مجالس العجمان الرسمي

العودة   مجالس العجمان الرسمي > ~*¤ô ws ô¤*~المجالس العامة~*¤ô ws ô¤*~ > مجلس الدراسات والبحوث العلمية

مجلس الدراسات والبحوث العلمية يعنى بالدراسات والبحوث العلمية وفي جميع التخصصات النظرية والتطبيقية.

رد
 
أدوات الموضوع طرق مشاهدة الموضوع
  #1  
قديم 17-05-2007, 11:32 AM
د.فالح العمره د.فالح العمره غير متصل
 
تاريخ التسجيل: Feb 2005
الدولة: في قلوب المحبين
المشاركات: 7,593
معدل تقييم المستوى: 27
د.فالح العمره is on a distinguished road
الألفاظ المشتركة المعاني باللغة العربية

امير القلوب مركزالابحاث



الألفاظ المشتركة المعاني في اللغة العربية
طبيعتها ــ أهميتها ــ مصادرها


ملخص البحث

تشكل الألفاظ العربية المشتركة المعاني مع ما صدر لها من شروح ودار حولها من مناقشات جزءاً مهماً من تراثنا اللغوي والأدبي . غير أن موقف الباحثين واللغويين العرب حيال هذه الألفاظ وحديثهم عن طبيعتها وعن أهميتها ودورها في مجال التعبير كان وما يزال خلافياً غير مستقر ، كما أن الكتب المحتوية على هذه الألفاظ تنقصها المنهجية ويعوزها التنظيم . وهذا ما جعل من هذه الألفاظ قضية لغوية جديرة بالدراسة ، لاسيما وأن الظروف اللغوية الراهنة تقضي بالبحث عن ما يثري اللغة ويبعث على التمكن منها . وهذا البحث يعالج هذه القضية من زوايا مختلفة : لغوية وأدبية وبلاغية ، معالجة تعتمد الفحص والتحليل والطرح الموضوعي ومناقشة الآراء وفق منهج نقدي جديد يهدف بالدرجة الأولى إلى إيجاد حلول جذرية للخلاف الدائر حول الألفاظ المشتركة المعاني في اللغة العربية ، كما يسعى إلى توضيح طبيعة نشوئها وإثبات أهميتها ومدى فاعليتها في مجالات التعبير في حياتنا الحاضرة . ثم إلى دراسة أهم الكتب التي تضمها ، بنحو يمهد لوضع معجم عصري موحد شامل متطور لها . هذا كله بالإضافة إلى ما يثيره هذا البحث من أسئلة وموضوعات تتعلق بجوانب جديرة بالدراسات المستقبلية ، من مثل ارتباط المشترك اللفظي بالشعر بنوعيه القديم والحديث ، وارتباطه ببعض الأساليب البلاغية كالمجاز والتورية والاستعارة والجناس . وأخيراً ما يمكن أن تكون له من صلة بمستقبل المصطلح العلمي .

• • •

تقـديم :

بالإضافة إلى الاختلاف القائم حول حقيقة الاشتراك اللفظي في اللغة العربية ، هناك تباين في الآراء حول أهميته ، أو مدى إيجابية وجوده ، أو كثرته في اللغة : فمن مدع أن المشترك اللفظي يشكل دليلاً على ضعف اللغة ، وعدم قدرتها أو قدرة رصيدها على التعبير عن معاني الحياة وأغراضها المختلفة ، لذلك يجب تنزيه اللغة عنه . ومن مدع أن المشترك اللفظي يشكل عاملاً مهـماً من عوامل الغموض في النصوص ، ولاسيما النصوص الشعرية ، وإذاً فلا يعد وجوده أو تزايده في العربية صفة إيجابية محمودة ؛ لأنه يسلبهـا جانباً من وضوحها وجلائها المفترض . وهذا مذهب تؤيده بعض النزعات التقليدية التي تشترط وضوح العبارة على عمومها ، وترى أن أحسن الكلام ما كشف القناع عن معناه ، وأفهم سامعه مضمونه دون جهد أو عناء . بينما ترفضه الاتجاهات التي تعد الغموض سمة إيجابية في النص الأدبي ، لاسيما إذا كان شعراً ، وتعتبر كثرة المشترك اللفظي دليلاً على ثراء اللغة ، وطواعيتها ومرونتها ، وشاعريتها ، واتساعها في التعبير ، وليس فقرها وضعفها كما يزعم الآخرون . من جانب آخر فقد كان للمشترك اللفظي عند أهل البديع مقام كبير ؛ لأن عدداً من فنون البديع كالجناس والتورية والترصيع وغيره من فنون البلاغة الأخرى قائم عليه ، مستمد وجودها من وجوده . وهذا من جملة ما جعل المشترك اللفظي موضع اهتمام الفقهاء والأصوليين والمفسرين والباحثين في بلاغة القرآن وإعجازه من علماء العرب ونقادهم القدامى .

الإشكالات والآراء المختلفة أو المتضاربة التي سبقت الإشارة إليها جعلت من المشترك اللفظي قضية تستوجب الاهتمام ، وتحفز على البحث ، من أجل الوصول إلى معادلة صريحة ، أو قرار حاسم حول طبيعة المشترك اللفظي وحقيقته ، وحول ما يمكن أن يكون له من دور في إثراء الرصيد اللغوي وتنمية القدرة على التعبير ، وفي واقع الحياة اللغوية عامة ، والتحقيق في ما يرتبط بظاهرة الاشتراك اللفظي من شبهات أو ملابسات ، هذا بالإضافة إلى التنبيه إلى أهم وأبرز مصادر المشترك اللفظي نفسه ، وإلى ما يمكن أن يجعل هذه المصادر أكثر فاعلية . وهذه الدراسة تبحث هذه الجوانب في إطار نقدي مختصر جديد ، تسعى إلى أن تكون فيه بعيدة عن تلك الاستطرادات والسرديات والطروحات المتكررة التي حفلت بها معظم الدراسات أو الكتابات السابقة ذات الصلة بالقضية ، كما تطمح إلى أن تكون حافزة وممهدة لدراسات مستقبلية أكثر عمقاً وشمولية واتساعاً .


طبيعة الاشتراك اللفظي
يفرق بعض علماء اللغة المعاصرين من حيث المفهوم([1]) بين الاشتراك اللفظي ، أو ما يسمونه بـ "homonymy " وبين " تعدد المعنى للفظ الواحد " أو ما يطلقون عليه " polysemy" ، وينظرون إليهما على أنهما موضوعان مستقلان ، يتناول أولهما - كما يستفاد من كتاباتهم أو طروحاتهم - تلك الألفاظ التي تتطور في شكلها وبنيتها الخارجية تطوراً متوازياً ممتداً حتى تتقابل وتتقارب وربما تتفق اتفاقاً تاماً وبطريق المصادفة في أصواتها وصورة نطقها ، رغم اختلاف معانيها وصورة كتابتها ، كما في الكلمتين الإنكليزيتين: see التي تعني بالعربية (يرى) و seaالتي تعني (البحر) ، وكذلك الكلمتين flour التي تعني (الدقيق أو لب القمح) وكلمة flower التي تعني (الزهرة) ، بينما يتناول الموضوع الثاني تلك الكلمات التي تنشأ عن تطور مدلولات الكلمة الواحدة منها إلى أن تتباعد (( بعضها عن بعض في خطوط متفرقة))([2]) وبهذا فإن مصطلح " المشترك اللفظي " وفق هذا المفهوم يعني التكرار مع التغير، ولكنه يتضمن وجود أكثر من كلمة بصيغة واحدة . بينما يتضمن المصطلح الآخر وجود كلمة واحدة بنفس الصيغة والشكل لأكثر من معنى واحد ، أو بمعنى آخر أن الاشتراك اللفظي يعني وجود كلمات منحدرة من أصول مختلفة وذات مدلولات مختلفة أيضاً ولكنها متقاربة أو متطابقة من حيث الصيغة أو النطق . بينما يعني " تعدد المعنى" وجود كلمة واحدة منحدرة من أصل واحد لها أكثر من مدلول .

رغم ما يوجد من تفريق دقيق بين مفهومي المصطلحين السابقين ، فإن هناك بعض التداخل الملحوظ بينهما، وهذا التداخل ناشئ عن اعتبار بعض الكلمات " متعددة المعنى " عند بعض من أشرنا إليهم من العلماء من ضمن " المشترك اللفظي " لمجرد تطابق هذه الكلمات في النطق أو الصياغة ، وعدم إدراك أو ملاحظة العلاقات بينها من قبل المتكلم العادي .

يعتبر (ستيفن أولمان) على سبيل المثال كلمة see التي تعني في العربية (يرى) غير كلمة see في عبارة مثــل

« the bishop's see » التي تعني (عرش الأسقف) ، وكلمة page التي تعني (صفحة في كتاب) منفصلة عن كلــمة page نفسها في عبارة page boy التي تعني (الساعي أو البواب) ، وكلمةflower التي تعني (زهرة) مستقلة عن الكلمة نفسها في عبارة مثل « the flower of the country's manhood » ، أي ( صفوة رجال الأمة) . وعلى هذا الأساس فإن هذه الكلمات تعتبر من ضمن «المشترك اللفظي» وليست من « متعدد المعنى »؛ لعدم وجود ما يشعر متكلم اللغة العادي بوجود علاقة بين كل زوج من هذه الكلمات ، وعدم وجود ما يدل دلالة قاطعة على انحدارهما من أصل واحد([3]).

وهذا تعليل موجب للارتباك والخلط ، كما هو واضح ، وقد أشار أولمان نفسه إلى تحفظ الاشتقاقيين والباحثين في الأصول التاريخية للكلمات على هذا الرأي ، ذلك ؛ لأن التعليل المذكور لا يسهل معه التفريق بين الاشتراك اللفظي ، وتعدد المعنى بنحو ثابت ، فكلمة (الخال) العربية على نحو المثال تعني كما ورد في « المعجم الوسيط » : (أخو الأم) وتعنــى

(لواء الجيش) كما تعنى (ما توسمت به خيراً ) وهي معان مختلفة كما نرى ، قد لا يدرك المتكلم العادي في الأعم الأغلب أدنى علاقة بينها ، فهل يدعو ذلك لإخراج هذه الكلمة عن كونها كلمة « متعددة المعنى » واعتبارها ثلاث كلمات منحدرة من أصول مختلفة! ؟

لا يبدو من كلام اللغويين العرب الأوائل ولا المعاصرين - حسب ما انتهى إليه تحقيقي - أنهم يفرقون بين « الاشتراك اللفظي » و بين « تعدد المعنى » على النحو الذي سبق توضيحه ، فالمفهوم منهما عندهم كما يبدو واحد ، وهو عكس ما يفهم من الترادف تماماً . فإذا كان الترادف يعني اتحاد المعنى وتعدد اللفظ ، أو (إطلاق كلمتين أو عدة كلمات على مدلول أو معنى واحد ) ، فإن الاشتراك اللفظي يعنى اتحاد اللفظ في الصيغة والنطق والكتابة والأصل في أغلب الأحيان أيضاً مع تعدد المدلول ، أو بتعبير آخر (إطلاق كلمة واحدة في اللغة على معنيين فأكثر على السواء )([4]) دون شرط ارتباطها بالسياق
الكلامي . كما تطلق في العربية مثلاً كلمة (الخال) على أخ الأم وعلى الشامة، وكلمة (النوى) على البعد وعلى جمع النواة ، وكلمة (العين) على العين الباصرة، وعلى نبع الماء ، وعلى رئيس أو وجيه القوم ، وعلى الجاسوس ، وعلى النقد والذهب ، وعلى الشيء نفسه ، وعلى معان أخرى غيرها ... ([5])

ومما يكثر استعماله في عصرنا من هذا النوع من الألفاظ على نحو المثال كلمة (الهاتف) التي نستخدمها للدلالة على الصوت الذي يسمع ولا يرى صاحبه ، أو على الصوت الباطني الخفي فنقول مثلاً : « هتف به هاتف »
و « كأن هاتفاً هتف بي بين النوم واليقظة أن أعلن كلمة الحق » و « كلنا نهتف بعظمة الخالق سبحانه » . كما نطلق هذه الكلمة أيضاً على الذي يصيح بشخص مادحاً إياه فنقول : « هتف القوم بحياة الرئيس » . و نطلقها على آلة التلفون فنقول : « استعمل دليل الهاتف » و « أجهزة الهاتف المتنقل » ، وكذلك على (دائرة البرق والبريد والهاتف) نفسها ، فنقول : « فلان يعمل في الهاتف ، أو في دائرة الهاتف » .. فهذه المعاني المختلفة كلها تشترك في لفظة (هاتف) ، بنفس الصيغة والنطق ونفس الحركات ، وهي وإن كانت تتحدد بالسياق في الغالب ، إلا أنها يمكن أن تتبادر إلى الأذهان في حالة الإفراد أيضاً ، أي بمجرد نطق الكلمة وعدم وجود السياق الذي ينص على مدلول واحد منها دون غيره ..

