كيف وصل القرآن الكريم إلينا منطوقاً ؟ الحلقة الثانية (*)
بقلم الشيخ الدكتور أيمن رشدي سويد
المستشار العلميّ للهيئة
(*) ألقيت هذه المحاضرة في الكلية الأوروبية للعلوم الإنسانية في باريس – فرنسا بتاريخ يناير 2002 م
تابعنا في العدد الأوَّل من مجلّة "هدى القرآن" الجزء الأول من محاضرة فضيلة الشيخ الدكتور أيمن سويد حفظه الله تعالى ـ التي ألقاها في الكلية الأوروبية للعلوم الإنسانية في شاتو شينون بفرنسا، عن كيفيّة وصول القرآن إلينا مكتوباً، وفي هذا العدد نتابع الحديث معه عن الشقّ الثاني من الكيفية التي بلّغ بها النبي صلى الله عليه وسلم القرآن العظيم للأمة وهي: كيف بلَّغه منطوقاً ؟
المحاضرة:
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلّم وبارك على سيدنا ونبيّنا محمد سيد الأوّلين والآخرين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
نحن نعلمُ بأنَّ النبيَّ صلّى الله عليه وسلم عربيٌّ من العرب, والعرب يتكلّمون لغةً اسمها اللغة العربية , والعرب في زمن محمد صلى الله عليه وسلم كانوا يتألّفون من قبائل عديدة , بعضها يسكن مكة، وبعضها يسكن يثرب وهي ما تسمى اليوم (المدينة المنورة), وبعضها يسكن في منطقة بني تميم يعني منطقة الرياض اليوم، وبعضها يسكن شرق الجزيرة العربية ربيعة ومضر. هذه القبائلُ العربية تتكلم اللغة العربية , والآن نحن نتكلم عن الجانب الصوتيّ للقرآن الكريم لا عن الجانب الكتابي.
النبي صلى الله عليه وسلم من قبيلة هي أشهر قبائل العرب وأشرفها, وهي قبيلة قريش كما نعلم , وقريش من نسل سيدنا إسماعيل بن إبراهيم ـ عليهما السلام ـ هؤلاء العرب في زمن النبي صلى الله عليه وسلم كان بينهم اتفاقٌ كبير في الكلام , ولكن أيضاً بينهم اختلاف في بعض الكلمات.
الاختلافُ بين الكلمات ضمن اللُّغة الواحدة ـ نحن نتكلّم الآن عن موضوعٍ لغويٍّ صوتيٍّ ـ الاختلافُ في اللّغة الواحدة بين عدة لهجات يُسمى: لهجة، مثلاً في اللغة الفرنسية , كلمة (وِِيْ) التي تعني: (نَعَم) في اللغة العربية، بعضُ الفرنسيين ينطقها بياء بعد الواو , وبعضهم ينطقها بصوت ممال , هو بين الألف والياء.
وهكذا كان الحال في زمن نزول القرآن الكريم , فالعرب قبائل متعددة والاختلاف بينهم ـ كما ذكرت ـ هو ما يسمى باللهجات، فللعرب لهجات عِدّة في كلامهم العربي, وهنا قد يسأل سائل: ما الفرق بين اللهجات ضمن اللغة الواحدة ؟ نلخّص إجابة هذا السؤال عن هذه الفروق بثلاثة مظاهر يجب أن ننتبه إليها:
أهم مظاهر الاختلاف بين اللهجات:
أ ـ اختلاف طريقة التصويت في الكلمة الواحدة:
فبعض العرب يقول: (يُؤْمِنُون)، وبعضهم يقول: (يُومِنُونَ)، الكلمة نفسها لم تختلف, وإنما الاختلاف في طريقة نطقها, وبعض العرب يقول: (عليهِم), وبعضهم يقول: (عليهُم), وبعض العرب يقول: (عليهِمُو) , فالكلمة نفسها ما تغيّرت ولا تغيَّر معناها , ولكن الذي تغيَّر هو طريقة التصويت بها , بعض العرب يقول: (موسى) بالفتح, وبعضهم يقول: (موسى) بالإمالة الكبرى، وبعضهم يقول: (موسى) بالإمالة الصغرى , وكلُّه كلام عربيّ، لكن القبيلة الفلانية هكذا يتكلّمون في كلامهم اليوميّ؛ ينادي أحدُهم ولدَه يقول: (يا موسى) بالإمالة، وفي قبيلة أخرى يقول: (يا موسَى) بالفتح. فهذا أول مظهر من مظاهر اختلاف اللهجات.
