوا بهذا العون من إنقاذ بلادهم من حكم الصين، و هزموا الصينيين في معركة (تالاس) المشهورة.[2]

يتضح من ذلك أن الفتح الإسلامي في كاشغر والمدن الأخرى جرى في تركستان الشرقية لا في الصين، ولكن ملك الصين الذي وجد سرعة تقدم الفتوح الإسلامية ووصولها إلى حدوده الغربية مباشرة في حينه، سعى لإرضاء الفاتحين خوفاً من اختراق بلاده وفتحها، فقدم ما قدم لقتيبة إرضاء له ولمن معه من المجاهدين، وصدّاً لتيارهم الجارف بالتي هي أحسن.

الشهيد..

والسبب الحقيقي لعودة قتيبة وجيشه عن حدود الصين الغربية، كما تذكر المصادر التاريخية المعتمدة، هو وصول خبر وفاة الوليد بن عبد الملك، وتولّي سليمان بن عبد الملك الخلافة بعده، وكان ذلك سنة ست وتسعين الهجرية[3] وكان الوليد مؤيداً لقتيبة وسنداً له أسوة بقادة الحجاج بن يوسف الثقفي كافة، وكان سليمان يكرههم ولا يميل إليهم، لأن الوليد بن عبد الملك أراد أن ينزع أخاه سليمان بن عبد الملك عن ولاية العهد ويجعل بدله عبد العزيز بن الوليد بن عبد الملك ابنه، فبايعه على خلع سليمان الحجاجُ وقتيبة وقادة الحجاج الآخرون.

وعاد قتيبة بمن معه من جيش المسلمين، فقتل في فرغانة سنة ست وتسعين الهجرية، وهي في طريق عودته إلى خراسان، فقال رجل من العجم: ما معشر العرب، قتلتم قتيبة! والله لو كان قتيبة منا فمات لجعلناه في تابوت فكنا نستسقي به ونستفتح إذا غزونا!

وقال أحد رجالات العجم بعد مقتل يزيد بن المهلب بن أبي صفرة: يا معشر العرب، قتلتم قتيبة ويزيد وهما سيدا العرب!

ورثا قتيبة كثير من شعراء العرب، فقال الفرزدق:

أتاني ورحلي بالمدينة وقعة * لآل تميمٍ أقعدتْ كل قائم

وقال عبد الرحمن بن جمانة الباهلي:

كأنّ أبا حفص قتيبة لم يَسْرِ * بجيشٍ إلى جيش ولم يَعْلُ منبرا

ولم تخفق الرايات والقوم حوله * وقوف، ولم يشهد له الناسُ عسكرا

دعته المنايا فاستجاب لربّه * وراح إلى الجنات عِفّاً مطهّرا

فما رزئ الإسلامُ بعدَ محمّد * بمثل أبي حفص، فيبكيه عبْهَرا

وعبهرا: اسم ولد لقتيبة.

وقال جرير في رثاء قتيبة:

ندمتم على قتل الأمير ابن مسلمٍ * وأنتم إذا لاقيتم الله أندَمُ

لقد كنتم في غزوه في غنيمة * وأنتم لمن لقيتم اليومَ مغنَمُ

على أنه أفضى إلى حور ربّه * وتُطبق بالبلوى عليكم جهنمُ

والشعر في رثائه كثير، والثناء عليه أكثر، ولكنه كان أكبر من كل رثاء وثناء، فآثاره باقية، وفتوحه عظيمة، وأعماله لا تبلى.

يكفي أن نذكر أن مساحة فتوحه تبلغ أربعين بالمائة من مساحة الاتحاد السوفييتي[4] وثلاثاً وثلاثين بالمئة من مساحة الصين الشعبية في الوقت الحاضر.وأن سكان المناطق التي فتحها في بلاد ما وراء النهر وتركستان الشرقية ضمن الاتحاد السوفييتي والصين لا يزالون مسلمين حتى اليوم، يتبركون بقراءة القرآن الكريم، ويعتزون بالعربية لغة والإسلام ديناً، بالرغم مما يلاقونه من عنت شديد ومحن وعناء.

ولا أزال أذكر مضيفة على إحدى الطائرات الصينية، صادفتها في إحدى الرحلات في المشرق الإسلامي. فقد رأتني أتلو ما تيسر من القرآن بالمصحف –والطائرة في الجو- فوجدتها تحتفي بي حفاوة خاصة، ولا تنفك تحيطني برعايتها الفائقة. وسألتني على استحياء أن أهدي لها المصحف لأنها مسلمة، فأهديته لها، فجثت على ركبتيها ووضعته على رأسها، وعيناها تذرفان قائلة: هذه أعظم هدية تسلمتها في حياتي، وسأقدم هذا المصحف الشريف إلى والدتي المريضة فور عودتي إلى بلدي، وستفرح بهذه الهدية العظيمة فرحاً عظيماً. ومضت إلى سبيلها تؤدي عملها، وما مرت بي إلا وهتفت: الحمد لله.. أنا مسلمة.

ويومها تذكرت قتيبة الذي لم يقتله أعداء العرب والمسلمين، بل قتله المسلمون.. وترحّمتُ عليه كثيراً وأنا بين السماء والأرض –في الطائرة- وترحّمتُ على شهداء المسلمين.

مجلة الأمة، العدد 50، صفر 1405 هـ

--------------------------------------------------------------------------------

[1] بلاد ما وراء النهر كان نهر جيحون القديم يعد الحد الفاصل بين الأقوام الناطقة بالفارسية والتركية، أي إيران وتوران، فما كان من شماله، أي وراءه، من أقاليم سمّاها العرب: ما وراء النهر، وهو نهر جيحون، وكذلك سمّوها: الهيطل.

[2] إسماعيل حقي شن كولر – قضية تركستان الشرقية، ص 64-65.

[3] الذهبي ، العبر ص 114

[4] هذا قبل سقوطه في أوائل التسعينات من القرن الماضي.

رد مع اقتباس
  #7  
قديم 15-04-2005, 10:48 PM
د.فالح العمره د.فالح العمره غير متصل
 
تاريخ التسجيل: Feb 2005
الدولة: في قلوب المحبين
المشاركات: 7,593
معدل تقييم المستوى: 27
د.فالح العمره is on a distinguished road

صفحات مجهولة

من تاريخ الحروب الصليبية

مجاهدون على الطريق

د. عماد الدين خليل

--------------------------------------------------------------------------------

منذ الأيام الأولى لوصول طلائع القوات الصليبية إلى مشارف الجزيرة الفراتية والشام، بدا أن ولاة الموصل السلاجقة سيلعبون دوراً حاسماً إزاء الخطر الجديد، نظراً لطبيعة موقعهم الحصين بعيداً عن الأخطار المباشرة للهجوم الصليبي، ولكونهم يمثلون حلقة الوصل المباشر بين القواعد السلجوقية التي يتلقون أوامر عنها، وبين الإمارات الإسلامية المنتشرة في الجزيرة والشام، والتي وقع على عاتقها عبء التصدي للهجوم الجديد. وكان من أبرز هؤلاء الولاة: آق سنقر البرسقي الذي حكم الموصل في الفترة بين 515 هـ (1121م) و 520 هـ (1126م)

شيء عن الرجل
في عام 515 هـ أصدر السلطان السجلوقي محمود أمره بتولية قائده الشهير آق سنقر البرسقي على الموصل وأعمالها، وكان الرجل قد عمل إلى جانب السلطان في معظم حروبه، وكان مخلصاً له، وقد لعب دوراً كبيراً في المعركة الفاصلة التي وقعت بين السلطان وأخيه مسعود، وقام بدور الوساطة بينهما بعد انتهاء المعركة.

وقد اتبع السلطان محمود التقليد المعروف لدى إعلان تولية أمير على الموصل، إذ أمره بجهاد الصليبيين واسترداد البلاد منهم، كما أوصى سائر الأمراء بطاعته، فسار البرسقي إلى الموصل على رأس جيش كبير، وأقام فيها بعض الوقت ريثما يدبر أمورها ويصلح أحوالها.

امتاز الرجل –أكثر من غيره- بالنشاط الدائب والحركة السريعة، فهو تارة في الشام يجاهد الغزاة، وتارة أخرى في بغداد وجنوبي العراق يقاتل الخارجين عن طاعة السلطان والخليفة العباسي، وتارة ثالثة على مشارف حلب مستجيباً لنداء أهلها بإنقاذهم من الأوضاع الاقتصادية والسياسية السيئة التي تردّوا فيها خلال تعرضهم للهجمات الصليبية، وقد استطاع البرسقي أن يكسب ودَّ الأمراء المحليين وعلى رأسهم طغتكين حاكم دمشق، كما اكتسب عطف الخليفة العباسي باشتراكه إلى جانبه في حروبه ضد الخارجين عليه، فضلاً عن أنه اكتسب محبة الأهالي سواء في الموصل حيث مقر ولايته، أم في المنطقة –بصورة عامة- حيث اشتهر كأحد قادة الجهاد ضد الغزاة.

كان البرسقي –كما يصفه المؤرخون- عادلاً، حميد الأخلاق، شديد التدين، محباً للخير وأهله، مكرماً للفقهاء والصالحين، وكان شجاعاً نال احترام وتقدير الخلفاء والملوك، ليِّناً، حسن المعاشرة، كثير الصلاة، عالى الهمة؛ وبذا أجمع معظم المؤرخين على أنه كان من خيار الولاة.

الصليبيون.. وإهانة كتاب الله

والحق أن أهم ما أنجزه البرسقي خلال فترة ولايته على الموصل هو استلامه شؤون الحكم في حلب وحله لمشاكلها وضمها إلى الموصل، الأمر الذي أتاح قيام وحدة بين البلدين كان لها أبعد الأثر في الصراع الإسلامي الصليبي.

كان الصليبيون قد شددوا هجماتهم على حلب والمناطق الزراعية المحيطة بها، وأنزلوا بها خسائر فادحة، وتولى الهجوم أميرُ أنطاكية والرها، ثم ما لبثوا أن فرضوا الحصار عليها من شتى جهاتها »ووطنوا أنفسهم –كما يقول ابن الأثير- على المقام الطويل، وأنهم لا يغادرونها حتى يملكوها، وبنوا البيوت لأجل البرد والحر«.

وتعدى الأمر ذلك إلى نبش قبور المسلمين وتخريب مشاهدهم.. ويحدثنا المؤرخ الحلبي ابن العديم أنهم أخرجوا جثث الموتى، وعمدوا إلى من لم تتقطع أوصاله منهم فربطوا الحبال بأرجلهم وسحبوهم أمام أنظار المسلمين المحاصرين في حلب، وراحوا يقولون: هذا نبيكم محمد! وأخذوا مصحفاً من أحد مشاهد حلب المجاورة ونادوا: يا مسلمون أبصروا كتابكم، ثم ثقبه أحد الفرنجة بيده وشدّه بخيطين وربطه بأسفل برذونه، فراح هذا يروّث عليه، وكلما أبصر الفرنجي الروث على المصحف صفق بيديه وضحك عجباً وزهواً!

لم يكتفِ الصليبيون بهذا بل راحوا يمثلون بكل من يقع بأيديهم من المسلمين، فاضطروا هؤلاء إلى مجاراتهم بالمثل، وأخذت جماعات من مقاتلي حلب تخرج سراً لتغير على معسكرات الأعداد، وترددت الرسل بين الطرفين للتوصل إلى اتفاق ولكن دون جدوى حتى ضاق الأمر بالحلبيين حيث قلّت الأقوات وانتشر المرض، واتبع أمراؤهم المتسلطون عليهم أشد الأساليب ظلماً وعسفاً، وحينذاك قرروا تشكيل وفدٍ يغادر حلب سراً إلى الموصل للاستنجاد بالبرسقي.

النجدة

كان البرسقي حينذاك (518 هـ) مريضاً، وكان الضعف قد بلغ منه مبلغاً عظيماً، فمنع الناس من الدخول عليه، وعندما استؤذن للوفد الحلبي بالدخول، أذن لهم، فدخلوا عليه واستغاثوا به وشرحوا له الأخطار التي تحيق بحلب ومدى الصعوبات التي يعانيها أهل المدينة، فأجابهم البرسقي: »إنكم ترون ما أنا الآن فيه من المرض، ولكني قد جعلت لله علي نذراً لئن عافاني من مرضي هذا لأبذلن جهدي في أمركم والذب عن بلدكم وقتال أعدائكم«.

ولم تمضِ ثلاثة أيام على مقابلته للوفد حتى فارقته الحمى وتماثل للشفاء، وسرعان ما ضرب خيمته بظاهر الموصل ونادى قواته أن تتأهب لقتال الصليبيين واستنقاذ حلب، وفي غضون أيام معدودات غدا جيشه على أهبة الاستعداد، فغادر الموصل متجهاً إلى الرحبة، وأرسل من هناك إلى طغتكين أمير دمشق وخير خان أمير حمص يطلب منهما مساعدته في إنجاز مهمته، فلبى هذان الأميران دعوته، وبعثا بعساكرهما للانضمام إلى جيش البرسقي الذي كان قد تحرك آنذاك صوب بالسس القريبة من حلب..

ومن بالسس أرسل البرسقي إلى مسؤولي حلب، وشرط عليهم –مسبقاً- تسليم قلعة حلب لنوابه كي يحتمي بها في حالة انهزامه أمام الصليبيين، فأجابوه إلى طلبه، وما أن استتب الأمر لنواب البرسقي، واطمأن الرجل إلى وجود حماية أمينة في حالة تراجعه، حتى بدأ زحفه صوب قوات الصليبيين التي تطوق حلب.

وصلت طلائع قوات البرسقي حلب يوم الخميس الثاني والعشرين من ذي الحجة سنة 518 هـ، وما أن اقترب البرسقي بقواته المنظمة حتى أسرع الصليبيون في التحول إلى منطقة أفضل من الناحية الدفاعية، فعسكروا في جبل جوش على الطريق إلى أنطاكية، وهكذا غدوا مدافعين بعد أن كانوا مهاجمين، وخرج الحلبيون إلى خيامهم فنالوا منها ما أرادوا، بينما اتجه قسم آخر منهم لاستقبال البرسقي لدى وصوله.

إصلاحات داخلية
وقد أدرك البرسقي ما يرمي إليه الصليبيون بانسحابهم واتخاذهم موقفاً دفاعياً، فلم يتسرع بمهاجمتهم قبل أن يعيد تنظيم قواته من جديد خوفاً من نزول هزيمة فادحة بعسكره قد تعرّض حلب للسقوط، وأرسل طلائعه الكشفية لرد الجيوش المتقدمة إلى معسكراتها في حلب، وقال موضحاً خطته هذه: »ما يؤمننا أن يرجعوا علينا ويهلك المسلمون؟ ولكن قد كفى الله شرهم، فلندخل إلى البلد ونقويه وننظر إلى مصالحه، ونجمع لهم إن شاء الله، ثم نخرج بعد ذلك إليهم«. ومن ثَم دخل البرسقي حلب وبدأ بحل مشاكلها ورفع مستواها الاقتصادي والاجتماعي، فنشر العدل وأصدر مرسوماً برفع المكوس والمظالم المالية وإلغاء المصادرات، وعمت عدالته الحلبيين جميعاً بعدما منوا به من الظلم والمصادرات وتحكم المتسلطين طيلة فترة الحصار الصليبي.