ولا يختلف مفهوم «الاشتراك اللفظي » عند البلاغيين العرب ، كما يبدو عما هو عليه عند علماء اللغة ، فهو ، أو

« الاشتراك في اللفظ » - كما يطلق عليه أحياناً - يستخدم كمرادف لـ « تعدد المعنى » ، وإن كان هناك من يستخدم هذا المصطلح وكأنه أعم في مدلوله من تعدد المعنى للفظ الواحد . فابن رشيق القيرواني (ت 456هـ) مثلاً يقسم الاشتراك في اللفظ في إطار حديثه عن التجنيس إلى ثلاثة أنواع ([6]) :

النوع الأول : وقد أدرجه ضمن أنواع التجنيس أو المماثلة . وهو « أن تكون فيه اللفظة واحدة باختلاف المعنى » ، مثل قول زياد الأعجم يرثي المغيرة بن المهلب :

شعواءَ مشعلة كنبح النابح


فانعَ المُغيرَة للمُغيرَة إذ بَدَتْ




فالمغيرة الأولى : رجل ، والمغيرة الثانية : الفرس ، وهو ثانية الخيل التي تُغير . فهنا اللفظة استخدمت بمعنيين ، فهي مشترك لفظي صريح وفق المفهوم المتعارف عليه آنذاك .

النوع الثاني : وهو أن يحتمل اللفظ معنيين ، أحدهما يلائم السياق الذي يستخدم فيه اللفظ والآخر لا يلائمه ولا دليل عليه وذلك كقول الفرزدق :

أبو أمه حَيٌّ أبوه يُقاربه


وما مثله في الناس إلا مملكاً




فقوله : (حَيٌّ) ، يحتمل القبيلة ، ويحتمل الواحد الحَيَّ . وهذا النوع ، كما هو واضح مشابه للنوع الأول ، ما عدا أن

المعنى الآخر للفظ غير واضح ، أو لا وجود لقرينة لفظية أو سياقية تدل عليه في النص الذي استخدم فيه ، وهذا بالطبع لا يخرجه عن كونه مشتركاً في الأصل .

النوع الثالث : وهو أن يكون اللفظ مشتركاً من حيث أحقية استخدامه بين الناس ، لا أحد من الناس أولى به من الآخر . فالاشتراك عنده هنا يعني شركة الناس في استعماله وتداوله وليس هناك ما يتعلق بمعناه وتعدد هذا المعنى .



ألفاظ الأضداد
ومما يعد من المشترك اللفظي في اللغة العربية نوع آخر متميز يسمى (الأضداد) ، وتعني في اصطلاح اللغويين العرب الكلمات التي يدل كل منها على معنيين متباينين ، أو متعاكسين متناقضين ، مثل لفظة (جون) التي تدل على الأسود والأبيض ، و (المولى) التي تطلق على العبد والسيد ، و (السليم) التي تطلق على الصحيح وعلى الملدوغ و (البصير) التي تطلق على المبصر وعلى الأعمى ، و (الحميم) التي تطلق على الحار وعلى البارد ، و (الجلل) التي تطلق على الكبير والصغير ، و (الزوج) التي تطلق على الرجل وعلى المرأة ، فيقال : (( الرجل زوج المرأة والمرأة زوج الرجل ... )) ([7]) فهذه الكلمات وأمثالها تجري ، كما ينص السيوطي : (( مجرى الحروف التي تقع على المعاني المختلفة ))([8]) لما تنطوي عليه من تعدد أو اختلاف الدلالة . وقد جمع محمد بن القاسم الأنباري في كتابه « الأضداد » - الذي سنعود للحديث عنه فيما بعد - ما يزيد على (300) ثلاثمائة ضد - كما يتبين من فهرس- « الألفاظ الأضداد » الملحق بالنسخة التي اعتمدناها في هذا البحث - ، معظمها تجاوز الدلالة على معنيين متعاكسين أو متناقضين إلى الدلالة على عدد من المعاني ذكرها المؤلف . والضد كما تحدث عنه بعض اللغويين العرب لا يعني النقيض أو العكس بصفة مطلقة ، فهناك أصناف عدت من الأضداد ، مع أنها لا تفيد معنى التناقض أو العكس ، وإنما يدل كل لفظ منها على معنيين متباينين يربط بينهما رابط معين من قريب أو بعيد ، كما يحصل لكثير من باقي الألفاظ المشتركة المعاني ، مثال ذلك : كلمة (الظعينة) التي تدل على الهودج وعلى المرأة في الهودج ، و كلمة (الكأس) التي تطلق على الإناء ذاته وعلى ما فيه من الشراب، وكلمة (الغريم) التي تدل على الدائن وعلى المدين وعلى الخصم أيضاَ ، وربما تندرج تحت ذلك كل الصيغ الصرفية المماثلة التي تستعمل للفاعل والمفعول مثل: سميع وعليم وقدير وكحيل وقتيل ودهين وجريح وطريد ...([9])



مدى توافر المشترك اللفظي في اللغة العربية
في اللغة العربية ، كما تظهر المصادر التي بين أيدينا مجموعات كبيرة من الألفاظ المتعددة المعاني ، ومجموعات أخرى من الأضداد لا يستهان بها خصصت لإحصائها مؤلفات عديدة سنذكر لاحقاً بعضاً منها . وقد تضمن كتاب « المنجد فيما اتفق لفظه واختلف معناه » لمؤلفه المعروف بكراع النمل (ت 310 هـ) ، تضمن هذا الكتاب وحده (900) تسعمائة كلمة منها .. أما الكتاب الذي جمع فيه أوغست هفنر أربعة كتب في الأضداد لكل من الأصمعي وأبي حاتم السجستاني ويعقوب بن اسحق بن السكيت والصغاني فقد احتوى - وفق تسلسل ترقيم الألفاظ الواردة فيه - على (706) سبعمائة وستة من الأضداد .. ([10]) وإذا كان لا يمكن القطع بصحة نسبة كل هذه الأعداد إلى الألفاظ المشتركة المعاني فإن هذه الأرقام تشير بلا شك إلى كثرتها . رغم ما دار حولها أو حول بعضها من نزاع أو وجد من خلاف .

هـنـاك في الحقيقة نزاع بين عدد من الباحثين حول مبلغ ورود المشترك اللفظي عامة في العربية ، بل إن منهم من ينكره ويعمل على تأويل بعض أمثلته ونسبة الاشتراك في الألفاظ إلى المجاز أو إلى عوامل أخرى تنفي وجوده أصلاً أو تشير إلى قلة وروده ([11]) . ونحن لا نجد مبرراً للخوض في النزاع الذي قام حوله ، بل لا نرى جدوى من الجدل أو كثرة النقاش حول شئ لا يمكن تجاهله فضلاً عن إنكاره .

إن ظاهرة تعدد الدلالات للمبنى اللفظي الواحد وإن بالغ البعض في القول بكثرتها وشيوعهـا في العربية وبالغ آخرون في إنكارها أو التقليل من شأنها ودار حولها النزاع كما أشرنا ، فإن الواقع الفعلي يشهد بوجودها كظاهرة لغوية بارزة مألوفة ، ليس في اللغة العربية وحدها ، وإنما في اللغات السامية على عمومها، والنصوص الموروثة ونشاطات هذه اللغات على اختلافها تجسدها([12])، كما أن القوانين اللغوية تقرها وسنن الحياة البشرية تقتضيها وتسلم بوجودها في كل اللغات المتطورة . ( إن قدرة الكلمة على التعبير عن مدلولات متعددة إنما هي خاصة من الخواص الأساسية للكلام الإنساني .

وإن نظرة واحدة في أي معجم من معجمات اللغة لتعطينا فكرة عن كثرة ورود هذه الظاهرة ، بل إن شحنة المعاني التي تحملها بعض الكلمات تدعو إلى الدهشة ، لاسيما تلك الأفعال الكثيرة الشيوع والذيوع مثل : يعمل ويقوم ويضع ... الخ (([13])

أما بالنسبة لبروز ظاهرة الاشتراك اللفظي في اللغة العربية فقد صرح السيوطي بقوله : (( وذهب بعضهم إلى أن الاشتراك أغلب - قال : لأن الحروف بأسرها مشتركة بشهادة النحاة ، والأفعال الماضية مشتركة بين الخبر والدعاء ، والمضارع كذلك ، وهو أيضاً مشترك بين الحال والاستـقـبـال والأسماء كثير فيها الاشتراك ؛ فإذا ضممناها إلى قسمي الحروف والأفعال كان الاشتراك أغلب )) ([14]) وفي موضع آخر ضمن حديثه عن المشترك اللفظي وعن الأضداد يقول أيضاً : (( وهذا الضرب كثير جداً ، ومنه ما يقع على شيئين متضادين كقولهم : جلل للكبير والصغير وللعظيم أيضاً والجون للأسود والأبيض ... وهو أيضا كثير )) ([15]).

إن كلمة (يعمل) في اللغة العربية مثلاً لها من المعاني المتعددة التي لا يمكن بأية حال من الأحوال رفضها أو تجاهلها ؛ لأنها في حيز الاستخدام الفعلي ، فنحن نقول فعلاً ، وعلى سبيل الحقيقة : « عمل خيراً » أي بمعنى فعل، و « عمل بالقانون » أي طبقه ، و « عمل على نشر الكتاب » أي سعى لنشره و « عمل في مصنع ، وعمل تاجراً » أي صنع أو مهن ، و «عمل بجد» أي اشتغل أو تصرف أو قام بالعمل .. ولا نجد هذا التعدد لمعاني هذه الكلمة في نصوص الشعر والنثر العادية فحسب ، وإنما نجده في آيات القرآن الكريم أيضاً .

لقد وردت الآيات التالية من قوله تعالى : ( وَأمّا مَنْ آَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحَاً فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى ) . (وَمِنَ الجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإذْنِ رَبِه ) . ( لمِثِلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ العَامِلُونَ ) . ( أَمَّا السَّفِيَنة فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِيْ البَحْرِ ) . ( لاَ يَسْبقُوْنَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ ) . ( يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاء مِنْ مَحَارِيْبَ وَتَمَاثِيْلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ ))[16]) وفي كل آية من هذه الآيات معنى خاص لكلمة (عمل) لا يتطابق مع المعنى الآخر ، وإن تقارب أو تشابه بعضها . ولا شك أن التعدد في معنى (عَملَ) الفعل يتبعه تعدد معنى المصدر « عَمَلْ » . هذا وفي كتاب « الأشباه والنظائر في القرآن الكريم » لمقاتل بن سليمان البلخي
(ت 150هـ) أمثلة كثيرة مشابهة لما أوردناه من الأسماء والأفعال والصفات([17]) .

وفي المعاجم العربية عدد كبير من الألفاظ ذات الدلالات المتعددة ، ربما يفوق عدد الألفاظ التي تنفرد بمعنى واحد . ولا يقتصر ذلك على المعاجم القديمة الواسعة ، وإنما يشمل المعاجم الحديثة الوسيطة أيضا . وتصل المعاني التي ترد للكلمة الواحدة في المعاجم الحديثة الراصدة للتطورات الدلالية الجديدة منها أحياناً إلى عدد كبير من المعاني المستعمـلة في الحياة الفعلية الحاضرة . فقد جاء في تفسير الفعل (فتح) على نحو المثال في « المعجم العربي الأساسي » الصادر عن المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم ، وهو من أحدث المعاجم المتطورة ، ما نصه :

(( فَتَحَ يَفْتَحُ فَتْحا فهو فاتح : 1 البابَ والصُّندوقَ ونحوهما : خِلاف أغلقهما ، 2 الطّريقَ : هيَّأه للمرور فيه ، أذِنَ بالمرور فيه ، 3 الاجتماعَ ونحوه : بدأ عمله ، 4 المدينةَ أو البلدَ : احتلّها ، 5 الكتابَ : نشَرَ طَيَّهُ ليقرأ منه / فتح اعتماداً في المصرف : خصّص مبلغا للصرف منه على عمل معيّن . فتح اللّه عليه : هداه أرشده . فتح الباب على مصراعيه لعمل ما : أفسح المجال له ، سمح به دون قيود . فتح البخْت : تنَّبأ بالمُستقبل . فَتَح بين الخصمين : قَضى ( رَبَّنَا افْتَحْ بَيْننَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ ) [قرآن] . فتح حِسَابا في المَصْرِف : أودع مبلغا من المال صالحا للسحب منه . فتح شهته : جعله راغبا في الأكْل . فتح صفحة جديدة : غيَّر طريقته « فتحت العراق صفحة جديدة مع مصر » . فتح عيْنَيْه جيدا : انتَبَه ، حَذِرَ . فَتَحَ عيْنَيْه على شيء : شاهده أو اختبره وهو لا يزال طِفْلا . فَتَحَ له َقْلبَهُ : باح بسِرِّهِ له ، وثق به فأَطْلَعَهُ على سِرِّهِ . فَتَّحَ يُفَتِّحُ تَفْتِيحاً : الأبوابَ ونحوها : بالَغَ في فَتْحِها ( لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ ) [قرآن] ([18]).

فنحن نجد هنا أن كلمة (فتح) قد اتسعت لأكثر من (16) ستة عشر معنى ، بين محسوس ومجرد ، وكلها جارية متداولة ، متعارف على استعمال الكلمة فيها ضمن سياقاتها الخاصة . ويمكن أن تتسع لمعان مجازية أخرى متعددة أيضاً كما اتسعت غيرها .