ب ـ اختلاف معنى الكلمة:
وهذا موضوع أعمق، الكلمةُ موجودةٌ في هذه القبيلة وهذه القبيلة, لكن هذه القبيلة إذا أطلقتْها أرادت بها شيئا, وتلك القبيلة إذا نطقتْها أرادتْ بها شيئا آخر, مثال على ذلك كلمة (صبأ)، وهي تعني عند قبيلة قريش: خرج من دينه، و تعني عبّادَ الكواكب، وفي ذلك قصة, فعندما أرسل سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم سيدَنا خالدَ بن الوليد مع عددٍ من الصحابة إلى قبيلة لينظروا هل هم أسلموا أم لم يسلموا , فلما رأوا سيدنا خالداً ومعه جيش قالوا: صبَأْنا صبأنا، وهم يقصدون: خَرَجْنا من ديننا ودخلْنا في الإسلام , ففَهِم منهم أنهم عبّادُ كواكب، فقال: اقتلوهم، فبلَغ ذلك النبيَّ صلى الله عليه وسلم، فقال: (اللهم إني أبرأ إليك ممّا صنَع خالد).
كلمة: ] لمَستُمْ [: هي عند بعض القبائل تعني: لمَستم من اللَّمس, وعند بعض القبائل الأخرى تعني: الجِماع. وكلمة: ] قُرُوء [: عند بعض القبائل تعني فترة الطُّهر عند المرأة, وفي قبائل أخرى تعني فترة الحيض, فهذه لهجات.
ج ـ وجود الكلمة في إحدى اللَّهجتين وانعدامها في الأخرى:
دخلْنا الآن في أمر أخطر, كونُ الكلمة موجودةً عند قوم وغيرَ موجودةٍ نهائياً عند قوم؛ سُئل سيدنا أبو بكر عن قوله تعالى: ]وَفَـٰكِهَةً وَأَبًّا [ [عبس 31]، كلمة ]أبّاً[ غير موجودة عند قريش, وأبو بكر رضي الله عنه قرشيّ فما عرَفها, فقال: أيّ أرضٍ تُقلَّني، وأيّ سماء تُظلّني إذا قلت في كتاب الله ما لا أعلم, فما عرفها؛ لأنها ليست من كلام قومه.
]فَاطِرُ السَّمَـٰو ٰتِ[, يقول عنها ابن عباس: ما كنتُ أدري ما: ]فَاطِرُ السَّمَـٰو ٰتِ[, حتى جاء أعرابيان يختصمان عند عمر بن الخطاب رضي الله عنه في بئر , فقال أحدهما يا أمير المؤمنين: أنا فطَرْتها , يعني شقَقتها , فـ: ]فَاطِرُ السَّمَـٰو ٰتِ[ يعني: شاقّ السموات , فابن عباس تُرجُمان القرآن، ومع ذلك ما عرَف وهو قرشيّ, فهذه الكلمة ليست مستعملةً في لغة وبيئة قريش, والقرآن عربيٌّ وليس قرشيّاً؛ فهو الموصوفُ بأنه عربيّ , ولم يوصف مرة بأنه قرشيّ , فالقرآن يأخذ كلاماً من كل القبائل أو من أغلبها , لكن الكلمات الأكثر فيه من لهجة قريش؛ لأن قريشاً كانت تأخذ من كل القبائل وذلك بحكم موقعها الجغرافي.
