مجالس العجمان الرسمي


مجلس الدراسات والبحوث العلمية يعنى بالدراسات والبحوث العلمية وفي جميع التخصصات النظرية والتطبيقية.

رد
 
أدوات الموضوع طرق مشاهدة الموضوع
  #1  
قديم 11-04-2005, 12:35 PM
د.فالح العمره د.فالح العمره غير متصل
 
تاريخ التسجيل: Feb 2005
الدولة: في قلوب المحبين
المشاركات: 7,593
معدل تقييم المستوى: 27
د.فالح العمره is on a distinguished road
دور السياسات المالية وضوابطها





دور السياسات المالية وضوابطها في إطار الاقتصاد الإسلامي
مقدمة
السياسات المالية هي مجموعة الإجراءات التي تتخذها الحكومة من خلال الميزانية العامة للدولة (مضافًا إليها الميزانيات المستقلة لبعض الأجهزة والجهات الحكومية) [1] بقصد تحقيق أهداف اقتصادية وغير اقتصادية معينة.
ومن هذا التعريف يتضح أن السياسات المالية تمر عبر قنوات ثلاثة هي:
1- الإيرادات العامة، من عوائد الأملاك العامة للأمة وخراج وضرائب، وزكاة وغيرها. ومعلوم أن بعض هذه الإيرادات العامة مخصص لأهداف محددة، وبعضها غير مخصص.
2- الإنفاق العام، ويشمل ذلك جميع النفقات العامة للحكومة وأجهزتها وهيئاتها، سواء أكانت نفقات عادية أم إنمائية.
3- إدارة العجز (أو الفائض) في الميزانية، وكيفية تمويله ومصادر ذلك التمويل.
لذلك، فإن هذه الورقة ستبحث في أنواع الإيرادات العامة للدولة في إطار الاقتصاد الإسلامي، بما في ذلك الزكاة الشرعية وضوابط التحكم في هذه الإيرادات، زيادة وإنقاصًا، وتعديلا في تركيبها الداخلي أو بنيتها من أجل تحقيق الأهداف الاقتصادية للحكومة، وبخاصة مكافحة التضخم، وزيادة استخدام القوى العاملة وسائر عناصر الإنتاج، والتنمية الاقتصادية والاجتماعية. وسيخصص لهذا الجزء من الموضوع القسم الأول من الورقة على أننا لن نتعرض بالتمحيص والتحقيق لمسألة مشروعية الضرائب، والخلاف حول ذلك ولا لشروط فرض الضرائب عند من يقول بجواز ذلك بشروط.
وسيخصص القسم الثاني لبحث أنواع النفقات العامة في إطار الاقتصاد الإسلامي، والضوابط الشرعية للتحكم بها، زيادة، وإنقاصًا وتعديلا في بنيتها الداخلية أو تركيبها من أجل الوصول إلى الأهداف الاقتصادية وغير الاقتصادية المرجوة.
أما القسم الثالث، فسيخصص لدراسة عجز الموازنة، وأدوات تغطيته، باعتبار أن الفائض نادر الحدوث وسهل التصرف به، وسندرس في هذا القسم أيضا الضوابط الشرعية المتعلقة بإدارة العجز.
كما أن القسم الرابع سيدرس سياسات الدخول والأسعار وضوابطها الشرعية وصور استعمال هذه السياسات في محاربة أو كبت التضخم وعلاقاتها بسياسات الإيرادات العامة والنفقات العامة.
ثم سنخصص القسم الخامس لخلاصة البحث ونتائجه.


