مقدمة :
الحمد لله رب العالمين القائل في كتاب العزيز " يأيها الذين آمنوا قوا أنفسكم و أهليكم ناراً وقودها الناس و الحجارة "
قال بعض العلماء : لما قال ( قوا أنفسكم ) دخل فيه الأولاد لأن الولد بعض منه كما دخل في قوله تعالى ( و لا على أنفسكم أن تأكلوا من بيوتكم ) فلم يفردوا بالذكر بإفراد سائر القرابات ، فيعلمه – أي يعلم الأب ابنه الحلال و الحرام و يجنبه المعاصي و الآثام إلى غير ذلك من الأحكام .
و ذكر القشيري أن عمر رضي الله عنه – قال لما نزلت هذه الآية : يارسول الله نقي أنفسنا فكيف لنا بأهلينا ؟ فقال تنهونهم عما نهاكم الله ، و تأمرونهم بما أمركم الله ( ).
و الصلاة و السلام على سيدنا محمد القائل " إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث : صدقة جارية ، و علم ينتفع به ، و ولد صالح يدعو له " . رواه مسلم .
و روى الإمام مسلم بسنده عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال قال رسول صلى الله عليه و سلم " كلكم راع و كلكم مسئول عن رعيته ، فالأمير الذي على الناس راع و هو مسئول عن رعيته . و الرجل راع في أهل بيته و هو مسئول عن رعيته .و المرأة راعية في بيت بعلها و ولده و هي مسئولة عنهم . و العبد راع في مال سيده و هو مسئول عنه . ألا فكلكم راع و كلكم مسئول عن رعيته ".
لقد ربى رسول الله عليه الصلاة و السلام أصحابه على أهمية تربية الولد ليكون صالحاً ينتفع به الأب بعد وفاته كما في الحديث ورباهم على أهمية تعليم و تلقين النشء الأعمال الصالحة و هذا مصداق لقوله عليه السلام فيما يرويه مسلم في صحيحه " من دعا إلى هدى له من أجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً ، و من دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئاً ".
و يؤكد الإمام ابن القيم ( ) مسئولية الوالد عن تربية ولده بقوله ( إن الله سبحانه و تعالى يسأل الوالد عن ولده يوم القيامة قبل أن يسأل الولد عن والده ، فإنه كما أن للأب على ابنه حقاً فللابن على أبيه حق ، فمن أهمل تعليم ولده ما ينفعه و تركه سدى فقد أساء غاية الإساءة و أكثر الأولاد إنما جاء فسادهم من قبل الآباء و إهمالهم لهم و ترك تعليمهم فرائض الدين و سننه فأضاعوهم صغاراً فلم ينتفعوا بأنفسهم و لم ينفعوا آباءهم كباراً ، كما عاتب بعضهم ولده على العقوق فقال : يا أبت إنك عققتني صغيراً فعققتك كبيراً و ضيعتني وليداً فأضعتك شيخاً".
و إنما تقتبس التربية المتماسكة القوية من سيرته عليه السلام في توجيهاته و أفعاله و تقريراته مع الأطفال الذين عاشوا معه ...
مفهوم التربية ( ):
إذا رجعنا إلى معاجم اللغة العربية وجدنا لكلمة التربية أصولاً لغوية ثلاثة :
الأصل الأول : ربا يربو بمعنى زاد و نما و في هذا نزل قوله تعالى ( و ما آتيتم من ربا ليربو في أموال الناس فلا يربو عند الله ) ]الروم :39[.
الأصل الثاني : ربي يربي على وزن خفى يخفي و معناها نشأ و ترعرع .
الأصل الثالث : ربٌ يرب بوزن مد يمد بمعنى أصلحه ، و تولى أمره و ساسه و قام
عليه و رعاه ، و من هذا قول حسان بن ثابت – رضي الله عنه – كما أورده ابن منظور
في لسان العرب :
و لأنت أحسن إذ برزت لنا يوم الخروج بساحة القصر
من درة بيضاء صــافية مما تربب حـائر البحــر
و قال : يعني الدرة التي يربيها في الصدف ، و بين : أن معنى : تربب حائر البحر : أي مما ترببه أي رباه مجتمع الماء في البحر .
قال : ورببت الأمر أربه ربا ورباباً : أصلحته و متنته .
و قد اشتق بعض الباحثين من هذه الأصول اللغوية تعريفاً للتربية ، قال الإمام البيضاوي (المتوفى 685هـ ) في تفسيره ( أنوار التنزيل و أسرار التأويل ) : الرب في الأصل بمعنى التربية و هي تبليغ الشيء إلى كماله شيئاً فشيئاً ثم وصف به تعالى للمبالغة ".
و في كتاب مفردات الراغب الأصفهاني ( المتوفى 502هـ) : " الرب في الأصل : التربية وهو إنشاء الشيء حالاً فحالاً إلى حد التمام " .
و قد استنبط الأستاذ عبد الرحمن الباني من هذه الأصول اللغوية أن التربية تتكون من عناصر:أولها : المحافظة على فطرة الناشئ و رعايتها .
ثانيها : تنمية مواهبه و استعداداته كلها ، و هي كثيرة و متنوعة .
ثالثها : توجيه هذه الفطرة و هذه المواهب كلها نحو صلاحها و كمالها اللائق بها .
رابعها: التدرج في هذه العملية و هو ما يشير إليه البيضاوي بقوله ... شيئاً
فشيئاً ) و الراغب بقوله : ( حالاًَ فحالاً ...).
مفهوم الناشئة( ) :
نشأ – نشؤ : نشأً و نشوءً أو نشأةً و نشاءة الطفل : شب و قرب من الإدراك ، يقال نشأتُ في بني فلان " أي رُبيت فيهم و شببتُ و الاسم النشء .
الناشئ : جمع نشء و نشأة و ناشئة على غير القياس : الغلام أو الجارية إذا جاوز
حد الصغر و شبا
المربي الأول
· روى أنس بن مالك – خادم رسول الله – " ما رأيت أحداً أرحم بالعيال من رسول
الله
· و روى أسامة بن زيد بن حارثة – رضي الله عنه – قال : كان رسول الله يأخذني
فيقعدني على فخذه و كان يقعد الحسن على فخذه الآخر ثم يضمنا و يقول اللهم
ارحمهما فإني أرحمهما .
فانظر إلى تكريمه للصبيان و حبه لهم .
( فالإنسان ذا الكرامة ينأى بنفسه من قبائح الأعمال و مرذول الأخلاق و من فقد
كرامته هانت عليه نفسه ..)
· و من طريف ما يروى أنه عليه السلام خرج يوماً إلى السوق لشراء ثوب و معه
ثمانية دراهم فلقي فتاة تبكي و تنتحب فسألها عن سبب بكائها فأخبرته عن أهلها (
ولاة أمرها ) قد أرسلوها لشراء حاجة لهم ، و أعطوها درهمين فأضاعتهما فنفحها
عليه السلام بدلهما ... ثم تابع سيره ...
و لكن وجد الفتاة الصغيرة لا تزال مكانها ، فسألها فقالت لقد تأخرت بالعودة إلى
أهلي و أخشى عقابهم ... فعرف أهلها من الأنصار فمشى معها حتى بلغها و آمنها و
استسمح لها فماذا يا ترى كان رد الفعل ؟ فعل التكريم العظيم لهذه الفتاة
البائسة عند الأهل ، لقد ساممحوها و أعتقوها حرة لوجه الله تعالى تكريماً
لممشاها مع رسول الله ....
أسلوب التلقين
1. يقول الإمام علي بن أبي طالب – كرم الله وجهه- " قلب الحدث كالأرض الخالية ،
ما ألقي فيها من شيء قبلته ، و إنما كان كذلك لأن الصغير أفرغ قلباً ، و أقل
شغلاً و أيسر تبذلاً ، و أكثر تواضعاً " .
2. أخرج الطبراني و ابن النجار عن علي بن أبي طالب – كرم الله وجهه – أن النبي
صلى الله عليه و سلم – قال " أدبو أولادكم على ثلاث خصال : حب نبيكم ، و حب آل
بيته ، و تلاوة القرآن فإن حملة القرآن في ظل عرش الله يوم لا ظل إلا ظله مع
أنبيائه و أصفيائه ".
أولاً : تلقين القرآن :
1. ذكر ابن كثير في كتاب " فضائل القرآن – ص44) عن ابن عباس قال " توفي رسول
الله عليه السلام – و أنا ابن عشر سنين و قد قرأت المحكم " .
2. و هذا ابن مسعود – رضي الله عنه – يورث بناته سورة من القرآن تقيهم الفقر .
3. ذكر الإمام ابن كثير في فضل سورة الواقعة : أن الحافظ ابن عساكر روى بسنده
إلى أبي ظبية قال : مرض عبد الله بن مسعود مرضه الذي توفي فيه فعاده عثمان بن
عفان فقال ما تشتكي ؟ قال : ذنوبي ، قال فما تشتهي ؟ قال رحمة ربي قال : ألا
آمر لك بطبيب ؟ قال : الطبيب أمرضني قال : ألا آمر لك بعطاء ؟ قال : لا حاجة لي
فيه قال : ما يكون لبناتك من بعدك قال : أتخشى على بناتي الفقر ؟ إني أمرت
بناتي يقرأن كل ليلة سورة الواقعة فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم –
يقول " من قرأ سورة الواقعة كل ليلة لم تصبه فاقة أبداً " .
4. و أخرج الإمام أحمد عن عبد الله بن عمرو أن رجلاً جاء بابن له فقال يا رسول
" إن ابني يقرأ المصحف بالنهار و يبيت الليل فقال رسول الله عليه الصلاة و
السلام ما تنقم ؟ إن ابنك يظل ذاكراً و يبيت سالماً " .
5. و أخرج الطبراني عن أنس بن مالك رضي الله عنه " أنه كان إذا ختم القرآن جمع
أهله و ولده فدعا لهم " .
6. و ذكر ابن كثير عن ابن عباس " أنه قال لرجل ألا أتحفك بحديث تفرح به قال :
بلى " قال اقرأ تبارك الذي بيده الملك و علمها أهلك و جميع ولدك و صبيان بيتك و
جيرانك فإنها المنجية و المجادلة تجادل و أو تخاصم يوم القيامة عند ربها
لقارئها و تطلب له أن ينجيه من عذاب النار ، و تنجي صاحبها من عذاب القبر ، قال
رسول الله صلى الله عليه و سلم ، لوددت أنها في قلب كل إنسان من أمتي ".
ثانياً : تلقين الحديث :
و كان ذلك بمجالسة رسول الله و حضورهم مجالسه و اصطحابه لهم :
1. اخرج الترمذي عن أبي الحوراء السعدي ربيعة بن شيبان قال : قلت للحسن بن علي
رضي الله عنهما ما حفظت من رسول الله ؟ " قال : حفظت منه " دع ما يريبك إلى ما
لا يريبك فإن الصدق طمأنينة و الكذب ريبة " .
2. و أخرج البخاري و مسلم عن سمرة بن جندب رضي الله عنه قال : لقد كنت على عهد
رسول الله غلاماً فكنت أحفظ عنه فما يمنعني من القول إلا أن ها هنا رجالاً أسن
مني .
3. و أورد الخطيب البغدادي في " الكفاية " ص 205 . " أن عائشة أم المؤمنين رضي
الله عنها قال ت لابن اختها عروة بن الزبير : يا بني بلغني أنك تكتب عني الحديث
ثم تعود فتكتبه فقال لا أسمعه منك على شيء ثم أعود فأسمعه على غيره، فقالت :
هل تسمع في المعنى خلافاً ؟ قال : لا ، قالت لا بأس بذلك " ( ).
ثالثاً : تعليم و تلقين السيرة النبوية :
1. قال زين العابدين بن الحسين بن علي رضي الله عنهم " كنا نعلم مغازي رسول
الله صلى الله عليه و سلم كما نعلم السور من القرآن .
2. و عن اسماعيل بن محمد بن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه : كان أبي يعلمنا
المغازي و السرايا و يقول : يا بني أنها شرف آبائكم فلا تضيعوا ذكرها ( ) .
رابعاً : تعليم و تلقين الأذكار و الأدعية :
عن ابن عباس رضي الله عنه قال : كنت عند خالتي ميمونة فأتاه المؤذن فخرج إلى
الصلاة و هو يقول " اللهم اجعل في قلبي نوراً ، و اجعل في لساني نوراً ، و من
أمامي نوراً و اجعل من فوقي نوراً ، و من تحتي نوراً ، اللهم أعظم لي نوراً "
رواه ابن خزيمه .
أسلوب التربية بالعادة
يقول الشيخ عبد الله ناصح علوان في كتابه القيم ( تربية الأولاد في الإسلام ) "
إن التربية بالعادة و التأديب هي من أهم دعائم التربية ، و أمتن وسائلها في
تنشئة الولد إيمانياً و تقويمه خلقياً ، ذلك لأنها تعتمد على الملاحظة و
الملاحقة ، و تقوم على الترغيب و الترهيب ...
و لقد كانت نصيحة الإمام الغزالي خير دليل على ضرورة تلقين الولد الخير و
تعويده عليه " و الصبي أمانة عند والديه و قلبه الطاهر جوهرة نفيسة ، فإن عود
الخير و علمه نشأ عليه و سعد في الدنيا و الآخرة " و صدق الشاعر حين قال :
و ينشأ ناشي الفتيــــان فينا على ما قد عوده أبوه
و ما دان الفتى بحجا و لكن يعوده التدين أقربـــوه
و رحم من قال :
قد ينفع الأدب الأولاد في الصغر و ليس ينفعهم من بعده أدب
إن الغصون إذا عدلتـها اعتدلت و لا يلين و لو لينته الخشب
تعويد الصلاة :
1. اخرج الطبراني عن عبد الله بن مسعود – رضي الله عنه – أنه قال : حافظوا على
أبنائكم في الصلاة و عودوهم الخير فإن الخير عادة ".
و يقوم الصحابي بنفسه بتعليم طفله ما يحتاجه في صلاته بل قبل صلاته و يبين له
كيفية الوضوء :
2. أخرج أبو داود عن الحسين بن علي رضي الله عنهما قال : " دعاني أبي علي بوضوء
فقربته له ، فبدأ فغسل كفيه ثلاث مرات قبل أن يدخلهما في وضوئه ، ثم مضمض
ثلاثاً ، و استنشق ثلاثاً ، ثم غسل وجهه ثلاث مرات ، ثم غسل يده اليمنى إلى
المرفق ثلاثاً ً ثم اليسرى كذلك ، ثم مسح برأسه مسحة واحدة ثم غسل رجله اليمنى
إلى الكعبين ( ثلاثاً ) ثم اليسرى كذلك ، ثم قام قائماً فقال : ناولني ،
فناولته الإناء الذي فيه فضل وضوئه ثم شرب من فضل وضوئه قائماً فعجبت ، فلما
رآني قال : لا تعجب فإني رأيت أباك النبي يصنع مثل ما رأيتني صنعت يقول لوضوئه
هذا و شرب فضل وضوئه قائماً .