الآن لو ذهبنا إلى لهجة أهل مكة، فإننا نجد عندهم كلاماً مصرياً وكلاماً أندونيسياً وكلاماً هندياً وكلاماً تركياً وكلاماً شامياً وكلاماً عراقياً، وذلك بحكم موقعهم الجغرافي, يأخذون من كل الناس بعض الكلمات , وهكذا كانوا في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم حيث كانوا يأخذون من عِدّة قبائل بعضَ الكلمات , قال تعالى: ] وَءَاتَتْ كُلَّ وَٰحِدَةٍ مِّنْهُنَّ سِكّينًا... [ [يوسف 31]، كلمة (سكّين) ليست مستعملةً في قبيلة " دَوس ", ومن هذه القبيلة الصحابي الجليل الحبيب راويةُ الحديث سيدنا أبو هريرة عبد الرحمن بن صخر الدوسيّ , جاء فأسلم ولزم رسول الله، ولَزِمه يعني: صاحَبه ولصق به ولم يفارقه , مرةً كان جالساً عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له رسول الله: يا أبا هريرة , (أعطني السكّين) , ارتبك سيدنا أبو هريرة , ما هذه السكّين ؟ , فأعاد عليه النبي صلى الله عليه وسلم: يا أبا هريرة: (أعطني السكّين) , فأشار عليه الصلاة والسلام بيده الشريفة قال: (أعطني السكّين) , فقال سيدنا أبو هريرة: آلمُدْيَة تريد ؟ فهو في قبيلته يسمّي السكين "مُدْيَة", فيقول أبو هريرة: لم أسمع لفظ السكين من أحد قبل ما سمعتُها من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
إذاً هكذا كان الواقع اللغويُّ في زمن نزول القرآن الكريم زمن الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام.
تلك هي الأمور الثلاثة التي تفرّق بين اللَّهجات.
الآن لو طلبْنا من شخصٍ ذي جنسية مغربيةٍ أن يتكلّم باللهجة المصرية, هل يستطيع ؟ وآخر مصري يتكلم باللّهجة العراقية , فهل يستطيع ؟ هكذا في زمن نزول القرآن لو طُلب ممن يقول: (يُؤْمِنُونَ) , أن يقول: (يُومِنُونَ) , أو مِمَّن يقول: (موسى) بالفتح أن يقول: (موسى) بالإمالة أو العكس , أليس في ذلك مشقة ؟
نزل جبريل عليه السلام , وقال يا رسول الله: (إن الله يأمرك أن تقرأ أمتك القرآن على حرف , يعني على طريقة واحدة، فقال يا جبريل: إني أُرسلتُ إلى أمةٍ أمّية فيهم الشيخ الكبير والمرأة , فسَل ربّك التخفيف , ذهب وعاد وقال: إن الله يأمرك أن تقرأ أمتك القرآن على حرفين , فلم يزل يستزيده صلى الله عليه وسلم , وهو الرحمة المهداة , إلى أن قال: إن الله يأمرك أن تقرأ أمتك القرآن على سبعة أحرف , كلها شافٍ كافٍ , فقال النبي صلى الله عليه وسلم للصحابة: اقرؤوا كما عُلّمتُم..) فكان النبي صلى الله عليه وسلم- بأبي وأمي هو- يأتيه الصحابي الذي يُميل في قراء ته , ويُقرّه صلى الله عليه وسلم , ويأتي الصحابي الآخر الذي لا يميل فيُقرّه كذلك , لأنه أمر أن يُقرئ الناس هكذا, (إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف).