نظم المعلم بطرس البستاني صاحب معجم « محيط المحيط » قصيدة تصل إلى (30) ثلاثين بيتاً تنتهي كل أبياتها بكلمة (الخال) بمعان مختلفة . ولهذا سميت بالقصيدة الخاليِّة ، وربما أراد بذلك إظهار مدى اتساع التعدد الدلالي للألفاظ العربية وسعة اطلاعه وإحاطته بهذا التعدد . ومن هذه القصيدة :

فسح من الأجفان دمعك الخـال


أمن خدها الوردي أفتنك الخال



لعينيك أم من ثغرها الومض الخال


الومض برق من محيا جمالها



تلاعب في أعطافه التيه والخـال


رعى الله ذياك القوام وإن يكن



وإن لام عمي الطيب الأصل والخـال ([19])


مهـاة بأمي أفتديها ووالــدي




ومعاني كلمة (الخال) في هذه الأبيات على التوالي : الشامه في الوجه /السحاب الممطر/البرق/ الغرور أو التكبر/ أخو الأم

إن تعدد المعاني أو المدلولات للكلمة الواحدة إلى الحد الذي رأيناه ليس في الحقيقة ظاهرة غريبة ؛ لأن معنى الكلمة كما يقول رائد الفلسفة اللغوية في العصر الحديث (لودفج فتجنشتين) L Wittgenstein : (ليس له ثبات أو تحديد .. واللغة ليست حساباً منطقياً دقيقاً لكل كلمة معنى محدد ولكل جملة معنى محدد ولكل الجمل وظيفة واحدة .. وإنما تتعدد معاني الكلمة بتعدد استخداماتنا لها في اللغة العادية ، وتتعدد معاني الجملة الواحدة حسب السياق الذي تذكر فيه .. وأن الكلمة مطاطة تتسع وتضيق استخداماتها حسب الظروف والحاجات )([20]) ومع ذلك فإن لهذا التعدد مبررات وأسباباً ثابتة ومحسوسة يفرضها الواقع الاجتماعي وظروف الحياة المختلفة المتغيرة .



أسباب نشوء المشترك
إن تعدد المعنى للكلمة الواحدة قد يحدث - كما هو ثابت ومشهود - نتيجة لاختلاف اللهجات واختلاف استخدامهـا للكلمات ، فكلمة القرءُ ، كما يقول ابن السكيت (( عند أهل الحجاز الطهر وعند أهل العراق الحيض ))([21]) بينما القروء في واقعها الأوقات التي يحصل فيها الطهر أو الحيض . وقد يحصل أن تداخل اللهجات عن طريق التجاور والمعاشرة والاختلاط بين أفراد الجماعات ، مما يؤدي إلى حدوث عملية التراكم الدلالي .

وقد يتعدد المعنى للكلمة الواحدة كذلك نتيجة للاستخدامات المجازية الإرادية لهذه الكلمة ، أو نتيجة لاستعمالها في معنى معين ، ثم استعارتها لمعنى أو معان أخرى ، يكثر ويغلب تداولها حتى تصير بمنزلة المعنى الأصلي في الاستعمال والشيوع . وهذا ما نص عليه أبو علي الفارسي بقوله : (( إن اتفاق اللفظين واختلاف المعنيين ينبغي أن لا يكون قصداً في الوضع ولا أصلاً ، ولكنه من لغات تداخلت ، أو أن تكون لفظة تستعمل لمعنى ثم تستعار لشيء فتكثر وتصير بمنزلة الأصل ))([22]) فكلمة سيارة في اللغة العربية على سبيل المثال تعني في الأصل القافلة ، ثم استعيرت واستعملت بمعنى (العربة الآلية التي تستخدم في نقل الناس والبضائع ) وقد شاع استعمال الكلمة بهذا المعنى في عصرنا الحاضر حتى أصبح بمنزلة المعنى الأصلي لها ، وهكذا كلمة مبلغ التي تعني في الأصل ( منتهى الشيء أو غايته )، ثم استعملت بمعنى ( مقدار من المال ) . وقد غلب استعمال هذا المعنى لها في العصر الحاضر كما نرى حتى صار بمنزلة الأصل ...

وينشأ المشترك أحياناً في ظروف لغوية معينة يُعدل فيها عن المعنى الأصلي للفظ إلى معنى آخر مباين أو مضاد لمعنى اللفظ المتعارف عليه بهدف التفاؤل أو التأدب أو التهكم والسخرية أو التهويل والتعظيم أو اجتناب التلفظ بما يمجه الذوق أو بما يكره أو يحرج أو يؤلم المخاطب أو يحدث له أو للمتكلم ضرراً أو بصورة عامة لغرض ما اصطلحت اللغات الأوروبيّة على تسميته باسم «Euphemism » أي تلطيف التعبير عن شئ بغيض ([23]). ثم يرجع إلى استعمال المعنى الأصلي في ظروف لاحقة أخرى ، وهكذا يحصل التناوب والتبادل بين المعنيين أو المعاني وقد تصبح هذه المعاني نتيجة لكثرة هذا التناوب والتبادل في مستوى واحد من الاستعمال والدوران ، ولا ينفك أي منها عن الارتباط باللفظ .

نحن نقول للأعمى بصيراً ونقول لمن ذهب بصر إحدى عينيه كريم العين ، للتأدب أو لتفادي إحراج المخاطب وإيلامه أو للتطلف في التعبير عامة . ويطلق على المهلَكة لفظ المفازة على جهة التفاؤل كما يسمى العطشان رياناً والأسود أبو البيضاء ([24]). تماماً كما كان العرب يطلقون على عبيدهم أسماء يتفاءلون بها مثل : ميمون ومبروك وكافور .. ويسمى الملدوغ سليماً للتفاؤل كذلك أو الدعاء أحياناً.. كما يقال للمهرة الجميلة شوهاء خوفاً من أن تصيبها العين ، وللغراب أعور تعبيراً عن حدة بصره ، وتطلق عبارة « بيضة البلد » على من انفرد بميزة ممدوحة حسنة ، كما يجوز أن يراد بها عكس ذلك ، حيث تطلق على من يراد أن يهزأ به ويسخر منه كما يقول السجستاني ([25]) .

وقد تحدث ظروف معينة تفرضها السياقات أو المواقف المختلفة التي تستعمل فيها الكلمات ، توجه الذهن بشكل لا إرادي إلى اتجاهات جديدة أحياناً ، مما يوحي بخلق معان جديدة لهذه الكلمات ، وذلك لما يوجد في هذه الكلمات نفسها ، كما يعبر (جوزيف فندريس) Vendryes - من قابلية على التأقلم ؛ أي ( القدرة على اتخاذ دلالات متنوعة تبعاً للاستعمالات المختلفة التي تستخدم فيها وعلى البقاء في اللغة مع هذه الدلالات ومن ثم أداء عشرات من وظائفها بسهولة ويسر . حيث إن خلق معانٍ جديدة لها لا يقضي بالضرورة على المعاني السابقة ، فيمكن لكل المعاني التي اتخذتها أن تبقى حية في اللغة . وحركة التغيرات المعنوية تسير في كل الاتجاهات حول المعنى الأساسي ، ولكن كل واحد من المعاني الثانوية يمكن أن يصبح بدوره مركزاً جديداً للإشعاع المعنوي ([26]) .

ولا يمنع أن يوضع أو يستعمل اللفظ الواحد للدلالة على معنيين قصداً ، كما تصور أبو علي الفارسي ، بل من الممكن أن يكون ذلك من قبل واضع واحد أو من قبل واضعين اثنين ، يضع أحدهم لفظاً لمعنى ، كما يقول السيوطي ، ثم يضعه الآخر لمعنى آخر ([27]) ، ويستمر استعمال اللفظ بالمعنيين الموضوعين كليهما ؛ فالكلمات على نحو ما تبين رموز طيعة مرنة . كما أن الكلمة (( لا تدل بنفسها على شئ ، ولكن المفكر يستعملها فيصبح لها معنى ، إذ يتخذها أدوات )) ([28]) ونحن نعلم أن مجموعات كبيرة من مفردات اللغة توضع من قبل واضعيها قصداً للدلالة على معان اصطلاحية خاصة قد تكون متعددة ، مع الإقرار أو الوعي بمعانيها اللغوية العامة ، وقد يحصل التزامن في اتخاذ كلمة ما للدلالة على أكثر من معنى اصطلاحي واحد من جانب واحد ، كما هو الشأن في المجامع أو المؤسسات اللغوية عامة حين تتولى لجانها الخاصة وضع المصطلحات العلمية والفنية مثلاً .

ولنشوء المشترك اللفظي أو حدوثه أسباب وتبريرات وآراء أخرى كثيرة ذكرها اللغويون العرب وغيرهم ، يمكن الرجوع إليها في مظانها ([29]) تجنبنا تعدادها والحديث عنها تفادياً للإطالة والتكرار . واعتقاداً منا بأن الواقع العملي الفعلي بحد ذاته يكفي لإثبات وقوع المشترك اللفظي . وتوضيح الكثير من أسبابه وملابساته وإدراك طبيعة نشوئه . كما أنه لا يعنينا في هذا المجال تعداد أسباب حدوث المشترك اللفظي بقدر ما يعنينا وجوده ، وتهمنا وفرته وفاعليته في واقعنا اللغوي ، ثم حل الإشكاليات التي تحوم حوله ، بغية التوجيه لمزيد من العناية به والتمكين منه ، واستغلاله كجزء هام من الثروة اللفظية التي تتسع لها لغتنا العربية .



إشكاليات حول المشترك
مهما كانت عوامل نشوء ظاهرة التعدد الدلالي ، وأسباب تطورها ، فإن الألفاظ العربية المشتركة المعاني التي يمكن أن نلحظها في معاجم اللغة العامة، أو نمر بها ونشهدها في ما نسمع من الكلام وما نقرأ من نصوص شعرية ونثرية قديمة وحديثة في هذه اللغة تشكل ــ كما سبق القول ــ قدراً لا يستهان به من الثروة اللغوية . وليس صحيحاً ما زعمه أحد الدارسين المعاصرين من أن المشتـرك اللفظي في العربية (يكثر في الألفاظ الحوشية أو الغريبة غير الدائرة على الألسنة ولا كثيرة في نصوص الأدب ، من مثل : السرداح ، والسرداحة ، والدردبيس ، والخلابيس ، والقردوع ) . وأن كثرته تنهك اللغة وتثقل عليها([30]) . وليس صحيحا كذلك ما رآه الدكتور إبراهيم أنيس ، وأيد فيه ابن درستويه ، من أن غالب المشترك من الألفاظ العربية ناتج عن التوسع المجازي ، وأن ما كان ناتجاً عن التوسع المجازي من قريب أو من بعيد لا يعد من المشترك([31]) .

هذه المزاعم - كما سبقت الإشارة - فيها نوع من المغالاة ، وهي تفضي بلا شك إلى التقليل من شأن هذا النوع من الألفاظ ؛ فهناك مجموعات كبيرة من الألفاظ المشتركة المعاني الفاعلة المتداولة في معظم النشاطات اللغوية الحيوية في عصرنا الحاضر ، وقد أوردنا بعضاً منها، ولو اتسع لنا المجال لأوردنا المزيد . ولقد ورد في كتبها المخصصة ومعاجم اللغة العامة وعدد من مصنفات اللغة ألفاظ قديمة كثيرة مماثلة لها([32]) . كما ورد الكثير منها في المعاجم العربية الحديثة على نحو ما تبينا فيما سبق .

علاوة على ما ذكر فإن المعاني الوظيفية التي تعبر عنها المباني الصرفية في اللغة العربية هي بطبيعتها . كما يقرر أحد الباحثين في هذه اللغة : (( تتسم بالتعدد والاحتمال ، فالمبني الصرفي الواحد صالح لأن يعبر عن أكثر من معنى واحد ما دام غير متحقق بعلامة ما في سياق ما ، فإذا تحقق المعنى بعلامة أصبح نصاً في معنى واحد بعينه تحدده القرائن اللفظية والمعنوية والحالية على السواء . ويصدق هذا الكلام على كل أنواع المباني التي سبق ذكرها ، سواء في ذلك مباني التقسيم ومنها الصيغ ومباني التصريف ومنها اللواصق ومباني القرائن اللفظية وكذلك مباني بعض التراكيب ... إن مباني الأقسام قد تتعدد معانيها ، كالمصدر من الأسماء ، ينوب عن الفعل نحو ضرباً زيداً ، ويؤكد الفعل كضربته ضرباً ، ويبين سببه كضربته تأديباً له ، وينوب عن اسم المفعول نحو « بِدَمٍ كَذِبٍ » ، واسم الفاعل مثل ( أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْراً ) . ويكون بمعنى الظرف
نحو : آتيك طلوع الشمس وهلم جرا ))([33]) ...

ومن جانب آخر فقد ثبت أن المجاز يعد أصلاً وأساساً في تكوين العديد من مفردات اللغة ومعانيهـا ، ومظهراً مهماً من مظاهر التطور الدلالي فيها. والعربية لغة التوسع المجازي ، وباب المجاز مفتوح على مصراعيه فيها . كما يقول أحد المجمعيين العرب . ([34]) و (( المجاز القديم مصيره إلى الحقيقة )) ([35]) كما يصرح د. أنيس ذاته . وسبب ذلك - كما يعلل باحث آخر- هو أن
(( المعاني الفنية المجازية يكثر ترديدها على الألسنة مع إطلاقها المجازي الفني ، فحين يطول عليها الأمد في هذا الاستعمال يميل الناس إلى اعتبار دلالتها على المعنى المجازي الجديد دلالة عليه على سبيل الحقيقة ومن ثم يصبح معنى الكلمة متعدداً وترصد لها هذه المعاني المتعددة في المعجم فتكون الكلمة بين جلدتي المعجم محتملة لكل معانيها المعجمية المختلفة المنشأ حتى توضع في سياق يحدد لها واحداً من هذه المعاني ))([36]).