ولم يكتف البرسقي بذلك بل قام بنشاط واسع لجلب المؤن والغلال إلى المدينة كي يخفف من حدة الغلاء، ويقضي على الضائقة التي يعانيها الحلبيون. وما لبث النشاط الزراعي في منطقة حلب أن عاد إلى حالته الطبيعية، حيث استأنف المزارعون العمل في أراضيهم التي شردوا عنها، وساعدتهم الظروف المناخية في أراضيهم التي شردوا عنها، وساعدتهم الظروف المناخية، حيث هطلت مقادير كبيرة من الأمطار فأخصبت الأرض، كما عاد النشاط التجاري إلى عهده السابق اعتماداً على ما تمتعت به المنطقة من أمن واستقرار.

قيمة الانجاز
وهكذا استطاع البرسقي أن يحطم الطوق الذي أحاط به الصليبيون حلب، وأن يخلص هذا الموقع الهام من أخطر محنة جابهته طيلة الحروب الصليبية، ويوحده مع الموصل لأول مرة منذ بدء هذه الحروب، الأمر الذي أتاح لهذا القائد، ولعماد الدين زنكي من بعده، أن يفيد من هذه الوحدة لتحقيق انتصارات عديدة ضد الغزاة، ذلك أن حلب هي القاعدة الثانية في الشمال بعد الموصل، وهي الحصن الأخير الذي وقف بوجه الزحف الصليبي في المنطقة باتجاه الشرق، إذ كانت تتمتع بمركز استراتيجي حيوي من النواحي البشرية والعسكرية والاقتصادية وخطوط المواصلات، وبالرغم من وقوعها بين إمارتين صليبيتين هما الرها وأنطاكية، إلا أنه كان بإمكانها الاتصال بالقوى الإسلامية المنتشرة في الجزيرة والفرات والأناضول وشمالي الشام، مما يعد أساساً حيوياً لاستمرار حركة الجهاد وتحقيق أهداف حاسمة ضد العدو، هذا فضلاً عن عمق وتوثق الصلات الاقتصادية والجغرافية بين حلب والموصل منذ أيام الحمدانيين، ومن ثم تعتبر المدينتان مكملتين إحداهما للأخرى.

وكان مما يزيد في قيمة الاستيلاء على حلب، أنها بفضل موقعها على ثغر المسلمين ومعقلهم تجاه الغزاة، أضْفَتْ على أمير الموصل صفة المدافع عن الإيمان ضد الكفار، كما أن قوة الشعور الإسلامي يجعل من العسير على السطان السلجوقي أن يتخذ ضد أميراها إجراءً صارماً، يضاف إلى ذلك أن البرسقي، باعتباره ممثلاً للسلطان السلجوقي، صار له السلطة الشرعية الوحيدة بين الإمارات التي شكلها البرسقي والممتدة من نهر قويق إلى نهر دجلة نواة لما قام بعدئذ بالشام من دولة إسلامية متحدة زمن الزنكيين والأيوبيين والمماليك، ولم يكن الغزاة الذين وحّد بينهم نظام الملكية في بيت المقدس، يواجهون قبل ذلك سوى بلاد تنازعتها في الشام قوى عديدة وإقطاعات متفرقة زادت من ضعفها. وما حدث –إذاً- من توحيد حلب مع الموصل يعتبر بدء توحيد الجبهة الإسلامية التي قدر لها أن تقضي في يوم من الأيام على قوة الصليبيين في الشام.

بدء العمليات
لم يكن بوسع الميك بلدوين –بعد أن رأي ما حدث- سوى العودة إلى أنطاكية ومنها إلى بيت المقدس الذي غاب عنه مدة سنتين، إلا أنه لم يمكث هناك زمناً طويلاً، فقد كان البرسقي في نظره شديد الخطورة، إذ كان بوسعه أن يوحد المسلمين بشمال الشام تحت سلطانه، كما خضع لقيادته أميرا دمشق وحلب، وكان البرسقي –بعد أن أقرَّ الأوضاع في حلب- قد غادرها في مطلع عام 519 هـ صوبَ تل السلطان ومنها إلى حصن شيزر، وإذ حرص أميرها سلطان بن منقذ على أن يكون صديقاً لكل رجل عظيم الأهمية فقد سلمه رهائن الصليبيين الذي كانوا قد أودعوا لدى بني منقذ ريثما يتم تنفيذ بنود المعاهدة التي كانت قد عقدت بين الغزاة وأمراء ديار بكر، وقد أقام البرسقي في أرض حماة أياماً لحين وصول طغتكين على رأس قواته، وحين ذلك رحل البرسقي على رأس جيش مؤلف من القوات الإسلامية المتحالفة وهاجم حصن كفر طاب الذي كان بحوزة الغزاة وتمكن من الاستيلاء عليه في مطلع ربيع الآخر حيث وهبه لحليفه أمير حمص الذي كان قد التحق به، ثم حاصر »زردنا« فعجل الملك بلدوين في المسير نحو الشمال وقاد جيوش طرابلس وأنطاكية والرها لإنقاذها، فتحول المسلمون إلى عزاز التابعة لجوسلين وشددوا هجومهم عليها، وتمكنوا من إحداث ثغرات في قلعتها، إلا أن قوات بلدوين ما لبثت أن أدركتهم هناك حيث دارت في السادس من ربيع الآخر معركة عنيفة، وإذا استند المسلمون إلى تفوقهم العددي حاولوا الاشتباك مع خصومهم وجهاً لوجه، غير أنه كان لهؤلاء من التفوق في السلاح والقوة الضاربة ما لم يطق المسلمون مقاومته فحلّت بهم الهزيمة، وقتل منهم عدد كبير. واستطاع بلدوين أن يجمع من الغنائم الوفيرة التي حصل عليها مبلغ ثمانين ألف دينار الذي كان يدين به لافتداء الرهائن، فاستلمه البرسقي، وأعاد الرهائن، كي يتقوى به على عدوِّه ويعيد حشد قواته من جديد، وما لبثت الهدنة أن عقدت بين البرسقي والصليبيين، وقفل عائداً إلى الموصل بعد أن أبقى في حلب حامية عسكرية.

استئناف الصراع
لم يكن الاتفاق بين البرسقي وخصومه نهائياً، نظراً لأن الغزاة لم يحترموا ما اتفقوا عليه من قبل من الشروط، ويذكر المؤرخ الحلبي ابن العديم أن الصليبيين أخذوا يمنعون فلاحي المسلمين من جني ثمارهم ومحاصيلهم وفق ما نصّت عليه شروط الهدنة.

وفي مطلع ربيع عام 520 هـ (1126م) قام بونز أمير طرابلس بمهاجمة حص رفينة الذي كان هدفاً للصليبيين منذ أن استرده منهم أمير دمشق عام 499 هـ، والذي كان يتحكم في المنفذ المؤدي إلى البقيعة من جهة وادي نهر العاصي، ونهض بلدوين ملك بيت المقدس لمساندته، وخرج صاحبه »شمس الخواص« طالباً البرسقي مستصرخاً به، لكن ولده ما لبث أن قام بتسليم الحصن للغزاة بعد حصار دام ثمانية عشر يوماً، وكان الاستيلاء على هذا الحصن ذا أهمية بالغة عند الصليبيين لا لأنه كفل الأمان والسلامة لطرابلس فحسب، بل لأنه أمّن أيضاً طرق الاتصال بين بيت المقدس وأنطاكية، ومن ثم توجه الغزاة إلى حمص وهاجموا المناطق المحيطة بها وخربوا مزارعها، ولم يغادروا المنطقة إلا بعد أن أدركتهم القوة التي بعث بها البرسقي بقيادة ابنه مسعود لنجدة صاحب حمص، وخلال ذلك أعاد المصريون بناء أسطولهم الذي أقلع سنة 520 هـ من الاسكندرية وأغار على الساحل الشامي، ولما سمع البرسقي بذلك أعد خطته على أن يقوم أثناء إغارة الأسطول المصري بهجوم من الشمال، فحشد جيشاً كبيراً وتوجه إلى أنطاكية بقصد نجدة صاحب »رفينة« والواقع أن المصريين أدركوا بعد أن حاولوا القيام بغارة على أرباض بيروت، كلَّفتهم خسائر جسيمة، أن المدن الساحلية مشحونة بحاميات قوية، فلم يسعهم إلا العودة، أما البرسقي فقد سلك طريق »منبج« التي كانت مزارعها وقراها قد تعرضت دوماً لغارات جوسلين أمير الرها، فدارت المفاوضات بين البرسقي وجوسلين لعقد هدنة أخرى على أن تكون الضياع ما بين عزاز وحلب مناصفة بين الطرفين وأن يكون القتال بينهما على غير ذلك.

اتجه البرسقي –بعد أن أمن جانب جوسلين- صوب »الأثارب« وحاصرها في جمادى الآخرة 520 هـ وأرسل فرقة من قواته إلى حصن الدير فأذعن لها، وقامت جيوشه بجمع غلال العديد من مزارع العدو وإرسالها إلى حلب، وعلى الرغم من أن قوات البرسقي استولت على السورين الخارجيين للأثارب، إلا أنها لم يتيسر لها الاستيلاء على المدينة لمبادرة ملك بيت المقدس لإنجادها حيث انحاز إليه الأمير جوسلين، ورغبة منهما في تجنّب الاشتباك مع البرسقي أرسلا إليه قائلين: »ترحل عن هذا الموضع ونتفق على ما كنا عليه في العام الخالي ونعيد (رفينة) عليك«.

ولم يشأ البرسقي –من جهته- أن يمضي في الحرب كيلا يتعرض المسلمون لما تعرضوا له من قبل في عزاز، فقرر عقد الصلح مع الصليبيين، غير أن بلدوين لم يلبث –بعد أن جلا البرسقي بقواته عن الأثارب- أن أنكر ما سبق أن عرضه على البرسقي من شروط الصلح وأهمها إعادة (رفينة) إلى المسلمين، بل إنه طالب ببلاد جديدة فلم يقبل البرسقي ذلك وأقام فترة في حلب ترددت الرسل أثناءها بين الطرفين دون أن تسفر عن نتيجة، كما أن الغارات التي نشبت بينهما عقب ذلك لم تأت بطائل، فرجع بلدوين إلى القدس في رجب، وتوجه البرسقي إلى حلب يصحبه طغتكين حاكم دمشق الذي كان قد التحق به قبيل ذلك عند قنسرين، إلا أنه ما لبث أن مرض وأوصى إلى البرسقي قبل أن يغادر حلب متوجهاً إلى دمشق، الأمر الذي يشير إلى مدى ثقته وتقديره للبرسقي الذي لم يأل جهداً في مقاومة الغزاة، وبعد أن أناب البرسقي ابنه عز الدين مسعود في حلب، قفل راجعاً إلى الموصل.

تعبيد الطرق
ما من شك في أن هزيمة البرسقي غير المتوقعة في عزاز، هي التي قلبت ميزان القوى في المنطقة ووضعت جداراً صلباً أمام مطامح البرسقي الذي كان يأمل –بعد ضم حلب إلى إمارته- أن يحقق للمسلمين انتصارات حاسمة ضد أعدائهم، وأن يسعى لتهديد إماراتهم في الشمال بعد أن يوجه ضربات قوية لجيوشهم هناك، وهكذا جاءت كارثة عزاز لتنحرف بحركة البرسقي عن هدفها المرسوم، إلا أن قادة الصليبيين لم ينسوا –رغم ذلك- أن البرسقي سيظل يشكل خطراً على وجودهم، إذ أدركوا ما تمنحه إياه سيطرته على حلب وقيادته لقوى المسلمين في الشام، من إمكانية متجددة لإعادة الكرة عليهم، ومن ثم اقتنع كل من الطرفين بمنطق التهادن والمحالفات والسعي لتجنب أي اشتباك قد يجر وراءه صراعاً طويلاً لم تكن للطرفين رغبة جادة في خوضه نظراً لاعتقادهما بعدم جدواه، ولئن كان البرسقي قد أضاع الفرصة إثر هزيمة عزاز، فإنه فتح الطريق ولا ريب –بضمه حلب إلى الموصل- أمام عماد الدين زنكي الذي جاء بعد سنتين لكي يصفي الحساب مع الغزاة.

نهاية الرجل
لم يلبث البرسقي، بعد أيام قلائل من دخوله الموصل، أن اغتيل على أيدي الباطنية الذي كانوا قد تولوا حملة اغتيالات واسعة النطاق لكبار الشخصيات الإسلامية، بسبب الخلافات المذهبية، وقد بلغت هذه الحملة أوجها في القرن السادس الهجري، وكانت الباطنية تشكل –إذاً- مصدر الخطر الوحيد ضد البرسقي، وقد عرف هو ذلك منذ البداية، فكان على غاية من التيقظ لهم والتحفظ منهم، وكان يحيط بنفسه بعدد كبير من الحرس المسلمين الذين كانوا دائماً على أهبة الاستعداد، كما كان يلبس درعاً من حديد، وقد جهد في الحد من خطر الباطنية عن طريق التصدي لهم واستئصال شأفتهم وتتبعهم في كل مكان، وقد تمكن من قتل عدد منهم.

ورغم كل هذه الاحتياطات والاجراءات تمكن الباطنية الذين تمرسوا على الاغتيالات من بغيتهم. ففي التاسع من ذي القعدة سنة 520 هـ توجه البرسقي إلى الجامع العتيق في الموصل لأداء صلاة الجمعة، وقصد المنبر، فما دنا منه وثب عليه ثمانية أشخاص متزيين بزي الزهاد وأثخنوه ضرباً وطعناً، بعد أن تمكن وحراسه من قتل بعضهم، ثم حمل جريحاً ومات في نفس اليوم، وتم قتل جميع من اشترك في الاغتيال فيما عدا واحداً منهم تمكن من الهرب إلى الشام.

وكان البرسقي قد رأى في منامه –في الليلة الفائتة- بأن مجموعة من الكلاب السوداء هاجمته، وقصّ رؤياه على أصحابه فأشاروا عليه بعدم الخروج من داره أياماً، ولكنه رفض اقتراحهم وقال: لا أترك صلاة الجمعة لشيء أبداً.. وكان من عادته أن يحضر صلاة الجمعة مع سائر الناس.

ويُلقي العماد الأصفهاني ضوءاً على الدوافع المباشرة لاغتيال البرسقي، إذ يشير إلى العداء المستحكم بينه وبين (الدركزيني) الباطني وزير السلطان السلجوقي محمد، الذي عمل جاهداً ليقنع السلطان بعزل خصمه فلم ينجح في مسعاه، فاتفق مع الباطنية على اغتياله. وموقف الدركزيني يقودنا إلى موقف الباطنية العام من زعماء المقاومة الإسلامية، هذا الموقف الذي تميّز بالعداء الجارف والرغبة في الانتقام، الأمر الذي كان له أسوأ الأثر على مجرى الصراع بين المسلمين والغزاة.[1]

ومن عجب –يقول المؤرخ ابن الأثير-: أن أمير أنطاكية الصليبي أرسل إلى عز الدين مسعود يخبره بقتل والده قبل أن يصل الخبر إليه شخصياً! وكان قد سمعه الفرنج قبله لشدة عنايته –أي أمير أنطاكية- بمعرفة الأحوال الإسلامية!