أعود فأذكر بأن نزول القرآن كان على قلب النبي صلى الله عليه وسلم وليس على سمعه؛ لأن هناك بعض من يقول: أهكذا كان جبريل يقرؤها مرةً بالفتح ومرةً بالإمالة , فنقول: إنّ نزول القرآن على الرسول صلى الله عليه وسلم ليس كتلقّينا نحن , كان النزول على قلبه الشريف بكيفيةٍ اسمُها الوحي لا يعرفُها إلا من ذاقَها , ويجب علينا أن نتنبّه لهذا الأمر؛ فالنزولُ معلومات مباشرة تنزل على قلبه صلى الله عليه وسلم , ليس كتلقينا نحن عن طريق الآذان.
أُمِرَ النبي صلى الله عليه وسلم أن يُقرئ الناس بما اعتادوه من ظواهر صوتية (النوع الأول السابق)، وذلك تسهيلاً على الأمة, فمثلا ً: لو أقرأ النبي صلى الله عليه وسلم أحد الصحابة رضوان الله عليهم: ]وَعَلَى أَبْصَـٰرِهِمْ غِشَـٰوَةٌ[، والآخر أقرأه النبي صلى الله عليه وسلم: ]وَعَلَى أَبْصَـٰرِهِمْ غِشَـٰوَةٌ[ بالإمالة في ]أَبْصَـٰرِهِمْ [ والآخر أقرأه: ]وَعَلَى أَبْصَـٰرِهِمْ غِشَـٰوَةٌ[ بالإمالة في الاثنين، أعني: ]أَبْصَـٰرِهِمْ[ و ]غِشَـٰوَةٌ[, المعنى لم يختلف في كلّ ما سبق فأحدهم قد يجد صعوبة في أن يلفظ بلفظة الآخر.
يقول أبو بكر السجستاني وهو من علماء القرآن الكبار: قرأ عليّ أعرابيٌّ في الحرم: ]الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُوا الصَّـٰلِحَـٰتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَـآبٍ[ [الرعد 29]، فقلت له: (طُوبى) , قال الأعرابي: (طِيبى), قلتُ لهطوبى) , فقال الأعرابي: (طيبى) , لم يكن متعوداً عليها , فلما طال عليّ الأمر قلت له: طو, طو , فقال الأعرابي: طي , طي.. يعني لا فائدة، وكأنه يقول له: لن أغيّر لهجتي.
نعود فنقول: كان لابدّ من هذا التسهيل الربانيّ رحمةً بالأمة، بحيث لا يُكلّفون ما لا يطيقون. الصحابة تعلّموا من رسول الله صلى الله عليه وسلم، كلٌّ حسب لهجته وحسب قبيلته، ومن ثَمّ قاموا هم رضي الله عنهم بتبليغ القرآن المنطوق؛ فكل صحابيٍّ أقرأ مَن بعده كما تعلَّم هو , فالذي تعلّم مثلا: ] حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ أُمَّهَاتُكُمُ وَبَنَاتُكُمُ وَأَخَوٰتـُكُمُ وَعَمَّـٰتـُكُمُ... [ بضمِّ ميم الجمع, بلّغها كذلك , والذي تلقّى: ] حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوٰتـُكُمْ وَعَمَّـٰتـُكُمْ... [ [النساء 23] بتسكين ميم الجمع, بلّغها كذلك.
وهكذا انتقل القرآن الكريم إلى التابعين, حيث علّم كلّ واحد من الصّحابة مَن بعده من التابعين كما تعلَّم فظهرت القراءاتُ المختلفة للنصّ القرآنيّ الواحد.
ننتقل بالحديث الآن عن المائة الثانية الهجرية, عصرِ التدوين، تدوينِ العلوم الشرعية , لأنه في أيام النبي صلى الله عليه وسلم لم يدوَّن غيرُ القرآن , قال صلى الله عليه وسلم: (لا تكتبوا عني غير القرآن , ومن كتب عني غير القرآن فلْيمحُه)، ولم يأذن إلا لعدد محدودٍ جداً من الصحابة أن يكتبوا غير القرآن من أمثال عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه, وذلك خشية أن يَلتبس القرآن بغيره.