و تهيئته للإمامة :
و من هذا القبيل ما يدل عليه ما رواه البخاريّ في صحيحه عن عمرو بن سلمة رضي
الله عنه أنه قال : َلَمَّا كَانَتْ وَقْعَةُ أَهْلِ الْفَتْحِ بَادَرَ كُلُّ
قَوْمٍ بِإِسْلاَمِهِمْ ، وَبَدَرَ أَبِى قَوْمِى بِإِسْلاَمِهِمْ ، فَلَمَّا
قَدِمَ قَالَ جِئْتُكُمْ وَاللَّهِ مِنْ عِنْدِ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم
حَقًّا فَقَالَ « صَلُّوا صَلاَةَ كَذَا فِى حِينِ كَذَا ، وَصَلُّوا كَذَا
فِى حِينِ كَذَا ، فَإِذَا حَضَرَتِ الصَّلاَةُ ، فَلْيُؤَذِّنْ أَحَدُكُمْ
، وَلْيَؤُمَّكُمْ أَكْثَرُكُمْ قُرْآناً » . فَنَظَرُوا فَلَمْ يَكُنْ
أَحَدٌ أَكْثَرَ قُرْآناً مِنِّى ، لِمَا كُنْتُ أَتَلَقَّى مِنَ الرُّكْبَانِ
، فَقَدَّمُونِى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ ، وَأَنَا ابْنُ سِتٍّ أَوْ سَبْعِ
سِنِينَ وَكَانَتْ عَلَىَّ بُرْدَةٌ ، كُنْتُ إِذَا سَجَدْتُ تَقَلَّصَتْ
عَنِّى ، فَقَالَتِ امْرَأَةٌ مِنَ الْحَىِّ أَلاَ تُغَطُّوا عَنَّا اسْتَ
قَارِئِكُمْ . فَاشْتَرَوْا فَقَطَعُوا لِى قَمِيصاً ، فَمَا فَرِحْتُ
بِشَىْءٍ فَرَحِى بِذَلِكَ الْقَمِيصِ .
فانظروا رحمكم الله كيف حفظ من أفواه الركبان قسطاً من كتاب الله فاق ما حفظه
بنو قومه رغم تلقيهم عن خير الخلق صلى الله عليه و سلّم ، و الأغرب من ذلك أنّه
تصدّر لإمامة قومه في الصلاة رغم حداثة سنّه إلى حدّ لا يُعاب عليه فيه انحسار
ثوبه عن سوأته .
تعويد الصوم :
أخرج الإمام البخاري و مسلم عن الربيع بنت معوذ قالت : ارسل رسول الله – عليه
السلام – صبيحة يوم عاشوراء إلى قرى الأنصار ، من كان اصبح صائماً فليتم صومه و
من كان أصبح مفطراً فليصم بقية يومه ، فكنا نصومه بعد ذلك و نصوم صبياناً
الصغار منهم و نذهب على المسجد فنجعل لهم اللعبة من العهن ( أي الصوف ) فإذا
بكى أحدهم من الطعام أعطيناه إياه حتى يكون عند الإفطار " .
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله عند شرح الحديث : 5/14 " و في الحديث حجة على
مشروعية تمرين الصبيان على الصيام ، لأن من كان مثل السن الذي ذكر في هذا
الحديث فهو غير مكلف و إنما صنع لهم ذلك للتمرين " .
تعويد الحج :
أخرج مسلم و مالك عن ابن عباس – رضي الله عنهما – أن رسول الله – عليه السلام –
لقي ركباً بالروحاء ( مكان يمر به الذاهب إلى بدر من المدينة المنورة ) فقال :
" من القوم ؟ قالوا : المسلمون فقال : من أنت ؟ قال : رسول الله فرفعت إليه
إمرأة صبياً فقالت : ألهذ حج ؟ قال : نعم ، و لك أجر " .
تعويد كتمان السر :
1- اخرج الإمام البخاري و مسلم و احمد – و اللفظ لأحمد – عن ثابت ( البناني )
عن أنس رضي الله عنه قال : خدمت رسول الله – عليه السلام- يوماً ، حتى إذا رأيت
أني فرغت من خدمتي ، قلت : يقيل رسول الله عليه السلام أي ينام نومة القيلولة و
تكون وقت الضحوة الكبرى – فخرجت إلى صبيان يلعبون ، قال فجئت انظر إلى لعبهم
قال : فجاء رسول الله فسلم على الصبيان و هم يلعبون فدعاني رسول الله إلى حاجة
له فذهبت فيها و جلس رسول في فيء حتى أتيته ، و احتبست عن أمي عن الإتيان الذي
كنت أتيها فيه فلما أتيتهما قالت : ما حبسك ؟ قلت : بعثني رسول الله في حاجة له
قالت و ما هي ؟ قلت هو سر لرسول الله ، قالت فاحفظ على رسول الله سره . قال
ثابت : قال لي أنس : لو حدثت به أحداً من الناس – أو لو كنت محدثاً به – لحدثتك
به يا ثابت .
2- وعن ابْن عَبَّاسٍ قال : كُنْتُ غُلامًا أَسْعَى مَعَ الْغِلْمَانِ
فَالْتَفَتُّ فَإِذَا أَنَا بِنَبِيِّ اللَّهِ r خَلْفِي مُقْبِلاً فَقُلْتُ :
مَا جَاءَ نَبِيُّ اللَّهِ r إِلا إِلَيَّ، قَالَ : فَسَعَيْتُ حَتَّى
أَخْتَبِئَ وَرَاءَ بَابِ دَار، قَالَ : فَلَمْ أَشْعُرْ حَتَّى تَنَاوَلَنِي
فَأَخَذَ بِقَفَايَ فَحَطَأَنِي حَطْأَةً ( ضربه بكفّه ضربة ملاطفة ومداعبة )
فَقَالَ : اذْهَبْ فَادْعُ لِي مُعَاوِيَةَ. قَالَ : وَكَانَ كَاتِبَهُ
فَسَعَيْتُ فَأَتَيْتُ مُعَاوِيَةَ فَقُلْتُ : أَجِبْ نَبِيَّ اللَّهِ r
فَإِنَّهُ عَلَى حَاجَةٍ" . [ رواه الإمام أحمد في مسند بني هاشم ] .
تعويد أدب الاستئذان :
روى البخاري في الأدب ( 2/515) عن عطاء قال : سألت لبن عباس ، فقلت : أستأذن
على أختي ؟ فقال : نعم ، فأعدت فقلت : أختان في حجري ، و أنا أمونهما و أنفق
عليهما ، أستأذن عليهما ؟ قال نعم أتحب أن تراهما عريانتين ؟ ثم قرأ ( يا أيها
الذين آمنوا ليستئذنكم الذين ملكت أيمانكم و الذين لم يبلغوا الحلم منكم ثلاث
عورات .........الآية ) (النور : 58)
قال ابن عباس : فالإذن واجب .
تعويد التضحية و الجهاد في سبيل الله :
1- اخرج ابن عساكر عن سعد ابن أبي وقاص – رضي الله عنه – قال : رد رسول الله
عمير بن أبي وقاص – رضي الله عنه – عن مخرجه إلى بدر و استصغره فبكى عمير – رضي
الله عنه - فعقدت عليه حمالة سيفة ، و قد شهدت بدراً ، و ما في وجهي إلا شعرة
واحدة امسحها بيدي " اخرجه الحاكم ( 3/88) و البغوي بما معناه .
2- ما أخرجه ابن أبي شيبة عن الشعبي : أن أمرأة دفعت إلى ابنها يوم أحد السيف ،
فلم يطق حمله فشدته على ساعده بنسعه ، ثم أتت به النبي ، فقالت يا رسول هذا
ابني يقاتل عنك فقال النبي أي بني احمل ه هنا ، أي احمل ها هنا فأصابته جراحة
فصدع فأتي به النبي فقال : أي النبي لعلك جزعت ؟ قال : لا يا رسول ) . كما في
كنز العمال .
3- أخرج البخاري عن عروة بن الزبير – رحمه الله- قال : كان في الزبير ثلاث
ضربات إحداهن في عاتقه إن كنت لأدخل أصابعي فيها ، ألعب بها و أنا صغير . قال
له أصحاب رسول الله يوم اليرموك ألا تشد فنشد معك ؟ قال : إن شددت كذبتم-
يريدون تتخلون عني – قالوا : لا نفعل فحمل عليهم حتى شق صفوفهم فجاوزهم و ما
معه أحد ، ثم رجع مقبلاً ( فأخذ بلجامه ) فضربوه ضربتين على عاتقه ، بينهما
ضربة ضربها يوم بدر ، قال : عروة و كان معه عبد الله ( عبد الله بن الزبير و هو
يومئذ غلام ) فحمله على فرس و وكل به رجلاً ".
قال ابن حجر رحمه الله في شرح الحديث : وكأن الزبير آنس من ولده عبد الله شجاعة
وفروسية فأركبه الفرس وخشي عليه أن يهجم بتلك الفرس على ما لا يطيقه، فجعل معه
رجلاً ليأمن عليه من كيد العدو إذا اشتغل هو عنه بالقتال .
4- و أخرج بن عساكر عن جعفر بن محمد عن أبيه : أن النبي بايع الحسن و الحسين ،
و عبد الله بن عباس ، و عبد الله بن جعفر و هم صغار و لم يبلغوا ، قال و لم
يبايع صغيراً منا " ( ).
5- روى البخاري عن عبد الرحمن بن عوف – رضي الله عنه – قال : بينما أنا واقف في
الصف يوم بدر ، فنظرت عن يميني و شمالي فإذا أنا بغلامين من الأنصار ، حديثة
أسنانهما تمنيت أن أكون بين أضلع منها – أي أقوى منهما – فغمزني أحدهما فقال :
يا عم هل تعرف أبا جهل ؟ قلت : نعم ، ما حاجتك إليه يا ابن أخي ؟ قال أخبرت أنه
يسب رسول الله !! و الذي نفسي بيده لئن رأيته لا يفارق سوادي سواده حتى يموت
الأعجل منا ! فتعجبت لذلك ، فغمزني الآخر فقال لي مثلها ، فلم أنشب أن نظرت إلى
أبي جهل يجول في الناس ، فقلت : ألا إن هذا صاحبكما الذي سألتما ، فابتدراه
بسيفيهما ، فضرباه حتى قتلاه ! ثم انصرفا إلى رسول الله فأخبراه ، فقال : "
أيكما قتله ؟ " قال كل واحد منهما : أنا قتلته . فقال : " هل مسحتما سيفيكما ؟"
قالا : لا ، فنظر في السيفين فقال : كلاكما قتله ، سلبه لمعاذ بن عمرو بن
الجموح " . و كانا : معاذ بن عفراء ، و معاذ بن عمرو بن الجموع ".
6- و إن الأمهات ليفرحن باستشهاد أولادهن :
أخرج احمد عن أنس – رضي الله عنه – أن حارثة بن الربيع جاء يوم بدر نظاراً ،
وكان غلاماً ، فجاء سهم غرب – أي : لا يعرف راميه – فوقع في ثغرة نحره ، فتله
فجاءت أمه فقالت : يا رسول الله قد علمت مكان حارثة مني ، فإن كان من أهل الجنة
فسأصبر ، و إلا فسيرى الله ما أصنع قال: فقال : " يا أم حارثة إنها ليست بجنة
واحدة و لكنها جنات كثيرة و إنه في الفردوس الأعلى " .
تعويد سنة السلام :
أخرج البخاري و مسلم عن أنس رضي الله عنه أنه مر على صبيانه فسلم عليهم و قال :
كان رسول الله عليه السلام يفعله .
أخرج الترمذي عن أنس – رضي الله عنه – قال : قال لي رسول " يا بني إذا دخلت على
أهلك فسلم يكن بركة عليك و علي أهل بيتك " .
قال الحافظ ابن حجر في ( فتح الباري 13/270) قال ابن بطال : في السلام على
الصبيان تدريبهم على آداب الشريعة ، و فيه طرح الأكابر رداءً الكبر ، و سلوك
التواضع و لين الجانب " .
تعويده قضاء حاجات الناس :
أخرج البخاري و مسلم عن أبي هريرة – رضي الله عنه – أن رسول الله " كان رجل
يداين الناس و كان يقول لفتاه إذا أتيت معسراً فتجاوز عنه لعل الله أن يتجاوز
عنا ، فلقي الله فتجاوز عنه " .
أسلوب الثواب و العقاب
إن أية عملية تربوية لا تأخذ بمبدأ الإثابة والعقاب في ترشيد السلوك بصورة
متوازنة وعقلانية ، فإن الانحراف في السلوك سيكون نتاج هذه التربية.
أولاً : أسلوب الثواب :
1- منادته بأحب الأسماء إليه:
- فرسول الله عليه السلام كان ينادي السيدة عائشة و لم تكن تتعدى الثانية عشرة
عاماً : ياعائش و هو ترخيم للاسم لزيادة الألفة و المودة .
- و كان عليه السلام ينادي أنس رضي الله عنه يا أُنيس .
2- مداعبته و التصابي له :
- روى الطبراني عن جابر – رضي الله عنه – قال دخلت على النبي عليه السلام و هو
يمشي على أربع ( أي يديه و رجلين ) و على ظهره الحسن و الحسين و هو يقول " نعم
الجمل جملكما و نعم العدلان أنتما " .
- و أخرج الإمام أحمد بإسناد حسن عن عبد الله بن الحارث – رضي الله عنه – قال :
كان رسول الله عليه السلام يصُف عبد الله و عبيد الله و كثير بن العباس – رضي
الله عنهم – ثم يقول : " من سبق إلى فله كذا و كذا " قال : فيستبقون إليه
فيقعون على ظهره و صدره فيقبلهم و يلتزمهم " .