لكن ألا يلقي هذا النبأ ظلاً من شك حول إمكانية حدوث اتفاق مسبق بين الباطنية والصليبيين لاغتيال المجاهد المسلم، لا سيما وأن قتلته ربما كانوا –كما يذكر المؤرخ الحلبي ابن العديم- قوماً من أهل حماة القريبة من معاقل الصليبيين؟ كيفما كان الأمر، فإن مقتل البرسقي أصاب المسلمين عامة والموصل خاصة بخسارة فادحة حيث فقدوا باغتياله والياً من نوع ممتاز، فلا غرو أن يحزنوا عليه ويأسفوا لفقده ويستدعوا ابنه عز الدين مسعود ليحل محله.

وأغلب الظن أن البرسقي كان الوالي الوحيد للموصل، منذ بدء عهد الولاة عام 489 هـ وحتى تولي عماد الدين زنكي عام 521 هـ، الذي لم يطمح إلى مخالفة السلطان السلجوقي والاستقلال عن سلطته بحكم حبه له وإخلاصه لوحدة الدولة السلجوقية إزاء التفتّت والانقسام.

مجلة الأمة – العدد 16- ربيع الآخر 1402 هـ


--------------------------------------------------------------------------------

[1] انظر »لمحة تاريخية عن الدولة العبيدية« في هذا الموقع لتتعرف عن فرقة الحشاشين الباطنية

رد مع اقتباس
  #8  
قديم 15-04-2005, 10:59 PM
د.فالح العمره د.فالح العمره غير متصل
 
تاريخ التسجيل: Feb 2005
الدولة: في قلوب المحبين
المشاركات: 7,593
معدل تقييم المستوى: 27
د.فالح العمره is on a distinguished road

عين جالوت : الواقعة والمغزى

الإعصار

د. عماد الدين خليل


--------------------------------------------------------------------------------

في منتصف عام 758 هـ (1260 م) بعث هولاكو من الشام برسله يحملون رسالته المشهورة إلى سلطان مصر المملوكي: سيف الدين قطز..

كان هولاكو في قمة انتصاراته.. وكان المغول قد اكتسحوا القوى الإسلامية واحدة بعد الأخرى، وهدموا متاريسها وجدرانها، وسووا الطريق أمام جحافلهم المتقدمة غرباً.. ما من قيادة إسلامية، من أواسط آسيا وحتى أطراف سيناء، إلا وأذعنت لهم طوعاً أو كرهاً.. وكان السيف الوثني المغولي يعلو على السيوف، وكان الرأس الذي لا ينحني له يُطاح به في التوّ واللحظة.. وحتى أولئك الذين اختاروا السلامة ولووا رؤوسهم عجزاً عن المجابهة وهروباً من الموت.. وقعوا في مصيدة الموت التي كان المغول يتفننون في نصبها وفي تعذيب خصومهم وهم يتقلبون في شباكها.

والذي حدث في بغداد معروف.. ومعروف أيضاً المصير المفجع الذي آلت إليه أكبر قوتين إسلاميتين في المشرق: الخوارزميون في بلاد فارس وما وراء النهر، والعباسيون في العراق..

سنوات عديدة والمطاردات الرهيبة لا تفتر بين المغول وبين السلطان الخوارزمي الأخير جلال الدين منكبرتي.. وصراع الحياة والموت يعرض مشاهده الدامية في مساحات واسعة من الأرض، شهدت جهات ما وراء النهر وشمالي الهند وبحر قزوين وشمالي العراق والجزيرة الفراتية والأناضول بعضاً منها..

وعبثاً حاول السلطان أن يتصل بالأمراء المحليين من إخوانه المسلمين في سبيل تشكيل جبهة إسلامية موحدة لمقاومة السيل الزاحف، لأنه –هو- عبر سنوات حكمه الطويلة قد مارس خطيئة التمزيق والتفتيت وإشعال نار الخصومة والعداء بين القيادات الإسلامية بعضها ضد بعض.. وأخيراً استسلم لليأس وتخلف عنه كثير من أنصاره، ووجد نفسه في قلة من أصحابه وحيداً غريباً، مطارَداً في جبال ديار بكر.. ويذكر معاصروه كيف أن البكاء كان يغلب عليه في الليل والنهار، وكيف أنه هرب إلى الخمر يختبئ وراء غيبوبتها من شبح النهاية القريب.. وما لبث أحد سكان المنطقة أن طعنه بسكين وقضى عليه.

وأما العباسيون فأمرهم معروف.. وما شهدته بغداد حاضرة المسلمين الكبرى، غدا مثلاً يضرب على مداولة الأيام بين الناس.

ولكن ما شأن الإمارات المحلية؟

لم يكن مصيرها –بطبيعة الحال- بأحسن من مصير دول الإسلام الكبرى.. بعضها هادن ونافق ودعا إلى السلم وهو في مواقع الضعف والهوان، فلم ينجه ذلك من سيوف المغول، وبعضها الآخر وقف الوقفة التي تقتضيها كرامة المسلم ولقي من صنوف الأذى ما يشير إلى بشاعة الطرائق التي اعتمدها المغول لإلقاء الرعب في قلوب الخصوم..

قُتِلَ الكاملُ الأيوبي أميرُ ميافارقين في ديار بكر شرّ قتلة، إذ كان المغول يقطعون لحمه قطعاً ويدفعون بها إلى فمه حتى مات، ثم قطعوا رأسه وحملوه على رمح وطافوا به في بلاد الشام. وكان يتقدم الموكب مغنون وطبالون، وأخيراً علِّق في شبكة بسور أحد أبواب دمشق، ويقال أنه بقي هناك حتى تحرير المدينة من قبضة الغزاة.

ووضع الملك الصالح أمير الموصل في دهن ولباد وألقي في الشمس حتى تحول الدهن إلى ديدان بعد أسبوع، فشرعت الديدان تأكل جسده حتى مات على تلك الصورة البشعة بعد شهر.. أما ابنه الذي كان طفلاً في الثالثة من عمره فشقوه نصفين على ساحل نهر دجلة على مرأى من الناس.. وغير هؤلاء كثيرون لقوا مصارع لا تقل شناعة وبؤساً.. وما جرى في مدن الجزيرة الفراتية وشمالي الشام يعد واحداً مما شهدته الكثير من المدن والإمارات على مدى المشرق الإسلامي كله..

فمن الذي يسهل عليه أن يكتب نعي الإسلام؟
والمؤرخ ابن الأثير المتوفى عام 630 هـ، وهو يستعرض وقائع عام 617 هـ ويسطر بدايات خروج المغول على بلاد الإسلام، يتحدث عن الهول الذي ألمَّ بمعالم الإسلام، وقد كان في مطالعه يومها.. فماذا لو طال العمر بالمؤرخ المذكور وشهد أحداث العقود التالية.. ومآسيها؟

يقول الرجل: »لقد بقيت عدة سنين معرضاً عن ذكر هذه الحادثة استعظاماً لها، كارهاً لذكرها، فأنا أقدّم إليه رجلاً وأؤخر أخرى، فمن الذي يسهل عليه أن يكتب نعي الإسلام والمسلمين؟ ومن الذي يهون عليه ذكر ذلك؟ فياليتَ أمي لم تلدني، وياليتني مت قبل حدوثها وكنتُ نسياً منسياً. إلا أني حدّثني جماعة من الأصدقاء على تسطيرها وأنا متوقف، ثم رأيت أن ترك ذلك لا يجدي نفعاً. فنقول: هذا الفعل يتضمن ذكر الحادثة العظمى والمصيبة الكبرى التي عقمت الأيام والليالي عن مثلها، عمّت الخلائق وخصّت المسلمين، فلو قال قائل: إن العالم منذ خلق اللهُ سبحانه وتعالى آدم وإلى الآن، لم يبتلوا بمثلها، لكان صادقاً، فإن التواريخ لم تتضمن ما يقاربها ولا ما يدانيها. ومن أعظم ما يذكرون من الحوادث ما فعله بخت نصر ببني إسرائيل من القتل، وتخريب البيت المقدس بالنسبة إلى ما خرب هؤلاء الملاعين من البلاد التي كل مدينة منها أضعاف البيت المقدس.. وما بنو إسرائيل بالنسبة إلى من قُتِلوا؟ فإن أهل مدينة واحدة ممن قتلوا أكثر من بني إسرائيل، ولعل الخلق لا يرون مثل هذه الحادثة إلى أن ينقرض العالم وتفنى الدنيا.. إنهم لم يبقوا على أحد، بل قتلوا الرجال والنساء والأطفال، وشقوا بطون الحوامل وقتلوا الأجنة، فإنا لله وإنا إليه راجعون، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم«.

الانكسار من الداخل
كان الهجوم المغولي السريع الكاسح قد منح هؤلاء المغيرين سلاحاً نفسياً خطيراً: الرعب الذي كان ينقض على خصومهم من الداخل فيهزمهم قبل أن تلتمع السيوف أمام عيونهم.. إنه السيف الأكثر حدة والذي كان يذبح فيه القدرة على الحركة.. لقد كان المسلمون يومها يعانون من شلل تام أو نصفي أفقدهم الأرجل التي يسيرون عليها والأيدي التي يضربون بها.. وهذه الوقائع التي يرويها ابن الأثير تكاد تكون تجسيداً »كاريكاتيرياً« مضحكاً محزناً للأمر الذي آل إليه الكثيرون من أبناء عالم الإسلام.

يقول الرجل: »لقد حكي لي عن حكايات يكاد سامعها يكذب بها من الخوف الذي ألقى الله سبحانه وتعالى في قلوب الناس منهم، حتى قيل إن الرجل الواحد منهم كان يدخل القرية أو الدرب وبه جمع كثير من الناس، فلا يزال يقتلهم واحداً بعد واحدٍ لا يتجاسر أحد أن يمد يده إلى ذلك الفارس. ولقد بلغني أن إنساناً منهم أخذ رجلاً، ولم يكن مع التتري ما يقتله به، فقال له: ضع رأسك على الأرض ولا تبرح، فوضع رأسه على الأرض ومضى التتري فأحضر سيفاً وقتله به! وحكى لي رجل قال: كنت أنا ومعي سبعة عشر رجلاً في طريق، فجاءنا فارس من التتر وقال لنا حتى يكتف بعضنا بعضاً، فشرع أصحابي يفعلون ما أمرهم، فقلت لهم: هذا واحد فلم لا نقتله ونهرب؟ فقالوا: نخاف أمرهم. فقلت لهم: هذا يريد قتلكم الساعة فنحن نقتله فلعل الله يخلصنا، فوالله ما جسر أحد أن يفعل، فأخذت سكيناً وقتلته، وهربنا فنجونا«!!

التحدي
في هذه الظروف السياسية والنفسية، ومن خلال وهج السيوف التي تقطر دماً وأصداء المعارك التي أثار نقعها سيل لا أول له ولا آخر من خيول الغزاة بعث هولاكو برسالته تلك إلى سلطان مصر المملوكي: سيف الدين قطز.. وكان الطاغية يعرف جيداً خلفية الرعب والانهزام التي رسمتها العقود الأخيرة على مدى خارطة عالم الإسلام وفي أعماق نفوس أبنائه، فعرف كيف ينتقي كلماتها.. قال: »مِن ملك الملوك شرقاً وغرباً، الخان الأعظم، باسمك اللهم باسط الأرض ورافع السماء.. يعلم الملك المظفر قطز وسائر أمراء دولته وأهل مملكته بالديار المصرية وما حولها ومن الأعمال، إنا نحن جند الله في أرضه، خلقنا من سخطه وسلّطنا على من حل به غضبه، فلكم بجميع البلاد معتَبَر، وعن عزمنا مزدجر، فاتعظوا بغيركم، وأسلموا إلينا أمركم قبل أن ينكشف الغطاء فتندموا ويعود عليكم الخطأ.. وقد سمعتم أننا قد فتحنا البلاد وطهرنا الأرض من الفساد وقتلنا معظم العباد، فعليكم بالهرب وعلينا الطلب. فأي أرض تأويكم؟ وأي طريق تنجيكم؟ وأي بلاد تحميكم؟ فما لكم من سيوفنا خلاص، ولا من مهابتنا مناص، فخيولنا سوابق، وسهامنا خوارق، وسيوفنا صواعق، وقلوبنا كالجبال، وعددنا كالرمال، فالحصون لدينا لا تمنع، والعساكر لقتالنا لا تنفع، ودعاؤكم علينا لا يُسمع.. فمن طلب حربنا ندم، ومن قصد أماننا سلم، فإن أنتم لشرطنا ولأمرنا أطعتم، فلكم ما لنا وعليكم ما علينا، وإن خالفتم هلكتم. فلا تهلكوا نفوسكم بأيديكم، فقد حذر من أنذر.. فلا تطيلوا الخطاب، وأسرعوا برد الجواب قبل أن تضرب الحرب نارها، وترمي نحوكم شرارها، فلا تجدون منا جاهاً ولا عزاً ولا كافياً ولا حرزاً، وتدهون منا بأعظم داهية، وتصبح بلادكم منكم خالية، فقد أنصفناكم إذ راسلناكم، وأيقظناكم إذ حذّرناكم، فما بقي لنا مقصد سواكم«.

فمن اختار الجهاد يصحبني!
كان الرسالة بمثابة التحدي النهائي لآخر قيادة إسلامية، وعلى ضوء الموقف الذي ستقرر هذه القيادة اتخاذه سيتوقف مصير عالم الإسلام وحضارته التي صنعها كدح القرون الطوال.

كل المؤشرات كانت تقود إلى الاستسلام للتحدي والإذعان لضروراته..

ولكن الإيمان له منطق آخر.. إنه لا يمنح القدرة على الحركة في ظروف الشلل التام فحسب، ولكنه يهب بصيرة نافذة تخترق حجب العمى والظلام لكي تطل على الأفق الذي يشع ضياء..

وبالحركة القديرة والرؤية الصائبة تجابه القيادات الفذة تحديات التاريخ ومحنه وويلاته فتخرج منها ظافرة وتحقق بالاستجابة قفزة نوعية في مجرى الفعل والتحقق.

قرأ سيف الدين قطز الرسالة واستدعى أمراءه ليعرض الأمر عليهم.. وجرى هذا الحوار.

قطز: ماذا ترتؤون؟

ناصر الدين قيمري: إن هولاكو، فضلاً عن أنه حفيد جنكيزخان، فإن شهرته وهيبته في غنى عن الشرح والبيان، وإن البلاد الممتدة من تخوم الصين إلى باب مصر كلها في قبضته الآن، فلو ذهبنا إليه نطلب الأمان فليس في ذلك عيب وعار! ولكن تناول السم بخداع النفس واستقبال الموت أمران بعيدان عن حكم العقل! إنه ليس الإنسان الذي يطمأن إليه، فهو لا يتورع عن احتزاز الرؤوس وهو لا يفي بعهده وميثاقه، فإنه قتل فجأة الخليفة وعدداً من الأمراء بعد أن أعطاهم العهد والميثاق، فإذا ما سرنا إليه فسيكون مصيرنا هذا السبيل!

