الجانب الخفي من تاريخ البترول : جاك .. و جان .. "6"

[محمود المختار الشنقيطي]

الجانب الخفي من تاريخ البترول : جاك .. و جان .. "6"
كما وعدنا في الحلقة الماضية،نبدأ بالحديث عن علاقة رجل البترول"ديتردنغ" بهتلر .. (رأينا آنفا أن ديتردنغ كان يبحث عن الرجل الذي يستطيع استعادة السيطرة على البترول الروسي بقوة السلاح. وقد عثر عملاؤه على الضالة المنشودة في ميونخ،سنة 1924،عندما تمكن الحزب النازي الفتي بزعامة أدولف هتلر من الحصول على أربعة عشر مقعدا في الرايخستاغ بعد نضال عنيف.
اعتبارا من عام 1927،بدأ ديتردنغ يقدم المعونات للحزب النازي وشبيبته المسلحة،بعد أن قام المحامي الاسكتلندي،الدكتور "جورج بل"الذي حصل على الجنسية الألمانية،بتأمين الاتصال بين هتلر وديتردنغ.
في عام 1933،عندما استولى هتلر على السلطة،أخطأ السير هنري ديتردنغ عندما ذكر أمام المستشار الألماني الجديد رغبته في تعويض ما أنفقه على المدى البعيد. إلا أن هتلر وضع الأمور في نصابها،بوضوح : صحيح أنه كان لا يزال يفكر في التوسع باتجاه الشرق،ولكنه يحتفظ لنفسه بحق اختيار اللحظة المناسبة دون أن يتلقى نصائح من أحد. لذلك قال :
- إن هؤلاء الإنكليز يريدون استغلالي لاستعادة بترول الروس،وعند تحقيق هدفهم سيحاولون التخلص مني على الأرجح،ولكنهم واهمون .. ){ص 71 - 72}.
تم عزل الدكتور"بل"- والذي أصبح سكرتيرا للدكتور"روزنبرغ" – وقد حاول الفرار،ولكنه لم ينجح،وتم اغتياله عند الحدود النمساوية،وقد ثارت ضجة في النمسا،بينما ساد الصمت في ألمانيا!! ... (وفي 5 أيار،توجه الدكتور"روزنبرغ"إلى إنكلترة حيث استقبله ديتردنغ في قصره المنيف"باكهوت بارك"في "أسكوت".
لم يبق من هذا الحديث أي أثر بطبيعة الحال،لذلك نجد أنفسنا مضطرين هنا للاكتفاء بما ذكرته الشائعات والتكهنات : أغلب الظن أن روزنبرغ،الذي كان هاجسه الأول القيام بحملة صليبية ضد البلشفيك،حاول إقناع محدثه بأن شيئا لم يتغير،وأنه ألقى اللوم كله على عاتق المسكين"بل"الذي كاد،لطول لسانه،يفضح العلاقة السرية بين هتلر وديتردنغ.
أدرك ديتردنغ في الواقع أنه لم يعد له أي نفوذ على هتلر،وأن العكس يوشك أن يصبح صحيحا.
وهكذا اعتبر المعركة للحصول على البترول الروسي خاسرة. وفي 4 شباط 1939،توفي ديتردنغ (..) لنعد الآن إلى عام 1928 الحاسم. بعد المؤتمر الذي انعقد في "فندق تيرم أوستند"في حزيران من عام 1928،كما أسلفنا،والذي حدد خارطة الخط الأحمر في الشرق الأدنى،خطرت في ذهن السير هنري ديتردنغ فكرة تقاسم العالم بين الشركة الملكية الهولندية شل وشركة ستاندارد أويل.
وفي شهر أيلول،دعي إلى قصر"أشناشاري"في أسكتلندة رؤساء ستاندارد (نيوجرسي)،إيكسون ووالتر تيغل،وشركة البترول الإنكليزية – الإيرانية،جون كادمان،لحضور حفلة صيد كبيرة.
إلا أن أوقات الفراغ خصصت للمناقشات : فحرب الأسعار في الهند،حيث تقوم شل بتخفيض الأسعار للمضاربة على ستاندارد التي تشتري البترول الروسي،لا يمكن أن يستمر. وهاهي شل تشتري البترول الروماني لصالح الهند بأسعار منخفضة،بينما ترد ستاندارد على ذلك بتخفيض أسعارها في إنكلترة. وهكذا انقضت سنوات الشح الجميلة لفترة ما بعد الحرب لتفسح المجال أمام فائض في الإنتاج يثير القلق. لذلك،وبدلا من التنافس والتحارب،حان الوقت للتفاهم من أجل تقاسم الأسواق بصورة سلمية،لأن ثلث القدرة الإنتاجية غير مستعمل.