و تعتبر المداعبة و التعليم بطريق اللعب ، من الوسائل التي تعتبرها المدارس
الغربية في التربية اليوم من أنجع الوسائل و أهمها و أقربها إلى نفس الطفل و
أنفعها له ، رغم أن الهدي النبوي سبق إلى ذلك و قرره و شرع فيه صاحبه صلى الله
عليه و سلّم بالفعل ، في مواقف كثيرة من أشهرها ما رواه الشيخان و غيرهما من
حديث أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ كَانَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم أَحْسَنَ
النَّاسِ خُلُقاً ، وَكَانَ لِى أَخٌ يُقَالُ لَهُ أَبُو عُمَيْرٍ - قَالَ
أَحْسِبُهُ فَطِيمٌ - وَكَانَ إِذَا جَاءَ قَالَ « يَا أَبَا عُمَيْرٍ مَا
فَعَلَ النُّغَيْرُ » . نُغَرٌ كَانَ يَلْعَبُ بِهِ ، فَرُبَّمَا حَضَرَ
الصَّلاَةَ وَهُوَ فِى بَيْتِنَا ، فَيَأْمُرُ بِالْبِسَاطِ الَّذِى تَحْتَهُ
فَيُكْنَسُ وَيُنْضَحُ ، ثُمَّ يَقُومُ وَنَقُومُ خَلْفَهُ فَيُصَلِّى بِنَا
.
و مداعبته صلى الله عليه و سلم لأبي عمير رضي الله عنه درسٌ عظيم يرسم منهجاً
في تربية الأطفال و تعليمهم و آباءهم بأسلوب التشويق و التودد لهم ، و لذلك
اهتم العلماء بهذا الحديث أيّما اهتمام .
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في ( الفتح ) : ( في هذا الحديث عدّة فوائد جمعها
أبو العباس الطبري المعروف بابن القاصّ الفقيه الشافعي صاحب التصانيف في جزءِ
مفرد ، و ذكر ابن القاصّ في أوّل كتابه أنّ بعض الناس عاب على أهل الحديث أنّهم
يروون أشياء لا فائدة فيها ، و مثل ذلك التحديث بحديث أبي عمير هذا ، قال : و
ما درى أنّ في هذا الحديث من وجوه الفقه و فنون الأدب و الفائدة ستين وجهاً ثمّ
ساقها مبسوطةً.
3- تقبيله :
- روى البخاري أن أبا هريرة – رضي الله عنه – قال قبل رسول الله الحسن بن علي
و عنده الأقرع بن حابس التميمي جالس ، فقال الأقرع إن لي عشرة من الولد ما قبلت
منهم أحداً فنظر رسول الله إليه ثم قال : من لا يرحم لا يُرحم " .
- روى البخاري أن عائشة رضي الله عنها قالت : جاء أعرابي إلى النبي و قال
أتقبلون صبيانكم ؟ فما نقبلهم فقال النبي عليه السلام أو أملك أن نزع الله من
قلبك الرحمة ؟ " .
4- اللمسة الحانية الدالة على المحبة :
و تكون في المصافحة ، و المسح على رأسه و صدره و غيرها مما يشعر الناشئ بالأمان
و الحنان و يحكي واحد من صحابة رسول الله و يقول " ما لمست من حرير و لا ديباج
ألين من كف رسول الله و ما صافحه أحد و نزع يده إلا كان الذي يصافحه هو الذي
نزع أولاً " .
ثانياً : أسلوب العقاب :
1- شد الأذن :
و قد فعله النبي عليه السلام فيما يرويه الإمام النووي عن عبد الله بن بسر
المازني الصحابي – رضي الله عنه – قال : بعثتني أمي إلى رسول الله عليه السلام
يقطف من عنب فأكلت منه قبل أن أبلغه إياه فلما جئت أخذ بأذني و قال " يا غدر "
.
2- الضرب :
3- و آخر الدواء الكي فلا يكون الضرب إلا بعد استنفاد أساليب التربية جميعها و
وسائل العقاب كلها مثل (النظرة الحادة – الهمهمة – مدح عيره أمامه – الإهمال –
الحرمان – الهجر و الخصام – التهديد ) و قد حدد هذه الوسيلة النبي عليه السلام
عندما قال " مروا أولادكم بالصلاة و هم أبناء سبع ، و اضربوهم عليها و هم أبناء
عشر " فقال عليه السلام مروا و لم يقل قبل العاشرة : " اضربوا " .
و إذا لجاءنا لهذه الوسيلة فهناك أشياء يجب مراعاتها و هي( ):
1- الضرب للتأديب كالملح للطعام لا يزيد و لا ينقص .
2- لا تضرب بعد وعدك بعدم الضرب لئلا يفقد الثقة فيك .
3- مراعاة حالة الناشئ المخطئ و سبب الخطأ .
4- لا يضرب على الناشئ على أمر صعب التحقيق ( لأنه لم يحصل على الدرجة النهائية
مثلاً ).
5- إظهار العصا للطفل دائماً حتى يهابها .
6- يعطى الفرصة إذا كان الخطأ لأول مرة .
7- رؤيته لمن يضرب من غيره .
8- لا يضرب أمام من يحبه .
9- اضربه بنفسك و لا تتركه لغيرك خاصة أخوته و زملاءه .
10- لا يضرب في مكان واحد .
11- لا يضرب في الأماكن المؤذية كالوجه و البطن و الصدر .
12- لا يضرب بالحذاء أو النعل ( الشبشب) أو بالطوب .
13- الامتناع عن الضرب فوراً إن أصر الناشئ على خطئه و لم ينفع الضرب .
14- عدم الضرب أثناء الغضب الشديد .
15- عدم الانفعال أثناء الضرب .
16- عدم إرغام الطفل على الاعتذار بعد الضرب وقبل أن يهدأ لأن فيه إذلالاً له و
مهانة .
17- أشعره أنك عاقبته لمصلحته و ابتسم في وجهه و حاول أن تنسيه الضرب .
أسلوب التربية بالأحداث والموقف
الحياة أحداث و مواقف متتالية . و الأحداث و المواقف لها عواملها و أسبابها ، و
لها كذلك نتائجها و مخرجاتها . و في كل حدث أو موقف يكمن درس ينبغي أن نعيه و
التربية بالأحداث و المواقف الوقاعية من أهم أساليب التربية الإسلامية ، فقد
استخدم الرسول من الأحداث و المواقف العملية دروساً لقنها للمسلمون و لقنوها هم
لأولادهم :
و من هذه المواقف :
1- موقف حادثة المرأة المخزومية التي سرقت على عهد رسول الله و عزُ على بعض
القرشيين أن ينفذ فيها حد السرقة الذي أمر به الله في كتابه العزيز ، و لجأوا
لأسامة بن زيد – حب رسول الله و ابن حبه – يشفعونه في هذا الأمر الخطير كي يعفي
المرأ من حد السرقة و يقبل فيها أي غرامة أو عقوبة أخرى . فكان لابد من درس
يثبتمعنى المساواة في العقوبات كما هي ثابتة في كل التكاليف و يزيل أوهام
الفوارق الطبقية بين الناس . لذا جاء الدرس التربوي في حينه و موضعه فقال
الرسول لأسامة بن زيد ( أتشفع في حد من حدود الله تعالى ؟) ثم قام فخطب ثم قال
) إنما أهلك الذين الين قبلكم لأنهم إذا سرق فيهم الشريف تركوه ، و إذا سرق
فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد ، و أيم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقُطعت
يدها .
1- فقد أخرج البخاري و مسلم عن عمر بن أبي سلمة – رضي الله عنهما – قال : "
كنت غلاماً في حجر رسول الله – عليه السلام – فكانت يدي تطيش في الصحفة ، فقال
لي رسول الله " يا غلام : سم الله تعالى و كل بيمينك ، و كل مما يليك . فما
زالت تلك طعمتي بعدُ)" .فهذا تعلم أدب الطعام من هذا الموقف و استمر عليه ..
2- موقفه من الفضل بن عباس – رضي الله عنهما – عندما رآه ينظر إلى امرأة جميلة
فيحول وجه الفضل : أخرج الإمام أحمد عن الفضل بن عباس قال كنت رديف رسول الله
من جمع – أي : مزدلفة إلى منى فبينما هو يسير ، إذا عرض له أعرابي مردفاً ابنة
له جميلة ، كان يسايره ، قال : فكنت انظر إليها ، فنظر إلى النبي عليه السلام
فقلب وجهي عن وجهها ، ثم أعدت النظر ، فقلب وجهي عن و جهها حتى فعل ذلك ثلاثاً
، و أنا لا أنتهي فلم يزل يلبي حتى رمى جمرة العقبة ".. و تعلم الفضل غض البصر
و لم ينسى هذا الموقف حتى قصه علينا لنتعلم ...
3- و هذا موقف لنبي الله يعلم فيه الأم صدق التعامل مع الولد :
أخرج أبو داود عن عبد الله بن عامر قال : دعتني أمي يوماً و رسول الله قاعد في
بيتنا ، فقالت تعال أُعطك فقال لها عليه السلام ما أردت أن تعطيه ؟ " قالت :
أردت أن أعطيه تمراً ، فقال لها : أما إنك لو لم تعطه شيئاً كتبت عليك كذبة " .
يقول أحد كبار المربين " إذا أردت غرس عادة الطاعة ، فتفرغ قبل كل شيء على
دراسة ابنك و قف على ما يفكر فيه و اعرف كيف يستجيب لما يعرض عليه . فكر ملياً
في وعودك قبل أن تعده بها ، فإذا وعدت فأوف بوعدك ، أو أوضح العلة في خلف الوعد
حتى تستبقي ثقة الطفل بك )
4- و لتعليم الناشئ توقير الكبير: روى الترمذي بسنده عن أنس رضي الله عنه –
قال جاء شيخ يريد النبي عليه السلام فأبطأ القوم عنه أن يوسعوا له ، فقال النبي
عليه السلام " ليس منا من لم يرحم صغيرنا ، و لم يوقر كبيرنا" .
5- و لتربيته على آداب المسجد :
- روى ابن ماجه بسنده عن عبد الله بن عمر – رضي الله عنهم قال : رأى رسول الله
عليه السلام نخامة في قبلة المسجد و هو يصلي بين يدي الناس فحتها ثم قال حين
انصرف من الصلاة " إن أحدكم إذا كان في الصلاة كان الله قبل وجهه فلا يتنخمن
أحدكم قبل وجهه في الصلاة " .
- روى البخاري بسنده عن أبي واقد الليثي قال : بينما رسول الله في المسجد فأقبل
ثلاثة نفر فأقبل اثنان إلى رسول الله و ذهب واحد ، فأما أحدهما فرأى خرجة فجلس
فيها و أما الآخر فجلس خلفهم ، فلما فرغ رسول الله قال ألا أخبركم عن الثلاثة :
أما أحدهم فأوى إلى الله فآواه الله ، و أما الآخر فاستحيا فاستحيا الله منه و
أما الآخر فأعرض فأعرض الله عنه ".
- و من أدب مقاومة الإسراف و التبذير و الدعوة إلى الاقتصاد : روى البزار
بسنده عن طلحة رضي الله عته قال : كان رسول عندنا ، و كان صائماً فأتيناه عند
إفطاره بقدح من لبن ، و جعلنا فيه شيئاً من عسل فوضعه و قال : أما إني لا أحرمه
و من تواضع لله رفعه ، و من تكبر وضعه الله ، و من اقتصد أغناه الله ، و من بذر
أفقره الله " .
أسلوب التربية بالقصة
قال بعض علماء السلف ( ) الحكايات جند من جنود الله تعالى يثبت الله بها قلوب
أوليائه.
و شاهده من كتاب الله سبحانه و تعالى " و كلاً نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت
به فؤادك " سورة هود: (آية: 120 ).
و قال أبو حنيفة – رضي الله عنه – " الحكايات عن العلماء و محاسنهم أحب إلى من
كثير من الفقه لأنها آداب القوم " .
و هذا نهج النبي عليه السلام مع الصحابة رضوان الله عليهم جميعاً فقصة غلام
الأخدود لا تغيب على أحد منا ، فهي قصة قدمها لنا النبي عن طفولة غلام و تضحيته
في تبليغ دعوة الله و الثبات عليها رغم كل المخاطر التي حلت به .
1- أخرج مسلم عن صهيب – رضي الله عنه – أن رسول الله قال : كان ملك فيمن كان
قبلكم ، و كان له ساحر فلما كبر قال للملك : إني قد كبرت فابعث لي غلاماً أعلمه
السحر فبعث إليه غلاماً يعلمه فكان في طريقه إذا سلك راهب فقعد إليه و سمع
كلامه فأعجبه و كان إذا أتى إلى الساحر مر بالراهب و قعد إليه فإذا أتى الساحر
ضربه فشكا ذلك إلى الراهب فقال : إذا خشيت الساحر فقل : حبسني أهلي و إذا خشيت
أهلك فقل : حبسني الساحر .
فبينما هو على ذلك إذ أتى على دابة عظيمة قد حبست الناس فقال اليوم أعلم :
الساحر أفضل أم الراهب أفضل ؟ فأخذ حجراً فقال : اللهم إن كان أمر الراهب أحب
إليك من أمر الساحر فاقتل هذه الدابة حتى يمضي الناس فرماها فقتلها و مضى الناس
فأتى الراهب فأخبره فقال له الراهب : أي بني أنت اليوم أفضل مني قد بلغ من أمرك
ما أرى و إنك ستبتلى فإن ابتليت فلا تدل علي .
و كان الغلام يبرئ الأكمه ( من ولد أعمى) و الأبرص ( من بجسمه بياض ) و يداوي
الناس من سائر الأدواء فسمع جليس للملك كان قد عمى فأتاه بهدايا كثيرة فقال :
ما هاهنا أجمع لك إن أنت شفيتني فقال : إني لا أشفي أحداً إنما يشفي الله تعالى
فإن آمنت بالله تعالى دعوت الله لك فشفاك فآمن بالله فشفاه الله تعالى .
فأتى الملك فجلس إليه كما كان يجلس فقال له الملك : من رد عليك بصرك؟ قال : ربي
قال أولك رب غيري؟ قال : ربي و ربك الله ، فأخذه فلم يزل يعذبه حتى دل الغلام
فجيء بالغلام فقال له الملك : أي بني قد بلغ من سحرك ما يبريء الأكمه و الأبرص
و تفعل و تفعل ! فقال إني لا أشفي أحداً و إنما يشفي الله تعالى فأخذه فلم يزل
يعذبه حتى دل على الراهب .
فجيء بالراهب فقيل له : ارجع عن دينك فأبى فدعا الملك بالمنشار فوضع المنشار في
مفرق رأسه فشقه حتى وقع شقاه ثم جيء بجليس الملك فقيل له : ارجع عن دينك فأبى
فوضع المنشار في مفرق رأسه فشقه به حتى وقع شقاه .
