مجالس العجمان الرسمي


مجلس الدراسات والبحوث العلمية يعنى بالدراسات والبحوث العلمية وفي جميع التخصصات النظرية والتطبيقية.

رد
 
أدوات الموضوع طرق مشاهدة الموضوع
  #1  
قديم 18-10-2007, 08:33 PM
د.فالح العمره د.فالح العمره غير متصل
 
تاريخ التسجيل: Feb 2005
الدولة: في قلوب المحبين
المشاركات: 7,593
معدل تقييم المستوى: 27
د.فالح العمره is on a distinguished road
دراسات في القيم

الملخص
دور الجامعات في تنمية القيم عند الطلبة
- استطلاع لآراء مدرسي العلوم الشرعية ومدرسي العلوم التربوية –
د. خالد محمد الخطيب
جامعة الزرقاء الاهلية
هدفت الدراسة الى التعرف على آراء مدرسي العلوم الشرعية ومدرسي العلوم التربوية حول اهم الادوار التي يمكن ان تؤديها الجامعات لتنمية القيم العربية الاسلامية عند الطلبة ، كما حاولت التعرف على نوع العلاقة ومدى قوتها بين آراء مدرسي العلوم الشرعية وآراء مدرسي العلوم التربوية حول اهم ادور الجامعات ، وكذلك العلاقة بين آراء اساتذة الجامعات الاهلية واساتذة الجامعات الحكومية .

تكونت عينة الدراسة من ( 86) استاذا جامعيا يدرّسون في الجامعات الاردنية التالية : ( الاردنية ،اليرموك، الهاشمية،الزرقاء الاهلية ، اربد الاهلية) من التخصصات الشرعية والتربوية .

صمم الباحث استبانة مكونة من (7 ) محاورحول ادوار ( المدرس ،المناهج، النشاطات الطلابية ،الخدمات الطلابية ،الجهاز الاداري، الانظمة والتعليمات الجامعية، ودور الطلبة ) ، وقد تمثلت هذه المحاور السبعة في 38 فقرة بالاضافة لسؤال مفتوح لاقتراح ادوار اخرى للجامعات في تنمية القيم لدى الطلاب . تأكد الباحث من صدق الاستبانة ، وقد بلغ معامل الثبات (0.96 ) باستخدام معادلة (كرونباخ الفا) .

توصلت الدراسة الى النتائج التالية :

- ترتبت الادوار تنازليا حسب درجة اهميتها في تنمية القيم لدى الطلبة كما يلي ( دور المدرس، دور النشاطات الطلابية ، دور المناهج ، دور الانظمة والتعليمات الجامعية ، دور الطلبة ، الجهاز الاداري ، واخيرا دور الخدمات الطلابية ) .

- العلاقة بين آراء مدرسي العلوم الشرعية وآراء مدرسي العلوم التربوية علاقة طردية ضعيفة حيث بلغ معامل ارتباط سبيرمان ( 0.429) وهذه القيمة ليست دالة احصائيا .

- العلاقة بين آراء اساتذة الجامعات الحكومية واساتذة الجامعات الاهلية علاقة طردية ضعيفة حيث بلغ معامل ارتباط سبيرمان ( 0.25) وهذه القيمة ليست دالة احصائيا .

مقدمة:

تزايد الاهتمام بدراسة القيم خلال العقود الاخيرة من قبل المتخصصين في كافة فروع العلوم الانسانية ، ولعل احد العوامل وراء ذلك ، الدور الذي تؤديه القيم واثرها في معظم جوانب المجتمع ومؤسساته لا سيما المؤسسات التربوية فالتربية في جوهرها عملية قيمية .

تعتبر القيم صورة المجتمع ، لانها الضابط والمعيار الاساس للسلوك الفردي – الاجتماعي ، والمجتمع في عمومه لا يتكون دون وجود هذا البناء المعياري (ابو العينين ،1988) .

والقيم هي الاساس السليم لبناء تربوي متميز لان فقدان التربية للقيم التي تبنى عليها الشخصية ، يفقدها روحها بل ان الاهداف التربوية والغايات والاستراتيجيات ما لم تشتق من قيم صحيحة سليمة تراعي العلاقات الانسانية في ابعادها المختلفة فانها تفقد اهميتها وقيمتها .

وقد يكون من الصعب الاتفاق على مفهوم محدد للقيمة – على الرغم من اهميتها- ذلك لان القيم ترتبط ارتباطا وثيقا بمجموع الرؤى الدينية والفلسفية والفكرية والثقافية والتربوية التي يعتنقها اصحاب المدارس المتنوعة والتي تتخذ مواقف متعددة في نظرتها للمعرفة وللانسان وللوجود ، وبمقدار هذا الاختلاف وعمق هذا التغاير ، تتعدد الرؤى وتختلف زوايا النظر عند تناول مصطلح القيم او دراسة موضوعاتها(الجلاد، 1999)

ان القيمة بمعناها المعاصر ترجع في اصلها الى الفلاسفة اليونان وكان اول من تعرض للقيم الفيلسوف ارسطو تحت عنوان الفضائل ( القيسي ، 1995) حيث جمع نحو ثلاثين منها واعتبر ان كل فضيلة لها طرفان طرف في اقصى اليمين وطرف آخر في اقصى اليسار والمطلوب الوسط وهو القيمة المطلوبة ، كالجبن والتهور وبينهما فضيلة الشجاعة.

اما بالنسبة للفكر المثالي فان نظرته للقيم تقوم على اساس ان الانسان الكامل يستمد قيمه من العالم المعنوي لا من العالم المادي وان هذه القيم مطلقة وخالدة وثابتة . والفكر الواقعي يعتبر القيم مطلقة ، حقيقة لا خيال وان كل شيء فيه قيمته وانه بالامكان الكشف عن القيم باستخدام العقل .

لكن اصحاب الفكر البراغماتي والنسبي عموما يرون ان القيم نسبية واحكام الناس حول القيم قابلة للتغير وهي تقاس بنتائجها أي بما يعود منها بالنفع .

اما بالنسبة لتعريف القيم عند علماء العصر الحديث فحدث عن الخلاف ولا حرج فالقيمة عند (ببر) هي أي شيء خيرا كان او شرا بينما يراها (بري) انها الاهتمام أي الاهتمام بأي شيء فأذا كان أي شيء موضوع اهتمام فأنه حتما يكتسب قيمة ، اما ثورندايك فيرى ان القيم هي تفضيلات وان القيم الايجابية منها والسلبية تكمن في اللذة او الالم الذي يشعر به الانسان(الخطيب ،2000)

ولقد قام (ابو العينين، 1988) بتحليل لعدد كبير من التعريفات للقيم والتعليق عليها ونقدها ثم خلص الى التعريف التالي :

القيمة هي مفهوم يدل على مجموعة من المعايير والاحكام تتكون لدى الفرد من خلال تفاعله مع المواقف والخبرات الفردية والاجتماعية بحيث تمكنه من اختيار اهداف وتوجيهات لحياته ، يراها جديرة بتوظيف امكانياته ، وتتجسد خلال الاهتمامات او الاتجاهات او السلوك العملي او اللفظي بطريقة مباشرة وغير مباشرة .

ان غرس القيم في النشئ احد الاهداف الرئيسة التي يجب ان تعنى بها التربية ذلك ان الفرد الذي يفقد قيمه يفقد اتزانه والقيم بالنسبة للمجتمع كأعمدة البناء التي تحمل البناية بأكملها فغرس القيم ضرورة فردية اجتماعية في آن واحد ( علاونة وآخرون،1991) .

ولقد ذكر ( البطش وهاني عبد الرحمن ، 1990) عدة وظائف للقيم هي :

- القيم تعد معيارا لانها توجه السلوك الصادر عن الافراد الى جهة معينة ومحددة ضمن الاطار الاجتماعي .

- تجعل الفرد اكثر ميلا وتفضيلا لايديلوجيا سياسية او دينية او اجتماعية او اقتصادية معينة دون غيرها .

- تحدد الطريقة التي يعرض بها الفرد نفسه للآخرين فهي معايير لتقديم التعزيز والثناء واللوم الذي يتلقاه الفرد من نفسه او الآخرين .

- تعد اساسا لاجراء المقارنات بين المجتمعات المختلفة .


- تلعب دورا في حل الصراعات واتخاذ القرارات .

- تخدم كدافع للسلوك المثالي الذي يعد وسيلة لتحقيق الاهداف المرجوة او المرغوب فيها .

- تساعد الفرد على التكيف .

- تسهم كوسيلة للدفاع عن الانا والذات .

اما( ابو العينين ، 1988) فقد فصل في وظائف القيم وتناول الموضوع على محورين:

المحور الاول :وظائف القيم على المستوى الفردي :

1. انها تهيء للافراد اختيارات معينة تحدد السلوك الصادر عنهم فهي تلعب دورا هاما في تشكيل الشخصية الفردية وتحديد اهدافها في اطار معياري صحيح .

2. انها تعطي الفرد امكانية اداء ما هو مطلوب منه ليكون قادرا على التكيف والتوافق بصورة ايجابية .

3. تحقق للفرد الاحساس بالامان فهو يستعين بها على مواجهة ضعف نفسه والتحديات التي تواجهه في حياته .

4. تعطي للفرد فرصة للتعبير عن نفسه وتأكيد ذاته .

5. تدفع الفرد لتحسين ادراكه ومعتقداته لتتضح الرؤيا امامه وبالتالي تساعده على فهم العالم من حوله وتوسع اطاره المرجعي في فهم حياته وعلاقاته .

6. تعمل على اصلاح الفرد نفسيا وخلقيا وتوجهه نحو الاحسان والخير والواجب .
7. تعمل على ضبط الفرد لشهواته كي لا تتغلب على عقله ووجدانه .




المحور الثاني : وظائف القيم على المستوى الاجتماعي:

1. تحفظ على الجتمع تماسكه فتحدد له اهداف حياته ومثله العليا ومبادئه الثابتة .

2. تساعد المجتمع على مواجهة التغيرات التي تحدث فيه بتحديدها الاختيارات الصحيحة وذلك يسهل على الناس حياتهم ويحفظ للمجتمع استقراره وكيانه في اطار موحد .

3. تربط اجزاء ثقافة المجتمع ببعضها حتى تبدو متناسقة كما انها تعمل على اعطاء النظم الاجتماعية اساسا عقليا يصبح عقيدة في ذهن اعضاء المجتمع المنتمين الى هذه الثقافة .

4. تقي المجتمع من الانانية المفرطة والنزعات والشهوات الطائشة فالقيم والمبادئ في أي جماعة هي الهدف الذي يسعى جميع اعضائها للوصول اليه

5. تزود المجتمع بالصيغة التي يتعامل بها مع العالم وتحدد له اهداف ومبررات وجوده وبالتالي يسلك في ضوئها وتحدد للافراد سلوكياتهم

مشكلة الدراسة :

ان المجتمع العربي والاسلامي يعاني اليوم من صراع ثقافي انتقل الى القيم وقد احدث هذا قدرا كبيرا من الخلاف والصراعات بين القديم والحديث ودار السجال بينهما وتعددت القضايا واتسع مجالها واشتد تعقيدها ، وهذا الصراع في حقيقته صراع قيمي تتعدد ابعاده وتتسع مشكلاته (ابو العينين،1988).

ويعاني المجتمع الاسلامي كذلك من قصور في تأكيد ذاته وهويته الثقافية الى جانب معاناته من قصور في الوسائل الحضارية المادية وهذا يعود في معظمه الى معاناته الحقيقية من تخلخل البناء المعياري القيمي واهتزاز نسق القيم .

ولقد رأينا من خلال ما تقدم اهمية القيم في بناء شخصية الفرد القادرة على التكيف الايجابي مع ظروف الحياة لاداء دورها الحضاري المنشود والمطلوب منها كما وتعطي المجتمع شكلها المميز

والجامعات هي مراكز العلم ومنارات الهدى ويدرس فيها خيرة شباب المجتمع والمعول عليهم الاسهام في تطور الامة والاعلاء من شأنها ، لذلك لا بد ان يكون للجامعات دور محوري في تنمية القيم لدى طلبتها بما تتمتع به من ميزات وما تمتلكه من امكانات. لأجل ذلك كان الهدف من هذه الدراسة التعرف على أهم الادوار التي يمكن للجامعة أن تضطلع بها حتى تنمي القيم العربية الاسلامية عند طلابها .
وقد حاولت الدراسة الاجابة عن الاسئلة التالية :


1. ما هي اهم الادوار التي يمكن ان تقوم بها الجامعة لتنمية القيم العربية الاسلامية لدى الطلبة من وجهة نظر مدرسي العلوم الشرعية و مدرسي العلوم التربوية ؟ .

2. ما هو نوع العلاقة بين آراء مدرسي العلوم الشرعية وآراء مدرسي العلوم التربوية حول أهم أ داور الجامعة في تنمية القيم لدى الطلبة وما قوة هذه العلاقة ؟ .

3. هل تختلف آراء اساتذة الجامعات حول أهم أدوار الجامعة في تنمية القيم لدى الطلبة باختلاف نوع الجامعة التي يدرسون بها (حكومية ، اهلية) ؟


اهمية الدراسة:

تنبع اهمية هذه الدراسة من اهمية الموضوع الذي بحثته وهو القيم كما تكتسب اهميتها من خلال ما يلي:


1. المساهمة في تبصير الجامعات بالادوار المهمة التي من خلالها تتمكن تلك الجامعات من تنمية القيم عند طلبتها .

2. المساهمة في تطوير نموذج للتعليم الجامعي تتكامل فيه ادوار العاملين في الجامعة لتحقيق وظائفها ورسالتها .

3. التعرف على المسؤولية الفردية لكل من يعمل في الجامعة مهما كانت طبيعة عمله في تنمية القيم لدى الطلبة .


الدراسات السابقة :

أعد الباحث (ابو العينين ، 1988) دراسة موسعة حول القيم الاسلامية والتربية وضح في احد فصولها كيفية تكوين القيم وبين المراحل الست لتكوين القيم وهي المراحل التي اقترحها بلوم وآخرون في كتاب تصنيف الاهداف التربوية ، وهذه المراحل وهي :

1. جذب انتباه المتعلم نحو القيمة :أي ايقاظ الاحساس بالقيمة التي تختار كهدف تربوي .

2. تقبل القيمة : وهنا تستمر الاستجابة بدرجة تكفي لجعل الآخرين يميزون القيمة في الشخص ويكون سلوكه ثابتا .


3. تفضيل القيمة وفي هذه المرحلة يصبح الفرد ملتزما بالقيمة لدرجة تجعله يتابع القيمة ويسعى وراءها .

4. الالتزام : وهنا يصل الفرد الى الاقتناع والتاكد الذي لا مجال فيه للشك ومن ثم الى التقبل الوجداني الكامل .

5. التنظيم : أي ترتيب القيم في نظام معين .

6. التمييز: أي يصبح الفرد متميزا حيث يصل الى التصرف السلوكي الذاتي الثابت طبقا للقيم التي تمثلها .

وبين في دراسته كذلك طريقة القرآن والسنة في تكوين وتنمية القيم وهي كما يلي :

1. لفت النظر الى خلق الله .

2. يصحح القرآن علاقة الانسان بما حوله بان يجعلها علاقة تعاطف وتعارف .

3. يصحح القرآن علاقة الانسان مع نفسه ثم مع من حوله من الناس وذلك بعد ان ضبط حركته بقيم معينة تجاه الخالق والاشياء .

اتم رسول الله صلى الله عليه وسلم بناء القيم في نفوس المسلمين وذلك من خلال ما يلي :

1. اثارة الحواس لقبول المثيرات واستحسانها او رفضها .
2. القدوة الحسنة لاستثارة الفطرة للاقتداء والتقليد والاندفاع لمحاكاة السلوك .
3. التعليم المباشر وتقديم الافكار والمعلومات والخبرات المتصلة بالقيم .
4. التعويد على اتيان القيمة وحمل النفس عليها .
5. التطبيق والالتزام .

كما اورد( زاهر ،1984) في كتابه القيم في العملية التربوية عدة طرق لتكوين القيمة هي:

1. اتباع المثل الصالح( القدوة ) .
2. الاقتناع : وذلك بعرض الحجج والبراهين .
3. تحديد نواحي الاختيار .
4. الخضوع لقوانين وقواعد تحتم على الفرد سلوكا معينا .
5. تقديم الافكار المنبثقة من الاصول الثقافية والدينية .
6. الاعتزاز والتقدير.
7. العمل بما تم اختياره .
8. توفير بعض المغريات الانفعالية وذلك باستخدام الدعاية والتشجيع والارشاد .

اما ( بدارنة ، 1994) فقد قام بدراسة هدفت الى تحديد الاساليب التربوية في غرس القيم العقدية لدى الطفل المسلم وقد اورد عدة طرق وهي :

1. المحاكاة والتقليد والتلقين .
2. القدوة .
3. ضرب المثل .
4. الحوار .
5. الترغيب والترهيب .
6. الوعظ .
7. القصة .
8. التامل والتفكير .

وفي دراسة للشيخ والخطيب(1986) هدفت لتحديد دور الجامعة الاردنية في تنمية اتجاهات الحداثة عند طلبتها وذلك باستخدام عينة من 594 طالبا وطالبة موزعين على فئتين متكافئتين احصائيا من طلبة السنة الرابعة والاولى من حيث متغير التخصص الدراسي والجنس ومكان النشأة في الطفولة ومستوى تعليم الوالدين .

اشارت نتائج هذه الدراسة الى ان هناك فرقا دالا بين متوسطي طلبة السنة الرابعة والاولى على سبعة اتجاهات فقط من الى 19 اتجاها المتضمنة في مقياس الحداثة الذي بناه الباحثان وهي الزمن والوقت والمهارات الفنية والقرابة والعائلة وحقوق المرأة والمشاركة العامة والمواطنة والانتماء القومي ، وتبين ايضا انه عند اعتبار اداء الطلبة في كل من التخصصات الدراسية الخمسة (المهني، العلمي ، العلوم، التجارة والاقتصاد ، الآداب ، الشريعة) على المقياس الكلي لاتجاهات الحداثة ان متوسط السنة الرابعة زاد بدلالة على متوسط الاولى في 3 تخصصات (المهني، العلوم، التجارة والاقتصاد)

وفي دراسة قام بها ( البطش وجبريل ، 1991) هدفت الى التعرف على التغيرات التي تحدث في القيم الغائية والوسيلية بحسب المراحل الثمانية لدى الافراد في البيئة الاردنية .

طبق الصورة الاردنية لمقياس روكاش للقيم على عينةمن ( 800 ) فرد موزعين على 8 فئات عمرية بين 15 – 50 سنة فما فوق تم اختيارهم من عمان الكبرى بالطريقة العشوائية الطبقية ثم تم استخراج متوسطات الرتب الغائية والوسيلية لكل قيمة تبعا لمتغير العمر .

اشارت النتائج الى ان 26 قيمة غائية ووسيلية اظهرت تغيرا بحسب العمر كما بينت النتائج ان هذه القيم التي تغيرت بحسب العمر تسير وفق 14 نمطا غائيا

كما قام( سمور ومساعدة ،2000) بدراسة هدفت الى كشف علاقة القيم الاسلامية بالاضطراب النفسي بأبعاده الستة ( القلق،المخاوف المرضية ، الوسواس ، الاضطرابات النفسجسمية،الاكتئاب، الهستيريا) ومعرفة اختلاف هذه العلاقة في ضوء متغيري الجنس ومكان الاقامة .

طبقت اداة الدراسة على 290 طالبا وطالبة من جامعة اليرموك وتوصلت الى التأكيد على العلاقة بين توازن الفرد النفسي ونظامه القيمي الديني حيث وجد ارتباط سالب دال بين مستوى القيم الاسلامية والاضطراب النفسي والفروق التي تعزى للجنس دالة لصالح الاناث ، ودالة لصالح المدينة مقارنة مع الريف

اما دراسة (البطش وعبد الرحمن ، 1990) فقد هدفت الى التعرف على البناء القيمي لطلبة الجامعة الاردنية ، طور الباحث مقياس روكاس لمسح القيم وطبقه على عينة عشوائية طبقية مكونة من 2000 طالب وطالبة في الجامعة الاردنية تبعا لمتغيرات الدراسة وهي : الجنس، والكلية(انسانية ،علمية)، والخلفية الاجتماعية ( مدينة ،ريف،بادية) اشارت النتائج ان قيمة الدين والعمل لليوم الآخر احتلت الرتبة الاولى في هرم القيم الغائية واحتلت قيمة التضحية الرتبة الاولى في هرم القيم الوسيلية .

- وجود اثر لمتغير الجنس على متوسط الرتب التي احتلتها 17 قيمة وسيلية و11 غائية .

- وجود اثر لمتغير التخصص على متوسط الرتب التي احتلتها 16 قيمة وسيلية و11 غائية .

- وجود اثر لمتغير الخلفية الاجتماعية على متوسط الرتب التي احتلتها 12 قيمة وسيلية و12 غائية .

ولقد سعت دراسة (العلاونة وآخرون ، 1991) الى تطوير مقياس للقيم الاجتماعية في الاسلام حيث قسمت فقرات المقياس الى سبعة مجالات هي :
(الاسرة ،الجوار واولوا الارحام،الطعام والشراب واللباس،المجال الاقتصادي والاجتماعي،التعامل مع غير المسلمين،الامراض الاجتماعية ،مجال المبادئ العامة ) .

من خلال استعراض تلك الدراسات وغيرها نتوصل الى ان اهتمام الباحثين بموضوع القيم كان بالغا وذلك من خلال دراسة وظائفها وكيفية تنميتها وما يتمتع به الطلبة من تلك القيم ، وبناء أدوات لقياس القيم وغير ذلك ، ونتوصل كذلك الى ان الجامعات لها دور مهم في التأثير على المنظومة القيمية لدى الطلبة . وتتميز هذه الدراسة بانها تدرس دور الجامعة في تنمية نوع خاص من القيم وهي القيم العربية الاسلامية ، كما انها درست الجهات التي يمكن للجامعة ان تؤثر من خلالها في القيم عند الطلبة ، كما تتميز هذه الدراسة عن غيرها بعينتها ، فلا يوجد دراسات – حسب علم الباحث – استطلعت آراء مدرسي العلوم الشرعية ومدرسي العلوم التربوية في دراسات متعلقة بالقيم .

عينة البحث :

بلغ حجم العينة 86 استاذا جامعيا يدرسون في كليات الشريعة والعلوم التربوية التابعة للجامعات الاردنية التالية ( الجامعة الاردنية ، جامعة اليرموك ، الجامعة الهاشمية ، جامعة الزرقاء الاهلية ، جامعة اربد الاهلية ) ، تم اختيار اساتذة الجامعات افرادا للعينة لانهم يشكلون قمة الهرم العلمي في أي مجتمع ، كما انهم اكثر الناس قربا من الجامعات والادوار التي تقوم بها واعرف الناس بطلبتها كما تم اختيار التخصصات الشرعية والتربوية لانها اكثر التخصصات قربا من موضوع القيم ويناط باصحابها عادة مهمة الارتقاء بالامة وبافرادها .

وقد توزع افراد العينة كما في الجدول ( 1) .




جدول ( 1 )
توزيع افراد العينة حسب الكلية والجامعة

الكلية / الجامعة الاردنية اليرموك الهاشمية الزرقاء الاهلية اربد الاهلية المجموع
الشريعة - 12 - 10 7 29
العلوم التربوية 12 11 15 19 - 57
المجموع 12 23 15 29 7 86

وهذه الاعداد تمثل عدد الاستبانات التي تم جمعها من افراد العينة

ادوات الدراسة :

اعد الباحث استبانة تم من خلالها جمع البيانات المتعلقة بآراء اساتذة الشريعة والتربية حول دور الجامعات في تنمية القيم لدى الطلبة حيث ضمت بصورتها الاولية ستة محاور حول دور ( المدرس ، المناهج ، النشاطات الطلابية ، الخدمات الطلابية ، الجهاز الاداري ، الانظمة والتعليمات الجامعية ) مثّل كل محور من المحاور الستة خمس فقرات كل فقرة تشير الى نشاط يتم من خلال احد المحاور او سمة من سماته

وقد قام الباحث بعرض الاستبانة على ستة من اعضاء هيئة التدريس في كلية العلوم التربوية في جامعة الزرقاء الاهلية ، وعضو من الجامعة الهاشمية ، وذلك للتأكد من صدق الاستبانة ، وقد تمت الافادة من آراء لجنة التحكيم وذلك بتعديل بعض الفقرات واضافة محور يعبر عن دور الطالب وكذلك اضافة بعض الفقرات لبعض المحاور ليصبح عدد محاور الاستبانة سبعة وعدد فقراتها 38 فقرة بالاضافة لسؤال مفتوح لاقتراح ادوار اخرى للجامعة .

تم تطبيق الاستبانة على عينة استطلاعية لتجريبها وتخليصها من نقاط الضعف التي تظهر خلال التجريب ،وقد استخدم الباحث معادلة كرونباخ الفا لحساب معامل ثبات الاستبانة ( الاتساق الداخلي للفقرات ) وقد بلغ 0.96 وتدل هذه القيمة على ان اداة القياس تتمتع بمعامل ثبات مقبول لغايات اجراء الدراسة كما تم حساب معاملات التمييز لفقرات الاستبانة فتبين انها تتراوح بين ( 0.36 – 0.82 )




محددات الدراسة :

1. قد يكون من اهم محددات الدراسة هو حجم العينة ومدى تمثيلها لمجتمع الدراسة .

2. اداة البحث من تصميم الباحث فتعميم نتائج الدراسة مرهون بمدى صدقها وثباتها .
4. حددت اداة الدراسة ادوار سبعة فقط من عناصر الجامعة تقوم من خلالها بتنمية القيم عند الطلبة وقد يكون للجامعة ادوار اخرى لعناصر اخرى .




التعريفات الاجرائية :

القيم العربية الاسلامية : وهي عبارة عن مجموعة من المثل العليا والغايات والمعتقدات والتشريعات والوسائل والضوابط والمعايير لسلوك الفرد والجماعة ، مصدرها الله عز وجل وهذه القيم هي التي تحدد علاقة الانسان وتوجهه اجمالا وتفصيلا مع الله ومع نفسه ومع البشر ومع الكون وتتضمن هذه القيم غايات ووسائل .

مدرسو العلوم الشرعية : هم اصحاب التخصصات الشرعية الذين يدرسون في كليات الشريعة في الجامعات الاردنية .

مدرسو العلوم التربوية : هم اصحاب التخصصات التربوية الذين يدرسون في كليات العلوم التربوية في الجامعات الاردنية .

المدرس : هو من يقوم بعملية تدريس طلبة الجامعة في احدى كلياتها .

المناهج: وهي مواد دراسية ونشاطات تقدم للطلبة على شكل مساقات عبر الفصول الدراسية والتي يجب على الطالب اجتيازها بنجاح ليستكمل متطلبات تخرجه

النشاطات الطلابية : وهي الانشطة التي تقوم بها عمادة شؤون الطلبة وتفسح المجال للطلبة للمشاركة بها والتفاعل معها .

الخدمات الطلابية : وتشكل مجموعة الخدمات التي تقدم للطلبة من خلال الجامعة وتتمثل بما يلي : (مركز الارشاد النفسي ، الحافلات ،المكتبة ، الكفتيريا، الامن )

الجهاز الاداري : ويقصد بها رئاسة الجامعة ومن يتصل بالطلبة من الاداريين مثل مديرية التسجيل والمالية وغيرها .

الانظمة والتعليمات الجامعية : وهي التشريعات التي تصدر من قبل الجامعة والمأخوذة من قانون وزارة التعليم العهالي والمتعلقة بالسلوكات المرغوبة وغير المرغوبة التي يمارسها موظفو الجامعة وطلبتها .

الطلبة : هم الطلبة الذين يدرسون في الجامعة .

التحليل الاحصائي:

للاجابة عن السؤال الاول تم حساب التكرارات والنسب لجميع محاور الاستبانة وجميع فقراتها ليصار الى ترتيبها تنازليا .

وللاجابة عن السؤال الثاني تم ترتيب المحاور بناء على درجة الاهمية من خلال آراء الشرعيين وترتيبها مرة اخرى بناء على آراء التربويين واستخدام معامل ارتباط سبيرمان للرتب للتعرف على نوع العلاقة وقوتها .

للاجابة عن السؤال الثالث تم ترتيب المحاور بناء على آراء اساتذة الجامعات الخاصة واستخدام معامل ارتباط سبيرمان للرتب للتعرف على نوع العلاقة وقوتها .

النتائج وتفسيرها :

لقد نص السؤال الاول من اسئلة الدراسة على ما يلي:

ما هي اهم الادوار التي يمكن ان تقوم بها الجامعة لتنمية القيم العربية الاسلامية عند الطلبة من وجهة نظر مدرسي العلوم الشرعية و مدرسي العلوم التربوية ؟ .
- وبعد تحليل البيانات المتجمعة من استطلاع آراء افراد العينة وذلك بأيجاد مجموع الدرجات والنسب لكل محور من محاور الاستبانة تم ترتيب المحاور حسب درجة تأثيرها في تنمية القيم لدى الطلبة تنازليا كما يظهر في الجدول ( 2 )

جدول (2)
ترتيب الادوار تنازليا حسب اهميتها في تنمية القيم عند الطلبة ومجموع درجاتها ونسبها المئوية

الترتيب الادوار مجموع الدرجات الحد الاعلى للدرجات النسب المئوية
الاول دور المدرس 2145 2408 0.89
الثاني دور النشاطات الطلابية 1356 1720 0.79
الثالث دور المناهج 1341 1720 0.78
الرابع دور الانظمة والتعليمات الجامعية 1340 1720 0.78
الخامس دور الطلبة 1327 1720 0.77
السادس دور الجهاز الاداري 1293 1720 0.75
السابع دور الخدمات الطلابية 1536 2064 0.74

وقد حسب مجموع الدرجات من خلال تحويل خيارات عينة الدراسة على تدريج الاستبانة الى ارقام وذلك لجميع فقرات كل محور ثم جمع هذه الارقام ، اما بالنسبة للحد الاعلى للدرجات فهو حاصل ضرب عدد افراد العينة بعدد فقرات المحور مضروبا في ( 4 ) ، والنسب المئوية هي خارج قسمة مجموع الدرجات على الحد الاعلى للدرجات .

يبين الجدول (2) ان اهم الادوار التي يمكن ان تنمى القيم من خلالها عند الطلبة هو دور المدرس حيث كان ترتيبه الاول وبفارق كبير عن بقية الادوار ثم بعد ذلك دور النشاطات الطلابية ودور المناهج ودور القوانين الجامعية ودور الطلبة واخيرا دور الجهاز الاداري ودور الخدمات الطلابية .

ويلاحظ من الجدول كذلك الادوار الستة التي تلي دور المدرس متقاربة من حيث الاهمية فلا يتجاوز فرق النسب بينها ما قيمته 0.05 مما يدل على ان هذه الادوار الستة كلها مهمة في تنمية القيم عند الطلبة الا ان دور المدرس اكثر منها اهمية .

ويبين الجدول( 3 ) ترتيب الادوار تنازليا حسب اهميتها في تنمية القيم مع ترتيب فقرات كل دور مع مجموع الدرجات والنسب المئوية


جدول (2)
ترتيب الادوار وفقرات كل دور تنازليا حسب الاهمية في تنمية القيم لدى الطلبة مجموع الدرجات والنسب ( علما بأنالمجموع الكلي لكل فقرة هو 344 ) .
الادوار ترتيب الفقرات الفقرة مجموع الدرجات النسب المئوية
المدرس 1 التزام المدرس بالقيم العربية والاسلامية في سلوكه داخل وخارج الحصة 319 0.93
2 تقبل المدرس للطلبة ومحاورتهم باحترام داخل وخارج الحصة 313 0.91
3 تعزيز المدرس وتشجيعه للطلبة على الالتزام بالقيم 313 0.91
4 مناقشة القيم مع الطلبة خلال المحاضرات وربطها بحياة الطالب 310 0.90
5 استعداد المدرس لابداء النصح لمن يطلب من الطلبة ومساعدتهم في حل مشكلاتهم 308 0.90
6 الكفاءة العلمية للمدرس 301 0.88
7 طرائق التدريس التي يستخدمها المدرس 282 0.82
المناهج 1 ربط مفردات المساقات بالقيم المتعلقة بها 281 0.82
2 طرح مساقات متخصصة متعلقة بالقيم لجميع طلاب الجامعة 269 0.78
3 اشتمال مساقات متطلبات الجامعة على فصول خاصة بالقيم 269 0.78
4 ان تكون متطلبات بعض المساقات نشاطات متعلقة بالقيم 263 0.76
5 تضمين خطط المساقات مراجع تهتم بالقيم 259 0.75
النشاطات الطلابية 1 الالتزام بالقيم في كافة النشاطات الطلابية 288 0.84
2 استثمار الرحلات العلمية والترفيهية لغرس القيم لدى الطلبة 272 0.79
3 اقامة محاضرات وندوات وورش عمل للحديث عن القيم والالتزام بها 270 0.78
4 التأكيد على القيم من خلال النشرات واللوحات الجدارية 266 0.77
5 تشكيل لجان طلابية لحض الطلاب على الالتزام بالقيم 260 0.76
الانظمة والتعليمات الجامعية 1 ان يكون احد اهداف الجامعة تنمية القيم لدى الطلبة 279 0.81
2 الحرص على تعيين المعروفين بالتزامهم بالقيم العربية والاسلامية 279 0.81
3 وضع نظام للحوافزوالجوائز التقديرية للطلبة الذين يلتزمون بالقيم 269 0.78
4 وضع قانون لمعاقبة الطلبة غير الملتزمين بالقيم 258 0.75
5 اصدار نشرات تعريفية بالقيم العربية والاسلامية وترغيب الطلبة بالالتزام بها 255 0.74
الطلبة 1 الجمعيات والنوادي التي ينشئها الطلبة داخل الجامعة 279 0.81
2 مساهمة الطلبة في المشاريع الخيرية داخل وخارج الجامعة 278 0.81
3 مشاركة الطلبة بحوارات وندوات مع المسؤولين حول قضايا الامة الرئيسية 272 0.79
4 مشاركة الطلبة بدراسات ميدانية لاستقصاء القيم السائدة 251 0.73
5 انضمام الطلبة لجمعيات ومؤسسات خيرية وسياسية خارج الجامعة 247 0.72
الجهاز الاداري 1 التزام العاملين في الجهاز الاداري بالقيم 288 0.84
2 تسهيل الاجراءات الادارية وانجازها للطلبة بسرعة ويسر 277 0.81
3 عمل دورات متخصصة للمدرسين والاداريين تتعلق بالقيم وكيفية تنميتها 248 0.72
4 عمل مسابقات دورية متعلقة بالقيم 242 0.70
5 التواصل مع اولياء الامور والحديث معهم حول القيم 238 0.69
الخدمات الطلابية 1 التزام القائمين على تقديم الخدمات بالقيم المطلوبة 287 0.83
2 الحرص على تقديم الخدمة بافضل صورة 278 0.81
3 تشجيع الطلبة على الالتزام بالقيم من قبل مركز الارشاد النفسي 256 0.74
4 توفير مادة مكتبية متنوعة ومشوقة متعلقة بالقيم والالتزام بها 255 0.74
5 تشغيل اشرطة هادفة في الحافلات والكفتيريا واماكن تواجد الطلبة 246 0.72
6 تواجد رجال الامن بين الطلبة وحثهم على الالتزام بالقيم 214 0.62

يبين الجدول (3) كيف ترتبت الفقرات في كل دور من الادوار الواردة في الاستبانة تنازليا حسب تأثيرها في تنمية القيم لدى الطلبة فالتزام المدرس بالقيم العربية والاسلامية في سلوكه داخل وخارج غرفة الصف يشكل التأثير الاكبر في تنمية القيم عند الطلبة وهي الفقرة الاولى من دور المدرس .

اما دور النشاطات الطلابية فالفقرة الاولى هي الالتزام بالقيم في كافة النشاطات الطلابية اما دور المناهج فالفقرة الاولى هي ربط مفردات المساقات بالقيم المتعلقة بها وهناك فقرتين في دور القوانين الجامعية احتلتا المرتبة الاولى وهما الحرص على تعيين المعروفين بالتزامهم بالقيم العربية والاسلامية والثانية هي ان يكون احد اهداف الجامعة تنمية القيم لدى الطلبة ، والفقرة الاولى في دور الطلبة هي الجمعيات والنوادي الطلابية التي ينشئها الطلبة داخل الجامعة اما دور الجهاز الاداري فقد كانت الفقرة الاولى هي التزام العاملين في الجهاز الاداري بالقيم والخدمات الطلابية كذلك فقد كان لالتزام القائمين على تقديم الخدمات بالقيم المطلوبة الترتيب الاول .

ومن خلال نظرة شاملة لنتائج فقرات الاستبانة نجد ان الالتزام بالقيم من قبل العاملين في الجامعة ( بغض النظر عن طبيعة عملهم ) له التاثير الاكبر في تنمية القيم لدى الطلبة .

ويمكن ان تفسر هذه النتيجة بأن الاستاذ الجامعي في نظر طلابه يمثل بؤرة العلم والمعرفة واشعاع الاخلاق والقيم النبيلة ، وان الجميع ينظر للمدرس انه المجسد والمعبر عن كل خير وفضيلة من خلال سلوكه والتزامه بقيمه الاصيلة .

كما ان المدرس هو الصق الناس بطالبه فهو الرفيق الحميم في جميع مراحل دراسته فالخير عند الطالب ما يراه المدرس خيرا والسوء عنده ما يراه المدرس سوءا ، وهذه النتيجة طبيعية لان مهمة التدريس هي من اعظم المهام واكثرها تأثيرا فهي التي تبنى النفوس والعقول والارواح وصدق شوقي عندما وصف دور المدرس بقوله :

ارأيت اعظم او اجل من الذي يبني وينشئ انفسا وعقولا

ويمكن ان تفسر هذه النتيجة ان الاستاذ الجامعي يعتبر ان له الدور الاكبر في التأثير على شخصية الطالب – لان الذي اجاب على الاستبانة هم المدرسون وليس غيرهم – وهذا شئ ايجابي لانه يشعر المدرس بأهمية دوره وعظم مسئوليته والامانة الملقاة على كاهله .

اما بالنسبة للسؤال الثاني من اسئلة الدراسة فهو :

ما نوع العلاقة بين آراء مدرسي العلوم الشرعية وآراء مدرسي العلوم التربوية حول اهم الادوار للجامعة في تنمية القيم لدى الطلبة وما قوة هذه العلاقة ؟ .

يبين الجدول (4) ترتيب الادوار تنازليا حسب درجة التأثير في تنمية القيم لدى الطلبة من وجهة نظر مدرسي العلوم الشرعية ومجموع الدرجات والنسب

جدول (4)

ترتيب الادوار تنازليا حسب التأثير في تنمية القيم عند الطلبة من وجهة نظر الشرعيين ومجموع الدرجات والنسب

الترتيب الادوار مجموع الدرجات الحد الاعلى للدرجات النسب المئوية
الاول دور المدرس 736 812 0.91
الثاني دور القوانين الجامعية 463 580 0.80
الثالث دور المناهج 441 580 0.76
الرابع دور النشاطات الطلابية 439 580 0.76
الخامس دور الجهاز الاداري 436 580 0.75
السادس دور الخدمات الطلابية 520 696 0.75
السابع دور الطلبة 423 580 0.73


يبين الجدول (4) ان مدرسي العلوم الشرعية يرون ان الدور الاكبر الذي يؤثر في تنمية القيم عند الطلبة هو دور المدرس ثم دور الانظمة والتعليمات الجامعية ثم المناهج والنشاطات الطلابية والجهاز الاداري واخيرا الخدمات الطلابية والطلبة .

كما يتضح من الجدول من خلال مجموع الدرجات والنسب ان الادوار الستة الاخيرة متقاربة في درجة الاهمية لكن الفرق بينها وبين دور المدرس فارق كبير .