من خلال سهرات "أشناشاري"هذه انبثق اتفاق حول تشكيل احتكار حقيقي سري للبترول،مع توزيع عادل للأسواق،وتحديد النمو،,عقلنة الإنتاج،واستقرار للأسواق ووضع حد لحرب الأسعار.
تنفيذا لهذا الاتفاق،وضع الكبار حدا لأعمال الاستكشاف والتنقيب،كما كبحوا جماح الإنتاج،مما حسن أوضاع المستقلين الصغار،ولكن لجنتين أمنتا الإشراف على التنظيم الجديد : الأولى في نيويورك لمراقبة الإنتاج (في تلك الأثناء،كان الإنتاج الأمريكي يغطي ثلثي الاحتياجات العالمية)،والثانية في لندن لمراقبة الاستهلاك.(..) كذلك اتفق الكبار فيما بينهم على إبعاد كل منافس خارجي داخل مناطق نفوذهم. وكان هذا يمس بشكل مباشر القادمين الجديدين،(سوكال SOCAL) أي ستاندارد أويل كاليفورنيا في البحرين والعربية السعودية،و"غولف"في الكويت. بعد فشل "لورانس"،الذي تجسد برحيل الملك فيصل عن دمشق،انتقل الزمام إلى ابن سعود. (..) في الحرب انتصر ابن سعود على جميع خصومه (..) وهكذا أصبح الحاكم المطلق بين البحر الأحمر والخليج العربي،أي في منطقة تعتبر مساحتها أكبر من فرنسا ثلاث مرات. ومنذ عام 1922،جاء مغامر نيوزيلندي يدعى"فرانك هولمز".
كان هذا الرجل،الذي خدم في البحرية الأمريكية سابقا،يبحث عن امتياز بترولي منحه له الملك ابن سعود على مساحة 15000كم2 بمحاذاة الخليج العربي مقابل قسط سنوي بقيمة 2500 جنيه إسترليني.
هل كان هذا في الواقع تحديا للبريطانيين الذين كانوا منشغلين آنذاك بأمر إيران والعراق؟ إلى جانب ابن سعود،كان هناك ضابط بريطاني شاب يدعى"هاري سان جون فيلبي"،الملحق السابق في المصلحة المدنية لشؤون الهند. وقد ظهر في بغداد عند مطلع العشرينات. وعندما قتل النقيب شكسبير (مندوب مصلحة الاستخبارات لدى الملك) في معركة جراب،جاء فيلبي هذا ليحل محله،وتقدم من الملك على أساس أنه موفد بمهمة من وزارة الخارجية البريطانية لكي يعقد معه معاهدة تحالف.
بعد فترة قصيرة سنجد فيلبي قد اعتنق الإسلام وأخذ يلعب لعبة بارعة حتى أصبح من العسير معرفة ما إذا كان يعمل لصالح إنكلترة أم ابن سعود أم لنفسه.
ثم ما لبث أن أضحى رسميا الوكيل العام لشركة فورد في العربية السعودية،وبدأ يبيع السيارات التي تخدم الحج بصورة خاصة. لذلك جمع ثروة استطاع بواسطتها أن يقوم جيدا بأود زوجته وأولاده في إنكلترة،هؤلاء الأولاد الذين سيظهر منهم الجاسوس الشهير لصالح الاتحاد السوفيتي.){ص 72 - 76}.
لعل بعض الذين صحبونا في السياحة في كتاب فيوليت ديكسون(أم سعود)،يتذكرون حديثها عن شراء أرامكو لمكتبة "فيلبي"،وقد باعتها زوجته – البلوشية – ليساعد ذلك في تعليم ولديها!! تقول أم سعود :
(وفي وقت لاحق من ذلك المساء قمنا بزيارة زوجة فيلبي البلوشية،والذي عاش معها فيلبي سنوات عديدة وقد استقبلنا ولداها،خالد الذي كان في الحادية عشرة من عمره،وفارس الذي كان يبلغ التاسعة،في غرفة علوية صغيرة كان والدهما يستخدمها كمكتب. وكانت رفوف الكتب الممددة حول الغرفة قد أصبحت خالية. وفي غرفة الطابق الأسفل التقيت بالسيدة روزي فيبلي وعزيتها في وفاة زوجها حيث لم تكن قد مرت على تلك الوفاة غير أشهر قليلة. وفي غضون ذلك كان جورج وهومر يعقدان جلسة عمل في