ثم جيء بالغلام فقيل له : ارجع عن دينك . فأبى فدفعه إلى نفر من أصحابه ، فقال
: اذهبوا به إلى جبل كذ و كذا فاصعدوا به الجبل فإذا بلغتم ذروته فإن رجع عن
دينه و إلا فاطرحوه فذهبوا به فصعدوا ذروته فإن رجع عن دينه و إلا فاطرحوه
فذهبوا به فصعدوا به الجبل فسقطوا و جاء يمشي إلى الملك ! فقال له الملك : ما
فعل أصحابك ؟ فقال كفانيهم الله تعالى !
فدفعه إلى نفر من أصحابه فقال : اذهبوا به فاحملوه في قرقورة ( أي : زورق صغير
) و توسطوا به البحر فإن رجع عن دينه و إلا فاقذفوه ، فذهبوا به فقال : اللهم
اكفنيهم بما شئت فانكفأت بهم السفينة فغرقوا و جاء يمشي إلى الملك فقال له
الملك ما فعل أصحابك ؟ فقال له كفانيهم الله تعالى .
فقال للملك : إنك لست بقاتلي حتى تفعل ما أمرك به قال : ما هو ؟ قال : تجمع
الناس في صعيد واحد ، و تصلبني على جذع ثم خذ سهماً من كنانتي ثم ضع السهم في
كبد القوس ثم قل : بسم الله رب الله هذا الغلام ، ثم ارمني فإنك إذا فعلت ذلك
قتلتني !
فجمع الناس في صعيد واحد و صلبه على جذع ثم أخذ سهماً من كنانته ثم وضع السهم
في كبد القوس ثم قال : بسم الله رب هذا الغلام ثم رماه فوقع السهم في صُدعه(
ما بين العين إلى شحمة الأذن) فمات !! فقال الناس : آمنا برب هذا الغلام !.
فأتي الملك فقيل له : أرأيت ما كنت تحذر ، و قد و الله نزل بك حذرك قد آمن
الناس ! فأمر بالأخدود بأفواه السكك ( الطرق) فخَدت (شقت) و أضرم فيها النيران
و قال : من لم يرجع عن دينه فأقحموه فيها أو قيل له : اقتحم ففعلوا حتى جاءت
امرأة و معها صبي لها ، فتقاعست أن تقع فيها فقال لها الغلام " يا أماه اصبري ،
فإنك على الحق!".
2- قصة الأبرص و الأقرع و الأعمى :
روى البخاري و مسلم عن أبي هريرة أنه سمع النبي عليه السلام يقول إن ثلاثة من
بني إسرائيل : " أبرص و أقرع و أعمى " أراد الله أن يبتليهم ( يختبرهم ) بالنعم
و هل هم شاكرون لها مؤدون حقوقها ؟
فبعث إليهم ملكاً فأتى الأبرص :
الملك : أي شيء أحب إليك ؟
الأبرص لون حسن و جلد حسن و يذهب عني الذي قد قذرني الناس فمسحة فذهب عنه قذره
و أعطي لوناً حسناً .
الملك : أي المال أحب إليك ؟
الأبرص : الإبل فأعطي ناقة عُشراء ( حاملاً ).
الملك : بارك الله لك فيها .
فأتى الأقرع :
الملك : أي شيء أحب إليك ؟
الأقرع :شعر حسن ، و يذهب الله عني الذي قذرني الناس . فمسحه فذهب عنه و أعطي
شعراً حسناً ...
الملك : أي المال أحب إليك ؟
الأقرع : البقر فأعطي بقرة حاملاً .
الملك : بارك الله لك فيها .
فأتي الأعمى :
الملك : أي شيء أحب إليك ؟
الأعمى :أن يرد الله بصري فأبصر الناس فمسحه فرد إليه بصره .
الملك : أي المال أحب إليك ؟
الأقرع : الغنم فأعطي شاة والداً ( حاملاً).
فأنتج هذان وولد هذا فكان لهذا واد من الإبل و لهذا واد من البقر و لهذا واد من
الغنم .
ثم إنه أتى الأبرص في صورته و هيئته
الملك : رجل مسكين قد انقطعت بي الحبال في سفري فلا بلاغ لي اليوم ( أي معونة
من مال ) إلا بالله ثم بك أسألك بالذي أعطاك اللون الحسن و الجلد الحسن و المال
بعيراً أتبلغ به في سفري .
الأبرص : الحقوق كثيرة !!..
الملك : كأني أعرفك ألم تكن أبرص يقذرك الناس ؟ فقيراً فأعطاك الله ؟.
الأبرص : إنما ورثت هذا المال كابراً عن كابر ( أباً عن جد) !!
الملك : إن كنت كاذباً فصيرك الله إلى ما كنت .
و أتى الأقرع في صورته و هيئته
الملك : رجل مسكين قد انقطعت بي الحبال في سفري فلا بلاغ لي اليوم إلا بالله ثم
بك أسألك بالذي أعطاك الشعر الحسن و المنظر الحسن و المال بقرة أتبلغ به في
سفري .
الأقرع : الحقوق كثيرة !!..
الملك : كأني أعرفك ألم تكن أقرع يقذرك الناس ؟ فقيراً فأعطاك الله ؟.
الأقرع : إنما ورثت هذا المال كابراً عن كابر .
الملك : إن كنت كاذباً فصيرك الله إلى ما كنت .
و أتى الأعمى في صورته و هيئته
الملك : رجل مسكين قد انقطعت بي الحبال في سفري فلا بلاغ لي اليوم إلا بالله ثم
بك أسألك بالذي رد عليك بصرك شاة أتبلغ به في سفري .
الأعمى : قد كنت أعمى فرد الله على بصري فذ ما شئت و دع ما شئت فو الله لا
أجهدك ( لا أعرضك ) بشيء أخذته لله عز و جل .
الملك : أمسك مالك فإنما اُبتليتُم ( اُختبرتم) فقد رضي الله عنك و سخط على
صاحبيك )..
عبر و عظات من الحديث :
1- التحذير من كفران النعم و الترغيب في شكرها و الاعتراف بها و حمد الله عليها
.
2- فضل الصدقة و الحث على الرفق بالضعفاء و إكرامهم و تبليغهم مآربهم.
الزجر عن البخل ، لأنه يحمل صاحبه على الكذب و على جحد نعمة الله تعالى .
3-قصة الخشبة العجيبة :
روى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله ( أنه ذكر رجلاً من بني
إسرائيل سال بعض بني إسرائيل أن يُسلفه (يُقرضه) ألف دينار .
المقرض : ائتني بالشهداء أُشهدهم .
المقترض : كفى بالله شهيداً .
المقرض : فائتني بالكفيل .
المقترض : كفى بالله كفيلا .
المقرض : صدقت فدفعها إليه إلى أجل غير مسمى فخرج في البحر فقضى حاجته ثم
التمس مركباً يركبها يقدم عليه للأجل الذي أجله فلم يجد مركباً ، فأخذ خشبة
فنقرها فأدخل فيها ألف دينار ... و صحيفة منه إلى صاحبه ثم زجج موضعها ( أسده)
ثم أتى بها البحر .
المقترض : " اللهم إنك تعلم أني تسلفت فلاناً ( اقترضته منه) ألف دينار فسألني
كفيلاً فقلت كفى بالله كفيلاً فرضي بك و سألني شهيداً فقلت كفى بالله شهيداً
فرضي بك و إني جهدتُ نفسي ( بذلت جهدي) أن أجد مركباً أبعث إليه الذي له فلم
أقدر و إني استودعتكها ( أي اجعلها في أمانتك ) فرمي بها في البحر !! حتى ولجت
فيه ثم انصرف و هو في ذلك يلتمس مركباً يخرج إلى بلده فخرج الرجل الذي كان
أسلفه ( أقرضه) ينظر : لعل مركباً قد جاء بماله فإذا بالخشبة التي فيها المال
!!! فأخذها لأهله حطباً !فلما نشرها وجد المال و الصحيفة !!! ثم قدم الذي كان
أسلفه ، فأتى بألف الدينار .
المقترض : و الله ما زلتُ جاهداً في طلب مركب لآتيك بمالك فما وجدت مركباً قبل
الذي أتيت فيه .
المقرض : هل كنت بعثت إلى بشيء ؟ .
المقترض :أخبرك أني لم أجد مركباً قبل الذي جئت فيه .
المقرض : فإن الله أدى عنك الذي بعثت في الخشبة ، فانصرف بألف الدينار راشداً .
و كم في هذه القصة من عبر و عظات و فوائد :
1- حسن التاقضي و حسن الوفاء .
2- بذل أقصى ما في الوسع للوفاء بالدين .
أسلوب القدوة
القدوة في التربية هي من أنجع الوسائل المؤثرة في إعداد الناشئ خلقياً و تكوينه
نفسياً و اجتماعياً .. ذلك أن المربي هو المثل الأعلى في نظر الناش و الأسوة
الصالحة في عينه يلقده سلوكياً و يحاكيه خلقياً من حيث يشعر أو لا يشعر .. بل
تنطبع في نفسه و إحساسه صورته القولية و الفعلية و الحسية و المعنوية من حيث
يدري أو لا يدري !!.
و كان رسول الله صلى الله عليه و سلم بشخصه و شمائله و سلوكه و تعامله مع الناس
ترجمة عملية بشرية حية لحقائق القرآن و تعاليمه و آدابه و تشريعاته ، و لما فيه
من أسس تربوية إسلامية و أساليب تربوية قرآنية ( ).
و لذلك بعث الله الرسول ليكون للمسلمين على مر التاريخ القدوة الصالحة و
للبشرية في كل زمان و مكان السراج المنير و القمر الهادي ..
" لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة...) ]الأحزاب :21[.
و سئلت السيدة عائشة رضي الله عنها عن خلق رسول الله فقالت : " كان خلقه القرآن
" .
و لقد لخصت الجاهلية خلقه عندما قالت في مجمع كبير من الناس " ما جربنا عليك
كذباً قط "
أما القدوة التي أعطاها النبي – عليه السلام :
1- في العبادة :
· روى البخاري و مسلم عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه : كان رسول الله يقوم من
الليل حتى تتورم قدماه و لما قيل له : أليس قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك و
ما تأخر ؟ قال : أفلا أكون عبداً شكورا"؟ .
· تقول عائشة رضي الله عنها : كان رسول الله يدع العمل و هو يحب أن يعمل به .
خشية أن يعمل الناس به فيفرض عليهم .
· و يروي أنس بن ملك أن النبي واصل : أي صام مواصلاً الليل و النهار . و النهار
بالليل يومين أو ثلاثة , و كان ذلك في آخر رمضان , فواصل الناس معه فبلغه ذلك ,
فقال " لو مد لنا الشهر لواصلنا وصالاً يدع المتعمقون " أي المبالغون " تعمقهم
إني لست مثلكم ، إني أظل يطعمني ربي و يسقيني " أي يعنني و يقويني ".
2- قدوة الكرم : روى الحافظ أبو الشيخ عن أنش بن مالك رضي الله عنه قال : لم
يسأل رسول الله شيئاً قط على الإسلام إلا أعطاه و أن رجلاً أتاه فسأله ،
فأعطاه غنماً بين جبلين ، فرجع إلى قومه ،فقال : أسلموا فإن محمدا يعطي عطاء
من لا يخشى الفاقة.
3- قدوة الزهد :
· روى ابن جرير عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت :" ما شبع رسول الله من خبز
بُر(حنطة) ثلاثة أيام تباعاً منذ قدم المدينة حتى مضى سبيله ".
· يقول عبد الله بن مسعود : دخلت على رسول الله و قد قام على حصير ، و قد أثر
في جنبه الشريف فقلت : يارسول الله لو اتخذنا لك وطاء تجعله بينك و بين الحصير
يقيك منه ! فقال : " ما لي و للدنيا ، ما أنا و الدنيا إلا كراكب استظل تحت
شجرة ثم راح و تركها " .
4- قدوة التواضع :
كان يبدأ أصحابه بالسلام ، و ينصرف بكليته إلى محدثه سواء كان صغيراً أو كبيراً
، و كان أخر من يسحب يده إذا صافح ، و كان يذهب إلى السوق و يحمل بضاعته ، و
كان يرقع ثوبه و يخصف نعله و يخدم في مهنة أهله و يجلس على الأرض و يأكل مع
الخادم و يقضي حالة الضعيف و البائس ...
و كيف لا يكون كذلك و قد أنزل عليه الله سبحانه و تعالى " و اخفض جناحك
للمؤمنين " ]الشعراء : 215[.
5- قدوة في الحلم:
· روى الشيخان عن أنس رضي الله عنه قال : كنت مع رسول الله و عليه بُرد نجراني
غليظ الحاشية ، فأدركه أعرابي فجبذه بردائه جبذة شديدة فنظرت إلى صفحة عاتق
النبي و قد أثرت به حاشية البرد من شدة جبذته ثم قال : يا محمد مر لي من مال
الله الذي عندك فالتفت غليه فضحك ثم أمر له بعطاء .
· و موقفه ممن أسرفوا في إيذائه و أمعنوا في اضطهاده و أخرجوه من بلده و تآمروا
على قتله و قذفوه بكل بهتان من القول و الزور ... فما كان منه عليه الصلاة و
السلام إلا أن جمعهم و مناهم و أمنهم .. و قال لهم قولته الخالدة " ما ترون أني
فاعل بكم ؟ قالوا أخ كريم و ابن أخ كريم ، قال : اذهبوا فأنتم الطلقاء ".
و كيف لا يكون هذا حلمه و قد أنزل عليه الله :
" فاصفح الصفح الجميل " ]الحجر:85[
6- قدوة القوة الجسدية : فقد صرع ركانة سيد المصارعين ثلاث مرات و قال له بعد
الثالثة أشهد أنك رسول الله .
7- قدوة الشجاعة :
· فزع أهل المدينة ليلة فانطلق ناس قبل صوت فتلقاهم رسول الله و قد سبقهم إلى
ذلك الصوت و استبرأ الخبر على فرس عُريٍ لأبي طلحة ، و السيف في عنقه و هو يقول
لن تُراعُوا ..
· و يوم حنين وقف عليه السلام على بغلته و الناس يفرون عنه و هو يقول أن النبي
لا كذب أنا ابن عبد المطلب
فما رُئي أحد يومئذ كان أثبت منه و لا أقرب للعدو .