قطز: والحالة هذه، فإن كافة بلاد ديار بكر وربيعة والشام ممتلئة بالمناحات والفجائع، وأضحت البلاد من بغداد حتى الروم خراباً يباباً، وقضي على جميع من فيها من حرث ونسل.. فلو أننا تقدمنا لقتالهم وقمنا بمقاومتهم فسوف تخرب مصر خراباً تاماً كغيرها من البلاد، وينبغي أن نختار مع هذه الجماعة التي تريد بلادنا واحداً من ثلاثة: الصلح أو القتال أو الجلاء عن الوطن. أما الجلاء عن الوطن فأمر متعذر، ذلك لأنه لا يمكن أن نجد لنا مفراً إلا المغرب، وبيننا وبينه مسافات بعيدة..

قيمري: وليس هناك مصلحة أيضاً في مصالحتهم إذ أنه لا يوثق بعهودهم!

عدد من الأمراء: ليس لنا طاقة ولا قدرة على مقاومتهم، فمر بما يقتضيه رأيك..

قطز: إن الرأي عندي هو أن نتوجه جميعاً إلى القتال، فإذا ظفرنا فهو المراد، وإلا فلن نكون ملومين أمام الخلق.

الظاهر بيبرس: أرى أن نقتل الرسل ونقصد كتبغا –قائد المغول- متضامنين، فإن انتصرنا أو هُزِمنا فسنكون في كلتا الحالتين معذورين.

أيد الأمراء كافة هذا الرأي.. وكان على قطز أن يتخذ قراره.. وقد اتخذه فعلاً.. قتل الرسل وعلق رؤوسهم على باب زويلة أياماً.. ورفع رأسه متحدياً بمواجهة الطاغية، وأصدر أوامر بالتجهز للقتال »جهاداً في سبيل الله ونصرة لدين رسول الله صلى الله عليه وسلم«..

وإذ رأى تردداً وجبناً ونكوصاً من عدد من الأمراء ألقى كلمته المؤثرة: »يا أمراء المسلمين! لكم زمان تأكلون أموال بيت المال، وأنتم للغزاة كارهون، وأنا متوجه، فمن اختار الجهاد يصحبني، ومن لم يختر ذلك يرجع إلى بيته، فإن الله مطلع عليه، وخطيئة حريم المسلمين في رقاب المتأخرين«..

وما كان للأمراء جميعاً، إزاء قيادة مؤمنة كهذه، إلا أن يخلعوا رداء العجز والوهن ومحبة الدنيا.. ويقفوا متحدين بمواجهة الفتنة التي إن لم تدفع بالدم فإنها لن تكتفي لضرب الذين ظلموا منهم خاصة!

اليوم الفصل
انطلقت القوات الإسلامية بقيادة سيف الدين قطز واجتازت سيناء باتجاه غزة سالكةً الطريق المحاذي للبحر، وتولى الظاهر بيبرس قيادة المقدمة. ولم يكن في غزة سوى قوة صغيرة من المغول بقيادة بايدر الذي أرسل إلى القائد المغولي كتبغا الذي أنابه هولاكو لإتمام الغزو غرباً، يخطره بحركة الجيش الإسلامي، غير أن المسلمين اكتسحوا عساكره قبل أن تصل إليه النجدة.

كان كتبغا في بعلبك، فتجهز علىالفور للمسير إلى وادي نهر الأردن بعد أن يتجاوز بحر الجليل، غير أن منعه اشتعال ثورة المسلمين في دمشق ضد السلطة المغولية وأنصارها من النصارى المحليين حيث حطمت دورهم وكنائسهم، واشتدت الحاجة إلى العساكر المغولية لإعادة الأمن إلى نصابه. وفي تلك الأثناء كان قطز يواصل السير على الساحل الفلسطيني ثم انعطف إلى الداخل ومضى شمالاً لتهديد مواصلات كتبغا إذا حدث وتقدم إلى فلسطين.

عبر كتبغا نهر الأردن وتوجه صوب الجليل الشرقي، فبادر قطز على الفور بالانعطاف بقواته باتجاه الجنوب الشرقي مجتازاً الناصرة حيث وصل في الرابع عشر من رمضان (المصادف الثاني من أيلول عام 1260م) إلى عين جالوت. وفي صبيحة اليوم التالي قدم الجيش المغولي تعززه كتائب كرجية وأرمنية، دون أن يعلم أن جيش المماليك أضحى قريباً منه. وكان قطز يعرف جيداً تفوق جيشه في العدد على العدو ولذا أخفى قواته الرئيسية في التلال القريبة ولم يعرض للعدو إلا المقدمة التي قادها بيبرس. وما لبث كتبغا أن وقع في الفخ إذ حمل بكل رجاله على القوات الإسلامية التي شهدها أمامه، فأسرع بيبرس في تقهقره إلى التلال بعد أن اشتدت مطاردة كتبغا له، فلم يلبث الجيش المغولي بأسره أن جرى تطويقه فجأة، وجرت بين الطرفين معركة طاحنة، واضطربت قوات المماليك بعض الوقت، فدخل قطز المعركة لجمعهم، ولم تنقضِ سوى بضع ساعات حتى بدأ تفوق المسلمين في الميدان، وسحقت زهرة القوات المغولية ووقع قائدهم نفسه أسيراً. وبأسره انتهت المعركة، إذ جرى حمله مقيداً بالأغلال إلى السلطان حيث احتزّ رأسه!

توجه السلطان قطز إلى دمشق بعد أيام قلائل من المعركة حيث استقبل استقبال الأبطال وهرب نواب المغول منها بعد أكثر من سبعة أشهر من خضوعها لسيطرتهم، وقام قائده الظاهر بيبرس بملاحقة فلول العدو شمالاً وتطهير البلاد منهم، حيث قتل وأسر عدداً كبيراً، وتمكن خلال شهر واحد من دخول حلب، المعقل الشمالي، وتخليصه من قبضة الغزاة. وهكذا تم تحرير بلاد الشام وفلسطين من أقصاها إلى أقصاها. ومع أن هولاكو أرسل العساكر لاسترداد حلب فإنهم اضطروا للانسحاب بعد أربعين يوماً أجروا أثناءها المذابح في عدد كبير من المسلمين انتقاماً لمصرع كتبغا، غير أن ذلك كان كل ما استطاع هولاكو أن يفعله للانتقام لقائده الشهير.

لقطات من المعركة
· تقدم الملك المظفر إلى سائر الولاة بإزعاج الأجناد في الخروج للسفر ومن وجد منهم قد اختفى يضرب بالمقارع! فلما كان الليل ركب السلطان وحرك أعلامه وقال: أنا ألقى التتار بنفسي. فلما رأى الأمراء مسير السلطان ساروا على كره!

· أقسم المظفر لقادة الصليبيين في فلسطين أنه متى تبعه منهم فارس أو راجل يريد أذى عسكر المسلمين رجع وقاتلهم قبل أن يلقى التتر!

· أمر الملك المظفر بالأمراء فجمِعوا، وحضهم على قتال التتار وذكرهم بما وقع بأهل الأقاليم من القتل والسبي والحريق، وخوّفهم من وقوع مثل ذلك، وحثّهم على استنقاذ الشام من التتر ونصرة الإسلام والمسلمين، وحذّرهم عقوبة الله، فضجوا بالبكاء وتحالفوا على الاجتهاد في قتال التتر ودفعهم عن البلاد.

· عندما اصطدم العسكران اضطرب جناح عسكر السلطان وانتقض طرف منه فألقى الملك المظفر عند ذلك خوذته عن رأسه إلى الأرض وصرخ بأعلى صوته: »واإسلاماه!« وحمل بنفسه وبمن معه حملة صادقة، فأيّده الله بنصره..

· مرّ العسكر في أثر التتر إلى قرب بيسان فرجع التتر والتقوا بالمسلمين لقاء ثانياً أعظم من الأول فهزمهم الله وقتل أكابرهم وعدة منهم، وكان قد تزلزل المسلمون زلزالاً شديداً فصرخ السلطان صرخة عظيمة سمعه معظم المعسكر وهو يقول: »واإسلاماه!« ثلاث مرات: »يا الله انصر عبدك قطز على التتار!« فلما انكسر التتار الكسرة الثانية نزل السلطان عن فرسه ومرغ وجهه على الأرض وقبلها، وصلى ركعتين شكراً لله تعالى ثم ركب، فأقبل العساكر وقد امتلأت أيديهم بالمغانم!

· كتب السلطان إلى دمشق يبشر الناس بفتح الله وخذلانه التتر، وهو أول كتاب ورد منه إلى دمشق. فلما ورد الكتاب سرّ الناس به سروراً كثيراً وبادروا إلى دور النصارى الذي كانوا من أعوان التتار فنهبوها وخربوا ما قدروا على تخريبه، وقتلوا عدة من النصارى واستتر باقيهم، وذلك أنهم في مدة استيلاء التتر هموا مراراً بالثورة على المسلمين وخربوا مساجد ومآذن كانت بجوار كنائسهم، وأعلنوا بضرب الناقوس وركبوا بالصليب وشربوا الخمر في الطرقات ورشّوه على المسلمين!

· لما بلغ هولاكو كسرة عسكرة وقتل نائبه كتبغا، عظم عليه فإنه لم يكسر له عسكر قبل ذلك..

· .. وأتم الملك المظفر السير بالعسكر حتى دخل دمشق، وتضاعف شكر المسلمين لله تعالى على هذا النصر العظيم، فإن القلوب كانت قد يئست من النصرة على التتر لاستيلائهم على معظم بلاد الإسلام، فابتهجت الرعايا بالنصرة عليهم وبقدوم الملك المظفر إلى الشام. وفي يوم دخوله إلى دمشق أمر بشنق جماعة من المنتسبين إلى التتر فشنقوا.. وأنشد بعض الشعراء:

واستجدّ الإسلامُ بعد دحوضِهِ
هلك الكفرُ في الشآم جميعاً

رع سيف الإسلامِ عند نهوضِهِ
بالمليك المظفر الملك الأو

فاعتززنا بسحره وببيضهِ
ملك جاءنا بعزم وحزم

دائما ً مثل واجبات فروضِهِ
أوجب الله شكر ذاك علينا


الأرقام التي يريدها الله ورسوله
فليس من المبالغة القول بأن عين جالوت شهدت معركة حاسمة على المستويات العسكرية والسياسية والعقيدية والحضارية عموماً..

ها هنا، في قلب فلسطين، وبعد ما يقرب من مضي قرن على معركة حطين الفاصلة، أجرى التاريخ نزالاً لا يقل حسماً بين قوتين متقابلتين: الإسلام والوثنية، التحضر والجاهلية، والالتزام بالقيم والانفلات منها.. وكان انتصار المسلمين يعني انتصار على الوثنية، والتحضر على الجاهلية، والقيم على الانفلات..

ومؤشرات الثقة بالنفس والإيمان بالنصر والقدرة على تجاوز الهزائم والنكسات والتي كادت تصل بالمسلمين إلى نقطة الصفر.. جاءت هذه المعركة المباركة لكي ترتفع بها ثانية صوب الأرقام التي تليق بمكانة المسلمين في العالم.

وها هنا –أيضاً- نشهد المعادلة الواضحة التي لا تمنح جوابها العادل إلا إذا تجمع طرفاها في تكافؤ متقابل: الأخذ بالأسباب، والإيمان الواثق العميق بالله وبعدالة القضية التي يجاهد المسلمون من أجلها.. وبدون تحقق هذا التقابل فلن يكون هناك نصر أو توفيق.. ولن يحتاج الأمر إلى مزيد شواهد أو نقاش، فإن مجرى التاريخ الإسلامي الطويل يعرض علينا عشرات بل مئات وألوفاً من الشواهد علىهذا الذي تعرضه علينا واقعة عين جالوت..

وهذه شهادة المؤرخ الإنجليزي المعاصر ستيفن رنسيمان في كتابه الحروب الصليبية يقول: »تعتبر معركة عين جالوت من أهم المعارك الحاسمة في التاريخ.. ومن المحقق لو أن المغول عجلوا بإرسال جيش كبير عقب وقوع الكارثة لتيسر تعويض الهزيمة، غير أن أحكام التاريخ حالت دون نقض ما اتخذ في عين جالوت من قرار. فما أحرزه المماليك من انتصار أنقذ الإسلام من أخطر تهديد تعرض له. فلو أن المغول توغلوا إلى داخل مصر لما بقي للمسلمين في العالم دولة كبيرة شرقي بلاد المغرب، ومع أن المسلمين في آسيا كانوا من وفرة العدد ما يمنع من استئصال شأفتهم، فإنهم لم يعودوا يؤلفون العنصر الحاكم. ولو انتصر كتبغا النصراني، لازداد عطف المغول على النصارى ولأصبح للنصارى السلطة لأول مرة منذ سيادة النحل الكبيرة في العصر السابق على الإسلام. على أنه من العبث أن نفكر في الأمور التي قد تحدث وقتئذ، فليس للمؤرخ إلا أن يروي ما حدث فعلاً إذ أن معركة عين جالوت جعلت سلطة المماليك بمصر القوة الأساسية في الشرق الأدنى في القرنين التاليين، إلى أن قامت الدولة العثمانية.. فما حدث من ازدياد قوة العنصر الإسلامي وإضعاف العنصر النصراني لم يلبث أن أغوى المغول الذين بقوا في غرب آسيا على اعتناق الإسلام. وعجلت هذه المعركة بزوال الإمارات الصليبية، لأن المسلمين المظفرين، حسبما تنبأ مقدم طائفة فرسان التيوتون، أضحوا حريصين على أن يتخلصوا نهائياً من أعداء الدين«.

ولم يشأ رنسيمان أن يشير إلى أن انتماء مغول غربي آسيا إلى الإسلام لم يكن بسبب وجودهم في قلب أكثرية إسلامية فحسب، بل وهذا هو الأهم، لما يمتلكه الإسلام نفسه من قدرة ذاتية على الجذب والتأثير، وفاعلية دائمة في التغلب على العناصر المناوئة الغريبة واحتوائها.

ومهما يكن من أمر فإن المعركة الفاصلة حققت وحدة بين مصر والشام كانت ذات قيمة استراتيجية كبيرة في صراع الإسلام ضد خصومه التاريخيين.. إذ أصبحت الدرع الذي يقي المسلمين هجمات المغول الشرسة، ويمكن –في الوقت نفسه- من مجابهة التحدي الصليبي ومحاولة استئصال وجوده من الأرض الإسلامية.