علماً بأن د . إبراهيم أنيس نفسه قد عارض رأيه السابق الذكر ، وأقر في كتابه « في اللهجات العربية » بأن المعاجم العربية مليئة بالألفاظ المشتركة ، وأن ما نشأ من هذه الألفاظ عن التطور الصوتي قد بلغ المئات ، وصرح هو نفسه أيضاً بما يفيد بأن ( الألفاظ تنشأ لها نتيجة للاستعمال دلالات هامشية بالإضافة إلى دلالاتها المركزية ويشترك الناس أحياناً في استعمال هذه الدلالات ، ومع مرور الزمن يتضخم الانحراف وتصبح هذه الدلالات شائعة ، ويرث الجيل التالي ما شاع من دلالات مركزية وهامشية على حد سواء ) ([37]). وهذا القول في الوقت الذي يشير فيه الباحث المذكور إلى عامل مهم من عوامل حصول الاشتراك اللفظي أعم من المجاز - وهو (نشوء دلالات هامشية للألفاظ ثم شيوعها نتيجة لكثرة الاستعمال وبقائها جنباً إلى جنب مع الدلالات المركزية) - يؤكد على أهمية هذا الاشتراك وضرورة التسليم بتوالي حصوله واعتباره كظاهرة بارزة في اللغة . إلا أن قائله لم يثبت عليه . وقد لاحظ عليه بعض الباحثين هذا التناقض أو التذبذب في الرأي ([38]).

وقد كان لأبي حاتم سهل بن محمد السجستاني (ت 250هـ) بعض التحفظ على عدد مما نسب للأضداد من الألفاظ ، إذ لم ير إطلاق اسم الأضداد على كل ما سمعه منها ، فلم يعد كلمة (السليم) مثلاً من الأضداد كما فعل غيره ، وإنما استثناهما بقوله : « قالوا السليم السالم ، وقالوا السليم الملدوغ . وهو عندي على التَفَؤُّل . » . ويقصد بذلك أن هذا المعنى الأخير لا يعتبر معنى ثابتاً مرتبطاً باللفظ بنحو دائم إذ اللفظ مزال عنه جهته بنحو موقت . ومثل ذلك كلمة (شوهاء) التي تستعمل عندهم بمعنى قبيحة وجميلة . أما هو فيقول : (لا أظنهم قالوا للجميلة شوهاء إلا مخافة أن تصيبها عينٌ كما قالوا للغراب أعور لحدة بصره) ([39]). وعلى أساس من هذا الاعتقاد سمى السجستاني كتابه « كتاب المقلوب لفظه في كلام العرب ، والمزال عن جهته ، والأضداد » وبذلك أخرج مجموعة مما شاعت نسبتها للأضداد وهي ليست كذلك في رأيه ، وميز ما يصدق عليه صفة الضد بنحو قاطع ثابت ضمن مجموعة خاصة .

الحقيقة أن السجستاني مصيب فيما رآه من أن بعض الألفاظ تزال عنه جهته ، ويستخدم بمعنى جديد ، وربما يكون مرتجلاً ، ثم يعدل بعد ذلك عنه إلى المعنى الأصلي ، وقد لا يعدل فيظل استعمال اللفظ بالمعنى الثاني الجديد مستمراً وجائزاً . لكنه غير مساو للمعنى الأصلي في دلالته واستخدامه ، وبهذا يمكن أن تخرج مجموعة مما نسب إلى الأضداد العربية . إلا أن استخدام اللفظ بمعنى مرتجل أو وقتي لسبب عابر طارئ ، كإرادة التفاؤل ، أو الحذر من الإصابة بالعين أو غيره ، كاستخدامه بمعنى مجازي ، يمكن أن يكون في حد ذاته عاملاً في نشوء التضاد أو الاشتراك اللفظي بمفهومه الحقيقي الذي تحدثنا عنه ، وذلك كما سبق أن أوردنا بيانه لأحد الباحثين ( عندما يكثر ترديد اللفظ على الألسنة بهذا المعنى ويطول عليه الأمد في هذا الاستعمال يميل الناس إلى اعتبار دلالته على المعنى المجازي الجديد دلالة عليه على سبيل الحقيقة ومن ثم يصبح معنى الكلمة متعدداً وترصد لها هذه المعاني المتعددة في المعجم فتكون الكلمة بين جلدتي المعجم محتملة لكل معانيها المعجمية المختلفة المنشأ حتى توضع في سياق يحدد لها واحداً من هذه المعاني([40]). وبناء على ذلك فلا يصبح في تحفظ السجستاني نفي للمشترك اللفظي أو التقليل من شأنه أو الطعن في القول بكثرة وروده في اللغة العربية .

أما دعوى أن الاشتراك اللفظي يشيع في اللغة أو في ثقافتها الغموض والالتباس ([41]). فإنها مبنية في الأصل - فيما يبدو - على شبهة قديمة مبالغ فيها ، أثارها بعض الشعوبيين زراية بالعرب وبلغتهم ، وتبناها (ابن درستويه) ، الذي نفى حصول الاشتراك اللفظي بالوضع وادعى ندرة المشترك في العربية . كما ألف كتاباً في إبطال الأضداد . وقد نقل عنه السيوطي فيما أورد له بهذا الشأن قوله : « وليس إدخال الإلباس في الكلام من الحكمة والصواب ، وواضع اللغة - عز وجل - حكيم عليم ؛ وإنما اللغة موضوعة للإبانة عن المعاني ؛ فلو جاز وضع لفظ واحد للدلالة على معنيين مختلفين ، أو أحدهما ضدٌ للآخر لما كان ذلك إبانة بل تعمية وتغطية ([42]). فرأي (ابن درستويه) هذا ، كما هو واضح ، مبني أولاً على كون اللغة توقيفية . كما أن فيه الكثير من المغالاة أو ضيق الأفق . وقد تحدث ابن الأنباري في كتابه « الأضداد » بما يرد عليه .

يقول ابن الأنباري([43]) : (( ويظن أهل البدع والزَّيغ والإزراء بالعرب أن ذلك كان منهم لنقصان حكمـتـهم ، وقلّة بلاغتهم ، وكثرة الالتباس في محاوراتهم ، وعند اتصال مخاطباتهم ؛ فيسألون عن ذلك ، ويحتجون بأن الاسم منبئٌ عن المعنى الذي تحته ، ودالٌّ عليه ، وموضح تأويله ؛ فإذا اعتور اللفظة الواحدة معنيان مختلفان لم يعرف المخاطَب ايّهما أراد المخاطِب ، وبطل بذلك معنى تعليق الاسم على هذا المسمّى ؛ فأجيبوا عن هذا الذي ظنوه وسألوا عنه بضروب من الأجوبة : أحدهن أن كلام العرب يصحّح بعضه بعضاً ، ويرتبط أوّله بآخره ، ولا يعرف معنى الخطاب منه إلا باستيفائه واستكمال جميع حروفه ؛ فجاز وقوع اللفظة الواحدة على المعنيين المتضادين ؛ لأنها تتقدمها ويأتي بعدها ما يدلُّ على خصوصية أحد المعنيين دون الآخر ، ولا يراد بها في حال التكلم والإخبار إلا معنى واحد )) .

ويستشهد ابن الأنباري على قوله هذا بأمثلة شعرية وقرآنية ونثرية كثيرة مما يفرض فيها السياق معنى للفظة المشتركة دون غيره ، فلا يلتبس المعنى على القارئ ، كقول الشاعر :

والفتى يسعى ويُلْهيه الأمـَل


كلُّ شيء ما خلا الموت جَلَلْ




ويعقب على ذلك بقوله : « فدل ما تقدم قبل « جلل » ، وتأخر بعده ، على أن معناه كلُّ شيء ما خلا الموت يسير ، ولا يتوهم ذو عقل وتمييز أن الجَلَل هنا معناه عظيم . » وهذا عكس ما يفرضه السياق في قول الشاعر الآخر :

ولئن سَطوْتُ لأُوهِنَنْ عَظْمي


فلئن عفـوتُ لأعفونْ جَللاً



فإذا رميتُ يصيبـني سهمـي


قومي هُمُ قتلوا أُمَيْمَ أخـي




فهذا الكلام يدل ، كما يعقب ابن الأنباري : « على أنه أراد : فلئن عفوت لأعفونّ عفواً عظيما ؛ لأن الإنسان لا يفخر بصفحه عن ذنب حقير يسير . فلما كان اللبس في هذين زائلا عن جميع السامعين لم ينكر وقوع الكلمة على معنيين مختلفين في كلامين مختلفي اللفظين . » وهكذا يتحدد المراد من كلمة « جلل » المشتركة أو المختلفة المعنى من خلال السياق بيسر وسهولة ، ولا يحدث اللبس المزعوم .

وقد رد ضياء الدين ابن الأثير على دعوى وقوع الغموض عند استعمال المشترك اللفظي بمثل ما رد به ابن الأنباري مؤكداً على أن فائدة البيان أو وضوح الدلالة عند استعمال المشترك اللفظي يمكن استدراكها بالقرينة ، بينما لا يمكن استدراك ما يمكن أن يتحقق بفضل استعماله من التحسين البلاغي أو الجمالي الفني في الكلام في حالة تركه ([44]). وإذاً فالأولى استعماله والقرينة أو السياق كفيل بإزالة ما يمكن أن يحدثه هذا الاستعمال من غموض .

إن للسياق أهميته ومقامه الكبير في التبادل اللغوي ، وبفضله يستطيع الناس أن يستخدموا المشترك اللفظي ويتفاهموا من خلاله فيما بينهم تفاهماً واضحاً صريحاً لا غموض فيه ؛ لأن مقدرة الكلمات على أداء وظيفتها - كما يصرح (ستيفن أولمــان) Stephen Ullmann - « لا تتأثر بحال من الأحوال بعدد المعاني المختلفة التي قدر لها أن تحملها ، بدليل أن بعض هذه الكلمات تستطيع بالفعل أن تقوم بعشرات الوظائف في سهولة ويسر ))([45]) .

والقول بأهمية السياق وبدوره في تحديد المفهوم المناسب أو المراد من بين المفاهيم الأخرى التي قد تشترك في اللفظ الواحد لا يمنع من التسليم بأن بعض المفاهيم المشتركة قد تلتبس أحياناً أو تتداخل فتؤدي إلى نوع من
الغموض . كما يحدث أن تهجر أو تتراجع بعض هذه المفاهيم أو تطغى المعاني الجديدة على المعاني القديمة منها ، فتنسى القديمة ولا يتمكن المتلقي الحديث العهد من معرفتها ، ولاسيما إذا كان ضئيل المحصول من مفردات اللغة ، وربما قاد ذلك إلى صعوبة فهمه للنص الذي ترد فيه ، خصوصاً إذا كان هذا النص شعرياً فنياً متعمق اللغة . إلا أن تعدد المعنى رغم ذلك ليس بحال من الأحوال هو المصدر الوحيد للغموض أو اللبس ، فهناك كما يبين ( وليم إمبسون ) William Empson في كتـــــابه

Seven Types of Ambiguity أنواع سبعة من اللبس أو ازدواج الدلالة([46]) ، وربما كان الاشتراك اللفظي من أقلها سلبية على النص الأدبي ، بل ربما كان من أظهرها إيجابية في إضافة معنى جديد أو ظل موح بمعنى آخر يستخلص مباشرة من صريح العبارة ، ويكون له أثر في توجيه القارئ لاتجاه أو اتجاهات مختلفة فعالة لها أهميتها في إضافة قيمة أو قيم جديدة للنص كما يحصل ذلك في التورية وفي غيرها من الأنواع والأساليب البلاغية .

من خلال ما سبق ذكره نتبين أن كثرة المشترك اللفظي لا تشين اللغة ولا تنهكها ليقال : إن إنكاره أو التقليل من شأنه يعد دفاعاً عن حياض اللغة أو حماية لها . كما أن كثرته لا تدل على ضعف اللغة أو ضيقها وقلة ألفاظها ، بل تدل على اتساعها ومرونتها ؛ لأن استعارة العرب لفظ الشيء لغيره كما يقول ابن رشيق : (( إنما هي من اتساعهم في الكلام اقتداراً ودالة ، ليس ضرورة . ألا ترى أن للشيء عندهم أسماء كثيرة وهم يستعيرون له مع ذلك ؟ على أنا نجد أيضاً اللفظة الواحدة يعبر بها عن معان كثيرة ، نحو (العين) التي تكون جارحة ، وتكون الماء ، وتكون الميزان ، وتكون المطر الدائم الغزير ، وتكون نفس الشيء وذاته ، وتكون الدينار ، وما أشبه ذلك كثير ، وليس هذا من ضيق اللفظ عليهم ، ولكنه من الرغبة في الاختصار ، والثقة بفهم بعضهم عن بعض . ألا ترى أن كل واحد من هذه التي ذكرنا له اسم غير العين أو أسماء
كثيرة ؟ )) ([47])

علاوة على ما سبق ذكره فإن قدرة الكلمة على التعبير عن الفكر أو المعاني المتعددة وتأهيلها للقيام بعدد من الوظائف المختلفة في حد ذاتها (( دليل على حيوية اللغة ورواجها . فكيف ننادي لفائدة أحادية المعنى ؟ علماً بأن أحادية المعنى لا يمكن أن تقوم إلا بتحجير اللغة والقضاء على حركتها ، أي قتلها ، وعلماً كذلك بأن المجاز والسياق يعرضان اللفظ للتوسع الدائم ))([48]) .


أهمية المشترك اللفظي
أشير فيما سبق ذكره إلى أن التعرف على الأبعاد أو المجالات الدلالية للكلمات والتراكيب اللغوية المكتسبة تمكن الفرد من استغلال الطاقات المتوافرة في ألفاظ اللغة للتعبير عن مكنونات النفس ودقائق الفكر ونوازع الوجدان ، وبما يتلاءم مع كافة الظروف النفسية والاجتماعية ومع السياقات اللغوية المختلفة . لاسيما أن ألفاظ اللغة ، أية لغة - مهما كثرت فهي محدودة من حيث الكم ، بينما المعاني والأفكار والمدركات متجددة متطورة متنامية لا حدود لاتساعها .