و الذين لهم علم بالحرب يعرفون أنه بهذين الموقفين تُمتحن الشجاعة و يُعرف بطل
الأبطال ، فليس أصعب على النفس من السبق إلى الخطر ، و لا من الصبر عليه ، و قد
استولى الخوف ، و غلب الرعب )( ).
8- قدوة الثبات على المبدأ :
لا ننسى موقفه عندما ظن عليه الصلاة و السلام أن عمه مُسلمُُه ، و خاذله ،و
متخل عن نصرته وقف وقفة اليقين و الثبات و قال " و الله يا عم ؟ لو وضعوا الشمس
في يميني و القمر في يساري على أن أترك هذا الأمر ما تركته حتى يظهره الله أو
أهلك دونه " .
9- قدوة حسن السياسة :
لما أعطى النبي بعد حنين قريشاً و قبائل العرب و لم يعط الأنصار شيئاً كثرت من
الانصار القالة (الكلام) حتى قال بعضهم : لقي و الله قومه ! فجمعهم النبي ثم
قال : يا معشر الانصار ما قالة بلغتني وجدة وجدتموها على أنفسكم ، ألم آتكم
ضلالاً فهداكم الله و عالة (فقراء) فأغناكم الله ،و أعداء فألف بين قلوبكم ؟
قالوا بل الله أمنُ و أفضل .. ثم قال ألا تجيبون يا معشر الأنصار ؟ فقالوا :
بماذا بجيب ؟ لله و رسول المن و الفضل ! .. قال أما و الله لو شئتم لقلتم
فلصدقتم و صدقتم : أتيتنا مكذبا فصدقناك و مخذولاً فنصرناك و طريداً فآويناك و
عائلاً فآسيناك أوجدتم يا معشر الأنصار من لعاعة (بقية) من الدنيا تألقت بها
قوماً ليسلموا ووكلتم إلى إسلامكم ؟ ألا ترضون أن يذهب الناس بالشاة و البعير و
ترجعوا برسول الله إلى رحالكم ؟!فوالذي نفس محمد بيده !لولا الهجرة لكنت أمرءاً
من الأنصار و لو سلك الأنصار شعباً لسلكت شعب الأنصار اللهم ارحم الأنصار و
أبناء الأنصار و أبناء أبناء الأنصار !فبكى القوم حتى اخضلوا لحاهم ( أي ابتلت
بالدموع ) و قالوا رضينا برسول الله قسماً و حظاً !.
و تفسر هذه الكلمات كيف جمع رسول الله الناس إلى مصلحة الإسلام العليا و غرض
نصرة الإسلام و عزه و غاية تأليف القلوب .
و هل يستطيع أحد أن يحصي فضائل الرسول و مزاياه بعد أن وصفه ربه بهذا الوصف
الرائع :" و إنك لعلى خلق عظيم "
و لقد تأسى أصحاب النبي محمد عليه السلام بنبيهم لأنهم وجدوا فيه المثل الأعلى
في العبادة و الأخلاق و حسن القدوة و الملاطفة و المعاملة .. فأصبحوا هم مثلاً
و أنموذجاً للتأسي بأفعالهم الحميدة و أخلاقهم الكريمة ..: و حيث قال الصحابي
الجليل عبد الله بن مسعود " رضي الله عنه " من كان متأسياً فليتأس بأصحاب رسول
الله فإنهم كانوا أبر هذه الأمة قلوباً و أعمقها علماً و أقلها تكلفاً ، و
أقومها هدياً و أحسنها حالاً .. اختارهم الله لصحبة نبيه و إقامة دينه ،
فاعرفوا لهم فضلهم ، و اتبعوهم في آثارهم ، فإنهم كانوا على الهدى المستقيم " .
و مازال شباب الإسلام في كل عصر يستقوم من معين فضائلهم و يستضيئون بنور
مكارمهم ، و ينهجون في التربية نهجهم و يسيرون في بناء المجد سيرهم ،لكونهم خير
القرون هدياً ...
أسلوب الحوار و الاستجواب ( )
و ذلك بطرح الأسئلة على أصحابه ، ليثير انتباههم و يحرك ذكاءهم و يقدح فطنتهم و
يسقيهم المواعظ المؤثرة في قالب الإقناع و المحاجاة .
أمثلة:
1- روى الإمام أحمد في مسنده عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال
: سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : أتدرون من المسلم ؟ قالوا الله و
رسوله اعلم . قال : المسلم من سلم المسلمون من لسانه و يده . قال : أتدرون من
المؤمن ؟ قالوا الله و رسوله أعلم . قال : المؤمن من أمنه المؤمنون على أنفسهم
و أمواله ثم ذكر المهاجر فقال : و المهاجر من هجر السوء فاجتنبه .
2- و روى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله :"
أرأيتم لو أن نهراً بباب أحدكم يغتسل منه كل يوم خمس مرات هل يبقي من درنه شيء
؟ قالوا لا يبقي من درنه شيء . قال : ذلك مثل الصلوات الخمس يمحو الله بهن
الخطايا ".
3- و روى البخاري و مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى
الله عليه و سلم : أتدرون من المفلس ؟ قالوا المفلس فينا من لا درهم له و لا
متاع . قال المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة و صيام وزكاة و يأتي و قد
شتم هذا و أكل مال هذا و سفك دم هذا و ضرب هذا فيعطى هذا من حسناته و هذا
حسناته ، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضي ما عليه أخذ من خطاياهم فطرحت عليه ثم
طرح في النار ".
4- أخرج البخاري عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : قال رسول الله – صلى الله
عليه و سلم – أخبروني بشجرة مثلها مثل المسلم تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها ، و
لا تحتُ ورقها ، فوقع في نفسي : النخلةُ ، فكرهت أن أتكلم و تم أبو بكر و عمر
فلما لم يتكلما قال النبي عليه السلام : هي النخلة " فلما خرجت مع أبي قُلتُ :
يا أبتاهُ ، وقع في نفسي أنها النخلة " قال : ما منعك أن تقولها ؟ لو كنت قلتها
كن أحب إلي من كذا و كذا قال : ما منعني إلا أني لم أرك و لا أبا بكر تكلمتما
فكرهتُ .
هكذا يكون أدب الصغار مع الكبار و هكذا يكون تشجيع الكبار للصغار ، و نجد أيضاً
حرص سيدنا عمر بن الخطاب على أن يصطحب معه ابنه عبد الله بن عمر إلى حضور مجلس
الرسول و يشجعه على المشاركة في الحديث إن كان لديه علم بتلك الأمور المبحوثة
حتى لو كان أصغر من يحضر تلك المجالس ، و حرصه على تنمية الموهبة عند ولده ،
رضي الله عنهما .
أسلوب ضرب الأمثال
معنى المثل :
" المثلُ بفتتحتين ، و المِثل بالكسر ، و المثيِل كالشبه و الشبه و الشبيه
وزناً و معنى في الجملة ، و هو من( مثُل الشيء مثولاً ) إذا انتصب بارزاً فهو
ماثل ، و مثلُ الشيء بالتحريك صفته التي توضحه و تكشف عن حقيقته ، أو ما يراد
بيانه من نعته و أحواله و قد يكون تمثيل الشيء أي وصفه و الكشف عن حقيقته عن
طريق المجاز أو الحقيقة بتشبيهه ، و أبلغه تمثيل المعاني المعقولة بالصورة
الحسية ، و عكسه و منه الأمثال المضروبة "( ).
"و البلاغة تقضي بأن تضرب الأمثال لما يراد تحقيره و التنفير عنه ، بحال
الأشياء التي جرى العرف بتحقيرها و اعتادت النفوس النفور منها " .
1- مثال من القرآن : ( مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها ) (الجمعة : 5)
أي كلفوا العمل بها و لم يعملوا بما فيها ( كثل الحمار يحمل أسفاراً بئس مثل
القوم الذين كذبوا بآيات الله و الله لا يهدي القوم الظالمين ) (الجمعة : 5) و
اختيار الحمار لتشبيه من يقرأ كتاب الله و لا يعمل به يثير انفعال الاشمئزاز من
هؤلاء و الشعور بتفاهتهم و ضياعى عقولهم .
و في الوقت ذاته يلاحظ أن إثارة انفعالات التقزز و الكره و الاحتقار لمعاني
الشرك و الكفر و لضياع التفكير السليم عند المشركين أو الضالين ، يقابله إثارة
انفعال الارتياح لمعاني الإيمان لدى المؤمن و الاعتزاز بالولاء لله لمجرد شعور
المؤمن بالخلاص مما وقع فيه هؤلاء و الترفع عن أحوالهم بما هداه الله إليه .
2- مثال من السنة النبوية :
مر رسول الله بالسوق وراى تهتفت الناس على مغانم الدنيا و مصالحها و مرابحها ،
فأراد أن يبين لهم هواها كما ثبت في حديث جابر رضي الله عنه " أن رسول الله مر
على بالسوق و الناس كنفتيه – أي على جانبيه – فمر بجدي أسك صغير الأذن ميت
فتناوله فأخذ بإذنه ثم قال :" أيكم يحب أن يكون له هذا بدرهم ؟ " فقالوا ما نحب
أنه لنا بشيء و ما نصنع به ؟ ثم قال " أتحبون أنه لكم " ؟ أي بدون عوض قالوا :
و الله لو كان حياً كان عيبه أنه أسكُ فكيف و هو ميت ؟" فقال " فوالله للدنيا
أهون على الله من هذا عليكم " ( )
و هكذا شبه رسول الله الدنيا عند الله بقيمة هذا الجدي الميت عند الصحابة الذين
كانوا معه
رعاية الناشئ الموهوب
يقول الإمام ابن القيم " و مما ينبغي أن يعتمد حال الصبي ، و ما هو مستعد له من
الأعمال ، و مهيأ له منها فيعلم أنه مخلوق له ، فلا يحمله على غيره ما كان
مأذوناً فيه شرعاً ، فإنه إن حمل على غير ما هو مستعد له لم يفلح فيه ، و فاته
ما هو مهيأ له فإذا رآه حسن الفهم و الإدراك ، جيد الحفظ مراعياً فهذه من
علامات قبوله و تهيؤه للعلم لينقشه في لوح قلبه ما دام خالياً ، فإنه يتمكن فيه
و يستقر و يزكو معه . و إن رآه بخلاف ذلك من كل وجه و هو مستعد للفروسية (
الحياة العسكرية ) و أسبابها من الركوب و الرمي و اللعب بالرمح و إنه لإنفاذ له
في العلم و لم يخلق له ، مكنه من أسباب الفروسية و التمرين عليها فإنه أنفع لها
و للمسلمين و إن رآه بخلاف ذلك ، و أنه لم يخلق لذلك ، ورأى عينه مفتحة إلى
صنعة من الصنائع مستعداً لها قابلاً لها و هي صناعة مباحة نافعة للناس فليمكنه
منها "( ).
سنقف أمام حديث نبوي واحد لإمام المربين محمد عليه السلام
نفقه منه أصول التربية الخالدة للناشئ( ).
( عن ثابت عن أنس رضي الله عنه قال : أتى على رسول الله و أنا ألعب مع الغلمان
فسلم علينا ، فبعثني رسول الله في حاجته ، فأبطأت على أمي ، فلما جئت قالت : ما
حبسك ؟ فقلت : بعثني رسول الله في حاجة . قالت : ما حاجته ؟ قلت إنها سر ، قالت
: لا تخبرن بسر رسول الله أحداً قال أنس : و الله لو حدثت به أحداً لحدثتك به
يا ثابت ) مسلم و أخرج بعضه البخاري مختصراً
1- أنس بن مالك يدرج في العاشرة من عمره مهمته الأساسية خدمة رسول الله ، و
الخادم عليه أن يكون ليل نهار بين يدي سيده و احتاج الرسول حاجة ضرورية ملحة و
لم يجد خادمه بين يديه ، هل بعث وراءه من يجلبه عنوة لينزل به عقوبته كما يفعل
المربي عند خطأ تلميذه أبداً بل خرج هو وراءه يبحث عنه . فلا يجد المعلم أو
المعلمة غضاضة أن يبحث عن تلميذه إن كان له به حاجة ، و هذا لا ينقص من شأنه و
التربية الحديثة تقوم على الصداقة بين المربي و الناشئ.
2- (أتى علي رسول الله وأنا ألعب مع الغلمان)،فلقد ترك أنس مهمته الرئيسية وخرج
يلعب مع الغلمان,لا بد له إذن من عقوبة حسب ما هو راسخ في أذهاننا,وضع اللعب في
وقت العمل والجد.و لنكن واقعيين .كيف يفعل المعلم/المعلمة يوم يرى التلميذ
يعبث بحقيبته أو يكلم رفيقه أثناء الدرس أنه يستاشيط غضباً و يعتبر ذلك إهانة
له و ينزل العقوبة القاسية و يرى أن التلميذ لا يحترم الدرس و لا المعلم و لا
العلم .
هذا مفهوم خاطئ عرفنا خطأه من رسول الله فاهتمامات الناشئ هي الأولى بالرعاية
لا اهتمامات المربي و مهمة المعلم هبي القدرة على تصريف الطاقات و إثارة
الاهتمامات بالإضافة إلى ناحية مهمة و هي حاجة الناشئ الملحة إلى اللعب و لا بد
أن تلبي حاجنه و من أجل هذا لم نجد رسول الله يغضب أو يزمجر أو يتوعد و حاشاه
عليه الصلاة و السلام فلقد روى أنس رضي الله عنه في حديث آخر أن الرسول لم
يضرب خادماً و لا إمراة قط و يقول أنس :
خدمت رسول الله عشر سنين فما قال لي أف قط و ما قال لي لشيء فعلته لم فعلته و
ما قال لي لشيء تركته لم تركته .
3- ( فسلم علينا) يا لله .. سلم على الأطفال اللاهين العابثين و لم يتفرق
الأطفال عند رؤيته ذعراً منه . فهم يشعرون أن صديقاً حبيباً لهم أتى لمكان
لعبهم فسلم عليهم فردوا عليه السلام إنها إنما شخصية الناشئ و مواهبه و كم يشعر
الناشئ بشخصيته و قيمته يوم يرى رسول الله يمر عليه و هو يلعب فيلقي عليه
السلام . هل خطر بذهن المربي اليوم أن يلقي السلام على تلاميذه حتى و هم يلعبون
؟
4- ( فبعثني في حاجته..) و ضن علينا أنس أن يخبرنا بهذه الحاجة ، فلا شك أنه
ساره بها من بين زملائه و لو قالها له علناً لعرفها كل رفاقه لقد اختاره من بين
رفاقه لمهمة و تظهر لأعيننا الآن فكرة الفروق الفردية و مراعاتها فكل طفل له
طاقاته و إمكاناته ..
