يوم لم تكن في بلداننا الخليجية مدارس ولا مستشفيات، أتتنا من دولة الكويت الشقيقة البعثات التعليمية والطبية، وأنفقت الكويت المال لبناء المدارس وتشييد المستشفيات التي مازال بعضها يحمل حتى اليوم اسم الكويت أو شيوخها. وكثيرون وكثيرات من أبناء وبنات الجيل الأسبق فكّوا الحرف على أيدي معلمين ومعلمات عرب ابتعثتهم الكويت ليضعوا لبنات التعليم النظامي الأولى في شقيقاتها من إمارات الخليج الأخرى. ويوم لم تكن في الخليج إذاعة سوى إذاعة الكويت وتلفزيون سوى تلفزيونها التصقت آذاننا وانشدت أبصارنا نحو الكويت نسمع عبر الأثير القادم من وسائلها الإعلامية الخبر والمعرفة والنغم والأغنية. ويوم لم نكن نعرف ما هو المسرح كانت المسرحيات الكويتية ونجومها البارزون يزرعون الابتسامة على شفاهنا ويطلقون الضحكة من قلوبنا، وفي وقت لاحق سيذهب شبابنا وشاباتنا من الإمارات والبحرين وعُمان وسواها الى الكويت يتعلمون في مدارسها وجامعتها ومعاهدها العليا.
الكويت حاضرة في ذاكرة ووجدان أجيال من أبناء الإمارات، بصفتها مصهراً للريادة في أمور كثيرة: في الخدمات التعليمية والصحية، في الإعلام وفي المسرح وفي السياسة أيضاً. في الزمن الذهبي الواعد كانت الكويت التي خرجت من عباءة دستور عبدالله السالم، الذي حمل عن جدارة لقب “أبي الدستور” قد أطلقت تجربة عزّ نظيرها في العالم العربي. وفيما كانت الحكومات العربية، الملكية منها والجمهورية، تدفع بمعارضيها نحو زنازين المعتقلات والسجون والموت البطيء أو الى المنافي البعيدة، كان الصوت العالي للدكتور أحمد الخطيب وسامي المنيس ورفاقهما يدوي تحت قبة مجلس الأمة الكويتي مطالباً بالمزيد من الديمقراطية وبالمزيد من المشاركة السياسية وبالمزيد من السيادة الوطنية على الثروة النفطية، وكانت الحكومة وأعضاؤها عُرضة للمساءلة والحساب من قبل مجلس الأمة الذي كان من أقوى البرلمانات العربية، إن لم يكن أقواها على الإطلاق. وفي هذا المناخ تكونت تقاليد راسخة من العمل الديمقراطي، ولم يكن بوسع السلطة التنفيذية أن تتجاوزها، وهي إن فعلت ذلك مرة أو أكثر، فإن تلك التقاليد كانت من القوة بحيث يُفرض على الحكومة العودة عما فعلت بسرعة. وترافق ذلك مع تجربة رائدة في العمل الصحافي، بحيث كان هامش الحريات الصحافية ومستوى الحرفية الصحافية لا مثيل لهما إلا في لبنان، ومن على صفحات الصحف الكويتية برزت أسماء وأقلام لامعة كويتية وعربية. وإلى الكويت في ذلك المناخ المضيء أتى وعمل وأبدع غسان كنفاني وناجي العلي وسواهما الكثير من المبدعين والمناضلين.
الكويت العزيزة هذه فقدت مؤخراً أحد أبرز رجالاتها، أميرها الشيخ جابر الأحمد الجابر الصباح طيب الله ثراه, الذي طبع باسمه مرحلة كاملة من تاريخ البلد، عرفت فيها الانجازات كما عرفت فيها المحن، خاصة محنة الغزو الصدامي لأراضيها، التي دفعت بالمنطقة كاملة نحو كارثة كبرى، ما زالت آثارها ماثلة حتى اليوم، ودفعت الكويت وشقيقاتها الخليجيات والمنطقة العربية كلها أثماناً باهظة لتلك المغامرة المجنونة. والكويت التي اجتازت الفصل الأصعب من تلك المحنة تتهيأ لمواجهة استحقاقات المستقبل، مستندة في ذلك الى تراثها السياسي العريق، وهي بقوة مؤسساتها الدستورية والبرلمانية، وبوعي شعبها ونضج قياداته السياسية ورموزه الوطنية وبحكمة قادتها، قادرة على الذهاب نحو هذا المستقبل بالمزيد من العزم والمثابرة، بما يبقيها دائماً الكويت التي عرفناها، والتي لها في نفوسنا منزلة هي بمثابة منزلة القلب.
بقلم د. حسن مدن-جريدة الخليج الإماراتية