إن المعاني غير متناهية ، والألفاظ متناهية . كما يؤكد علماؤنا العرب القدامى([49]) . (( ولدينا نحن الكبار طائفة لا حصر لها من المعاني لا نجد لها الألفاظ المناسبة وكثرة من الأفكار يستعصي علينا التعبير عنها . من ذلك أننا نقول : إن الطيف الشمسي يحتوي على سبعة ألوان ، مع أن مناطق تداخل هذه الألوان تحتوي على ظلال شتى دقيقة لطيفة من الألوان ليست لدينا أسماء لتسميتها كذلك كثير من حالاتنا الشعورية والوجدانية )) ([50]). وهكذا يبقى المخزون اللفظي للغة - مهما اتسع وتنامى - قاصراً عن الوفاء بمطالب التعبير ولاسيما في مجال الأفكار المجردة ونوازع النفس البشرية وانفعالاتها وأحاسيسها الدقيقة المتشعبة المتنامية ، وبذلك فلا غنى للإنسان في تواصله ونشاطه اللغوي بمختلف أشكاله عن استعمال آخر أو استعمالات أخرى متعددة للكلمات التي يضعها أو يرثها .

إن وجود كلمة مستقلة خاصة بكل شئ يتداوله الناس أمر صعب ، لأنه يفرض عبئاً ثقيلاً على الذاكرة . هذا إن استطاعت هذه الذاكرة أن تحيط بكل ما يتواضع عليه أفراد الجماعة من الألفاظ . لقد ثبت أنه لا قدرة للإنسان على الإحاطة بكل مفردات اللغة ([51]). وأنه حتى لو كرس شخص ما وهب قوة الحفظ جهداً خاصاً لاستظهار قسط وافر من هذه المفردات في فترة معينة من الزمن ، فإن المشكلة أو الصعوبة تبقى قائمة في قدرة هذا الشخص على استرجاع ما حفظ أو استظهر ، بعد توالي الزمن ؛ إذ يتعذر على ذاكرة الإنسان - مهما قويت و اتسعت - كما يقرر علماء النفس - أن تحتفظ بكل ما أودع أو اختزن فيها من معلومات لأمد طويل ، حيث إن الإنسان معرض لأن ينسى الكثير مما حفظ واكتسب من معلومات أو معارف مع مرور الزمن ، وخاصة عندما لا تتوافر الحوافز أو الأسباب لاسترجاع وحضور هذه المعلومات أو المعارف في ذهنه ([52]). ومع هذا الافتراض فإن الإنسان يجد في المشترك اللفظي ما يسعفه في التعبير عن أغراضه حتى وإن كان محصوله من ألفاظ اللغة عامة قليلاً ، ودونما تعرض لما يرهق ذاكرته .

يقول (ستيفن أولمان) « إن الآثار المترتبة على تعدد المعنى للكلمة الواحدة بالنسبة للثروة اللفظية للغة آثار بعيدة المدى . من ذلك مثلاً أن وجود كلمة مسـتـقـلة لكل شيء من الأشياء التي قد نتناولها بالحديث من شأنه أن يفرض حملاً ثقيلاً على الذاكرة الإنسانية . وسوف يكون حالنا حينئذ أسوأ من حال الرجل البدائي الذي قد توجد لديه كلمات خاصة للدلالة على المعاني الجزئية « كغسل نفسه » و « غسل شخصاً آخر» و « غسل رأس شخص آخر » و « غسل وجهه » و « غسل وجه شخص آخر » الخ ، في حين أنه لا توجد لديه كلمة واحدة للدلالة على العملية العامة البسيطة وهي « مجرد الغسيل » . إن اللغة في استطاعتها أن تعبر عن الفكر المتعددة بواسطة تلك الطريقة الحصيفة القادرة ، التي تتمثل في تطويع الكلمات وتأهيلها للقيام بعدد من الوظائف المختلفة . وبفضل هذه الوسيلة تكتسب الكلمات نفسها نوعاً من المرونة والطواعية ، فتظل قابلة للاستعمالات الجديدة من غير أن تفقد معانيها القديمة([53]) .

وحتى لو أحاط الفرد بكل ما يمكن أن يعبر عن جميع أغراضه وأفكاره من ألفاظ اللغة وصيغها ، فإن الموقف أو النمط والأسلوب الكلامي قد يفرض عليه أحياناً الاقتصاد في استعمال الألفاظ ، أو استعمالها في معان وخطابات غير مباشرة ، تجنباً لحرج أو مواجهة غير محمودة ، كما قد تدعوه نزعة فنية إلى نوع من التنميق الجمالي والتنغيم الصوتي المحبب ، مما يحوجه لكلمات ذات أصوات متشابهة ودلالات متشعبة ثرية . وفي مثل هذه الحال يكون المشترك اللغوي عوناً له في تحقيق غرضه ..

كان المشترك اللفظي في اللغة العربية قديماً وما يزال عوناً لأولئك المغرمين بالمحسنات اللفظية وألوان البيان وفنون البديع كالاستعارة والتجنيس أو الجناس والترديد والمماثلة والمشاكلة والترصيع والتورية (( التي كان لها شأن في الرمزية الأسلوبية العربية ))([54]) وما إلى ذلك من المغالطات المعنوية أو الألعاب اللغوية ، كما يحلو للبعض أن يسميهـا([55]). وقد عد ضياء الدين بن الأثير (ت 559هـ) الأسماء المشتركة من جملة أدوات البيان وآلاته ، ومن أهم ما يحتاج الشاعر والكاتب إلى معرفته والإحاطة به كوسيلة للقول البليغ ، على أساس أن فائدة وضع اللغة في رأيه ووفق نظرته التوقيفية لها لا تكمن في البيان وحده ، وإنما في البيان والتحسين : « أما البيان فقد وفى به الأسماء المتباينة التي هي كل اسم واحد دل على مسمى واحد ، فإذا أطلق اللفظ في هذه الأسماء كان بيناً مفهوماً ، لا يحتاج إلى قرينة ، ولو لم يضع الواضع من الأسماء شيئاً غيرها ، لكان كافياً في البيان .. وأما التحسين فإن الواضع لهذه اللغة العربية ، التي هي أحسن اللغات ، نظر إلى ما يحتاج إليه أرباب الفصاحة والبلاغة فيما يصوغونه من نظم ونثر ، ورأى أن من مهمات ذلك (التجنيس) ، ولا يقوم به إلا الأسماء المشتركة ، التي هي كل اسم واحد دل على مسميين فصاعداً ، فوضعها من أجل ذلك([56]) .

والتجنيس أو الجناس القائم على الاشتراك اللفظي هو الجناس التام الذي يعد أرقى أنواع الجناس وأكثرها إبداعاً عند رجال البلاغة . وهو لا يقتصر على الأسماء كما يمكن أن توحي عبارة ابن الأثير السابقة ، وإنما يشمل الأفعال والألفاظ عامة . يقول ابن حجة الحموي : (( أما الجناس التام : فهو ما تماثل ركناه واتفقا لفظاً واختلفا معنى ، من غير تفاوت في تصحيح تركيبهما ، واختلاف حركتهما ، سواء كانا من اسمين ، أو من فعلين ، أو من اسم وفعل ، فإنهم قالوا : إذا انتظم ركناه ، من نوع واحد ، كاسمين أو فعلين ، سمي مماثلاً ، وإن انتظما من نوعين ، كاسم وفعل ، سمي مستوفى ، وجل القصد تماثل الركنين في اللفظ والخط والحركة واختلافهما في المعنى ، سواء كانا من اسمين أو من غير ذلك ، فإن المراد أن يكون الجناس تامًّا ، على الصفة المذكورة ، من حيث هو أكمل الأنواع إبداعاً وأسماها رتبة وأولها في الترتيب )) ([57]).

و(التجنيس) أو الجناس التام الذي لا يقوم به إلا الألفاظ المشتركة ، ليس من مهمات الفصاحة والبلاغة عند ابن الأثير وابن حجة الحموي وحدهما ، وإنما كان موضع اهتمام معظم البلاغيين والنقاد العرب القدامى عامة ، إلى درجة أن قدمه بعضهم على الألوان البديعية الأخرى . فقد عده يحيى ان حمزة العلوي صاحب الطراز ( ت 745 هـ) (( من ألطف مجاري الكلام ومن محاسن مداخله ، وهو من الكلام كالغرة في وجه الفرس )) ([58]) ؛ وما ذلك إلا لما للتجنيس عندهم من ارتباط وثيق بالذوق اللغوي للشاعر أو المتكلم البليغ عامة ومن دلالة على رقة طبعه وتعمقه في اللغة وقوة تداعي الألفاظ والمعاني لديه ، ثم لما للتجنيس البديع ذاته من أثر في التجسيد والإيحاء وجمال الإيقاع وجذب النفس وصرف الذهن إلى بديع المعاني . يقول البهاء السبكي (ت 763 هـ) عن عماد الدين بن الأثير - وكان يجد هذا الأخير متعة في الإصغاء إلى التجنيس في الكلام - : (( إن مناسبة الألفاظ تحدث ميلاً وإصغاء إليها ، ولأن اللفظ المشترك إذا حمل على معنى ثم جاء والمراد به معنى آخر كان للنفس تشوف إليه )) ([59]) .

ومن الجدير بالذكر أن عدداً من الكتاب الأوروبيّين الشكليين ولاسيما كتاب العصور الوسطى وما بعدها ، قد أغرموا باستخدام الجناس - القائم على الاشتراك اللفظي - مثلما أغرم به الكتاب العرب من قبل ، ويظهر ذلك واضحاً في عدد من مسرحيات الكاتب الفرنسي ( جان راسين ( Jean Racine، وكتابات الكاتب والشاعـــــــر الإيطــــالي

(جيوفــاني بوكاشيو) Giuvanni Boccaccio ([60]) .

كان المشترك اللفظي كذلك ملجأً للشعراء في حال احتياجهم لتكرار ألفاظ بعينها في قوافيهم ، سواء لاستغلال النواحي الصوتية في هذه الألفاظ أو الطاقات المعنوية أو الجوانب الشكلية فيها وما يمكن أن تؤديه من دور في النغم والإيقاع العروضي أو المضمون التأثيري عامة .. ولقد أجاز عدد من النقاد وعلماء البلاغة العرب للشاعر تكرار لفظ بعينه في قوافيه إذا كان هذا اللفظ لمعنى مختلف ولم يعتبره أحد منهم (إيطاء) كما صرح بذلك ابن رشيق القيرواني([61]) .

ولقد هيأ المشترك اللفظي تطوير محسن بلاغي كان له شأنه وموقعه الجليل عند أهل البلاغة وكان من الناحية العملية محل اهتمام كثير من الشعراء والكتاب أيضاً . ذلك هو « رد العجز على الصدر ، وهو في الشعر » أن يكون أحد اللفظين المكررين في آخر البيت والآخر في صدر المصراع الأول أو حشوه أو آخره أو صدر الثاني »([62]) ، فقد تفنن الشاعر العربي القديم في استخدام هذا المحسن وأظهر براعة في استغلال الطاقات الموسيقية الجميلة التي يحدثها التماثل اللفظي . وقد اشتملت كتب البلاغة والنقد على الكثير مما يجسد براعته في ذلك([63]) .

يتبين مما سبق ذكره أن المشترك اللفظي قد أتاح فرصاً متنوعة لكثير من الأدباء والشعراء لإشباع هواياتهم في التحسين اللفظي وفي تطلعاتهم الفنية لاستغلال القيم والإمكانيات التعبيرية لأصوات اللغة بالإضافة إلى الطاقات المعنوية للكلمات ، وكان من بين هؤلاء الشاعران المشهوران المتنبي وأبو حية النميري ، اللذان كانا مولعين بالجناس كما يقول القيرواني([64]) ، كما كان منهم أبو تمام الذي اشتهر بمجازاته واستعاراته اللفظية الغريبة الكثيرة . وهكذا فقد كان لتوافر هذا المشترك فضل في كثير مما أنتجه هؤلاء الشعراء وغيرهم من تجارب وأشكال تعبيرية فنية رائعة تجلت فيها براعة الفنان العربي وذكاؤه في استثمار مخزون اللغة من هذا المشترك وطاقاته التعبيرية والإشارية وتطويعها لفنه ولما كانت تتطلبه ثقافة العصر من هذا الفن .

وإذا كانت للمشترك اللفظي أهميته بالنسبة للشعراء القدامى أو بالنسبة للشعر التقليدي عامة ، فلاشك أن شأنه يزداد في اعتبار نظريات الشعر الحديث . حيث تنادي هذه النظريات بتعميق الرؤية وتعددية المعنى وبعد الدلالة وكثافة الصورة في العبارة الشعرية ، وتعتبر (( الشعر استكشافاً دائماً لعالم الكلمة ، واستكشافاً دائماً للوجود عن طريق الكلمة )) ([65]) وتعد (( أولى مميزات الشعر هي استثمار خصائص اللغة بوصفها مادة بنائية )) ([66]). وبذلك تفترض من الشاعر المبدع أن يسعى بكل ما لديه من إمكانيات لاستغلال كل ما يمكن أن تحمله الكلمات من دلالات وكل ما تكمن فيها من طاقات معنوية وإيحائية . ليجعل من تجربته الشعرية نسيجاً فنياً ثرياً مفعماً بالرؤى والشحنات الانفعالية المؤثرة ، تمتزج فيه التوقعات والانفعالية بالمفاجآت وخيبة الظن كما يعبر الناقد الإنكليزي (رتشاردز Richards I.A. . )([67]) ومن هنا تأتي أهمية المشترك اللفظي كرافد يمد الشاعر الحديث بما يمكنه من فنه ويثري تجربته .