القسم الأول: الإيرادات العامة وضوابط السياسات المتعلقة بها في الإطار الإسلامي

إن التعرف على ضوابط سياسات الإيرادات العامة للدولة في الإسلام لا بد أن يرجعنا إلى دراسة وتحقيق الوضع الذي كانت عليه هذه الإيرادات في الصدر الأول للدولة الإسلامية، وكيف تطورت خلال العصور، والآراء التي أبداها الفقهاء والعلماء تجاه هذه التطورات.
وسنحاول أولا التعرف على وضع الإيرادات العامة في العهدين النبوي والراشدي، ثم نتبع ذلك بالضوابط التي يمكن استنباطها من ذلك. وينبغي أن نعترف منذ البدء بأنه ليس من السهل التعرف على الإيرادات العامة للدولة في المدينة المنورة في الصدر الأول. فليس لدينا أي سجل محفوظ لهذه الإيرادات حجما أو نوعا أو استعمالا. وذلك على الرغم مما هو معروف من الحرص الكبير لدى الصحابة ومن تبعهم حتى عصر التصنيف على حفظ وتسجيل كل ما ورد عن الرسول صلى الله عليه وسلم من قول أو فعل أو تقرير. ومن الواضح أن الظن بعدم وجود إيرادات عامة غير مقبول لما هو معروف - بداهة ونصا - من وجود إنفاق عام في ذلك العهد. أبسط صوره شراء أرض المسجد النبوي وبنائه وبناء مساكن رئيس الدولة، النبي صلى الله عليه وسلم، حول المسجد، دعك عن تجهيز الجيوش وإرسال البعوث وضيافة الوفود. إذن، لابد لنا من التدقيق في النصوص الوفيرة من السنة النبوية المطهرة حتى نكتشف من خلالها أنواع الإيرادات العامة وخصائصها المميزة والفترات الزمنية التي وجدت فيها.
وبالتالي، فإن هذا القسم سيضم فقرات ثلاث تتحدث عن وسائل تلبية الحاجات إلى الإنفاق العام في العهد النبوي، ثم الإيرادات العامة في العهد الراشد، ثم الضوابط الشرعية لسياسات الإيرادات العامة.
أولا: وسائل سداد الحاجات للإنفاق العام في العهد النبوي:
إن مما يساعد في فهم الإيرادات العامة في هذه الفترة أن نلاحظ الطريقة التي تأسست فيها الدولة الإسلامية الأولى في المدينة المنورة. فقد بدأ الإسلام ببدء الوحي في مكة المكرمة. ومن آمن به كان مستعدا للتضحية بكل شيء في سبيله. وما أن بدأ المؤمنون الجدد يكثرون حتى ظهرت لهم حاجة لبعض النفقات مثل الحاجة إلى مكان يجتمعون فيه ويتعلمون من فيض الوحي والنبوة. كان أولئك المؤمنون مستعدين لبذل كل ما تستدعيه الحاجة، فتبرع الأرقم بن أبي الأرقم بداره لتكون دار دعوة واجتماع.
ولقد استفاد الرسول صلى الله عليه وسلم لفترة طويلة من مال أم المؤمنين خديجة رضي الله عنها، طيبة بذلك نفسها. ثم جاءت أحداث المحاصرة في الشعب لتزيد من التلاحم المادي بين هذا العدد القليل من المؤمنين (ومعهم من شاركهم من بني هاشم وبني المطلب). وواضح أن مال خديجة طبيعته أن ينفد، ولكنه لم ينفد البذل المادي من المؤمنين. فالسفر إلى الطائف يتم تمويله من مال خديجة، أو مال أبي بكر، إذ لا يوجد ما يدل على حصول الرسول، صلى الله عليه وسلم، على أي مصدر تمويل آخر، ثم رحلة الهجرة نفسها يتم تمويلها بكاملها من تبرع أبي بكر الصديق، رضي الله عنه، حتى إن الرسول صلى الله عليه وسلم ليقول "ما نفعني مال قط إلا ما نفعني مال أبي بكر". [2]
وصل الرسول، صلى الله عليه وسلم، والمهاجرون إلى المدينة يحملون معهم "تقليدا" أو "عادة" هي تمويل ما تحتاجه إليه دعوتهم من تبرعاتهم الخاصة، وقد تأكد هذا المعنى في العهد المدني من خلال الآيات والأحاديث التي تتحدث عن الجهاد بالمال والإنفاق في سبيل الله.
وثمة مجموعة غزيرة من النصوص تلقي أضواء على الإيرادات العامة للدولة في هذه الفترة، أختار منها أمثلة تعبر عن القضايا الأساسية فيما يتعلق بالإيرادات العامة لهذه الفترة:
أ. فبعيد وصول النبي والمهاجرين إلى المدينة المنورة عقد أواصر أخوة محددة بين المهاجرين والأنصار، كان لها جانب مادي واضح هو سد حاجات ذوي الحاجة، ريثما يتمكنون من العمل المنتج اقتصاديا، وذلك بدلا من تحمل الدولة عبء سد هذه الحاجات.