الغرفة العلوية مع عبده العنزي صديق العائلة وولي أمرها للمفاوضة على ثمن شراء المكتبة كلها. وقد استطاعوا أخيرا أن يتفقوا على مبلغ عشرة آلاف دولار كانت ستستثمر لتساعد في نفقات تعليم الولدين. وقد ملأت كتب ووثائق هذه المكتبة ثمانية وثلاثين صندوقا كبيرا تم شحنها إلى مكتبة أرامكو في الظهران. ) { فيوليت ديسكون(أم سعود) / (أربعون عاما في الكويت : 1929 - 1969) / تقديم وتعليق ومراجعة وطبع : سيف مرزوق الشملان آل سيف / الكويت / دار قرطاس / الطبعة الأولى / 1995م}.
نعود إلى حديث المؤلفين عن فيلبي .. (بصورة شبه رسمية،كان يؤلف الكتب المفيدة حول استكشاف الصحراء وحضرموت. أما في الواقع،فكان صديقا لابن سعود الذي وضع فيه ثقته المطلقة،كما كان يحارب مبادرات مواطنه لورانس،ولكن أليس من عادة الإنكليز أن يضعوا دائما عدة أسياخ حديدية على النار؟ بفضله تمكن الملك من إسقاط مشاريع الاتحاد العربي الذي كان لورانس ينادي به لصالح بريطانيا العظمى.
مع كل هذا كان فيلبي يراقب المسائل البترولية عن كثب. لم يكن لدى هولمز الوسائط الكافية لكي ينقب جديا داخل منطقة امتيازه. وفي عام 1927،أقلع عن دفع القسط السنوي المترتب عليه،ثم تخلى عن الامتياز نهائيا وتوجه إلى البحرين حيث منحه شيخها امتيازا آخر عام 1925 {ليستقيم الكلام،يفترض أن يقال : حيث كان قد منحه شيخها .. إلخ} جدده في عام 1927.
هنا أيضا سيتخلى هولمز عن امتيازه لصالح فرع من شركة غولف. ولما كانت هذه مرتبطة بمعاهدة الخط الأحمر،فقد باعت امتيازها لشركة ستاندارد أويل كاليفورنيا( SOCAL) التي لم توقع على هذه المعاهدة. احتج الإنكليز على ذلك،إلا أن هذه الشركة أحدثت بالحيلة في كندا (أرض بريطانية) شركة البحرين للبترول التي أخرجت النفط من هناك أيضا،فسكتت بريطانيا.
في العربية السعودية،كان الملك منشغلا بالوضع المالي لبلاده،فنصحه فيلبي باستثمار الموارد المعدنية في جوف الأرض. وبناء على اقتراح هذا الأخير،استقبل العاهل السعودي في شهر شباط من عام 1931 رجلا إنسانيا أمريكيا،هو السيد"شارل كراين Ch.Crane،ما لبث أن أرسل إليه عالما جيولوجيا خبيرا،هو السيد"كارل تويتشل Twitchell". جاب هذا الاختصاصي أنحاء العربية السعودية طولا وعرضا،ثم أكد صحة آمال فيلبي وتوقعاته. عند ذلك لم يبق أمام الملك سوى العثور على صاحب الامتياز.
عثر "تويتشل"على الضالة المنشودة في شخص"ل. هاملتون"،المستشار القانوني لشركة ستاندارد أويل كاليفورنيا( SOCAL)،وجاء الاثنان إلى مدينة جدة في 20 شباط من عام 1933.
استقبل الملك هاملتون استقبالا جيدا،ثم أعطاه،لصالح ( SOCAL)،امتيازا نهائيا لمدة ستين عاما مقابل دفع القيمة المتفق عيها ذهبا. وفي عام 1936،ستتحالف ستاندارد أويل كاليفورنيا( SOCAL) مع شركة تكساكو على تقاسم الامتياز مناصفة وتشكيل "الشركة الكاليفورنية – العربية ستاندارد أويل"،
التي ستصبح في 31 كانون الثاني 1944 "شركة البترول العربية – الأمريكية"(ARAMCO).