وليس ثمة غير الوحدة من طريق
إنها الوحدة نفسها التي سهر عماد الدين زنكي وابنه نور الدين محمود على إقامتها، وجاء الناصر صلاح الدين من بعدهما لكي يبني عليها انتصاراته الحاسمة ضد الصليبيين الغزاة ويحرر القدس.. وها هي معركة عين جالوت تشد الآصرة مرة أخرى وتمنح المسلمين الأرضية التي سيتحركون عليها عبر العقود القادمة لمجابهة الخصوم ودفعهم إلى إحدى اثنتين: الاذعان لكلمة الإسلام أو العودة من حيث جاؤوا.. لقد ملأت المعركة الفراغ المخيف الذي كان يمكن أن يتمخض عن سقوط الخلافة العباسية وتفتت السلاجقة من قبل، فأتاحت للقيادة المملوكية الشابة أن تعوض عالم الإسلام عما فقدَ هناك..

.. وهناك البعد الحضاري
وثمة من يقول بأن المعركة خدمت أوربا نفسها وحفظت مدنيتها، كما يرى بروان وغيره، وهذا حق.. فإن المغول كانوا يطمحون لغزوها وتخريبها، ولكن تقليم أظافرهم في عين جالوت فضلاً عن عوامل أخرى صدّهم عن المضي في الطريق إلى نهايته.

هذا إلى أن المعركة حققت للحركة الحضارية الإسلامية القدرة على مواصلة المسير، وعلى أن تتجاوز محنة الدمار والتخريب الذي شهدته بغداد.. فها هي ذي في مصر والشام والمغرب تنجز المزيد من العطاء وتتحقق بالإبداع في جوانب عديدة وساحات شتى.. وليس كما يقال من أن عالم الإسلام دخل عصر الظلمة بعد سقوط بغداد.. وليس ابن خلدون وابن كثير وابن تيمية وأبو الفدا والسيوطي والسخاوي وابن القيم والجزري.. وغيرهم كثيرون، سوى إشارات على طريق هذا التحقق المبدع الذي شهدته حضارة الإسلام يومَها..

آن الأوان لكي نتعلم من التاريخ
لقد شهد تاريخ الإسلام سلسلة متطاولة من المعارك الفاصلة، منذ وقعة بدر التي فرق الله بها بين الحق والباطل، ومكّن لدعوته الناشئة في الأرض.. وإلى أن يشاء الله.. ولكن يبقى لمعركة عين جالوت ثقلها وأهميتها وخصوصيتها.. ذلك أنها جاءت وظلام الإعصار الوثني المتحالف مع الصليبية يكاد يطبق على نور التوحيد ويطمس على ألقه.. فردّت علىالقوة بالقوة، وقارعت سيف الشيطان بسيف الله، وعلمت الناس عموماً والناس خاصة، بالانتصار الباهر الذي حققته، كيف يكون الإيمان الجاد المعزز بالرؤية الواعية والتخطيط المدروس، قديراً على تحقيق المعجزات..

واليوم وقوى الضلال، المادية والصهيونية والاستعمارية الجديدة، تتجمع مرة أخرى في محاولة شرسة للاطباق على الإسلام عقيدة وشريعة وأمة وحضارة ودولاً..

فإن لم نتعلم من (عين جالوت) سوى حقيقة أنه بالإيمان والثقة والعزم والتصميم، يمكن أن نجابه المحنة ونتفوق عليها.. فكفى بذلك من كسب تمنحنا إياه مطالعاتنا الجادة في التاريخ.. وإنه قد آن الأوان لكي نتعلم من التاريخ..

مجلة الأمة، العدد التاسع، رمضان 1401 هـ

رد مع اقتباس
  #9  
قديم 15-04-2005, 11:02 PM
د.فالح العمره د.فالح العمره غير متصل
 
تاريخ التسجيل: Feb 2005
الدولة: في قلوب المحبين
المشاركات: 7,593
معدل تقييم المستوى: 27
د.فالح العمره is on a distinguished road

الزَّلاَّقة
معركة كسبها الإيمان وضيَّع ثمارها الخلاف
بقلم الدكتور: محمد عبد الحميد عيسى

--------------------------------------------------------------------------------

التاريخ ذاكرة الشعوب، وحاستها المنبهة، ومن ثَمَّ فهو أهم عوامل تحريك هذه الشعوب نحو غاياتها، والادراك الواعي بالتاريخ ليس عملية سهلة أو بسيطة، لكنه أقسى من آلام الميلاد نفسها إن لم يشكل هذا الادراك وهذا الوعي جديداً بكل ما يصاحبه من آلام ومن تمخضات.

وربما كان هذا هو السبب في سعي القوى الاستعمارية والعدائية عامة إلى التعتيم على تاريخ الأمة العربية الإسلامية، وإلى العمل على طمس هذا التاريخ وتزييفه، وليست غريبة تلك الأصوات الناعقة بقطع صلتنا بالماضي، بل ووصول بعضها إلى القول بإلقاء تراثنا في البحر ثم تمضي بعد ذلك.

أقول: إن هذه الأصواب –بنيّة أو بغير نية- إنما تخدم مصالح أعداء هذه الأمة حين توصي بإهمالها لتراثها، ومن ثم لتاريخها.

وأهمية التاريخ الحقيقية تكمن في دراسته واستيعابه لكي نتمكن، على ضور الإفادة من تجاربه من تصحيح الحاضر، والاستعداد للمستقبل.

ومعركة الزلاقة التي وقعت في شهر رجب من عام 479هـ الموافق أكتوبر من عام 1086م هي درس التاريخ الذي لا يُنسى، وإنما يدق بقوة على أفئدة وعقول أمتنا العربية الإسلامية لكي ينبهها إلى أن النصر والغلبة ليسا بحاجة إلى كثرة العدد والعدة فحسب، وإنما يجب أن يسبقهما الإيمانُ الكامل بالمبدأ، والاستعداد للتضحية من أجله، ومن ثَمَّ إذا ما توافر عنصر الإيمان واليقين والأخذ بالأسباب، فإن نصر الله قادم لا محالة.. بل هو رهن المؤمنين، فهو القائل عز وجل: )وكان حقاً علينا نصرُ المؤمنين(.

ولنستعرض معاً أيها القارئ الكريم قصةَ تلك المعركة وظروفها وتطوراتها والنتائج المترتبة عليها..

أحوال المسلمين قبل الزلاقة

شهد القرن الرابع الهجري، العاشر الميلادي، قمة التقدم الحضاري والسياسي في بلاد الأندلس، وأضحت قرطبة عروس الغرب، وحكامها خلفاء بني أمية يتمتعون بمكانة عالية، سياسياً وعسكرياً وحضارياً، ولم يدر بخلد أحد أن هذا الصراع الذي تسامى عالياً على عهد المنصور بن أبي عامر كان يحمل في طياته عوامل هدمه وفنائه، فما أن مات المنصور، ومن بعده ابنه عبد الملك، حتى ثار القرطبيون على عبد الرحمن بن المنصور، وبدأت سلسلة من الأحداث الدامية أدَّت في النهاية إلى تمزق هذه الدولة تمزقاً يؤلم الصدور، وقامت في جوانبها خلافات وممالك وسلطنات لا حول لها ولا قوة، بل إن قواها قد وجهت ضد بعضها بعضاً حتى أنهكت القوى واضمحلت الأندلس كما يقول الأستاذ محمد عبد الله عنان: »الصرح الشامخ، الذي انهارت أسسه وتصدع بنيانه، وقد انتقضت أطرافها، وتناثرت أشلاؤها، وتعددت الرياسات في أنحائها، لا تربطها رابطة، ولا تجمع كلمتها مصلحة مشتركة، لكن تفرق بينها، بل على العكس منافسات وأطماع شخصية وضيعة، وحروب أهلية صغيرة تضطرم بينها«.

وفي كل ناحية من نواحي الأندلس، قامت دويلة أو مملكة هشة، اتخذ أصحابها ألقاب الخلافة ورسوم الممالك، دون أن يكون لهم من ذلك حقيقته أو معناه، وقال الشاعر واصفاً هذه الحالة المؤسفة:

أسماء معتضد فيها ومعتمدِ
مما يزهدني في أرض أندلس
كالهرِّ يحكي انتفاخاً صورة الأسدِ
ألقابُ مملكة في غير موضعها


وكان تمزق الأندلس على هذا الشكل المأساوي ضرب لكيان الدولة الإسلامية لم تفق منها أبداً، بل إنها كانت البداية الحقيقية لانحلال الدولة الإسلامية رغم ما انتابها في بعض الأحيان من صحوات ويقظة مدت في عمرها هنا مئات الأعوام.

واكب هذا الضعف الأندلسي تولي الملك ألفونسو السادس عرش قشتالة، الذي عمل جهده للاستفادة من هذا التدهور الذي أحاط بالدولة الإسلامية هناك، فبدأ باستغلال الصراع الدائر بين هذه الممالك، وأخذ يضرب بعضها ببعض، ويفرض عليها الأتاوات والغرامات حتى يستنفد طاقتها، ومن ثم تسقط في يده كالثمرة الناضجة.

سقوط طليلطة

مدينة طليطلة، من أهم المدن الأندلسية، تتوسط شبه الجزيرة تقريباً، وكانت عاصمة القوط قبل الفتح الإسلامي لشبه الجزيرة، ومن هنا كانت أهميتها البالغة، وبالتالي أصبحت مطمعاً لآمال ألفونسو السادس، وخاصة أن حال المدينة كانت سيئة جداً على عهد ملوكها من الطوائف.. وهم أسرة ذي النون.

دبر ألفونسو خطته لغزو المدينة، وأرهب ملوك الطوائف الآخرين وتوعدهم إن قاموا بإنجادها، وحاصرها حتى اضطرها إلى التسليم، ومما يؤسف له وجود قوات ابن عباد ملك أشبيلية ضمن قوات الملك الإسباني، وضد المدينة التي حاولت الصمود أمام مصيرها المؤلم في خريف سنة 477 هـ/1085م.

وسقطت طليطلة بأيدي ألفونسو السادس، ونقل إليها عاصمة ملكه واستتبع سقوطها استيلاءُ الإسبان على سائر أراضي مملكة طليطلة، واستشعر الشاعر فداحة المأساة فهتف يقول:

فما البقاء بها إلا من الغلط
حثوا رواحلكم يا أهل أندلس
ثوبَ الجزيرةِ منسلاً من الوسطِ
الثوب ينسل من أطرافه وأرى

كيف الحياة مع الحيَّاتِ في سفطِ
مَن جاورَ الشَّرَّ لا يأمنُ عواقبَه


لقد كان أسوأ ما في مأساة طليطلة أن ملوك الطوائف المسلمين لم يهبوا لنجدتها أو مساعدتها، بل على العكس، لقد وقفوا موقفاً مخزياً، فاغرين أفواههم جبناً وغفلة وتفاهةً. بل إن عدداً منهم كان ترتمي على أعتاب ألفونسو السادس، طالباً عونه، أو عارضاً له الخضوع.. حتى قيل فيهم:

دوائرُ السوءِ لا تُبقي ولا تذر[1]
أرى الملوكَ أصابتهم بأندلس

وأطمع ذلك الملك ألفونسو السادس بباقي ممالك الطوائف، وانتشت أحلامه بالقضاء عليها الواحدة بعد الأخرى، وتجبر عليهم، وعلا وطغى.. فقام بنقض عهوده التي كان قد قطعها لأهل طليطلة، وحول مسجد طليطلة إلى كنيسة بقوة السلاح، وحطم المحراب ليقام الهيكل مكانه، ويقول ابن بسام في »الذخيرة«:

»وعتا الطاغية أوفونش –ألفونسو- قصمه الله، لحين استقراره بطليطلة واستكبر وأخلّ بملوك الطوائف بالجزيرة وقصر، وأخذ يتجنى ويتعتب، وطفق يتشوق إلى انتزاع سلطانهم والفراغ من شأنهم ويتسبب، ورأى أنهم قد وقفوا دون مداه، ودخلوا بأجمعهم تحت عصاه«.

وبدأ ألفونسو في تنفيذ خططه بالإيغال في إذلال الطوائف، وخاصة المعتمد بن عباد أكبر ملوك الطوائف وأشدهم بأساً، حيث أراد أن يمعن في إذلاله كأقوى أمراء الطوائف، فأرسل إليه رسالة يطلب فيها السماح لزوجته بالوضع في جامع قرطبة وفق تعليمات القسيسين، وقد أثارت هذه الرسالة ابن عباد حتى قيل: إنه قد قتل رسل الملك القشتالي وصلبهم على جدران قرطبة، مما أثار غضب ألفونسو السادس وصمم على الانتقام، وبدأت جيوشه في انتساف الأرض في بسائط إشبيلية وفي الأراضي الإسلامية.

الاستنجاد بالمرابطين

تعالت الأصوات في الأندلس تطالب بالارتفاع فوق الخلافات الشخصية، وتناسي المصالح الذاتية، والاستنجاد بالمرابطين الذين نمت قوتهم في ذلك الوقت على الضفة الأخرى من البحر المتوسط.

قام أبو الوليد الباجي وغيره من فقهاء الأندلس بالدعوة إلى التوحد، وضرورة الاستعانة بإخوة الإسلام الأفارقة من المرابطين، ولقيت الدعوة صدى عند أمراء الأندلس بسبب ازدياد عنف ألفونسو، ورغم كل التحذيرات التي وجهت إلى المعتمد بن عباد، وتخويفه من طمع المرابطين في بلاد الأندلس، إلا أن النخوة الإسلامية قد استيقظت في نفسه، فأصر على الاستنجاد بالمرابطين، وقال قولته التي سارت مثلاً في التاريخ: »لأن أكون راعي جمال في صحراء أفريقية خير من أن أكون راعي خنازير في بيداء قشتالة«.

وتقول بعض الروايات أن ألفونسو قد وصل في بعض حملاته إلى الضفة الأخرى من الوادي الكبير لأشبيلية. وأرسل رسالة سخرية إلى المعتمد بن عباد يقول فيها: »لقد ألمّ بي ذبابكم بعد أن طال مقامي قبالتكم، واشتد الحر، فهلا أتحفتني من قصرك بمروحة أروح بها عن نفسي وأبعد الذباب عن وجهي؟« وردّ ابن عباد على الرسالة بقوله: »قرأتُ كتابك، وأدركت خيلاءك وإعجابك، وسأبعث إليك بمراوح من الجلود المطلية، تريح منك لا تروح عليك«. ويقال إنه كان يقصد بذلك الجيوش المرابطية، ودعوتها إلى الأندلس.

عبور المرابطين

بدأت الجيوش المرابطية العبور من سبتة إلى الجزيرة الخضراء، ثم عبر أميرهم يوسف بن تاشفين في يوم الخميس منتصف ربيع الأول 479هـ/.3 يونية 1086م، ثم تحركت العساكر إلى أشبيبلة، وعلى رأسهم ابن تاشفين، ونزل بظاهرها، وخرج المعتمد وجماعته من الفرسان لتلقيه، وتعانقا، ودعوَا اللهَ أن يجعل جهادهما خالصاً لوجهه الكريم.

استقر الجيش أياماً في أشبيبلة للراحة، ثم اتجه إلى بطليوس في الوقت الذي تقاطرت فيه ملوك الطوائف بقواتهم وجيوشهم.

سار هذا الموكب من الجيش الإسلامي إلى موضع سهل من عمل بطليوس وأحوازها، ويسمى في المصادر الإسلامية بالزلاقة على مقربة من بطليوس.