ب. ولقد وجد في المجتمع المدني أناس عرفوا بأهل الصفة قوم هاجروا إلى المدينة من مكة وغيرها وقد أمرهم الرسول صلى الله عليه وسلم بالبقاء قرب المسجد، يتعلمون منه، ويكتبون له، ويبعث منهم البعوث، إلخ. أي أنهم متفرغون لأعمال الدولة. أما حاجاتهم المادية فقد دعا النبي، صلى الله عليه وسلم، الناس إلى التبرع لهم بالطعام وغيره. وكان يؤتى بالتمر فيعلق في المسجد لهؤلاء.
ج. وضع الرسول، صلى الله عليه وسلم، وثيقة دستورية، عرفت باسم "الصحيفة" وهي تتضمن عدة بنود تتعلق بضرورة تضامن المؤمنين في إعطاء المعاقل (الديات)، وفداء الأسرى وإعانة المثقلين بالديون. كما تنص على اختصاص كل من المؤمنين واليهود - بصفة جماعية كمجتمعَيْن مستقلين داخل المدينة - بسداد نفقاتهم العسكرية عندما يشتركون في حرب معا ضد عدو مشترك [3]. وتضامن أبناء القبيلة الواحدة في الديات وفداء الأسرى كان معروفا في الجاهلية، أما التضامن بين أبناء المدينة الواحدة - وكانت المدينة هي وطن الدولة - الذين تربطهم رابطة العقيدة، لا النسب، فأمر لم يكن مألوفا قبل ذلك.
د. وعند بناء المسجد النبوي أبى الرسول، صلى الله عليه وسلم، إلا أن يدفع قيمة الأرض التي وقع عليها الاختيار. وأغلب الظن أن ذلك كان من مال أبي بكر الذي حمله معه إلى المدينة في الهجرة [4]. وذلك أن عهد الرسول، صلى الله عليه وسلم، بمال خديجة بعيد، وقد ماتت قبل الهجرة بسنوات، كما لم تذكر لنا السيرة العطرة أن النبي، صلى الله عليه وسلم، حمل معه مالا في الهجرة أو جاءته أية إيرادات في الشهور القليلة التي سبقت عمارة المسجد.
هـ. لم يرد في السنة أن الرسول، صلى الله عليه وسلم، فرض أية جبايات، أو ضرائب، أو رسوم على أحد في المدينة، رغم أنه تدخل في بعض الشئون الاقتصادية. فقد خط لهم سوقا غير سوق يهود، ولكنه لم يفرض رسوم استعمال لهذه السوق، ولا رسوم دخول إليها. ولا تروى لنا السيرة النبوية أية وظائف مالية، غير فريضة الزكاة، التي نزلت في السنة الثانية للهجرة، وذلك رغم الحاجة الشديدة لبعض النفقات، ومنها المعونة الاجتماعية مثلا، فمعروف أنه، صلى الله عليه وسلم، كان يبيت جائعا، حتى ليربط على بطنه الحجر، أو الحجرين. وكذلك أبو بكر، وعمر، وعلي. وأنه، صلى الله عليه وسلم، كان يجوع حتى يخرجه الجوع من البيت، ولا يمكنه من النوم، وأن من الصحابة من كان يقع أرضا من شدة الجوع، حتى ليظن فيه المرض أو الصرع، وما به إلا الجوع. [5]
و. بالنسبة للأهداف الاجتماعية، يلاحظ من الحديث الذي رواه أبو هريرة أن النبي، صلى الله عليه وسلم، كان يؤتى بالرجل (الميت) عليه الدين فيسأل: هل ترك لدينه من قضاء؟ فإن حُدث أنه ترك وفاء صلى عليه، وإلا قال: صلوا على صاحبكم. فلما فتح الله عيه الفتوح قال: "أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم، فمن توفي وعليه دين فعليّ قضاؤه، [6] وفي رواية "فمن ترك مالا فلأهله ومن ترك دينا أو ضياعا فإلي وعلي."
فوفاء الدين، وكفالة الأيتام لم تبدأ الدولة الإسلامية بتحملهما عمن يموت ولم يترك وفاء لدينه أو كفاية لأهله المضيعين، إلا بعد أن فتح الله على الرسول، صلى الله عليه وسلم، الفتوح وبدأت إيراداتها تغمر بيت المال. وفي نص آخر لم يقبل الرسول، صلى الله عليه وسلم، الصلاة على ميت ترك دينا حتى تكفل أحد الحاضرين بوفاء ذلك الدين [7]. بمعنى أن الرسول، عليه الصلاة والسلام، لم يكلف دولته مهمة اللجوء إلى تحصيل إيرادات ضريبية لوفاء مثل ذلك الدين، وآثر أن لا يُصلي بنفسه على الميت وعليه دين لا وفاء له.
ز. وكذلك، فعلى كثرة ما ورد من آيات وأحاديث في الحث، والتشجيع على بذل المال في سبيل الله، والتصدق على الفقراء، وذوي الحاجات، وبذله جهادا لإعلاء كلمة الله تعالى، لم نجد حالة واحدة حوّل فيها الرسول، صلى الله عليه وسلم، الحث على العطاء التبرعي إلى إلزام وإجبار، رغم أن الممالك المجاورة كانت تفعل ذلك وتفرض الضرائب بأنواع متعددة. ولا شك أن النبي الكريم، صلى الله عليه وسلم، كان يعرف ذلك جيدا، وهو التاجر الذي كان يحمل مال خديجة إلى الشام.
ح. أضف إلى ذلك أن الدولة لم تعمد إلى فرض ضرائب من أجل توفير العمل للذين يحتاجون إليه. كما أن سياستها اعتمدت على المساعدة في إيجاد فرص للعمل، لذوي الحاجة اعتمادا على موارد القطاع الخاص نفسه، بدلا من إعطائهم المساعدات الاستهلاكية. مثال ذلك الحديث الذي رواه أنس "أن رجلا من الأنصار أتى النبي، صلى الله عليه وسلم، يسأله، فقال، أما في بيتك شيء؟ قال: بلى، حلس نلبس بعضه ونبسط بعضه وقعب نشرب فيه الماء. فقال: ائتني بهما. فأتاه بهما، فأخذهما رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وقال: من يشتري هذين؟ فقال رجل: أنا آخذهما بدرهم. قال: من يزيد على درهم؟ مرتين، أو ثلاثا. فقال رجل: أنا آخذهما بدرهمين. فأعطاهما إياه، وأخذ الدرهمين، وأعطاهما الأنصاري وقال: اشتر بأحدهما طعاما وانبذه إلى أهلك، واشتر بالآخر قدوما، وائتني به. فشد رسول الله، صلى الله عليه وسلم، عودا بيده ثم قال له: اذهب، فاحتطب، وبع، ولا أرينك خمسة عشر يوما. فذهب الرجل يحتطب ويبيع، فجاء وقد أصاب عشرة دراهم، فاشترى ببعضها ثوبا، وببعضها طعاما... قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم،: هذا خير لك من أن تجيء المسألة نكتة في وجهك يوم القيامة. [8]
ط. وإن أول إيراد ذي بال دخل خزانة الدولة كان غنائم وأسرى معركة بدر في السنة الثانية للهجرة، حيث وزع أربعة أخماسها على المقاتلة، وترك خمس الخمس للدولة، تتصرف فيه، حسبما ترى، في مصالح المسلمين. وقد استعمل الرسول، صلى الله عليه وسلم، بعض الأسرى في تعليم الكتابة والقراءة في المدينة، جاعلا ذلك فداء لهم من الأسر.
ي. وبعد أن فرضت الزكاة في السنة الثانية من الهجرة، بدأ الرسول، صلى الله عليه وسلم، ممارسة جديدة هي تعيين المصّدقين لقاء أجور، وهم جباة / موزعو الزكاة. ونلاحظ هنا أن الله سبحانه فرض للعاملين عليها حصة فيها. ولدينا في الروايات الصحيحة ما يدل على أن من الصحابة من سعى إلى أن يكون مصدقا ليتكسب من عمله فيها، ومنهم من اختاره الرسول، صلى الله عليه وسلم ليكون ذلك سبيلاً يجعل له فيه رزقًا ومكسبًا [9]
والزكاة بحق الركن الأول في النظام الاقتصادي الإسلامي، رغم أنها الركن الثالث للإسلام. وهي تجب في المال لأنه متمول، وكذلك فإن إنفاقها لم يترك لأحد من الناس، فقد حدده الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز، كما بين الرسول، صلى الله عليه وسلم، ملامحها الرئيسية من حيث معدلاتها وإعفاءاتها وشروط وجوبها، بنصوص لا تترك مجالا للاجتهاد في هذه الملامح الأساسية. والذي يهم البحث الحاضر من خصائص الزكاة هو كونها إيرادا عاما تجبيه الدولة ويدخل خزانتها، رغم أن إنفاقها مخصص لمصارفه الثمانية. فهي – من هذه الوجهة - وظيفة مالية - ضريبة - غير معلق وجوبها، على الحاجة إلى مصارفها. وهي تشمل بندا للعاملين عليها جباية وتوزيعا. أي أنها تقدم تمويلا ذاتيا لإدارتها مما جعل الرسول، صلى الله عليه وسلم، يبدأ بتعيين المصدقين، وبإصدار التعليمات الواضحة التفصيلية، بشكل مكتوب إليهم، وتخصيص المخازن والمرابض لحفظ ما يجمع منها عينا، ريثما يتم توزيعه.