والحقيقة أن الشاعر سواء أكان قديماً أم حديثاً لا يكتفي باستغلال ما تحمله الألفاظ من دلالات موروثة . وإنما يسعى لشحنها بدلالات جديدة ، وربما ألغى أو تجاهل تلك الدلالات القديمة كلها وخلق لألفاظه المختارة معاني ومسميات لا عهد لأصحاب اللغة الآخرين بها ، مستفيداً في كل ذلك مما يتيحه المجاز ويحققه له من إمكانيات لغوية للتعدد الدلالي المستمر للفظ أو التركيب اللغوي الواحد حيث يصبح المجاز في العبارة الشعرية وسيلة أساسية للشاعر للاختراق والنفاذ إلى عوالم الكون اللامحدودة ، أو أداته للانتقال والامتداد والاتساع والعبور باللفظ من معناه الحقيقي ودلالاته المعتادة المألوفة . كما هو في تصور علماء البلاغة العرب القدامى([68]) . وحيث يكون هذا المجاز ، كما يعبر النقاد المعاصرون وسيلة للعدول وإعادة البناء والانزياح باللفظة من وظيفتها المرجعية ودلالتها الذاتية الوضعية السابقة إلى دلالات أخرى قد يصعب حصرها([69]) . وبهذه الدلالات الجديدة المتنامية تتولد المفاجآت وينشأ الإدهاش والإبهار والغموض والإبداع في الشعر لغة ومعنى وصورة ، وتتبلور وتتميز لغة الشاعر الخاصة . كما تتوسع وتتنامى في الوقت نفسه طاقات المشترك اللفظي كماً ونوعاً . ويصبح الشاعر مستثمراً لإمكانيات المشترك اللفظي المتاحة ، ومجدداً ومطوراً لهذه الإمكانيات في آن واحد وكان المشترك اللفظي وما ينتج عن استعماله أحياناً من تباين في تحديد المفاهيم وإدراك المقاصد والأهداف في التوريات والاستعارات والتعميات والمغالطات المعنوية أو في النصوص الأخرى ذات المعاني الدقيقة المعمقة ، كان سبباً لاختلاف النقاد واللغويين في فهم كثير من النصوص الشعرية وعاملاً في طرح التفسيرات المتعددة وإثارة الكثير من الخلافات والمناقشات الأدبية المثرية بشأنها أحياناً([70]) ، وربما كان ذلك من أسباب الاتجاه لتفسير النصوص وشرح المعلقات والقصائد ثم تعدد شروحها وعقد الدراسات حولها ، وما يعقب هذه الأعمال في العادة من توسع في الحديث عن المجاز والاستعارة وعن القرائن اللفظية والمعنوية والسياقية وعن الأساليب البيانية وغير ذلك من المسائل اللغوية والبلاغية والنقدية ذات العلاقة .

تضاربت الأقوال واختلف اللغويون والنقاد في تفسير كلمة ( عَيْر) التي وردت في بيت للشاعر الجاهلي الحارث بن حلّزة اليشكري نصه :

رَ موال لنا وأنى الولاء !


زعموا أن كل من ضرب العَيْـ




فقيل : إنه أراد بـ (العير) الوتد ، وقيل : إنه أراد بها الضاربين العرب ؛ لأنهم كانوا أصحاب عمُد وأوتاد وخيام ، كما قيل أنه أراد عير العين ، وهو ما نتأ منها ، أي كل من ضرب عير عينه بجفنة ، وقيل : أراد بالعير ما يطفو على الحوض من الأقذاء ، وقيل إنه قصد جبلاً في الحجاز ، وقيل غير ذلك ؛ لأن كلمة (عير) تعني هذه المعاني كلها ومعاني غيرها([71]) ، وليس من قرينة بيّنة توضح المراد ولا من سبب يمنع إرادة أي من هذه المعاني ، والشاعر فحل مشهور لا يستهان بقوله أو يطرح ويتجاهل .. وهكذا كان التضارب ومن ثم التعليق والنقاش حول هذا البيت . وأصبح لغموض الكلمة والتباس معناها فيه دور فعال في التفكير والتعليق والاستشهاد بالإضافة إلى استحضار معاني الكلمة المفسَرة نفسها ، ما كان قريباً منها وما كان بعيداً عن الأذهان ربما من قبل بعض النقاد([72]) .

وقد احتوى القرآن الكريم والحديث الشريف على طائفة من الألفاظ المشتركة المعاني عنى بجمعها وتصنيفها عدد من علماء اللغة([73]) . سنذكر في أثناء حديثنا عن مصادر المشترك لاحقاً بعضاً منهم . وكان ذلك سبباً في اختلاف المفسرين وعلماء الفقه والأصول في تأويل كثير من آيات القرآن وتفسير مجموعة من الأحاديث النبوية ، مما أدى إلى الاختلاف في استنباط أو تقرير كثير من الأحكام الفقهية وفي تحديد بعض الأفكار والمواقف العقائدية . ودفع الأصوليين والفقهاء والمتكلمين للاهتمام بالمشترك اللفظي وبالمسائل الأخرى المتعلقة بدلالات الألفاظ عامة([74]) . كما دفع بعض للغويين أنفسهم إلى المزيد من الاهتمام بالمشترك اللفظي والتوجه لجمعه أو التأليف فيه والخوض في مناقشة ما يتعلق منه بألفاظ القرآن .

يقول أبو حاتم السجستاني في مقدمته لكتابه « كتاب المقلوب لفظه في كلام العرب والمزال عن جهته والأضداد » ، مبيناً ما حمله على تأليف هذا الكتاب : (( حملنا على تأليفه أنا وجدنا من الأضداد في كلامهم والمقلوب شيئاً كثيراً ، فأوضحنا ما حضر منه إذ كان يجيء في القرآن الظن يقيناً وشكاً ، والرجاء خوفاً وطمعاِ ، وهو مشهور في كلام العرب ، وضد الشيء خلافه وغيره ، فأردنا أن يكون لا يرى منْ لا يعرفُ لغاتِ العربِ أنّ اللهَ عزَّ وجلَّ حينَ قالَ : إنها لكبيرةٌ إلا على الخاشعينَ * الذينَ يظنونَ مدحَ الشاكينَ في لقاءِ ربهمْ ، وإنما المعنى يستيقنونَ ، وكذلكَ في صفةِ منْ أوتيَ كتابهُ بيمينهِ منْ أهلِ الجنةِ هاؤم اقرءوا كتابيهْ * إنِّي ظننتُ ، يريد إنِّي أيقنتُ ، ولوْ كان شاكًّا لمْ يكنْ مؤمناً ، وأماَّ قولهُ : قلتمْ ما ندري ما الساعةُ إنْ نظنُ إلا ظناًّ فهؤلاء شكَّاكٌ كفاَّرٌ ))([75]).

ولا بد أن يكون المشترك اللفظي وفقاً لما سبق ذكره مدعاة لاهتمام المشرعين والقانونيين والمفكرين أو العقائديين في وقتنا الحاضر . حيث تتوقف كثير من القضايا الشرعية والقانونية والفكرية أيضاً على تحليل وفهم الوثائق والنصوص ذات الصلة فهماً صحيحاً دقيقاً مانعاً للتردد أو الشك . وما دام هناك ألفاظ مشتركة في اللغة سارية المفعول جارية الاستخدام ، نافذة التأثير فلابد أن يكون هذا الاهتمام موجوداً .

ومع ما تشهده اللغة من تطور مستمر وسريع لدلالة الألفاظ ومفاهيم الصيغ اللغوية وما يتبع ذلك من زيادة للمشترك اللفظي كماً ونوعاً واتساع معانيه أو تغيرها . يزداد تعلق هذا الجزء من اللغة بشؤون الحياة وقضايا العصر على اختلافها ، ولاسيما تلك القضايا التي تتوقف الأمور فيها على الفهم الصحيح الدقيق للوثائق المدونة والنصوص والعهود والمواثيق المحكية أو المسموعة فيها ، أو تترتب نتائج خطيرة أو مواقف حساسة فيها على الاختلاف في دلالة الألفاظ والصيغ اللغوية المستعملة في هذه الوثائق أو النصوص . كالقضايا السياسية ، وقضايا العلاقات الدولية والدبلوماسية والمعاملات التجارية والاقتصادية . ثمة تلك الموضوعات المتعلقة بصناعة المصطلحات العلمية وتحديد المفاهيم المرتبطة بها . ومن هنا يصبح المشترك اللفظي محط اهتمام رجال العلم والسياسة والفكر ، كما هو مجال اهتمام اللغويين والأدباء وعامة المثقفين والمتعلمين .

إن كل ما سبق ذكره يؤكد أن « المشترك اللفظي » في اللغة العربية لم يكن دليلاً ثابتاً على سعة اللغة ومرونتها وعاملاً في زيادة ثرائها وطواعيتها فحسب ، وإنما كان أيضاً سبباً في ظهور وتبلور كثير من الأعمال العلمية والأدبية وإنماء وتوسيع النشاطات الفكرية وفي إثراء العقل العربي عامة . وأن فاعليته في كل ذلك ما زالت قائمة في حياتنا الحاضرة ، ولاشك أن هذه الفاعلية ستكون أوسع وأكبر ما بقي الاهتمام باللغة وبتطوير القدرات التعبيرية والإنتاجية فيها، وما دام باب الاجتهاد مفتوحاً في التفسير والتأويل والاستنباط والاستنتاج والحكم ، وكانت هناك حرية للفكر والرأي والتعبير . وما دام التطور مستمراً في مستجدات الحياة ومستحدثات العصر وشؤونه . ومن هنا تنشأ الضرورة في وجود معجم متطور شامل جامع لكل ما وجد في اللغة العربية من ألفاظ مشتركة المعاني متمشية مع أصول اللغة ملبية لمتطلبات الحياة مناسبة لذوق العصر ومعبرة عن مستجداته ومستحدثاته المتطورة وفاعلة في مجال التعبير بأشكاله وأنشطته المختلفة.



مصادر المشترك
لقي المشترك اللفظي عناية اللغويين والمفسرين وعلماء الفقه والأصول القدامى كما سبق القول ، وألفت لجمعه وتصنيفه كتب عديدة منها ما اختص بالموجود منه في القرآن أو في الحديث الشريف ، ومنها ما عنى بعامة المشترك دون تخصيص . ومما وصل إلينا وتم طبعه ونشره من الصنف الأول كتاب « الوجوه والنظائر » لمقاتل بن سليمان البلخي (ت 150هـ)، و « الوجوه والنظائر » أيضاً لهارون بن موسى الأزدي (ت 170هـ) ، و « كتاب ما اتفق لفظه واختلف معناه في القرآن المجيد » للمبرد (ت 285هـ) ، وكتاب « الأشباه والنظائر في الألفاظ القرآنية التي ترادفت مبانيها وتنوعت معانيها » للثعالبي (ت 429هـ) ، ومن الصنف الثاني كتاب « الأجناس من كلام العرب وما اشتبه في اللفظ واختلف في المعنى » لأبي عبيد القاسم بن سلام
(ت 224هـ) ، و « المنجد فيما اتفق لفظه واختلف معناه لعلي بن الحسن الهنائي الأزدي الملقب بكراع النمل ( ت 310هـ ) ... أما ما ورد ذكره ولم يصل إلينا أو وصل ولم يطبع وينشر من هذه الكتب فكثير([76]) .

وبالنسبة لكتب المشترك اللفظي التي وضعت تحت عنوان « الأضداد » فإنها على كثرتها وتفاوت أحجامها وأشكالها لا توحي بعناوينها بالاختلاف أو التباين من حيث المضمون . ولم يصل إلينا منها - على حد علمي - ما يشير عنوانه إلى خصوصية معينة أو تفرد بنوعية مميزة من المشترك اللفظي ، أو الضد . ومن أبرز وأشهر ما ظهر من هذه المؤلفات : كتاب « الأضداد » لمحمد بن المستنير بن أحمد الملقب بقطرب (ت 206 هـ) ، و « الأضداد » لعبد بن محمد ابن هارون التوزي (ت 233 هـ) . و« الأضداد » ، لمحمد بن القاسم الأنباري (ت 327هـ) . و «الأضداد في كلام العرب » لأبي الطيب عبد الواحد بن علي اللغوي (ت 359هـ) . و « الأضداد في اللغة » لناصح الدين بن المبارك الأنصاري (ت 569 هـ) . وقد قام الدكتور ( أوغست هفنر) Haffner , A في عام 1913م كما سبقت الإشارة بنشر أربعة كتب للأضداد الـعربـيـة في مجلد واحد لكل من أبي سعيد عبد الملك بن قُريب الأصمعي (ت 216هـ) وأبي حاتم سهل بن محمد السجستاني (ت 250هـ) وأبي يوسف يعقوب بن اسحق السكيت (ت 244هـ) ، والحسن بن محمد بن الحسن الصغاني (ت 650 هـ) . علماً بأنه قد نشر بعض هذه الكتب كل على حدة في طبعات مستقلة([77]) .