ويبين الجدول (5) آراء مدرسي العلوم التربوية حول درجة تأثير الادوار في تنمية القيم لدى الطلبة


جدول (5)

ترتيب الادوار تنازليا حسب درجة التأثير في تنمية القيم لدى الطلبة من وجهة نظر التربويين ومجموع الدرجات والنسب

الترتيب الادوار مجموع الدرجات الحد الاعلى للدرجات النسب المئوية
الاول دور المدرس 1407 1596 0.88
الثاني دور النشاطات الطلابية 907 1140 0.80
الثالث دور الطلبة 904 1140 0.79
الرابع دور المناهج 900 1140 0.79
الخامس دور الانظمة والتعليمات الجامعية 877 1140 0.77
السادس دور الجهاز الاداري 857 1140 0.75
السابع دور الخدمات الطلابية 1018 1368 0.74

يبين الجدول (5) كيف ترتبت الادوار تنازليا من وجهة نظر التربويين ( دور المدرس، دور النشاطات الطلابية، دور الطلبة، دور المناهج ، دور القوانين الجامعية، دور الجهاز الاداري ، واخيرا دور الخدمات الطلابية)
ويتضح من الجدول كذلك من خلال مجموع التكرارات والنسب اهمية دور المدرس مقارنة مع بقية الادوار

ولايجاد العلاقة بين آراء مدرسي العلوم الشرعية وآراء العلوم والتربوية قام الباحث بايجاد معامل ارتباط سبيرمان فكانت قيمته تساوي (0.429) والدلالة الاحصائية لها هي ( 0.337) وهذا يدل على وجود علاقة ايجابية (طردية) بين آراء الشرعيين والتربويين الا ان هذه العلاقة علاقة ضعيفة لانها لم تكن ذات دلالة احصائية


والسؤال الثالث نص على ما يلي :

هل تختلف آراء اساتذة الجامعات حول اهم الادوار للجامعة في تنمية القيم لدى الطلبة باختلاف نوع الجامعة الذين يدرسون بها( حكومية ، اهلية)؟

وللاجابة على هذا السؤال تم ترتيب الادوار حسب درجة تأثيرها في تنمية القيم لدى الطلبة تنازليا من وجهة نظر الذين يدرسون في الجامعات الحكومية كما في الجدول (6)

جدول(6)

ترتيب الادوار تنازليا حسب التأثير في تنمية القيم لدى الطلبة من وجهة نظر الاساتذة الذين يدرسون في الجامعات الحكومية
الترتيب الادوار مجموع الدرجات الحد الاعلى للدرجات النسب المئوية
الاول دور المدرس 1261 1400 0.90
الثاني دور الطلبة 800 1000 0.80
الثالث دور المناهج 791 1000 0.79
الرابع دور النشاطات الطلابية 784 1000 0.78
الخامس دور الانظمة والتعليمات الجامعية 777 1000 0.78
السادس دور الجهاز الاداري 740 1000 0.74
السابع دور الخدمات الطلابية 886 1200 0.74

يبين الجدول (6) ان الدور الاهم هو دور المدرس اما ترتيب بقية الادوار فهي كما يلي: ( دور الطلبة ، دور المناهج، النشاطات الطلابية، القوانين الجامعية ، الجهاز الاداري ، الخدمات الطلابية )

كما تم ترتيب الادوار تنازليا حسب درجة تأثيرها في تنمية القيم عند الطلبة من وجهة نظر الاساتذة الذين يدرسون في الجامعات الاهلية كما في الجدول (7)

جدول (7)

ترتيب الادوار تنازليا حسب التأثير في تنمية القيم لدى الطلبة من وجهة نظر الاساتذة الذين يدرسون في الجامعات الاهلية

الترتيب الادوار مجموع الدرجات الحد الاعلى للدرجات النسب المئوية
الاول دور المدرس 883 1008 0.88
الثاني دور النشاطات الطلابية 572 720 0.79
الثالث دور الانظمة والتعليمات الجامعية 563 720 0.79
الرابع دور الجهاز الاداري 553 720 0.77
الخامس دور المناهج 550 720 0.76
السادس دور الخدمات الطلابية 652 864 0.75
السابع دور الطلبة 527 0.73

يبين الجدول(7) ان الدور الاهم هو دور المدرس وتترتب الادوار تنازليا بعد دور المدرس كما يلي( دور النشاطات الطلابية،القوانين الجامعية،الجهاز الاداري،المناهج،الخدمات الطلابية ،الطلبة)

وللتعرف على نوع العلاقة بين آراء اساتذة الجامعات الحكومية وآراء اساتذة الجامعات الاهلية وقوتها تم حساب معامل ارتباط سبيرمان للرتب فكانت قيمته تساوي( 0.25) والدلالة الاحصائية لها(0.589) مما يدل على ان العلاقة بين آراء اساتذة الجامعات الحكومية والخاصة علاقة ايجابية (طردية) أي ان هناك توافقا في الآراء الا ان هذه العلاقة ليست قوية حيث لم تكن قيمة معامل الارتباط دالة احصائيا وذلك لان قيمة الدلالة الاحصائية (0.589) اكبر من (0.05)


ويمكن تفسير نتيجة السؤال الثاني والثالث - دون ان تخدعنا البيانات الكمية - ومن خلال نظرة فاحصة الى النتائج ، حيث ان التوافق كبير في آراء جميع افراد العينة ان كانوا شرعيين او تربويين ، وان كانوا يدرسون في جامعات حكومية او جامعات اهلية ، وذلك لان مجموع الدرجات ونسبها المئوية متقاربة جدا لجميع الادوار الستة الواردة في الاستبانة ، والذي يتميز فقط هو دور المدرس ، وقد يكون سبب هذا التوافق ان جميع افراد العينة ينظرون الى تلك الادوار انها عناصر لبيئة الطالب الجامعية ، وان تلك البيئة تتشكل من نسب متقاربة من تلك العناصر ، وان الطالب يتعامل معها جميعا بصورة متواصلة ، بنسب تواصل متقاربة ، ولذك كانت الاراء متفقة على ان درجة التأثير لتلك الادوار الستة في تنمية القيم عند الطلبة متقاربة .

اما بالنسبة للاجابة على السؤال المفتوح في الاستبانة والذي ينص على ما يلي:

هل يوجد ادوار اخرى للجامعة يمكن ان تسهم في تنمية القيم لدى الطلبة – لم ترد في الاستبانة- الرجاء ذكرها؟

وقد تم رصد العديد من تلك الاقتراحات وخصوصا تلك التي لم يرد مثلها في فقرات الاستبانة وهي :

- احداث زي محتشم موحد للطالبات
- الفصل بين الطلاب والطالبات في بعض شعب الدراسة
- العمل على تفعيل دور اساتذة الشريعة للقيام بواجبهم نحو القيم
- خصم تشجيعي للطلبة الملتزمين بالقيم في نهاية مدة الدراسة الجامعية
- تغيير مناهجها وفق القيم الاسلامية
- انشاء مشاريع تعاونية اقتصادية بين الطلبة والعاملين يديرونها بانفسهم لمساعدة المحتاجين منهم على شكل هبات او قروض
- دعوة بعض " النجوم" والمشاهير من الرياضيين والاعلاميين الملتزمين بالقيم والدعاة لادارة الحوارات والقاء المحاضرات
- مساعدة الجامعة للطلبة الفقراء
- رحلات العمرة( بشكل خصوصي) وكذلك الحج




التوصيات :

1. زيادة الاهتمام بكفاءة المدرس الجامعي الاكاديمية والمسلكية قبل وبعد تعيينه في الجامعة .

2. نشر الوعي بين العاملين في الجامعات باهمية دورهم والواجب الملقى على عاتقهم فيما يتعلق بتنمية القيم لدى الطلبة .

3. تحويل بعض الافكار الواردة في الاستبانة الى برامج عملية من قبل الجامعات حتى تتمكن من تنمية القيم لدى طلابها .

4. اجراء المزيد من الدراسات المتعلقة بالقيم وتنميتها وان تكون بعض تلك الدراسات من نوع البحوث النوعية.




المراجع :

1. ابو العينين، علي خليل (1988)، القيم الاسلامية والتربية ، ط1 مكتبة ابراهيم الجلبي ، المدينة المنورة .

2. بدارنة، سعد الدين (1994)،الاساليب التربوية في غرس القيم العقدية لدى الطفل المسلم ،رسالة ماجستير ،جامعة اليرموك ، اربد.

3. البطش،محمد وجبريل ،موسى(1991) التغير في التفضيلات القيمية عند الافراد الاردنيين بتقدمهم في العمر ،مجلة ابحاث اليرموك (سلسلة العلوم الانسانية والاجتماعية ) مجلد 7 عدد2.

4. البطش،محمد وليد وهاني عبد الرحمن (1990) ،البناء القيمي لدى طلبة الجامعة الاردنية ، دراسات مجلد 17 أ العدد 3.
5. الجلاد،ماجد(1999) النظام القيمي في ضوء توجيهات التربية الاسلامية ،مجلة العلوم التربوية والنفسية العدد 32.

6. الخطيب ، خالد (2000) استراتيجيات تعليم القيمة ، ورقة مقدمة كمتطلب لمساق استراتيجيات التعلم والتعليم في مرحلة الدكتوراة .

7. زاهر ،ضياء(1984) ،الاساليب التربوية في غرس القيم العقدية لدى الطفل المسلم رسالة ماجستير ، جامعة اليرموك ، اربد.

8. سمور ،قاسم محمد ، ومساعدة ،عبد الحميد احمد (2000) العلاقة بين مستوى القيم الاسلامية والاضطراب النفسي لدى عينة من طلبة جامعة اليرموك ، مجلد مركز البحوث التربوية ،جامعة قطر ، سنة 7 عدد 17.

9. الشيخ والخطيب (1986) ، دور الجامعة الاردنية في تنمية اتجاهات الحداثة عند طلبتها ،مجلة العلوم الاجتماعية مجلة 14 العدد4 .

10. علاونة ، شفيق وعبد الرحمن صالح وبني خالد ،حسين (1991) بناء مقياس القيم الاجتماعية في الاسلام ،مؤتة للبحوث والدراسات (سلسلة العلوم الانسانية والاجتماعية )مجلد6 عدد3.

11. القيسي ، مروان ابراهيم (1995) المنظومة القيمية كما تحددت في القرآن الكريم والسنة النبوية ، دراسات (العلوم الانسانية ) المجلد 22 أ العدد 6.











 

التوقيع

 



من كتاباتي
صرخاااات قلم (( عندما تنزف ريشة القلم دما ))
قلم معطل وقلم مكسوووور
عندما ’تطرد من قلوب الناس !!!!!!(وتدفن في مقبرة ذاتك)
دعاة محترفون لا دعاة هواه ( 1)
الداعية المحترف واللاعب المحترف لا سواء(2)
نعم دعاة محترفين لا دعاة هواة!!!! (( 3 ))
خواطر وجها لوجه
همسة صاااااااااااارخه
خواطر غير مألوفه
اليوم يوم الملحمه ...
على جماجم الرجال ننال السؤدد والعزه
عالم ذره يعبد بقره !!!
معذرة يا رسول الله فقد تأخر قلمي
دمعة مجاهد ودم شهيد !!!!!!
انااااااااا سارق !!!!
انفلونزا العقووووووووول
مكيجة الذات
الجماهير الغبيه
شمووووخ إمرأه

 
 
رد مع اقتباس
  #2  
قديم 18-10-2007, 08:36 PM
د.فالح العمره د.فالح العمره غير متصل
 
تاريخ التسجيل: Feb 2005
الدولة: في قلوب المحبين
المشاركات: 7,593
معدل تقييم المستوى: 27
د.فالح العمره is on a distinguished road
رد: دراسات في القيم

حرب القيم

حامد بن عبد الله العلي



ليس ثمة مجال للريب أن القسمة الثنائيّة الصارمة، تتنزّل اليوم على كلّ المتعاطين مع المشروع الإمبريالي الأمريكي ـ الصهيوصليبي ـ الجديد في عالمنا الإسلامي، ولن يسلم أحد من التعاطي معه، إنّه مفروض علينا فرضا، أمرٌ غشي النّاس كُرهـا، وهو أعظم خطر مـرّ على أمتنا، وهو فتنة شاء الله أن يفتن بها عبـاده، وهو الحكيم العليم،،

(إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَن تَشَاء وَتَهْدِي مَن تَشَاء أَنتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ)،،

نسأل الله أن يحفطنــا والمسلمين من شرّهـا، ويرزقنا فيها العزيمة على الرشد، والسداد في الأمر، وحسن العاقبة آمين،،



فهما قسمان، لاثالث لهما:

أحدهما:

قومٌ يرون أن أمل هذه الأمـّة بأن تقوم بذاتها إلى عزّها، قد انتهى إلى غير رجعة، وانقضى فلم يعد فيه نبض لحياة، أوشعاع من نور،

ولا سبيل لنا إلا أن نقبل ابتلاع المشروع الأمريكي لنا، ونبحث عن زاوية مـا في سوقه، ونعترف أننا لسنا أمّة لها مقومات الأمـّة القادرة على النهوض حضاريا، وإنما غنمٌ ضائعة في ليلة شاتية، وجدت راعيها في المشروع الغربي الأمريكي، فهي فرصتها الوحيـدة!!

وجلّ هؤلاء،، إنما هم أذناب الهزيمة النفسية، وحثالة السقط الفكري، وأتباع كل ناعق من شياطين الغرب.

ومن هؤلاء (إسلاميون) احتالوا على أنفسهم بإقناع أنفسهم أن انطواءهم تحت هذا القسم هو عين الحكمة والمصلحة الشرعية، وأن الإسلام يمكن أن لايتعارض مع المشروع الأمريكي، وهرعوا إلى تزيين هذا الهوى المُردي، بزينة زائفة، من تحريف النصوص، وإنزال قواعد الشرع في غير منازلها.

قال الحق - سبحانه -: (أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَاء وَيَهْدِي مَن يَشَاء فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ * وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ * مَن كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُوْلَئِكَ هُوَ يَبُورُ)..

نعم،، الله - تعالى -الذي بيده الأمر كلّه، وإليه يرجع الأمر كلّه، علانيته وسره، الذي يرسل الرياح فيحيي الأرض الميتة بغيثه، هو الذي يرسل الهدى على القلوب، فتغدو عزيزة بالله - تعالى -، مرفوعة بالكلم الطيب والعمل الصالح، ويخزي الذين يمكرون السيئات لهذا الدين، ويبوءُ مكرهم بالخسران المبين.

وهذا القسم، المشروع الأمريكي فرحٌ بهم أيّما فرح، فهم جنوده، وأعوانه، وجسره الذي يمر عليه إلى أهدافه، كما فعل المشروع الإمبريالي الاستعماري السابق على أمتنا، تماما حذو القذة بالقذة.



والقسم الثاني:

الذين ألقي الله في روعهم، العزيمة الصادقة، المقرونة بالتضحية بكلّ شيء، على مناهضة هذا المشروع الغربي الأمريكي،

فمنهم من نفخت فيه عروبيّته نفخة الأنفة من الانقياد للأجنبي، فأخذته عزة العروق القحطانية أو العدنانية الممتلئة بإباء الأحرار، ولنعم العروق هي:

عروق الحرّ تنزعه لموت ** يعيش به حياة الخالدين

غير أن هؤلاء محبوسٌ عنهم النصر، مردودٌ أمرهم إلى الهزيمة، إنْ لم يأخذوا راية محمد - صلى الله عليه وسلم - باليمين، أخذ القويّ المستبين، ذلك أن قدر العروبة أن يُضرب عليها الذل إنْ لم تحمل رسالة قائد العرب والعجم إلى الهدى، سيد العرب والعجم والأولين والآخريــن، محمد - صلى الله عليه وسلم -.

لكنهم والله خيرٌ من الذين لم يعد فيهم من عزة الإسلام، ولا شيم العروبة مثقال ذرّة.

وهذه رسالة للذين اختاروا في شام الإسلام، وفسطاط عزته، دمشق المجد، الأبيّة على كل غازٍ مستكبـر، اختاروا طريق المواجهة مع المشروع الأمريكي ولنعم ما اختاروا، رسالة ناصح: أن يرجعوا إلى دينهم، ويتمسكوا بشريعة ربهم، ويكفُّوا عن الظلم والإسبتداد فهما المصرع، وهما في الحقيقة العدوّ الذي يصرع.

وليلتفّوا حول راية الجهاد الإسلامي المنقاد لله ولرسوله، وليتوبوا من مبادئ حزب البعث الضالة، ولينزعوا عنها إلى رشد الشريعة المحمدية الهادية المهديّة، فإنّ كلّ مبدأ يناقضها هو والله حلقة الضعف التي سترديهم، وبؤرة الهزيمة التي سيدخل منها الأعداء إليهــم،، ولينظروا إلى ما ضرب الله في العراق من مثل، فقد سقط شعار الجاهلية سريعا وتهاوى، وبقي شعار الإسلام براية العزة الخفاقة كل يوم يتعالى..

ومنهم الهداة، الذين هبُّوا حاملين لراية الإسلام المظفّرة، وشدّوا على خناصرهم بيعة الجهاد المحمّدي، باللسان والسنان، واستقرت في قلوبهم السكينة التي بها اطمأنوا إلى موعود الله، والبصيرة التي بها رأوا نصر الله، حتى رأوا بنور قلوبهم، هزيمة أعداء هذا الدين على أسوار الإسلام العظيم، كأنهم يرونها رأي العين.

وهؤلاء هم الذين جمعوا بين:

صحة التوحيد، ونور العلم بالوحي.

وسلامة القلب من الاغترار بالدنيا والركون إليها.

ومعرفة حقيقة الخطر الذي يهدد هذا الدين، وهذه الثالثة،

تتمثل في أمرين:

أحدهما: معرفة نفسية الغرب الإمبريالي الاستعماري، وأنها نفسية جبلت على الظلم والاغتصاب والعدوان،

ولا أخالني بحاجة إلى أن استشهد بالحروب الأوربية الأولى والثانية، التي ترجمت عقلية ونفسية الغرب الإمبريالي، ولن أستشهد بالاستعمار وما صنع في عالمنا من الجزائر إلى أندونيسيا، ولن أستشهد بما تفعله أمريكا وكلبها المدلل الكيان الصهيوني فينا من الأهوال، اليوم ومن قرن من الزمان،

ولا بمخازي غوانتنامو والسجون الأمريكية المنتشرة في العالم، ولا ببؤس المهاجرين العرب والأفارقة بأوربا، الذي فضح زهو باريس بتحضّرها المصطنع، فأسقط عنها ورقة التوت، وبدت سوءتها للعالم، وانكشف كـم فيها من ظلم، واضطهاد، ورقّ، وعنصرية دينية، وعرقية.

بل سأستشهد بشاهد من أهلها، وللشهادة قيمة أخــرى، لأنها تلقي الضوء على الأصل والمنبت الذي انطلق منه الاستعمار الغربي الإمبريالي، سابقا على كل محاولات التزييف الإعلامي الهائل الذي ينتشر في العالم اليوم، محاولا تجميل وجه الغرب القبيح:

نعم،، ما أروع والله كلمة ذلك المفكر الإنجليزي الشريف المستر جود في كتابه القيم Guide To Wickedness P.i91(إن حربا تشهر تحت إشراف عصبة الأمم ليست للعدل بين الأمم، يقوم بها شرطة العالم للأخذ على يد الظالم وعقاب المعتدي، ليست هذه الحرب إلاكفاحا بين الطوائف المتنافسة في القوة، الواحدة منها حريصة على المحافظة على القسط الأكبر من ثروة العالم ومواردها، والأخرى متهالكة على تحصيلها، إن مثل هذه الحروب لاتختلف عن حروب نشبت بين الطوائف المتنافسة في الماضي، ولا عن حروب النمسا وبروسيا، وعن حروب السنوات السبع، وعن حروب نابليون، وعن حرب 1914ـ 1918، لاتختلف هذه الحرب عن هذه الحروب إلا بالاسم، أما التذرّع بأن هذه الحروب، إنما نصبت للدفاع عن الديمقراطية وعن عصبة الأمم، وضد الفاشية والاعتداء، فلا يغير من الموقف شيئا)

عجبا والله، إنهــا إذاً الخدعة القديمة ذاتها، لازالت سارية المفعول، ولازالت تضحك على العقــول!!

غير أنهم جاؤوا هذه المرة فاحتلوا العراق بعد أن ضربوا عرض الحائط بهيئة الأمم،

ثم بعدما استولى اللصوص وقطاع الطرق، على الغنيمة بإهراق الدماء، وقتل الأبرياء، تنادوا إلى السلام، وبحثوا عمّن يحمّلونه جريمتهم (الإرهاب):

هل أقول: لله درك يا مستر جود إذ قلت واصفا الإنجليز بنفس النفسية والعقلية التي تنطبق على السياسة الأمريكية والغربية بصورة عامة: (الانجليز لاشك أمة سلمية، ولكن مسالمتهم مسالمة لص، اعتزل حرفته القديمة، وقد أحرز شرفا وجاها، بفضل غنائمه السابقة، وهو يبغض الذين يدخلون جديدا في حرفته القديمة، عنده فضول أموال وغنائم لايستهلكها، ولكنه يلقب الذين يريدون أن يساهموا في ذلك بهواة الحرب) ص 180

أم أقول: لله درك يا مستر جود إذ قلت بنفس الوصف الشامل: (إن الكبر ـ أكثر من الطمع ـ هو الذي يحمل الطبقة الحاكمة في بريطانيا، على إتباع خطط لاتتفق مع ما يتظاهرون به من حب الصلح والوئام، دع رجلا يقترح على ولاة الأمر في بريطانيا، أن يهجروا قيراطا من رمل من ممتلكاتها التي لاتغرب فيها الشمس، ومن أشدها قحولة وجدبا، تر المحافظين الأبطال في بريطانيا يقيمون العالم ويقعدونه سخطا وحنقا، وترى الصحافة الإنجليزية المعتدلة تتميـّز غيظا، إذا تعلم أن هؤلاء المحافظين ليسوا طماعين فقط، بل هم مستكبرون معاندون) ص 180

وكلامه هذا ينطبق على الأنظمة الظالمة المستبدة التي يريد الغرب اليوم أن يزيلها لينهب ما تحتها من الكنوز، غير أنه بعيد كل البعد عمّن التفوا تحت راية لا إله إلا الله محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، يبتغون ما عند الله، محتقرين حطام الدنيا الفانية، التي يتقاتل عليها عبّادها، يتساقطون فيها كما تتساقط الفراش في النار.

وصــدق،، الكبر والطمع بلا حدود، ولاشفقة، هما سمة السياسة الإمبريالية الغربية ـ وليس هذا حكم على كل شعوب الغرب ـ هذا هو تركيبهم النفسي، خصيصة إبليس نفسه، خصيصة الإنسان الكافر،

(فَاسْتَكْبَرُوا فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَـدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ).



الثاني:

معرفة حقيقة نواياه التفصيلية، وأنها في جملتها، ليست سوى نسخة جديدة، لحملة إمبريالية استعمارية جديدة، وضعت في صميم أهدافها، تحطيم منظومة القيم الإسلامية، لكن عبــر وضع قيم مزيفة بديلة، ظاهرها شعار الإسلام، وباطنها إطفاء نوره،

كما قال الحق - سبحانه -: (يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ * هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِّنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونوا أَنصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ فَآَمَنَت طَّائِفَةٌ مِّن بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَت طَّائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ).



إنها حرب القيم، فكونوا أنصار الله يا مسلمون، واحذروا:

(وَأَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَاحْذَرُواْ فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاَغُ الْمُبِينُ)

اللهم هذا البيان وعليك البلاغ، اللهم إني قد بلغت اللهم فاشهد.. حسبي الله ونعم الوكيل، نعم المولى

رد مع اقتباس
  #3  
قديم 18-10-2007, 08:37 PM
د.فالح العمره د.فالح العمره غير متصل
 
تاريخ التسجيل: Feb 2005
الدولة: في قلوب المحبين
المشاركات: 7,593
معدل تقييم المستوى: 27
د.فالح العمره is on a distinguished road
رد: دراسات في القيم

حرب القيم

كل أمة تستمد أخلاقها من قيمها، وتنبع القيم من عقيدتها..

وفساد الأخلاق يجعل الأمة على خطر عظيم، ولكن عندما يصل النخر إلى قيمها؛ فإنها تكون على شفا هاوية..

وقد كانت الحرب على الأمة الإسلامية في هذا المجال طيلة قرن كامل: حرباً أخلاقية، كان الناس يفسدون وينحرفون، ولكنهم في قرارة أنفسهم كانوا يشعرون بوخز الضمير الديني، كانوا يحسون أنهم يتجاوزون خطوطاً حمراء وثوابت عالية، لكن في العقدين الأخيرين حدثت تطورات خطرة؛ فقد تغير سمت الحرب وتغير اسمها، ولم يعد أعداء الأمة يرضون بانحراف الظاهر مع إنكار ـ ولو يسير ـ في المجتمع أو القلب، وفرق كبير بين مجتمع منحرف، ومجتمع إباحي، وفي إطار سعيهم إلى إعادة تشكيل المجتمعات الإسلامية، ونقلها من حالة الانحراف إلى حالة الإباحية؛ كانت حرب القيم..

فقد أصبحت القيم في وضع يُرثى له من الاختلال والاضطراب، خاصة مع تصادم الخطابين الإسلامي والعلماني، ويصف بعض المحللين الحالة الراهنة بـ مرحلة «تشويه الوعي»، وهذه الوضعية القيمية المختلة؛ يراد تطويرها للوصول بها إلى مرحلة «تغييب الوعي»، حيث تحل منظومة قيمية علمانية متكاملة محل المنظومة المختلة القائمة.. فهل يفلح كيدهم؟

رد مع اقتباس
  #4  
قديم 18-10-2007, 08:38 PM
د.فالح العمره د.فالح العمره غير متصل
 
تاريخ التسجيل: Feb 2005
الدولة: في قلوب المحبين
المشاركات: 7,593
معدل تقييم المستوى: 27
د.فالح العمره is on a distinguished road
رد: دراسات في القيم

سيماء المرأة في حرب القيم بين النفس والصورة

د. فـريد الأنصاري


◄ مقدمة:

السِّيمَاء والسِّيمِيَاء، بياء زائدة: لفظان مترادفان لمعنى واحد. وقد ورد ذلك في كتاب الله، لكن مقصوراً غير ممدود، أي بلا همز، هكـذا: (سِـيمَا). قال ـ تعالى ـ: {سِيمَاهُمْ فِي وُجُوههِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ} [الفتح: 29]. وقال ـ سبحانه ـ: {تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ} [البقرة: 273].

والسِّيمَاءُ في معاجم اللغة: هي العلامة، أو الرمز الدال على معنى مقصود؛ لربط تواصل ما. فهي إرسالية إشارية للتخاطب بين جهتين أو أكثر، فلا صدفة فيها ولا اعتباط(1).

واستعمالنا لهذا المصطلح في مجال القيم المتعلقة بالمرأة، والمتدافعة في معركة الحضارة؛ إنما هو لمحاولة الكشف عما ترمز إليه المرأة في الإسلام؛ نفساً وصورةً. وما تكون به أو لا تكون، في زمان (العولمة). فأما (نفساً) فباعتبارها (أنثى الإنسان) من الناحية الوجودية، وأما (صورةً) فباعتبارها هيأة خِلْقِيَّة، ذات تجليات مظهرية خاصة، وما حلاها ـ لذلك ـ الإسلام به من لباس، تتحقق إسلاميته بشروطه ومقاصده الشرعية.

وما معنى ذلك كله (النفس والصورة) من الناحية السيميائية، وما دلالته التعبيرية من الناحية التعبدية؟ إننا ننطلق من مبدأ قرآني عظيم: وهو أن لا شيء من موجودات هذا الكون الفسيح إلا له دلالة سيميائية، ومعنى رمزي لوجوده، وهو مسمى (حكمته) الخِلقية، قال ـ تعالى ـ: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ * لَوْ أَرَدْنَا أَن نَّتَّخِذَ لَهْوًا لاَّتَّخَذْنَاهُ مِن لَّدُنَّا إن كُنَّا فَاعِلِينَ * بَلْ نَقْذِفُ بِالْـحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ} [الأنبياء: 16 - 18]. فما خلق الله شيئاً، وما جعله، ولا شرعه؛ إلا لحكمة، هي مغزى وجوده، أو جَعْلِه، أو تشريعه. ومن هنا كان من أسماء الله الحسنى اسمه ـ تعالى ـ: (الحكيم). فهو ـ سبحانه ـ (حكيم) خَلْقاً وتشريعاً. فإرادته الخلقية التكوينية، وإرادته التشريعية التكليفية؛ كلتاهما لا تتصرف إلا بحكمة بالغة. فخَلْق الأنثى على هيئتها كان بإرادته التكوينية، وسترها ـ تكليفاً بحدود معلومة من اللباس ـ كان بإرادته التشريعية. وكل ذلك من حكمة الخالق ـ جل وعلا ـ، وجماع ذلك كله أنه سيماء ربانية لحكمة بالغة.

فكم هو شنيع خطأ فهم أولئك الذين يظنون أن مسألة اللباس في الإسلام مسألة شكلية! وأي شكل في الوجود لا يعبّر عن مضمون؛ بدءاً بأبسط الأشياء حتى أعقدها! ودونك العلوم والفلسفات والحضارات عبر التاريخ، فانظر!

إن منطلق البحث السيميائي في اللباس الإسلامي، ونتيجته أيضاً، كلاهما مرتبط بأصول العقيدة أساساً! سواء تعلق ذلك بالرجال أو بالنساء على السواء، لكن لكل منهما سيماؤه الخاصة. وغلط مَنْ يحصر ذلك في مجال التشريع فقط!

ومن هنا يتبين مدى الخطر الذي تؤدي إليه (حركة التعري) من تدمير عقدي للإسلام! كما سترى بحول الله. إن واقع الأمة اليوم، في هذا المقتل الجوهري على جانب من الخطر عظيم. فلقد رأينا أن قضية اللباس بما ترمز إليه من دلالات سيميائية؛ هي حرب حضارية تُشن على الإسلام؛ لتدمير مواقعه الوجدانية في بنية التدين الاجتماعي. إن ذلك يعني سحب البساط من تحت كل أشكال العمل الديني التجديدي في البلاد الإسلامية، وجعله يضرب في الفراغ سدى!

إن هذا الخطر الخلقي الداهم ليس له علاقة بتفسيق الشباب فقط، ولكنه مدمر لبنية التدين كلها! إنه استراتيجية عالمية خبيثة لغزو العالم الإسلامي على مستويات متعددة، واحتلال الوجدان الإنساني فيه، وتدمير شخصيته على المستويين النفسي والاجتماعي معاً! وذلك أخطر أنواع الاحتلال، وأشد وجوه الاستخراب!

وبناء على ما سبق؛ نقسم مقالنا هذا ـ كما هو عنوانه ـ إلى قسمين: الأول يتعلق بسيماء النفس، والثاني يتعلق بسيماء الصورة. وبيان ذلك هو كما يلي:

◄ القسم الأول: سيماء النفس لدى المرأة في الإسلام:

لقد انطلق الخطاب القرآني للمرأة من مبدأ الخطاب الكلي للإنسان، منذ كان خطاب الوجود الأول للنفس الإنسانية! وذلك قول الله ـ تعالى ـ: {وَإذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ ألَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ} [الأعراف: 172]، فكان هذا التكليف الكوني العجيب: {إنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْـجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإنسَانُ إنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولاً} [الأحزاب: 72].

لقد جاء هذا التكليف في سياق خطاب كوني، وُجِّهَ للسماوات والأرض وما بينهما، فتَصَدَّر الإنسان بما فطر عليه من مؤهلات؛ ليكون إمام العابدين لله الواحد القهار، وليكون ســيد السائرين إليه ـ تعالى ـ في الأرض وفي السماء. وليس بعيداً عن هذا القصد أمر الله ـ تعالى ـ ملائكته بالسجود لآدم، أول الخليقة من النفس الإنسانية، وهو يحمل في صلبه ذريته ذكراناً وإناثاً.

ومن هنا خاطب المولى ـ جل جلاله ـ المرأة في القرآن باعتبارها (عاملاً)، على سبيل التسوية المطلقة بين الرجل والمرأة في المسؤولية الوجودية من حمل الأمانة الكبرى، كما مر في قوله ـ تعالى ـ: {فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى بَعْضُكُم مِّنْ بَعْضٍ} [آل عمران: 195] .

وأما ما خالفت المرأة الرجل فيه من أحكام؛ فذلك راجع إلى الطبيعة التكاملية بين الذكورة والأنوثة، وليس إلى تنقيص خلقي تكويني في طبيعتها. فقد ينقص الرجل في شيء لتكمله المرأة، وقد تنقص المرأة في شيء ليكمله الرجل؛ سعياً لتكوين الحاجة الفطرية الطبيعية بينهما، ورغبة في دوام الالتقاء وضمان استمرار الحياة(2).

إن تشريع اللباس الإسلامي إنما كان ـ مذ كان ـ في هذا السياق الكوني العظيم، فليس فيه إذن شكليات وهامشيات، إنه جوهر من جواهر الحياة، وعمق من أعماق الوجود الإنساني في الخطاب القرآني! إنه سيماء لحمل أمانة الاستخلاف في الأرض، قال ـ عز وجـل ـ: {هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا} [هود: 61]. ومن ثَمَّ كان ذلك أول قصد إبليس بالتدمير والتخريب في المجتمع الإنساني الأول! فاقرأ وتدبر هذه الآية العجيبة! قال ـ تعالى ـ: {يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ * يَا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الْـجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْءَاتِهِمَا إنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ إنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ} [الأعراف: 26 - 27].

ذلك سر عجيب من أسرار اللباس في القرآن، فتدبر!

والمرأة إذ تكشف عن أطرافها، ومفاتنها الجسمانية بتسيب شهواني؛ فإنما معناه أنها تُبرز التمثال على حساب الطبيعة، وتمجد الفخار على حساب الروح! وتفر من تزيين حقيقة النفس إلى تزيين غلافها الخارجي فقط! فتخرج عن طبيعة الوجود البشري الذي قام على المفهوم النفسي في القرآن كما تبين، وتتنصل عن ماهيتها الوجودية ووظيفتها الكونية.

◄ القيم التربوية لسيماء النفس لدى المرأة:

تقوم سيماء النفس لدى المرأة في الإسلام على ثلاث قيم رئيسة، ذات أبعاد جمالية خاصة، هي من لطائف الأنثى خِلْقَةً، ومن أسرارها العميقة. وهي كما يلي:

◄ أولاً: قيم جمالية الأنوثة:

الأنوثة هي سر الجاذبية الخِلْقية في المرأة. والأنوثة في الإسلام مفهوم تكاملي؛ ومن هنا كانت جماليته؛ أي أن به يُحَصِّل الرجل كمالَه، من حيث هو جنس بشري، وبدونه فهو ناقص أبداً. وكذلك المرأة في المقابل لا تكون إلا بالرجولة التي على الرجل أن يحفظها ويرعاها لها! و (الجمالية التكاملية) هي المذكورة في قوله ـ تعالى ـ: {هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ} [البقرة: 187]؛ ومن هنا وجدنا الإسلام ينهى بشدة عن (تَرَجُّلِ المرأة) أي تشبهها بالرجل؛ لما فيه من فقدان الهوية الفطرية للتكاملية الإنسانية، ثم لما فيه من إخلال بالتوازن الجنسي، والجمالي في الخلق. فالأنوثة حقيقة وجودية ضرورية لاستمرار النسل من ناحية، وضرورة وجودية للشعور بمعنى الحياة لدى الجنسين؛ بما يكون من إنتاج للوظيفة البشرية في بناء الأسرة. ومن ثَمَّ؛ من وظيفة عمرانية في قيام الحضارات، واستمرار التاريخ إلى ما شاء الله. فكان الترجل النسوي لذلك تهديداً للوجود الإنساني وخرماً لتوازنه!

وقد وردت أحاديث عن الرسول الأكرم -صلى الله عليه وسلم- في هذا الخصوص؛ من مثل قوله -صلى الله عليه وسلم-: «ثلاثة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة: العاق لوالديه، والمرأة المُتَرَجِّلَةُ ـ المتشبهة بالرجال ـ، والدَّيُّوثُ! وثلاثة لا يدخلون الجنة: العاق لوالديه، والمدمن الخمر، والمنان بما أعطى»(3). ومثله قوله -صلى الله عليه وسلم-: «ثلاثة لا يدخلون الجنة أبداً: الدَّيُّوثُ، والرَّجُلَةُ من النساء، ومدمن الخمر»(4). وعن عائشة ـ رضي الله عنها ـ أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: «لعن الله الرَّجُلَةَ من النساء!»(5).

والترجل في المرأة قد يكون شكلياً كما باللباس، أو طريقة الكلام، أو المشي، أو نحو ذلك من الشكليات الظاهرة، وقد يكون بدنياً بتغيير خلق الله في نفسها، بالجراحات الطبية المحرمة التي تؤثر في طبيعتها الأنثوية، ووظيفتها الوجودية. وكل ذلك حرام بنص الأحاديث ومقاصد الشريعة. ومن هنا حرم الإسلام حتى مجرد التشبه بالرجل بله الترجل، كما حرم على الرجل التشبه بالنساء سواء! وذلك كما في قوله ـ عليه الصلاة والسلام ـ: «لَعَنَ اللهُ المتشبهات من النساء بالرجال، والمتشبهين من الرجال بالنساء!»(6).

وقال في خصوص التشبه في اللباس: «لعن الله الرجلَ يلبس لبسةَ المرأة، والمرأةَ تلبس لبسةَ الرجل»(7). فالأنوثة إذن؛ مقصد إسلامي وجودي وتشريعي، وكل خَرْم له هو خَرْم لحقيقة التدين ولحقيقة الحياة.

◄ ثانياً: قيم جمالية الحياء والتخفي:

الحياء ضد الفحش والتفحش، وضد البَذَاء، وجمالية الحياء هي من المقتضيات الفطرية للأنوثة، والحياء بطبيعته يميل إلى التخفي؛ لأن به يحفظ وجوده في النفس وفي المجتمع. إن الحياء كالزئبق، بمجرد ما ترفع عنه الغطاء يطير في الهواء ويتلاشى! ومن هنا كان لا حياء مع العري، وكان لا حياء مع البروز الفاضح. التخفي سر بقاء الحياء، والحياء سر بقاء الجمال! وإنما جمال الوردة ما لم تقطف! فإذا قطفت فركتها الأيدي ففقدت بهاءها، فلا جمال بعد! ومن هنا كانت الوردة الأجمل هي تلك المحصنة بين خضرة الأوراق وتيجان الأشواك!

والحياء عموماً مبدأ إسلامي كلي، عام في كل شيء، سواء كان في الأقوال، أو في الأفعال، أو في الألبسة، أو في التصرفات وسائر الحركات. وهو معنى قول النبي -صلى الله عليه وسلم- الجامع المانع: «ما كان الفحش في شيء قط إلا شَانَه، ولا كان الحياء في شيء قط إلا زَانَه»(8). كما أنه كان عاماً في كل إنسان، من حيث هو مسلم يحمل عقيدة معينة، وانتماء حضارياً متميزاً. ولذلك قرنه النبي -صلى الله عليه وسلم- بالإيمان في قوله: «إن الحياء والإيمان قُرِنَا جميعاً، فإذا رفع أحدهما رفع الآخر»(9)، ومثله قوله -صلى الله عليه وسلم-: «الحياء من الإيمان، والإيمان في الجنة، والبَذَاءُ من الجفاء، والجفاء في النار»(10).

ثم جعله بعد ذلك سلوكاً يومياً، وتعبداً عملياً، وربطه بالله جل وعلا؛ معرفةً بجلال وجهه، وعظمة سلطانه، وجمال إنعامه، فقال -صلى الله عليه وسلم-: «استحيوا من الله ـ تعالى ـ حق الحياء! من استحيا من الله حق الحياء؛ فليحفظ الرأس وما وعى، وليحفظ البطن وما حوى، وليذكر الموت والبِلَى! ومن أراد الآخرة ترك زينة الحياة الدنيا. فمن فعل ذلك فقد استحيا من الله حق الحياء!»(11).