ومع فريضة الزكاة بدأت النواة الأولى للجهاز المالي في الدولة الإسلامية.
ك. لم يعرف أن الرسول صلى الله عليه وسلم أجرى رواتب، أو أعطيات دورية، لموظفي الخدمة العامة. فقد أمر عبد الله بن سعيد بن العاص [10]، وكان يعرف الكتابة، أن يعلم الصبيان الكتابة في المدينة، ولم يعرف أنه خصص له أجرا، أو مرتبا. كما أنه لم يضع رواتب أو عطايا لأهل الصفة المتفرغين للشئون العامة. أي أن معظم - بل كل - الخدمات العامة كانت تقدم تبرعا من قبل الناس، ومن يضطره منهم عمل الخدمة العامة للانقطاع عن الكسب يقدم له إخوانه الآخرون حاجاته متبرعين. [11]
ل. وقد استمر الاعتماد الكبير على التبرعات كلما دعت الحاجة إلى ذلك لفترة طويلة من العهد النبوي في المدينة حتى إن غزوة تبوك، وهي في السنة التاسعة تم معظم تمويلها عن طريق التبرعات. وبقيت التبرعات التطوعية تشكل مصدرا مهما في سد الحاجات العامة مثل إطعام الوفود القادمة، وبناء المساجد وإمدادها بالإنارة والمياه، وأمور الرعاية الاجتماعية، كشراء أو حفر الآبار وتخصيصها للاستعمال المجاني للناس جميعا، كما فعل عثمان في بئر رومة، وتخصيص البساتين للنفع العام كما فعل طلحة في حائط بيرحاء.
كل ذلك مع ملاحظة أن القدرة على دفع الضريبة لدى الناس قد أصبحت جيدة خصوصا بعد فتح خيبر، التي أغنت الناس، وجعلت لهم مصادر دخل دائمة، فضلا عما تم توزيعه من أموال الغنائم الكثيرة المتتالية الناشئة عن الفتوح الكثيرة. أضف إلى ذلك اتساع رقعة الدولة وشمولها لعدد كبير من السكان - حتى إن غزوة حنين، في السنة الثامنة، كان فيها أكثر من اثني عشر ألف مقاتل وحج السنة التاسعة - حجة الوداع - كان فيه أكثر من أربعين ألفا.
م. بعد فتح خيبر خصص الرسول، صلى الله عليه وسلم، نصف أرضها للنوائب، أي لما ينوب من مصالح وحاجات عامة للمسلمين. يروي أبو داود عن رجال من الأنصار قولهم "وعزل النصف الثاني لمن نزل به من الوفود والأمور ونوائب الناس". [12] وذلك بعد أن قسم نصفها سهمانا له وللمقاتلة معه. وقد اتفق مع أهلها ممن كان يزرعها، قبل ذلك، على أن يبقوا فيها مزارعة على النصف من إنتاجها. يقول ابن كثير " فأعطاهم خيبر على أن لهم الشطر من كل زرع ونخيل وشيء [13]. وكذلك الأمر بالنسبة لأرض فدك التي نزل أهلها لرسول الله، صلى الله عليه وسلم، فصالحوه على شرط أهل خيبر.
فكانت أرض فدك ونصف أرض خيبر لرسول الله، صلى الله عليه وسلم، يأتيه خراجها كل عام، على النصف من إنتاجها "وكان يعزل منها نفقة أهله لسنة، ثم يجعل ما بقي مجعل مال الله، يصرفه في الكراع والسلاح ومصالح المسلمين. [14]. فلما قبض عليه الصلاة والسلام، اعتبرها الصديق مالا للدولة، وقال "أنا أعول من كان يعول رسول الله، صلى الله عليه وسلم" [15]. وقد استعمل الرسول، صلى الله عليه وسلم، العمال على هذا الخراج لتقديره وجبايته.
ن. ويبدو أن الرسول، صلى الله عليه وسلم، فعل ما يشبه ذلك - على نطاق أضيق - في السنة الثالثة للهجرة. فإن أرض بني النضير، الذين أُجلوا عن المدينة المنورة دون حرب، لم توزع بأكملها بين فقراء المهاجرين. إذ ينقل ابن كثير عن الصحيحين قولا لعمر بن الخطاب، رضي الله عنه: "كانت أموال بني النضير مما أفاء الله على رسوله، مما لم يوجب المسلمون عليه بخيل ولا ركاب. فكانت لرسول الله، صلى الله عليه وسلم، خاصة، فكان يعزل نفقة أهله سنة، ثم يجعل ما بقي في الكراع والسلاح، عدة في سبيل الله، عز وجل. [16]
ولكن معظم ثمار ونخيل بني النضير كان قد قطع أو حرق، في أثناء الحصار، الذي انتهى بإجلائهم. كما يذكر ابن كثير أن معظم ما بقي من أموالهم "يعني النخيل والمزارع - كانت له صلى الله عليه وسلم خاصة، يضعها حيث يشاء، فقسمها على المهاجرين الأولين دون الأنصار - إلا أن سهل بن حنيف وأبا دجانة ذكرا فقرا فأعطاهما. [17]
س. ينبغي التأكيد على أن خراج خيبر وفدك لم يكن ضريبة بأي معنى من معاني الضريبة المعروفة، وإنما هو ريع مالك الأرض أو حصة مالك الأرض من إنتاجها. إذ يؤكد ابن كثير "... فإن الصحيح أن خيبر جميعها لم تقسم وإنما قسم نصفها بين الناس... وقد احتج بهذا مالك ومن تابعه على أن الإمام مخير في الأراضي المغنومة، إن شاء قسمها، وإن شاء أرصدها لمصالح المسلمين، وإن شاء قسم بعضها وأرصد بعضها لما ينوبه في الحاجات والمصالح" [18]. فالخراج إذن ريع أرض تملكها المسلمون نتيجة للحرب نفلا من الله تعالى. ولم تحل الغنائم لنبي قبل محمد، صلى الله عليه وسلم. يقول ابن كثير نقلا عن البيهقي عن ابن عمر "أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قاتل أهل خيبر حتى ألجأهم إلى قصرهم، فغلب على الأرض والزرع والنخل، فصالحوه على أن يجلوا منها، ولهم ما حملت ركابهم، ولرسول الله، صلى الله عليه وسلم، الصفراء والبيضاء، ويخرجون منها... وأراد إجلاءهم منها. فقالوا: يا محمد، دعنا نكون في هذه الأرض، نصلحها، ونقوم عليها. ولم يكن للرسول، صلى الله عليه وسلم، ولا لأصحابه غلال يقومون عليها. وكانوا لا يفرغون أن يقوموا عليها. فأعطاهم خيبر على أن لهم الشطر من كل زرع ونخيل وشيء، ما بدا لرسول الله، صلى الله عليه وسلم". [19]
فواضح إذن أن الأرض تملكها المسلمون، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو رئيس الدولة، اختار أن يخصص النصف من الأراضي للدولة، ويملّك النصف للمقاتلة من أصحابه. ثم عرض عليه أهل خيبر أن يزرعوها له وللمسلمين على النصف من إنتاجها، فوافقهم، واشترط أنه يستطيع أن ينهي عقد المزارعة هذا في أي وقت يشاء.
ع. والواقع أن الإيرادات العامة للدولة بدأت تتكاثر في الجزء الأخير من حياة النبي، صلى الله عليه وسلم. فبالإضافة للزكاة، وريع الأرض العامة، فإن خمس الغنائم، التي شرعت منذ معركة بدر، صار يشكل بندا كبيرا من بنود الإيرادات العامة، حتى إن عطايا الرسول صلى الله عليه وسلم صارت تتخذ أرقاما ضخمة بالنسبة لذلك العصر. فإنه أعطى أربعة عشر شخصا مائة من الإبل، لكل منهم، من غنائم هوازن وحدها، بعد معركة حنين. [20] ووعد جابر بن عبد الله أن يعطيه "هكذا وهكذا وهكذا" مشيرا بكلتا يديه ثلاثا عندما يأتيه مال البحرين، ولكنه، صلى الله عليه وسلم، توفي قبل قدوم المال، فأعطاه أبو بكر فكانت ألفاً وخمسمائة درهم. [21]
ف. وكذلك فقد فرضت الجزية، وهي إيراد عام للدولة الإسلامية. وأول من فرض عليه رسول الله، صلى الله عليه وسلم، الجزية هم نصارى نجران، سنة تسع من الهجرة، فرضها ألفي حلة، ألف في رجب وألف في صفر من كل عام، ثم فرضت بعد ذلك على مجوس هجر ثم البحرين. [22]