إذاً في عصر التدوين في المائة الثانية من الهجرة ظهرت مؤلّفاتٌ فردية تَضبط قراءةَ قارئٍ بعينه يكتبها أحد تلاميذ هذا القارئ , فكلّ الرواة ناقلون ليس لهم أي اختراع في قراءة القرآن , وهذا ليس كما يدّعي بعض المستشرقين الآن حيث يقولون: إن هذه القراءة اخترعوها من عندهم !! كيف يكون هذا الكلام؟ وهل إذا ثبت هذا فعلا ًفهل سيسكت لهم المسلمون ويتركونهم ؟!
مثلا ًلو أردنا أن نُصلّي جماعة , فتقدّم أحدنا وقرأ: (الحمدَ لله رب العالمين) بفتح دال " الحمد " فماذا يكون الردّ منّا خلفه ؟ كلّ واحد منا يردُّ: الحمدُ , الحمدُ.. ويظهر الضجرُ والامتعاضُ الشديد من هذا الخطأ , برغم أنه في ظاهره خطأٌ بسيطٌ من ضمّ الدال إلى فتحها, وهذا الآن في عصرنا الحالي وبعد مئات السنين فما بالكم في العصور الأولى وفي مكة والمدينة ؟! فمن يستطيع أن يغير في القرآن ولو حرفاً واحداً ؟! إذاً ظهرت مؤلفاتٌ فرديةٌ في المئة الثانية.
بعد ذلك في المائة الثالثة ظهرتْ مؤلَّفاتٌ حوتْ أكثر من قراءة بعد أن صار بأيدي الناس مؤلفات فردية, رواية ورش عن نافع, رواية قالون عن نافع, رواية فلان, رواية فلان, ثم ظهرتْ طبقةٌ بعدهم كانوا أصحابَ هِممٍ عالية فدَاروا على الشيوخ، وصار التلميذُ النجيبُ النشيطُ يقعدُ عند فلان, فإذا انتهى وضبط، فإنه يذهبُ إلى شيخٍ آخر يقرأ عليه, فإذا قرأ وضبط يذهب إلى شيخٍ آخر ثالث و رابع و عاشر... ثم إذا انتهى الأمر عنده يعودُ ويجمع تلك المعلومات في كتاب واحد, فظهرتْ مؤلَّفاتٌ حَوَتْ أكثر من قراءة , وهنا برزَ علمُ القراءات المكتوب إلى الوجود , أكرِّر: المكتوب، أما المنطوق فقد كان موجوداً كما عرَفنا في الحلقة الأولى من قبل.
بدأتْ تظهرُ مؤلّفاتٌ من مثل: قرأ ورش: ] وَباِلآخِرَةِِ [ بنقل حركة الهمزة إلى اللام قبلها وترقيق الراء , قرأ فلان: ] وَباِلآخِرَةِِ [ بهمزة مفتوحة بعدها راء مفخمة, وقرأ فلان: ] وَباِلآخِرَةِِ [ بالسكت على اللاَّم قبل الهمزة , قرأ فلان: ] وَباِلآخِرَةِِ [ بالإمالة إذا وقف.
إذاً بدأتْ تظهر مؤلّفاتٌ فيها أكثر من قراءة , كأنها عبارةٌ عن وصفٍ لما تُلِقي من رسول الله صلى الله عليه وسلم بحسب اختلاف القبائل, وبحسب اختلاف اللهجة.
هناك ناحيةٌ أريد التنبيه عليها وهي: هل كلُّ القراءات المنقولة عن رسول الله تتعلّق باللهجات فقط أم هناك شيء آخر ؟
95 % بالمائة من القراءات القرآنية تتعلّق بالظواهر الصوتية من مثل: ] يُؤْمِنُونَ [ , ] يُومِِنُونَ [ , و ] مُوسَى [ بالفتح، و ] مُوسَى [ بالإمالة، وأمثلة غيرها، و 5 % بالمئة تقريباً قراءاتٌ لها علاقةٌ بالمعنى , يعني لا علاقة لها بالقبائل, ولا علاقة لها باللهجات, وليس بينها تعارضٌ, وهذا من إعجاز النص القرآني.