لقد قصدت بإيراد هذه النصوص أن أبين أن الحياء مقصد من أهم المقاصد الشرعية التي تداني ما سطره العلماء في مقاصد الشريعة. وتَتَبُّعُ هذا المعنى بالمنهج الاستقرائي في النصوص الشرعية؛ يجعل منه كلياً من أهم الكليات الخلقية في الإسلام.

ذلك ما يتعلق بالحياء مطلقاً في الإسلام؛ أعني من حيث هو خُلُقٌ إسلامي عام في الرجال والنساء على السواء، وإن كان وجوده في المرأة أجلى وأبين وأجمل.

إلا أن المرأة في الشريعة الإسلامية اختصت منه بلطائف ومعان وأحكام ليست على الرجل، ضبطاً وتشريعاً. فكثيرة هي الأعمال التي أنيطت بالمرأة دون الرجل؛ رعياً لمقصد الحياء! فكل ما أوجب عليها التستر الجسمي أو الحركي أو الصوتي؛ فهو راجع إلى هذا المعنى.

فأما التستر الجسمي فهو ما فرض الله عليها من اللباس الإسلامي، في محكم القرآن العظيم، من قوله ـ تعالى ـ: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْـمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا} [الأحزاب: 59]، وما فصّلته السنة النبوية في ذلك، من جزئيات بيانية توضيحية، من مثل قوله -صلى الله عليه وسلم-: «ما من امرأة تخلع ثيابها في غير بيتها إلا هتكت ما بينها وبين الله»(12). ومثله قوله -صلى الله عليه وسلم-: «أيما امرأة نزعت ثيابها في غير بيتها خرق الله ـ عز وجل ـ عنها ستره»(13).

وأما التستر الحركي فهو ما فرضه الله عليها من الاتزان في المشي وفي الصلاة، وما حرمه عليها من التغنج في الشوارع، والأماكن التي يغشاها الرجال، قال ـ تعالى ـ: {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ} [النور: 31]، ومنعها من إمامة الرجال في الصلاة؛ لما فيه من كشف لحركة جسمها ومفاتنه عند الركوع والسجود! ونحو ذلك في الشريعة كثير.

وأما التستر الصوتي فهو متعلق بتلحين أنغامها الصوتية خاصة، وما في معناه من تغنج صوتي، وليس متعلقاً بمطلق الصوت طبعاً! وذلك كمنعها من الأذان، وتجويد القرآن بمحضر الرجال الأجانب عنها. ومن باب أولى وأحرى منعها من الغناء للرجال، وتلحين الصوت عند الكلام العام؛ قصد التأثير الجنسي على الرجل من غير الزوج! وذلك كله إنما هو مقدمات الزنى. ويجمع هذه المعاني قول الله ـ تعالى ـ الصريح: {فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَّعْروفًا} [الأحزاب: 32].

كل ذلك إنما كان رعياً لجمالية الحياء الأنثوية في المرأة، وحفظاً لفطرتها النفسية ولطائفها الوجدانية، وحمايتها من التسيب الخلقي الذي هو باب كل شر!

وعليه؛ فقد كان التخفي في الإسلام مطلباً تعبدياً للمرأة في كل شيء؛ حتى في صلاتها! وبهذا المنطق يجب فهم حديث النبي -صلى الله عليه وسلم- الذي جعل صلاتها في بيتها أفضل ـ في الأجر والمثوبة ـ من صلاتها في المسجد، على عكس ما سنَّه للرجل تماماً. وذلك قوله -صلى الله عليه وسلم- في الحديث الصحيح: «صلاة المرأة في بيتها أفضل من صلاتها في حجرتها، وصلاتها في مخدعها أفضل من صلاتها في بيتها!»(14) وأوضح منه قوله -صلى الله عليه وسلم-: «لأن تصلي المرأة في بيتها خير لها من أن تصلي في حجرتها، ولأن تصلي في حجرتها خير لها من أن تصلي في الدار، ولأن تصلي في الدار خير لها من أن تصلي في المسجد»(15).

وعن أم حميد امرأة أبي حميد الساعدي؛ أنها جاءت النبي -صلى الله عليه وسلم- فقالت: يا رسول الله، إني أحب الصلاة معك. قال: «قد علمت أنك تحبين الصلاة معي، وصلاتك في بيتك خير من صلاتك في حجرتك، وصلاتك في حجرتك خير من صلاتك في دارك، وصلاتك في دارك خير من صلاتك في مسجد قومك، وصلاتك في مسجد قومك خير من صلاتك في مسجدي!»، فأَمَرَتْ؛ فَبُنِيَ لها مسجد في أقصى بيتها وأظلمه، فكانت تصلي فيه حتى لقيت الله عز وجل(16).

كل هذا التخفي في العادات والعبادات؛ إنما هو لحفظ جمالية الحياء. ذلك المقصد الذي يشكل سراً من أسرار الجمال في الأنثى!

وبهذه النصوص والمقاصد؛ يدرك المتبصر مقدار المخالفة الشرعية، في جمالية الحياء والتخفي، بين مثال المرأة المسلمة وبين حالها في واقعها المعاصر! فانظر ـ رحمك الله ـ كم هي بذيئة حالة الاستعراض التي تمارسها المرأة اليوم على الملأ، في الشوارع والأماكن العامة، تقليداً لعادات اليهود والنصارى! بل لقد وصل الجهل بمثل هـذه الحقائـق إلى أن صـار كثير ممـن ينتسبن إلى التدين والعفاف؛ لا يجدن حرجاً في الخروج مع أزواجهن، مشياً على هيأة من التغنج الفاضح، والتلاصق المخجل! خاصة الأزواج الحديثي العهد بالزواج. وكأن كونهما مرتبطين بعَقد شرعي كاف لتسويغ حالة الاستهتار الخلقي التي يمارسانها على الملأ، من التخاصر والتمايل. فما بالك بمن دونهما من الساقطين والساقطات! لقد فقد الناس الإحساس بالحياء! وفسدت أذواقهم إلا قليلاً!

◄ ثالثاً: قيم جمالية الأمومة:

الأمومة في الإسلام مفهوم خاص، وكذلك سائر مفاهيم الأسرة، كالأبوة، والبنوة، والعمومة والخؤولة... إلخ.

يخطئ من يظن أن تلك المصطلحات كما وردت في النصوص الشرعية، من كتاب وسنة، هي بالمعنى البيولوجي التناسلي فقط! كلا! إنها مفهومات تعبدية! فالأبوة بالمعنى الجنسي، أو الأمومة بالمعنى التناسلي؛ كلاهما مفهوم بيولوجي له دلالة جنسية، يشترك فيها بالتساوي الإنسان مع سائر البهائم، والحيوانات الأهلية والوحشية!

إن المفهومات الأسرية في الإسلام لها دلالة متفرعة عن مفهوم (الرَّحِم) بمعناه الإسلامي. و (الرحم) مصطلح قرآني أصيل، مشتق من (الرحمة)، يدل على معنى ديني مقدس في الإسلام، وهو الرابطة التعبدية التي تربط الناس فيما بينهم؛ بعلاقات تناسلية مبنية على مبادئ الشريعة، فلا يدخلها من الفروع والأصول إلا من كان نتاج عقد شرعي كامل!

ومن هنا فقَدَ الزاني مفهومَ (الأبوة) لما وُلِدَ له في الحرام؛ فلم يكن (أباً) بهذا الاعتبار! ولذلك لم يَجُزْ أن يلحق ابن الزنى بأبيه البيولوجي في أي شيء؛ نسباً وإرثاً! لأن الأب في الإسلام إنما هو من كان له ولد شرعي من عقد شرعي.

والأصل في ذلك أن الله ـ تعالى ـ جعل الرحم التي هي رابطة الأسرة في الإسلام؛ مَعْنىً تعبدياً لا يجوز انتهاكه بتغيير أو تبديل، ولا بقطع صلة؛ أي قطع العلاقات بين الفروع والأصول، رأسياً أو أفقياً. بل جعل صلتها عملاً تعبدياً كسائر العبادات الأخروية المقرِّبة إلى الله تعالى. وجعل رتبتها التعبدية مقرونة في القرآن بتقـوى الله ذاته جل وعلا. وذلك قوله ـ سبحانه ـ: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء: 1].

وقال النبي -صلى الله عليه وسلم- فيما يرويه عن ربه في الحديث القدسي: «قال الله تعالى: أنا خلقتُ الرحمَ وشققتُ لها اسماً من اسمي، فمن وصلها وصلتُه، ومن قطعها قطعتُه، ومن بتَّهَا بتَتُّه!»(17)، ومثله قوله ـ عليه الصلاة والسلام ـ: «الرَّحِمُ شُجْنَةٌ من الرحمن. قال الله: من وصلك وصلتُه، ومن قطعك قطعتُه!»(18)، والشُّجْنَةُ هنا: القرابة المشتبكة كاشتباك العروق والأغصان. وفي صحيح مسلم أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «الرحم معلّقة بالعرش تقول: من وصلني وصله الله، ومن قطعني قطعه الله!»(19)، فتجاوز مفهوم (الرحم) أن يكون مجرد غشاء من اللحم في بطن المرأة لحمل الجنين، بل تعدى هذا المفهوم للدلالة على العلاقة التعبدية بين أفراد الأسرة من الأصول والفروع رأسياً وأفقياً. وهذا سـر القوة والصمود في بقـاء الأسـرة ـ بالمعنى الإسلامي ـ عبر التاريخ، رغم كل أشكال التذويب الثقافي الذي تعرض له المسلمون في كل مكان!

إن الرحم نفسها بالمعنى البيولوجي، أي الغشاء الجنيني، هي راجعة في الاشتقاق اللغوي إلى معنى (الرحمة)؛ لما تتسم به الأم من هذا المعنى العظيم كلما حملت؛ فكانت لذلك مورد العطف والحنان! وإنما الرحمة مـن الله الرحمن الرحيم. هو ـ جل وعلا ـ يخلق ما يشاء كما يشاء.

وللدكتور عبد الوهاب المسيري تحليل دقيق للحركة النسوية في العالم العربي، يرجع به في نهاية المطاف إلى فضح الرغبة الغربية في تدمير نظام الأسرة الإسلامي؛ لما ذكرنا من اعتبارات، يقول: «والعالم الغربي الذي ساند الدولة الصهيونية ـ التي تحاول تفكيك العالم العربي والإسلامي سياسياً وحضارياً ـ يساند بنفس القوة حركات التمركز حول الأنثى في بلادنا... فالعالم الغربي الذي أخفق في عملية المواجهة العسكرية المباشرة مع العالم الثالث، اكتشف أن هذه المواجهة مكلفة وطويلة، ولا طاقة له بها؛ ومن ثم فالتفكيك هو البديل العملي الوحيد.

كما أدرك العالم الغربي أن نجاح مجتمعات العالم الثالث في مقاومته يعود إلى تماسكها، والذي يعود بدوره إلى وجود بناء أسري قوي، لا يزال قادراً على توصيل المنظومات القيمية، والخصوصيات القومية إلى أبناء المجتمع؛ ومن ثم يمكنهم الاحتفاظ بذاكرتهم التاريخية، وبوعيهم بثقافتهم وهويتهم وقيمهم ...

وإذا كانت الأسرة هي اللبنة الأساسية في المجتمع؛ فإن الأم هي اللبنة الأساسية في الأسرة؛ ومن هنا تركيز النظام العالمي الجديد على قضايا الأنثى! فالخطاب المتمركز حول الأنثى هو خطاب تفكيكي ...، وهو خطاب يهدف إلى توليد القلق، والضيق والملل، وعدم الطمأنينة في نفس المرأة، عن طريق إعادة تعريفها! بحيث لا يمكن أن تتحقق هويتُها إلا خارج إطار الأسرة! وإذا انسحبت المرأة من الأسرة تآكلت الأسرة وتهاوت! وتهاوى معها أهم الحصون ضد التغلغل الاستعماري والهيمنة الغربية!»(20).

ومن ثَمَّ حازت الأم في الشبكة الأسرية موقعاً مركزياً، لا يدانيها فيه أحد، ولذلك قال الله ـ تبارك وتعالى ـ في القرآن العظيم: {وَوَصَّيْنَا الإنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إلَيَّ الْـمَصِيرُ} [لقمان: 14]، فهو وإن وصى الإنسان بوالديه معاً؛ إلا أنه خص الأم بذكر وظيفتها البيولوجية والنفسية والتربوية؛ فكان لها بذلك خصوص تمييز، لا يلحقه الأب. وهو صريح قول النبي -صلى الله عليه وسلم- الذي رواه أبو هـريرة ـ رضي الله عنه ـ قال: «جاء رجل إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله، من أحق الناس بحسن صحابتي؟ قال: أمك. قال: ثم من؟ قال: ثم أمك. قال: ثم من؟ قال: ثم أمك. قال: ثم من؟ قال: ثم أبوك»(21).

ومن هنا كان للأمومة جمالية خاصة في الإسلام، تتحقق على المستوى التربوي في تنشئة الفتاة، وإعدادها النفسي؛ لتملأ الوجدان الاجتماعي كله بالحب والحنان؛ مما يرسي نوعاً من التوازن السيكولوجي في الأجيال، ويقوي النسيج الاجتماعي للأمة.

◄ القسم الثاني: المرأة وسيماء الصورة في حرب القيم:

ونعني بسيماء الصورة هنا صورة الجسم، فكل الأحكام الشرعية الواردة في الكتاب والسنة، المتعلقة بلباس المرأة؛ إنما هي راجعة إلى الأصل الأول المبين في الفصل الأول، أي سيماء النفس، فوجب أن تكون الصورة خادمة للنفس وليس العكس، كما هي فلسفة الحضارة المادية في الغرب اليوم!

◄ الصورة سيماء حضارية:

يخطئ الذين يظنون أن الصورة ـ بما تحمله من ألبسة وعلامات ـ محايدة لا انتماء لها. بل هي رمز خطير من أهم رموز الانتماء الحضاري! إنها تعبر عن تصور ما للحياة والوجود والمصير بصورة واعية، أو غير واعية.

إن العري في الغرب اليوم، عري الرجل والمرأة كليهما، صورة تعبر عن فلسفة حضارية! فأوروبا وسليلتاها: أمريكا وأستراليا، تختزن مضموناً وثنياً قديماً، يرجع إلى العهد اليوناني القديم. لقد انهزمت المسيحية يوم تبناها قسطنطين إمبراطور روما، فانتقلت من الشرق مهدها الأول إلى الغرب؛ ذلك أن الغرب لم يستطع أن يتخلص من فكره الوثني القديم. فبدل أن تتمسح أوروبا توثنت المسيحية! أو بدل أن (تتنصر روما ترومت النصرانية) كما قال بعض مؤرخي الملل والنحل من المسلمين. وهذه أعظم مصيبة في تاريخ الديانة المسيحية! لقد فقدت طبيعتها الروحية إلى الأبد! قال ابن كثير ـ رحمه الله ـ: «ثم نبغ لهم ملك من ملوك اليونان يقال له (قسطنطين)، فدخل في دين النصرانية. قيل: حيلة؛ ليفسده، فإنه كان فيلسوفاً، وقيل: جهلاً منه، إلا أنه بدَّل لهم دين المسيح وحرَّفه، وزاد فيه ونقص منه، ووضعت له القوانين والأمانة الكبرى التي هي الخيانة الحقيرة، وأحل في زمانه لحم الخنزير، وصلوا له إلى المشرق، وصوروا له الكنائس والمعابد والصوامع، وزاد في صيامهم عشرة أيام؛ من أجل ذنب ارتكبه فيما يزعمون، وصار دين المسيح (دين قسطنطين)!»(22).

إن الفنان اليوناني القديم الذي لا يجد حرجاً في رسم أو نحت الصورة عارية تماماً، مع العناية الشديدة في نقش الأعضاء التناسلية للرجل والمرأة، في التماثيل والصور؛ إنما يستجيب لطبيعة الفلسفة الإغريقية القديمة. فكل ذلك له دلالة التفسير المادي للحياة، والتصوير الغرائزي للإنسان! وهو حس وثني غليظ، بمقتضاه عبد الإنسان الشهوات السلطانية والمالية والجنسية، سواء في عهد الفراعنة في مصر، أو في عهد اليونان القديم، حيث الآلهة هي مرجع التفكير، والاعتقاد الفلسفي والاجتماعي لدى الإنسان. ولذلك كان العهر جزءاً من فلسفة اليونان، وجزءاً من قيمهم الدينية. وقد فصّل العلامة المودودي في كتابه (الحجاب) هذا المعنى بما يكفي، لكنا نقتطف منه قوله ـ رحمه الله ـ: «وتبدلت مقاييس الأخلاق عندهم، إلى حد جعل كبار فلاسفتهم، وعلماء الأخلاق عندهم؛ لا يرون في الزنى وارتكاب الفحشاء غضاضة، يلام المرء عليها ويعاب!... وانتشرت فيهم عبادة أفروديت «Aphrodite» التي كان من قصتها عندهم في الأساطير «Mythology» أنها خادنت ثلاثة آلهة، مع كونها زوجة إله خاص! وأيضاً كان من أخدانها رجل من عامة البشر، علاوة على تلك الآلهة. ومن بطنها تولد كيوبيد «Kupid» إله الحب! نتيجة اتصالها بذلك الخدن البشري!»(23).

إن هذا المضمون ـ مع الأسف ـ لم تستطع المسيحية في أوروبا أن تقضي عليه، وإنما تكيفت معه وتبنته؛ استجابة لمحاباة الإمبراطور من جهة، واستجابة للعرقية الغربية اليونانية القديمة من جهة أخرى. ولكن الذي حدث هو تحول الأوثان من صورة إلى صورة! فبدل أن تصور الآلهة اليونانية شرعت في تصوير الآلهة المسيحية! فظهرت صورة العــذراء وصـورة المــسيح عليه الســلام ـ زعموا ـ وصور القديسين! وأثقلت بها الكنائس في كل مكان! وصار للمسيحية تجل وثني مع الأسف! هو الذي تطور ليعري الصورة البشرية الحية في الغرب اليوم كاملة! فتوجهت العقلية الغربية إلى التعري في كل مجالات الحياة! ومن هنا شهد الغرب ثقافة العري التي طبعت أدبه وفنونه، ومن ثم صدرها إلينا مع المثقف العربي المصنوع على النمط الأوروبي!

ولذلك فليس عبثاً أن يتجه الفن الإسلامي في العمارة إلى التجريد بدل التجسيد! من خلال اعتماد الخط العربي في الزخرفة والتعبير، والأشكال الهندسية الانحنائية، المتكاتفة والمتعاطفة، نقوشاً وأسواراً وأزقة، كتعاطف المصلين في الصف خلف الإمام. ثم الأشكال التجريدية في الأعمال من صيام وقيام. كل ذلك لأن التجريد هو الفضاء الأقدر على التعبير عن عقيدة التوحيد.

إن حركة العري الجنسية في الغرب اليوم ما هي إلا امتداد طبيعي للانتماء الحضاري اليوناني القديم! فهي تحمل في طياتها تقديس الشهوات، وعبادة الملذات. وبذلك صار للجسم/الصورة سلطة كبيرة في بناء التصورات وصناعة القرارت، في السياسة والتجارة والإعلام! وتلك هي الوثنية في صورتها الجديدة!

◄ الصورة سيماء إعلامية تجارية:

وبهذه الخلفية الحضارية وُظِّفَتْ صورة المرأة، كاسية أو عارية، في الثقافية الإعلامية الغربية، فكانت بذلك رمزًا لترويج السلع والبضائع، والمنتوجات المختلفة، من خلال أبعاد صورتها الجسمانية، وما يتداعى عنها من غرائز جنسية، تستدعيها في نفسية المشاهد والمتلقي؛ ليكون بعد ذلك أحد المستهلكين للبضاعة التي مرت إلى عقله عبر قناة الجسد، جسد المرأة المشتهى!

إن هناك شيئاً يمكن تسميته بعلم النفس التجـاري! لكنه (علم) ـ إن صحت العبارة ـ نشأ في بلاد لا تعرف معنى لمفهوم الحرام! بل إنما تفتقت عنه عبقرية الشيطان اليهودي أساساً؛ ولذلك فقد جاء يحمل كل خصائص الرأسمالية المتوحشة. فصار صناعةً تستغل كل شيء، وتضحي بأي شيء: الدين والأخلاق والأعراض والقيم الإنسانية جملة؛ من أجل الوصول إلى غاية واحدة: هي الربح! فكان أن وظف السيمياء الأكثر تأثيراً في نفسية المستهلك الشهواني، وهي: جسد الأنثى، في صورته الجنسية!

فكانت هذه الصورة ـ مع الأسف ـ هي القناة الإشهارية الأولى، لكل البضاعة العالمية، من السيارة حتى الحذاء! ولم تعد صورة المرأة في الواقع النفسي التجاري العالمي؛ تتجاوز معنى مـومياء البلاستيك المعدة لعرض الأزياء على قارعة الطريق!

والصورة سيماء سياسية: وبنجاح السيماء التجارية في استغلال جسد المرأة بأبعاده الجنسية؛ انتقلت العدوى إلى مجال التدافع السياسي الصرف خاصة في الوطن العربي والإسلامي اليوم، حيث توظف الصورة العارية من خلال الأدب، والثقافة، والفن السينمائي، والمسرحي، والألبوم الغنائي، والموديل الفتوغرافي، وموضة الشارع المتحركة، حتى نمط العمل الإداري! كل ذلك لتدمير بنية التدين في المجتمعات الإسلامية، هذه البنية التي تعتبر خميرة ما يسمى (بالإسلام السياسي) باصطلاح أعدائه، أو (الصحوة الإسلامية)، أو (حركة تجديد الدين)، باصطلاح أبنائه. لقد استُغل السلاح النسوي استغلالاً خطراً، في إعادة صياغة الأسرة؛ وفق المقياس الأوروبي وقيمه الحضارية، ونقض أصول بناء الأسرة في القرآن بالتدريج. كل ذلك يحصل اليوم من خلال وسائل من أخطرها التطبيع على تداول الصورة العارية كموضة متحركة في بنية المجتمع العربي والإسلامي!(24)

◄ والصورة سيماء قرآنية:

ومن هنا لم تكن عناية الإسلام بالصورة الجسمية فارغة من أي مضمون، أو مجرد شكليات، وجودها كعدمها، كلا! بل هي أيضاً تعبر عن انتماء حضاري، وموقف عقدي، ورؤية وجودية. إنها عمق مذهبي، والتزام ديني(25). ولذلك فليس عبثاً أن تجد القرآن نفسه وهو أعظم مصدر ديني في الإسلام ينص على قواعد اللباس، وقواعد التصرف الصوري (نسبة إلى الصورة)، على سبيل الإلزام حيناً، وعلى سبيل الإرشاد حيناً آخر.

إن رمزية اللباس في الإسلام تنطلق مرجعيتها من قصة خلق آدم وزوجه حواء ـ عليهما السلام ـ، حيث كان لباس الجنة رمزاً للرضا الإلهي، وبمجرد ارتكابهما للخطيئة تحول ذلك إلى عري! فالعري هو رمز التمرد على الخالق. إنه إذن رمز الشيطان! قال ـ عز وجل ـ: {فَقُلْنَا يَا آدَمُ إنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَّكَ وَلِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْـجَنَّةِ فَتَشْقَى * إنَّ لَكَ أَلاَّ تَجُوعَ فِيهَا وَلا تَعْرَى * وَأَنَّكَ لا تَظْمَأُ فِيهَا وَلا تَضْحَى * فَوَسْوَسَ إلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْـخُلْدِ وَمُلْكٍ لاَّ يَبْلَى * فَأَكَلا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْءَاتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْـجَنَّةِ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى * ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى} [طه: 117 - 122]. إن هذه الآيات تلخص قصة اللباس كيف بدأ في تاريخ الإنسان وفي تاريخ الدين كله. فآدم وزوجه ـ عليهما السلام ـ كانا على تمام النعمة في الجنة، أَكْلاً وشُرْباً ولباساً. فقوله ـ تعالى ـ: {وَلا تَعْرَى}؛ دال على أنه ـ عليه السلام ـ كان يتمتع بلباس الجنة هو وزوجه. قال القرطبي في تفسير هذه الآيات: «فأعلمه أن له في الجنة هذا كله: الكسوة والطعام والشراب والمسكن»(26). وقال ابن كثير في تفسير قوله ـ تعالى ـ: {إنَّ لَكَ أَلاَّ تَجُوعَ فِيهَا وَلا تَعْرَى}: «إنما قرن بين الجوع والعري؛ لأن الجوع ذل الباطن، والعري ذل الظاهر»(27). وقوله: {وَلا تَضْحَى}؛ أي لا تتعرض لحر الشمس. فهو في ظلالها وجمالها.

فصرح القرآن العظيم بعلة وسوسة الشيطان لآدم وزوجه؛ أنها الرغبة في تعريتهما التعرية التامة! حتى تظهر لهما سوءاتهما، فيريان ذلك من أنفسهما معاً! وليس أبعد في المنكر والخزي من أن يتعرى الإنسان، ويكشف عن عورته على ملأ الناس! إذن تمسخ طبيعته التي فطر عليها، من رتبة الإنسانية إلى دَرَك البهَمِيَّة، كما هي معظم شوارع هذا الزمان وتلفزيوناته! صحيح أن آدم وزوجه إنما كانا وحيدين في جنسهما آنذاك؛ إذ هما أول الخلق البشري. ولكن قصة آدم إنما كانت لوضع أصول التربية الفطرية للإنسان، والعهد إليه بميثاقها.

فالشيطان سعى قصداً إلى نقض هذه المقاصد، وتعرية الإنسان وتطبيعه على التعري، وخرق الحياء كقيمة إنسانية. ولذلك قال ـ عز وجل ـ في سورة الأعراف مبيناً: {فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِن سَوْءَاتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إلاَّ أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْـخَالِدِينَ *وَقَاسَمَهُمَا إنِّي لَكُمَا لَـمِنَ النَّاصِحِينَ * فَدَلاَّهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْءَاتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْـجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُل لَّكُمَا إنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُّبِينٌ} [الأعراف: 20 - 22].

ومن هنا كانت الآية البصيرة ـ وكل آيات القرآن بصائر ـ الآية التي تحكم منطق اللباس في الإسلام، وتوجهه، وتمنحه مضمونه المقاصدي بالشمول الكلي، تحيل تعليل فطرة اللباس وطبيعته الإسلامية على قصة آدم نفسها، لكن بوضوح أبين، ودلالة أقوى، وهي قوله ـ تعالى ـ: {يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ * يَا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الْـجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْءَاتِهِمَا إنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ إنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ} [الأعراف: 26 - 27].

والذي نفسي بيده! لو تدبرت النساء اليوم هذه الآية وحدها لكفتهن! ولكن أكثرهن ـ مع الأسف ـ عَمْياوَاتُ القلوب، {فَإنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج: 46].

ومن جمالية التعبير القرآني بهذه الآية البصيرة؛ أنه ـ تعالى ـ ذَكَر لباس الثياب، ثم كنَّى عنه بالريش؛ وذلك لما للطائر من جمال؛ إذ ينطلق بريشه محلقاً في الفضاء، أو مستقراً على الشجر، أو ماشياً على الأرض. وما أتعسه من طير فَقَدَ ريشه! أو نتفه مَنْ يعذبه به! ألا ذلك هو العذاب الأليم! وقرن ـ تعالى ـ هذا كله بلباس التقوى، وإنما القصد (بلباس التقوى) صلاح النفس، لا اللباس المادي الظاهر، ولكنه هنا سيق ليكون هو غاية اللباس المادي في الإسلام، والمقصد الأساس من تشريعه، فإنما اللباس ما عبَّر عن ورع صاحبه وتقواه؛ ذكراً كان أم أنثى.

ومن ثَمَّ كان العهد الذي أخذه الله على الإنسان بعدم عبادة الشيطان؛ يعود بنا إلى قصة العري والعصيان الآدمي، وذلك قول الله ـ جل جلاله ـ: {أَلَمْ أَعْهَدْ إلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لاَّ تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ * وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ} [يس: 60 - 61]. فكان الالتزام باللباس نوعاً من الوفاء العَقَدي لعهد الله وعدم الإشراك به، كما كان التعري نوعاً من الشرك والوثنية! لما فيه من إبراز وتقديس للجسمانية على حساب الروحانية؛ ومن هنا كانت أحكام اللباس في الإسلام متأصلة في عقيدة التوحيد! وهذا معنى من ألطف ما يكون، وسر من أعجب أسرار القرآن.. فتدبر!

في هذا الفضاء الكوني القرآني إذن؛ جاءت آية سورة الأحزاب في فرض نموذج لباس المرأة: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْـمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا} [الأحزاب: 59]، وآيات ســورة النور التي منــها قــوله ـ تعـالـى ـ: {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إلاَّ مَـا ظَهَـرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} [النور: 31] .

وفي هذا الفضاء أيضاً جاء تمييز الرجال بألبستهم وصورهم، صحيح أن الإسلام لم يفرض نموذجاً عربياً أو عجمياً للباس، ولكنه فرض قواعد يجب أن تُحترم؛ سواء كان اللباس عربياً أو عجمياً، وقد لبس رسول الله -صلى الله عليه وسلم- اللباس العجمي وأقره بين الصحابة، كالقَبَاطِي والجبة الرومية، وغير ذلك(28)؛ ما دامت تلك الألبسة لا تحمل دلالة دينية رمزية لغير المسلمين من ناحية، وما دامت من ناحية أخرى تستجيب لقواعد اللباس الرجالي في الإسلام.

فالأمر الوارد بإعفاء اللحية بصورة مخصوصة لا بأي صورة، وكذا الأمر بالتزام قواعد معينة عند كل لباس؛ كل ذلك يخدم هذه الأصول التشريعية والعقدية المنطلقة من قصة آدم، والساعية إلى تمييز الإنسان المسلم عن عالم الخطيئة والعصيان الشيطاني، الذي انحدرت إليه أمم المجوس وأهل الكتاب من اليهود والنصارى. فقوله -صلى الله عليه وسلم- مثلاً: «خالفوا المشركين! أحفوا الشوارب وأوفوا اللحى!»(29)، وفي رواية لمسلم: «خالفوا المجوس»؛ ليس لتشكيل صورة قائمة على مجرد فن الديكور! كلا! بل هو لتمييز الصورة الإسلامية في سيميائها الحضارية، وانتمائها العقدي. إنها تعبير عن التبرؤ من النموذج الشيطاني الذي جر إليه إبليس اللعين الأمم الضالة لتغيير خلق الله، كما حكى عنه القرآن العظيم مفصلاً بشكل عجيب! قال ـ تعالى ـ: {إن يَدْعُونَ مِن دُونِهِ إلاَّ إنَاثًا وَإن يَدْعُونَ إلاَّ شَيْطَانًا مَّرِيدًا * لَعَنَهُ اللَّهُ وَقَالَ لأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَّفْرُوضًا * وَلأُضِلَّنَّهُمْ وَلأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الأَنْعَامِ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَن يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِّن دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُّبِينًا} [النساء: 117 - 119].

ومن ذلك حديث أبي أمامة قال: «خرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على مشيخة من الأنصار بيض لحاهم، فقال: «يا معشر الأنصار، حمّروا وصفروا وخالفوا أهل الكتاب!» قال: فقلنا: يا رسول الله! إن أهل الكتاب يتسرولون ولا يأتزرون؟ فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- «تسرولوا وائتزروا وخالفوا أهل الكتاب!» قلنا: يا رسول الله! إن أهل الكتاب يَتَخَفَّفُونَ ولا ينتعلون!(30) فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «فتخففوا وانتعلوا وخالفوا أهل الكتاب!» فقلنا: يا رسول الله! إن أهل الكتاب يقصون عَثَانِينَهُمْ (يعني: لحاهم) ويُوَفِّرُونَ سِبَالَهُمْ (يعني: شواربهم)! قال: فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «قصوا سبالكم ووفروا عثانينكم! وخالفوا أهل الكتاب!»(31).

وبهذا القصد نهى الرجال عن إسبال الثوب، وإرخائه إلى ما تحت الكعبين من الأقدام؛ لما كان يدل عليه من خيلاء وكبر في عادات العرب، فقال -صلى الله عليه وسلم-: «ما أسفل الكعبين من الإزار ففي النار!»(32). وقال -صلى الله عليه وسلم- مبيناً علة ذلك: «مَنْ جَرَّ ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة»(33). ولنكتف بهذه الإشارات فيما يتعلق بسيمياء اللباس لدى الرجل؛ حتى لا نخرج عن غرض هذا المبحث المتعلق بسيمياء المرأة على الخصوص. وإنما القصد أن نبين أن اللباس عموماً في الإسلام، سواء منه ما تعلق بالرجال، أو ما تعلق بالنساء، له دلالة سيميائية ترجع في رمزيتها إلى مقاصد دينية تعبدية، تضرب حقيقتها في عمق التصنيف الاعتقادي، وتتشكل صورتها في صلب الانتماء الحضاري، والتميز الثقافي.

◄ العري كبيرة من الكبائر:

فمن هنا إذن؛ كان الوعيد النبوي شديداً بالنسبة للمتعريات من المسلمات، ففي هذا الإطار السيميائي، والسياق الحضاري؛ جاءت الأوامر القرآنية والنبوية بالتزام صورة معينة للباس لدى النساء. وأنكر الرسول -صلى الله عليه وسلم- إنكاراً رهيباً تعري المرأة. والعجيب أن ذلك الإنكار تعلق بصورة (كاريكاتورية) للباس المرأة؛ لم تكن قد ظهرت في زمانه -صلى الله عليه وسلم-، ولا عرفتها العرب. وإنما حدَّث عنها ـ عليه الصلاة والسلام ـ مطلاً على المستقبل من مشكاة النبوة، ومستبصراً للغيب، مما علمه الله. أي أنه كان يقرأ زماننا ويبصر عري نسائنا من قمة زمانه -صلى الله عليه وسلم-! فأنكر ذلك المستقبل الماضي في علـم الله، وحـذر من مجاراته والافتتان به؛ لِمَا عَلِم ـ عليه الصلاة والسلام ـ من انتسابه الشيطاني، وتمرده على رب الكون! فرتب عليه وعيداً شديداً من عذاب الله! وتلك صفة كبائر الذنوب عموماً في الإسلام، والسياق قاطع بأن هذه منها! وقد اشتهر في ذلك قوله -صلى الله عليه وسلم- في الحديث الصحيح: «صِنْفَانِ مِنْ أَهْلِ النّارِ لَمْ أَرَهُمَا. قَوْمٌ مَعَهُمْ سِيَاطٌ كَأَذْنَابِ الْبَقَرِ يَضْرِبُونَ بِهَا النّاسَ. وَنِسَاءٌ كَاسِيَاتٌ عَارِيَاتٌ، مُمِيلاَتٌ مَائِلاتٌ، رُؤُوسُهُنّ كَأَسْنِمَةِ الْبُخْتِ الْمَائِلَةِ، لاَ يَدْخُلْنَ الْجَنّةَ، وَلاَ يَجِدْنَ رِيحَهَا. وَإنّ رِيحَهَا لَيُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ كَذَا وَكَذَا»(34).

فهذا الحديث من دلائل نبوته -صلى الله عليه وسلم-، فقد وصف فيه ما لم يره بعين البصر، وإنما رآه بعين النبوة، مما سيكون في آخر الزمان وهو زماننا هذا. فكان وصفه العجيب كأدق ما يكون الوصف؛ لما عليه حال النساء اليوم، مما لم يسبق له مثيل في التاريخ! فهن فعلاً كما قال -صلى الله عليه وسلم- (كاسيات عاريات)؛ بمعنى أنهن يلبسن ما به يكون العري أشد! وهو شيء غريب فعلاً. ألا ترى أن نوع اللباس الأنثوي اليوم إنما هو لزيادة بيان تفاصيل العورة، ومواطن الفتنة من الجسم: خِرَقٌ رقيقة أو ناعمة تكشف وتشف، أو ترسم هيأة البدن على التمام والكمال، وتعري بعضه أو أغلبه تعرية تامة. فإذا المرأة في الشارع تسير عارية تماماً! إنها لو خرجت بلا ثوب مطلقاً لما فتنت كما تفتن الآن بقليل اللباس؛ مما يكون به عرض مواطن الفتنة في الجسم على أبين وجه، وعلى أدق توصيف! فأي شيطان هذا الذي يملي هندسة الشر على منتجي الموضة في العالم؟ ذلك هو قول النبي -صلى الله عليه وسلم- (كاسيات عاريات!).

ثم إنهن بعد ذلك (مائلات مميلات)، ومعناه أنهن مائلات عن الصراط المستقيم أولاً، ثم هن مائلات في مشيتهن بالطرقات، يَسِرْنَ بنوع من الانحناء إلى شمال تارة، وإلى يمين تارة أخرى؛ إمعاناً في عرض أجسامهن العارية بأوضاع مختلفة، في المعرض المفتوح لأجساد النساء! ماذا بقي بعدُ من الكرامة لهؤلاء؟

وأما كونهن (مميلات) فهو أنهن يملن أعطافهن وأردافهن ـ إذا مشين ـ بتكسر ماجن، وتعهر فاضح. و (الإمالة) أيضاً هي أثر ذلك كله على قلوب الشباب خاصة، وقلوب الرجال عامة، من التأثير الشيطاني والغواية الإبليسية التي تميلهم عن الصراط المستقيم، وتخرجهم عن سبيل الهدى إلى سبل الضلال، وتخرجهم من النور الظلمات، أو من الظل إلى الحرور!

ثم هنّ كما قال -صلى الله عليه وسلم-: «رُؤُوسُهُنّ كَأَسْنِمَةِ الْبُخْتِ الْمَائِلَةِ»، ومعناه أن طريقة قص شعرهن، وشكل حلاقته؛ تجعل رؤوسهن أشبه ما تكون بأسنمة البُخْت المائلة. والبُخْت: جمع بُخْتِية، وهي الناقة. لكنها نوع خاص من الإبل، مُنَسَّلَةٌ من الجِمال العجمية. والأسْنِمَةُ: جمع سنام، وهو ذروة الناقة. وكثيراً ما تكون ذروة الناقة، أو الجمل؛ فعلاً مائلة إلى جانب معين، ثائرة الوبر، متناثرة الشعر، بشكل وحشي، أو قل (فوضوي) بالمعنى الفني المعاصر للكلمة! أليس النساء هنّ كذلك فعلاً؟ بلى والله! وبالضبط كما وصفهن النبيُّ! فَعُدَّ أنواع القَصَّات في حلاقة الموضة الجهنمية اليوم! لترى مدى صدق الرسول -صلى الله عليه وسلم- في الوصف الاستبصاري النبوي! عُدَّ إذن: القَصَّةَ المربَّعة! وقَصَّةَ الفرس! وقَصَّةَ الفتى! (للبنات طبعاً!) والقَصَّةَ الإيطالية! والقَصَّةَ الوحشية...! إلى آخر ما في جعبة إبليس من تحليقات شيطانية! ذلك هو والله! وصف الرسول -صلى الله عليه وسلم- لهنّ: (رُؤُوسُهُنّ كَأَسْنِمَةِ الْبُخْتِ الْمَائِلَةِ)! وصدق نبي الله -صلى الله عليه وسلم-.

فإذا أضفت إلى هذا ما أخبر به ـ عليه الصلاة والسلام ـ في بداية هذا الحديث، وهو الصنف الأول من أهل النار، أي: (قَوْمٌ مَعَهُمْ سِيَاطٌ كَأَذْنَابِ الْبَقَرِ يَضْرِبُونَ بِهَا النّاسَ!) رأيت ما يسمى في العصر الحديث بـ (قوات مكافحة الشغب)، ورأيت (جلادي السجون)، وشرطة الاختطافات والاستنطاقات القسرية، ورأيت كيف يحملون معهم هراواتهم وسياطهم، وسائر أدوات التعذيب الميكانيكية والكهربائية؛ لتحطيم جماجم المستضعفين، وتهشيم عظام المظلومين في كثير من بلاد العالمين! مما لم يدر بخلد شياطين العهد النبوي! إذا أضفت ذلك إلى ذلك؛ علمت دقة التصوير النبوي لمدى خطورة الانحراف الذي عليه المرأة المسلمة اليوم!