ص. وكذلك فإن مبدأ الوقف صار يأخذ شكل المؤسسة الاقتصادية في المجتمع. فالرسول، صلى الله عليه وسلم، نصح عمر بن الخطاب أن يحبس رقبة أرض له في خيبر، ويجعل غلتها في سبيل الله، كما دعي عثمان ليشتري مربدا كان بجوار المسجد، ويضمه للمسجد النبوي، وقفا لله تعالى، وأن يشتري بئر رومة، ويجعلها سقاية للمسلمين، وله أجرها. [23] فبدأ الوقف بذلك يتخذ شكل الأعمال الخيرية الاجتماعية، متوسعا من الاقتصار على أماكن العبادة وحدها.
ق. كما ظهرت في هذه الفترة ممارسة الاقتراض العام. إذ تروي لنا السيرة النبوية المطهرة عدة حوادث استقرض فيها رسول الله، صلى الله عليه وسلم، للمصالح العامة، أي أنه استقرض لبيت المال أو للخزانة العامة (عدا الاقتراض الشخصي الذي عليه شواهد كثيرة). فقد اقترض أدرعا من صفوان بن أمية عند الخروج إلى غزوة حنين. فقال له صفوان وكان مشركا: أغصب يا محمد؟ قال، صلى الله عليه وسلم: "بل عارية مضمونة" [24]. واقترض من أبي ربيعة أربعين ألف درهم وردها من إيرادات بيت المال، مما يدل على أنها قرض للدولة وليس لشخصه الشريف، صلى الله عليه وسلم. [25]
وكذلك استقرض زكاة العباس لسنتين. يروى أبو عبيد بسنده "بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عمر على الصدقة. فأتى العباس يسأله صدقة ماله، فقال : قد عجلت لرسل الله صلى الله عليه وسلم صدقة سنتين. فرفعه عمر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال "صدق عمي، قد تعجلنا منه صدقة سنتين" [26].
وعلى فرض صحة قصة صفوان رضي الله عنه فإنها تدل على أمور مهمة منها:
أ- أن صفوان توهم الغصب - وكان مشركا لم يعرف أن الرسول، صلى الله عليه وسلم، لا يغصب ولا يبيح الغصب. والغصب هو المصادرة. وقد يكون سبب هذا التوهم أن هذا القرض العام كان إجباريا، فإن كان كذلك، فإن القرض الإجباري من الأغنياء جائز.
ب- الاقتراض العام جائز من أي مواطن، مسلم كان أم غير مسلم، لأن صفوان بقي مشركا في مهلة، فقد كان أمهله رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أربعة أشهر كما تروي القصة.
ج - لم تكن الدولة الإسلامية عند الاقتراض من صفوان في حالة فقر كبير. فقد كان جيش الرسول، صلى الله عليه وسلم، الذي فتح مكة اثني عشر ألفا، وكان طلقاء مكة قد أسلموا، عدا بضعة أفراد يعدون على الأصابع، وكان في مقدور الرسول، صلى الله عليه وسلم، أن يفرض ضريبة بسيطة جداً ليشتري هذه الأدرع الثلاثين أو الأربعين، ولكنه لم يفرض ضريبة وآثر القرض العام بدلا من ذلك.
ر. لم يلجأ الرسول صلى الله عليه وسلم إلى فرض الضرائب بأي شكل من الأشكال طيلة حياته الشريفة. فرغم وجود النموذج الواضح المتمثل بالزكاة، ورغم معرفته لما كانت تفعله الممالك المجاورة وبخاصة الروم، لم يقم الرسول، صلى الله عليه وسلم، بفرض ضرائب أخرى، ولا بالقياس على الزكاة لتلبية حاجة الدولة للأموال، وتجهيز الجيوش، ونشر الدعوة، وذلك رغم معرفته بما كانت تفعله الأمم الأخرى والملوك من حوله. وكان كلما احتاجت الدولة إلى المال، إما أنه يدعو إلى التبرع أو أنه يقترض حتى إنه توفي، عليه الصلاة والسلام، ودرعه مرهونة في مال اقترضه. ورغم أن هذا القرض قد يكون شخصيا للرسول، فإن للحديث دلالته. إذ أنه لاستعمالات بيت رئيس الدولة الذي لم يكن له مرتب مخصص.
ش. وعلى العكس من ذلك، فقد صدرت عدة إدانات منه، صلى الله عليه وسلم، للمكوس ذكرها أبو عبيد منها "لا يدخل الجنة صاحب مكس" و "إن صاحب المكس في النار" و "إذا لقيتم عاشرا فاقتلوه" [27]. يعلق أبو عبيد فيقول عن المكس "كان له أصل في الجاهلية يفعله ملوك العرب والعجم جميعا فكانت سنتهم أن يأخذوا من التجار عشر أموالهم، إذا مروا بها عليهم". [28] وذلك فضلا عن التأكيد العام على حرمة الأموال الخاصة، وصيانتها وحق الإنسان بالدفاع عن ماله، ضد أي اعتداء عليه من أية جهة، واعتباره شهيدا إذا قتل دفاعا عن ماله.
وينبغي أن نلاحظ أن توسع حاجات الدولة ولجوئها إلى استخدام عدد من الأشخاص في الأعمال العامة، مثل استعمال ابن رواحة وغيره على خرص ثمار خيبر، واستعمال عمر بن الخطاب وغيره، كثيرين، على جباية الزكاة، واستعمال أبي رافع وبلال وغيرهما على حفظ المال وسداد النفقات، وقد روي أن النبي،صلى الله عليه وسلم، استعمل رجلا من بني غفار على رعاية إبل الصدقة [29]، كل ذلك يوحي بأنه قد تكون خصصت بعض الأعطيات الخاصة، أو الرواتب، لهؤلاء لقاء خدماتهم، لأن ذلك مما يصرفهم عن أعمالهم الدنيوية الأخرى، فضلاً عن توفر الموارد لدى الدولة للقيام بهذه النفقات.
كما يلاحظ احتفاظ الدولة بأملاك عامة لتأمين بعض الحاجات العامة. فقد حمى الرسول صلى الله عليه وسلم أرضا لخيل المسلمين، أي أنه احتجزها من الأرض البيضاء غير المملوكة لأحد، وخصصها لمصالح عامة، ترعى فيها خيل المسلمين. [30] وقد علق أبو عبيد على هذه القصة بأن هذا حمى "للخيل الغازية في سبيل الله" [31]. وحِمى الأرض يعني عدم إمكان تملكها للأفراد عن طريق الإحياء أو الإقطاع.
وأخيرا يلاحظ أن سياسة الرسول، صلى الله عليه وسلم، لم تقم على التخطيط الطويل الأجل - ولا حتى قصيره - بالنسبة للإيرادات العامة. فكان يوزع كل ما يأتيه، فإذا جدت حاجة من الحاجات، ولم يكن عنده ما يفي بها، دعا الناس إلى التبرع، أو استقرض على إيرادات مستقبلة، أو أجل سداد تلك الحاجة إلى مال قادم، أو متوقع. وقد روى البخاري ومسلم وغيرهما عن الرسول، صلى الله عليه وسلم، قوله "لو كان عندي أحد ذهبا، لأحببت أن لا أبيت ثلاثا، وعندي منه شيء" [32].
والقصد هنا ليس محاولة تحريم التخطيط أو التقدير المسبق للنفقات أو الواردات ووضع ميزانية لهما، أو عدم الحاجة إلى مثل ذلك في عصرنا الحاضر، وإنما بيان أن طبيعة النظام السياسي الإسلامي والعلاقة الدينية التي تربط الدولة بالأفراد هي من نوع فريد، يجعل خزانة الدولة جيوب رعاياها بحق، مما يقتضي عدم التقليل من أهمية مساهمة الأفراد في الإيرادات العامة مساهمة طوعية محضة، سواء أكان ذلك لاستعمالها في سداد النفقات الجارية العادية، أم في الإنفاق الرأسمالي الإنمائي. ففي الدولة الإسلامية يرتبط الحاكم بالمحكوم بنفس العقيدة التي يقوم عليها النظام بأكمله. وبالتالي يصبح عطاء الأفراد لتحقيق الأهداف المالية للدولة عطاء طوعيا تبرعيا. ولعل بيان ذلك كان من أهم مقاصد الرسول، صلى الله عليه وسلم، في ممارساته المالية. فهو يؤكد دائما - حتى عند كثرة موارد الدولة - على التبرع للمصالح العامة للمسلمين، ويترك حيزا مهما في ماليته ليتم تمويله بالتبرعات، بدلا من أن يدخر فائض الإيرادات في يوم كثرتها ليوم الحاجة، لأنه يعلم تماما أن الحاجات التي ستطرأ سيكون لها من إيرادات مستقبلية أو تبرعات الأفراد ما يكفيها.