آتيكم بمثال: قال تعالى: ] مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ [ , وقال تعالى: ] مَـٰلِكِ يَوْمِ الدِّينِ [, قرئت هكذا وهكذا، فهذا أمر لا علاقة له بالقبائل ولا باللَّهجة, (المَلِك) شيءٌ، و(المالك) شيءٌ آخر , قد يكون الإنسان مالكاً ولا يكون مَلِكاً. كلٌّ منّا ـ مثلاً ـ يملكُ سيارته.. يملكُ بيته.. يملكُ ثيابه.. يملك نقوداً, لكنه ليس مَلِكاً, وقد يكون الإنسان مَلِكاً غير مالك, الملوك الموجودون اليوم هل يملكون الناس والبيوت والشوارع ؟ ما يَملكون, فالمَلِك بمعنى الحاكم , فهو يملك أمور الحكم.
الله عز وجل أراد أن يخبرنا عن ذاته العلية أنه مالكُ يوم الدِّين، وأنه الحاكمُ يومَ الدّين , فيوم القيامة لا يدّعي أحد فيه مُلكَ الأشياء ؛ لأنها كلها لله , ولا يدعي أحدٌ الحاكمية, لأن الحاكمية لله. قال تعالى: ] يَوْمَ هُمْ بَـٰرِزُونَ لاَ يَخْفَى عَلَى اللهِ مِنْهُمْ شَيءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ للهِ الوَ ٰحِدِ الْقَهَّارِ [ [غافر 16]، وقال تعالى: ] قُلِ اللَّهُمَّ مَـٰلِكَ الْمُلْكِ [ [آل عمران 26], ولم يقل: (ملِكَ الملك), إنما: ] مَـٰلِكَ الْمُلْكِ [ , وقال تعالى: ] مَلِكِ النَّاسِ [ [الناس 2] , ولم يقل: (مَالكِ الناس) , فكما أن آية: ] مَـٰلِكَ الْمُلْكِ [ أخبرتْنا بأن الله المالك, وآية ] مَلِكِ النَّاسِ [ , أخبرتْنا بأن الله الملك بمعنى الحاكم, أخبرتْنا سورةُ الفاتحة في نصٍّ واحد أن الله (مَلِك) و (مَالك) في الوقت ذاته , فكأنّ القراءتين في الكلمة ] مـلِكَ [، بمثابة آيتين أخبرتْ كل منهما عن معنى مكمّل للمعنى الآخر, وليس بينهما تضادٌّ ولا تعارض , وهذا من إعجاز النص القرآني.
مثالٌ آخَر: قال الله تعالى في أول البقرة: ]... وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ [ [البقرة 10] , وقال تعالى في قراءة أخرى في الآية نفسها: ] وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يُكَذِّبُونَ [ فما الفرق ؟ هذا أمر لا علاقة له بالقبائل ولا اللهجات، فـ: ] يَكْذِبون [ فعلٌ مضارعٌ ماضيه: (كَذَبَ), و ] يُكذِّبون [ فعلٌ مضارع ماضيه: (كَذّبَ). فـ: (كَذَبَ) بالتخفيف يعني: هو إذا تكلم يَكْذِبُ, أما (كذّب) بالتشديد، فبمعنى أنه قال لغيره: أنت كاذب , إذا كذّبتُ فلاناً فأنا مكذِّب , وإذا كذَبْتُ أي: قلتُ غير الحق فأنا كاذب.