فاقرئي الحديث ـ بُنَيَّتي ـ مرة أخرى، وتدبري! أليس كان ـ عليه الصلاة والسلام ـ ينظر إلى زماننا هذا بالضبط، وبدقة متناهية؟ أليس كان ينظر من مشكاة النبوة إلى غيب يبعد عنه -صلى الله عليه وسلم- بأزيد من أربعة عشر قرناً من الزمان؟ بلى والله! وقطعاً ستصدق نذارته كما صدقت نبوته. وإنما نذارته هنا هي قوله عن الفريقين: إنهم جميعاً: (صنفان من أهل النار)، وأن النساء الكاسيات العاريات: (لاَ يَدْخُلْنَ الْجَنّةَ، وَلاَ يَجِدْنَ رِيحَهَا. وَإنّ رِيحَهَا لَيُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ كَذَا وَكَذَا)! أي أنه كان يصف البعد الرهيب الذي يفصل بين هؤلاء النسوة وبين ريح الجنة؛ لِمَا هن هاويات فيه من دركات الجحيم الضاربة في أعماقها والعياذ بالله!

ولقد روي هذا المعنى بنبوءات أخرى عجيبة، في أحاديث صحيحة، تتحدث عن موديلات السيارات الفاخرة التي تركبها النساء العاريات! فأبصَرَ منها النبي -صلى الله عليه وسلم- لقطة فيها من التناقض السلوكي، والانفصام النفسي والاجتماعي؛ ما نراه اليوم عياناً! وهو ذهاب هؤلاء الكاسيات العاريات مع أزواجهن إلى المساجد للصلاة أحياناً! زعموا! وهو ما يقع خاصة يوم الجمعة، وأحياناً لا يذهبن للصلاة، وإنما يتبعن موكب العرسان، على عادة بعضهم في إدخال العريس إلى المسجد، في جوقة من الزغاريد والغناء، والعري الفاضح الماجن. وهذا أمر نشاهده اليوم في مصيف الأعراس، في بعض المساجد المغربية! وهو من أقبح البدع وأسوئها! اقرأ هذا الحديث النبوي العجيب، وانظر إلى تلك السيارات الموصوفة منذ أزيد من أربعة عشر قرناً من الزمان! قال -صلى الله عليه وسلم-: «سيكون في آخر أمتي رجال يركبون على سروج كأشباه الرحال، ينزلون على أبواب المساجد، نساؤهم كاسيات عاريات، على رؤوسهن كأسنمة البخت العجاف! العنوهن فإنهنّ ملعونات! لو كانت وراءكم أمة من الأمم لخدمن نساؤكم نساءهم! كما خدمتكم نساء الأمم من قبلكم»(35).

وروي بلفظ آخر هو قوله -صلى الله عليه وسلم-: «يكون في آخر هذه الأمة رجال يركبون على المَياثِرِ(36)؛ حتى يأتوا أبواب المساجد، نساؤهم كاسيات عاريات، على رؤوسهن كأسنمة البخت العجاف، العنوهن فإنهن ملعونات! لو كانت وراءكم أمة من الأمم لخدمتهم كما خدمكم نساء الأمم قبلكم!»(37).

فتدبر هذا الخطاب الرهيب، والوعيد الشديد في قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (العنوهنّ فإنهنّ ملعونات!) ما كان ليكون ذلك كذلك؛ لو لم يكن التعري خطيئة من أبشع الخطايا، وأخسها! ولو لم يكن مسخاً للفطرة الإنسانية، وتغييراً لخلق الله في السلوك النفسي والاجتماعي! إنه سيمياء الشيطان!

فالسِّتْرَ السِّــتْرَ بُنَيَّتي! فإنه ســـيماء الرحمن! قال -صلى الله عليه وسلم-: «إن الله ـ تعالى ـ حَيِيٌ سِتِّيرٌ، يحب الحياء والستر، فإذا اغتسل أحدكم فليستتر!»(38).

◄ خاتمة:

والخلاصة في هذه المسألة أنه يمكنك القول: إن هيأة المسلم في لباسه ومظهره ـ رجلاً كان أو امرأة ـ هي عبارة عن صلاة! بكل ما تحمله كلمة (صلاة) من معاني السير إلى الله خضوعاً وخشوعاً.

إن سيماء الصورة في الإسلام لغة كاملة؛ لغة من لغات الصلاة المودعة في أسرار هذا الملكوت! إنها تعبير عن منطق الطير، وصحف إبراهيم، وألواح موسى، ومزامير داود وإنجيل عيسى، وآيات هذا الكتاب العظيم الذي أنزل على محمد عليه الصلاة والسلام، وعلى سائر الأنبياء والمرسلين. ذلك الدين الواحد، ضل عنه المحرفون الذين بدلوا، وغيروا خلق الله، ونبذوا ستر الله، وانحازوا لعري إبليس! فهدى الله المسلمين إلى جمال الستر. ولكن أكثرهــم اليوم ـ مع الأسف ـ لا يعقلون!


--------------------------------------------------------------------------------

(*) رئيس قسم الدراسات الإسلامية، بجامعة السلطان المولى إسماعيل، المغرب.

(1) انظر: مختار الصحاح، ولسان العرب، والقاموس المحيط، مادة: (سوم).

(2) وعلى هذا الوزان يفهم قول النبي -صلى الله عليه وسلم- للنساء: «ما رأيت من ناقصات عقل ودين أغلب لذي لب منكن» متفق عليه. فليس المراد قطعاً الاستهانة بجنس الأنثى كلا! فحاشا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يصدر منه شيء من ذلك، والأنثى خلق الله السوي، وصنعه المتقن. وإنما المقصود هو النقص التكاملي، كما بيناه أعلاه، وهو هنا في خصوص هذا الحديث نقص يقابله فيض عاطفي نبيل نقص فيه الرجل، وكذا تفرغ بيولوجي لحمل سر الخلق الإلهي العظيم، وضمان استمرار الحياة! فكانت لها بذلك إجازات في الحيض وفي النفاس؛ لتأدية ذلك الدور الأمومي الذي فاقت به زوجها أضعافاً ثلاثة! كما هو واضح في حق الآباء على الأبناء. فتأمل!

(3) رواه أحمد والنسائي والحاكم عن ابن عمرو. وصححه الألباني. انظر: حديث رقم: 3071، في صحيح الجامع.

(4) رواه الطبراني عن عمار بن ياسر. وصححه الألباني. انظر: حديث رقم: 3062، في صحيح الجامع الصغير.

(5) رواه أبو داود، وصححه الألباني. انظر: حديث رقم: 5096 في صحيح الجامع.

(6) رواه أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه عن ابن عباس. وصححه الألباني. انظر: حديث رقم: 5100، في صحيح الجامع.

(7) رواه أبو داود والحاكم عن أبي هريرة. وصححه الألباني. انظر: حديث رقم: 5095، في صحيح الجامع.

(8) رواه أحمد والترمذي وابن ماجه عن أنس. وصححه الألباني. انظر: حديث رقم: 5565، في صحيح الجامع.

(9) رواه الحاكم والبيهقي عن ابن عمر. وصححه الألباني. انظر: حديث رقم: 3061، في صحيح الجامع.

(10) رواه الترمذي والحاكم والبيهقي في شعبه عن أبي هريرة، كما رواه ابن ماجه والحاكم والبيهقي عن أبي بكرة. ورواه الطبراني والبيهقي في الشعب عن عمران بن حصين. وصححه الألباني. انظر: حديث رقم: 9913، في صحيح الجامع.

(11) رواه أحمد والترمذي والحاكم والبيهقي عن ابن مسعود. وحسنه الألباني. انظر: حديث رقم: 935، في صحيح الجامع.

(12) رواه أبو داود والترمذي عن عائشة. وصححه الألباني. انظر: حديث رقم: 2965، في صحيح الجامع.

(13) رواه أحمد والطبراني والحاكم والبيهقي عن أم سلمة. وصححه الألباني. انظر: حديث رقم: 8072، في صحيح الجامع.

(14) رواه أبو داود عن ابن مسعود، ورواه الحاكم عن أم سلمة. وصححه الألباني. انظر: حديث رقم: 3383، في صحيح الجامع.

(15) رواه البيهقي في سننه عن عائشة. وحسنه الألباني. انظر: حديث رقم: 9305، في صحيح الجامع.

(16) رواه أحمد والطبراني. وقال الهيثمي في مجمع الزوائد: «ورجال أحمد رجال الصحيح غير عبد الله بن سويد الأنصاري، ووثقه ابن حبان». ولذلك قال ابن حجر في فتح الباري: «وإسناد أحمد حسن».

(17) رواه أحمد، وأبو داود والترمذي والحاكم عن عبد الرحمن بن عوف، كما رواه الحاكم عن أبي هريرة. وصححه الألباني. انظر: حديث رقم: 4134، في صحيح الجامع.

(18) رواه البخاري.

(19) رواه مسلم.

(20) مقال د. عبد الوهاب المسيري: «ما بين حركة تحرير المرأة، وحركة التمركز حول الأنثى: رؤية معرفية»، منشور بمجلة المنعطف المغربية، ص 39، عدد مزدوج: 51 ـ 61- 1241هـ ـ 0002م. (21) متفق عليه.

(22) تفسير ابن كثير: في تفسير قوله ـ تعالى ـ: {إذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إلَيَّ} [آل عمران: 55].

(23) الحجاب: 51، وانظر تفاصيل هذه الفلسفة فيما بعدها من صفحات!

(24) انظر: ذلك مفصلاً في كتابنا: الفجور السياسي والحركة الإسلامية بالمغرب.

(25) يقول الدكتور أحمد الأبيض التونسي: (إن الدعوة للتمسك بالزي الإسلامي ليست دعوة شكلانية ظاهرية؛ لإيماننا أن اللباس ليس غلافاً خارجياً للجسد، بل هو كساء للجسد بمجموع القيم والمبادئ التي تحملها ثقافة معينة، ومن خلالها تقرأ الجسد وتُرَمِّزُه)، فلسفة الزي الإسلامي: 8 ـ 9.

(26) الجامع لأحكام القرآن: 11/352.

(27) مختصر تفسير ابن كثير، للصابوني: 3/ 861. طبعة دار الفكر بيروت.

(28) والقَبَاطِي، بفتح القاف، وكسر الطاء، كما هو عند ابن الأثير: جمع قِبْطِيَّة، وهي: ثوب من ثياب مصر القبطية رقيقة بيضاء، كأنها منسوبة إلى القبط. انظر كتاب النهاية في غريب الحديث والأثر: (حرف الجيم باب الجيم واللام). وشاهده ما رواه أسامة بن زيد قال: «كساني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قبطية كثيفة مما أهداها له [هرقل] فكسوتها امرأتي، فقال لي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ما لك لم تلبس القبطية؟ قلت: يا رسول الله، كسوتها امرأتي. فقال: رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: مُرْهَا فلتجعل تحتها غلالة؛ فإني أخاف أن تصف حجم عظامها!)، رواه أحمد والطبراني. قال الهيثمي: (وفيه عبد الله بن محمد بن عقيل وحديثه حسن وفيه ضعف وبقية رجاله ثقات) مجمع الزوائد: 5/ 731. وفي سنن أبي داود عن دِحْيَةَ بن خليفة الكلبي أنه قال: «أُتِيَ رسول اللّه -صلى الله عليه وسلم- بقباطيَّ فأعطاني منها قبطية فقال: اصدعها صدعين (يريد شقها نصفين)، فاقطع أحدهما قميصاً، وأعط الآخر امرأتك تختمر به. فلما أدبر قال: وأمر امرأتك أن تجعل تحته ثوباً لا يصفها»، رواه أبو داود.

وعن عروة بن المغيرة بن شعبة عن أبيه «أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لبس جبة رومية ضيقة الكُمَّين» رواه أحمد والترمذي وقال: حديث حسن صحيح. كما رواه بصيغ أخرى الإمام النسائي والبيهقي والطبراني. وروى ابن ماجه عن عبادة بن الصامت قال: «خرج علينا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ذات يوم وعليه جبة رومية من صوف، ضيقة الكمين، فصلى بنا فيها، ليس عليه شيء غيرها!» وقال ابن حزم: «والصلاة جائزة في ثوب الكافر والفاسق ما لم يوقن فيها شيئاً يجب اجتنابه؛ لقول الله تعالى: {خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا} [البقرة: 29]. وقد صح أن رسول الله صلى في جبة رومية. ونحن على يقين من طهارة القطن، والكتان، والصوف، والشعر، والوبر، والجلود، والحرير للنساء، وإباحة كل ذلك. فمن ادعى نجاسة أو تحريماً لم يصدق إلا بدليل من نص قرآن، أو سنة صحيحة! قال ـ تعالى ـ: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ} [الأنعام: 119]، وقال ـ تعالى ـ: {إنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْـحَقِّ شَيْئًا} [يونس: 36]» المحلى: 4/ 57.

(29) متفق عليه.

(30) تَخَفَّفَ: لبس الخُفَّ، وهو: جلد يلبس للقدمين كالجوارب.

(31) رواه أحمد والطبراني وقال الهيثمي في مجمع الزوائد: ورجال أحمد رجال الصحيح، خلا القاسم، وهو ثقة وفيه كلام لا يضر.

(32) رواه البخاري.

(33) متفق عليه.

(34) رواه مسلم.

(35) رواه أحمد وابن حبان والطبراني في الثلاث. قال الهيثمي في مجمع الزوائد: 5/137: (رجال أحمد رجال الصحيح. وعبارة الطبراني قال: «سيكون في أمتي رجال يُركبون نساءَهم على سروج كأشباه الرحال&#187.

(36) المَيَاثِر: جمع مَيْثَرَة، وهي الأريكة الفخمة. والمقصود هنا أريكة السيارة.

(37) رواه الطبراني والحاكم، وقال: هذا حديث صحيح على شرطهما ولم يخرجاه.

(38) رواه أحمد وأبو داود والنسائي، وصححه الألباني. انظر: حديث رقم: 1756 في صحيح الجامع.

رد مع اقتباس
  #5  
قديم 18-10-2007, 08:39 PM
د.فالح العمره د.فالح العمره غير متصل
 
تاريخ التسجيل: Feb 2005
الدولة: في قلوب المحبين
المشاركات: 7,593
معدل تقييم المستوى: 27
د.فالح العمره is on a distinguished road
رد: دراسات في القيم

مستقبل التربية على القيم في ظل التحولات العالمية المعاصرة


د. خالد الصمدي


عرف الفكر المعاصر تدافعاً بين التيارات الداعية إلى علمنة المجتمع، وفصل الدين عن الدولة؛ بتسويغ الحداثة والانخراط في العالمية الاقتصادية والثقافية، بعيداً عن القيود الدينية، وبين التيارات الداعية إلى التمسك بأصول الهوية الإسلامية، والانفتاح الموزون على التجارب العالمية الإيجابية، والتي تستوعبها مقاصد الشريعة الإسلامية، بما تكفله من رقي حضاري بمختلف أشكاله؛ اعتماداً على مبدأ الاستخلاف.

وقد وجدت هذه الدعوات تجلياتها وآثارها في المجتمع المسلم، في مجالات الحياة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، رصدتها كتابات ودراسات وتحليلات، ركَّزت على تتبع مختلف مداخل التأثير في الهوية الحضارية للشعوب الإسلامية، فأجمعت على خطورة مدخل التربية والتعليم في هذا التدافع، بين مختلف المداخل القيمية المؤطرة لتصورات الأجيال، والموجهة لقناعتهم وأفكارهم على المدى المتوسط والبعيد. ويكفي أن تقرأ فصولاً من كتاب (واقع العالم الإسلامي بين تغريب التعليم وكشف تخريب المتآمرين) لسعيد عبد الحكيم زيد؛ لتقف على معطيات تاريخية وشهادات ووثائق مهمة، تثبت خطورة تركيز المخططين للسيطرة على العالم الإسلامي على ملف التربية والتعليم، بدأ بما سمي بإصلاح معاهد التعليم التقليدية كالأزهر والقرويين، وتغيير مناهج التعليم بفصل العلوم الشرعية عن العلوم التجريبية، وإنشاء معاهد التعليم الغربية، ونشر البعثات الأجنبية، ودعم المراكز الثقافية الغربية أو المتغربة.

وقد قدم الدكتور سفر بن عبد الرحمن الحوالي دراسة قيّمة، رصد فيها نشأة العلمانية وتطورها وآثارها في الحياة الإسلامية المعاصرة، وخصص الفصل الثاني من الكتاب لمظاهر العلمانية في الحياة الإسلامية، ومنها مجال التربية والثقافة، مستعرضاً اللحظات التاريخية ومخططات الاستعمار الفرنسي والإنجليزي. بدأ بمرحلة ما بعد الحروب الصليبية، مبرزاً وسائل وطرق تغيير برامج ومناهج التعليم، وطرق ووسائل التدريس بين التعليم الأصيل والتعليم العصري، المستحدث في مصر وسوريا والمغرب؛ بدعم من الدول المستعمرة. والنتيجة يقول مؤلف الكتاب: «نشأة جيل مقطوع الصلة بدينه، مفتون بالغرب وتياراته الثقافية المختلفة التي تتفق في شيء واحد، هو تحللها من الالتزام بالدين»(1).

كان ذلك نتيجة طبيعية للفصل بين العلم والأخلاق، ستجد آثارها السلبية في الحياة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية على المستوى العلمي، كما نرى ونشاهد في عصرنا الحاضر.

وقد بيَّن الدكتور طه عبد الرحمن في كتابه (سؤال الأخلاق) وضعية الانفصال بين العلم والأخلاق، منتقداً موقف العقلانية من القيم الخلقية، حيث يقول: «تزيد معارضة هذه العقلانية للاعتبار الديني درجة على معارضة أختها التنظيمية له، ذلك أنها لا تقتصر على إسقاط القيم الأخلاقية، وإنما تتعداه إلى إسقاط الأصول الأخلاقية الدينية، ومعلوم أن الأصول الأخلاقية هي جملة المعايير والقيم الرئيسة التي تتولد منها باقي المعايير والقيم السلوكية تَوَلُّد الفرع من الأصل، فلما كانت العقلانية الانتظامية تسعى إلى إنشاء بنية أخلاقية جديدة للإنسان، فقد لزم أن تقوم الأصول الاصطناعية الأولى التي تضعها لهذه البنية الأخلاقية الجديدة، مقام الأصول المعنوية الروحية المبثوثة بالخلقة في الإنسان؛ أي أن تقوم مقام ما يسميه الدين بمعاني الفطرة الإنسانية، وعلى هذا فإن عقلانية الانتظام تطلب في نهاية المطاف تغيير هذه الفطرة التي خُلق عليها الإنسان»(2).

وقد أحس العالم اليوم، سواء الإسلامي أو الغربي، بخطورة هذا الانفصال بين التعليم والقيم، وأخذت كثير من الأقلام التربوية تدعو إلى إعادة الصلة بينهما لما لذلك من تأثير في إعادة بناء الإنسان، فالغرب هو الذي دعا في نهاية القرن 19 إلى ضرورة الفصل بين التعليم والدين، بل وصدر مرسوم بذلك في 23 فبراير 3291م، وبصدوره اختفت من البرامج الرسمية كل الواجبات تجاه الإله، وظلت المدرسة مستقلة عن كل تعليم ديني(3).

غير أنه لم يكد القرن العشرون ينتصف حتى كان هذا الفصل قد أحدث انعكاسات تربوية سلبية على الواقع التربوي والأخلاقي عند التلاميذ والطلبة في المجتمع الغربي، الشيء الذي دفع «فيلبس كوبس» في كتابه (الأزمة التربوية العالمية) للقول: «إن الاضطراب الثقافي الذي نجم عن الثورات العلمية والتقنية الأخيرة جعل من التربية الأخلاقية موضوع اهتمام ودراسة، ففي القرن التاسع عشر كانت هذه التربية تشكّل قاعدة البرامج التعليمية في سائر بلاد أوروبا وأمريكا الشمالية، ثم إن الطابع القروي كان لا يزال سائداً، كما أن الحركة العمرانية الحديثة لم تكن قد انطلقت بعد، وكانت العلاقات الأسرية متينة، والاعتقادات والمؤثرات الدينية قوية... لكنه ابتداء من العقد الرابع للقرن العشرين، أي منذ 0391م، حصل تغيير جذري في المناخ الاقتصادي والسياسي والتربوي، كان من نتائجه أن اعتبرت التربية الأخلاقية أمراً بائداً ومنطوياً على مغالطة تاريخية، وهكذا تم إهمال هذه التربية من قِبَل المدرسين والمشرفين على التعليم، وظلت على هذا النهج حتى نهاية السبعينيات، وقتئذ حصل الاضطراب الثقافي المشار إليه آنفاً محدثاً أنواعاً من الأزمات الاجتماعية التي أقلقت بال السياسيين والمشرعين والمشرفين على المدارس وأولياء الأمور.

وإذا كان هذا التوصيف لأزمة التعليم عند فصله عن القيم قد ظهر في الغرب وتحدث عنه علماء التربية؛ فإن كثيراً من الباحثين في العالم الإسلامي يحذّرون من هذا الفصل بين التعليم والقيم في التجارب التعليمية والنظم التربوية. يقول الدكتور محمود محمد سفر: «إن من الحق أن نقرر: أن التعليم نشأ في أقطار العالم الإسلامي نشأة كان التعليم الديني فيها هو نقطة الارتكاز؛ إذ كانت له حلقات ومدارس اتخذت من المسجد منطلقاً ومقراً، وقد تطور التعليم الديني من حيث مناهجه في شتى أقطار العالم الإسلامي فعلاً مرة وسمق، وهبط أخرى وتأخر، ولكنه استمر ـ على كل حال ـ يشكّل الحياة العامة للمسلمين، حتى دقت نواقيس الحضارة الأوروبية وجلبت معها بخيلها ورجلها العلم الأوروبي، وانبهر المسلمون بما حققه هذا العلم الأوروبي... ومن هنا بدأ صراع صامت بين أسلوب التعليم القديم وبين الأساليب الحديثة، واستقر الرأي في كثير من ديار الإسلام أن تترك معاهد التعليم الديني على مناهجها، ونتجاوزها بتقديم العلم الحديث بأساليبه ومناهجه في معاهد جديدة... إن ازدواجية التعليم في العالم العربي والإسلامي مشكلة يجب إعادة النظر فيها؛ من أجل نظام تعليمي موحد ينبثق عن أحسن ما في القديم وأفضل ما في الحديث»(4).

وبهذا تلتقي النداءات التربوية بضرورة عودة المؤسسة التعليمية إلى ممارسة دورها في التعليم إلى جانب ترسيخ القيم الحضارية للمجتمع؛ لأن كل البلدان ترى في المدرسة مؤسسة اجتماعية تعمل على صياغة المجتمع، وذلك بالحفاظ على ثقافته وقيمه، كما تعمل في الوقت نفسه من أجل تجديده، وذلك عن طريق استيعاب ما وصلت إليه الحضارة الإنسانية من رقي وتقدم في مجالات مختلفة، مثل العلوم والتكنولوجيا ووسائل الاتصال(5).

وهكذا يظهر الارتباط الوثيق بين التربية والمجتمع؛ في كون التربية الأداة الثقافية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية التي توظفها المجتمعات والجماعات البشرية للمحافظة على استمرارها، وإعادة إنتاجها الاجتماعي والثقافي من جهة، ولتجديد مقوماتها وتطويرها الذاتي من جهة ثانية(6).

وهكذا تعبر مختلف النداءات والدعوات بمصطلحات مختلفة (التعليم والقيم، التربية القديمة والتربية الحديثة، التربية والمجتمع) عن ضرورة إعادة تشكيل هذه العلاقة في نسيج موحد المقاصد والأهداف حتى تحقق النظم التعليمية رسالتها(7).

إننا في حاجة إلى إعادة النظر في مناهج التربية والتعليم، لإعادة التعليم إلى حضن التربية كجزء منها، وكوسيلة لتحقيق عبادة الله في الأرض وخلافته فيها. فكيف صاغ الإسلام نظريته التربوية المستجيبة للفطرة، الثابتة في الأصول والمقاصد، المستوعبة للمتغيرات في الطرق والوسائل؟ ذلك ما سنحاول عقد مقاربة له من خلال المحاور الآتية:

- سؤال القيم في مناهج التعليم وتأثيرات العولمة.

- نظام التعليم مدخل التربية على القيم.

- نحو رؤية تأصيلية للقيم الإسلامية وطرق إدماجها في مناهج التربية.

■ سؤال القيم في مناهج التعليم وتأثيرات العولمة:

في خضم التحولات التي يعرفها العالم المعاصر؛ أصبح سؤال الهوية يطرح نفسه بحدة، وأصبح الحديث عن الخصوصيات الثقافية زمن العولمة مثار جدل واسع في أوساط المهتمين بالمسار الحضاري لكل بلد وقطر وإقليم. ويمكننا القول إن محاولات التنميط الثقافي والاجتماعي بعد النجاح القهري في عولمة الاقتصاد؛ يمر بالضرورة عبر إعادة خلخلة منظومة القيم التي تحفظ لكل بلد خصوصياته، وهكذا أصبحت النظرة إلى قضايا السكان والتنمية وحقوق الإنسان تأخذ بعدها الدولي من خلال مؤتمرات الأمم المتحدة، وتجد الأصوات المنادية بالخصوصية الحضارية للشعوب ترفع أصوات الاحتجاج والاعتراض والتحفظ على كل ما يمس أسسها العقائدية والفكرية وما لا ينسجم وواقعها، وتحاول أن تستصدر من هذه المؤتمرات توصية تمكنها من تكييف التوصيات الدولية مع خصوصياتها.

إلا أن الأمر بالنسبة للقيم الإسلامية يتجاوز الحديث عن الخصوصيات الإقليمية، لكونها قيماً عالمية وكونية على الأقل من الناحية النظرية، وهذا هو الذي يدفعنا في اتجاه الانتقال من الدعوة إلى مراعاة الخصوصيات إلى الدعوة إلى حوار الحضارات لبناء حد أدنى من القيم الإنسانية المشتركة.

وحين ننظر إلى الواقع نجد أن الدعوة إلى ضرورة الاعتراف بالخصوصيات الحضارية للشعوب التي لا تحمل خصوصيات عالمية، أو الحديث عن حوار الحضارات، تصطدم بالاتجاه العالمي الأحادي النظرة، المسنود بالقوة الاقتصادية وتكنولوجيا الإعلام والاتصال، والذي يدعو الجميع إلى الانخراط في سياق العولمة بقيمها ومبادئها، فانتقل العالم من حوار الحضارات إلى صراع القيم وإعادة تشكيل عقل الإنسان وفق أنماط محددة.

ومن هنا أصبح الحديث عن ضرورة إعادة النظر في البرامج والمناهج التعليمية، خاصة في بعض البلدان الإسلامية التي يُدَّعى أنها ترسخ ثقافة العنف، والمطالبة بضرورة احترام المواثيق الدولية في صياغة قوانين الأسرة والتعليم والصحة وغير ذلك مما له صلة مباشرة بمنظومة القيم.

وفرق بين أن تمارس هذه البلدان نقداً ذاتياً تحاول من خلاله إعادة النظر في منظومة التربية والتعليم بالاستناد إلى منظومة القيم التي تؤمن بها، وبين أن تكون تحت ضغوط سياسية واقتصادية تدفعها إلى إعادة النظر في منظومة القيم ذاتها، وتحاول أن تقنع نفسها ومحيطها بضرورة إعادة صياغة سؤال القيم، فتقول: ما هي القيم التي ينبغي أن تحكم نظامنا التربوي؟ ومن ثَمَّ ما هي القيم التي ينبغي أن تحكم المجتمع؟

والخيار في نهاية المطاف يسير في اتجاهين:

إما خيار تعزيز منظومة القيم الإسلامية، وذلك عن طريق إعادة النظر في كيفية بناء المفهومات لدى المتعلم وأساليب ذلك وطرقه، والوسائل العلمية والمقاربات التربوية والتقنية الكفيلة بإبراز هذه القيم في صورتها الواضحة المشرقة، وبعدها الإبداعي، وعالميتها المرتكزة على الرحمة بالناس، ودورها في حل الأزمات والإشكالات التي يتخبط فيها المجتمع المعاصر.

وإما خيار الانخراط في منظومة القيم المادية التي تسوّقها العولمة بواسطة الإعلام والاقتصاد والقوة العسكرية، ومن ثَمَّ الذوبان في مسلك حضاري تتشكل معالمه بعيداً عن أساليب الإقناع والحجاج والحوار والتثاقف، واحترام الاختلاف والخصوصيات الحضارية للشعوب.

ومعلوم أن كثيراً من المفكرين المسلمين، بل وغير قليل من غير المسلمين، يدعون إلى ضرورة حماية الخصوصيات الحضارية للشعوب، ويعتبرون أن التحول في القيم تحول في الذات الحضارية بالضرورة، وأن أخطر ما يغير في الإنسان قيمه، وأن ما يهدد الكيانات الحضارية لا يكمن في الغزو العسكري ولا في الأمراض المادية الماحقة، فقد أبيدت أمم بكاملها ولكنها انبعثت من جديد؛ لأن جذوة القيم كانت لا تزال حية فيها.

وعليه؛ فإن الخيار الأول يبرز إلى الواجهة وتكون الصياغة الصائبة للسؤال أن تقول:

كيف يمكن أن تكون القيم الإسلامية قيماً للتغيير؟ عوض أن تقول: كيف يمكن تغيير القيم الإسلامية؟

■ نظام التعليم مدخل للتربية على القيم:

إذا كان الطفل منذ مراحل نموه الأولى يبني قدراته ومهاراته وقدراته وخبراته وتصوراته عن طريق التعلم من المحيط كمدرسة أولى أو من التعليم النظامي كمدرسة ثانية؛ فإن المدخل الطبيعي لتشكيل شبكة المفهومات في ذهنه، ومن ثم نوع القيم التي توجه سلوكاته ووجدانه، هو ما يُقدم له من أنماط التعلم، وما يشترك فيه من أنشطة تعليمية تعلمية مندمجة، تشكل في نهاية المطاف المنهاج التعليمي الذي ترسمه خبرات الكبار للصغار؛ انطلاقاً من الخيارات الكبرى التي تحكم مسار الأمة الحضاري.

ومن هنا تكمن خطورة نظام التعليم في أي بلد، ودوره في التربية على القيم؛ بدءاً بالفلسفة التي ينطلق منها هذا النظام، وانتهاء بآليات التنفيذ، وبينهما أسئلة كبيرة؛ من قبيل تحديد مواصفات المتعلم عند نهاية مسار التكوين، والكفايات المعرفية والتواصلية والمنهجية والتكنولوجية التي يتوقع أن يمتلكها، وهندسة نظام التكوين بمختلف مسالكه وشعبه، وموقع الوحدات الدراسية المكونة للمنهاج، ومحتويات هذه الوحدات، ومدى تناغم المفهومات والقيم بشكل أفقي فيها اعتباراً لوحدة الفئة المستهدفة، وطرق ووسائل التدريس، ومواصفات وخصوصيات المدرس ومحيط التعلم.. وغير ذلك.

ومعلوم أن إصلاح نظام التربية والتعليم في كل بلد ينبغي أن يكون مساراً متحركاً بصفة دائمة، وخاصة على مستوى المناهج التعليمية التي تعتبر البوصلة المتحكمة في باقي عناصر المنظومة التربوية، غير أن سؤال المناهج في بلدان العالم العربي والإسلامي يتوارى إلى الخلف في كثير من مشاريع إصلاح التعليم، في حين يتم التركيز على إصلاح المنظومة التقنية وترقيتها، خاصة على مستوى التجهيزات والوسائل التعليمية، وتوفير الظروف الملائمة للدراسة والتكوين الفني والتربوي للمدرسين.

إلا أن إعادة النظر في البرامج والمناهج عادت مجدداً إلى الواجهة حين طُرح سؤال الهوية والتربية على القيم بفعل تحديات خارجية، وخاصة تحت ضغط تنفيذ توصيات المؤتمرات الدولية، وخاصة المرتبطة بالسكان والتنمية وحقوق الإنسان، كما هي متعارف عليها دولياً، والإعلانات العالمية المتتالية الداعية إلى حوار الحضارات، فكيف يمكن إذن التوفيق بين الخصوصيات الحضارية والالتزامات الدولية؟ وكيف يمكن من خلال ذلك تطوير المناهج التعليمية في ضوء الفلسفة التربوية الإسلامية وأهدافها مع استدماج كل وسائل العصر وتقنياته في التعليم والتعلم ونقل القيم؟

إن منظومة القيم الإسلامية قادرة على إنقاذ العالم من شراك المادية القاتلة التي كتمت أنفاس الغرب قبل الشرق، وسنستعرض خصوصيات هذه المنظومة للدلالة على قدرتها على تحقيق التغيّر الحضاري المنشود عن طريق التوفيق بين الحاجات الحقيقية المادية والروحية للبشرية، وما يتطلبه العصر من وسائل وتقنيات في التواصل تتطور باستمرار.

وقد قمنا بصياغة مشروع متكامل لتأصيل القيم الإسلامية، وبيان طرق ووسائل إدماجها في مختلف المواد الدراسية في المنهاج التعليمي باعتباره المجال الأوسع والأخطر لإعادة ترتيب منظومة القيم لدى الأجيال المكونة للمجتمعات القادمة على أسس إسلامية أصيلة توظف كل وسائل العصر وتقنياته المادية والتربوية.

نقتصر منه في هذا المقال على ما يتعلق بالتأصيل النظري للقيم الإسلامية؛ من حيث مفهومها وأصولها وخصائصها؛ لبيان قدرتها على الاستجابة للتحديات الحضارية المعاصرة.

■ نحو رؤية تأصيلية للقيم الإسلامية وطرق إدماجها في مناهج التربية:

أولاً: في مفهوم القيم الإسلامية:

في دراستنا لمادة «قوم» في كتاب «المصطلح التربوي من خلال القرآن الكريم»؛ وقفنا على استعمالات متعددة للمصطلحات المكونة من هذه المادة، كالقيّم، والقيّوم، والاستقامة، والقائم ـ وما سواها.

قال ابن فارس في معجم مقاييس اللغة في مادة «قوم»: «القاف والواو والميم: أصلان صحيحان، يدل أحدهما على جماعة من الناس، وربما استعير في غيرهم. والآخر على انتصاب أو عزم»(8)، وذكر الراغب في المفردات أن الاستقامة «تقال في الطريق الذي على خط مستو، والإنسان المستقيم هو الذي يلزم المنهج المستقيم»(9).

وقد ورد مصطلح الاستقامة والمستقيم في القرآن الكريم بمعنى الهداية والطريق المستقيم، قال ابن كثير في تفسير قوله ـ تعالى ـ: {لِمَن شَاءَ مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ} [التكوير: 28]: «أي من أراد الهداية»(10).

وقال في تفسير قوله ـ تعالى ـ: {أَفَمَن يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّن يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} [الملك: 22]: «أي على طريق واضح بيّن، والمؤمن يكون في نفسه مستقيماً وطريقه مستقيمة»(11).

قال سيد قطب في تفسير قوله ـ تعالى ـ: {لِمَن شَاءَ مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ} [التكوير: 28]: «أي أن طريق الهداية ميسر لمن يريد»(12).

والتقويم: «هو بيان قيمة الشيء»(13)، وقد ورد في القرآن الكريم بمعنى حسن الصــــورة، والهيئة، قال ابن كثير في تفســـير قوله ـ تعالــى ـ: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإنسَانَ فِي أَحْـــسَنِ تَقْوِيمٍ} [التين: 4]: «أي أنــه ـ تعالى ـ خلق الإنسان في أحسن صورة وشكل، منتصب القامة، سوي الأعضاء، وحسنها»(14).

وقال سيد قطب في تفسير قوله ـ تعالى ـ: {فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} [التين: 4]: «أي خص الإنسان بحسن التركيب، وحسن التعديل، وحسن الخلق، وحسن التكوين»(15).

وقال ابن العربي في تفسيرها: «إن الله خلق آدم على صورته، يعني على صفاته، فإن الله خلقه حياً عالماً مريداً متكلماً... لذلك فليس لله ـ تعالى ـ خلقٌ هو أحسن من الإنسان جمال هيئة، وبديع تركيب!»(16).

والقيوم الدائم القائم بتدبير ما خلق، وقال الحسن: معناه القائم على كل نفس بما كسبت حتى يجازيها بعملها. من حيث هو عالم لا يخفى عليه شيء منها، والقيوم من أسماء الله تعالى، وهو ـ سبحانه ـ القائم بنفسه مطلقاً لا بغيره(17).

وفي قوله ـ تعالى ـ: {وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} [البينة: 5]؛ القيمة القائمة بالحق والدين المستقيم(18).

وفي سنن الدرامي من حديث عبد الله بن صالح بسنده إلى ابن غنم قال: «نزل جبريل على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فشق بطنه، ثم قال جبريل: قلب وكيع فيه أذنان سميعتان وعينان بصيرتان، محمد رسول الله المقفى الحاشر، خلقك قيم، ولسانك صادق، ونفسك مطمئنة»(19).

وروى البخاري في كتاب الدعوات من حديث ابن عباس: «كان النبي -صلى الله عليه وسلم- إذا قام من الليل يتهجد قال: اللهم! لك الحمد أنت نور السماوات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد أنت قيم السماوات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد أنت الحق، ووعدك حق، وقولك حق، ولقاؤك حق...» الحديث(20).

ففي الحديث الأول قوله: «خلقك قيم»، وذلك بعد تصفية القلب من الدرن وما يعلق به من الآثام تهيئاً لحمل الرسالة، وكذلك عرف عن الرسول -صلى الله عليه وسلم- أنه ما عبد صنماً قط قبل البعثة.

وفي الحـديث الثاني بيـان لمصـدر القيـم فـي الكـون، وهـو الله ـ تعالى ـ والإنسان مدرك لحقائق الكون منه. وإلى الله ـ تعالى ـ يرجع الأمر كله بعد حياة الابتلاء التي تنتهي بالتقويم: {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْـمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * الَّذِي خَلَقَ الْـمَوْتَ وَالْـحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} [الملك: 1 - 2].

والقارئ لما سبق يدرك أن مادة «قوم» التي يشكّل منها المصطلح الذي نحن بصدد دراسته تدور حول مصدر القيمة ومسلكها وامتدادها وأثرها وصفاتها، فالمصدر: هو الله القيوم، والمسلك: طريق مستقيم لا عوج فيه، والامتداد: في الحياة والكون كله، والأثر: في نفس الإنسان الذي جعله الله خليفة في الأرض، والذي ميّزه بحسن التركيب وحسن التعديل في الهيئة، وأمره بحسن التدبير والتسيير في التعامل مع المخلوقات المسخرة له عبادة وطاعة للخالق، وصفات الثبات والدوام والإطلاق وعدم التغيير التي تكتسبها القيم التي زرعها الله في الإنسان حين نفخ فيه من روحه.

وعليه؛ فإن مصطلح القيم لا ينفك عن هذا المحيط من المعارف الكاملة المتكاملة، وعلى هذا المعنى تدور تعاريف كثير من الباحثين المعاصرين في مجال القيم.

يقول الدكتور ماجد عرسان الكيلاني: «القيم محطات ومقاييس تحكم بها على الأفكار والأشخاص والأشياء والأعمال والموضوعات والمواقف الفردية والجماعية من حيث حسنها وقيمتها، أو من حيث سوئها وعدم قيمتها وكراهيتها، أو في منزلة معينة بين هذين الحدين»(21).