ثانيا - الإيرادات العامة في العهد الراشد:
اتصف العهد الراشد - كما هو معلوم - باتساع رقعة الدولة، اتساعا كبيرا جدا بسبب كثرة الفتوح. فقد شملت الدولة أصقاعا كان لديها نظمها العريقة فيما يتعلق بالإيرادات العامة المنتظمة، مثل الضرائب، أو المكوس بأنواعها، والعشور على الأراضي والتجارة، والضرائب على الصناعات وسائر الأنشطة الاقتصادية. وكان أهل هذه البلدان معتادين على تأدية الضرائب والوظائف المالية للملوك وذوي السلطان. وتسببت الفتوح بكثرة الغنائم، من الذهب، والفضة، والأموال العينية، وكذلك الأراضي الزراعية الشاسعة في الشام ومصر وعراقي العرب والعجم. ولقد زاد من كثرة هذه الغنائم عدم دخول كثير من أصحاب البلاد المفتوحة في الإسلام قبل الفتح أو عنده مباشرة.

ولقد كان المسلمون منشغلين بالقتال، والحكومة غير راغبة - وبخاصة في عهد عمر بن الخطاب، رضي الله عنه - بترك هؤلاء الجنود يخلدون للراحة وإتباع أذناب البقر.. مما حدا بها - إضافة إلى اعتبارات أخرى مهمة- إلى عدم توزيع الأراضي، واللجوء إلى خيار الاحتفاظ بالأراضي المفتوحة، أملاكا عامة تدر إيرادا للدولة. وإذا أخذنا بعين الاعتبار قلة عدد سكان الجزيرة العربية بالنسبة لما حولها من البلدان، فإن ذلك يفسر كبر حصة الفرد الواحد من العطايا الناشئة عن توزيع جزء، لا يستهان به، من الإيرادات المالية الكبيرة للدولة.