معركة الزلاقة

لم تكن أعين الملك القشتالي غافلة عن تحرك الجيوش الإسلامية، ولذلك رفع حصاره عن مدينة سرقسطة الإسلامية، وكاتبَ أمراء النصرانية في باقي أنحاء إسبانيا وجنوبي فرنسا يدعوهم لمساعدته، وقدم إلى أحواز بطليوس في جيش كثيف، يقال بأنه حين نظر إليه همس: بهؤلاء أقاتل الجن والإنس وملائكة السماء.

اختلفت الآراء حول عدد الجيشين، لكنها اتفقت جميعها على تفوق ألفونسو السادس في عدد جيشه وعدته، وكانت كل الظروف في صالحه.

جرت الاستعدادات في المعسكرين بكل أشكالها، وبالبحث على الحرب والصبر فيها، وقام الأساقفة والرهبان بدورهم، كما بذل الفقهاء والعباد كل جهودهم.

حاول ألفونسو خديعة المسلمين، فكتب إليهم يوم الخميس يخبرهم أن تكون المعركة يوم الإثنين، لأن الجمعة هو يوم المسلمين، والسبت هو يوم اليهود، والأحد يوم النصارى.

أدرك ابن عباد أن ذلك خدعة، وفعلاً جاءت الأخبار بالاستعداد الجاري في معسكر النصارى، فاتخذ المسلمون الحذر، وبات الناس ليلتهم على أهبة واحتراس بجميع المحلات، خائفين من كيد العدو. وبعد مضي جزء من الليل انتبه الفقيه الناسك أبو العباس أحمد بن رميلة القرطبي، وكان في محلة ابن عباد، فرحاً مسروراً، يقول: إنه رأى النبيَّ [صلى الله عليه وسلم]، فبشره بالفتح والشهادة له في صبيحة غد، وتأهب ودعا، ودهن رأسه وتطيَّب.

فلما كان صباح الجمعة الثاني عشر من رجب سنة 479 هـ زحف ألفونسو بجيشه علىالمسلمين، ودارت معركة حامية، ازداد وطيسُها، وتحمَّل جنودُ الأندلس [من المسلمين] الصدمة الأولى، وأظهر ابنُ عباد بطولة رائعة، وجرح في المعركة، واختل جيش المسلمين، واهتزّت صفوفه، وكادت تحيق به الهزيمة، وعندئذ دفع ابن تاشفين بجيوشه إلى أتون المعركة، ثم حمل بنفسه بالقوة الاحتياطية إلى المعسكر القشتالي فهاجمه بشدة، ثم اتجه صوبَ مؤخرته فأثخن فيه وأشعل النار، وهو على فرسه يرغب في الاستشهاد، وقرْعُ الطبول يدوي في الآفاق، قاتل المرابطون في صفوف متراصة ثابتة، مثل بقية أجنحة المعركة.

ما أن حل الغروب حتى اضطر الملك القشتالي، وقد أصيب في المعركة، إلى الانسحاب حفاظاً على حياته وحياة من بقي من جنده، وطُورِدَ الفارُّون في كل مكان حتى دخل الظلام، فأمر ابنُ تاشفين بالكفِّ. استمرت المعركة يوماً واحداً لا غير – وقد حطم اللهُ شوكة العدو الكافر، ونصرَ المسلمين، وأجزل لديهم نعمه، وأظهر بهم عنايته، وأجمل لديهم صنعه.

وتجمِع المصادر الإسبانية على أن الملك القشتالي ألفونسو السادس قد نجا بأعجوبة في حوالي خمسمائة فارس فحسب، من مجموع جيوشه الجرارة التي كان سيهزم بها الجن والإنس والملائكة.

سَرَتْ أنباء النصر المبين إلى جميع أنحاء الأندلس والمغرب، وسرى البشرُ بين الناس، وأصبح هذا اليوم مشهوداً من أيام الإسلام، لا على أرض شبه الجزيرة فحسب، وإنما على امتداد الأرض الإسلامية كلها، ونجح ذلك اليوم في أن يمدّ في عمر الإسلام والمسلمين على الأرض الإسبانية ما يقرب من أربعة قرون من الزمان.

نصر مبين.. ونتائج أقل..

يعلق يوسف أشباخ في كتابه: »تاريخ الأندلس على عهد المرابطين والموحدين« على موقعة الزلاقة بقوله:

إن يوسف بن تاشفين لو أراد استغلال انتصاره في موقعة الزلاقة، لربما كانت أوروبا الآن تدين بالإسلام، ولَدُرِّس القرآن في جامعات موسكو، وبرلين، ولندن، وباريس.

والحقيقة أن المؤرخين جميعاً يقفون حيارى أمام هذا الحدث التاريخي الهائل الذي وقع في سهل الزلاقة، ولم يتطور إلى أن تتقدم الجيوش الإسلامية لاسترداد طليطلة من أيدي النصاري، خاصة وأن الملك الإسباني كان قد فقد زهرة جيشه في هذه المعركة، ولا يختلف أحد في الرأي بأن الطريق كان مفتوحاً تماماً وممهداً لكي يقوم المرابطون والأندلسيون بهذه الخطوة.

إن ما حدث فعلاً هو عودة المرابطين إلى إفريقية، وعودة أمراء الأندلس إلى الصراع فيما بينهم، وكأن شيئاً لم يقع، وقد أعطى ذلك الفرصة مرة ثانية للملك ألفونسو السادس أن يستجمع قواه، ويضمد جراحه، ويعمل على الانتقام من الأندلسيين، وكان حقده شديداً على المعتمد ابن عباد، فعاد إلى مهاجمة بلاده، وركز غاراته على أشبيلية، وتمكم من الاستيلاء على حصن لبيط مما اضطر ابن عباد إلى العودة مرة ثانية إلى الاستنجاد بالمرابطين.

وذهب المرابطون للمرة الثانية إلى الأندلس، لكنهم في هذه المرة لم يجدوا مساعدة من معظم أمراء الطوائف المسلمين، حيث تغلبت عليهم شهواتهم وأهواؤهم الشخصية، وخلافاتهم الضيقة، مما اضطر أمير المسلمين أن يستفتي الفقهاء في خلعهم، وضم بلاد الأندلس إلى طاعة المرابطين، والعودة مرة ثالثة إلى الجهاد ضد الإسبان.

دروس مستفادة
ليس من نافلة القول بأن الانقسام ضعف والوحدة قوة، فممالك الطوائف في الأندلس شربت المرارة والمذلة في تفرقها، وأحست بالعزة والنصر في اتحادها.

ليس بالعدد والعدة فقد تكتسب المعارك، وإنما بالإيمان بالهدف والاعداد له، والتنبه للخصم، والارتفاع إلى مستوى الأحداث.

قد يكون إحراز النصر شاقاً ومضنياً، لكن الأكثر عسراً وإجهاداً هو استغلال هذا النصر، وتطويعه لصالح الإسلامي والمسلمين.

وهذا هو درس التاريخ.


--------------------------------------------------------------------------------

[1] ألا تذكرك هذه المواقف بحاضرنا هذه الأيام.. رمضان (1422هـ/2001م)؟

رد مع اقتباس
  #10  
قديم 15-04-2005, 11:04 PM
د.فالح العمره د.فالح العمره غير متصل
 
تاريخ التسجيل: Feb 2005
الدولة: في قلوب المحبين
المشاركات: 7,593
معدل تقييم المستوى: 27
د.فالح العمره is on a distinguished road

مجابهة الأفغان في القرن التاسع عشر


--------------------------------------------------------------------------------

في هذا المقال يقوم بروس كولينز Bruce Collins بدراسة الصفات المميزة للنشاط البريطاني في أفغانستان إبان حكم الملكة فيكتوريا، وهذه الصفات هي: روح المغامرة، وإنزال الكارثة بالشعب الأفغاني، والانتقام المميت.


--------------------------------------------------------------------------------

إن أحد الأفكار التاريخية السائدة من القرن التاسع عشر هو السلام البريطاني. فقد ساد السلام الطويل الأمد الذي امتد من عام 1815 إلى عام 1914 – مع توقف هذا السلام مرة واحدة خلال اندلاع حرب كريمان في أواسط عام 1850- روح أواصر العلاقات البريطانية مع قوى البلدان الأوروبية الرئيسية. أما بالنسبة للبلاد غير الأوروبية فقد شهدت في تلك الفترة سلسلة تدخلات بريطانية عسكرية وبحرية لايمكن الصفح عنها، اذ امتدت إلى كل جزء من أجزاء العالم. وقد أكد الجنرالات البريطانيون وقادة البحرية أن هذه التدخلات كانت ناجحة في معظم أرجاء العالم، أو على الأقل كان يبدو عليها سمة الانتصار. كانت الخبرة العسكرية البريطانية لها طابع خاص. اذ تتطلب التدخل الأول الذي حدث بدءا من عام 1838 إلى 1842 إظهار درجة عالية من الكفاءة لإدارة هذا التدخل ومن أجل إحراز النجاح الباهر، في حين أثبت التدخل الذي حدث منذ عام 1878 إلى عام 1881 أنه مكلف، على الرغم من إنجازه للهدف المنشود في نهاية الأمر. وفي كلتا المناسبتين تم الثأر للهزائم العسكرية التي حدثت، إلا أن إدارة السياسة في أفغانستان بقيت صعبة للغاية.

في عام 1837، قدم رئيس أركان الجيش البنغالي السير هنري فين Henry Fane تحليلاً رسميا مفاده أن الحدود الغربية والشمالية الغربية للهند البريطانية كانت آمنة بشكل تام ، وتغطي الصحراء الهندية الكبرى أو صحراء الثار جزءً منها ابتداء من البحر إلى فيروزبور Firuzpur على نهر سوتليج Sutlej. وتقف جبال الهيمالايا التي لايمكن اختراقها في نهاية الطرف الآخر. أما الجهة الوحيدة المكشوفة لتلك الجبال فهي تمتد على مسافة 120 ميلاً ابتداء من فيروزبور وحتى أعالي نهر سوتليج.

وعلى الرغم من صعوبة انقضاء عقد من القرن التاسع عشر دون حدوث بعض الحملات على الحدود التي كان لها تأثير على الجهات المتاخمة للهند البريطانية، إلا أن حاميات الحدود المنيعة قد ضمنت الأمان لهذه الحدود وأدت إلى تحسين قنوات الاتصال للقواعد الرئيسية للهند البريطانية وعملت على إقامة علاقة ودية مع البنجاب عبر نهر سوتليج، إلا أن هذا الانطباع قد تلاشى في غضون سنة.

لقد نشأ التدخل البريطاني في أفغانستان من جراء المخاوف البريطانية المتزايدة من الأطماع الروسية في آسيا الوسطى، فقد قامت روسيا خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر بالتوسع السريع لإمبراطوريتها في آسيا الوسطى، وبحلول عام 1830 قامت روسيا بالاستيلاء على أورال سك و تورغي وأجزاء من أكمولنسك. وقبيل حلول عام 1878 تجاوز الروس في استيلائهم على الأراضي ووصلوا إلى جنوب تركستان حيث استولوا على سمرقند وبخارى وسيميرشي. لقد كان تهديد النفوذ الروسي في آسيا الوسطى وما يمكن أن يكون له من تأثير على الرأي السياسي الهندي من ضمن المخاوف البريطانية الرئيسية. إذ قامت بريطانيا بإحكام إغلاق الهند بشكل فعال لمنع أي تغلغل بحري من قبل الخصوم الأجانب، ولكن هل من الممكن أن تكون الحدود الشمالية الغربية عرضة لأحداث من المحتمل أن تشجع الأمراء الهنود على تحدي الحكم البريطاني؟ أدرك معظم صناع السياسة أنه مهما أنجز خلال التطورات التجارية والتأسيسية، ومن خلال التحسينات الإنسانية والتعليمية والدينية، أن الحكم البريطاني اعتمد بصورة كلية على القوة العسكرية. لقد تنامى الاستياء إزاء الحكم البريطاني تحت حكم الراجا. وقررت الحكومة في الهند أن بذل روسيا لأي جهد سياسي في أفغانستان يشكل تهديدا غير مباشر حيال وحدة الدولة الإنجليزية-الهندية.

لقد تطلبت عملية إذعان الحكام الهنود للحكم البريطاني-ابتداء من أواخر القرن الثامن عشر وما بعده- وكذلك تحويلهم إلى رعايا أرستقراطيين،تطلب اللجوء إلى عمليتي القسر وشن الحرب للقيام بذلك. وعلاوة على هذا، يعتقد البريطانيون أنهم يمكنهم – وبشكل متكرر- إعادة تعيين الحكام الآسيويين بكل سهولة. فقد حاولوا التدخل بالشؤون الأفغانية وهم يجهلون تجاهلا نسبيا أحوال الأفغان. وقد أجري في عام 1830 أول اتصال بريطاني شبه رسمي بالمدن الأفغانية الشرقية الرئيسية. ففي مطلع القرن التاسع عشر تركزت الاهتمامات الدبلوماسية على العلاقات الفارسية مع منطقة الحدود الغربية. وفي عام 1838 بدا واضحاً أن أمير أفغانستان دوست محمد يتلاعب بفكرة الانحياز إلى روسيا، فقررت بريطانيا حينئذ إبداله. وكان في مخيلتهم الأمير الأفغاني العجوز السابق شجاع الملك الذي أمضى ثلاثين عاماً منفياً في الهند. وكانت الإمبراطورية الأفغانية خلال القرن الثامن عشر قد تكونت من كبار الأسياد الرئيسيين. وكانت حركة تطور الاقتصاد ضعيفة للغاية، وتميزت تلك الفترة بوضع تجاري محدد نسبياً، إذ غالباً ما كان الحكام الأفغانيون يعتمدون على الغارات العسكرية التي يشنونها على الأراضي المجاورة وبالأخص الأراضي الواقعة شمال غرب الهند وذلك من أجل الحصول على غنائم عينية جاهزة من خلال عمليات السلب المنتظمة. وفي بداية القرن التاسع عشر نشأت منافسة حادة حول السلطة بين عشيرتين متنازعتين وهما سودسي و ركوزي اللتان تنحدران من قبيلة الدورانية[1] التي كان أميرها أحمد شاه. وقد ادعى العشرات من الحكام المتخاصمين من أتباع كلتا العشيرتين الحق لتولي السلطة. وقد استطاع اشجاع الملك أن يضع يده على الحكم وذلك عندما قام بالإغارة على بلده في عام 1834، إلا أنه هزم في معركة بالقرب من قندهار من قبل دوست محمد.

كان الحاكم العام اللورد أوكلاند يرى بأنه يمكن تغيير الحكم بسهولة في كابل، فلا شيء يخيف من القيام بذلك.

وقد افترض البريطانيون خطأ بأن وجود حليف محلي يمكن أن يكون بمثابة المساعد لهم لدى القيام بأي عمل عسكري قد ينشأ من جراء تدخلهم. وخلال صيف عام 1838 كان متوقعاً من حاكم البنجاب السيخي رانجيت سنج أن يقدم دعماً كبيراً للقوات التي ستدخل إلى أفغانستان ، إلا أن رانجيت رفض المشاركة في تقديم الدعم. وبدلاً من أن تزود بريطانيا الجيش السيخي بـ 5000 جندي كمساعدة لهم، وجدت نفسها أنها ملزمة بإرسال 1400 جندي من الهند البريطانية نفسها.