ويقول الدكتور أحمد مهدي عبد الحليم: «ويشير مفهوم القيمة إلى حالة عقلية ووجدانية، يمكن تعرفها في الأفراد والجماعات والمجتمعات من خلال مؤشرات، هي المعتقدات والأغراض والاتجاهات والميول والطموحات والسلوك العملي، وتدفع الحالة العقلية والوجدانية صاحبها إلى أن يصطفي بإرادة حرة واعية وبصورة متكررة نشاطاً إنسانياً ـ يتسق فيه الفكر والقول والفعل ـ يرجحه على ما عداه من أنشطة بديلة متاحة فيستغرق فيه، ويسعد به، ويحتمل فيه ومن أجله أكثر مما يحتمل في غيره دون انتظار لمنفعة ذاتية»(22).

وحين ترتبط القيم بمنظومة فكرية وعقائدية مطلقة تتمثل في الإسلام؛ فإنها تستمد قوتها ورسوخها في النفس منه، فتتنفس من هوائه وتنتشر في سمائه ولا تجد في الواقع حاجزاً يمنعها من الامتداد في ذاتها إلا ما كان من مد وجزر في طبائع العباد من حيث استعدادهم للقرب منها في حالة الصفاء أو ابتعادهم عنها حين تتراكم حواجز المادة، وتتوارى إلى رجعة نسائم الروح، فيقول الإنسان: {وَعَجِلْتُ إلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى} [طه: 84] .

ثانياً: أصول القيم الإسلامية:

منذ أن بعث الله ـ سبحانه وتعالى ـ نبيه إبراهيم ـ عليه السلام ـ بملة الإسلام؛ كان دعاؤه المبارك لأمته أن يبعث فيها رسولاً يركز فيها قيماً ثلاثة، جمعها قوله ـ تعالى ـ: {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّـمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْـحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْـحَكِيمُ } [البقرة: 129] .

وقد استجاب الله ـ تعالى ـ لنداء نبيه وخليله، فبعث محمداً -صلى الله عليه وسلم- هادياً ومربياً، وأنزل معه الكتاب والحكمة، قال ـ عليه الصلاة والسلام ـ: «إنما بُعثت لأتمم مكارم الأخلاق»(23)، ومن هذا المنبع الثّر نَهَلَ جيل الصحابة الكرام قيم الإسلام، وصنعوا بواسطتها جيلاً حمل راية الإسلام إلى العالم.

وانطلاقاً من ذلك كانت الأصول العامة للقيم الإسلامية ملخصة في ثلاث:

- القرآن الكريم.

- السنة والسيرة النبوية.

- اجتهادات علماء التربية المسلمين.

أ - القرآن الكريم:

إن النظر العام يلخص رسالة القرآن الكريم في التربية على القيم، وما الأحكام والتشريعات إلا وسائل، لا قيمة لممارستها إن لم تؤد إلى التربية الإيمانية، قال ـ جل وعلا ـ: {قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَـمَّا يَدْخُلِ الإيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإن تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُم مِّنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ * إنَّمَا الْـمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} [الحجرات: 14 - 15].

ويمكننا أن نركز الكلام في حديثنا عن بنية القيم الإسلامية في القرآن الكريم في نقاط أربع:

1 - تحديد القيم الكبرى التي تخلق التوازن في تعامل الإنسان مع خالقه والناس والمحيط: ويمكننا أن نحدد هذه القيم الكبرى بحسب علاقات الإنسان الثلاث في: قيمة التوحيد، وقيمة الحكمة، وقيمة التسخير.

فقيمة التوحيد قيمة كبيرة تتفرع عنها قيم العبودية كلها بجزئياتها وتفاصيلها، كقيمة التقوى، وطاعة الأوامر واجتناب النواهي، والقربى بالنوافل، والتحرر من عبودية المخلوقات، وغيرها مما سنعرفه بتفصيل في مجالات القيم الإسلامية.

وقيمة الحكمة قيمة كبيرة تحكم تعامل الإنسان مع أخيه، تتفرع عنها قيم التعاون، والتآزر، والتآخي، والإيثار، والتكافل، ولين الكلام والتواضع، وما في حكم ذلك من قيم تنظيم العلاقات العامة بين الناس.

وقيمة التسخير قيمة كبيرة كذلك، تتفرع عنها قيم تعامل الإنسان مع بيئته ومحيطه من الأمم الأخرى غير الإنسان: {وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُم} [الأنعام: 38] .

2 - تكريم الرسل وورثتهم من العلماء الحاملين لهذه القيم والناشرين لها والمضحين من أجلها: قال ـ تعالى ـ: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِّنْهُم مَّن كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ} [البقرة: 253]، وقال: {إنَّا أَوْحَيْنَا إلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ} [النساء: 163]، وقال ـ تعالـى ـ: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إلَى إبْرَاهِيمَ وَإسْمَاعِيلَ وَإسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [البقرة: 136]، فرسالة القيم رسالة واحدة، والمرسلون بها بلغوها إلى كل الأقوام، قال ـ تعالى ـ: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولٌ} [يونس: 47].

وللأنبياء ورثة كرّمهـم اللـه بكــرم القيــم التي يحملونها، قال ـ تعالى ـ: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة: 11]، وربط الله ـ تعالى ـ بين العلم والقيم منذ الوهلة الأولى للقراءة: {اقْرأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الإنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق: 1 - 5]، والقارئ للقرآن يدرك حقيقة بالغة الأهمية، وهي أن الغاية الكبرى للعلم معرفة الخالق وخشيته، قال ـ تعالى ـ: {إنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر: 28]، فإذا تجرد العلم عن القيم لم ينفع صاحبه، وهذا هو الفرق بين إبليس الذي وضعه علمه ونزل به إلى أسفل سافلين، وآدم الذي كرّمه الله بتوبته فعلّمه الأسماء كلها، وأناط به الخلافة، وعمّر به الأرض.

3 - بناء أساليب الحكمة وفصل الخطاب: إن الرسالة والرسول قطبان في عملية تبليغ القيم، ولكن وسيلة التبليغ وطريقته موهبة ربانية؛ فكم من عالم ليس بحكيم! وكم من حكيم أجاد التبليغ بعلم قليل! لذلك طلب موسى من ربه أن يؤازره بأخيه هارون؛ لأنه أفصح منه لساناً، وفهّم الله ـ سبحانه ـ سليمان القضاء دون داود، وكرم محمداً -صلى الله عليه وسلم- بأن آتاه الله الكتاب والحكمة، قال ـ تعالى ـ: {يُؤْتِي الْـحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ وَمَن يُؤْتَ الْـحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إلاَّ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} [البقرة: 269]، ومعلوم في النظر القرآني أن لا خير في علم لا تشفعه حكمة وتزكية؛ إذ هي قيم متلازمة، {وَيُعَلِّـمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْـحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْـحَكِيمُ} [البقرة: 129]، والحكمة حسن تلقي العلم وتبليغه، قال ـ تعالى ـ: {وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} [آل عمران: 159]، والآية مليئة بالقيم الإيجابية ونقيضها الذي يحصل حين تغيب الحكمة، وقال ـ تعالى ـ: {وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفًا} [النساء: 5]، وقال: {وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} [العنكبوت: 46].

وقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- مثالاً في الحكمة. وقد وهبه الله ما وهب داود من قبله حين قال ـ تعالى ـ: {وَآتَيْنَاهُ الْـحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْـخِطَابِ} [ص: 20]، كما سنرى من خلال أمثلة من سيرته العطرة. ولذلك كان -صلى الله عليه وسلم- يوجه خطابه إلى الأمة وهو يرسم لهم ميزان الاعتدال في تعليم وترسيخ القيم الإسلامية في النفوس؛ قائلاً: «يسروا ولا تعسروا، وبشّروا ولا تنفروا»(24)، وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ـ كما يقول الصحابة ـ يتخوَّلهم بالموعظة كراهية السآمة(25)، وتلك كانت الأسس الأولى لصياغة النظرية التربوية الإسلامية؛ انطلاقاً من توجهات القرآن الكريم.

4 - تحديد معايير التقويم لمعرفة مدى تحقق القيم الإسلامية في النفس وتمثلها في المجتمع: وتفسير ذلك أن الله ـ تعالى ـ جعل التقويم الغاية من خلق الخليقة حين قال: {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْـمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * الَّذِي خَلَقَ الْـمَوْتَ وَالْـحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} [الملك: 1 - 2]، وألفاظ الحساب والعقاب والجزاء والمصير كثيرة في القرآن، تنبه الإنسان إلى ضرورة التقويم الذاتي، {فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَــــا * قَدْ أَفْلَـــحَ مَـــن زَكَّاهَــا} [الشــمس: 8 - 9]، وقـد حـدد القرآن في بداية سورة المؤمنون بعض قضايا الإنسان والمجتمع، ووضع أمام كل قضية معيار التقويم فيها حتى يعرض الإنسان سلوكاته وتصرفاته عليها فينظر هل حفظ أم ضيع، قال ـ تعالى ـ: {قَدْ أَفْلَحَ الْـمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ * أُوْلَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ * الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [المؤمنون: 1 - 11].

ب - السنّة والسيرة النبوية: لئن وضع القرآن الكريم الجانب النظري في صياغة القيم ونشرها وترسيخها؛ فإن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بسنته وسيرته وضع الإجراءات التطبيقية لذلك في واقع المسلمين، وذلك على النحو الآتي:

- السلوك والقدرة:

قال ـ تعالى ـ: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّـمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب: 21]، وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يزاوج بين النظر والتطبيق في تعليم القيم الإسلامية؛ بحيث يصلي بالناس ثم يقول لهم: «صلوا كما رأيتموني أصلي»(26)، ويحج بهم ثم يقول: «لتأخذوا مناسككم»(27)، وينحر ويحلق في صلح الحديبية فيفعل الناس بعد امتناع.

وحاجتنا اليوم إلى نماذج في السلوك يحتذي بها المتعلم، ومواصفات تتوفر في المربي المسلم يحتذي الناشئة بها، فالفصل بين التربية والتعليم كارثة الأنظمة التعليمية في المدرسة المعاصرة.

- بناء الأساليب وتقنيات التواصل في تعليم القيم:

إن الناظر في السيرة النبوية بعين تربوية منقبة عن تقنيات التواصل مع الناس؛ ليجد أن فيها من الإشارات ما إن جمعها ليشكل نظرية متكاملة في التواصل، فالرسول -صلى الله عليه وسلم- «يعبِّر بملامح وجهه عن السخط والرضا، ويغير من هيئة جلسته أثناء الكلام لبيان أهمية الأمر وخطورته؛ كما هو الشأن في حديثه عن شهادة الزور، قال راوي الحديث: «وكان متكئاً ثم جلس وقال: ألا وشهادة الزور. مراراً حتى قلنا: ليته سكت»(28)، وفي هذا إشارة إلى تقنية التكرار أيضاً، وهو يشير -صلى الله عليه وسلم- بأصابعه لتقريب الأفهام، مثل قوله: «بعثت أنا والساعة كهاتين. وضم السبابة والوسطى»(29)، وهو يضرب المثل مستخدماً القصة، ويأتي بأخبار الأمم السابقة، مثل قوله -صلى الله عليه وسلم-: «مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل بنى بيتاً» الحديث(30)، وقوله -صلى الله عليه وسلم- أيضاً: «أرأيتم لو أن نهراً بباب أحدكم يغتسل منه كل يوم خمس مرات أيبقى من درنه شيء؟ قالوا: لا يا رسول الله، قال: فكذلك الصلوات الخمس يمحو الله بهن الخطايا»(31). وهو -صلى الله عليه وسلم- يلحظ نفسية السائل وقابليته للتعليم، فيجيب بحسب ذلك أجوبة تختلف في الشكل والموضوع، فمن حيث الشكل هي بين الطول أحياناً والقصر أحياناً، ومن حيث الموضوع دواء مناسب لداء السائل.

والعجب أن الرجل يقول: أوصني يا رسول الله! فيقول -صلى الله عليه وسلم-: «لا تغضب!» فيقول السائل: زدني! قال: «لا تغضب»! وكررها ثلاثاً(32)، ولكننا نجده يقول لمعاذ بعد أن أجابه عن سؤاله الذي قال فيه: «يا رسول الله! دلني على عمل يدخلني الجنة ويباعدني عن النار!»، فجعل -صلى الله عليه وسلم- يقول في جوابه: «ألا أدلك على رأس الأمر وعموده وذروة سنامه... ألا أدلك؟... ألا أخبرك؟»(33)، وذلك من حكمته -صلى الله عليه وسلم- في النظر إلى قابلية المتعلم للتلقي، وهي من أرقى تقنيات التواصل التربوي التي عرفها الفكر التربوي المعاصر أخيراً.

ج - اجتهاد وإبداع علماء التربية المسلمين:

لم تكن التربية عندهم علماً مستقلاً ولكنها كانت محضن القيم، وكانت أساس تلقي العلوم الشرعية من فقه وحديث وتفسير، وكانت الممارسة العملية في مجالس التعليم وليدة الجو الخاشع الذي يخلقه العالم والمتعلم لاعتقادهما الراسخ بقدسية العلم الملقن وخاصة ما ارتبط منه بالوحي. ألا ترى أن الإمام مالك ـ رحمه الله ـ كان يفرّق بين مجلس الفتوى ومجلس الحديث، ويجعل لهذا الأخير قواعد وطقوساً، وكان ـ رحمه الله ـ يقتصر في الجواب على السؤال والسؤالين، وكان يقول لا أدري في سواها مما لا يعرف.

وفي الحديث كان الإمام مالك ـ رحمه الله ـ يميل إلى التقليل من الرواية والإكثار من الفقه، فقد قال لابني أخته: «أراكما تحبان هذا العلم ـ يعني الحديث ـ، فإن أردتما أن تنفعا وينفع الله بكما؛ فأقلا منه وتفقها»(34)، وظهر في مدرسته اتجاهان: اتجاه الرأي مع أبي القاسم، واتجاه الحديث مع ابن وهب في مصر، ومن ذلكم القطر انتقل الاتجاهان إلى القيروان مع ابن سحنون وأسد بن الفرات، ومنها إلى المغرب والأندلس، ولكل من الاتجاهين قواعد في الإقراء وتلقي العلم. وفي مقابل هذا كانت مدارس الرأي في العراق تتوسع في الأسئلة حتى اشتهرت عندهم مجالس المناظرات والجدل في الموجود والمتوقع، حتى ظهر عندهم ما سمي بالفقه الافتراضي. ومن خلال مدارس الفقه تبلور الفكر التربوي عند علماء الإسلام، فكتب ابن سحنون والقابسي من أهل القيروان آراءهما التربوية في سياسة الصبيان وأدب العالم والمتعلم، وتبعهما غيرهما.

والذي نذكره هنا أن ما أنتجوه من فكر تربوي وابتدعوه من أساليب في نقل القيم المصاحبة للعلم؛ صاغوا منه نظرية تربوية إسلامية مرنة، تتكيف مع الأحوال والظروف، وتستوعب المتغيرات، وتنتج لكل حالة حلاً، ولكل واقعة حديثاً. وانطلاقاً من كل ذلك تمكن المختصون من الباحثين أن يلتمسوا خصوصيات للنظام التربوي الإسلامي التي يتقاطع فيها مع غيره من الأنظمة التربوية، وخاصة في الوسائل والإجراءات، ويتميز عنها بثوابت وأصول.

ثالثاً: القيم الإسلامية سماتها وخصائصها:

إن قراءة في أصول القيم الإسلامية ـ كما حددت بعض ملامحها في ما سبق ـ، والنظر إلى واقع المسلمين في تمثل هذه القيم والتفاعل معها إيجاباً وسلباً؛ تجعلنا نحدد سمات وخصائص للقيم الإسلامية تتميز بها عن غيرها من القيم الوضعية.

وكثيرة هي الدراسات التي تناولت خصائص القيم الإسلامية بالدرس والتحليل، فتفاوتت في تحديد الخصائص والسمات بين موسّع ومضيّق، والحاصل أن كل ما قرأت من دراسات في المجال تكاد تفاصيلها ومجالاتها تنحصر عند التأمل في خمس صفات، وهي:

أ ـ الربانية في المصدر:

وقد بسطنا فيها الكلام عند حديثنا عن أصول القيم الإسلامية من الكتاب والسنة والتطبيقات الاجتهادية للعلماء والمربين المسلمين، ويكفي أن أذكر في هذا المقام بكلام ابن العربي في أحكام القرآن حين قال: «إن الله خلق آدم على صورته، يعني على صفاته، فإن الله خلقه عالماً قادراً مريداً متكلماً... فليس لله ـ تعالى ـ خلق هو أحسن من الإنسان جمال هيئة، وبديع تركيب»(35).

ويكفي أن نعرف أن الله خلق آدم ونفخ فيه من روحه، ومع روح الله ومنها انزرعت القيم في كيان الإنسان، فحبه للخير وكرهه للشر من روح الله، قال ـ تعالى ـ: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} [الشمس: 7 - 8]، وقال: {ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِهِ} [السجدة: 9]. وبيَّن ذلك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حين قال: «كل مولود يولد على الفطرة، فأبــواه يهــودانه أو ينصـرانه أو يمجسـانه»(36)، قال ـ تعالى ـ: {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِـخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} [الروم: 30].

فالإنسان ليس صفحة بيضاء، كما أنه ليس صفحة سوداء مليئة بالآثام ـ كما هو معروف في النظرية المسيحية ـ، ولكنه مفطور على دين الإسلام وقيمه، وحين نزل إلى الأرض واختلط بالبيئة اقترب أو ابتعد من هذه القيم بحسب المؤثرات. فشرع الله ـ تعالى ـ في كتابه وسنة نبيه وسائل وطرقاً لاكتساب الصفاء من الأدران، والقرب من القيم الربانية الأصيلة في فطرة الإنسان.

ب - الواقعية:

فالقيم الإسلامية ليست قيماً نظرية مثالية، وإنما هي خلاصة شريعة نزلت حسب الوقائع والأحداث، واستجابت لمشكلات الناس وقضاياهم، وليست فكراً يبتغي المدنية الفاضلة التي لا وجود فيها للشر، وبالتالي فهي واقعية في مراميهــا وأهــدافهـا، قاعدتها قوله ـ تعالى ـ: {وَعَجِلْتُ إلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى} [طه: 84]. والعجلة هنا الترقي في سلم الرضا بحسب الطاقة والاستطاعة، {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلاَّ وُسْعَهَا} [البقرة: 286] .

فالعدل على سبيل المثال قيمة إسلامية راسخة، ولكن تحقيقه في الواقع مدافعة للظلم بقدر الاستطاعة، ولذلك كان رسول الله يقول: «إنما أنا بشر، وإنه يأتيني الخصم فلعل بعضكم أن يكون أبلغ من بعض؛ فأحسب أنه صدق؛ فأقضي له بذلك! فمن قضيت له بحق مسلم؛ فإنما هي قطعة من نار! فليأخذها أو ليتركها!»(37).

والحب قيمة إسلامية عظمى، ولكن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في العدل بين زوجاته في هذا الجانب كان يقول: «اللهم! هذه قسمتي في ما أملك؛ فلا تلمني فيما لا أملك»(38)، يعني الميل العاطفي. وكذلك الحفاظ على مال اليتيم قيمة اقتصادية عظيمة في الإسلام، ولكن يوجد إلى جانبها وعيد يحذر من أكل مال اليتيم لوجود هذه الظاهرة في الواقع، وستبقى موجودة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها؛ لأن الأشياء تتميز بضدها.

وقس على هذا مختلف القيم الإسلامية، فرغم كونها مطلقة في أصولها، ربانية في مصدرها؛ فإن إنزالها على الواقع يحكمه التدرج والحسنى لنفي القيم السيئة بالحسنة، قال -صلى الله عليه وسلم-: «وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن»(39).

ثم إن الله ـ تعالى ـ لم يطلب من الإنسان مطلق الكمال في تمثل القيم الإسلامية، ولكنه طلب منه الصعود في سلمه على قدر العزم، ثم يسأل الله بعد ذلك أن يبلغه سؤله وأمله.

ج - العالمية والإنسية:

لا يختلف اثنان من ذوي الألباب أن العدل حسن والظلم سيء، وأن الكذب مشين والصدق مزين، والبخل والشح مكروهان، والسخاء والبذل مطلوبان؛ مهما اختلفت الملل والنحل.

فتلك وأضدادها قيم عالمية هي أصل الفطرة جاء بها الإسلام العالمي، قال ـ تعالى ـ: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إلاَّ كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا} [سبأ: 28]، وقال ـ سبحانه ـ: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107].

فقيم الإسلام التي تضمنتها رسالة الأنبياء والرسل كافة وختمها محمد -صلى الله عليه وسلم-؛ ليست للمسلمين بخصوصهم وإنما هي منفتحة على سائر الأمم والشعوب، ينهلون منها فتقوّم سلوكاتهم، وتعدل من اتجاهاتهم، فتكون هذه العالمية مدخلاً إلى الإسلام عند كثير من الأمم والشعوب والأفراد.

وقد أخذ محمد -صلى الله عليه وسلم- بهذه القيم العالمية وجاء ليتممها، فقال -صلى الله عليه وسلم-: «إنما بعثت لأتمم صالح الأخلاق»(40)، والإتمام يعني أن الإسلام أقر قيماً إنسانية موجودة بالجبلة والفطرة لدى الناس مهما اختلفت مللهم ونحلهم، وذلك مدخل لهم كي ينتبهوا إلى قيم الإسلام الخالدة فيسارعوا إلى اعتناقه كاملاً غير منقوص إتماماً لنعمة الله عليهم: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسْلامَ دِينًا} [المائدة: 3].

ونحن ننبه هنا إلى أمر جدّ مهم، وهو أن تمسك الإنسان بالقيم الإنسانية العالمية خارج إطار الإسلام والإيمان يفيده في دنياه ولا يفيده في آخرته بحسب النية والقصد، فالملتزم بالقيم الإنسانية يبتغي بذلك مرضاة الله ورضوانه يجد الثواب عنده يوم لقائه، ومن تمسك بهذه القيم إرضاء للضمير وابتغاء دنيا؛ فلن يبخسه ـ تعالى ـ حقه في دنياه، وماله في الآخرة من خلاق، قال ـ تعالى ـ: {مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لاَّ يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ } [إبراهيم: 18]، وقال ـ تعالى ـ: {مَن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِـمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُومًا مَّدْحُورًا * وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا * كُلاًّ نُّمِدُّ هَؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا} [الإسراء: 18 - 20].

د - التكيف:

ذلكم أن القيم الإسلامية قابلة للتحقق في المجتمع بمختلف الوسائل والطرق، وتتكيف مع مختلف الأحوال والأزمان والأمصار دون أن يؤثر ذلك في جوهرها، فالعدل يتحقق في المجتمع عبر مؤسسات مختلفة قد تخلقها الدولة بحسب حاجتها وعلى قدر إمكاناتها؛ المهم أن يتحقق العدل، وقد يتحقق في مختلف مظاهر الحياة العامة داخل الأسرة وفي الأسواق وفي المنظمات والهيئات وغير ذلك بصور شــتى وبوسائل مختلفة، والأصـل في ذلك قــوله ـ تعالى ـ: {وَإذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} [الأنعام: 152].

ولذلك لم تضع التربية الإسلامية لقيمها قوالب منظمة جاهزة لا بد أن تفرغ فيها، وإنما أمرت بضرورة تحقق الجوهر بأشكال مختلفة تستجيب لحاجات الزمان والمكان والأحوال فأمرت بتحقيق الشورى في المجتمع ولم تحدد الكيفية والوسيلة، وأمرت بأداء الأمانات إلى أهلها مطلق الأمانات بعد حفظها ولم تحدد وسائل الحفظ؛ لأنها متغيرة وأمرت بالتكافل الاجتماعي، وتركت طرق تحقيقه مفتوحة على اجتهادات المقدمين عليه، وأمرت بالإنفاق في سبيل الله؛ مطلق سبيل الله ليعم الخير كلَّ مناحي الحياة، ويغطي حاجات الناس المتجددة.

ومن مظاهر التكيف في القيم الإسلامية؛ قابليتها للتداول بكل أنواع الخطاب من الوعظ والإرشاد إلى الخطابة، فالكتابة والنشر، إلى الوسائل السمعية البصرية، إلى التقنيات الحديثة للتواصل من إعلاميات وإنترنت وغيرها، ومعلوم أن كل خطاب يحمل قيمة من القيم. والقيم الإسلامية أولى أن تحملها وسائل التواصل هذه؛ إذ ينبغي أن تحمل إلى كل أهل عصر بما ساد عندهم من وسائل، حتى تكون قادرة على التأثير في سلوكياتهم والتعديل من اتجاهاتهم وتشكيل تصوراتهم.

ومن مظاهر التكيف أيضاً قدرة هذه القيم على الاستجابة لحالة متلقيها العمرية والنفسية والوجدانية والعقلية، فلكل أسلوبه وطريقه ومنهجه، فالمربون الناقلون للقيم الإسلامية لهم قدرات وطاقات، والمتعلمون لهم قدرات وطاقات أيضاً، ولهذا لم يكن للنظرية التربوية الإسلامية الحاملة للقيم خطاب واحد، وإنما يتنوع خطابها بفعل مرونته ويتكيف مع مختلف الحالات، فما اتجه علماء في أدب العالم والمتعلم يختلف من سياسة الصبيان إلى سياسة الغلمان، فسياسة من قوي عوده وعزم على طول الرحلة والطلب والتفرغ للعلم.. إلى غير ذلك.

هـ - الاستمرار:

ليست القيم الإسلامية ضرباً من التاريخ الذي نفتخر به حين تجلى في أبهى صوره زمن الرسالة الخاتمة، وإنما هي قيم تجد نفسها مستمرة في الواقع تضيق وتتسع مساحتها بحسب الجهد المبذول لنشرها والوسائل المستعملة في ذلك.

والذي يمكن أن يُدرس للتاريخ والعبرة هو تجليات هذه القيم في المجتمع عبر الدهور والأحقاب السالفة؛ لمعرفة كيفية تفاعلها مع مختلف السلوكيات، ومدى قدرتها على صناعة التحولات الكبرى في تاريخ البشرية والاستفادة من ذلك في بناء الحال والمستقبل.

وتستمد القيم الإسلامية استمراريتها من صلاحية مصادرها لكل زمان ومكان، قال ـ تعالى ـ: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107].

ومن مظاهر الاستمرار في القيم الإسلامية تكرر حدوثها في سلوكيات الناس حتى تستقر، قال -صلى الله عليه وسلم-: «لا يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صدّيقاً»(41)، فالصدّيق لا يطلب منه أن يصدق مرة ويكذب مرات، وإنما المطلوب أن يستمر هذا السلوك في تصرفاته طول حياته حتى يستحق هذا اللقب، يقول الدكتور أحمد مهدي عبد الحليم: «ومن الخصائص الأساسية في القيمة تكرار حدوثها بصفة مستمرة، فمن يصدق مرة أو مرات لا يوصف بأنه فاضل في سلوكه، وإنما تتأكد القيمة وتبرز الفضيلة الخلقية في سلوك الإنسان إذا تكرر حدوثها بصورة تجعلها عادة مستحكمة أو جزءاً من النسيج العقلي والسلوكي لصاحبها وعنواناً لهويته»(42).

ومن هنا كان تنديد القرآن بأولئك الذين لا يثبتون على اتباع طريق الهدى والحق، ويتراوح سلوكهم بين الحق والباطل وبين الهدى والضلال، {إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَّمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً} [النساء: 137].

وكان تنديد القرآن بالنموذج البشري الذي لا يستقيم على فعل الخير ويؤدي منه القليل ثم يقعد عن مواصلته أو يكف عنه، {أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى * وَأَعْطَى قَلِيلاً وَأَكْدَى} [النجم: 33 - 34] ؛ أي: «ضعف عن الاستمرار في العطاء أو كف عنه مع توفر مقوماته»(43).

ولذلك كانت المجاهدة والمثابرة لحمل النفس على استمرار التمسك بالقيم الإسلامية؛ حتى ترقى من الإسلام إلى الإيمان إلى الإحسان، فيبعد الإنسان الله كأنه يراه، وتلك أحلى ثمرات القيم الإسلامية التي لا تتحقق إلا بالتكرار والاستمرار.

تلكم نظرة مركزة على خصوصيات القيم الإسلامية ووسائل نقلها ونشرها، وكيفية إسهامها في تشكيل وإعادة تشكيل العقل المسلم.

إن هذا الإطار النظري حينما يصرف في شكل تطبيقات ميدانية في بناء مناهج التعليم؛ سيؤدي لا محالة إلى تجديد تربية مداركنا، وتغيير ما ترسب فينا من معلومات منقطعة عن القيم الأخلاقية والمعاني الغيبية تحت تأثير النمط المعرفي الحديث(44). ومن شأن ذلك أن يؤدي إلى تجديد التربية برجوعها إلى حضن القيم الفطرية: {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِـخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [الروم: 30].


--------------------------------------------------------------------------------

(*) رئيس المركز المغربي لدراسات الأبحاث التربوية الإسلامية، المدرسة العليا، للأساتذة تطوان، المغرب.

(1) العلمانية نشأتها وتطورها، د. سفر الحوالي، ص 596 وما بعدها.

(2) سؤال الأخلاق، ص 221.

(3) انظر: «أثر الاستغراب في التربية والتعليم»، د. عبد الله الشارف، ص 14، 324.

(4) د. محمود محمد سفر: دراسة في البناء الحضاري، كتاب الأمة، ع 21 سنة 1409هـ.

(5) د. لحسن مادي، السياسة التعليمية بالمغرب ورهانات المستقبل، ص 811.

(6) المصدر السابق نفسه.

(7) انظر تفاصيل المشروع نظرياً وتطبيقياً في كتاب القيم الإسلامية في المناهج الدراسية، خالد الصمدي، منشورات الإيسيسكو: 3002م.

(8) ج 5، ص 34.

(9) مفردات ألفاظ القرآن، الراغب الأصفهاني، مادة «قوم».

(10) ج 8، ص 362.

(11) ج 8 ، ص 131.

(12) في ظلال القرآن، ج 6، ص 3843، ط 5891م.

(13) مفردات ألفاظ القرآن، الراغب، مادة «قوم».

(14) ج 8، ص343.

(15) ج 8، ص 609، ط 1791م.

(16) أحكام القرآن، ج 4، ص 415، ط 1، 8891م.

(17) العمدة في غريب القرآن، مكي بن أبي طالب، ص 29.

(18) المرجع السابق، ص 253.

(19) سنن الدرامي، المقدمة، الحديث رقم 35.

(20) كتاب الدعوات، البخاري، رقم الحديث، 2485.

(21) فلسفة التربية الإسلامية، ماجد عرسان الكيلاني، ص 992.

(22) تعليم القيم فريضة غائبة ـ مجلة المسلم المعاصر، أحمد مهدي عبد الحليم، ع 65/66، سنة 2991 ـ 3991م.

(23) رواه الإمام أحمد في المسند، مسند المكثرين.

(24) رواه البخاري في كتاب العلم.

(25) رواه البخاري في كتاب الدعوات.

(26) رواه البخاري في كتاب الآذان.

(27) رواه مسلم في كتاب الحج.

(28) رواه البخاري في كتاب استتابة المرتدين والمعاندين من حديث عبد الرحمن بن أبي بكرة عن أبيه.

(29) رواه البخاري في كتاب الفتن وأشراط الساعة من حديث أنس.

(30) رواه البخاري في كتاب المناقب من حديث أبي هريرة.

(31) رواه البخاري في كتاب مواقيت الصلاة من حديث أبي هريرة.

(32) رواه البخاري في كتاب الأدب من حديث أبي هريرة.

(33) رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح.

(34) ترتيب المدارك، القاضي عياض، ج 1، ص 421.

(35) أحكام القرآن، أبو بكر ابن العربي، ج 4، ص 514.

(36) رواه البخاري في كتاب الجنائز.

(37) رواه البخاري في كتاب المظالم والغصب.

(38) رواه الترمذي في كتاب النكاح.

(39) رواه الترمذي في كتاب البر والصلة.

(40) رواه الإمام أحمد في المسند، مسند المكثرين.

(41) رواه الإمام أحمد في مسنده.

(42) تعليم القيم الفريضة الغائبة، مجلة المسلم المعاصر، أحمد مهدي عبد الحليم، العددان 65، 66، 2991م.

(43) المصدر السابق.

(44) سؤال الأخلاق، د. طه عبد الرحمن، ص 011.

رد مع اقتباس
  #6  
قديم 18-10-2007, 08:40 PM
د.فالح العمره د.فالح العمره غير متصل
 
تاريخ التسجيل: Feb 2005
الدولة: في قلوب المحبين
المشاركات: 7,593
معدل تقييم المستوى: 27
د.فالح العمره is on a distinguished road
رد: دراسات في القيم

قضية القيم بين الاقتصاد الغربي العلماني والاقتصاد الإسلامي


حسن الأشرف


من أهم العلوم المعاصرة علم الاقتصاد؛ لأن المعاملات المالية من بيع وشراء ورهن وإجارة وشركات ومصانع تعتبر عصب الحياة، وخاصة بعد ذيوع الاختراعات الحديثة مثل الكمبيوتر وشبكة الإنترنت وغير ذلك. ويظل السؤال: هل الاقتصاد علم أخلاقي أو هو علم غير مرتبط بالأخلاق؟ سؤالاً محورياً لكل تحليل علمي منطقي ورصين، فلقد ارتبط الاقتصاد منذ قرون خلت بالمنهج الوضعي الذي يعتبر الإنسان مصدراً أساسياً للمعرفة؛ ومن ثم لم يعد يرتبط هذا العلم بالأخلاق، فالاقتصاد من المنظور الوضعي يبحث فيما هو كائن فعلاً، في حين تهتم الأخلاق بما يجب أن يكون.

وانطلاقاً من هذه الرؤية «لا يمكن للاقتصادي أن ينسب لنفسه أي حق خاص في تقرير القيم الأخلاقية التي ينبغي أن تسود في المجتمع، لهذا يقول العاملون بالمنهج الوضعي إن علم الاقتصاد لا علاقة له بالأخلاق»!

إن صراع القيم لم يقتصر على الأخلاق فحسب، بل إنه صراع تعدى ذلك ليتجسد أكثر وضوحاً وعالمية وشمولية في العلاقات الاقتصادية الدولية. فالاقتصاد الوضعي الغربي والأمريكي يستمد وجوده من قيم خاصة به لا تراعي للأخلاق وزناً ولا همّاً، فعين الفاعلين الاقتصاديين في الغرب تنكب على الربح باعتباره غاية لا وسيلة؛ أما الاقتصاد الإسلامي فمنبعه فروض وضوابط مستقاة من النصوص الدينية التي تعتمد على قيم الأخلاق الفاضلة. ولأن اقتصاديات الدول الغربية هي الأقوى حالياً؛ فإنها بسبب ما يسمى بالعولمة والنظام الدولي الجديد؛ صارت تصدّر قيمها الخاصة إلى بلداننا الإسلامية فلا نكترث لخطورتها أحياناً، ولا نهتم بها أحياناً أخرى.

■ القيم الاقتصادية الغربية والأمريكية:

إنها قيم تعتمد على القوة وحس المغامرة، وعلى القدرة والصمود في وجه التقلبات المالية والدعايات الإعلامية والإشاعات والمضاربات التجارية، فهذه القيم يسعى صانعوها العلمانيون إلى تصديرها وتثبيتها داخل الأمة الإسلامية؛ من أجل السيطرة على مفاتيح اقتصادها ونهب خيراتها وثرواتها، وأهم ما يميز هذه القيم هو ما اصطلح عليه من قبل الكثيرين بالعولمة أو الشمولية أو غيرها من المصطلحات الدخيلة على مفهوماتنا الإسلامية البحتة. والعولمة هنا تحتمل أوجهاً عديدة، فهناك عولمة الوهم أو تصدير الحلم بنقل التقنية إلى البلدان الإسلامية التي تنسى «أن التكنولوجيا (التقنية) هي استثمار بالأساس؛ لذا سيكون هذا التفكير نوعاً من الوهم».

وهناك عولمة الازدهار والبؤس؛ فلقد أدت العولمة إلى تقدم ونماء اقتصاد البلدان المعولمة وإلى بؤس البلدان النامية. ولقد استطاعت هذه البلدان الغربية «أن تجعل العولمة الاقتصادية وقفاً عليها وحدها دون ما سواها؛ ما دام أن هذه البلدان بفضل المنظرين والخبراء وعولمة أدائها عرفت كيف تتفادى أن يكون ثالوث الفقر والمرض والجهل عالمياً ـ أي أوروبياً وأمريكياً ـ، وسخرت مختلف تقنياتها ليكون الثالوث ملصقاً بالبلدان الإسلامية».

أما عولمة التبعية فيلخصها بشكل واضح الصحافي الأمريكي المعروف «فريدمان»، حيث يقول: «ينبغي على المسلمين والعرب أن ينتبهوا لتغير الميزان الدولي، وحتمية تقبلهم التغيير سياسياً واقتصادياً وتقنياً وثقافياً، لكي يلحقوا بالركب وإلا ظلوا خارج العولمة وبالتالي ينتهون». وهو قول بليغ يوضح كيف يفكر العلمانيون، بل كيف يرغبون في أن تصير الأمة الإسلامية تابعة لهم، لا هوية لها ولا شأن ولا قيم أخلاقية يسيرون على هداها؛ لكن سيخيب مسعاهم بإذن الله عز وجل.

يقول الأستاذ برهان غليون: «العولمة عبارة عن ظاهرة ثورية تقنية علمية، قائمة على تطور تقنية الاتصالات والكمبيوتر، وعلى خلفية التغير الكامل في جل العلاقات الدولية»، ويضيف: «بينما توفر العولمة فرصًا للتنمية والتعاون والتكافل؛ فإنها في المقابل تهدد بضرب حضاراتنا ومجتمعاتنا الإسلامية، وهنا بالذات يُطرح التساؤل حول كيفية التأقلم».

إنه تساؤل تصعب الإجابة عنه، خاصة عندما نعلم مدى الضغوط المتعمدة من طرف (اللوبيات الغربية العلمانية) على كل فكر اقتصادي إسلامي طموح. فمن أبرز الأمثلة على الضغوطات التي تمارسها القوى الاقتصادية الأجنبية على الأفكار الاقتصادية الناجحة، هناك المؤسسات المصرفية أو البنوك الإسلامية التي أنشئت بسبب الربا الذي عمّ جميع المؤسسات المالية في العالم، لهذا لاحت فكرة مشروع البنوك الإسلامية، لكن حملات الحقد زادت على الإسلام وأهله ومحاربة المسلمين في مؤسساتهم وأسلوب حياتهم؛ بإلصاق تهم التأخر أو الجمود أو الرجعية أو الإرهاب بهم، وليس هذا الحقد الدفين سوى وجه آخر من وجوه الغل الصليبي واليهودي للمسلمين؛ ولقد قال الله ـ عز وجل ـ مشيراً إلى ذلك الغل والحقد بقوله: {وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة: 120].

إن النظام الربوي المعمول به في البنوك العالمية يكرس مظاهر الاستغلال والبطالة والظلم الاجتماعي. لهذا صار لازماً أن يتسع إشعاع المؤسسات المصرفية الإسلامية لتضحى هي البديل الحقيقي للاستثمار الربوي الشائع بكثرة، والذي يعتمد أساساً على مبدأ الاقتراض الزمني الذي يعود تقديره على العامل الزمني وحده، ومن ثم تنشأ علاقة استغلال وإجحاف بين أطراف التعاقد الاستثماري؛ على عكس نظام الاستثمار في الاقتصاد الإسلامي المرتكز على توزيع الربح بين هذه الأطراف على أساس من الواقعية في فرص الربح وحصوله؛ مما تنشأ معه علاقات عدل وإنصاف بين مجموع الأطراف. وهكذا فالإسلام قد حقق التصور الصحيح الذي ينصف أطراف العملية الإنتاجية أو الاستثمارية، وهو الشيء الذي يغيب عن التشريع الاقتصادي الغربي.

