بذريعة مواجهة التطرف ظهرت في العقدين الاخيرين «ميليشيات» ضمت نفرا من المثقفين كانت مهمتهم وما زالت، محاولة قطع الطريق على تقدم المسيرة الاسلامية بمختلف الوسائل المشروعة، وغير المشروعة، وبشكل اساسي فإن الذين انخرطوا في تلك الميليشيات كانوا خليطا من غلاة العلمانيين والماركسيين، وغيرهم من الذين نجحت حملات التعبئة في تخويفهم من الاسلام والمسلمين، او الذين استقرت في اعماقهم كراهية الاثنين، ووجدوا ان مكانهم الطبيعي هو في معسكر «الضد» الرافض لكل ما هو اسلامي.
ھ اننا ندرك اهمية التفرقة بين النقد الموضوعي الذي ينبغي ان يرحب به وان يتسع الصدر له، وبين الاجتراء الذي هو بمثابة تطاول على ثوابت الامة والمقومات الاساسية للمجتمع والفرق بين الاثنين هو بالضبط الفرق بين الحوار والسب، والاول موقف ايجابي ايا كان اتجاهه، والثاني مسلك سلبي بكل المقاييس.
ھ في الوقت ذاته فإننا ندعو الى ضرورة التفرقة بين المعتدلين والمتطرفين والغلاة من العلمانيين، والاولون قد يختلفون مع الاسلاميين في النظرة الى دور الدين في المجتمع وفي طروحاتهم ما يستحق التقدير والحفاوة، مثل الدفاع عن الديموقراطية والتعددية، ولهم طروحات اخرى يمكن مناقشتهم فيها خصوصا تلك التي تنطلق من الفصل بين الدين والسياسة، مع ذلك فالذي نفهمه ونعرفه ان موقفهم ذاك لا يقلل من احترامهم للدين ودفاعهم عن ثوابته، لأجل ذلك فإننا نعتبر ان فرص اللقاء مع العلمانيين المعتدلين قائمة على نطاق واسع، وان المشترك بينهم وبين الاسلاميين المعتدلين قائم لا ريب، وعند التوثيق سنجده اوسع نطاقا مما يتصور كثيرون.
ما سبق هو مقتطفات مما كتبه الاستاذ فهمي هويدي في كتابه (المفترون.. خطاب التطرف العلماني في الميزان) وينقل هويدي عبارة وردت في سياق تحليل نشرته جريدة «الحياة» يعالج حوادث التفجير التي شهدتها فرنسا في صيف 95م واتهم في هذه العمليات شاب جزائري تقول العبارة (هذا الشاب ليس من نشطاء الحركات الاسلامية، وان اصيب بلوثة ايمان جعلته يقبل على الصلاة ويرتاد المساجد لبعض الوقت» هذه اللغة لم تعد استثناء، وانما صارت مفرداتها شائعة في خطاب هذا الزمن، فكما ان الايمان صار «لوثة» واداء الصلاة والتردد على المساجد غدت من تجليات تلك اللوثة، فان عناوين اخرى كثيرة لها حرمتها وقداستها في حياة المسلمين ، اصبحت تجرح بذات الاسلوب وتنتهك حرماتها في ادبيات كثيرة مما اصبحنا نطالعه بين الحين والاخر، فهذا يغمز في القرآن، وذلك يعرض بالسنة النبوية، والثالث يزدري بثقافة الامة وتراثها الحضاري، والرابع يطعن في الصحابة، والخامس يدعو الى حذف المعاملات من الاسلام والابقاء على العبادات والروحانيات دون غيرها، الخ فلعلنا لا نبالغ اذا قلنا باننا اصبحنا بإزاء حالة من الاجتراء على عقيدة الامة وحرمات المسلمين، تستحق منا انتباها وردا.
هذا الاجتراء وجد في اجواء الاشتباك الراهن بين بعض الانظمة وبين عدد من الفصائل الاسلامية مناخا مواتيا، واحيانا مظلة وحماية اذ باسم التصدي للتطرف «والارهاب» سمح البعض لانفسهم بتجاوز الخطوط الحمراء ومحاولة تجريح التدين ذاته، فيما سمى بسياسة «تجفيف الينابيع» التي ابتدعها نفر من المثقفين في تونس، وهي السياسة التي ترى في التدين تربة خصبة ينمو فيها ويتغذى منها التطرف «بصرف النظر عما اذا كان التدين رشيدا ام مشوها وعقيما!» ومن ثم فان دعاتها لا يرون بديلا عن اقتلاع جذور التدين ذاته غير اضعافه وتقليص حضوره قدر الامكان في الضمير والواقع.
وهذا كله يتم تحت ستار ذلك العنوان الخادع «تجفيف ينابيع التطرف» وهو عنوان يجد صدى واسعا من القبول لدى كثيرين، ببساطة لان الاغلبية تعارض التطرف حقا، تعاني منه، وحماسها كبير للخلاص من آفته.. لكن ذلك الانطباع يختلف بصورة كلية اذا دققنا في المصطلح واكتشفنا حقيقة المقصود بالينابيع وجوهر مفهوم التطرف.،
ان التطرف العلماني بموقفه ذاك لا ينال من عقيدة الأمة فحسب، ولا ينتهك ايمان الاغلبية الساحقة من ابناء الأمة فحسب، وانما هو يسعى ـ في قصد أو غير قصد ـ الى تقويض احد المقومات الاساسية للمجتمع، الامر الذي يشكل عدوانا على المصلحة الوطنية العليا في نهاية الامر، بسبب من ذلك فاننا لا نتردد في القول بان ذلك المسعى انما يحاول تخريب الدين والدنيا في الوقت ذاته، ولئن كان للدين رب يحميه، وما شاد الدين احد الا غلبه، فان من حقنا ـ وواجبنا ـ ان نهب دفاعا عن ثوابت مجتمعنا ومصالحه العليا.
د.وليد الطبطبائي
23-01-2005, 02:00 AM
العرض العادي