ويعد كتاب « الأضداد » ، لمحمد بن القاسم الأنباري في نظر محققه محمد أبو الفضل إبراهيم . أكثر معاجم هذا النوع شواهد وأوضحهـا عبارة وأوسعها مادة ، لأنه كما يقول : أتى على جميع ما ألف قبله وأربى عليه([78]) ، إلا أن كتاب «الأضداد في كلام العرب » لأبي الطيب اللغوي ــ الذي ألف كما يبدو من تاريخ وفاة مؤلفه بعد كتاب ابن الأنباري ــ يضاهيه في الواقع في سعة المادة وبسط الشرح وكثرة الاستشهاد وجودة التنظيم ، فقد اشتمل هذا الكتاب على (370) ضداً مرتبة في أصل الكتاب وفق التسلسل الهجائي([79]) ، بينما تضمن كتاب ابن الأنباري (296) ضداً . وردت في أصل الكتاب على غير ترتيب معين . أما « كتاب الأضداد » للصغاني ، فهو وإن لم يكن كسابقيه في الاستشهاد وزيادة الشرح والتوضيح إلا أنه تضمن كما يشير تسلسل الأرقام فيه (337) ضداً مرتبة على حروف المعجم([80]) .

ومع أن المؤلفات المذكورة وكتب ورسائل أخرى غيرها ([81]) مطبوعة ومنتشرة فإن أياً منها لا يمكن أن يشكل في الحقيقة معجماً متكاملاً ، يشتمل على كل ما ورثناه من الأضداد ويتناسب من حيث المادة والمنهج في التصنيف والترتيب والشرح مع معطيات هذا العصر وحاجاته ومع طرق التصنيف اللغوي والتأليف المعجمي ومناهجه المتطورة .

في بعض هذه الكتب ما لا يوجد في بعض آخر ، وفي بعضها حوشي غريب يمكن الاستغناء عنه ، لعدم حيويته وفاعليته في لغة العصر أو لمحدودية هذه الحيوية وهذه الفاعلية أو تخصيص كتب مستقلة بما يؤمل أن تكون له فائدة منه في المستقبل ، بينما لا يشتمل أي من هذه الكتب بطبيعة الحال على ما خلقته ظروف الحياة الجديدة أو الحاضرة منها . هذا كله بالإضافة إلى ما ينقصها من التنظيم المحكم في الفهرسة والتبويب والترتيب والتصنيف والإخراج . وما يعوز أكثرها من دقة التحديد واختصار الشرح والاقتصار على ما يهم القارئ . حيث يغص الكثير منها بالروايات والاستطرادات والشواهد القرآنية والأبيات الشعرية والشروحات المطولة والتداخل في تفسير المواد ، وما إلى ذلك مما عبر عنه وأيده ناصح الدين بن المبارك الأنصاري من قبل في مقدمته لكتابه المذكور (( الأضداد في اللغة )) ([82]).

يتألف كتاب « الأضداد » ، لمحمد بن القاسم الأنباري في طبعته التي بين أيدينا ([83]) على نحو المثال من (428) صفحة ، لا تتضمن سوى (300) من ألفاظ الأضداد أو الألفاظ المشتركة ([84]) ، غارقة في حشد كبير من الشواهد القرآنية والشعرية والأحاديث النبوية الشريفة والأرجاز والأقوال المأثورة الأخرى التي تثبت صحتها أو صحة استعمالها أو تبين الاختلاف في نطقها أحياناً ، مما يبلغ عدده (270) آية ، و (53) حديثاً نبوياً و (762) بيتاً من الشعر و(100) من الأرجاز ، هذا عدا أنصاف الأبيات ، وأسماء الرواة والمحدثين والشعراء والمفسرين والفقهاء ، وغير ذلك مما استغرق إحصاؤه وفهرسته بمجموعه (88) صفحة ، أضيفت لصفحات المتن المبينة فجعلت من الكتاب سفراً ضخماً تبلغ مجموع صفحاته (517) صفحة .

وقد تضمنت الشروح الواردة لعدد من ألفاظ الأضداد التي اشتمل عليها الكتاب المذكور كثيراً من الحشو والاستطراد والتوسع في ذكر أوجه الخلاف في تفسيرها وتحديد المفهوم منها وتباين القراء في نطقها إن كانت مما ورد في القرآن الكريم ، وما قد يرد من اختلاف اللهجات في معناها أو في استعمالها . هذا عدا سلسلة الروايات التي تسرد أحيانا لتوثيقها وعدا ذكر الفروق بين كل كلمة منها وبين ما قد يقاربها في النطق أو يشابهها في الرسم والشكل وذكر بعض الفوائد النحوية والصرفية ، وشرح بعض الشواهد الواردة على الكلمة وما إلى ذلك مما يدل على سعة اطلاع المؤلف وعميق معرفته وحسن تتبعه ويثري الكتاب ويفيد الباحث المتخصص المتعمق أو الأديب المتوسع ، ولكنه لا يهم المثقف العام أو المتعلم الناشئ ، بل إنه قد يصرفه عن الكتاب وعن متابعة البحث فيه عن مراده من الألفاظ التي عقد الكتاب في الأصل من أجلها ..

ورد شرح كلمة (الساجد) وحدها في الكتاب المذكور على نحو المثال في ما يقرب من أربع صفحات([85]) ، تضمنت من الشواهد ثلاث آيات قرآنية و (18) بيتاً من الشعر مع شروحات وتعليقات عليها، وأسماء لثمانية من الشعراء ورواة الشعر ، وشرحاً لستة من تصاريف الكلمة المذكورة . وإذا كان القارئ غير المتخصص محتاجاً لمعرفة مدلولات الكلمة التي تضمنتها الصفحات الأربع ومعرفة أوجه استعمالها في معانيها المجازية المتعددة ، فإنه غير محتاج لذلك الكم من الشواهد والاستطرادات في الشرح والتعليق وبيان مختلف تصاريف الكلمة ، وإن كان في الشواهد ما ينمي ذوقه الأدبي ويزيد من إطلاعه ، فليس لديه من الصبر على استقصاء وتتبع كل التفاصيل والشروح أو التعليقات الملحقة بهذه الشواهد ليصل إلى بغيته من معرفة المعاني المشتركة للكلمة المقصودة ، ولاسيما إذا كان في هذه التفاصيل وهذه الشروح كلمات وعبارات غامضة تحتاج بذاتها إلى شرح وتفسير .

إن الكتاب المذكور بالصورة التي ورد ذكرها لا يمثل معجماً بالمفهوم الحديث و الدقيق لهذا المصطلح ، فالمعجم وفق هذا المفهوم لا يهمل الجمل السياقية ولا الأمثلة التوضيحية ، ولكنه (( يشترط أن يكون مجموع الكلمات المستخدمة في الشرح محدودة العدد ، ومقتصراً على الكلمات التي يفترض مسبقاً أن يكون مستعمل المعجم على علم بها ))([86]) علماً بأن هذا الكتاب بصورته المبينة لا يختلف في الواقع كثيراً عن بقية كتب الألفاظ المشتركة التي سبق ذكرها وغيرها . فهي وغيرها مما لم يذكر تقريباً تحمل طابع الكتب الأدبية اللغوية العامة . ولذلك فالحاجة تبقى ماسة لمعجم شامل لكل ما ورث أو نشأ في عصرنا الحاضر من الألفاظ المشتركة المعاني .

ولقد أحسن الدكتور (أوغست هفنر) Haffner , A حين جمع مصنفات كل من الأصمعي والسجستاني وابن السكيت والصغاني في الأضداد كلها في كتاب واحد وأخرجها في تحقيق موفق وتنسيق مقبول([87]) ، إذ جعل ما احتوته هذه الكتب الأربعة من ألفاظ الأضداد كلها ضمن تسلسل رقمي واحد، بحيث يسهل على الدارس إحصاؤها ، ووضع لهذه الألفاظ فهرساً موحداً جامعاً لها مرتباً إياها على حروف المعجم ، فسهـل على القارئ إمكانية الرجوع إليها والإحاطة بها ، كما أرفق كل ذلك بفهارس مستقلة لأسماء الشعراء وقوافي الأبيات التي وردت ضمن شروحها فأفاد القارئ بها ونبه الدارس على ما في كتب المجموعة من مخزون أدبي واسع رائع . وبذلك يكون هذا المحقق قد جمع الكثير مما كان مفرقاً مشتتاً في إطار موضوعي واحد سهل المأخذ ، يهيئ للباحث في موضوع هذه الألفاظ بلا شك جزءاً كبيراً من مادته .



رغم ما سبق ذكره فإن هذا الكتاب في شكله ووضعه الحالي وبمجموع ما احتواه لا يصلح أن يكون معجماً لألفاظ الأضداد فضلاً عن كونه معجماً للألفاظ المشتركة المعاني بنحو عام ، وإن كان يمكن أن مهيئاً ومشجعاً على تكوين معجم شامل جامع لها . فمناهج السرد والشرح والتعليق باقية فيه على صورتها الأصلية ، وكثير من الألفاظ يتكرر ورودها وشرحها فيه ، والنقل أو الاقتباس في بعض المصنفات المجموعة من بعضها الآخر وارد وكثير ، ولم يكن بوسع المحقق بطبيعة الحال أن يحذف أو يغير في الأصول أو أن يعمد إلى تصفيتها مما تخللها من نواقص أو شوائب تتعلق بالنصوص ذاتها ..

لا أعرف للألفاظ المشتركة في اللغة العربية على عمومها معجماً أو كتاباً حديثاً خاصاً بها سوى : « معجم الألفاظ المشتركة في اللغة العربية » ، لعبد الحليم محمد قنبس ، الصادر عن مكتبة لبنان عام 1987م ، وهو كتاب مقبول الطباعة جيد الإخراج حسن العرض لمادته نوعاً ما ، ولكنه ضئيل الحجم قليل المحتوى ، قاصر عن الإحاطة بما وجد ووضع أو استجد من الألفاظ المشتركة المعاني ، وبما استحدث وتطور من معاني هذه الألفاظ في العصر الحاضر .

بذل صاحب هذا المعجم مجهوداً ريادياً يشكر عليه في جمع بعض الشتات مما كان في متناول يده من بعض المصادر القديمة للألفاظ المذكورة ، معتمداً في أكثر ذلك على ما ورد منها في معجم « لسان العرب » لابن منظور الأفريقي وفي بعض الموروث من كتب اللغة العامة وكتب الأضداد . ولكنه لم يخضع مادة كتابه لغربلة تامة ، كما أنه أهمل الكثير مما احتوته بعض الكتب الخاصة بالموضوع ، وما اشتملت عليه المعاجم اللغوية العربية الحديثة من ألفاظ مشتركة ومن معان للألفاظ التي أوردها في كتابه . إضافة إلى ذلك فإنه لم يتبع في عرض وتوثيق معاني الألفاظ التي اختارها منهجاً موحداً ثابتاً من حيث التحديد والشرح ، فهو يستشهد أو يمثل لبعض هذه المعاني من آيات من القرآن أو الحديث الشريف أو الشعر ، بينما يسرد البعض الآخر منها دون توثيق أو تمثيل أو تعليق ، كما أن الأمثلة ينقلها المؤلف من مصادرها في الغالب على علاتها ، دون تحقيق كاف ، ودون النظر إلى مدى صلاحيتها لتوضيح المعنى أو تحديده وتقريبه ، أو مقدار ما يكتنفها هي نفسها من غموض أو ثقل أو غرابة أو تحريف أو تصحيف([88]) .

حبذا لو اقتدي بمن حرصوا على إغناء لغاتهم وتمكين أهلها منها من أبناء الشعوب المتقدمة ووضع للمتعلمين ولعموم المثقفين والاختصاصيين معجم حديث للكلمات متعددة الدلالات عامة ، بنوعيها اللذين تحدثنا عنهما. يستمد مواده ، ليس من ما ورثناه من كتب أو رسائل خاصة بهذه الألفاظ فحسب ، وإنما يستمدها أيضاً من معاجم الألفاظ اللغوية العامة : القديم منها والحديث ، ثم من النصوص الأدبية القديمة ، لاسيما تلك النصوص الثرية بالألفاظ والمحسنات البديعية اللفظية من جناس وترصيع وطباق وغيره ، كالرسائل الأدبية القديمة والمقامات والتوقيعات ونصوص الشعر, وأخيراً من نصوص التخاطب العصري الفصيح ، المقروء منه والمسموع . (( فالحكم على دلالة اللفظ في نص ما أدق وأوثق مما لو استقيناه من المعاجـم وحدها )) ([89]).

و يجدر الاستعانة بالحاسب الآلي والتقنيات الأخرى ذات الصلة بصناعة المعجم الحديث ، في الرصد والتخزين والإحصاء والتحليل والغربلة والمقارنة والانتقاء والتصنيف والتنسيق والإخراج والمتابعة ، من أجل تحقيق معجم شامل دقيق ميسر للمشترك اللفظي ، أسوة بما تعمله المؤسسات اللغوية المتطورة في صناعة معاجمها .

إن كتب المشترك اللفظي القديمة في معظمهـا - كما أشرنا إلى ذلك فيما سبق - غنية بالأمثلة والشواهد القرآنية والشعرية والنثرية وبالاستطرادات والفوائد اللغوية والبلاغية والنقدية التي تهم الكثير من الدارسين والباحثين المتخصصين بلا ريب ، إلا أنها قد تكون ثقيلة منفرة أو مشتتة للذهن بالنسبة لعامة المتعلمين والمثقفين في وقتنا الحاضر ؛ لأن الشواهد والأمثلة التي تشتمل عليها هذه الكتب ربما كانت هي نفسها محتاجة للشرح والتفسير ، وهذا ما يسبب التعثر أو الإبطاء في الوصول إلى الهدف المنشود . كما أن هذه الشواهد والأمثلة تظهر أو تجسد في كثير منها إن لم يكن معظمها الاستعمالات القديمة للمشترك اللفظي والمعاني التي لم تعد متداولة في الوقت الراهن ، ولربما كان لذلك أثار إيجابية في فهم النصوص التراثية ، ومن ثم في توثيق الارتباط بالتراث والاستفادة من تجاربه الفكرية والإبداعية النافعة . إلا أن المتعلم الحديث يهمه بالدرجة الأولى الاطلاع على ما بقي من تلك الاستعمالات حياً ساري المفعول مقبولاً في لغة الحاضر ، وعلى ما تجدد وتطور واستحدث أو أضيف منها ، ليتمكن من الجمع بين كل ما تتطلبه أنشطة التعبير في الحياة المعاصرة من المشترك اللفظي .