ولقد كان لهذه العوامل تأثير كبير في تحديد شكل الإيرادات العامة في العهد الراشد وفيما يلي أهم ملامحها:



1- إن التدفق الهائل للغنائم وسائر الإيرادات العامة (التي يمكن استعمالها لأي من مصالح المسلمين دون التخصيص الذي ورد في شأن الزكاة) قد أدى إلى تعديلات بارزة في هيكل الإيرادات العامة والنفقات العامة للدولة، فضلا عن تأثيره على البنية التنظيمية للخزانة العامة - بيت المال.

فمع التدفق المستمر الذاخر للغنائم والجزية والخراج خلال فترة زمنية قصيرة، لم يشعر أي من الخلفاء الراشدين بالحاجة إلى الاقتراض العام أو إلى توجيه دعوات عامة للتبرع من أجل سد حاجات الإنفاق العام. فكل ما دعت الحاجة إليه من إنفاق كان يجد من الإيرادات التي تصل كل يوم، وليس/من قطر من الأقطار، أو إقليم من الأقاليم، ما يغني عن الحاجة للدعوة إلى التبرعات أو الاقتراض العام. وبذلك قل - إلى حد بعيد - دور كل من التبرعات الطوعية والقرض العام في تمويل حاجات الإنفاق الحكومي.

بل إن السيل المتدفق من الإيرادات العامة، أضف إليه رغبة الخلفاء الراشدين بعدم الاحتفاظ بمخزون كبير من الأموال، أدى إلى القيام نفقات كثيرة في مجال الرعاية الاجتماعية لم تكن موجودة في العصر النبوي. فكثرت الجرايات على الناس، والعطايا، والرواتب التي صارت توزع على المسلمين دونما حاجة، إلى أي عمل من جانبهم لقاء ذلك، حتى إن عمر ابن الخطاب رضي الله عنه أجرى الجرايات على الأطفال الرضع.[33]

يضاف إلى ذلك تغيير تنظيمي مهم، إذ كان لابد من تنظيم بيت المال، وتخصيص الموظفين المتفرغين له ووضع جداول الاستحقاقات في التوزيع. وبالتالي صار للخزانة رصيد أو مخزون دائم تستطيع منه الوفاء بما يجد من حاجات. ففي عهد عمر رضي الله عنه نجد العديد من القصص، التي يلاحظ فيها حاجة أو فاقة، لم تكن ملحوظة من قبل، فيأمر عمر صاحب بيت المال أن يعطي ذلك الفقير، أو تلك المرأة المحتاجة، أو ذلك الذمي الهرم.