في تلك الأثناء،كان الاتحاد الاحتكاري للبترول يفرض قانونه الصارم على الأسواق العالمية. أما في الكويت،التي تقع خارج الخط الأحمر منذ عام 1930 كما أسلفنا،فقد تقدم فرانك هولمز الآنف الذكر إلى الشيخ الصباح،باسم شركة غولف،ولكنه لقي المعارضة فورا من العقيد البريطاني "ديكسون"،الذي يتحدث باسم الشركة الإنكليزية – الفارسية للبترول (B.P). التي كان يمثلها "أرشيبا شيسهولم". سيستمر هذا التنافس مدة عامين قبل أن ينتهي في 22 كانون الأول من عام 1931 باتفاق على التقاسم بين شركتي غولف و (B.P). إلا أن البترول لم يظهر إلا في عام 1938. وأما في قطر،فقد حسمت الأمور بصورة أسرع،حيث استطاعت شركة (B.P) الحصول وحدها على امتياز لن يصبح ساري المفعول سوى في عام 1940.){ص 67 - 78}.
تحدثت أم سعود عن نفط الكويت .. ولكنها ذكرت أن (هولمز) كان يمثل النقابة الشرقية العامة،بينما قدمه المؤلفان كشخص (مستقل)!!! تقول فيوليت ديكسون،وقد أورد المؤلفان اسم زوجها/العقيد ديكسون ..
(وعندما كنت في الخارج في صيف عام 1932م كان يمكن ملاحظة الدلائل الأولى في الكويت لاهتمام العالم الخارجي باحتمال وجود الزيت في هذا البلد .. وفي شهر يوليو أرسلت شركة الزيت الإنجليزية الإيرانية إلى الكويت رجلا إنجليزيا متكيفا جيدا مع الاختلاط بالعرب وكان اسمه ولياموسن وكان يعرف بالحاج عبد الله وليامسون حيث أنه اعتنق الديانة الإسلامية وحج إلى مكة .. كانت مهمة هذا الرجل مقابلة الكويتيين ذوي النفوذ والتحدث إليهم،للدعاية لشركة الزيت الإنكليزية الإيرانية ومحاولة إعداد الكويتيين للتجاوب مع فكرة امتياز النفط .. وبعد ذلك بوقت قصير وصل الممثل الرسمي لشركة الزيت الإنكليزية الإيرانية مستر أي . إتش . تي. شيشولم .. من مكتب لندن لفتح باب المفاوضات مع شيخ الكويت على امتياز بترولي،وقد تبع وصوله مباشرة تقريبا وصول الميجور فرانك هولمز ممثلا للنقابة الشرقية العامة التي كانت تنشد الحصول على امتياز بترولي أيضا .. (..) كانت فترة مفاوضات الزيت بين الشركات المتنافسة والشيخ أحمد وقت اشتغال هارولد كمعتمد سياسي وحيث أن الشيخ أحمد قد ازدادت ثقته فيه كصديق فقد كان غالبا ما يطلب حضوره أثناء محادثاته مع شيوشلم أو هولمز وكانت المناقشات تبدو لا متناهية وكل شركة تزايد على منافستها وقد استمر ذلك خلال عامي 1933 و 1934م وفي النهاية دمجت الشركات المتنافسة قوتها ووقع الامتياز أخيرا في ديسمبر 1934 وظهرت شركة نفط الكويت.){ص 172(أربعون عاما في الكويت "}.
التهمت أم سعود بعض المساحة المخصصة لهذه الحلقة،لذلك نختمها بإشارة المؤلفين إلى إصدار فرنسا تشريعا يقضي بإقامة صناعة جديدة لتصفية البترول – بسبب حصولها على كثير من نفط العراق،وتنقيبها عنه في الجزائر – كما بدأ الجيولوجيون الفرنسيون العمل في التنقيب .. ولكن ذلك أزعج الشركات الكبرى .. فكان من نتائج ذلك الغضب،تلقي الصحفي بيير فونتين مكالمة هاتفية :
(- إذا لم تكف فورا فسوف نخطف ابنتك!){ص 79}. كما أنه .. (في 30 نيسان 1950،وجد العالم الجيولوجي كونراد كيليان مشنوقا في غرفته بأحد فنادق غرونوبل.) {ص 79}
إلى اللقاء في الحلقة القادمة .. إذا أذن الله.
س/ محمود المختار الشنقيطي – المدينة المنورة
س : سفير في بلاط إمبراطورية سيدي الكتاب.

[سمو الرووح]

استاذنا الفاضل/ محمود المختاار الشنقيطي

لاهنت على المجهود المبذول لجمع كل هذه معلومات شكرا لك

تقديري وحترامي.

[محمود المختار الشنقيطي]

السلام عليكم .. ألف شكر أختي الفاضلة (صاحبة السمو) .. وتقبلي خالص تحياتي.
لا هنتِ .. دمت بخير.