لقد راعى رسول الله شخصيات الأطفال جميعاً يوم ألقى عليهم السلام و هم يلعبون
ثم راعى الفروق الفردية بطبيعة ظروفهم فأنس يعمل عنده فساره رسول الله بحاجته و
بعثه بها .
5- و كم يشعر أنس بثقة لا حد لها ، و اعتزاز لا حد له يوم رضي رسول الله أن
يساره و يبعثه بحاجته إنه يحس أنه ملك الدنيا بأسرها . و كل ما تحلم التربية
الحديثة اليوم هو النمو الصحيح لشخصية الناشئ و إمكاناته و لقد كان لهذا السلوك
النبوي أعظم الأثر في نمو شخصية الناشئ .
6- (فأبطأتُ على أمي ..) و هذا يعطينا جانباً من الاهتمام الشخصي لدى أنس بحاجة
رسول الله و رغم أنه يعلم أن أمه سوف تحاسبه على تأخره و لكنه تناسى ذلك أمام
الاهتمام الكبير الذي استثير لديه و أمام رغبته الملحة أن يلبي حاجة رسول الله
مهما كلفه ذلك من ثمن و أهم ما تركز عليه التربية الحديثة لتحقيق العملية
التعليمية السليمة هو إثارة التشويق و الاهتمام ليتلقى الطفل العلم من ذاته لا
من إرادة خارة عنه أو مفروضة عليه .
7- ( فلما جئت قالت : ما حبسك)؟
8- و هنا يبرز دور البيت في التربية و البيت مؤول أن يهتم بتصرفات أولاده و أن
يتعرف على سلوكهم فلا غرابة أن تسأل المربية العظيمة و المسلمة الخالدة أم
سُليم ابنها عن مكان و أسباب احتباسه و هي تعلم أن على عاتقها مسئولية ضخمة في
دراسة تصرفات ابنها و سلوكه و هذا ما تدعو إليه التربية الحديثة من الاهتمام
بسلوك الأفراد و التعرف على نفسياتهم .
9- ( قلت : كنت في حاجة رسول الله ) . فهي الشخصية النامية السليمة التي اعتدت
بوجودها ووثقت باستقلالها حتى عن أمها . كنت في حاجة رسول الله فهو صاحب
مسؤولية وصاحب ثقة و صاحب قضية و لو كان غلام يلعب مع الغلمان قبل لحظات أما
الآن فهو يحمل أعباء خاصة به و هي في حاجة رسول الله التي لباها .
10- (قالت : ما حاجته ؟ قلت : إنها سر) .
يا لله .. طفل في العاشرة من عمره تسأله أمه التي لا يمكن أن يختبيء عليها سر و
التي تعرف كل تحركات ابنها . و تحصي كل شوارده و مع هذا يقف أنس الغلام بشخصيته
المتميزة و كيانه المستقل و ثقته الكبيرة ليقول لأمه إنها سر .
إنها الثمرة الثالثة من ثمرات التربية النبوية فالثمرة الأولى : إشاعة الثقة في
نفسية الناشيء يوم ساره من بين زملائه ، و الثمرة الثانية : إثارة الاهتمام يوم
أبطأ على أمه لاهتمامه بحاجة رسول الله و الثمرة الثالثة : النمو السليم و
المتكامل يوم احتفظ بسر رسول الله حتى عن أمه أقرب المقربين إليه .
11- (قالت : لا تخبرن بسر رسول الله أحداً ..) : يا لروعة التربية .. البيت
المسلم بجانب التربية النبوية ، إن الأم أحياناً لتضرب ابنتها و تؤذيها يوم
تكتم شيئاً عنها و يدفعها دافع الفضول إلى إدراجها في المز الق لمحاولة استخراج
أسرارها بل و تعتبر ذلك إهانة لها يوم لا تسارها بكل شيء بينما نجد المربية
العظيمة أم سليم و منذ عرفت من ابنها الصغير أن حاجة رسول الله سر و أنها خاصة
به و أن هذا الطفل محط أسرار نبيه و محل ثقته – تابعن مهمة التربية النبوية و
هيأت لها المجال لتأخذ مداها الصحيح فلم تضرب و لم تثر و لم تستدرج بل شجعت على
هذا النمو و على هذه الثقة و على هذه الثقة و على هذا التكوين الرائع للشخصية
فقالت لا بنها الحبيب لا تخبرن بسر رسول الله أحدا ، و كم وجدنا كل طرائق
التربية الحديثة تفشل مع التلاميذ لأنت البيت لا يتعاون مع المدرسة.
12- يقول أنس ( و الله لو حدثت به أحداً لحدثتك به يا ثابت ) أي سر رسول الله .
إننا الآن لسنا مع طفل بل مع شيخ كبير يقص على أحد تلاميذه الشباب ذكرى من
ذكريات طفولته إننا مع أنس الصحابي الجليل محدث أهل البصرة و قد تحلق حوله
تلامذته الشباب و على رأسهم ثابت و حدثهم عن قصة من قصص طفولته التي أثرت في
نفسه حتى هذا السن فرواها بتفاصيلها و جزئياتها لشدة تأثره بها .
نحن أمام نموذج عملي من بين آلاف و عشرات الألوف من النماذج رأينا فيه الجانب
النظري في التربية و الجانب العملي و ثمرة التربية التي حفظت سر رسول الله مائة
عام ثم استمر إلى أن يرث الله الأرض و من عليها لا يعلمه إلا رب العالمين ..
و نجد أن هذا النموذج قد تناول المبادئ الأربعة للتربية الحديثة :
1- التعليم الذاتي
2- العلم للخبرة العلمية
3- الفروق الفردية
4- تنمية المواهب .
كم نحن بحاجة إلى فهم تاريخنا و تراثنا و ديننا و إسلامنا ......
و هذا نموذج آخر لتنمية المواهب في عصر عمر بن الخطاب
روى البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما – و كان دون الحلم – أنه قال : كان عمر
بن الخطاب رض الله عنه يدخلني – أي في أيام خلافته – مع أشياخ من بدر ( أي في
المشورة ) فكأن بعضهم وجد في نفسه ( أي غضب ، فقال لم يدخل هذا معنا و لنا
أبناء مثله
فقال عمر : أنه من حيث قد علمتم ( أي ممن خصه عليه الصلاة و السلام بالدعاء له
: " اللهم فقهه في الدين و علمه التأويل ) .
فدعاني ذات مرة فأدخلني معهم فما رأيت أنه دعاني يومئذ إلا ليريهم .
قال ما تقولون في قوله تعالى : " إذا جاء نصر الله و الفتح .."؟
فقال بعضهم : أمرنا أن نحمد الله و نستغفره إذا نصرنا و فتح علينا و سكت بعضهم
فلم يقل شيئاً.
فقال لي : أكذلك تقول : يا ابن عباس ؟
فقلت : لا .
قال : فما تقول ؟
قلت : هو من أجل رسول الله عليه الصلاة والسلام أعلمه له قال : " إذا جاء نصر
الله و الفتح .." و ذلك علامة أجلك " فسبح بحمد ربك و استغفره أنه كان توابا ".
فقال عمر رضي الله عنه : ما أعلم منها إلا ما تقول .
فانظر رحمك الله اهتمام خليفة المسلمين ( الحاكم ) بأمر هذا الغلام الحدث و
تنمية قدراته و مهاراته ....
من أقوال المعلمين المسلمين السابقين
الأوائل في التربية
1- قوله عليه السلام : " أيما مؤدب ولي ثلاثة من هذه الأمة فلم يعلمهم بالسوية
فقيرهم مع غنيهم ، و غنيهم مع فقيرهم حشر يوم القيامة مع الخائتين " .
2- قول ابن مسعود رضي الله عنه " ثلاث لابد للناس منهم ، لابد للناس من أمير
يحكم بينهم و لولا ذلك لأكل بعضهم بعضاً : و لا بد للناس من شراء المصاحف و
لولا ذلك لقل كتاب الله ، و لابد للناس من معلم يعلم أولادهم و يأخذ على ذلك
أجراً و لولا ذلك لكان الناس أميين " .
3- " إذا قوطع المعلم على الأجرة فلم يعدل بينهم ( يعني الصبيان – كتب من
الظلمة ".
"الحسن رضي الله عنه "
4- " لا ينبغي للمعلم أن يرسل الصبيان في قضاء حوائجه ، و لا سؤال الهدية منهم
و لا يحل يحل للمعلم أن يكلف الصبيان فوق أجرته شيئاً من هدية و غير ذلك ، و لا
يسألهم في ذلك فإن أهدوا عليه على ذلك فهو حرام .."
"الفقيه المعلم ابن سحنون "
5- " ينبغي أن يكون للصبي مؤدب عاقل ذو دين بصير برياضة الأخلاق ، حاذق بتخريج
الصبيان ، و قور رزين بعيد عن الخفة و السخف ، قليل التبذل و الاسترسال بحضرة
الصبي ، غير كز و لا جامد ، حلو لبيب ذو مروءة و نظافة و نزاهة ".
" الشيخ الرئيس ابن سينا "
6- " ... فالوالد سبب الوجود و الحاضر و الحياة الفانية ، و المعلم سبب الحياة
الباقية ، و لولا المعلم لانساق ما حصل من جهة الأب إلى الهلاك الدائم "
"المعلم الفيلسوف أبو حامد الغزالي "
أهم أسس التربية الأسلامية القويمة نقدمها للوالدين في صورة نصائح ثمينة
أولا: تفاهم مع زوجتك على منهج التربية وأسلوبها، واحذر من الاختلاف والتناقض :
لا شك أن التفاهم بين الزوجين أساس التربية المثلى وقوامها: فلا يمكن أن تنهض
تربية قويمة للأولاد، ما لم تقم على أساس راسخ من التفاهم بين الزوجين، على
منهج التربية الإسلامية القويمة، وأسسها ومبادئها، وأهدافها وغايتها، وأساليبها
ووسائلها، ونحن نعلم أن التفاهم لا يمكن أن يكون على كل شيء، وإنما يكون على
الخطوط العريضة، والمبادئ العامة، ولا بد من مساحة بعد ذلك لحرية التصرف من قبل
كل الوالدين بما لا يخرج عن تلك الخطوط، وبما لا يتعارض مع توجيه الطرف الآخر
ورأيه، بل واحترام رأيه وتقديره أمام الأولاد.
ولا يخفى أن التفاهم بين الزوجين إنما يقودنا إلى التركيز على حسن الاختيار قبل
الزواج من قبل كل من الزوجين للطرف الآخر.. فإذا لم يتم حسن الاختيار أولا، فلا
بد من المعاناة والاجتهاد لتوحيد التصورات والمفاهيم، وإقناع الطرف الآخر
بالتوجه الإسلامي الواعي، لتبدأ خطوات التربية على منهج واضح، وأسس بينة سليمة.
ثانيا: وضح أهدافك في الحياة في نفسك أولا، واحرص على تطابق سلوكك مع أهدافك
فإن أهدافك العليا تؤثر في أولادك بصورة أو بأخرى.. وإن أهداف الإنسان وتوجهاته
تحدد مساره في الحياة، وترسم سلوكه، ويؤكد لنا ذلك أن الله تعالى عندما عالج في
القرآن الكريم أسباب هزيمة المسلمين في غزوة أحد، نص على هذه الحقيقة فقال
سبحانه: "منكم من يريد الدنيا، ومنكم من يريد الآخرة.." (سورة آل عمران، الآية:
152).
فبين الله سبحانه أن إرادة الدنيا، والتوجه إليها ينعكس على سلوك الإنسان
بالخلل بالهدف الأعلى من الحياة الذي حدده الله لعباده.. وهو بلوغ مرضاة الله
تعالى.. وهذا الهدف يتفرع إلى أهداف أدنى منه وأصغر.. وهذه الأهداف لا يربطها
بالإسلام إلا أن تكون مشتقة من الهدف الأكبر، معززة له..
فعندما تكون مشتقة من قيم الإسلام ومبادئه، فإنها تترجم ولا بد في حياة
الإنسان، وفي سلوكه العملي، كما تتجلى في أخلاقه ومواقفه..
وعندما تغيب هذه الأهداف العليا السامية عن تصورات الإنسان وسلوكه فإنه تضطرب
شخصيته ولا تستقر، ويتخبط في حياته، ولا يهنأ، ولا يدري أين يتوجه أو يسير،
وكذلك الإنسان عندما يرين على قلبه غشاء الأهواء والسيئات، ويتكثف فيه ركام
الشهوات والشبهات، وتستغرق حياته فيها، فيتوجه قلبه إلى الأهداف الصغيرة،
ويتعلق بها، فقد تكون أهدافه جمع الأموال، أو التطلع إلى كثرة النساء، أو الحرص
على الجاه بين الناس، أو المنصب، أو الرئاسة..
ومثل هذا الإنسان رجلا كان أو امرأة أنى له أن يغرس في نفس أولاده قيم الإسلام
وآدابه، أو أن يحملهم على سلوك سبيله، أو الالتزام بهديه.؟ إذ أن فاقد الشيء لا
يعطيه، وكل إناء لا ينضح إلا بما فيه.
ثالثا : تدرج في تربية الأبناء ورعايتهم وتكليفهم، واحذر من الإهمال والتسويف
اعلم أخي ولي الأمر أن التربية عملية تنشئة مستمرة، وأهم مقومات نجاحها
وإثمارها: أن تكون متدرجة متمهلة، لا تنطلق من ردود الأفعال، ولا تأخذها فورة
حماسة آنية، ثم يعقبها همود وتراخي، أو تترجح وتتذبذب بين الاهتمام البعيد عن
الواقع أو الإهمال والتسويف..
وإنما التدرج في التربية كما أنه أصل راسخ في التشريع الرباني، فهو أصل راسخ في
التربية والبناء والالتزام.
وإن من معاني الرب سبحانه: أنه يربي عباده بما يصلحهم، من السراء والضراء،
والشدة والرخاء، والمنع والعطاء، والابتلاء بالخير والشر، ويتدرج بهم في ذلك
كما تدرج بعباده رحمة بهم في مجال التشريع، ولم يكلفهم ما لا طاقة لهم به.