وعوضا عن عبور نهر سوتلج ومن ثم البنجاب والتوجه إلى كابل من بيشاور من خلال ممر خيبر، أجبِرت القوات البريطانية إلى سلوك طريق غير مباشر إلى قندهار. وللبدء في القيام بالحملة في ديسمبر عام 1838، قامت القوات البريطانية الرئيسية، والتي كانت مرابطة في فيروزبور، بقطع مسافة 1000 ميل وذلك في مدة 135 يوماً، ولم تحدث أية معارك في طريقهم إلى قندهار، إلا أن القوات كانت تصارع أوضاع الصحراء القاسية ،ومعابر الجبال الوعرة، ونقص الطعام، والحرارة الشديدة والماء الذي تعمِّد تلويثه، وكذلك التهديد المستمر لغارات رجال القبائل الجبلية. وقد تحدث أحد الضباط عن الحرارة والغبار، ورياح الصحراء، وأسراب الذباب الكبيرة والرائحة النتنة للبعير النافقة. كانت رائحة المعسكر تماثل رائحة المقبرة، فلا يستطيع أحد أن يمشي ثلاث خطوات داخل المعسكر دون أن يرى رجلا ميتاً أو حيواناً نافقاً أو على وشك الهلاك.

ولدى وصولها إلى قندهار أمضت القوات البريطانية حوالي شهرين، وذلك بالتعاون مع قوات شجاع الملك، بالإضافة إلى حوالي 38000 من أتباع المعسكر والخدم، محاولةً استجماع قواتها أثناء حشد الإمدادات العسكرية. وقد جرى تنصيب شجاع الملك كأمير. وكانت المرحلة التالية عبارة عن التوجه من قندهار إلى كابل لمسافة قدرها 310 أميال. وقد جرت في الطريق المعركة الوحيدة للحملة العسكرية التي دامت ثمانية أشهر، وذلك في المدينة المحصنة غزنة. وقد استمرت المعركة أكثر من ساعة بقليل. وكان لزاما على البريطانيين الذين لم يجلبوا معهم أسلحة ثقيلة أثناء زحفهم عبر الوادي الرئيسي لشرق أفغانستان، أن يشقوا طريقهم إلى غزنة عن طريق القيام بهجوم جريء حدث في الفجر. ثم قاموا بتفجير إحدى بوابات المدينة بواسطة 300 ليبرة من مسحوق الرصاص، وبعد ذلك أرسل فريق هجومي مؤلف من عدد قليل من فرقة المشاة الأوروبية . وقد حصل هذا الفريق على الدعم اللازم في الوقت المناسب. وكما هو الحال في مسألة الحملات الاستعمارية، فقد اعتمد نجاح العملية على السرعة والجرأة وارتجالية وتحمل المخاطر الكبيرة للأقلية المميزة في القوات الموجودة.

وفي نهاية عام 1839 كانت بريطانيا واثقة بأن أهدافها السياسية قد تحققت، فقد نصب شجاع الملك أميراً للبلاد وهرب دوست محمد، وانسحبت قوات الحملة، إلا أنه بقي وجود بريطاني هام فيها. ومع ذلك تزايدت صعوبة تحدي إيجاد وإبقاء حكم مستقر في أفغانستان. فزعماء القبائل المستقلون لم يقبلوا بحكم شجاع الملك. وقد أدى حماس الناصحين البريطانيين، بشأن القيام بإصلاحات إدارية وسياسية، إلى حدوث تغييرات في زيادة الإيرادات والامتيازات و النفوذ الممنوحة للزعماء المحليين في كابل، وأدى هذا إلى إثارة المعارضة. وبحلول شهر أيار/مايو من عام 1841، نشرت بريطانيا ستة عشر ألف جندي في أفغانستان وفي الطرق المؤدية إليها مباشرة، كما نشرت تسعة آلاف جندي في الطريق الممتد من كراتشي إلى كويتا. وازدادت حدة العداء حيث امتعض الزعماء المحليون من شن الغارات البريطانية على الوديان المستقلة، حيث ساهمت تلك الغارات في القضاء على المحاصيل الزراعية ومهاجمة الحصون الصغيرة. وامتعض الزعماء المحليون كذلك من الانتشار الواسع للقوات الهندية في بلد مسلم، لا سيما أن الأفغان كانوا بمثابة الوسيط بشأن مصير هندوستان في القرن الثامن عشر.

كذلك برز مزيد من النزاعات نتيجة الزيادة الحادة في أسعار السلع الأساسية و وجود أعداد كبيرة من الجيوش الأجنبية، ورغبتها في شراء البضائع. وقد أدت الإصلاحات في تنظيم الجيش الأفغاني إلى تخفيض هائل في نسبة المدفوعات السنوية التي تقدم إلى قبائل غيلزاي المسيطرة على الطريق ما بين جلال آباد وكابل. فكانت ردة فعل هذه القبائل أن قامت بمهاجمة قافلة كبيرة كانت متجهة من جلال آباد إلى كابل وذلك في أكتوبر عام 1841. وقد حدث هذا الهجوم عندما كان البريطانيون يخططون للانسحاب الرئيسي. وخلال فصل الخريف، قاد اللواء السير روبرت سيل Robert Sale قائد جبهة القتال في غزنة في السنتين الأخيرتين الفريق العسكري البريطاني متجهاً من كابل إلى جلال آباد حيث مكان المعارضة، لفتح الطريق المباشر للانسحاب. إلا أن البريطانيين في مطلع شهر تشرين الثاني/نوفمبر من عام 1841 فقدوا السيطرة على سير الأحداث في كابل. فقد هاجمت جماعة من الغوغائيين المقيم البريطاني السير الكسندر بيرنز Alexander Burnes وأردته قتيلاً. ثم قامت القوات القبلية المجندة بالاستيلاء على حصن المفوضية. وخلال تردد البريطانيين في ردة فعلهم إزاء هذا الهجوم ، انضم عدد من زعماء القبائل إلى التمرد.ووصل الأمير المخلوع محمد أكبر نجل دوست محمد إلى العاصمة وتولى قيادة فرق التمرد. وحاول المبعوث البريطاني المتقاعد السير وليام ماكنوغتين William Macnaughten إجراء مفاوضات تسوية معه إلا أنه قتل وقطعت أوصاله في الثالث والعشرين من شهر كانون الأول/ديسمبر. وإزاء هذا الاضطراب المتزايد، توصل القائد البريطاني اللواء وليام إيلفنستون William Elphinstone إلى عقد اتفاق مع ثمانية عشر زعيم قبيلة أفغانية بارزين، ونصت هذه الاتفاقية على أن يضمن زعماء القبائل سلامة الحاميات البريطانية. وفي السادس عشر من شهر كانون الثاني/يناير عام 1842، غادرت كابل القوات البريطانية المؤلفة من 4500 جندي معظمهم من الجنود الهنود (السباهيين)[2] الذين كانوا يخدمون في الجيش البريطاني، ومعهم كذلك أكثر من 12000 من الموالين والخدم وأتباع المعسكر، وقام روبرت سيل وقتئذ بتأسيس موقع دفاعي في جلال آباد عبر الطريق المؤدي إلى البنجاب.

إن الانسحاب البريطاني من كابل إلى جلال آباد قد أدى إلى وقوعهم في أسوء نكسة مرعبة في تاريخ حروب الإمبراطورية البريطانية. وخلال أيام عديدة دق ناقوس الخطر على القوات المنسحبة بسبب شدة البرد، الذي كان مهلكاً ومميتاً، و نفاذ الطعام والمؤن ،وكذلك بسبب كمائن رجال القبائل المسيطرة على أعالي الممرات الجبلية الصخرية الضيقة. وقد أدت الإصابة بالعمى الثلجي وقضمة الصقيع إلى عدم مقدرة المقاتلين من استخدام أسلحتهم، وأخذ الجوع ينخر بجميع القوات. وفي صبيحة اليوم الخامس ازداد عدد الجنود الذين كان بإمكانهم الحركة إلى عشر العدد الأصلي للجنود وهو 4500 جندي. وفي اليوم الثاني عشر من شهر كانون الثاني/يناير، هاجم الأفغان بقوة عدداً قليلاً من الجنود البريطانيين في ممر جاكدولاك واستطاعوا في اليوم التالي من خلال نصب كمين القيام بعملية مزعجة في ممر كوندامك. وتم سجن الكثير من البريطانيين، أما البقية فقد قتلوا ومن ضمنهم 18 ضابطاً.. وكان من بين الذين نجوا من هذه المحنة من القوة الرئيسية أوروبي واحد نفذ بجلده وهو الطبيب الجراح وليام برايدون William Braydon الذي وصل إلى جلال آباد وهو يعرج، وذلك في الثالث عشر من كانون الثاني/يناير. وقام [الجنود] في حامية سيل بالنفخ بالبوق طوال تلك الليلة معلنين ضرورة الحضور إلى الحامية آملين من وراء ذلك أن يأتي الناجون إليها، إلا أنه لم يأت أحد، ولم يعرف بالتحديد عدد الذين قتلوا ، إلا أن عددا كبيرا من قوات الحامية وأتباعها قد هلكوا. فالبعض منهم كان على قيد الحياة لفراره أو لأنه أصبح سجيناً. ولربما تجاوزت حصيلة المفقودين أكثر من اثني عشر ألف جندي.

وعلى الرغم من الكارثة الإنسانية المروعة التي حلت بالبريطانيين، إلا أنهم استطاعوا الحفاظ على بعض القوى العسكرية الرئيسية. فقد بقيت قوة قوامها سبعة آلاف وخمسمائة جندي في قندهار ( وهو عدد فاق كثيرا عدد الجنود المفقودين خلال الانسحاب من كابل). وقد وصلت إمدادات عسكرية ضخمة إلى بيشاور في مملكة السيخ وذلك في مطلع شهر فبراير 1842. وقد صمدت قوات الحامية سيل في جلال آباد ونجت من كارثة نقص الغذاء ومن هجمات الأفغان إلى أن وصلت قوات بيشاور للإغاثة- التي قدمت عبر ممر خيبر – للبلدة في 16 نيسان/أبريل ومعها 15 ألف جندي بريطاني.

إن الدفاع عن جلال آباد قدم رمزاً بطولياً للمرونة والمقاومة البريطانية، وكان بمثابة المقاومة الأساسية إزاء عدم الكفاءة العسكرية التي أدت إلى دمار كابل. كما أنها عملت على إيجاد الدافع إلى إرسال حملة تأديبية إلى عاصمة أفغانستان. فقد انتشرت قوات بريطانية من جلال آباد إلى الأودية المجاورة لمعاقبة القبائل المحلية. وقام البريطانيون بهدم القلاع، وحرق القرى، واقتلاع جذور الأشجار (التي هي عنصر هام للاتقاء من حرارة الصيف الشديدة )، حتى تذبل الأشجار وتموت. وجرى تبرير هذا الفعل البريطاني بأنه رد على دهاء الشعب الأفغاني. وقد كتب فيما بعد ضابط يدعى توماس سياتون أن: »كل جريمة، وكل خطيئة يمكن أن تقترفها الطبيعة الإنسانية هي أمر مألوف وواضح وضوح الشمس في أفغانستان«.

* * *

كان البريطانيون ملزمين بالانسحاب من أفغانستان سياسياً واستراتيجياً، إلا أنهم الآن يأخذون بعين الاعتبار عدة مقاييس عسكرية لمعاقبة الأفغان. وهذا ما كتبه دوق ولنغتن Duke of Willington –وهو عضو في مجلس الوزراء- إلى الحاكم العام وذلك في 30 آذار/مارس عام 1842 قائلاً: »من المستحيل أن نطبع في نفوسكم بشدة فكرة استعادة سمعتنا في الشرق«.

لقد تم إعادة الاعتبار لبريطانيا بعدة طرق مختلفة. فقد توجهت قوات الحامية في قندهار إلى كابل، وتقدم عدد كبير من القوات في جلال آباد غرباً لملاقاة قوات الحامية. وصل الجيشان إلى العاصمة في 16-17 من أيلول/سبتمبر عام 1842 وأجريا مفاوضات لإطلاق سراح 95 سجيناً بريطانياً. وقامت هذه القوات بعد ذلك رسمياً بنسف الساحات الأربع الكبيرة أو الأسواق في مركز المدينة. وأخذ البريطانيون يكررون عملية الهدم الرسمي للأبنية الرئيسية ويطبقونها كلما أرادوا إثبات قوتهم، بحجة أنه لم يكن لديهم الوقت الكافي للقيام بذلك.

قام الحاكم العام اللورد إيلنبورو Ellenborough في منتصف شهر ‏كانون الأول/‏‏ديسمبر بإجراء عرض رسمي ضخم في فيروزبور وذلك للترحيب بعودة القوات إلى الهند البريطانية. وكان قد تجمع حوالي 25000 جندي إضافي على هيئة صف للترحيب بهم، وقد بلغ طول هذا الصف ميلين ونصف، وكانت الفرق والمآدب التي أقيمت والحفلات الراقصة وطلقات الترحيب كلها تنادي بالنصر ونهاية الحملة وليس بالانسحاب والفشل. وقد أعاد البريطانيون بوابات سومنوث إلى الهند، بعد أن استيلاء الأفغان عليها منذ وقت طويل، وذلك بإقامة حفل مهيب سار عبر شمال وسط الهند. وقد انتقد العديد من المعلقين البريطانيين هذا النصر الفارغ، إلا أن هذا النصر شكل عنصراً رئيسياً لسياسة ايلنبورو في إعادة بناء الثقة في الجيش الهندي.

انتهز البريطانيون الفرصة أخيرا في عدم الاستقرار السياسي والتنافس القبلي في منطقة السند حيث فتحوها وجرى ضمها إلى جنوب وجنوب شرق أفغانستان وذلك في مطلع عام 1843. وقد أشار ايلنبورو لدى اتخاذه القرار بتولي السلطة في مارس عام 1843 قائلاً: »ينبغي علينا استعادة سمعتنا التي فقدناها في الهند، وذلك عن طريق الاستيلاء على الأقاليم، وزيادة عملية الإصلاح التي ينبغي تطبيقها في إدارة المنطقة الجديدة«. وقد دفع أمراء السند الثمن باهظاً فيما يتعلق بالنكسات البريطانية في أفغانستان.

وبعد فترة الانسحاب التي تمت في عام 1842، أثبتت العلاقات البريطانية مع الأمير دوست محمد الذي أعيد إلى الحكم، أنها غير مرضية بشكل كبير. ومع ذلك فقد تغير الوضع في الإقليم الشمالي الغربي بأكمله لدى الاستيلاء البريطاني على البنجاب عام 1840. وكانت القوات البريطانية قادرة على السيطرة على البنجاب خلال فترة الاضطرابات الناتجة عن التمرد الهندي الذي حدث عام 1857. فلم يكن هناك أية تهديدات من أفغانستان ،إلا أنه في عام 1870 عادت من جديد المخاوف من التوسع الروسي، وازدادت حدة الاستياء من أمير كابل الجديد. فقد بلغت الصراعات الطويلة الأمد أوجها عام 1878، وتفاقمت بسبب صلابة الحاكم العام اللورد ليتون Lytton وعدم حذاقته السياسية، فنشأت حرب قصيرة ونتج عنها مكاسب دبلوماسية بريطانية وهو احتلال وادي كُرَم الواقع بين البنجاب وجبال أفغانستان، ونتج عن ذلك أيضا تنصيب ممثل دائم بريطاني في كابل.