فالله عز وجل أعلمَنا عن هؤلاء القوم أنهم إذا تحدَّثوا كذَبوا , وإذا تحدَّث إليهم المرسلون كذَّبوهم , فهم كاذبون ومكذِّبون , فكأن هاتين القراءتين بالنصّ الواحد بمثابة آيتين أخبرتْ كلُّ واحدة منهما عن معنى مختلف عن المعنى الآخر, ولا تضادَّ ولا تعارضَ بين المعنيين.
أعود فأقول: هذا النوع من القراءات لا يكاد يشكل 5 % بالمائة من القراءات القرآنية, أما أغلبها والكثرة الساحقة منها فتتعلَّق باللّهجة.
إذاً, هنا يصطاد بعض أعداء الإسلام فيقولون: إن هذه القراءات تدل على أن هناك اختراعاً من قبل القُرَّاء ! ونحن نقول باستنكار شديد: من يخترع ؟! وكيف يخترع ؟! ومن يسمحُ له أن يخترع ؟!
الأمر الأخير: ما زالت القراءات القرآنية تُنقلُ صوتياً جيلاً عن جيل إلى عصرنا الحاضر؛ فهي ما زالت موجودةً يتلقاها قراءٌ متخصصون , وليس كل مسلم مطالباً أن يكون متقناً لها , ليأتي السؤال: هل كلّنا مُحدِّثون ؟ هل كلّنا فقهاء ؟ كذلك ليس كلّنا قُرَّاء؛ لكن من فروض الكفاية في الأمة أن يكون بيننا مُحدِّثون يضبطون أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم , وذلك خشية أن يدخل عليها التغيير , ومن فروض الكفاية في الأمة أن يكون بيننا قُرَّاء يضبطون النص القرآني بقراءاته المختلفة, فهم شريحةٌ من الأمة يقومون على حراسة زاوية معينة من الشريعة , الفقهاء يحرُسون جانباً , الأصوليّون يحرُسون جانباً , الدعاة يحرُسون جانباً , المفكّرون الإسلاميون يحرسون جانباً , الاقتصاديون الإسلاميون يحرّسون جانباً , السياسيّون الإسلاميون يحرسون جانباً , والكلّ يتكامل في حفظ الشريعة وحفظ الدين.
هذه القراءات القرآنية ـ من فضل الله ـ إلى الآن بعد ألفٍ وأربع مئة من السنين ما زال بيننا قراء متقنون في الشام.. في مصر.. في تركيا.. في اليمن.. في المغرب.. في شتَّى بلاد الإسلام, وما هذا العبد المتحدث إليكم إلا واحد من أصغرهم حيث تلقيت القرآن الكريم بقراءاته كلها ـ ولله الحمد ـ عن شيوخي بأسانيدهم المتصلة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ولي أكثر من ألف سلسلة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شيوخي وعن شيوخهم، معروفةٌ أسماؤهم، ومعروفةٌ وفاتهم، ومعروفةٌ حياتهم, ولو رآهم البخاريُّ لأخذ عنهم , يكفيهم أن الله انتقاهم لنقل كتابه جيلاً عن جيل , قال تعالى: ] ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَـٰبَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا [ [فاطر 32], انظروا إلى كلمة: ] اصْطَفَيْنَا [، مَن المصطفِي ؟ إنه الله سبحانه وتعالى.
وأقصرُ سلسلةٍ بيني وبين سيّدي وحبيبي وقرّةِ عيني رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، فإن بيني وبينه سبعةً وعشرين رجلاً ـ ولله الحمد ـ فهي من أقصر السلاسل الموجودة في عصرنا الحاضر: " سبعة وعشرون رجلا "، وهناك سلاسل أطول: 28 , 29 , 30 , 31 , 32...، لكن أقصر سلسلة ولله الحمد (27) رجلاً وهذا سَنَدٌ عالٍ جداً ولله الحمد والشكر على هذه النعمة.