وإن من مقتضى هذه الحقيقة في تربية الناشئين ألا يحمل الناشئ المسؤولية الكبيرة
قبل إن ينجح في تحمل المسؤولية الأدنى، ويتدرج في ذلك بصورة طبيعية معقولة،
وألا يمنح العطاء الكبير قبل أن يختبر عقله وحكمته، وسيرته وعمله مع العطاء
اليسير، ويظهر حسن تصرفه فيه، وأن يتدرج معه المربي في كل شأن من شؤونه تدرجا
طبيعيا، يتلاءم مع نموه الجسمي والعقلي والنفسي، لا يزيد عن ذلك فيفسد نموه
واتجاهه، ولا ينقص عنه فيكبت طاقاته، ويقتل طموحه وإبداعه.
ويمكن أن يستدل لذلك بقول الله تعالى: "ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل
الله لكم قياما، وارزقوهم فيها واكسوهم، وقولوا لهم قولا معروفا، وابتلوا
اليتامى، حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم.."
(سورة النساء).
فالسفيه هو الذي لا يحسن التصرف بأمواله، لا يعطى له ماله الخاص، بل يحجز عنه
حتى يثبت رشده، وقد وصف الله تعالى أمواله: بأنها أموال الأمة، وإن من مسؤولية
الأمة أن ترعى أبناءها وتحسن توجيههم بما يعود عليهم بالخير والرشد.
كما أمر الله الأوصياء باختبار اليتامى الذين يكونون تحت رعايتهم أن يختبروا
رشدهم في التصرف بأموالهم، وذلك لا يكون إلا بالتدرج في التصرف بها، فإن ظهر
رشدهم تدفع إليهم أموالهم عندئذ، وإلا فإنها يجب أن تبقى تحت وصاية الأمة ممثلة
بمن ينصبه القاضي للقيام بهذه المهمة.
ويشبه ما نحن بصدده ما قاله الحكماء قديما: "طعام الكبار سم للصغار" فكما أن
اللحم طعام للكبار شهي، ولكنه قد يكون سما قاتلا للطفل الرضيع، الذي لا تتحمل
معدته أكثر من حليب أمه.
وأما الإهمال والتسويف في أمر التربية: فهو الداء الوبيل، والشر المستطير، الذي
ضيع الحقوق، وأفسد الحياة، وقد ابتلي به المسلمون على اختلاف فئاتهم: على مستوى
الأفراد في أنفسهم، وعلى مستوى علاقات الأفراد مع الآخرين والمسؤوليات المنوطة
بهم.
رابعاً : احرص على تربية أولادك منذ الطفولة الأولى
التربية منذ الطفولة الأولى: هي الأصل الذي يجب على المؤمن أن يوليه كل
اهتمامه، وإن التأمل في هدي النبي صلى الله عليه وسلم وسيرته ليعلمنا أن
التربية العملية للناشئ تبدأ منذ الطفولة الأولى، والأمثلة والنماذج ، والأحداث
والمواقف في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم كثيرة مستفيضة، في كل باب من أبواب
الخير، وفي كل جانب من جوانب الحياة.
ويخطئ كثير من الآباء والأمهات عندما يظنون أن التربية تبدأ عند سن الرشد ، أو
قريبا منه، أو في مرحلة الطفولة المتأخرة، بل أن مرحلة التربية تبدأ منذ
الطفولة الأولى.. والعلماء الربانيون المدققون يعلموننا أن التربية تبدأ قبل
ذلك بكثير:
تبدأ من حسن الاختيار بين الزوجين.
ثم من عقد النية الصالحة على طلب الولد الصالح، عند إتيان الرجل أهله، وسؤال
الله تعالى ذلك، وصدق اللجوء إليه، والإلحاح في الطلب، وتحديث المرأة نفسها
بذلك في حملها..
ثم الحرص على طاعة الله تعالى وذكره، والتحري في طلب الحلال، والبعد عن لقمة
الحرام والشبهات.
خامسا: كن قدوة حسنة لأولادك في قولك وفعلك وسلوكك وأخلاقك
ينبغي أن نعلم أن حب الكمال مغروس في كل نفس، وعلينا أن ننميه في نفوس أبنائنا
بتوجيهنا الدائب، وسلوكنا العملي، وذلك بأن نكون قدوة لهم، وعلينا أن نرفع
هممهم وعزائمهم للجد والنشاط، ونحببهم به، ليرتقوا درجاته يوما بعد يوم،
ويسيروا في مدارجه ولا يتوقفوا، ما دام فيهم عرق ينبض، ونفس يصعد ويهبط.. كما
أن علينا أن نحبب إليهم معالي الأمور، ونكرههم بسفسافها، ليكونوا من أهل الجد
والاجتهاد، والعزم والثبات، فعلو الهمة من الإيمان، ولن يشبع مؤمن من خير حتى
يكون منتهاه الجنة.
وإن أحوج ما يحتاجه الناشئ: أن يرى القدوة الحسنة فيمن حوله، في والديه على وجه
الخصوص، وإخوته وأخواته ممن هم أكبر منه سنا، ففي فطرة الإنسان نزعة التقليد
والمحاكاة للآخرين، وهذه النزعة لا تميز مرحلة الطفولة بخاصة بين التقليد في
الخير، أو التقليد في الشر، بل إننا نجد أن الكبار لا يميزون أيضا عندما يقعون
تحت تأثير الإنبهار والإعجاب بالآخرين، فيصبح التقليد أعمى، والاتباع بغير وعي
ولا تمييز.. فمن ثم فإن خير ما يقدم للناشئ القدوة الحسنة، في الأقوال
والأفعال، والأخلاق والسلوك.
وهذه القدوة الحسنة هي خير ما يدعم المبدأ والفكرة التي نريد بثها في نفس
الناشئ، وتربيته عليها.
فإذا أردنا أن نغرس الصدق، فإن علينا أن نكون أولا صادقين.
وإذا أردنا أن نغرس الأمانة في نفوس أبنائنا، فعلينا أن نكون أمناء في أنفسنا
وسلوكنا.
وإذا أردنا أن نغرس في نفوس أبنائنا حسن الخلق، فعلينا أن نري أبناءنا في
كلامنا ومواقفنا، وغضبنا ورضانا: حسن الخلق، وضبط اللسان، وعفة القول، والبعد
عن البذاءة أو الفحش.
إن كثير من الأبناء يرون التناقض البين بين سلوك آبائهم وأمهاتهم وبين ما
يأمرونهم به، ويحثونهم عليه.
ويخطئ كثير من الآباء والأمهات عندما يظنون أن أبنائهم لا ينتبهون لسلوكهم، ولا
يلاحظون تصرفاتهم، ولا يحاكمون أفعالهم ولا يقومونها.
أن الأبناء يزنون آبائهم وأمهاتهم ومربيهم بميزان فطري دقيق، ويقيمون لهم في
أنفسهم التقدير والاحترام على حسب رجحانهم في ذلك الميزان، أو خسرانهم.
أيها الآباء والأمهات.. لنكن صرحاء مع أنفسنا، إننا قبل أن نربي نحتاج أن
نتربى، وقبل أن نتطلب المثالية من أولادنا، ونكلفهم ما نريد من كمال، ينبغي أن
نكون قدوة حسنة لهم، ونموذجا صالحا.. نبدأ بأنفسنا، ونقوم اعوجاجنا، ثم نأمر
بما التزمنا به، فلن نرى بعد ذلك من يتلكأ عن طاعتنا، أو يعاند في الإستجابة
لنا.
سادسا: اقترب من أولادك، وادخل إلى تفكيرهم، وتفهم جيدا اهتماماتهم
إن كثيرا من الآباء والأمهات بعيدون عن عالم الأطفال غاية البعد، لقد ودعوا
حياة الطفولة، وعلى الرغم من أنهم يحتفظون منها بذكريات جملية، يذكرونها في كل
مناسبة، ويعذرون أنفسهم فيما كانوا عليه من اهتمامات وتوجهات، ولكنهم يتنكرون
لطفولة أبنائهم، ولا يحاولون أن يتفهموا اهتماماتهم، بل يستقر في قرارة شعورهم
موقف ردة الفعل من كل اهتمامات أبنائهم وتوجهاتهم.
ومن هذه النقطة تبدأ الفجوة بين كثير من الآباء والأمهات وبين أولادهم، وهذه
الفجوة لها مظاهر كثيرة، فهي في البدء تحول نفسيا بين الوالدين وبين توجيه
أبنائهم، ثم تصد الولد عن أن يستجيب لتوجيه والديه، أويتجاوب مع نصحهم وتقويهم،
ثم تحمل تلك افجوة بعض الأبناء، ولو كانوا في سن مبكرة على التمرد على والديهم،
فلا يستجبيون لهم فيما يطلبون منهم. كما يشعر الآباء أن أولادهم لا ينظرون
إليهم نظرة التقدير والاحترام اللائقة بهم على حسب مكانتهم الفطرية
والاجتماعية، وفهمهم للحياة، وخبرتهم بها.
أخيرا ينحصر أثر الآباء في حياة أولادهم بتقديم متطلباتهم المادية دون القيام
بأي دور تربوي أو تأثير فكري أو سلوكي، وربما قدم الآباء لأولادهم في هذه
الحالة ماديا ما لا يرون في تقديمه جدوى أو أية فائدة.
لقد انحصر أثرهم في ذلك، ولم يعد لهم أي أثر آخر.!!
سبب ذلك كله أن الآباء والأمهات لم يقتربوا من أولادهم، ولم يتفهموا اهتمامتهم
جيدا، كما لم يتنزلوا إلى متطلبات السن التي هم فيها، فكانت ردة فعل الأولاد من
ضارة بهم بالذات، كما كانت ضارة بوالديهم.. وكانت النتائج ضارة على كل مستوى.!
وقد ورد في الأثر عن بعض السلف: "من كان له صبي فليتصابى له"، ومعنى ذلك أن
يتنزل إلى مستواه، فيداعبه ويلاعبه، ويتفهم اهتماماته ومتطلبات السن التي هو
فيها، ليستطيع رعايته وسياسته، والدخول إلى قلبه، والتأثير فيه على أحسن وجه.
سابعا : كن واقعيا ومنطقيا في أوامرك وتكليفاتك
إن على الوالدين أن يحددا بدقة: ماذا يريدان من أولادهم.؟ ثم أن يعرفا مدى
استعداد الولد في كل مرحلة من مراحل نشأته وتكوينه، ومدى قدرته الحقيقية على
الاستجابة لما يطلب منه.؟ فليس النجاح التربوي هو القدرة الفائقة على إلقاء سيل
من الأوامر والتكليفات، التي قد تكون في كثير من الأحيان لا تتلاءم مع قدرة
الناشئ، ولا تتناسب مع نموه واستعداده.
لنذكر أنفسنا أيها الآباء والأمهات والمربون عندما كنا صغارا في مثل سن
أطفالنا، وكيف كنا نضيق ذرعا عندما كنا نكلف فوق طاقتنا، وكيف نلوم في أنفسنا
الكبار على عدم تقديرهم لاستعدادنا، ونجد لأنفسنا الأعذار عندما لا نستجيب لما
يطلب منا..!
يحضرني دائما في مثل هذه المناسبة، عندما أرى تكليف بعض الناشئين ما ليس في
وسعهم الاستشهاد بقول الله تعالى:"كذلك كنتم من قبل، فمن الله عليكم فتبينوا"
(سورة النساء، الأية: 94).
إن علينا أن نعلم أن كل مرحلة يمر بها الناشئ لها متطلباتها واحتياجاتها، كما
أن للناشئ فيها قدرته التي لا يستطيع إن يتجاوزها، وليس من الحكمة ولا من
المنطق أن نكلفه ما لا يطيق، وقد أرشدنا النبي صلى الله عليه وسلم في أمر
الخدم، وهو قد يكونون رجالا أقوياء أشداء ألا نكلفهم ما لا يقدرون عليه جسميا،
فقال صلى الله عليه وسلم: ".. ولا تكلفوهم ما يغلبهم، وإن كلفتموهم فأعينوهم
عليه.." (جزء من حديث رواه البخاري )
وإذا كان أكثر الآباء والأمهات لا يكلفون أولادهم جسميا ما لا يقدرون عليه، لأن
الإرهاق الجسمي يظهر للعيان، وقد يؤدي إلى ضرر جسمي مادي، هم أرحم بأولادهم من
أن يقعوا فيه، فإن كثيرا من الآباء والأمهات يكلفون أولادهم ما لا يقدرون عليه،
ولا يتلاءم معهم نفسيا، ثم يلومونهم إذا لم يستجيبوا لهم، ويتهمونهم بالتمرد
عليهم، والخروج عن طاعتهم.
ثامنا : املأ فراغ أولادك بما ينفع وقدم لهم البديل النافع الهادف
الحديث عن فراغ الناشئين، وكيف يملأ يحتاج إلى رسالة مستقلة، وقد كتب في موضوعه
بعض المهتمين بأمر التربية، ولا يزال الحديث عنه موصولا، ويحتاج إلى المزيد.
وعندما يذكر الفراغ، وكيف يملأ.؟ تقفز إلى الأذهان صورة التلفاز والفيديو،
وألعاب الأتاري، وغير ذلك من وسائل التقنية الحديثة التي غزت البيوت، وتسللت
إلى العقول، واقتحمت غرف النوم، وأصبح يشكو من ويلاتها الكثيرون، ولكن أكثر
الشاكين يقفون متفرجين عاجزين..!
ولا يسعنا في هذه الرسالة الموجزة أن نحيط بهذا الأمر من جوانبه، وإنما نوضح
معالمه، ونضع الأسس الرئيسة لما ينبغي أن يكون عليه الآباء والأمهات في علاقتهم
بأولادهم في هذا الجانب، وطريقة تربيتهم لهم لاستغلال أوقاتهم، وأسلوب معالجتهم
لمشكلات فراغهم. ولا شك أن الفراغ مفسدة للإنسان كبيرا كان أو صغيرا وأي مفسدة،
وهو على الناشئ أضر وأخطر، لما أن الفراغ يعوده على حب اللهو والبطالة، وإنفاق
العمر فيما يضر ولا ينفع، ومن هنا فإن مما يتأكد على الوالدين أن يفكرا دائما
في فراغ أولادهم: كيف يملأ.؟ وإن يملكا في ذلك المبادرة الإيجابية، ولا ينتظرا
ما يقوم به ولدهم، ثم تكون مبادرتهم بعد ذلك إلى المنع والإنكار، وكان خيرا
لهما وله قبل أن يتعلق قلبه بما يضر ولا ينفع: أن يقدما له البديل المناسب،
ويرغباه به، وينبغي أن يكون في ذلك البديل ما يناسب سن الناشئ واهتمامه، وإن
يجذبه ويستهوي نفسه.