وبالخضوع ظاهرياً إلى الضغوط البريطانية نجح حكم الأمير فقط في إثارة مشاعر الكره القبلي، وقام الجنود الأفغان المنشقون بحرق دار المقيمية البريطانية في أيلول/سبتمبر عام 1879 وقتلوا جميع من فيها ومن ضمنهم المبعوث البريطاني السير لويس كافاجنري Louis Cavagnari، وكان هناك وقتئذ عدد كاف من القوات البريطانية قريبة من موقع الحادث كي يعمدوا إلى اتخاذ رد فعل بريطاني سريع.

وعقب الهجوم بشهر تقريباً، توجه اللواء فردريك روبرت (الذي أطلق عليه فيما بعد اللورد روبرتس) إلى كابل. من الواضح أن اللورد ليتون قد رسم لروبرتس خطة بريطانيا. لقد وجد ليتون أنه من الأهمية بمكان إنزال عقاب عاجل لتحقيق النتائج المرجوة، وذلك قبل أن تلين المواقف السياسية البريطانية إزاء أفغانستان. فقد كان يود أن يلقن الأفغان درساً سريعاً ومؤثراً. وأكد ليتون أن جميع الشعب الأفغاني قد شارك في »جريمة عظيمة قومية، وأن أي أفغاني يقتل بيد القوة البريطانية المنتقمة فإنني سأعتبره وغداً وأقل منزلة في عالم النذالة«. وبينما كان الرأي العام البريطاني يطلب اتخاذ بعض الإجراءات القضائية، كان نائب الملك يشعر بأن هناك حاجة إلى اتخاذ إجراءات عاجلة و أشد قسوة. وقد استطاع روبرتس إنزال العقاب بالأفغان لدى وصوله إلى كابل وبشكل غير عادل. وقام البريطانيون في غضون الأربعة أسابيع التالية بإعدام حوالي 100 أفغاني، بغض النظر عما إذا كانوا قد شاركوا في الهجوم على دار المقيمية أم لا. وأشار ضابط كبير »إنهم يكرهوننا بكل معنى الكلمة ولا يهابون منا بشكل كاف«.

ومن أجل دعم ذلك الوجود العسكري الكبير خلال فصل الشتاء، أرسل روبرتس فرقاً كبيرة من الجنود للبحث عن الطعام في مناطق الريف المحيطة، وعندما واجهت تلك الفرق مقاومة، نشبت مصادمات كانت متوقعة في المنحدرات، وقد تم نهب المواد الغذائية وحرق القرى التي كانوا يدخلونها.وقد هاجمت القوات القبلية الموقع البريطاني خارج كابل في نهاية شهر كانون الأول/ديسمبر. ثم قامت بريطانيا في مطلع عام 1880 بتحويل أعداد كبيرة من قواتها المرابطة في بيشاور إلى كابل لتأمين خطوط الاتصال وبناء قاعدة هناك للمراقبة والتعزيزات.

وجد البريطانيون أنفسهم وسط تنافسات عنيفة بين القبائل والعشائر وداخل الأسرة الحاكمة. ففي أحد الصراعات المحلية حول السلطة بالقرب من قندهار، واجهت قوة بريطانية قوامها 2600 جندي الهزيمة في ميواند في شهر تموز/يوليو 1880، كما لحقت بالقوات البريطانية هزيمة نكراء ومخزية، إذ قتل أو جرح 43% من جنودها وهي نسبة عالية من الجرحى تفوق التصور. كان ذلك مشهداً تقليدياً لما حدث لقوة بريطانية صغيرة نسبياً والتي تعرضت إلى قوة خصم عظيمة من حيث عدد الجنود وسلاح المدفعية. وفي كثير من الأحيان تثبت المقولة القائلة بأن الإدارة البريطانية تفشل أمام النزاعات الكبيرة ،إذ تفتقر إلى تحمل المسؤولية. فعندما كان خصمهم مدججاً بالسلاح بشكل جيد-كما هو الحال بالنسبة للأفغان- لم يستطع البريطانيون التقدم بشكل ملموس أمام تلك الأعداد الكبيرة. بل على العكس من ذلك وكما حدث في ميواند كانوا قد تلقوا الهزيمة.

إلا أن البريطانيين كان يتوفر لديهم قوة بشرية كافية لتعويضهم عما فقدوه. إذ قاد روبرتس 10000 جندي كانوا على بعد 300 ميل من كابل إلى قندهار، ولدى وصوله إلى هناك هاجم جيشه الأفغان خارج قندهار وذلك في الأول من أيلول/سبتمبر من عام 1880، واستطاع روبرتس تفادي الأخطاء التي ارتكبت في ميواند، فقد كان يمتلك أسلحة تماثل أسلحة خصمه، وكذلك بالنسبة لعدد جنوده. ثم قام بردّ خصمه إلى الوراء وذلك على مراحل وبحركة جانبية موفقة. واستولت قواته على جميع أسلحة الأفغان. وقد أدت هذه الهزيمة إلى تقسيم الجيش الأفغاني إلى أقسام. إذ قامت القوات البريطانية النظامية بالعودة إلى شمال غرب المدينة وإلى قواعدها الأصلية في هراة. أما رجال القبائل المنشقون فقد لحقت بهم الهزيمة في ميدان المعركة وجرى تشتيتهم، إلا أنه لم يتم بالضرورة القضاء عليهم تماماً، فقد أشار بعض الخبراء العسكريين ومن ضمنهم روبيرتس أنه ينبغي احتلال قندهار وذلك من أجل استتباب الأمن للحكم الموالي لبريطانيا. وكان مجلس الوزراء قد رفض هذا المشروع والمناقشات من أجل القضاء على أفغانستان. وعقب حدوث عدد من المناوشات الرئيسية بين الأمراء المتنافسين في عام 1881، تم إيجاد حكم جديد في نهاية السنة وانسحب البريطانيون من المدينة. وقد احتاجت بريطانيا في أوج تدخلها إلى وجود ما يقرب 48000 جندي في مدن الهند البريطانية وفي خطوط الاتصالات، وقتل حوالي 10000 جندي وأصيب عدد منهم بالمرض.

ويبرز سؤال واضح وهو إلى أي مدى استطاع البريطانيون أن يتكيفوا بخبرتهم الحربية مع الحرب في الجبال؟. ففي عام 1841-1842 هاجم الأفغان بشدة القوات البريطانية المرابطة في أعالي التلال. وقام روبرتس خلال فترة 1878-1879 بضمان انتشار قوات على درجة عالية من الكفاءة استعداداً للتنقل من أجل تسلق قمم الجبال كي تستطيع إطلاق النار على المواقع الأفغانية، وكذلك ضمن انتشار تلك القوات في الطريق باتجاه الغرب من ممر خيبر وجلال آباد إلى كابل –وهو الطريق الذي تتحرك فيه القوات البريطانية والذي كان معظمه عرضة للمناوشات الجبلية- حيث كانت فيه الحراسة كاملة وتمت السيطرة عليه في 1879-1881. ولدى وصول البريطانيين إلى المدينتين الرئيسيتين قندهار و كابل شعروا أنهم في أمان لأن الأفغان لا يملكون أسلحة الحصار الثقيلة لنشرها في المواقع المحصنة جيداً. وقد بذل البريطانيون جهودا حثيثة للسيطرة على المناطق حول المدن الرئيسية. وكان الأسلوب الأفغاني في القتال في المناطق الخلفية المتاخمة قد سبب مشاكل للغزاة. وكانت حماية قراهم وأوديتهم من ضمن الأولويات لديهم، ومع ذلك استطاع البريطانيون التوغل بصعوبة إلى تلك الأودية العميقة والمقسمة، وذلك عن طريق نشر قواتهم. وأصر روبرتس على تزويد كتائب المشاة بستة عشر جندي مشاة ليكون هناك مجال للتحرك، إلا أن القدرة على التحرك السريع إلى أبعد حد بقي عائقاً بسبب مشاكل المواصلات.

وقد زادت الحرب الأفغانية الثانية من فكرة الالتزام العسكري ومن وجود التنافس العسكري بين البريطانيين (الاسكوتلانديين) ، وبين الهنود البريطانيين (السيخيين والغورسيين). وأراد روبرتس ضمان تحلي قوات الإغاثة- التي غادرت كابل متوجهة إلى قندهار في أغسطس عام 1880 – بالخبرة والالتزام. إن الأخذ بفكرة أنه ربما يكون الجنود الذين كانوا في الخدمة العسكرية الفعلية لفترة حوالي سنتين منهكين جعل روبرتس يستشير قواد الكتائب عن مدى استعداد رجالهم لخوض المعركة. وقد أفاد ثلاثة من القواد أن قواتهم قد لا تتحمل الإجهاد الذي يرافق عادة الحملة. ولرفع معنويات الجنود وعد روبرتس –الذي كان يأمل أن تنتهي الحملة سريعا- الجنودَ بالسماح لهم بالعودة فوراً إلى الهند بعد انتهاء القتال. وتم نقل هؤلاء الجنود الذين لم يعتادوا على الزحف العسكري، وحفظت المعدات بعناية فائقة. وأشار روبرتس أن القوات بحاجة إلى خبرات مَن تم نقلهم للنهوض بأعباء تحميل أمتعة الجيش على الحيوانات لأن السائقين أو المساعدين الأفغان قد تركوا البريطانيين في شهر آب/أغسطس أثناء الزحف من كابل إلى قندهار.

لقد كان قادة هذه القوات على دراية تامة بقوة وضعف تحمل كل فرد من أفراد قواتهم. إذ كانت تتمتع هذه القوات بخبرة عظيمة، ثم قامت بعد ذلك بالسفر في وضح النهار. وكعادة الحملات الإستعمارية، يتعمد البريطانيون إلى دمج الوحدات المتوفرة لديهم لاعتقادهم أن الجنود –على الأغلب- يَفونَ بالتزاماتهم أكثر إذا لم يتم دمجهم بعضهم ببعض. وبلغ عدد البريطانيين حوالي 2562 جنديا من إجمالي القوات البالغ عددها 9713 جنديا (ما عدا الضباط) أثناء توجههم إلى قندهار. وكان لدى كل فرقة من فرق المشاة الثلاث أربع كتائب قوامها مابين 500-700 جندي، وكان هناك كتيبة بريطانية واحدة ، وأخرى من جورخا في كل فرقة من فرق المشاة الثلاث. أما باقي الكتائب في الجيش فقد كانت تتألف من السيخيين والبنجابيين. وهكذا تم نشر القوات البريطانية والجورخية لإشعال حدة المنافسة بين الوحدات المختلفة ولإبراز أهمية القوة العسكرية لكل فرقة.

لقد جرت معركة حامية الوطيس في الأول من أيلول/سبتمبر، إذ كانت الأطراف المتصارعة في الأساس تتألف من القوات البريطانية التي كانت تدفع أحد جانبي القوة الأفغانية من مواقعها الدفاعية، وتطوق نقطة الدفاع الأفغاني الرئيسية للاستيلاء على معسكر الجيش. وادعى البريطانيون كالعادة بأن محصلة عدد الجرحى كبير جداً، إلا أن عدد الأفغان المقتولين بلغ حوالي 600 أفغاني، ولم يكن هذا العدد عاليا مقارنة بحجم الجيش البريطاني والعدد الحقيقي لطلقات البنادق والمدفعية الموجهة إلى الأفغان. وأكثر ما استطاع البريطانيون قتله هو أفغاني واحد لكل مئة طلقة أطلقت، وقد افترض خطأ أنه لم يقتل أحد بالحراب. ولم تكن مطاردة الفرسان عقب الحرب فعالة، فقد قدّر أنه قتل حوالي مئة أفغاني في عملية مطاردة أدت إلى إبعاد الفرسان الأفغان بحوالي خمسة عشر ميلاً عن ميدان المعركة. وهذا يؤكد أن القليل منهم قد جرح، وأن هؤلاء الجنود قد تخلفوا وتعرضوا للخطر حتى في مطاردة متأخرة للفرسان. لذا فالمعركة لم توجه ضربة عسكرية ساحقة للأفغان، ولكنها أحدثت انقلاباً قوياً أدى إلى تقسيم الجيش الأفغاني وتشتيت زعماء القبائل في مواطنهم المختلفة.

لقد عامل قادة الهند البريطانية –في كلا الحملتين- الأفغان كرهائن على خلاف عسكري، وذلك من أجل المحافظة على مركز بريطانيا في الهند ومكانتها كقوة عسكرية. وارتكزت كلتا الحملتين على الحاجة لتحقيق انتصارات سريعة وواضحة وانسحاب لاحق سريع. وانتهت كلتا الحملتين بإلحاق الأذى بالأفغان، وبإظهار أن العقاب يتفوق على العدالة في ردة الفعل على المقاومة الأفغانية العنيفة لوجودهم العسكري.

وترك البريطانيون أفغانستان كما وجدوها. ومنذ مئة سنة وصف الكتاب السنوي للبريد اليومي الشعب الأفغاني بأنه شعب مكون من 4 ملايين نسمة ، وكان يعاني من نقص شديد في الغذاء ، كما كان يعاني من ظلم النبلاء والجشعين.

وقدمت الهند البريطانية إلى الأمير معونة مالية حيث أنه يعتمد على قواته المسلحة التي هي تحت إمرته، أما المطالبون بالحكم –ومن ضمنهم أؤلئك الذين تورطوا في أحداث 1880-1881- فقد كانوا يتحينون الفرصة من منفاهم في روسيا والهند لخوض عملية التحدي.


--------------------------------------------------------------------------------

Bruce Collins, “Fighting the Afghans in the 19th Century,” History Today, vol. 51 (12) Dec. 2001

خدمات الفسطاط للترجمة


--------------------------------------------------------------------------------

[1] الدورانية أسرة تنسب إلى مؤسسها أحمد خان الذي تولى حكم أفغانستان عام 1747م والذي كان يدعى بـ»دري دورانية« أي درة العصر، وكانت قندهار مركز حكمه. (الفسطاط).

[2] سباهي sipahi كلمة أصلها تركي، وهي تطلق على الفارس الذي يقطعه السلطان أرضاً مقابل خدماته العسكرية، وقد استخدمها كاتب المقال هنا بمعنى »سلاح الفرسان«. (الفسطاط)

رد مع اقتباس
رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 
أدوات الموضوع
طرق مشاهدة الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع إلى

 


الوقت في المنتدى حسب توقيت جرينتش +3 الساعة الآن 12:00 AM .


مجالس العجمان الرسمي

تصميم شركة سبيس زوون للأستضافة و التصميم و حلول الويب و دعم المواقع