لقد سمعتُ القرآنَ من شيوخي بأذنيّ عندما نطَقوه ونطقتُه أمامهم، وسمعوني بآذانهم, وهكذا فعلوا هم مع شيوخهم, وشيوخُهم هكذا فعَلوا مع شيوخهم مِن قبلهم إلى الصّحابة الكرام إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم, وقمتُ بتأليف كتابٍ لعلّي أُخرجُه قريباً لهذه السلاسل كاملةً، المتصلة منّا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم كاملة دون انقطاع , واسم كلّ واحدٍ منهم كاملاً، وتاريخ ولادته، وتاريخ وفاته، حتى نبين للناس أجمعين، ونقول لهم: امسكوأ بأيديكم هذا التواتر, فنحن عندما نقول: إن القرآن متواتر، فإننا لا نقول كلاماً خطابياً، ولا نقول كلاماً أجوف, بل نتكلم عن حقائق، ولله الحمد والمنة.
فارفعوا رؤوسكم عالياً، وافتخروا بأن كتاب ربكم الذي تمسكونه بأيديكم وصَلَكم عن نبيكم صلى الله عليه وسلم مكتوباً ومنطوقاً بأعلى طرق التوثيق المعروفة التي يُباهي بها الآن أهلُ الجامعات, ويتكلّمون عن المنهجية والموضوعية في نقل الأخبار.
الذي فعله أسلافُنا- رضي الله عنهم - هو أعلى درجات التوثيق، ولله الحمد والمنة, فافرحوا بهذا واشكروا نعمة الله عز وجل على وجود القرآن الكريم بيننا صحيحاً غير مغيَّر, كاملاً غير منقوص ولا محرَّفٍ، ولا يصيبه التغيير ولا التبديل أبداً إلى أن يأذن الله سبحانه وتعالى في آخر الزمان؛ فقد ورد في بعض الآثار: "إنَّ آخر أمر القرآن ـ لأنه محفوظٌ من التغيير ولا تقوم الساعة إلا على لُكَع بنِ لكع لا أحيانا الله إلى ذلك الزمان ـ يَستيقظُ الناس صباًحا وإذا بكلِّ مَن يحفظُ شيئاً من القرآن قد نَسِيه, والمصاحفُ أوراق بيضاء , ويكون الله قد تخلَّى عن أهل الأرض؛ لكثرة الفساد في ذلك الزمان , وكأنه يقول سبحانه: لستم أهلاً لأن أترك كلامي بينكم فقد حلَّ غضبي, فكلّ الموجودين في ذلك الوقت هم من شرار الخلق, ويقولون: لقد كان آباؤنا يقولون: الله, الله، لفظةٌ كنّا نسمعها منهم، لكن لا نعي ولا نعرف معناها. فعلى هؤلاء القوم تقوم القيامة نسأل الله العافية لنا ولكم, ونتعاهد بمعيَّتكم أن نُقبِل على كتاب ربّنا، وأن نقرأه بتمعّن؛ لأن الله أنزله لنتدبره, ] كِتَـٰبٌ أَنزَلْنَـٰهُ إلَيْكَ مُبَـٰرَكٌ لِيَدَّبَّرُواْ ءَايـٰتهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُواْ الأَلْبَـٰبِ [ [ص 29].
إذاً: القراءةُ أولاً, فالتدبرُ ثانياً, فالعملُ بمقتضاه ثالثاً, القراءة هي رقم واحد فقط, ثم التدبر, فلا تكفي قراءةٌ بدون تدبّر, فإذا قرأْنا وتدبَّرْنا وفهِمنا لا يكفي، وإنما لا بدَّ من العمل.
أسأل الله عز وجل أن يبارك لنا في القرآن الكريم، وأن يُديم علينا هذه النعمة, وأن يُليِّن ألسنتنا بتلاوة القرآن, وأن يجعلنا وإياكم من أهل القرآن الذين هم أهله وخاصَّته, وأن يُطلِق ألسنتنا بتلاوة القرآن الكريم, وأن يجعلنا وإياكم عنده من المقبولين, إنه تعالى سميع قريب مجيب، والحمد لله رب العالمين.