■ القيم الاقتصادية الإسلامية:

من المعروف لدى الفلاسفة والمفكرين أن الفكر لا ينبع من فراغ، وإنما ينبغي أن يستند إلى معلومات صحيحة ودقيقة ومتفق عليها. والفكر الإسلامي يوجد له أساس واضح وسليم يرتكز عليه هو النصوص الشرعية التي أوحى الله ـ تعالى ـ بها إلى رسوله الكريم -صلى الله عليه وسلم-، وشرحها علماء الإسلام على مر العصور.

إن التحليل الاقتصادي باعتباره من الفكر الإنساني يقوم على محاولة فهم ما يحكم الواقع الاقتصادي من أسس وركائز؛ وفي حالة الاقتصاد الإسلامي لا بد أن يرتكز التحليل الاقتصادي فيه على الضوابط المستفادة من النصوص الدينية، وبذلك يأتي التحليل بنتائج صحيحة.

من المنظور الإسلامي؛ يعد موضوع الاقتصاد والأخلاق موضوعاً لا يُتنازع حوله، فلا اقتصاد بدون أخلاق. إن الاقتصاد الإسلامي تفريع على كل قيم الإسلام، فهو اقتصاد قيمي.

إن الكثير من آيات القرآن الكريم عندما يكون الحديث فيها عن أمور اقتصادية؛ تكون الإشارة دائماً إلى القيم الإسلامية السمحة، مثال قوله ـ تعالى ـ: {أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ * فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ} [الماعون: 1 - 2]، ففي الآيتين إشارة عظيمة إلى قضية التكافل الاجتماعي بين أفراد المجتمع، وضرورة إعطاء اليتيم والمحتاج ما يعينه على نوائب الدهر. وكذلك الأمر في قصة أصحاب البستان المذكورة في القرآن الكريم؛ وأيضاً قصة قارون، إن قارون (وما أكثر أمثاله في عصرنا) كان مالكاً للمال الوفير، فهو بالتالي خاضع لأحكام قيمية. لقد كان قارون يتصرف في ماله استهلاكاً وإنفاقاً وادخاراً؛ لكن القرآن الكريم سجل عليه عدة انحرافات؛ منها: التعالي عن الناس ـ عدم مساعدة المحتاجين والفقراء والمساكين ـ استخدام المال من أجل الطغيان وقهر العباد والسيطرة على البلاد.

إن هذا المال الذي طغى قارون بسببه؛ جعله الشرع الإسلامي محاطاً بضوابط تبين طرق وأسباب وقواعد الحصول عليه وحفظه. إن الإسلام يعتبر التنمية حقاً مشروعاً من حقوق الإنسان، فدعاه إلى استثمار كل عناصر الإنتاج المشروعة في العمل ورأس المال والموارد الطبيعية، يقول الحق ـ سبحانه ـ: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإلَيْهِ النُّشُورُ} [الملك: 15]. ولقد جاء علماء الاقتصاد المسلمون بخمس وسائل تفيد في حفظ المال؛ أهمها أن لا ينفق المرء أكثر مما يكسب، وهنا تظهر العلاقة بين الإنفاق والدخل؛ وأن يكون الرجل سريعاً إلى بيع تجارته، بطيئاً عن بيع عقاره؛ كما حدد ذلك الإمام الدمشقي رحمه الله. أما القواعد الأخلاقية لحفظ المال وصونه فتتمثل في القناعة، وشهامة النفس القوية، وفي طلب العلم وجمع المال، يقول لقمان الحكيم لابنه: «يا بني! شيئان إن حفظتهما لا تبالي ما صنعت بعدهما: ابدأ بدينك لمعادك، ودرهمك لمعاشك». كما يلزم إنفاق المال في أبوابه؛ أي في مجالات الخير والإحسان، وكل ما يعود على الشخص بالنفع في الآخرة، لكن مع حسن تدبيره هذا المال. أما أسباب إضاعة المال فتكمن في كثرة المعاصي؛ لأن المال تُخربه المعصية، وهذا حــال قارون وأمثاله، وأيضـاً في تبذيره، ولقـد نهانا الله ـ عز وجل ـ عن ذلك؛ لأن المبذرين إخوان الشياطين.

أما الغرب الكافر والعلماني؛ فإنه لم يضع أي ضوابط لكسب المال، فكل شيء يجوز من أجل الحصول على حفنة مال، ويشجع قيم الاستهلاك السلبي، وإضاعة المال في التفاهات، وإمساكه عن أبواب الجميل والمعروف والبر والإحسان، والانهماك في اللذات والشهوات. إنها قيم خطيرة ما فتئ الغرب يدعو إليها ويعمل على أن تعم بلداننا الإسلامية بشتى الوسائل ومختلف الأساليب.

لكن الإسلام الحكيم جاء بما يكفي، لقد جاء بما يمكن أن يحل المشكلات المالية لكثير من المسلمين الفقراء، حيث إن الزكاة تغيث المسلم وتبعد عنه خطر التشرد والجوع، تقول الدكتورة نعمت مشهور من جامعة الأزهر: «والآثار الاقتصادية للزكاة تلــقي بظلالها علـى كل مـن الفـرد والمجتمع، يقـول الله ـ سبحانه وتعالى ـ: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا} [التوبة: 103]. وهذا خطاب عام لكل حاكم وليس خاصاً بالنبي -صلى الله عليه وسلم-»، يقول الدكتور محمد عمر ـ مدير مركز صالح كامل للاقتصاد الإسلامي بجامعة الأزهر ـ لمجلة الوعي الإسلامي: «الواجب على الحكومة طبقاً للأمر الإلهي القيام بشؤون الزكاة جمعاً وتحصيلاً، وهو ما قام به الخلفاء الراشدون ومن تبعهم من الحكماء في عصر الحضارة الإسلامية؛ إذ إنهم أنشؤوا المؤسسات لإدارة الزكاة مثل ديوان الزكاة وبيت مال الزكاة، وفي الوقت المعاصر توجد كثير من الدول الإسلامية التي تطبق الزكاة من خلال مؤسسات حكومية تشرف عليها، مثل المملكة العربية السعودية واليمن وماليزيا...». وليست الزكاة وحدها التي تجب على المسلم لبلوغ قيم التكافل والتضامن الاجتماعي الغائبة عن الأهداف المسطرة لاقتصاديات البلدان العلمانية.

لقد سُئل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن الزكاة، فقال: «إن في المال حقاً سوى الزكاة»، ثم تلا قوله ـ تعالى ـ: {لَيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْـمَشْرِقِ وَالْـمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْـمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْـمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْـمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وآتَى الزَّكَاةَ} [البقرة: 177] (1)، فلقد جاء ذكر إيتاء المال مرتين: مرة عند إيتائه للمساكين، والثانية عند إيتاء الزكاة.

■ أزمة القيم:

يعرّف الدكتور طه عبد الرحمن الفيلسوف المغربي «العولمة» بأنها: «السعي إلى تحويل العالم إلى مجال واحد من العلاقات الأخلاقية عن طريق سيطرة الاقتصاد الغربي والأمريكي في التنمية، وسيطرة التقنية في العلم، وهيمنة الشبكة في الاتصال».

وبهذه السيطرة يكون الاختراق الغربي العالمي للاقتصاد الإسلامي وقيمه النابعة منه؛ قد أدى بشكل أو بآخر إلى خلخلة توازن مبادئ أخلاقية كثيرة، وقيم إسلامية فاضلة. يقــول الدكتـــور طـه عبد الرحمن في إحدى الندوات الفكرية: «على مستوى التنمية الاقتصادية؛ يتم الإخلال بمبدأ التزكية، وعلى مستوى العلم يتم الإخلال بمبدأ العمل، وعلى مستوى الاتصال يتم الإخلال بمبدأ التواصل». وللخروج من أزمة القيم والأخلاق التي أدت إليها العولمة والتغريب أيضاً ـ فهما وجهان لعملة واحدة ـ يشترط هذا المفكر المغربي شروطاً ثلاثة:

أولاً: البحث عن نظام آخر غير نظام العولمة.

ثانياً: تحديد مصدر للأخلاق أقوى من المصدر الذي تعتمد عليه.

ثالثاً: الكونية بقصد إيجاد مجتمع كوني واحد.

إن القيم الإسلامية، إذاً، هي الكفيلة وحدها فقط بإخراج الإنسان المعاصر من الأزمة الأخلاقية الفظيعة التي يعيش فيها، وذلك من خلال مفهومات التزكية وابتغاء التعارف، ومن خلال قيم التسامح والتضامن والتكافل والتعاون على البر والتقوى كقيم خلقية لنفي القيم المستوردة الآتية إلينا عن طريق سلوكات اقتصادية أجنبية علمانية.

إن الفكر الاقتصادي العلماني هو فكر وحداني لا يقبل أن يشرك به فكر آخر، وهو فكر اتباعي لا يحتمل الإبداع من الأفراد، وفكر تمجيدي لا يمارس النقد على ادعاءاته، وفكر هرمي لا يجيز الاستواء بين عناصره، وفكر مصلحي لا يخدم إلا أغراض القوى المهيمنة، وفكر مصنّع لا يقوم إلا على وضع الأفكار وتسخير أهل الفكر.

يقول الدكتور طه إن هذا الفكر تبلور في ثلاث حلقات تشكل سلسلة واحدة، وهي الحلقة الإعلامية التي تقدم الجانب السياسي على الجانب الاجتماعي، كما تعمل على إضفاء المشروعية للقوى السياسية الحاكمة، والحلقة الاقتصادية التي تقدم الجانب الاقتصادي على الجانب السياسي، وتعمل على جلب المشروعية للقوى الاقتصادية المهيمنة، وهي حالياً القوى الغربية والأمريكية؛ وأخيراً الحلقة المعلومية التي تقدم الجانب المعلوماتي على الجانب الاقتصادي. إن الحلقة الاقتصادية في الفكر الاقتصادي العلماني لا تقوم على الأخلاق؛ حيث إنها تقع في ثلاث آفات، وهي: آفة اختزال الأخلاق في المنفعة والمصلحة الذاتية، وتقديمها على أي مبادئ أو قيم إنسانية، وآفة تعميم مبدأ التسليع؛ حيث إن كل شيء في هذا الاقتصاد الغربي معرّض لمقياس السلعة والعرض والطلب، ثم آفة الانقياد لمسار العولمة؛ عولمة البؤس وعولمة الاستهلاك وعولمة القيم الغربية المادية البحتة.

إن الاقتصاد الغربي العلماني يعاني هو أيضاً ـ حسب ما ذكره الدكتور طه ـ من أزمة الصدق؛ أي إحداث الشرخ بين القول والفعل أو بين العلم والأخلاق، وأزمة القصد أي غياب الهدف والمقصد، وهو يتبنى السببية والآلية في التفسير.

لكن يظل الحل هو التخلق الديني والتمسك بالقيم الإسلامية التي جاء بها القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة؛ بحيث تزود هذه القيم الاقتصاد بالأسباب التي تؤهله لنفع وإفادة الناس.

■ خاتمـة:

يقول مفتي مصر السابـق الدكتور نصر فريد واصل: «إن الغرب يركز على القيم المادية والاقتصادية، ويهمل القيم الدينية والمعنوية، فضعفت مكانة الدين، كما ضعف تأثيره في حياة الناس في المجتمعات الغربية. ولا شك أن نقل هذه الأفكار إلى البلدان الإسلامية يعتبر من التيارات الفاسدة الوافدة التي يجب التصدي لها بكل حسم وقوة... لأن الإسلام يحتفظ بنقاء الإيمان وصفاء العبادة وقوة التأثير... ففي مجال الاقتصاد في ديار المسلمين؛ يجب على علماء الإسلام أن يؤصلوا موقف الإسلام من الاقتصاد بما ييسر على المسلمين معاملتهم، ويفتح لهم طرق الاستثمار المشروع لأموالهم»(2).

وأضيف أنه على الأمة الإسلامية أن تحذر من خطر القيم التي ينتجها الاقتصاد الغربي والأمريكي، والتي تهدف إلى التفرد بالمسلمين وأموالهم والعبث بها، أو على الأقل استنساخ مجتمعــات إسـلامية علـى شــاكلة المجتمعــات العلمانيــة التي لا تراعي لمسألة القيم إلاًّ ولا ذمة.

ويبقى في الأخير الجزم بأن القيم المعتبرة في الاقتصاد الإسلامي؛ هي أوسع وأشمل من الأحكام القيمية المعتبرة في الاقتصاديات الغربية؛ بمعنى أن علم الاقتصاد الإسلامي هو علم أخلاقي يرتكز على قيم إسلامية فاضلة، وجب على المسلمين التمسك والتحلي بها؛ بغية الثبات والصمود في عالم معولم بشكل رهيب.


--------------------------------------------------------------------------------

(*) ماجستير في الاقتصاد، المغرب.

(1) رواه الترمذي، وقال: إسناده ليس بذاك.

(2) مجلة الوعي الإسلامي، العدد 441.

رد مع اقتباس
  #7  
قديم 18-10-2007, 08:41 PM
د.فالح العمره د.فالح العمره غير متصل
 
تاريخ التسجيل: Feb 2005
الدولة: في قلوب المحبين
المشاركات: 7,593
معدل تقييم المستوى: 27
د.فالح العمره is on a distinguished road
رد: دراسات في القيم

الأسرة المسلمة في معركة القيم




د. محمد خروبات


■ مقدمة:

يسعى النظام الدولي الجديد إلى أن يجعل شعوب العالم الإسلامي غريبة عن منطقتها، سواء على مستوى اللغة، أو على مستوى الحضارة، أو على مستوى التقاليد، أو على مستوى التاريخ. فقد جعل هذا النظام حضارته هي أحسن حضارة، وسعي إلى إبرازها بمظاهر مغلفة ببريق التقدم، والتطور، والعقلنة، والتكنولوجيا، والازدهار. وقد تأتى له في سبيل ذلك أن يدفع بلغته إلى أن تحتل الصدارة العظمى، وتصبح هي لغة الحضارة والعلم والتقنية. وقد تكالبت الجهود على تعليم لغته، وعلى إشاعة التحسر دون ضبطها وابتلاع مقولاتها! أما حاملوها فقد تحركوا بها في خيلاء وغرور، يكونون بها (الإنتلجينسيا) الواعية والراقية، بالفهم والعلم! وقد تبع هذا كله أن أصبحت التقاليد والأعراف يسودها تباين كبير. فقد تمكن هذا النظام من فصل الإنسان العربي والمسلم عن تقاليده، وأنماط عيشه المألوفة؛ بحيث شكّل زيَّه، وكوَّن ذوقَه، وفرض عليه نوعاً من التصرفات، في إطار العلاقات الاجتماعية المحلية! بحيث أصبح كل موروث قابلاً للنقض، بل للاستهزاء أحياناً! وفصم الإنسان عن ماضيه فصماً مدهشًا!

إن النظام الدولي الجديد هو استمرار، وتكريس لعدوانية قديمة، بين العالم الإسلامي والعالم الغربي، تُرجمت اليوم في فوضى مطبقة! فوضى النماذج السيئة، والمقولات الجوفاء، المغلفة بشعارات السلام والأمن، وتحقيق التنمية للعالم أجمع، التنمية التي تبتلع كل مقومات الشعوب الحضارية! والضحية في النهاية هو الإنسان المسلم. وبيان ذلك هو كما يلي:

■ إنسان الأسرة:

الأسرة هي الخلية الأولى في المجتمع، هي نواته الصغرى التي تقوم عليها كيانه، وأي خلل يصيب الأسرة ينعكس على المجتمع سلباً، وأي صلاح وصواب يمس الأسرة إنما يعود على المجتمع بالإيجاب، لذلك فتقدم مجتمعٍ ما رهين بسلامة الأسرة فيه، وتخلف مجتمع ما وانحطاطه رهينان بفساد الأسرة فيه.

لقد اهتم الإسلام بـ «المجتمع» في أسرته، واهتم بـ «الأسرة» فيه، فقعّد قوانينها وأرسى دعائمها على أسس مستقرة ثابتة ورصينة، وشرع الزواج كوسيلة لوجودها، واهتم به بأن جعل أصله ميثاقاً يربط جميع الأطراف، وحدَّد لهم حقوقاً وجعل عليهم واجبات.

مرَّ المجتمع ومرَّت الأسرة معه بأدوار وأطوار تاريخية، يهمنا أن نقول عنها إنها كانت «مشرقة»، لكن اليوم وأمام التردي الذي وقع فيه المسلمون، والتخلف الذي جنوه لأنفسهم، أمام هذا كله ينهار الإنسان يوماً بعد يوم، وتكثر التحديات ساعة بعد أخرى، وتتعدد الأزمات وتتفاقم، لذلك أولينا العناية لهذه التحديات بصفتها تحديات جارفة تمس الأسرة في جميع أطرافها: الأب والأم والطفل، بحثنا أنواعها وألوانها، أقسامها وتياراتها، عارضين لأعلامها وبناة حقلها، معرجين على أصولها ومصادرها، راصدين لمناهجها وطرق عملها، متوقفين عند الغايات التي تنشدها والمرامي والأهداف التي تقصدها.

إنها تحديات خارجية وداخلية، حضارية وتربوية وقانونية، تتطلب يقظة شاملة ووعياً كاملاً، ولا يتحقق ذلك إلا بالاعتصام بالمقومات وبالمبادئ والأصول مع العمل المشترك الناجح والتربية الهادفة: {وَلَكِن كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّـمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ} [آل عمران: 79] .

نعلم أن الأسرة مفهوم مشترك بين جميع الأطراف، الكل اليوم يتكلم عن الأسرة: يسار ويمين، شرق وغرب، نساء ورجال.. وهذا يبين ما يلي:

أ - أن وضع الأسرة غير طبيعي. حينما يكثر الكلام على قضية ما ويشتد، فليُعلم أن في القضية إشكالاً ما؛ إما لها أو عليها.

ب - أن الموضوع المتكلَّم فيه هو خاصية مشتركة بين الجميع، خاصية موحدة على مستوى البحث والدرس والكلام، ومن ثَمَّ تتأكد أهمية الأسرة لدى الجميع.

ج - أصبحنا اليوم أمام موضوعَيْن لا موضوع واحد، موضوع الأسرة كمجال للبحـث، وهـذا (الكلام) المتعدد والمتلون ـ والذي أصبح هو في حد ذاته عائقاً أمام التوصل إلى نتيجة سليمة في موضوع (الأسرة) ـ حين يتحول من موضوع إلى موضوعات بحثٍ؛ تتضاعف الأزمة وتتركب.

ليس من المهم ـ عندنا ـ على الأقل في هذا البحث ـ الكلام عن الأخطار التي تهدد الأسرة في هوائها وأكلها وشربها وأثاثها ولباسها وأواني بيتها.. لكن المهم عندنا هو أن ننبه إلى الأخطار التي تهددها في (إنسانـها)، حيث يستل الإنسان منها لتُضْفَى عليه حلل جديدة من النعوت والأوصاف، يراد لهذه النعوت والأوصاف أن تكون حقيقة، وأن تتجذر بقوة في الوعي وفي اللاوعي، ويتبع ذلك كله بتحليلات ودراسات وأبحاث بأرقام وقياسات رياضية وهندسية معززة بصورة ومزكاة من مناهج العلوم الإنسانية والطبيعية.. هذا كله ليصبح إنسان الوصف الجديد على استئناس كامل بما يُقدَّم له وعليه.

تأتي الجغرافيا لتتكلم عن إنسان البيئة والطبيعة، ويتكلم الاقتصاديون عن إنسان المال والأعمال، ويتكلم السياسيون عن إنسان السياسة والدبلوماسية، ويتكلم السوسيولوجيون عن إنسان المجتمع، ويتكلم الفلاسفة عن إنسان النظر والتأمل، ويتكلم الأدباء والشعراء عن إنسان الكلمة والخيال، ويتكلم الفنانون عن إنسان الإبداع والابتكار، وتتكلم العلوم الطبيعية عن الإنسان الطبيعي الذي هو جزء من الطبيعة كما يتكلم القانونيون عن إنسان الديمقراطية، والإداريون عن إنسان الإدارة والتسيير.. هكذا يجزأ الإنسان إلى أشلاء وأطراف لا رابطة بينها، وتتيه خصوصيته وسط ركام من الكلام، قد يحقق هذا شيئاً حضارياً ما للإنسان، لكن أخطر ما يحققه له هو عدم إرجاع عنصر (الإنسانية) للإنسان أو توجيه الإنسان إلى إنسانيته.

هذا كله لا يوجد فيه عيب من حيث المظهر، لكن العيب المركب حين تصاغ هذه النعوت والأوصاف بفلسفة من مرجعية غريبة، ومن أيديولوجية خارجية لها طموحاتها الخاصة، ومطامعها الخاصة، وأهدافها الخاصة التي تصوغ الإنسان على وفق مصالحها ومطامحها.

فإنسان الديمقراطية مثلاً هو الإنسان المخلص للمواثيق العالمية والقرارات الدولية لحقوق الإنسان، و (الديمقراطية) مفهوم يسري بين اليهود والنصارى والمجوس، تتحقق بين إنسانهم ولإنسانهم في أسمى صورها، لكنها حين تأتي إلى إنسان الإسلام تنعكس، ليصبح العمل بنقيض الديمقراطية هو الديمقراطية، ولا نريد أن نمثل على هذا بشواهد حية عن القوانين الجائرة التي تسحق الإنسان في بقاع العالم، كما لا نتكلم عن الإملاءات والضغوطات على العرب والمسلمين لسحق البقية المتبقية من إنسان الإسلام، مع التضييق الشامل والكامل على البقية المتبقية من المبادئ الإسلامية التي تصوغ الإنسان..

قواعد حقوق الإنسان أصبحت ملزمة على كل من وقَّعَ عليها، وكما يقولون: من وقَّع وقع، وجرى تطور في الفقه الدولي بما يخدم مصالح الدول الغربية الكبرى مثل الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها الكبار، وأصبح لدى هذه الدول مصالح انتقائية وازدواجية تجاه الآخر، وأصبح التركيز على (المجتمع الديمقراطي) وعلى (إنسان الديمقراطية) و (حقوق الإنسان) أكثر فأكثر، وتجزأ ذلك، وأخذ أبعاداً أخرى؛ من ذلك أنه اتخذ سلاحاً ضد كل محافظ على هويته، وكل (عاق) لهذا النموذج العالمي المتسلط، ولم يعد الكلام على النظر فيما يخالف المبادئ والخصوصية في غالبية كل بلد مسلم، بل انعكست الحالة إلى النظر فيما يتخالف مع القانون الدولي وما جرى التوقيع عليه، فما خالف هذه القوانين يجب تعديله أو تغييره أو تحويله... وما يوجد اليوم من هزات في ثوابت المجتمع، مثل التعليم والتربية والتكوين وحقوق الإنسان دليل حي على ما نقول:

هكذا استُلَّ الإنسانُ من (الأسرة)؛ ليصبح إنسان (المؤسسات)! يستأنس بالمؤسسة العسكرية كانت أو مدنية... هكذا أريد له أن يُعزل عن خليته ليصاغ صياغة جديدة، ويُربى تربية أخرى، ويُوجَّه توجيهاً آخر، وقد نجحت الدولة الوطنية في العالم الإسلامي في إضعاف دور الأسرة في مجال بناء الإنسان لتتولى المؤسسات بناءه؛ بما يتوافق مع رغبات الحاكم وتطلعات الحضارة المعاصرة، وهذا كله يتماشى مع مصالح الدول العظمى...

آن الأوان لأن نتكلم عن (إنسان الأسرة)... وآن الأوان أن نتحدث إلى إنسان الإسلام ليكون إنسان الأسرة أولاً، مخلصاً لتربيتها وتوجيهها... وفياً لمصالحها ومطامحها؛ لأنه من الأسرة يكون المجتمع، ومن المجتمع تكون الدولة، ومن الدولة تنشأ المؤسسات.. ولا معنى لنقل الإنسان هذه النقلة العشوائية.

إذا تكلمنا عن (إنسان الأسرة)؛ فلا يعني هذا الوقوع في متاهات الكلام السطحي المجرد، بل يعني الكلام عن الأسرة كما أرادها الإسلام للإنسان، لا الأسرة التي يريدها (النظام الدولي الجديد) للإنسان.

■ الأسرة وتحديات العلوم والمعارف:

يحتضن المجتمع الإسلامي من الأمراض الشيء الكثير، ولكي يكون البناء سليماً ينبغي بيان هذه الأمراض، وبيان الوسائل المؤدية إليها، ومن ثَمَّ العمل على علاجها، وأقوى هذه الأمراض هي في الناحية المعرفية والإنتاجية، ووسائلها هي العلوم والمعارف؛ بما فيها العلوم التي يطلق عليها (العلوم الإنسانية)، والأخرى التي تنعت بـ (العلوم الطبيعية)، وقد جلب كل هذا تحت وابل من الشعارات الكاسحة باسم العلم والتطور والتقدم والعصرنة، وباسم الاندماج في العولمة وفي النظام الدولي الجديد.

ويبدأ التحدي الكبير بالنسبة للأسرة المسلمة في الكلام عن قانونها وأحوالها الشخصية.

وبما أن هذا القانون مستمد من الفقه الإسلامي، كان التوقف عند الشريعة الإسلامية طويلاً، فقد وُجِّهت إليها مناهج عصرية تستخدم أدوات جديدة في الفهم تتماشى مع طبيعة التفكير الغربي وطموحاته الاستعمارية ورغباته الاستعلائية المدمرة لكل كيان محترم، وهكذا بدأت أول حملة على شريعة الإسلام على يد جماعة من الباحثين الأكاديميين أوجدتهم الدول الوطنية في الغرب لغرض فهم الآخر وتقريبه، وفي مرحلة أخرى للتشويش عليه وتشويه صورته، هؤلاء هم الذين أطلقوا عليهم صفة (مستشرقين)، كان أول ما فعلوه هو التشويش على مصادر الشريعة: القرآن والسنة، فالقرآن عندهم هو كلام بشري لا إلهي، والسنة النبوية لا قدسية لها لا في التشريع ولا في العبادة(1). وهكذا جنَّدوا أنفسهم لدراسات مدخولة عن الأحكام الشرعية، واختلفت أبحاثهم كماً وكيفاً، فمنهم من باشر موضوع الأسرة وأحوالها في دراسة مستقلة، ومنهم من تكلم عليها في سياق أبحاثه عن الفقه الإسلامي بصفة عامة، كما اختلفوا من جهة الأحكام فمنهم من بالغ في النسف وتشدد في الحكم، ومنهم من اعتدل وتوسط، نذكر من ألمانيا «جوزيف شاخت» (Joseph schacht) 1902 ـ 1969م، الذي اهتم في إنتاجه بالفقه الإسلامي؛ بتحقيق عدة نصوص والتعليق عليها، وبخصوص الأسرة في الإسلام نشر مقالات كثيرة في الميراث والنكاح والطلاق وأم الوليد والوصية، وكلها كانت في سنة 1914م(2).

وجاء بعده «إروين كريف» (Erwin Grof) 1914 ـ 1976م، وهذا المستشرق كان اهتمامه بالفقه الإسلامي بصفة عامة، فله بحوث عن الأسرة المسلمة، نذكر منها البحث الذي أصدره بعنوان: «النظرة الجديدة إلى الأسرة المسلمة في التشريع الإيراني الحديث الخاص بالزواج والطلاق والميراث». وهذا البحث نشره عام 1966م، رام فيه التوسط تارة والانحراف تارة أخرى. وذلك حين تساءل قائلاً: «كيف يمكن أن يقوم تصور للأسرة المسلمة الحديثة؟» فأجاب: «إذا كان للمسلم أن يبقى على هويته؛ فلا ينبغي له أن يتحرر من المصادر الفقهية الشرعية، إن الشريعة الإسلامية ليست قوة معادية للحياة، بل ينبغي اكتشافها من جديد لمواجهة الحياة الجديدة، وأن تتكيف بواسطة التأويل وقياس النظير»(3).

وفي سنة 1967م أصدر بحثاً آخر تحدث فيه عن تنظيم النسل وتحديده من منظور الشريعة الإسلامية، سمّاه: «موقف الشريعة الإسلامية من تنظيم النسل وتحديد النسل».

ومن فرنسا نذكر «ليون برشي» (Lion Bercher)، 1889 ـ 1955م، الذي ترجم كتاب (الرسالة) لابن أبي زيد القيرواني، وعلق عليها باللغة الفرنسية، وكان تركيزه على أحكام الأسرة وأحوالها متميزاً جداً(4).

ومن إنجلترا نذكر «وليام جونز» (1746ـ 1974م)، وهو مستشرق بريطاني وفقيه قانوني، مكَّنه فضوله العلمي وتوجيهه الاستشراقي إلى إنجاز كتابين؛ أحدهما بحث فيه نظام المواريث في الإسلام، عنونه بـ «المواريث في الشريعة الإسلامية»، وهذا البحث أنجزه عام 1782م ونشره عام 1792م، ونشر ترجمة لموجز في المواريث بحسب مذهب الشافعي، عنونه بـ «بغية الباحث عن جُمل المواريث»(5).

ومن هولندا نذكر «تيودور يونبول» (1866 ـ 1948م)، الذي أصدر كتاباً بعنوان: «المدخل إلى معرفة الشريعة الإسلامية بحسب مذهب الشافعي»، صدرت الطبعة الأولى منذ سنة 1903م، والطبعة الرابعة سنة 1925م، وهذا الكتاب ترجمه «أرترشاده» (ArturSchaade) 1883 ـ 1952م، إلى اللغة الألمانية عن أصله الهولندية وقد استند فيه إلى منهج «إسنواك هرخرونيه» (Christian Snoock Hurgyonje) 1857 ـ 1936م، المستشرق الحقوقي والقانوني المشهور، فقدّم عرضاً نقدياً لمصادر التشريع الإسلامي، ثم عرض خصائص التشريع الإسلامي موزعة على أبواب كثيرة، نذكر منها ما له صلة بأحكام الأسرة المسلمة؛ مثل قانون الأشخاص والأحوال والمواريث.

و «تيودور يونبول» هو تلميذ للمستشرق الهولندي المشهور «دي خويه» (1836 ـ 1909م).

لقد حصل «يونبول» على شهادة الدكتوراه في قسم الاستشراق برسالتين لا بد من الإشارة إليهما في هذا السياق، الرسالة الأولى بعنوان: «القواعد العامة لمذهب الشافعي في الرهن، مع بحث عن نشأته وتأثيره في الهند الهولندية»، صدرت هذه الرسالة عام 1893م، والمقصد واضح من العنوان، إنه بحث استعماري يحّول الهند من الإسلام إلى هولندا، ولكي تتحول لا بد من معرفة سر دخول فقه الإمام الشافعي إلى هذا البلد، ومقاصد الرسالة الثانية لا تبتعد كثيراً عن هذا المغزى، لقد جاءت بعنوان: «الارتباط التاريخي بين المهر في الإسلام وبين الطابع القانوني للزواج في الجاهلية»، طُبعت هذه الرسالة في ليدن عند الناشر بريل سنة 1984م في 96 صفحة باللغة الهولندية. فالبحث عن قرائن الزواج وأماراته بين ما كان عليه في الجاهلية وما عليه الحال في الإسلام؛ يجعلهم يُصدرون أحكاماً على قانون الأسرة المسلمة وقانون أحوالها الشخصية؛ بأن طابعها مأخوذ من العصر الجاهلي ومن التشريعات السابقة(6).

■ خصائص الدراسات الاستشراقية حول الأسرة:

إن أهم ما يطبع الدراسات الاستشراقية لقانون الأسرة في الإسلام هو ما يأتي:

أ - التفسير المنحرف للنص، وهذا التفسير تارة يتماشى مع الظاهرية الحرفية، وتارة مع الباطنية المغرقة في الباطن، وتارة وفق هوى الذات والمصلحة، وتارة أخرى يكون نتيجة لتطبيق منهج معين يفضي إلى رؤية غير سليمة، فالتفسير الاستشراقي لنصوص الأحكام التشريعية بصفة عامة ولأحكام الأسرة بصفة خاصة؛ هو تفسير متلون متقلب، ليست له معايير دقيقة وثابتة يمكنك محاكمته من خلالها.

ب - عزل الأحكام عن مقاصدها أو تأويل ما لأجله وُجدت، وهذا كثير في دراستهم وأبحاثهم، فالمقاصد التي راعاها الشارع الحكيم في تكوين الأسرة وفي تنظيمها تصبح مقلوبة رأساً على عقب(7)، فقوامة الرجل على المرأة عندهم هو تفوّق يضع الرجل في القمة والمرأة في الحضيض، وطاعة المرأة زوجها فيما يرضي الله ورسوله هي إذلال وخنوع وركوع، وعدم قبول المسلم والمسلمة لولاية الأجنبي يعكس عدم التعاون مع الشعوب الأخرى، ويعكس الجمود والانغلاق وعدم التفتح على المحيط، ويفسر عدم زواج المسلمة غير المسلم من الغربيين عنصرية تمت بدافع العصبية الكريهة أو بدافع الغرور والعنجهية.. وهكذا(8).

ج - الإسقاط في التفسير والتعسف في التحليل، حيث تعطى لبعض الأحكام الشرعية تفسيرات مستمدة من أصول يونانية ورومانية وسريانية ويهودية ومسيحية، فـ «بودلي» يقرر أن الحجاب كان معروفاً عند اليونان، ويعادل بين تحجب المرأة اليهودية وسفور المرأة العربية في الجاهلية ليحكم بأن زي الحجاب في الشريعة الإسلامية اقتُبس من التشريع اليهودي، وذلك لأسباب شخصية تتعلق بقضايا زوجات النبي -صلى الله عليه وسلم-، وهكذا إن مقارنة بسيطة بين الشبهات التي أثارها المستشرقون حول التعدد والحجاب وميراث المرأة وقوامة الرجل والولاية في الزواج والمهر والصداق وغير ذلك، وما يثار اليوم باسم إدماج المرأة في التنمية وحرية المرأة؛ يبين أن المستشرقين هم الأساتذة الفعليون في هذا الموضوع، فما تداولوه بالبحث والدرس في الماضي أصبح هو العمدة في لائحة المطالب، وهي مطالب ترفعها النخبة المثقفة بالثقافة الغربية الحديثة.

وقد نجح المستشرقون في التأثير في أجيالنا بثلاثة عوامل رئيسة، وهي:

العامل الأول: أنهم حلوا أساتذة مدرسين في جامعات العالم الإسلامي، وعلى أيديهم تربت أجيال من النساء والرجال، وسار في فلكهم كثير من الكتاب والباحثين العرب المحدثين في مطلع هذا القرن، وتجسدت تلك الشبهات في كتابات من جنس عربي أُرِيدَ لها أن تشتهر وتنتشر، وأُرِيدَ لها أن تترجم إلى اللغات الأجنبية لتعكس وفاءها للتقدم وإخلاصها لروح ثقافة العصر، وأصبحت تلك المؤلفات والكتابات محط أنظار الجيل الذي تلا الجيل السابق، فدفع بها إلى الدرس الجامعي والأكاديمي، وكثير منها حصل على الجوائز الفخرية وطنية ودولية.. هكذا وقت التسابق إلى نوع معين من الثقافة التي بدأت في اكتساح الثقافة الأصلية، ثقافة الذات والخصوصية، بل تطاولت هذه الثقافة تحت ضغوطات سياسية دولية وأخرى أيديولوجية محلية؛ من أجل أن تتبوأ الصدارة في التعليم والتكوين والتربية، بل أعيد إصلاح التعليم على وفق مقاصد وأهداف تلك الثقافة.

والعامل الثاني: أنهم لقنوا أجيالاً كثيرة من الطلبة الوافدين على الجامعات الغربية، وهذا كان له أثر بليغ في ترويج الشبه ونشر أيديولوجيا الاستعمار الحديث، وأعطت الدولة الوطنية الأسبقية في التوظيف لحملة الشهادات الغربية، فتمركزوا في المناصب العليا، وعُهد إليهم تقرير مصير الثقافة في البلد، ولا أدل على ذلك في مشروع الخطة التي وضعتها كتابة الدولة في المملكة المغربية المكلفة بالرعاية الاجتماعية والأسرة والطفولة تحت اسم «مشروع خطة العمل الوطنية لإدماج المرأة في التنمية» في مارس من سنة 1999م، وهي خطة علمانية في جوهرها، وفيها مخالفة صريحة لأحكام الشريعة الإسلامية، وهي لا تخفي مساهمة البنك الدولي فيها، وقرارات مؤتمر بكين. وهذا يبين أن ما تكلم عليه المستشرقون كثقافة أصبح اليوم مشاريع عمل تقف وراءها هيئات ومنظمات دولية وأحزاب وجمعيات وشخصيات وطنية (لامعة)، عبّر عن هذا الأستاذ إدوارد سعيد فقال: «والنتيجة المتوقعة لهذا هي أن الطلاب الشرقيين والأساتذة الشرقيين ما يزالون يريدون الحضور إلى الولايات المتحدة والجلوس عند أقدام المستشرقين الأمريكيين، ثم العودة فيما بعد لتكرار القوالب الفكرية (الكليشهات) التي ما فتئتُ أسمّيها مذهبيات جامدة استشراقية على مسامع جمهورهم المحلي. ونظام إعادة إنتاج كهذا يجعل من الحتم أن يستخدم الباحث الشرقي تدريبه الأمريكي ليشعر بالفوقية على أبناء وطنه؛ لأنه قادر على تدبر (النظام) الاستشراقي وفهمه واستخدامه؛ إما في علاقته بمن هم أسمى من مكانه ـ المستشرقون الأوروبيون والأمريكيون ـ؛ فإنه يبقى المخبر الذي ينتمي إلى السكان الأصليين ـ وهذا هو بحث دوره في الغرب ـ إذا كان حسن الحظ؛ بحيث يتاح له البقاء فيه بعد انتهاء تدريبه المتقدم»(9).

هذا ما لاحظه الأستاذ إدوارد سعيد، وهو أستاذ اللغة الإنجليزية في الجامعة الأمريكية، خبير بالوضع الثقافي الأكاديمي، فضلاً عن الوضع السياسي والأيديولوجي العالمي.

والعامل الثالث: زيادة على ما تقدم فقد عُهد إلى بعض المستشرقين مهمة وضع قوانين محلية لبعض البلاد الإسلامية التي وقعت تحت السيطرة الاستعمارية، وهكذا وجدوا الفرصة سانحة في قهر المسلمين بقوانين مفتعلة، نذكر على سبيل المثال لا الحصر أنه لما احتلت فرنسا تونس عام 1881م؛ استدعى المقيم العام الفرنسي المستشرق «سانتلانا دافيد» (DAVID SANTILLANA) 1858 ـ 1931م، ليكــون عضـــواً في لجنة تكلفت بتقنين القوانين التونسية، ولمكانة «سانتلانا» وشهرته بالاهتمام بالشريعة الإسلامية؛ كُلّف بوضع مشروع قانون بحسب الشريعة الإسلامية مرتباً حسب منهج وشكل القوانين الأوروبية، ومكنته هذه الطريقة في المقابلة بين القانونَيْن المتباينَيْن من الخروج بخلاصات واستنتاجات بعيدة عن حقيقتهما.

وهكذا لبَّى الرغبة الاستعمارية مضحياً بالحقيقة العلمية، وقد دام عمر هذا العمل زهاء ثلاث سنوات تضمن ما يقرب من 2479 مادة. وإلى «سانتلانا» التجأت الحكومة الإيطالية في وضع التشريعات الخاصة بليبيا، فكلفته وزارة المستعمرات الإيطالية هو و «انجنتسيو جويدي» بترجمة وشرح «مختصر الشيخ خليل» في الفقه المالكي عن اللغة الفرنسية إلى الإيطالية، تكلف «جويدي» بترجمة قسم العبادات، وتكلف «سانتلانا» بالباقي، وظهرت ضمن مطبوعات وزارة المستعمرات.