بناء على ما تقدم ذكره فالحاجة تبقى ماسة لمعجم انتقائي سياقي للمشترك اللفظي في اللغة العربية . يرصد كل ما نشأ منه وتطور واستقر وتجددت حيويته في لغة العصر . ويتنكب الحوشي والغريب الثقيل الذي لم يعد مستعملاً أو ليس فيه من الحيوية والمرونة ما يكفي لإنعاشه وإدراجه في هذه اللغة أو استثماره في فهم النصوص التراثية . كما يتولى توضيح ما صعب تفسيره أو إدراكه من معاني هذه الألفاظ بالأمثلة السياقية المستمدة من لغة الحاضر المرنة الحرة الميسرة . ولا مانع أن تكون هذه الأمثلة منتقاة من النصوص التراثية الثرية الفاعلة المفهومة المقتصرة على تحديد المعنى المقصود ومد مستخدم المعجم بما يزيد من فائدته اللغوية أو البلاغية والفنية والمعرفية في آن واحد ، ولكن دون استطراد أو إطالة . ولابد من الاستعانة في ذلك بما توصلت إليه النظريات الحديثة في إعداد مثل هذا المعجم وإخراجه([90]) .


الحواشي والتعليقات


(1)ستيفن أولمان ، دور الكلمة في اللغة ، ترجمة د. كمال محمد بشر (القاهرة : مكتبة الشباب ، 1975م)، ص ص 60 - ،61 112- 123 ؛ ،

John Lyons. Semantics (London: The Cambridge University Press, 1977), vol.2 p.55 Ladislav Zgusta. Manual of Lexicography (Mouton Hague, Paris. 1971), p.60 ff

(2)انظر أولمان ، دور الكلمة في اللغة ، ص 112.

(3)أولمان ، دور الكلمة في اللغة ، ص ،60 و ص 112 - 113.

(4)انظر جلال الدين السيوطي ، المزهر في علوم اللغة وأنواعها ، تحقيق أبو الفضل إبراهيم وآخرين ، ( القاهرة : دار إحياء الكتب العربية ، د . ت ) ، ص 369 .

(5)اكتفينا في الأمثلة المبينة بذكر القريب المستخدم من هذه المعاني بغية التقريب والاختصار .

(6)انظر الحسن ابن رشيق القيرواني ، العمدة في صناعة الشعر ونقده ، ط 4 ، تحقيق محمد محي الدين عبد الحميد( بيروت : دار الجيل ، 1972م ) ، ج،1 ص 321 ، ج2 ، ص 97 .

(7)محمد بن القاسم الأنباري ، كتاب الأضداد ، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم (بيروت:المكتبة العصرية ، 1407هـ/1987م ) ، ص 374 . يحتوى هذا الكتاب على (357) من الأضداد .

(8)السيوطي ، المزهر في علوم اللغة ، ص 399 .

(9)لمزيد من التفصيل حول هذه المسألة أنظر د . احمد عبد الرحمن حماد ، عوامل التطور اللغوي ، دراسة في نمو وتطور الثروة اللغوية ( بيروت : دار الأندلس، 1403/1982)، ص ص 71- 84 .

(10)انظر ثلاثة كتب في الأضداد ، للأصمعي وللسجستاني ولابن السكيت والصغاني ، ويليها ذيل في الأضداد للصغاني ، نشر وتحقيق د .( أوغست هفنر) Haffner , A بيروت : مطبعة اليسوعيين ، 1912م ) ، لقد وضع المحقق الألفاظ الواردة في الكتب الأربعة كلها وفق تسلسل واحد آخر رقم فيه هو (706) ، انظر ص248

(11)انظر د. حسن ظاظا ، كلام العرب : من قضايا اللغة العربية ( بيروت : دار النهضة العربية ، ( 1976 ، ص ص 108-113 .

(12)انظر د. ربحي كمال ، التضاد في ضوء اللغات السامية : دراسة مقارنة ( بيروت : دار النهضة العربية ، 1975م. (

(13)انظر ، ستيفن أولمان ، دور الكلمة في اللغة ، ص 114- 116 .

(14)السيوطي ، المزهر في علوم اللغة ، ص 370 .

(15)السيوطي ، المصدر نفسه ، ص 388 .

(16)الآيات على التوالي هي : الآية 88/ سورة الكهف ،18 آية 12/سبأ 34 ، 61/الصافات 37 ، 79/ الكهف 18 ، 27/ الأنبياء 21 ، 13/ سبأ 34 .

(17)مقاتل بن سليمان البلخي ، الأشباه والنظائر في القرآن الكريم ، دراسة وتحقيق د. عبد الله محمود شحاته ( القاهرة : الهيئة المصرية العامة ، 1395هـ/1975م ) .

(18)المعجم العربي الأساسي للناطقين بالعربية ومتعلميها ، تأليف وإعداد جماعة من كبار اللغويين العرب ) تونس : المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم ، 1408هـ - 1988م ) ، ص 914 .

(19)احمد عبد الرحمن حماد ، عوامل التطور اللغوي ، ص 73 .

(20)انظر د . محمود فهمي زيدان ، في فلسفة اللغة ( بيروت : دار النهضة العربية ، 1405هـ/1985م ) ، ص 106.

(21)يعقوب بن إسحق السكيت ، كتاب الأضداد ، هفنر ، ثلاثة كتب في الأضداد ، ص 163.

(22)علي ابن إسماعيل ابن سيده ، المخصص ( بولاق ، 1316هـ ) ، ج3 ص 259 .

(23)ربحي كمال ، التضاد في ضوء اللغات السامية ، ص 4 .

(24)أبو حاتم سهل بن محمد السجستاني : « كتاب المقلوب لفظه في كلام العرب ، والمزال عن جهته والأضداد » ، ثلاثة كتب الأضداد : للأصمعي وللسجستاني ولابن السكيت ويليها ذيل للصغاني ، نشر وتحقيق د أوغست هفنر ( بيروت : مطبعة اليسوعيين ، 1912م ) ، ص 127 .

(25)المصدر السابق نفسه ، ص 117 .

(26)جوزيف فندريس Vendryes ، اللغة ، تعريب عبد الحميد الدواخلي ومحمد القصاص ( القاهرة : مطبعة لجنة البيان العربي ، 1370هـ /1950 ) ، ص254 .

(27)السيوطي ، المزهر ، ج1 ، 369 ؛ أولمان ، دور الكلمة ص 127 ، اسباب نشوء المشترك ؛ حماد ، عوامل التطور اللغوي ، ص 7

 

التوقيع

 



من كتاباتي
صرخاااات قلم (( عندما تنزف ريشة القلم دما ))
قلم معطل وقلم مكسوووور
عندما ’تطرد من قلوب الناس !!!!!!(وتدفن في مقبرة ذاتك)
دعاة محترفون لا دعاة هواه ( 1)
الداعية المحترف واللاعب المحترف لا سواء(2)
نعم دعاة محترفين لا دعاة هواة!!!! (( 3 ))
خواطر وجها لوجه
همسة صاااااااااااارخه
خواطر غير مألوفه
اليوم يوم الملحمه ...
على جماجم الرجال ننال السؤدد والعزه
عالم ذره يعبد بقره !!!
معذرة يا رسول الله فقد تأخر قلمي
دمعة مجاهد ودم شهيد !!!!!!
انااااااااا سارق !!!!
انفلونزا العقووووووووول
مكيجة الذات
الجماهير الغبيه
شمووووخ إمرأه

 
 
رد مع اقتباس
  #2  
قديم 19-05-2007, 10:04 AM
الصورة الرمزية سعيّد ابوجعشه
سعيّد ابوجعشه سعيّد ابوجعشه غير متصل
 
تاريخ التسجيل: Dec 2006
الدولة: K . S . A
المشاركات: 5,980
معدل تقييم المستوى: 23
سعيّد ابوجعشه is on a distinguished road
رد: الألفاظ المشتركة المعاني باللغة العربية

بيض الله وجهك على هذا المجهود يـــ أبوبدر

ولا هنت طال عــمــرك

 

التوقيع

 





 
 
رد مع اقتباس
  #3  
قديم 19-05-2007, 10:12 AM
فهيد الكفيف فهيد الكفيف غير متصل
 
تاريخ التسجيل: Jun 2006
الدولة: الكويت
المشاركات: 20,645
معدل تقييم المستوى: 10
فهيد الكفيف قام بتعطيل التقييم
رد: الألفاظ المشتركة المعاني باللغة العربية

ابو بدر اشكرك على مجهوداتك وابحاثك وكلمات الرائعه واتمنى لك التوفيق اينما ذهبت



تحياتي لك...

 

التوقيع

 

لمتابعتي على تويتر
@ fuhaid_alkafif

 
 
رد مع اقتباس
  #4  
قديم 19-05-2007, 11:52 AM
الصورة الرمزية اميرة الرووح
اميرة الرووح اميرة الرووح غير متصل
 
تاريخ التسجيل: May 2007
الدولة: ديرتي العجمان
العمر: 40
المشاركات: 694
معدل تقييم المستوى: 18
اميرة الرووح is on a distinguished road
رد: الألفاظ المشتركة المعاني باللغة العربية

مرحباااااااا ابوبدر لاهنت

 

التوقيع

 

 
 
رد مع اقتباس
  #5  
قديم 20-05-2007, 12:55 PM
د.فالح العمره د.فالح العمره غير متصل
 
تاريخ التسجيل: Feb 2005
الدولة: في قلوب المحبين
المشاركات: 7,593
معدل تقييم المستوى: 27
د.فالح العمره is on a distinguished road
رد: الألفاظ المشتركة المعاني باللغة العربية

ارحب يا بو محمد ولا هنت على الحضور

رد مع اقتباس
  #6  
قديم 20-05-2007, 12:55 PM
د.فالح العمره د.فالح العمره غير متصل
 
تاريخ التسجيل: Feb 2005
الدولة: في قلوب المحبين
المشاركات: 7,593
معدل تقييم المستوى: 27
د.فالح العمره is on a distinguished road
رد: الألفاظ المشتركة المعاني باللغة العربية

مرحبا بك يا الكفيف ولا هنت يا الغالي على الحضور

رد مع اقتباس
  #7  
قديم 20-05-2007, 12:55 PM
د.فالح العمره د.فالح العمره غير متصل
 
تاريخ التسجيل: Feb 2005
الدولة: في قلوب المحبين
المشاركات: 7,593
معدل تقييم المستوى: 27
د.فالح العمره is on a distinguished road
رد: الألفاظ المشتركة المعاني باللغة العربية

مرحبا بش اختي الفاضله اميرة الروح ولا هنتي على الحضور

رد مع اقتباس
  #8  
قديم 21-05-2007, 02:52 AM
الصورة الرمزية مسعطر
مسعطر مسعطر غير متصل
 
تاريخ التسجيل: Apr 2007
الدولة: صـــــدور الــطـــيـــبـــيــن
المشاركات: 1,049
معدل تقييم المستوى: 19
مسعطر is on a distinguished road
رد: الألفاظ المشتركة المعاني باللغة العربية

أشكرك على إجتهادك الدائم يا أخي فالح
تقبل مروري أخيك : مسعطر

 

التوقيع

 






يكره الصيحات مربي النعم
 
 
رد مع اقتباس
  #9  
قديم 22-05-2007, 04:14 PM
د.فالح العمره د.فالح العمره غير متصل
 
تاريخ التسجيل: Feb 2005
الدولة: في قلوب المحبين
المشاركات: 7,593
معدل تقييم المستوى: 27
د.فالح العمره is on a distinguished road
رد: الألفاظ المشتركة المعاني باللغة العربية

يا مرحبا بك اخي الفاضل مسعطر ولا هنت على حضورك الكريم

رد مع اقتباس
رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع إلى

المواضيع المتشابهه
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
عرض كامل لكتاب المسلمون في الولايات المتحدة الأمريكية / الدكتور عبد الرزاق الزهراني سهيل الجنوب مجلس الدراسات والبحوث العلمية 10 16-09-2010 05:55 PM
من هم البلوش؟؟ بدون مجاملات مجلس التاريخي العام 12 04-09-2008 04:54 PM
الخط العربي فن وعلم وإبداع د.فالح العمره مجلس الدراسات والبحوث العلمية 6 22-05-2007 04:17 PM
في المصطلح العربـي (قراءة في شروطه وتوحيده) أ. د. علي توفيق الحمد سهيل الجنوب مجلس الدراسات والبحوث العلمية 1 22-01-2006 08:46 PM
( الدكتور فهد المكراد في ضيافة شبكة مجالس العجمان ) مجالس العجمان مجلس اللقاءات والانجازات 13 07-03-2005 01:11 AM

 


الوقت في المنتدى حسب توقيت جرينتش +3 الساعة الآن 03:06 AM .


مجالس العجمان الرسمي

تصميم شركة سبيس زوون للأستضافة و التصميم و حلول الويب و دعم المواقع