وينبغي أن يراعي الوالدين في البديل الذي يملأ فراغ الناشئ ما يلي:
- أن تعرف ميول الناشئ، ويحرص المربي على توجيهها وتعديلها بطريقة إقناعية،
تجعله يتبنى المواقف الصحية ويتحمس لها.
- أن يُعَّرف الناشئ والناشئة بالهوايات الفكرية والعملية النافعة، ويوجه إلى
الأخذ بما يرغب منها، ويشجع على ذلك، فإن الاكتشاف المبكر للهوايات الفكرية أو
العملية النافعة، والتوجيه إليها هو سبيل الإبداع في حياة المبدعين، وقد أثبتت
الدراسات التربوية المعاصرة: ألا علاقة بين الإبداع وعلو درجة الذكاء في
المبدعين، وإنما الدرجة العالية من الذكاء أمر ثانوي مكمل، والعلاقة الأكبر
لتوجهات النفس وميولها، وما تحمله من استعداد لذلك.
- ألا يكون البديل صارما، يجري على وتيرة واحدة، فينفر منه الناشئ، ويعاند
والديه في اختياره وإنما يلون له في أنواع ذلك ونماذجه.
- ينبغي أن يجمع البديل بين الترفيه المشروع، وبين الهدف التعليمي أو التربوي
الهادف، ولا يجوز أن يقتصر على اللعب الذي ينهى الشرع عنه، أو اللعب غير
الهادف.
- أن تعرف رغبة الناشئ، وتلبى ما أمكن، وتوجه برفق إلى الأفضل والأكمل، وتبين
له وجوه المنافع والمضار، فيما يهوى من الألعاب، وأسباب تحريم ما حرم منها أو
نهي عنه.
وينبغي أن يعود الناشئ على الاعتدال في اللعب، وأن يعطي لكل وقت حقه، فلا يشغله
الترفيه أو اللعب عن أي واجب مطلوب منه، وإلا يدفعه اللعب إلى تأخير الصلاة عن
أول وقتها.
تاسعا : كن صديقا لأولادك، واختر لهم الأصدقاء الذين تطمئن إلى دينهم وأخلاقهم
وسلوكهم
وهذه النصيحة مما تتصل بمشكلة الفراغ على نحو كبير، إذ إن الفراغ الأخطر في
حياة الإنسان هو: فراغ النفس، وهذا الفراغ لا تملؤه إلا صحبة الأقران في مثل
سنه، والعلاقات الاجتماعيه التي تلائم الناشئ وتملأ نفسه، وهي جزء من فطرته لا
يستطيع أن ينفك عنها، أو يتجاهلها ويمضي في حياته.
وعندما تختار الصحبة الصالحة للناشئ بعناية، فإنها قد تؤدي دورا تربويا يعجز
الوالدان عن أدائه، وهذا ظاهر ملموس، لما أن تأثير الأقران في بعضهم تأثير نفسي
غير مباشر، إنه يكون بالمخالطة والمعايشة، والملاطفة والمؤانسة، والتقارب
النفسي الذي يجعل الإنسان يتأثر بجليسه ومخالطه بغير قصد منه أو شعور، فيتمكن
الصاحب من الدخول إلى قلب صاحبه، والتأثير في ميوله واتجاهاته، بغير أمر ولا
نهي، ولا عناء ولا كلفة، ومن هنا جاء في المثل: "الصاحب ساحب"، وجاء في المثل
أيضا: "قل لي من تصاحب، أقل لك من أنت"، وجاء المثل النبوي الرائع الذي ضربه
النبي صلى الله عليه وسلم للجليس الصالح، وجليس السوء، ففي الحديث عن أبي موسى
الأشعري رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إنما مثل الجليس
الصالح وجليس السوء، كحامل المسك ونافخ الكير، فحامل المسك: إما أن يحذيك، أو
تبتاع منه، أو تجد منه ريحا طيبا، ونافخ الكير: إما أن يحرق ثيابك، وإما أن تجد
منه ريحا منتنة" (رواه البخاري ومسلم )
وقد نوه الله تعالى بأثر الصحبة الصالحة في سعادة الإنسان في الآخرة، فقال
سبحانه:
"الأخلاء بعضهم يومئذ لبعض عدو إلا المتقين، يا عباد لا خوف عليكم اليوم ، ولا
أنتم تحزنون" (سورة الزخرف، الآية: 67و68).
كما بين سبحانه عاقبة صحبة الظالمين، والانسياق وراء مجالستهم وموادتهم،
والاستجابة إلى سلوكهم، وكيف أنها تجر على الإنسان الشقاء في الآخرة وسوء
المصير، فقال تعالى: "ويوم يعض الظالم على يديه، يقول: يا ليتني اتخذت مع
الرسول سبيلا ، يا ويلتا، ليتني لم أتخذ فلانا خليلا، لقد أضلني عن الذكر بعد
إذ جاءني وكان الشيطان للإنسان خذولا" (سورة الفرقان، الآيات 27-29).
فليحرص الآباء والأمهات على أن يغرسوا في نفوس أولادهم منذ الصغر والطفولة ألا
يصاحبوا إلا أرفع الأولاد خلقا، وأحسنهم تربية وسلوكا، وأن يأنفوا من صحبة
الأشرار والفاسدين، أو مجالستهم، فإن ذلك حصانة لهم في مستقبل أيامهم.
وعندما يشب الأبناء ويصلون مرحلة النضج والوعي فعلى الآباء والأمهات أن يكونوا
أصدقاء لأولادهم، فيعاملوهم بتقدير واحترام، وأن يستمعوا لآرائهم، ويشجعوهم على
إبداء وجهات نظرهم، ويناقشوهم فيها بموضوعية وتجرد، ولا ينبغي أن يعاملوهم، وهو
شباب متفتحون على الحياة، متوقدو الطموح والرغبات وكأنهم أطفال صغار لا رأي
لهم، ولا وزن لأفكارهم.. إنها المشكلة التي تقطع الروابط بين الآباء والأبناء،
وتهدم صلات التقدير والاحترام.
وعندما يختار الأولاد أصدقائهم ينبغي على الوالدين أن يكون لهم رأي في ذلك،
فليتعرفوا عليهم، وليعرفوا مستوى تربيتهم، ومدى التزامهم واستقامة سلوكهم،
ليطمئنوا على سلوك أبنائهم وسلامة اتجاههم.
ومما يتصل بهذه الوصية، وهو على درجة كبيرة من الأهمية أن على الوالدين أن
يحرصا على صحبة أولادهم معهم إلى مجالس أهل العلم والخير والفضل، وزيارتهم في
بيوتهم بين الحين والآخر، وأن يعلموهم الأدب معهم، والتواضع لهم، والحرص على
خدمتهم، والتماس دعواتهم الصالحة، فلذلك بركة عظيمة على الناشئ تظهر آثارها في
خلقه وسلوكه ومستقبل أيامه.. فهذا موسى عليه السلام رسول من أولي العزم يحرص
على صحبة الخضر عليه السلام ليتعلم منه، وينتفع بصحبته كما أخبرنا الله تعالى
في كتابه.
عاشرا: أكثر من الدعاء لأولادك بالخير والهداية، فإن الدعاء يذلل الصعاب
لقد تركز الحديث في الفقرات السابقة على الأسباب الظاهرة ، التي ينبغي على
الوالدين أن يأخذوا بها في تربية أولادهم ، ولكن لا يخفى على كل مؤمن أن هذه
الأسباب لا تكفي وحدها، ولا ينبغي أن نحصر أنفسنا بها لتحقيق ما نصبوا إليه من
آمال وأهداف، فلا بد لنا أن نعلم: أن الهداية بيد الله تعالى أولا وآخرا، وأنها
منحة إلهية لا تدرك حكمتها، ولا تدخل تحت شيء من جهد العبد وحيلته، وبخاصة
بعدما علمنا خبر حرص النبي صلى الله عليه وسلم على هداية عمه أبي طالب، وبذله
كل ما يستطيع في دعوته والتلطف معه، ثم لم يشأ الله له الهداية، ومات على
الكفر، ونزل فيه قول الله تعالى:
"إنك لا تهدي من أحببت، ولكن الله يهدي من يشاء، وهو أعلم بالمهتدين" (سورة
القصص، الآية 56).
وإن من البداهة بمكان أن نعلم أن ذلك لا ينبغي أن يصدنا عن بذل الأسباب
والوسائل، واتخاذ ما نستطيع من الأساليب فإن لم يكتب الله الهداية لإنسان فقد
قامت عليه الحجة بذلك، إذ إن أمر الهداية غيبي، لا يستطيع أن يتكهن به أحد،
وأدب العبد أن يفعل ما كلف به، ولا يتجاوز حدود عبوديته.
ولعل من حكمة ذلك أن تتعلق القلوب بالله تعالى رغبا ورهبا، وأن يتوكل العبد على
ربه، ويبرأ من حوله وقوته، ولا ينسب إلى نفسه تأثيرا ولا تدبيرا.. وقد أثنى
الله على عباد الرحمن إذ يقولون: "ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين،
وأجعلنا للمتقين أماما" (سورة الفرقان، الآية 74).
والدعاء بصدق وإخلاص، وتجرد لله تعالى وتذلل: سلاح قاطع، ودواء مجرب، نتعلمه من
هدي النبي صلى الله عليه وسلم وسنته، وسيرته العطرة ومواقفه، ألم يقل له بعض
الصحابة بعد حصر ثقيف في الطائف: "ادع الله يا رسول الله على ثقيف" فقال النبي
صلى الله عليه وسلم: (اللهم اهد ثقيفا، وائت بهم مسلمين)
فلم يكد النبي صلى الله عليه وسلم يصل المدينة المنورة حتى جاءه وفد ثقيف
ليبايع على الإسلام. وقال له أبو هريرة رضي الله عنه:
"ادع لي يا رسول الله أن يهدي أمي إلى الإسلام" ، فدعا النبي صلى الله عليه
وسلم : (اللهم أهد أم أبي هريرة إلى الإسلام)، فلم يكد يصل أبو هريرة رضي الله
عنه إلى بيته حتى سمع صوت الماء من خارج البيت، لقد كانت أمه تغتسل لتعلن
دخولها في الإسلام.
وكم رأينا في حياتنا الخاصة والعامة، وسمعنا من أخبار ذلك ما يزيد المؤمن
أيمانا ويقينا بالله تعالى، وتسليما لله تعالى وتوكلا عليه، وأكتفي في هذه
المناسبة بذكر قصتين فيهما العبرة والموعظة:
ذكر بعض العلماء أنه كان له ولد حرص كل الحرص على أن يسلك سبيل العلم والدعوة
إلى الله تعالى، ولكنه لم يستجب لدعوة والده، والتفت إلى رفاق بطالين صاحبهم،
وضيع أوقاته معهم، مما ترك في نفس أبيه ألما وغصة، ولكنه لم يستيئس منه، فكان
كلما رآه أظهر له تألمه وشديد حزنه، ولم يصادف ذلك منه أذنا صاغية، ولا قلبا
مستجيبا، فلجأ إلى الدعاء، واجتهد في التوسل والضراعة إلى الله تعالى، فلم يلبث
مدة حتى جاءه ولده، وقد تزيى بزي طلبة العلم، فقبل يد والده، وقال له: ها قد
جئتك كما تريد.. ثم لزم والده، وكان من خيار طلبته علما وعملا، واجتهادا في
الدعوة إلى الله تعالى.
وحدثني والد فاضل أنه اجتهد هو وزوجته في تربية ولدهما، وحثه على حفظ القرآن
الكريم، فكان يغلب عليه التهرب واللعب، وعدم الاهتمام بحفظ القرآن أو مراجعته،
وكانت الأم تتابعه بكل حرص واجتهاد، حتى ضاقت به ذرعا، فعزمت على تركه وإهماله،
لأنها وجدته معرضا غير مبال بكل ما يتبع معه من أساليب، فنصحها زوجها أن تجتهد
في الدعاء له عسى أن يشرح الله صدره لحفظ القرآن والاهتمام به، وتعاهدا على ذلك
فلم تمض فترة أشهر حتى توجه الولد إلى حفظ القرآن الكريم بكل رغبته، ثم لم تمض
سنة ونصف السنة، حتى كان قد أتم حفظ القرآن الكريم على خير وجه.
وبعد، فهذه أهم النصائح والوصايا التي فتح الله بها على عبده لتكون عونا
للوالدين على تربية أولادهم ورعايتهم، ويبقى على رأس ذلك كله عون الله تعالى
وتوفيقه، وهدايته ورعايته، وذلك حليف من توكل عليه سبحانه ولجأ إليه، وأكثر من
الضراعة والتذلل بين يديه، وما أصدق ما قال الشاعر:
إذا لم يكن عون من الله للفتى فأول ما يقضي عليه اجتهاده
اللهم نسألك بأسمائك الحسنى ، وصفاتك العليا أن تهدي أبناءنا وبناتنا، وأبناء
المسلمين أجمعين وبناتهم، إلى دينك الحق وصراطك المستقيم، وأن تجعلهم قرة عين
لنا ولهم، وأن تشرح صدورهم، وتيسر أمورهم، وترزقهم الإيمان والحكمة، والصحبة
الطيبة الصالحة، وتحفظهم من رفاق السوء ودعاة الشر، وأبواب الفتن ومزالقها، وأن
تجعلهم قوة للإسلام وأهله في كل مكان، وعزة للأمة في كل ميدان:
"ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين وأجعلنا للمتقين أماما" (سورة
الفرقان، الآية: 74).
خاتمة
هذه هي الوسائل و الأساليب التي اتبعها الرسول والصحابة وصولاً إلى أهداف
التربية الإسلامية ، و لايوجد ما يمنع أن نضيف إلى هذه الوسائل كل ما يؤدي إلى
تحقيق الهدف . فالثابت هو المبدأ أما وسيلة تحقيقه فيمكن أن نستفيد فيها بما
توصل إليه السابقون ، و أن نضيف إليها نتاج خبراتنا و تجارب عصرنا ، طالما أن
ذلك لا يتناقص مع المباديء الإسلامية .
و في هذا الإطار لا مانع مطلقاً من استخدام التقنيات التعليمية الحديثة في
التدريس أو تبني الاتجاهات التربوية المعاصرة في التربية الإسلامية و من
أمثلتها أساليب التعليم المبرمج و أساليب التعليم عن بعد ، و أساليب التعليم
المفرد ، و التعليم بالفريق ، و التعليم بالمراسلة ، و تحليل الموقف و دراسة
الحالات ، و تمثيل الدور ، و الزيارات الميدانية و غيرها .....
توفيق مراد
جده - السعودية