لم يكن القانون المتعلق بالأسرة المسلمة يغيب عن هذه الإنتاجات بل كان جزءاً منها، وأهم مؤلف تميز به «سانتلانا» هو كتابه المشهور «نظم الشريعة الإسلامية بحسب مذهب مالك مع مراعاة أيضاً مذهب الشافعي»، صدر الجزء الأول منه عام 1926م وكان في فصوله «الأسرة». وظهر الجزء الثاني بعد موته بمدة طويلة، وذلك في سنة 1943م، وكان من فصوله «قانون المواريث» و «قانون التقاضي»، والكتاب بجزأيه لخص فيه محاضراته في الشريعة الإسلامية التي ألقاها على طلاب كلية الحقوق في جامعة روما في الفترة ما بين 1913م و 1923م(10).

إذا نحن ابتعدنا عن الدراسات الحقوقية والقانونية بعد أن بيَّنا دورها في تحوير الوضع القانوني للأسرة المسلمة؛ سنجد أنفسنا مضطرين للكلام عن الدراسات السوسيولوجية بوصفها من أخطر الدراسات التي استهدفت دراسة الأسرة في الإسلام من وجوه محددة، فلما كانت السوسيولوجيا هي علم الاجتماع بتعريبنا، وكانت الأسرة هي نواة المجتمع الإسلامي، كانت قضاياها العامة والخاصة من أدسم الموضوعات التي اختيرت للبحث السوسيولوجي.

ولن نفهم طبيعة النتائج المحصل عليها في هذه الأبحاث ما لم نفهم طبيعة السوسيولوجيا نفسها، فالسوسيولوجيا علم استعماري واكب الحملة الاستعمارية على البلاد العربية والإسلامية، قاده ضباط عسكريون استعماريون وكتاب غربيون وطائفة من الباحثين العرب المتأثرين بالمفهومات الاستشراقية وبالخطابات الغربية، وتأسس هذا العلم على يد الدول الوطنية في الغرب، نذكر على سبيل المثال فرنسا لما فكرت في احتلال المغرب أحدثت هيئة في مدينة طنجة سنة 1903م، وهي هيئة علمية سوسيولوجية اشتغلت إلى غاية سنة 1934م، وكان من أهدافها الاهتمام بالعنصر البربري وتفريقه عن العربي، والاهتمام بالبنيات العتيقة، وإنشاء مجلات مثل (مجلة إفريقيا الاستعمارية)، وإحداث مدارس للتسيير الإداري، وأخرى للتدبيرات والدراسات العسكرية، وأحدث قسم السوسيولوجيا في الإقامة العامة، ولم يكن تابعاً لإدارة التعليم وإنما كان تابعاً للأبحاث العسكرية العامة، وفرض على طلبة المدرسة الإدارية تقديم تقرير ذي طبيعة سوسيولوجية حول موضوع اجتماعي معين، وفي المدرسة العسكرية بمكناس بالمغرب؛ أحدثت قسماً للدراسات السوسيولوجية، وكانت التعليمات التي تُقدم للمراقبين الاستعماريين تنص على ضرورة تقديم مساعدات لكل الباحثين السوسيولوجيين.

ومن العسكريين الاستعماريين الذين تحوَّلوا إلى باحثين سوسيولوجيين نذكر على سبيل المثال (Robert Montagne) في كتابه (البربر والمخزن في الجنوب)، ولما طُلب منه أن يلقي دروساً في المدرسة الفرنسية قام بتلخيصه في كتاب صغير سماه (الحياة الاجتماعية والحياة السياسية للبربر)، وكان من طبيعة هذه الأبحاث التركيز على مكونات الأسرة البربرية من جهة الأصل والنسب والسلطة والعادات والتقاليد والأعراف المميزة، وطبيعة اتفاق الأسر البربرية فيما بينها في خلية صغيرة يطلـق عليهــا (الإخــس)، ثم اجتماعهــا فيما يسـمى بـ (الدشر)، واجتماع (الدشر) فيما يسمى بـ (تقبيلت)، ثم (الاتحاد القبلي) كأكبر وحدة بربرية، فـ «روبير مونطاني» يقدم نسقاً اجتماعياً للمجتمع البربري على هذا الشكل، وهذا منهج تجزيئي يعتمد التفكيك كأسلوب معرفي يقول عنه إنه بحث علمي ناتج عن البحث السوسيولوجي.

ثم استعان الاستعمار والاستشراق بعلم آخر هو علم الأنتروبولوجيا، يقول عنه أحد الباحثين: «ولا أوضح على ذلك من التدليل بالجهود التي قام بها الأنتروبولوجيون في سبيل تسهيل الطريق للسلطة السياسية الحاكمة؛ بتقديم خلاصة أبحاثهم وحصيلة معرفتهم المتعلقة بكيفية التعامل مع هذا (الآخر)، لقد آثرت الأنتروبولوجيا البريطانية منذ بدايتها الأولى أن تقدم نفسها على أنها العلم الذي بإمكانه تقديم الخدمات النافعة للإدارة الكولونيالية، وذلك لأسباب واضحة؛ أهمها أن الحكومات الكولونيالية وجماعات المصالح هي أفضل من سيقدم الدعم المالي لمثل هذا العلم»(11).

كانت الأسرة المسلمة بربرية كانت أو عربية أو تركية أو إيرانية موضوعاً يتكلم عنه في سياق كلي؛ أي أن الأسرة كانت جزءاً من اهتمام السوسيولوجيين والأنتروبولوجيين؛ لأن الاهتمام في البداية كان منصباً على تفريق الجموع الكبرى، وقد بدأ هذا بشكل تسلسلي، فالخطوة الأولى هي القضاء على وحدة الأمة الإسلامية بإسقاط الخلافة سنة 1924م على يد مصطفى كمال أتاتورك، وتقسيم العالم الإسلامي إلى دويلات وأقطار، ثم متابعة الدولة وتقسيمها إلى أن وصل المسلسل التنازلي إلى الأسرة التي أريد لها أن تُقسَّم هي الأخرى، وأقوى وسيلة لتقسيمها هو توجيه الأبحاث والدراسات السوسيولوجية والأنتروبولوجية عن الأسرة في العالم الإسلامي، فالذي نعلمه هو أنها تُعد بالمئات.

واستخدمت في هذه الدراسات أيضاً مباحث في علم النفس، حيث شكلت الدراسات السيكولوجية سلطة من نوع آخر جعلت المتخصصين في هذا العلم يدّعون أنهم (خبراء) بخصائص وطبيعة الأسرة المسلمة، وعمداء في فهم نفسية جميع أفرادها، وها هو (Brutton) يدعي بحكم خلفيته معرفة سمات شخصية الإنسان البدوي وتركيبه النفسي والمزاجي(12).

وجرى التركيز في هذه الأبحاث على نفسية الأم ونفسية الطفل، وشكلت الدراسات الخاصة بالطفل حيزاً كبيراً لم يتوقف إلى حدِّ اللحظة، وضربت بعض النظريات على شهوات النفس وهواها، وضخمت أموراً على حساب أخرى، ونالت الإثارات الجنسية اهتماماً بالغاً ولا سيما في الميدان المتأثر بعلم النفس، نلاحظ هذا في الرسوم وعلى صفحات الكتب والمجلات والإعلانات الإشهارية، فاضطربت الشهوة الجنسية مع المغريات والمؤثرات، وجاء الأدب، ولا سيما الأدب الفرنكفوني، ليكمل هذا المسير، وجرى التسابق إلى التأليف في نمط معين من الأدب، مثل القصة القصيرة والأدب المسرحي والفنون بمختلف أشكالها بما فيها الأفلام السينمائية، وتنال نسبة كبيرة من هذه المؤلفات شهرة واسعة وتطبيلاً كبيراً بسبب اختيار موضوعات أسرية تستهدف المرأة في صيغتها المحافظة من حيث علاقتها بالرجل، وعلاقتها بالمحيط وعلاقتها بالحضارة، وأمامنا أسماء أريد لها أن تكون لامعة لهذا السبب، وتطول اللائحة إذا أخذنا في الحسبان الجيل الجديد المتأثر بهذا النوع من الكتابات، وهو الآن يدعم دعماً مادياً ومعنوياً ليسير في الاتجاه نفسه لغرض تقسيم الأسرة المحافظة والقضاء على كيانها نهائياً.

إن المطلع على هذا النوع من التأليف يجده قد تجاوز بكثير طبيعة البحوث الغربية نفسها، حيث يسود في هذا النوع من المؤلفات استهزاء واضح بالقيم، واستهتار كبير بالأخلاق والعادات والتقاليد الموروثة، ونعترف بأن نوع الإثارة لا تحصل في هذا النمط من التأليف إلا بالحكايات المضحكة والتقاط الصور المشينة، وتحويل بعضها من المعقول إلى اللامعقول، ولكننا نتساءل: لمن تقدم هذه الإثارات والحكايات؟ ولمن يُوجَّه هذا النوع من التأليف؟

لقد تجاوز الأدب الحدود المعقولة في التأليف والنشر، وإن كثيراً من هؤلاء باعوا أنفسهم رخيصة للغرب، وهم يسعون إلى أن يقدموا المجتمع كله إلى سوق التبعية العمياء، والعبادة المطلقة للسادة، غير أن الاستعمار نفسه «لم يكن يستطيع أن ينفذ برامجه إلا على مراحل طويلة، فكان من أبرز ما عمل إذاعته القصة الغربية الإباحية، فأغرى كثيراً من الكتَّاب الشوام بترجمة القصة، فذاعت ذيوعاً شديداً، ودخلت كل بيت، وألقت إلى العذارى تلك النشوة الخيالية في صورة الإباحة والوهم، فأثارت في النفوس ثائرة الغريزة، وألهبت في المشاعر عواطف الجنس وأغرقت البلاد بالأندية الليلية والراقصات والخمور وأساليب الدعارة، وأباحت البغاء، وجعلت له أحياء خاصة ودافعت عن وجوده»(13).

لقد أصبحت «الإباحية» عقيدة العصر، ودين الحضارة، وحصل التوهم في فكرنا الحديث أن دخول باب الحداثة هو الإباحية، وأن ركوب قطار التنمية والتطور هو التسلح بها، وإذا كانت الإباحية في أصلها تعني التحلل والخروج عن العرف والعادة والأخلاق، فإن هذا المعنى من شأنه أن يفسر كثيراً من مسلكيات ثقافة هذا العصر، ثقافة الحداثة وما بعد الحداثة، ثقافة النظام الدولي الجديد والعالمية والعولمة، وقد قاد هذه الموجة الدعوات والفلسفات المستحدثة الوافدة من الغرب، كانت بالأمس في ثقافتنا تقليداً، لكنها اليوم أصبحت تأييداً، حيث الخروج عن المألوف هو سمة العمل العلمي المتميز، وأصبح ذلك موضة في النقد والتقويم والمراجعة، وأخذ التوليد والابتكار على وفق هذا المعيار عنصر التقدم والعصرنة، ودخلت الإباحية في التنظير الفلسفي، فدعمتها المذاهب الفنية والاجتماعية، وأخذت تسويغات من نوع ما منها أن الإنسان هو مطلق الحرية في القول والعمل، وكل شيء يصادم حرية الإنسان لا بد من زواله، وأصبح هذا عاماً في كل الإنتاجات الفنية، وعم الثقافة بشكل رهيب، وكانت الأسرة ميداناً خصباً للإباحية، حيث خرجت كثير من الأسر عن ضوابطها الأخلاقية، وقيمها الموروثة مما فتح الباب لموجة أخرى هي أكثر طغياناً وصلابة، وهو مد اليد إلى قانون الأسرة الشرعية لتغييره والعبث به، ومن مظاهر العبث به التنظير لتغييره بأساليب الفكاهة القريبة إلى الشعر الماجن منه إلى الكلام الجدي.

هكذا اضطرب نظام الأسرة المعاصرة في واقعنا المعاصر، وسبب هذا الاضطراب هو الانقلاب الكبير الذي ساد المعايير، والاختلال الفاحش الذي أصاب المفهومات، فبينما كان يسود في الأسرة الإسلامية الحقة أن الدين والأخلاق والتقاليد العريقة هي المعايير التي توجه سلوك الأسرة الملتزمة، تصبح أشكال الموضة وقوانين النظام الدولي الجديد وألوان التقليعات وأنماط معينة من التفكير الزندقي الوافد من الغرب ومن سوء التربية الأسرية؛ هي المتحكمة في الأسرة اليوم، يدلنا على ذلك المطالب الجائرة التي ترفع اليوم باسم التنظيم والتأطير والتقنين لرفع الظلم والحيف عن المرأة.

أن أخطر ما تواجهه الأسرة اليوم هو التنظير لها والكلام عليها بكلام مطلسم يستخدم مصطلحات غير مفهومة، ومعلوم أن المصطلح إذا لم يكن محدداً تحديداً واضحاً ينتج عنه كلام غير واضح وغير مفهوم.

لننظر مثلاً في عنوان «المشروع الذي تقدمت به كتابة الدولة في المغرب المكلفة برعاية الأسرة والطفولة في التنمية»، ولا هي واضحة في سياق فقرات مشروع الخطة، ما هي التنمية التي يراد إدماج المرأة فيها؟ هل تنمية مدارك المرأة وتنمية فطرتها حتى تنشأ نحو المقصد الذي من أجله وُجدت؟ هل تنمية القيم والأخلاق والآداب التي تحتاج إليها المرأة اليوم أكثر من أي وقت مضى؟ هل هي تنمية تنبع من حاجات الذات في الميادين الاقتصادية والثقافية والعلمية؟

التنمية هنا قد تكون للنهوض وقد تكون للسقوط، وليس كل نهوض هو نهوض إيجابي فقد يكون النهوض لأجل البناء والتشييد، وقد يكون لأجل الهدم والتدمير، قد يكون لأجل بناء الذات وتمكين القدرات للوقوف في وجه الآخر، وقد يكون لأجل هدم الذات لتنهار أمام الآخر.

ويركب على ظهر الطب وعلم الصيدلة في توليداتهما الجديدة، وللحماية من داء السيدا والأمراض المتنقلة جنسياً يوزعون العازل المطاطي، ويشهرونه على أنه الوسيلة الوحيدة للوقاية من الأمراض، ويأتي خطابهم الإشهاري بسكوت مطلق عن اعتبار الممارسات الجنسية غير المشروعة حراماً، وأنها زنى تقضي على الصحة وعلى الأسرة، بل ذهبت بعض التكتلات الجمعوية إلى اعتبار الوسائل الطبية والإنتاجات الصيدلية بديلاً مطلقاً عن المعايير الأخلاقية والقيم الشرعية.

وهذا كله يرجع إلى سبب واحد هو أن الحكم على الممارسات الجنسية الخارجية عن حدود الشرع بأنها (إثم وحرام وزنى وفاحشة)؛ من شأنه أن يوقف ظاهرة الزنى واللواط والشذوذ الجنسي المنتشر في المجتمعات الإسلامية بشكل مرعب، هكذا يفسح المجال للفاحشة، وللخوف من الداء لا بد من العازل المطاطي، ومن أجل تشجيع الفاحشة بشكل منظم عمدوا إلى الاعتناء طبياً بالفتيات الحاملات، وقُدّم الدعم الكامل لحماية الأبناء الذين يولدون نتيجة هذه اللقاءات الجنسية غير الشرعية، فأطلقوا عليهم لقب (الأطفال الطبيعيين)، فإذا كان هؤلاء هم (الأطفال الطبيعيون)؛ فماذا نسمي الأطفال المولودين من الزواج الشرعي؟

وباسم التوعية الأسرية يروّجون لتناول حبوب منع الحمل لتحديد النسل وتنظيم عدد الأبناء المراد إنجابهم في الأسرة المسلمة، ويطاف على الأسرة في المدينة والبادية على السواء، وهذه حملة قديمة لو حددنا لها مدة ثلاثين سنة فقط؛ لوجدنا أن المجتمعات الإسلامية في البلاد الإسلامية كلها حرمت من أزيد من عشرين مليون نسمة، وهذا رقم تقريبي فقط يمكننا من الاطلاع على الحقيقة التي تراد للأسرة المسلمة باسم (تنظيم النسل) و (تحديد النسل)، هكذا يُقضى على الملايين من أبناء المسلمين من دون حرب ولا قتال، وإنما هي إبادة من نوع خُطط له باسم الطب والصيدلة.

وجاء دواء (الفياغرا) ليحل مشكلة ولكنه أثار مشكلات كثيرة، ومن مشكلاته الأولى أن استعماله لم يعد خاصاً بأصحاب العجز الجنسي، بل تعدّاهم إلى المدمنين على الجنس، ولا سيما المهووسين بهذه المتعة وهم من غير العاجزين، وثاني مشكلاته تلك التي ظهرت لشركات التأمين، وهذه المشكلة أثارتها النساء، حيث رفعن شعاراً يثرن فيه وجود تمييز عام ضدهم من قِبَل الشركات التي ساهمت في إنتاج الفياغرا، وتطالب الاتحادات النسوية بأن تغطي الشركات تكاليف حبوب ومعدات منع الحمل الأخرى، وذلك إسوة بتغطية تكاليف تمكين الرجل من قضاء شهوته.

هكذا وازن بين (فياغرا) التي تُمكّن من الشهوة وبين (حبات منع الحمل) التي توقف حمل المرأة لتصبح القضية ضد القضية، وهي قضية مفهومة من الأساس؛ لأن المرأة نصبت نفسها ـ في مطالبها العامة ـ عنصراً ضدياً للرجل، هذا ما أفصحت عنه إحداهن قائلة: «إن سيطرة الرجال على مجالس إدارات شركات التأمين هو السبب في تحيزهم للرجال دون النساء»(14)، ولن نغلق على هذا الكلام، لكن دعونا نتساءل: هل الأسرة المسلمة تنهض على أكتاف هذا النوع من البشر الذي يرى وجوده وجوداً إباحياً، ويرى كينونته كينونة الضد والنقيض؟ وهل يستقيم للأسرة المسلمة وجود وسط هذا التكالب المسعور بين كيانَيْن خلقهما الله من نفس واحدة، وجعل بينهما مودة ورحمة لتنقلب المعادلة بين جسدَيْن ضدَيْن ونفسيتَيْن نقيضتَيْن في إطار من التنافس الذي لا يخدم مصلحتهما، وفي إطار من التنافي الذي يسيء إلى وحدتهما ووحدة أسرتهما؟

وليس هذا وحده، بل تأتي الصحافة بجديد ينضاف إلى ما سبق ذكره، فالصحافة أحد كيانين متناقضَيْن؛ إمّا ذبابة قاتلة تحمل السموم والميكروبات الفتاكة، وإمّا نحلة رشيقة تمتص رحيق الأزهار لتعطي عسلاً مصفى فيه شفاء للناس، لا أحد يخالف في أن الصحافة العالمية اليوم هي من النوع الأول القاتل والمدمر، تتخطى كل الحدود الوطنية وكل الحواجز المجتمعة لتعمل في قلب الأسر في المجتمعات الإسلامية، تدخل بلا إذن في كل وقت، وتعمل بلا استشارة في كل حين، وثبت ما تشاء في كل الأوقات، فمختلف القنوات الفضائية تبث من الفساد الشيء الكثير، فالأفلام والمسلسلات المعتادة والكارتونية للكبار والصغار على السواء؛ إما أنها تبنى على قصة غرامية خليعة بين رجل وامرأة، أو قصة غدر وخيانة، أو صراع بين الرجل والمرأة وبين المرأة والمرأة، أو الطفل والأب، أو الطفل والأم.. في حكاية درامية مثيرة مما يثير الشاعر ويهيج الوجدان، وفي المقابل يأتي المسرح بحوادث مماثلة، وتقف السينما واللقاءات الإذاعية على الخط نفسه!

لا نتكلم عن الإعلام في حد ذاته، الإعلام لا بد منه في عصر يفرض دوره، والأمة التي لا إعلام لها لا وجود لها، وأفرادها يصبحون رهن التشكل في أية لحظة، الإعلام هو التعبير الموضوعي عن فضيلة الجماهير وروحها وميولها واتجاهاتها، به تعبر عن وجودها، وبواسطته تترجم آمالها وآلامها وأحاسيسها، وعملياً فالأمة التي لا إعلام لها كالجسد بلا لسان، يمكن لأي كان أن يتحدث باسمه، وأن يتكلم دون وكأنه ميت، هل صدّقنا يوماً أننا وجدنا لساننا أخرس لا يتكلَّم؟ ولما أراد الكلام والتعبير انبرى من يتكلم عنه بغير ما يريد، بل تكلّم بغير ما يقصد، إعلامنا اليوم هو على هذا الحال تماماً... يتكلم بغير ما نريد، ويعبر عن غير ما نقصد، لم يعد الإعلام يخدم أهداف المجتمع الإسلامي: يعالج أمراضه ويدافع عن خصوصيته، ويرفع من مُثُله وقيمه بقدر ما تخصص في الدعاية والتعمية والتعتيم والتغطية والتشويه والتزييف والمبالغة في تقديم الحقائق والصور.. وهذا كله يستهدف الأسرة المسلمة في قلب البيت، وهي قضية خطيرة في حياة المسلمين اليوم!

■ خاتمة:

وبعد؛ فإننا نسلم بأن العالم أصبح قرية صغيرة لا يمكن للأسرة فيه أن تعيش منكمشة على نفسها، ومنعزلة عن المحيط من حولها، لكن ما لا يمكن التسليم به هو أن نفتح أبواب بيوت المسلمين لسلبيات الحضارة الغربية ومدمراتها، ولا تعني المحافظة على البناء العام للأسرة تزمتاً ولا يعني انغلاقاً، فلا بد من التمييز بين ما هو ضروري لحياة الأسرة وفق خصوصياتها الثابتة، وما هو أساس وحيوي من مستجدات الحياة الحديثة، والوعي بهذه الشروط يجعل الأسرة تعمل بإيجابية في المحيط الخاص وفي المحيط الدولي العام، كما أن احتكاكها الواعي من شأنه أن ينمي أساليب جهادها في هذا العالم، هذا إذا كانت تعلم أنها النواة الصلبة للمجتمع الإنساني كله، وأن خيرها يتعداها لا إلى المسلمين فحسب؛ بل إلى الإنسانية كلها.


--------------------------------------------------------------------------------

(*) جامعة القاضي عياض، مراكش.

(1) انظر: الفكر الإسلامي وصلته بالاستعمار الغربي: من 225 ـ 232.

(2) انظر: موسوعة المستشرقين، لعبد الرحمن بدوي: 252 ـ 253.

(3) انظر: المصدر السابق: 113 ـ 114.

(4) انظر: المصدر السابق: 56.

(5) انظر: المصدر السابق: 130.

(6) انظر: موسوعة المستشرقين: 442.

(7) انظر: على سبيل المثال العقيدة والشريعة في الإسلام، لجولد زهير: 5 و 14 و 15، وأيضاً حضارة العرب، لغوستاف لوبون: 153.

(8) ينظر الفكر الإسلامي الحديث وصلته بالاستعمار الغربي، ص 58، بتصرف.

(9) الاستشراق: المعرفة، السلطة - الإنشاء: 320.

(10) ينظر موسوعة المستشرقين، لبدوي: ص 232 ـ 235.

(11) ينظر مجلة العلوم الاجتماعية: م 17/ عدد 3، مقال حلمي ساري: «المعرفة الاستشراقية: دراسة في علم اجتماع المعرفة».

(12) ينظر مجلة العلوم الاجتماعية: م 17 / عدد 3: ص 194.

(13) انظر: الشبهات والأخطاء الشائعة في الفكر الإسلامي، لأنور الجندي: 272.

(14) جريدة الراية المغربية - قضايا علمية، عدد 306 سنة 1998م.

رد مع اقتباس
  #8  
قديم 18-10-2007, 08:41 PM
د.فالح العمره د.فالح العمره غير متصل
 
تاريخ التسجيل: Feb 2005
الدولة: في قلوب المحبين
المشاركات: 7,593
معدل تقييم المستوى: 27
د.فالح العمره is on a distinguished road
رد: دراسات في القيم

انفجار الأسرة المسلمة في الغرب!


يحيى أبو زكريا


تتعرّض الأسر العربيّة والمسلمة في السويد خصوصاً وفي الغرب عموماً إلى امتحانات وابتلاءات قلّ نظيرها؛ إذ إن الخطأ اليسير قد يؤدّي إلى انفجار حقيقي للأسرة العربية والمسلمة، وتكون الضريبة كبيرة عندما يفقد الأولاد والديهم؛ بأن يتمّ توزيعهم على الأسر السويدية بأمر من المؤسسات الاجتماعيّة، التي تملك صلاحية الإشـــراف على المجتمـــع بما فــي ذلك الأســــر.

وفي الغالب لا تنسجم الأسر العربية والمسلمة مع القوانين السائدة في المجتمع السويدي أو الغربي، وتحاول الاسترسال في العادات نفسها التي كانت عليها في العالم العربي والإسلامي؛ فالرجل الشرقي الذي تعوّد أن يضرب زوجته في بلاده ـ حتى بغير حق ـ لا يحسب حساب الاستمرار في هذه العادة السيئة؛ إذ للمرأة العربية والمسلمة المضروبة هناك حق الاتصال بالمؤسسات الاجتماعية وبالشرطة التي تلبّي نداء الاستغاثة سريعاً، وإذا ما رفعت المرأة المضروبة دعوى على زوجها يتمّ اعتقاله فوراً؛ ليؤخذ إما إلى السجن وإما إلى بيت انفرادي بعيد عن زوجته وأولاده، ويحظر عليه الاتصال بهم.

وإذا كانت الزوجة غير مؤهلة لرعاية أولادها، كأن يثبت أنّها كانت هي الأخرى تعنّف أولادها أو زوجها؛ فها هنا يصبح الأولاد برمّتهم في عهدة المؤسسات الاجتماعية التي تقوم بتوزيع الأولاد على الأسر السويدية التي توفّر الطمأنينة والحنان والأمن ـ من وجهة نظرهم ـ لأولاد العرب والمسلمين، وتستند المؤسسات الاجتماعية في السويد إلى قاعدة مفادها أنّ الأطفال يحتاجون إلى بيئة مهادنة ومسالمة ومستقرة حتى ينشؤوا متكاملين في شخصيتهم، فسلامة الأطفال هي المقدمة الأساس لسلامة المستقبل.

وقد كشف إحصاء سويدي جديد أنّ زوجات المهاجرين وبناتهم بتن يتصلن بالمؤسسات التي توفّر لهنّ الحماية، ويهربن من أزواجهن الذين تعودوا على ضرب النساء بمسوّغ وبدون مسوّغ، وكثيراً ما يلجأ بعض الأشخاص من الجاليات العربية والمسلمة إلى قتل أزواجهم؛ خصوصاً في ظلّ انتشار الكآبة والأمراض النفسية المستفحلة، وهنا يكون مصير الزوج السجن؛ بينما تقوم المؤسسات الاجتماعية باصطحاب الأولاد إلى أماكن معينة بدعوى إعادة التأهيل النفسي، ومن ثم توزيعهم على الأسر السويدية، ومن الحالات الخطيرة التي كانت السويد وبعض العواصم الغربية مسرحاً لها: انتحار بعض الأمهات العربيات أو المسلمات، ويبقى أولادهنّ من بعدهن يواجهون الضياع المحتم.

وتكون الكارثة كبيرة عندما يقع الطلاق ويلوذ المسلم بالعيش وحده، فيما زوجته المطلقة تعيش وحدها أيضاً، وهنا يلجأ الرجل إلى كل ما يخلّ بالأدب، والمرأة تقوم بالشيء نفسه إلا ما شاء الله، وينعكس كل ذلك على الأولاد الذين يقررون اعتزال والديهم والعيش مع من يريدون؛ الشاب المسلم مع شابة سويدية أو غيرها، والشابة المسلمة مع شاب سويدي أو غيره.. فإلى الله المشتكى!

وقد أدّى تساهل الأسر المسلمة في تربية أبنائهم إلى انحراف فادح؛ فكثيراً ما باتت بعض الشابات المسلمات يصطحبن عشاقهن إلى البيت، وبعض الشباب المسلمين يصطحبون عشيقاتهم إلى البيت، وقد حدث ذات يوم أن اصطحب شاب كردي عشيقته السويدية إلى بيت أبيه، وعندما منعه أبوه من هذا التصرّف المنحرف قام هذا الشاب بتقديم شكوى ضدّ أبيه بحجّة أنّه يقف ضدّ حريته الشخصية، وكانت مصيبة هذا الأب بذلك عظيمة، إضافة إلى أنّه سبق له أن وقع في مأساة عندما دخل إلى بيته ووجد زوجته مع شخص غريب، وحاول أن يقتلها، فتمّ اعتقاله بحجّة مضايقة زوجته في حريتها الشخصيّة!!

وقد ابتلي العديد من الآباء المسلمين بالمخدرات وأدمنوا تعاطيها، ومارسوا الاتجار بها أحياناً، وبات العديد من أولادهم يتعاطون المخدرات تلقائيّاً. وتشير بعض الإحصاءات أنّ المناطق التي يقطنها العرب والمسلمون في السويد يكثر تعاطي المخدرات فيها، إلى درجة أنّ العديد من الشباب من جنسيّات عربيّة ماتوا جرّاء تعاطيهم جرعات مركزة من المخدرات، وتحاول السلطات السويدية جاهدة وضع حدّ لهذه الظاهرة. والمأساة الكبيرة أنّ بعض العرب والمسلمين بنوا ثروات هائلة جرّاء بيعهم هذه السموم للأطفال السويديين والعرب والمسلمين، ولا تخلو الصحف السويدية من أخبار أجانب تخصصوا في بيع المخدرات، أو زوجات أجنبيّات ذُبحن إرباً إرباً من قِبَل أزواجهن، كما أصبح طبيعيّاً أن تتولّى الأسر السويدية رعاية أطفال المسلمين الذين يعيش آباؤهم وأمهاتهم أوضاعـاً خـاصـة لا تؤهلهم لرعاية الأطفال وتوفير الأمن لهم.

والظاهرة الأخطر التي يمكن إدراجها في سياق الحديث عن أولاد العرب والمسلمين في السويد أنّ العديد مـن هـؤلاء الأولاد لا يكملون تعليمهم الجامعي، ومعظمهم يهجر مقاعد الدراسة في سن مبكرة، ولم يحظ الكثير من الآباء والأمهات اللاجئين في السويد بالتعليم العالي؛ ولذلك لا يدركون أهمية التعليم في حياة الفرد، وعلى الرغم من أنّ الجامعات السويدية والمعاهد السويدية مفتوحة للعرب والمسلمين وكل مقيم بطريقة شرعيّة؛ فإن الأولاد المسلمين لا يقدّرون أهمية الاستمرار في التعليم والحصول على شهادات عالية، وللأسف؛ فإن الكثير من الآباء المسلمين يرون أنّه ما دامت الدولة تعطي مساعدة اجتماعية للعائلة وكل أفرادها؛ فلا ضير أن يبقى الشاب عاطلاً عوض أن يكون فعّالاً في المجتمع الجديد. ولعلّ عدم إعالة الأسر المسلمة لنفسها واكتفائها برواتب المؤسسة الاجتماعية ـ والتي تعد مقبولة بالمقارنة مع الرواتب التي يحصل عليها اللاجئون في بقيّة البلدان الأوروبية ـ هي التي تحفّز باتجاه قتل الهمم والعزائم، ومحو الطموح من نفسيّة الأسر العربية والمسلمة، والتي باتت تسمي المؤسسة الاجتماعية المانحة للمساعدات المالية للعرب والمسلمين وغيرهم بـ (بيت العم)، ولذلك يُنكّت بعض المسلمين في السويد قائلين: أتدرون لماذا يتوجه العرب والمسلمون إلى (بيت العم) ـ المؤسسة الاجتماعية ـ مرة في الشهر؟ وتتعجّب عندما تسمع الجواب، وهو أنّ صلة الأرحام واجبة في الاسلام!!

ويعيش 90% من العرب والمسلمين في السويد على المؤسسة الاجتماعية أو (بيت العم)؛ الأمر الذي يجعل الأولاد لا يوقّرون ولا يحترمون آباءهم وأمهاتهم، وقد سمعت بأم أذني أبناء يعيبون على آبائهم قائلين إنّه ليس لكم سلطان علينا ما دامت المؤسسة الاجتماعية تعيلكم وتعيلنا معكم. وتكون صدمة الأولاد كبيرة عندما يسألون آباءهم: ماذا تعملون؟ ومن أين تحصلون على الأموال؟ فيعلمون أنّ الفضل كل الفضل للمؤسسة الاجتماعية، أو (بيت العمّ) كما يسميها اللاجئون العراقيون، و (بيت عبّو) كما يسميها اللاجئون الفلسطينيون؛ متناسين أنّ عدم العمل يزرع في أبنائهم الكسل وانعدام القدوة. ويؤدي تحايل الآباء على المؤسسات الاجتماعية للحصول على المزيد من الأموال إلى تعويد الأبناء الحيلة والكذب والتعامل مع المجتمع الذي استقبل اللاجئين وحماهم بكثير من الازدواجية والنفاق، وكل ذلك يؤدي إلى تفسّخ شخصية الأبناء وتحولهم إلى أدوات سلبية في المجتمع. وكثيراً ما يلجأ الأبناء إلى تهديد آبائهم بكشف أوراق تحايلهم، حتى المرأة المسلمة باتت تهددّ زوجها بأنّه إذا لم يفعل كيت وكيت؛ فإنها ستخبر المؤسسة الاجتماعية بأنّ لديه أموالاً، وهذا مخالف للقوانين المرعيــة؛ إذ إن المســـاعـدة الاجتماعيــة لا تُعطى إلا للفقراء والعاطلين عن العمل حقاً.

والسؤال المركزي الذي يمكن طرحه هو: كيف ينشأ الأبناء في ظلّ كل هذه الأجواء المنحرفة؟!

لا شك أنه يلزم إنشاء جمعيات إسلامية فاعلة لتربية النشء المسلم، وربطهم بمبادئهم وقيمهم الإسلامية الأصيلة، وحث المسلمين اللاجئين في هذه البلاد على التمثل بأدب الإسلام وأخلاقه؛ حتى لا يكونوا ضحايا البعد عن التوجيه الإسلامي الصحيح.

■ دور التديّن في حياة أطفال المسلمين في الغرب:

يعترف المسلم الملتزم وغير الملتزم في الغرب بأنّ تديّن الأسرة المسلمة في الغرب هو الضمانة الأساسيّة للحفاظ على السلوك القويم للأطفال المسلمين الذين تستغرقهم الحياة الاجتماعيّة الغربيّة أكثر من آبائهم؛ باعتبار أنّ الأطفال المسلمين في الغرب وتحديداً الذين ولدوا في الغرب تستوعبهم المؤسسات الغربية بدءاً من الحضانة وإلى المدرسة في مجمل مفاصل المجتمع الغربي وفي كل التفاصيل. وبحكم الإيقاع الغربي السريع والضاغط، وبحكم أنّ المرأة المسلمة كالرجل المسلم مجبرة على الخروج من بيتها والتوجّه إلى مكان العمل أو الدراسة؛ فإنّ الوقت المخصص للأولاد ضئيل للغاية. وللإشارة فإنّ العائلات المسلمة التي تعيش بفضل المساعدة الاجتماعيّة ـ تمثل أكثر من سبعين بالمائة من المسلمين في الغرب الذين يعيشون بفضل المساعدة الاجتماعيّة التي تقدّم لهم من المؤسسات الاجتماعيّة وخصوصاً في دول شمال أوروبا السويد والدانمارك والنرويج وفنلندا وإيسلندا ـ مجبرة على أن تخضع لما تقرره لها المؤسسة الاجتماعيّة؛ حيث قد تجبر الأم على العمل في التنظيفات، والأب في المطاعم، ويعتبر هذا العمل تطبيقيّاً يسمح باستمرار حصول هذه العائلة المسلمة على المساعدة الاجتماعيّة. وبناء عليه فإنّ العائلة المسلمة لا تقضي وقتاً كاملاً مع أولادها الذين تضطلع الحضانات والمدارس بتلقينهم المبادئ الحضاريّة، وفي هذا السياق يشار إلى أنّ مفردات الحضارة الغربية تاريخاً وحاضراً، ثقافة وسياسة وفنّاً واقتصاداً وأدباً يدرسها الأطفال في المدارس الغربيّة مع شيء من الخصوصيّة في كل دولة غربيّة؛ ففي السويد مثلاً عندما يدرس الطفل تاريخ أوروبا يتمّ التركيز على الدور السويدي في هذا التاريخ، وفي الدانمارك يجري التركيز على الدور الدانماركي، وهكذا دواليك، فينشأ الطفل ينهل من الحضارة الغربيّة ومفرداتها، وتبدأ ذاته الحضاريّة بالتلاشي، وعقيدته الإسلاميّة في الذوبان ولا يبقى منه غير الاسم الإسلامي الذي يتلاشى مدلوله مع مرور الأيّام.

وكثير من العوائل المسلمة وبحكم انهماكها في الإيقاع الغربي السريع، وصعوبة العيش، وامتداد ساعات العمل إلى وقت متأخّر من الليل فإنّ صلة الآباء بأبنائهم تتضاءل، ويحدث أن يغادر الأبناء آباءهم عندما يصلون إلى سن الثامنة عشرة تماماً لينفصلوا بشكل نهائي عن ذويهم تماماً كما يفعل الشاب الغربي الذي يضطّر إلى ترك والديه في هذه السن، ويعتبر ذلك من الضروريّات، بل من الواجبات، وحتى إذا تقاعس الشاب الغربي عن القيام بمثل هذه الخطوة فإن والديه يجبرانه على الذهاب بعيداً عنهما ليعيش وحده، وليعتمد على نفسه باعتبار أنّهما سلكا الدرب نفسه، ولا فرق هنا بين الذكر والأنثى.

وممّا يزيد في ضياع أطفال المسلمين هو أنّ نسبة الأميّة الحضاريّة والدينيّة والعقائديّة والفقهيّة مرتفعة بين العوائل المسلمة بشكل مذهل، وهو الأمر الذي يفقد هذه العوائل آليات تحصين أبنائهم. وكثير من العوائل تشرع في التخلي عن الالتزام ببديهيّات الأحكام الشرعيّة بالتقسيط، فتبدأ المسألة بترك الصلاة، ثمّ بترك الصيام، ثمّ عدم السؤال عن شرعيّة اللحوم وما إلى ذلك. وينتهي الأمر بشرب الخمرة والذهاب إلى المراقص على اعتبار أنّ ذلك من مظاهر التحضّر في الغرب.

وتشير معلومات ميدانيّة أنّ العوائل المتدينة هي أكثر من غيرها في الحفاظ على أبنائها؛ حيث يضطّر الأب الملتزم والمتدين والأم الملتزمة والمتدينة إلى متابعة الطفل في كافة تفاصيله الحياتيّة بدءاً من المدرسة وإلى المفاصل الأخرى، وكثيراً ما تذهب الأم الملتزمة إلى المدرسة التي يدرس فيها ابنها أو ابنتها فتطلب أن يكون الطعام المخصص لأولادها شرعيّاً، وتفهم المشرفين على المدرسة أنّ لحم الخنزير محرّم أكله على المسلمين، كما أنّ بعض المواد الجنسيّة على وجه التحديد تقدّم بطريقة مخطئة للطفل، وكثيراً ما يساهم هذا الالتزام الديني الأسري في حماية الطفل من الذوبان في واقع مليء بالشهوات والمغريات.

وحرص الأسر المسلمة على تعليم أبنائها الصلاة والصيام وبقيّة الواجبات الإسلاميّة، واصطحاب الأطفال إلى المساجد كل ذلك يؤدّي إلى تماسك شخصيّة الطفل، وقد تبين أنّ هذا الالتزام يساعد الطفل المسلم في التفوّق في مدرسته، وتجنبه كل الرذائل.

وفي شمال العالم على وجه التحديد بدأت المؤسسات الغربيّة تولي أهميّة للإسلام، بل تحرص على تدريسه لأبناء المسلمين؛ إذ وجدت هذه المؤسسات أنّ من ينشأ على المعتقد الإسلامي الصحيح سيكون خير عون للمجتمع الغربي؛ فالغرب الآن مبتلى بآفة المخدرات، والإسلام يحارب هذه الأفة ويحرمها حرمة شرعيّة لا شبهة فيها، والغرب يحارب الاغتصاب الذي ابتلي به حيث بات الاغتصاب يطاول حتى الفتيات اللائي لم يبلغن سن العاشرة؛ والإسلام يحارب هذه الآفة، بل جريمة الزنا بشكل عام. والغرب يعلّم تلاميذ المدارس أنّ الكذب والسرقة والقتل والسطو والتزوير والاعتداء على كرامة الإنسان صفات يمقتها الإنسان السويّ، والإسلام أقرّ بأنّ الكذب محرّم وجعل سمة المؤمن عدم الكذب وما إلى ذلك.

وما زلت أتذكّر أنني التقيت يوماً أحد المسؤولين الغربيين وقلت له إن من الخطأ الشنيع والفظيع أن تضعوا استراتيجيات لمحاربة الإسلام، بل عليكم أن تلوذوا به إذا أردتم القضاء على الآفات التي تعصف بكم وبواقعكم الاجتماعي على وجه التحديد، وقلت له إنّ الطفل المسلم الذي ينشأ على عقيدة الإسلام هو شخص مثالي بالنسبة للغربيين، وأنتم تصبُون إلى إنشاء جيل من هذا القبيل، بينما الطفل المسلم الذي لا ينشأ على الالتزام يواجه خطر المخدرات والسرقة وغيرها من الآفات؛ فالحكمة تقتضي عدم الوقوف في وجه الإسلام إذن!

ونظراً لدور الالتزام الديني في توجيه الأطفال توجيهاً صحيحاً فإنّ كثيراً من الآباء المسلمين غير الملتزمين يبعثون أولادهم إلى المدارس العربيّة والإسلامية التي أقامها بعض المسلمين لمساعدة الأطفال المسلمين على تعلّم لغتهم ودينهم. وقد تجد الأب مبتلى بالخمرة، والأم بما هو أعظم إلاّ أنّهما يبعثان أبناءهما إلى مثل هذه المدارس لتدارك ما فات.

وقد ازداد هذا التوجّه بعد أن ابتليت بعض الأسر العربيّة والإسلاميّة غير الملتزمة بالدين بضياع أبنائها لجهة توجّه الأولاد إلى المخدرات أو السرقة، وضياع مستقبلهم العلمي والتربوي، وغير ذلك.

ويبقى القول: إنّ العوائل العربيّة والإسلامية وإن وجدت في خارطة غربيّة تعيش تحديات قد تكون شبيهة بالتحديات المحدقة بأبنائنا في العالم العربي والإسلامي، لكن تبقى التحديّات الغربيّة ذات شأن خطير.


--------------------------------------------------------------------------------

(*) صحفي جزائري مقيم في استوكهولم.

رد مع اقتباس
  #9  
قديم 18-10-2007, 08:42 PM
د.فالح العمره د.فالح العمره غير متصل
 
تاريخ التسجيل: Feb 2005
الدولة: في قلوب المحبين
المشاركات: 7,593
معدل تقييم المستوى: 27
د.فالح العمره is on a distinguished road
رد: دراسات في القيم

العلمانية الانحلالية ومنظومة القيم الإسلامية


الهـيثـم زعفـان


قضية الصراع القيمي بين العلمانية والإسلام هي في الأساس صراع عقدي بين حق وباطل، وبين منهج صالح وفاسد، وليست مجرد اختلافات إيديولوجية كما يحلو لبعضهم تسميتها.

فعملية الدفع بين العلمانية والإسلام عملية مستمرة؛ وبدهي أن يكون هناك منتصر، وحتمًا سيكون الإسلام بإذن الله. لكن حتى يمكن الوصول إلى هذه النقطة الفاصلة ينبغي معرفة الكيفية التي تمكنت بها العلمانية من اختراق منظومة القيم الإسلامية؛ فالعلمانيون اجتهدوا في نشر ثقافة الانحلال بين فئات المجتمع مستثمرين في ذلك كافة الوسائل المتاحة. ومعظم القائمين على هذه اللعبة الانحلالية يحرصون على التظاهر بتمسكهم بالقيم الإسلامية التي هي عندهم لا تخرج عن دائرة الأذكار القولية التي ليست لها أية ثمرة تكليفية في حياتهم العملية.



فهذا أحد كبار المخرجين السينمائيين الذي اكتشف قطاعاً عريضاً من ممثلات الإغراء العربيات وصنفت بعض أفلامه في فئات البورنو يقول في مذكراته: «أنا واحد من الناس المؤمنين بشكل خطير وتام، ولا أزال وسأظل متمسكًا بالقيم والتقاليد، وأنا حتى الآن إذا أردت السفر إلى الإسكندرية وقلت ذلك لابنتيّ، فإنهما تقولان لي: لا إله إلا الله، فأرد عليهما: محمد رسول الله، وأما مساء كل يوم، وقبل أن أنام أقرأ فاتحة الكتاب ثم أتشهد بالشهادتين... !»

هذا في وقت سيطرت فيه السينما على الساحة الإعلامية وكان لمخرجيها اليد الطولى في توجيه الثقافة الإنحلالية؛ فما هو الواقع في ظل التقنية الحديثة والسماوات المفتوحة؟

دعونا نبدأ القضية من جذورها.

■ القيم الإسلامية:

المدقق للدراسات التي تتناول موضوع القيم الإسلامية يلحظ أنها في تحديدها لماهية المفهوم ضمت شمول الدين الإسلامي كله.. لذلك فمن الموضوعية التيقن بأن القيم الإسلامية هي الدين الإسلامي نفسه.

يقول اللواء دكتور فوزي طايل ـ عليه رحمة الله ـ «يلحظ الباحث أن فقهاء المسلمين لم يفردوا أبوابًا خاصة بالقيم؛ لأن القيم الإسلامية هي الدين ذاته؛ فهي الجامع للعقيدة والشريعة والأخلاق، والعبادات والمعاملات، ولمنهاج الحياة والمبادئ العامة للشريعة، وهي العُمُد التي يقام عليها المجتمع الإسلامي؛ فهي ثابتة ثبات مصادرها، وهي معيار الصواب والخطأ، بها يميز المؤمن الخبيث من الطيب، ويرجع إليها عند صنع القرارات واتخاذها.. وهي التي تحدث الاتصال الذي لا انفصام له بين ما هو دنيوي وما هو أخروي في كل مناحي الحياة»(1).

ومن هنا.. فإن أية محاولات لخلخلة منظومة القيم الإسلامية الثابتة، أو طرح مبادرات من هنا أو هناك لجعل تلك المنظومة قابلة لاستيعاب قيم مستمدة من معطيات العقل البشري والخبرات المجتمعية ذات المرجعيات الإلحادية والفاسدة.. كل ذلك يعد محاربة صريحة للدين الإسلامي، ومن ثَمَّ فإن التصدي لهذه المحاربة هو فرض عين على كل من يدرك معالم هذه المشكلة.

وأبرز الفيروسات النشطة في ساحة المعركة ما يطلق عليه تسترًا «العلمانية». فما هي العلمانية؟

العلمانية «تقابلها في اللغة الإنجليزية كلمة (secularism) وأصلها اللاتيني هو (saecular) ويعني «الدهر» (Age) أو العالم (world) أو الزمن (The time). والعلماني عكس الديني ويستخدم اصطلاحًا للإشارة إلى مدخل للحياة ينفصل تمامًا عن الدين ويتشكل كلية باهتمامات «زمنية دنيوية»(2).

وتوضح موسوعة العلوم السياسية أن «العلمانية على المستوى الشخصي (هي رفض الفرد أن تتشكل معاملاته السياسية بمصادر لا يكون لإرادته الحرة المباشرة دخل في تشكيلها وصياغتها. وعلى المستوى العام تعني العلمانية المذهب الذي يؤمن بضرورة إبعاد المؤسسات الدينية والمناصب الدينية عن ممارسة أي تأثير أو لعب أي دور في أي من مجالات الحياة العامة بما في ذلك التعليم والتشريع والإدارة وشؤون السياسة والحكم )(3).

ويذهب عدد من الباحثين إلى أن العلمانية تُعد موقفًا (يفترض أن تكون المعايير التي يخضع لها الإنسان في تعامله مع الإنسان وفي تنظيمه لشؤون حياته السياسية والاقتصادية والقانونية هي معايير مستمدة من الدنيا لا الدين»(4).

لاحظ بعض رموز العلمانية في عالمنا الإسلامي أن الإسلاميين فطنوا إلى حقيقة الدعوة العلمانية وواجهوها ونجحوا في صناعة رأي عام مضاد لهذه الدعوة.. فقام هؤلاء الفقهاء بطرق مبادرات ذات غطاء شتوي يستر أكثر مما يستره الغطاء الصيفي، ومن ثم يكون في عالمنا الإسلامي فريقان علمانيان يستخدمان سلاحاً مزدوجاً في ساحة المعركة.

أ - فريق رافض للتراث ومتجاوز له «شبلي شميل» «يعقوب صروف»، «فرح أنطون» الذي دعا إلى اعتماد العلم في كافة شؤون الحياة، و «سلامة موسى الذي لعب دورًا هامًا في مجال تقديم الرؤى العلمانية في الثقافة المصرية والعربية وكان من أبرز المؤثرين في أفكار ما يطلق عليهم لقب «النخبة»، أدونيس، محمود درويش، البياتي، جابر عصفور، وغيرهم.

ب - فريق آخر يسعى لإعادة قراءة التراث وتأويله ومن أبرزهم «محمد أركون، حسين أحمد أمين، محمد عابد الجابري، حسن حنفي الذي يقول «الشريعة الإسلامية وضعية، والإسلام دين علماني في جوهره، والفقه متغير بتغير الحاجات والمصالح، فلِمَ الخوف من التشريع والجرأة فيه؟ هم رجال ونحن رجال ـ يقصد فقهاء الأمة ـ نتعلم منهم ولا نقتدي بهم»(5).

■القيم من وجهة نظر العلمانيين:

القيم عند العلمانيين تقوم على مبدأ «الحرية» فكل فرد تكفل له الحرية القيام بأي شيء يحقق أهدافه بغض النظر عن الاعتراضات على ما يقوم به من أفعال.

أما الجائز وغير الجائز فيتم تحديده من خلال مبدأ «نسبية القيم» وهذا المبدأ له عدة ركائز أو خصائص:

أولاً: النسبية المكانية للقيم: «لما كان لكل ثقافة معاييرها الخاصة بها فإن «المــرغــوب فيه» يختلف تبعًا لذلك من ثقافة إلى ثقافة، ومن ثم تختلف القيم من ثقافة إلى ثقافة»(6).

معلوم أن العلمانية تطرح لنا الثقافة الغربية بكل ما فيها من مضامين، ومن ثم فإن الحلال والحرام عندهم بمنظور الثقافة الغربية؛ بمعنى لا قيمه له. فما هو الواقع؟ الإجابة يقدمها د. إبراهيم الخولي الذي يقول: «المجتمع العلماني نفض يده من الالتزام بحلال أو حرام نفضًا كاملاً من نقطة البدء الأولى على مستوى النظم والشعوب السابق في كتابه (الانهيار): «نحن أصبحنا مجتمع إباحة الاستباحة، الفرد في الولايات المتحدة استباح كل شيء ولم يعد في قاموسه كلمة حرام أو محرم، بهذا لا تستقيم حضارة ولا تستمر. السفينة كلها تغرق ولا يملك أحد إنقاذها! وإنقاذها مرهون بالعودة إلى الدين والأخلاق!(7).

ثانيًا: النسبية الزمانية للقيم: «أي أنها تختلف وتتغير في المجتمع الواحد بما يطرأ على نظمه من تطور وتغير، وهي في تطورها وتغيرها تخضع للمناسبات الاجتماعية في التاريخ كما تخضع لظروف الوسط الثقافي الذي توجد فيه»(8).

إطلاق خاصية النسبية الزمانية بهذه الصورة يوضح سبب تقدير الاتجاه العلماني للنظرية الداروينية. كما أن الخاصية تمكن أصحاب هذا الاتجاه من وصف القيم الإسلامية بأنها غير صالحة لمواكبة التطورات؛ وعليه ـ كما يرون ـ فإن مدة صلاحيتها انتهت ويجب استبدالها بقيم جديدة صالحة لملابسات الحقبة.

ثالثاً: صلاحية القيم: «إن كل ما تصطلح الثقافة على أنه خير يخضع دائمًا في اختياره إلى مبلغ فائدته الاجتماعية لهذه الثقافة بالذات؛ فالقيم تكون صالحة أو فاسدة تبعًا لدرجة قدرتها أو عدم قدرتها على إشباع الحاجات الأساسية، البيولوجية والاجتماعية للناس في الثقافة المعينة»(9).

قول «ديوي وهمبر»: إن الخير والشر والمرغوب فيه أو غير مرغوب فيه، هو ما تقرر الثقافة (والثقافة وحدها هي الحكم) أنه كذلك فالحر والأخذ بالثأر، وقتل أسرى الحرب، واحتكار الأقلية لأرض والدكتاتورية، كل هذه أمور تكون مرغوبًا فيها وذات قيمة إذا قررت الثقافة ذلك. فالقيم إذن نسبية إلى طبيعة الإنسان كما تتضح هذه الطبيعة في فعله وتفاعله الاجتماعي الثقافي»(10).

وكما ذكر فإن الثقافة التي يدعو إليها العلمانيون عندنا هي ثقافة غربية انحلالية، ومن ثم وفي ضوء خاصية «صلاحية القيم «تكون تلك الثقافة هي الحكم على تصرفات الإنسان في عالمنا الإسلامي علاوة على ذلك فإنه كلما زادت انحلالية الثقافة اتسعت دائرة المرغوب، وهو في هذه الحالة انحلالي بطبعه وسائل العلمانيين ذات التأثير المباشر في اهتزاز منظومة القيم نجح الاستمرار الأجنبي في صناعة فئة «أطلق عليها «نخبوية» تتبوأ مناصب قيادية داخل المجتمعات الإسلامية عقولهم في الغرب وأصابعهم على أزرار صنع القرار، وفي ذات الوقت تم سحب النشاط رويدًا رويدًا من تحت أقدام العلماء والمخلصين للأمة الإسلامية.

يقول «جون ل. إسبوزيتو «في كتابه: (التهديد الإسلامي.. خرافة أم حقيقة): «تمثلت النتيجة الرئيسية للتحديث في ظهور نخب جديدة وتشعب مطرد في المجتمع المسلم، تلخص في نظمها التعليمية والقانونية. فالتعايش بين المدارس الدينية التقليدية والمدارس العلمانية الحديثة - ولكل منها منهجها ومعلموها وأوساطها الخاصة - قد أنتج طبقتين برؤيتين عالميتين متنافرتين: أقلية نخبوية حديثة غربية الهوى، وأغلبية أكثر محافظة ذات توجه إسلامي، كما أن العملية فتتت الأسس التقليدية لسلطة الزعماء الدينيين وقوتهم؛ بينما ارتفعت طبقة جديدة من النخب الحديثة المدربة إلى المواقع المهمة في الحكم والتعليم والقضاء، وهي مواقع كانت على الدوام ملكًا للعلماء (مشايخ الإسلام)(11).

■ أساليب العلمانيين في الهدم:

وكان من أبرز المجالات التي تم التركيز عليها منذ بداية اللعبة «التعليم والإعلام» لما لهما من تأثير مباشر في صناعة وبرمجة أجيال جديدة تردد وتطبق عملياً العلمانية الانحلالية.

ففي مجال التعليم تم اتباع عدة خطوات مدروسة وطبقت بمنتهى الدقة ومنها:

- حصر التعليم الديني وحصاره مادياً ومعنويًّا، ولعل واقع الأزهر في مصر والزيتونة في تونس خير دليل على ما آل إليه التعليم الديني في عالمنا الإسلامي.

- الابتعاث إلى الخارج.. والذي أدى إلى صناعة قادة جدد أثروا في مسار الأمة وفي صناعة الأجيال، ولنا في رفاعة الطهطاوي وقاسم أمين وطه حسين وغيرهم أبلغ الأمثلة على تاثير نظام البعثات في العقول.

- انتشار المدارس الأجنبية في البلاد الإسلامية «وقد نجح التعليم الأجنبي في اختراق جميع مؤسسات الدول من القمة إلى القاع: مرة بالفكر الذي لقنه دائرة واسعة من الناس، ومرة أخرى حين نجح في دعم مجموعة ممن تبناهم بعد تخرجهم وعمل على إبرازهم من خلال وسائل الإعلام؛ لأنه نجح في اختراق الفكر الذي يحكم حركة هذه المؤسسات؛ وذلك حين نجح في زلزلة معاني العقيدة الراسخة داخل المجتمع عن طريق طائفة رباها، ثم نجح في تسليط الضوء عليها والسعي في التمكين لها داخل المؤسسات»(12).

- تمييع المناهج العلمية: وذلك من خلال إدخال النظريات الباطلة وطمس الحقائق وتزييف المناهج واللعب في المناهج الإسلامية باسم التطوير (13).

- نشر الاختلاط بين الجنسين والذي أدى إلى اختلال قيمة الغيرة، وأدى إلى تطور أنماط العلاقة بين الشباب مع وضعهم في حالة إثارة مستمرة مع القضاء شبه التام على مصطلح «الأجنبي» بين الشباب داخل أسوار الجامعة وخارجها في أحيان كثيرة.

- أما عن مجال الإعلام فيتضح بصورة جلية أثر العلمانية المباشر فيه؛ وذلك لاتساع دائرته ووصوله لأطراف لم تلتحق بالتعليم، أو أنهت علاقتها بالتعليم ومناهجه والقائمين عليه.

والعلمانية استطاعت من خلال وسائل الإعلام المتعددة سواء المقروءة أو المسموعة أو المرئية الوصول إلى أبعد النقاط المحرمة وبث السموم المميتة، وكان من أبرز ما اعتمدت عليه مخاطبة غرائز الإنسان؛ لأنها أيسر الطرق في شرخ جدار المنظومة القيمية، وكان من أحدث ما استثمرته العلمانية الانحلالية «الدش» و «والأنترنت».

■العلمانية بين الدش والأنترنت:

نجح الدش في جعل الكرة الأرضية قرية واحدة ينقل عبر قنواته كافة الأحداث العالمية في حينها من الشرق إلى الغرب، ومن الشمال حتى الجنوب، ولا ينكر أحد أهمية ذلك.

لكن في الوقت ذاته هناك العشرات من القنوات الإباحية، وكذلك القنوات التي تعرض الأفلام غير المراقبة والأغاني المصورة المقززة والتي نجحت في نشر ثقافة الغربي وجعلها واقعًا ملموسًا وسط شرائح غيبت عنها الضوابط الشرعية التي في ضوئها يتم إنبات الثمرة التكليفية.

لعلاج موضوع الدش ذهب فريق من المجتمع الإسلامي بمنع الدش بصورة كلية مثلما فعل سكان أحد الأحياء في مدينة عربية؛ حيث اتفقوا على عدم تركيب أجهزة «الدش» فوق منازلهم، ودعم سكان هذا الحي تلك الاتفاقية بالتعاون مع مكاتب العقار الموجودة داخل الحي السكني بوضع شرط إضافي هو عدم تركيب دش بالمنزل المؤجر لأي ساكن جديد(14).

فريق آخر يرى الاستفادة من المواد الجادة في الدش مع تشفير القنوات غير المرغوبة من خلال التحكم الشخصي.

أما قضية الإنترنت فهي قضية معقدة وشائكة، فالنت سبب ونتيجة لانهزام القيم في الوقت ذاته. فهو نتيجة؛ لأن التعامل معه بالمنطق السفلي الجنسي جاء رد فعل لتفريغ محتوى القلب المتعامل مع الحاسوب مسبقًا من خلال المناخ العلماني مما جعله مهيأً للغوص في أعماق المواد الانحلالية الهائلة على شاشة النت.

كما أنه سب؛ لأنه مجال خصب للعلمانيين يخاطبون من خلاله قطاعاً عريضاً من الشباب، فيبثون له ما يصبون إليه من سموم.

قضية الإنترنت مشكلتها أنها تضم ثقافة جيلين.. جيل تعامل مع وسائل الإعلام من خلال المقروء والمسموع والمرئى ويتمثل في جيل «الآباء» وجيل قدمت له كافة الوسائل في جهاز واحد وهو «جيل الأبناء».

فجيل الآباء معظمه ليست لديه القابلية النفسية للقيام بدور المتعلم كي يستطيع التعامل مع الحاسوب؛ لكنه يحرص على تطوير أداء جيل الأبناء مع حرص الغالبية من الآباء على توفير جهاز حاسوب في بيته للأبناء، ويعملون على توفير جو من الهدوء لتحقيق أكبر قدر من الاستفادة... لكن هناك فجوة هامة ينبغي التنبيه عليها.. الجيل الجديد نشأ في جو تتوغل فيه العلمانية الانحلالية في كافة ذرات الهواء الذي يتنفسونه، ومن ثم تم خلخلة المنظومة القيمية لدى معظم هذا الجيل... وفجأة جلس أمام جهاز بضغطة زر واحد فقط تظهر أمامه قائمة بأكثر من ألف موقع إباحي يدخل أيها شاء، وبضغطة أخرى على نفس الزر. وهذا العدد من المواقع المخصصة للمراهقين فقط دون الكبار كما أوضح ذلك تقرير لشركة (netvalue) الأمريكية في الوقت ذاته إذا دخل الأب على الابن بصورة مفاجئة يستطيع الابن بضغطة زر واحد أن يحول الشاشة من منظر خلاعي إلى شكل معقد يوضح خريطة الجينيوم البشري، فيشفق الأب على حجم المجهود الذي يبذله الابن في التحصيل العلمي.

الإشكالية السابقة يمكن ضبطها من خلال عدة إجراءات منها:

1 - العمل دوماً على توضيح مخاطر العروض الإباحية على عقيدة الأبناء.

2 - تيسير وتشجيع الزواج المبكر حتى ولو في مراحل التعليم.

3 - مراقبة الأبناء جيداً أثناء تعاملهم مع الحاسوب مع وضع الجهاز في مكان واضح لكافة أفراد الأسرة.

4 - أن يقوم الآباء بتعلم كيفية عمل المسح التاريخي للمواقع التي دخلها الأبناء لمعرفة توجهاتهم وليستشعروا أن هناك مراقبة فعلية.

5 - هناك برامج ماحية للبرامج غير المرغوب فيها يمكن برمجتها على الحاسوب والتي تعرف باسم «(WEB BLOKER) يمكن من خلالها حجب المواقع السيئة بقدر الإمكان.

القضية الأخطر في مجال الإنترنت والتي جاءت عن كسر جدار الحياء بين الذكر والأنثى مع ضرب مصطلح «الشخص الأجنبي» في العمق من خلال دعاوى الاختلاط وحقوق المرأة وعملها، والتي بذل فيها العلمانيون مجهودات كبيرة حتى وصلوا لهذه النتيجة التي تعرف بـ «المحادثة» أو «الدردشة» أو بمعنى أدق «الشات» وهو عبارة عن فتى يتحدث مع فتاة لعدة ساعات من خلال الحاسوب باستخدام وسائل ثلاث: البرقيات المكتوبة، والاتصال الصوتي، والكاميرا الحية. وليتخيل المرء ما هو الحديث المتوقع لأجنبيين هُيئت لهما مثل هذه الظروف! بل الأصعب من ذلك هناك مجموعات من العلمانيين الانحلاليين أنشؤوا مواقع للدردشة الإباحية لا تستخدم إلا في المحادثات الجنسية فقط، ونسبة الإقبال العربي عليها عالية جداً، ويا ليت الأمر يتوقف عند ذلك، بل يمتد إلى المقابلات الخارجية ليتم تصديق الفعل الانحرافي عملياً، وهناك الكثير من القصص الواقعية لفتيات وقعن ضحايا هذا الشات، ولعل ذلك يفسر ما ذكره د. إبراهيم جوير الأستاذ بجامعة الإمام محمد بن سعود في جريدة الوطن السعودية: «أنه خلال السنوات العشر الماضية ارتفعت نسبة اللقطاء بشكل لافت للنظر بالسعودية؛ ففي زيارته الأولى لدور رعاية الأيتام قبل 12 سنة كان 75% من سكان الدار من الأيتام الذين فقدوا أحد الوالدين، أما عند زيارته الأخيرة للدور وجد أن 96% منهم من فئة اللقطاء(15).

إن برنامج الشات يوفر ملايين الدولارات في التعاملات اليومية والاتصالات الشخصية النافعة؛ لكن الفكر العلماني نجح في تحويله إلى مسار يؤدي إلى السقوط في الهاوية، وفي أفضل أحوال السقوط يحدث ما صار يعرف بـ «إدمان الشات» وعلى الرغم من ذلك فإن هذا البرنامج يمكنه لعب دور كبير في مجال الدعوة الإسلامية؛ فأحد الشبان الإسلاميين وفقه الله من خلال برنامج الشات إلى هداية خمسة آلآف كافر إلى دين الإسلام - بارك الله في هذا الشاب وكلل خطواته المستمرة بالنجاح.

نقول: لماذا لا يقوم كل متقن للحاسوب من المحتسبين ذوي العقيدة الصحيحة بتخصيص ساعة يومية يدعو فيها غير المسلمين إلى الإسلام؟

إلى أصحاب ما يعرف بمقاهي الإنترنت لماذا تتحملون ذنوب مستأجري أجهزتكم ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيما يروى عنه يقول: «أتدرون من الخاسر؟ قالوا: هو من باع آخرته بدنياه. قال: كلا؛ الخاسر هو من باع آخرته بدنيا غيره» صدق رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.

يمكن تحويل المقاهي القائمة وكذا استحداث ما يمكن أن نطلق عليه مراكز الدعوة بالحاسوب، وتكون مخصصة لخدمة الإسلام ولا يرتادها إلا صنفان:

الأول: شباب إسلاميون يدعون غير المسلمين إلى الإسلام.

الثاني: شباب يخدمون الإسلام بحثياً وعلمياً.

من الممكن تطبيق فكرة المراكز الدعوية السابقة من خلال الجمعيات الخيرية الإسلامية بأن يكون الشباب صحيحي العقيدة، وتكون وظيفتهم فقط دعوة غير المسلمين إلى الإسلام من خلال برنامج الشات مع الدخول لمواقع الدردشة العلمانية ومحاولة تصحيح مسار الفتيات والفتيان المغيبين.


--------------------------------------------------------------------------------

(1) فوزي محمد طايل: كيف نفكر استراتيجيًّا، مركز الإعلام العربي، القاهرة 1997، ص 30 ـ 31.

(2) محمد محمود ربيع (محرر) وآخرون «موسوعة العلوم السياسية «جامعة الكويت، 298.

(3) المرجع السابق، ص 298.

(4) نشأت عبد الفتاح: اليوتوبيا والجحيم، المركز القبطي للدراسات الاجتماعية، ص 79.

(5) حسن حنفي، محمد عابد الجابري: حوار المشرق والمغرب، دار توبقال للنشر، المغرب، 1990، ص 43 ـ 45.

(6) فوزية دياب: القيم والعادات الاجتماعية، مكتبة الأسرة، القاهرة 2003، ص 61.

(7) ندوة العلمانية والفن: الحلقة الثانية. مجلة البيان العدد 162.

(8) فوزي دياب، القيم والعادات الاجتماعية، مرجع سابق، ص 65.

(9) فوزية دياب: القيم والعادات الاجتماعية، المرجع السابق، ص 68.

(10) المرجع السابق ص 68 نقلاً عن: Dewe Humber : The Develo pment of Human Behavior . p . 713- 729

(11) جون ل. إسبوزيتو: التهديد الإسلامي.. خرافة أم حقيقة، ترجمة د. قاسم عبده قاسم، دار الشروق القاهرة، ط 2، 2002، ص 81.

(12) مهيمن عبد الجبار: التعليم الأجنبي.. مخاطر لا تنتهي، مجلة البيان، عدد 175، ربيع أول 1423هـ.

(13) للاستعلام حول علاقة العلمانية بالتعليم يمكن الرجوع إلى: عبد المنعم صبح أبو دنيا: العلمانية في التعليم أهدافها وآثارها ومقاومتها 2001م.

(14) جريدة الجزيرة الأحد 27 ذو الحجة 1419هـ.

(15) الوطن السعودية: السبت 1 شعبان 1424 هـ العدد 1093.

رد مع اقتباس
  #10  
قديم 18-10-2007, 08:45 PM
د.فالح العمره د.فالح العمره غير متصل
 
تاريخ التسجيل: Feb 2005
الدولة: في قلوب المحبين
المشاركات: 7,593
معدل تقييم المستوى: 27
د.فالح العمره is on a distinguished road
رد: دراسات في القيم

الشباب العربي والتدفق الإعلامي
10/27/2006

أصبح من قبيل التكرار أن الإعلام اليوم يشكل عصب الحياة المعاصرة، فنحن نعيش في عصر طابعه الغالب عليه انتشار البث الإعلامي وتوسع مدى هذا الانتشار على مستوى الكوكب. فالإعلام اليوم تجاوز الحدود وتخطى المسافات، بل قفز حتى على شروط الواقع الاجتماعي والتفاوت المجالي بين المدينة والقرية، بحيث إنك قد تجد مناطق في العالم العربي تفتقر إلى البنيات التحتية الضرورية كالربط الكهربائي مثلا، ولكنك تجد أن الإعلام حاضر فيها. ومن المعتاد أن يلاحظ المرء في هذه الجهات ذات المستوى التنموي المنخفض الأطباق اللاقطة أو (الدش) مزروعة فوق أسطح البيوت كالفطر.


وغني عن القول أننا في العالم العربي نعيش في وضع المستقبل والمتلقي، لا في وضع المرسل والباعث، إننا نتلقى البث الإعلامي ولا نصدره، وفي وضع كهذا تتزايد فرص الاختراق الثقافي، وتضيق مساحة الرؤية لدى جيل الشباب العربي، ويصبح للإعلام المعاصر الدور الأكبر في تشكيل وعي هذا الجيل، خصوصا في غياب البدائل الكفيلة بحفظ التوازن لديه، بين الارتباط بالهوية، والانسياق خلف البهرج الإعلامي الحديث.


من الاستعمار إلى "السلطة الناعمة"
يوجد الوطن العربي والعالم الإسلامي في مركز التأثير الإعلامي العالمي، والغربي منه بوجه الخصوص، ومرد هذه الأهمية أمران أساسيان: الأول أن العالم العربي والإسلامي هو المنطقة التي تضم أوسع قاعدة من شريحة الشباب، والشباب هو ضمير المستقبل. وتقول البحوث والدراسات التي أنجزت في الغرب حول مسألة التزايد السكاني في العالم إن المنطقة العربية ستضم عام 2025 نسبة من الشباب تفوق نصف السكان، هذا ناهيك عن الدول الإسلامية الواعدة ديموغرافيا، وفي مقابل هذا النمو في شريحة الشباب في الوطن العربي، ستواجه الدول الأوربية زحف الشيخوخة وتقلص شريحة الشباب. هذه المعادلة غير المتوازنة جعلت الغرب يدق ناقوس الخطر منذ وقت مبكر، ودفعته إلى نحت تعبير (القنبلة السكانية) في العالم الإسلامي، للتدليل على التهديد الذي يستشعره من التراجع السكاني فيه. ويقول عالم الديمغرافيا الفرنسي جون كلود تشيزني في كتاب حديث له بعنوان (أفول الغرب: السكان والسياسة) إن المعادلة السكانية المختلفة بين الغرب والإسلام ستؤدي بنظره إلى ما يسميه (انجراف القارات)، بسبب قوافل الهجرة نحو الغرب من بلدان العالم الإسلامي، ومن ثم إلى أفول الحضارة الغربية، أو ما يسميه (الدورة الحضارية الأوربية) التي ستتوقف.


أما الأمر الثاني، فهو الدين الإسلامي الذي يمضي في الانتشار. وتوضح الدراسات الاستشراقية الغربية أن الإسلام سيكون الدين الأول في العالم خلال العشرين سنة المقبلة، فيما ستتراجع نسبة معتنقي الديانتين المسيحية واليهودية والأديان الإحيائية الأخرى إلى مرتبة أدنى بعد الإسلام والكونفوشيوسية. وتلزم الإشارة في هذا الباب إلى أن نظرية صدام الحضارات للأمريكي صامويل هانتنغتون ترتكز على هذه المعطيات الرقمية، والمعطى الديمغرافي المذكور، وتخلص إلى تحذير الغرب المسيحي ودعوته إلى إنشاء نوع من القلعة أو الحصن الحضاري الواقي من الزحف الإسلامي والكونفوشيوسي في تصوره.


إن هذه المركزية التي يتمتع بها العالم الإسلامي، والبشارات المستقبلية التي ترشحه لأن يكون محور الحراك العالمي والحضاري مستقبلا، جعلت من الطبيعي أن يكون هدفا لكل السموم الإعلامية وأشكال الغزو الثقافي والحضاري، وذلك لأجل تخدير عقول الأجيال الحاضرة التي ستكون عماد المستقبل، للتحكم في هذا المستقبل، وإعاقته، وكبح طموحات أبنائه ممن هم من شباب اليوم.


إن الإعلام في عصرنا الحالي، يشكل بالنسبة للغرب إزاء العالم الإسلامي ما شكلته القيادات الاستعمارية الغربية المحلية بالأمس إبان الموجة الاستعمارية التي غمرت الدول العربية والإسلامية، فقد تمكن الغرب في جل هذه البلدان من تكوين نخبة متشبعة بقيمه ومبادئه، استطاعت فيما بعد أن تتحكم في دواليب السياسة والثقافة والاقتصاد، وأن تعطل مسيرة النهوض الحضاري والتجدد طوال خمسة عقود من الزمن. وما دام لم يعد ممكنا اليوم التوسل بأساليب الاستعمار المباشرة والسلطة العسكرية الغاشمة، فقد جاء الإعلام ليؤدي نفس الدور، ولكن من خلال ما يمكن تسميته بالسلطة الرمزية، أو(السلطة الناعمة) بتعبير الياباني "ناي أوونزي" التي أطلقها عام 1999 وعنى بها "القدرة على تحقيق مردود في الشؤون الدولية من خلال الاستقطاب أكثر مما يمكن تحقيقه عبر الإكراه البادي"، وعد من جملتها التأثير الإعلامي الكاسح.


حرب القيم
لقد شكلت إرهاصات العولمة بداية حرب جديدة بأدوات جديدة، والمؤكد أننا في القرن الحادي والعشرين على موعد مع حرب القيم والأنماط الحضارية، وستكون أعنف من جميع الحروب، لأنها ذات أساليب خفية.
وربما كانت العولمة نفسها هي أكثر هذه الأساليب خفاء، فالعولمة في ظل الاختلال الكبير بين الشمال والجنوب لا يمكنها إلا أن تكون احتلالا بغيضا، لأنها في ظل هذا الاختلال بمثابة ضخ المزيد من القوة والحيوية في ثقافة معولمة أصلا بالنسبة للجنوب، وهي الثقافة الغربية، فماذا بإمكان الجنوب تقديمه للغرب باسم هذه العولمة، وتحت شرعيتها العالمية؟ ليس بإمكانه سوى أن يحني ظهره أمام سيل جارف من البث الإعلامي الغربي، والذي يعبر عنه عبارة "التدفق الإعلامي" جيدا، لأن التدفق يعني الانسياب من جهة واحدة، هي هنا العالم الغربي والولايات المتحدة الأمريكية بوجه الخصوص.


خطورة حرب القيم غير المعلنة هذه، كونها تعتمد وسائل الإعلام الحديث قنوات لتسريب سمومها وتصويب سهامها الطائشة نحو الفئات الهشة في العالم الإسلامي، أي الأطفال والشباب من الجنسين، وكون الإعلام اليوم أصبح يغطي مساحة أوسع مما تغطيه الأسرة والمدرسة، والكتاب والنادي، مما أحدث تغييرا في مفاهيم وأساليب التنشئة التربوية والاجتماعية والنفسية. وتستهدف هذه الحرب علمنة الحياة اليومية للشباب العربي، وتغريب وعيه ولسانه أيضا، وإغراقه بشتى أساليب التسلية واللعب والكسل الفكري والعطالة الثقافية، والاغتراب الحضاري لفائدة النموذج الغربي (واحد من ثلاثة شبان عرب يحلمون بالهجرة)!


ويندفع الغرب اليوم في تطوير أساليب التوجيه الإعلامي والبث الفضائي والإذاعي في اتجاه العالم الإسلامي بشكل غير مسبوق، مركزا على فئة الشباب التي تسهل مخاطبة غرائزها ومداعبة أحلامها، وهناك اليوم قوة نارية ضخمة تتشكل من أزيد من 50 محطة إرسال، وتسعين موجة إذاعية، فيما يجري ضخ المزيد من هذه الترسانة الإعلامية الموجهة بالأساس نحو العالم العربي والإسلامي. وبعد الحادي عشر سبتمبر 2001، بدأت الولايات المتحدة الأمريكية تدرك أن الحرب ضد ما تسميه بالإرهاب - وتزعم أن جذوره موجودة في الإسلام- يجب أن تنطلق من البعد الثقافي، ومحاربة البنيات الثقافية في العالم الإسلامي.


وقد شرعت الولايات المتحدة في نهج سياسة إعلامية قوية للتبشير بمبادئها وأفكارها وإشاعتها في صفوف أبناء المسلمين، ففي شهر مايو 2001 تقدم السيناتور الأمريكي تيد كيندي لمجلس الشيوخ نيابة عن عشرة آخرين من أعضاء المجلس بمشروع يحمل اسم " الجسور الثقافية لعام 2002"، ترصد له ميزانية إضافية تبلغ 75 مليون دولار، هدفه احتواء شباب العالم الإسلامي ثقافيا، وصناعة قادة المستقبل في الدول الإسلامية من داخل المؤسسات الثقافية الأمريكية، ضمانا لاستمرار مسلسل التبعية الحضارية، وقال مستشار الأمن القومي في ولاية الرئيس الأمريكي السابق بيل كلينتون، في شرحه لأهمية إنشاء قناة فضائية إسرائيلية ناطقة بالعربية وموجهة إلى العالم العربي: "إن نصف الشعب في المملكة العربية السعودية تحت سن 30 عاما، وإن هذه الأجيال ليس لها معرفة بالاستعمار ولم تجربه، كذلك لم تجرب الحرب مع إسرائيل، ولم تعرف للقومية العربية انتصارا أو تحقيق آمال وطموحات".


هذه هي الأهداف والمخططات التي تستهدف غزو عقول الشباب في العالم العربي والإسلامي، وضرب مقومات الثبات لديه. وإذا علمنا ضعف أدائنا الإعلامي، وأن 70% تقريبا من مواد وبرامج الفضائيات العربية هي مواد مستوردة من الغرب، أدركنا كم أن المهمة صعبة ومتشعبة، وكم ستكون المعركة ضارية على جبهة القيم.


امل الامه - نت

رد مع اقتباس
رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع إلى

المواضيع المتشابهه
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
فطريات القدم ياميـه والكـبرللـه مجلس الطب والصحـــــة والغذاء 13 23-07-2007 12:09 PM
التحديث الاجتماعي للفرد د.فالح العمره مجلس الدراسات والبحوث العلمية 4 23-05-2007 08:12 PM
مشروع المدرسة السلوكية د.فالح العمره مجلس الدراسات والبحوث العلمية 4 22-11-2006 07:37 PM
اول من لعب كورة القدم ..؟؟..؟؟ راكان بن فيصل الحثلين مجلس الرياضة والسيارات 3 20-05-2006 05:08 AM
صفحة ... لـ السب الذي تعرض له المصطفى صلى الله عليه وسلم... ابوانس المجلس العــــــام 60 07-03-2006 03:22 PM

 


الوقت في المنتدى حسب توقيت جرينتش +3 الساعة الآن 06:36 PM .


مجالس العجمان الرسمي

تصميم شركة سبيس زوون للأستضافة و التصميم و حلول الويب و دعم المواقع