2- ولا يقل عن سيل الإيرادات أهمية وتأثيرا التعميق والترسيخ اللذين حصلا في العهد الراشد لمسألة الخراج كبند من أهم بنود الإيرادات العامة. فقد قسم الرسول، صلى الله عليه وسلم، أرض خيبر نصفين، نصف أرصده لخزانة المسلمين وحاجاتهم ونصف وزعه على من كان معه من الجند.

ثم أجر تلك الأرض لمن يزرعها مشاطرة وكان نصف العائد يؤخذ للخزانة العامة ونصفه يوزع على الأفراد مالكي نصف مجموع تلك الأراضي.

فلما فتحت العراق أحصى عمر أرضه وأهله فاستكثر ما يصيب الجندي الواحد لو وزع ذلك.[34] ثم استشار عليا رضي الله عنه فأشار عليه "دعهم يكونوا مادة للمسلمين"[35]. فقرر عمر عندئذ جعل الأرض كلها للمسلمين وضرب إيجارا عليها أسماه الخراج.[36] وقال عمر: "أما والذي نفسي بيده، لولا أن أترك آخر الناس ببّانا (كلمة غير عربية معناها: على طريقة واحدة) ليس لهم شيء، ما فُتحت علي قرية إلا قسمتها كما قسم النبي، صلى الله عليه وسلم، خيبر. لكني أتركها خزانة لهم، يقتسمونها."[37]

فقد تأكد إذن أن قصد عمر، رضي الله عنه، مما فعله في أرض العراق، أن يتركها مصدر دخل للمسلمين تدر دخلها كل عام فينتفع به حاضر المسلمين ومستقبلهم. أي أنها أصل ثابت تم تمليكه للدولة.[38] يدر غلة دورية. أما تحديد هذه الغلة فقد جعله عمر حسب إنتاجية الأرض، بحيث وضع جدولا لكل نوع من الأراضي حسب ما يزرع فيها من حبوب أو ثمار.[39]

ولقد تدعم حق الملكية العامة، على هذا النوع من الأراضي، بعدد من الأحكام الشرعية المعروفة منها منع عمر، رضي الله عنه، بيع أرض الخراج. فقد قال لرجل اشترى أرضا خراجية: ممن اشترتيها؟ قال الرجل من أربابها. فلما اجتمع المهاجرون والأنصار قال (عمر) : هؤلاء أربابها فهل اشتريت منهم شيئا؟ قال: لا. قال: فارددها على من اشتريتها منه، وخذ مالك.[40] ومن أجاز من علماء المسلمين والصحابة بيعها، فإنما كان ذلك بمعنى بيع حق الاستفادة من عقد المزارعة مع الدولة وهو ما سماه أبو عبيدة "اكتراء أرض الخراج"[41].ومن هذه الأحكام عدم سقوط الخراج عن الأرض، إذا أسلم صاحبها، وكذا إذا باعها لمسلم لأن "الخراج بمنزلة الغلة والكراء.[42] ومنها حق الدولة - بصفتها مالكا للأرض - بتغيير طريقة حساب كرائها أو مقداره حسب الظروف والأوضاع الاقتصادية، شريطة عدم ظلم الطرف الثاني الذي يزرع الأرض. فقد كان عمر يحرص على أن يكون الخراج من طيب لم يظلم فيه مسلم ولا معاهد.[43] وأخيرا فإن الخراج لم يعامل معاملة العشر، الذي هو زكاة الزرع، من حيث حق الدولة في استخدام الخراج في أي من مصالح المسلمين، دون التقيد بالأصناف الثمانية التي توزع فيها العشور والزكوات.

ومحاولة تفسير الخراج بأنه ضريبة على الأرض.[44] واعتبار ذلك أساسا يقاس عليه إمكان فرض ضرائب على أراضي المسلمين محاولة لا تأخذ بعين الاعتبار الوقائع التاريخية، التي أشرت إليها في هذا البحث.

يضاف إلى ذلك أن أي خراج أو ضريبة مشابهة لم يفرض على الأرض التي أسلم أهلها عليها.[45] كما أنه لا يجوز للدولة الإسلامية زيادة خراج أرض الصلح التي صالح أهلها المسلمين على خراج معين عليها.[46] ولم يعرف العهد الراشد ضريبة فرضت على أرض المسلمين في جزيرة العرب أو غيرها سوى عشر الزروع، وهو زكاتها الواجبة على كل مسلم تملك زرعا، حتى قال أكثر أهل العلم بوجوب العشر بالإضافة إلى الخراج في أرض خراجية تملكها مسلم يزرعها. قال أبو عبيد: ولا نعلم أحدا من الصحابة قال لا يجتمع عليه العشر والخراج، ولا نعلمه من التابعين إلا شيء يروى عن عكرمة، رواه عنه رجل من أهل خراسان يكنى أبا المنيب، سمعه يقول ذلك. قال أبو عبيد: والحق عندي فيه ما قال أولئك.[47]

وفي الواقع فإن مثل هذه المحاولة، في تغيير معنى الخراج ومقتضاه، ليست أمرا جديدا. فقد فرض محمد بن يوسف الثقفي، أخو الحجاج، الخراج على أهل اليمن في العصر الأموي، وهم ممن أسلم على أرضه، فلما ولي عمر بن عبد العزيز أبطل هذا الخراج (أي ضريبة الخراج)، ورسم أن لا يؤخذ منهم إلا زكاة الزروع الشرعية، أي العشر أو نصفه وقال "والله لأن لا تأتيني من اليمن غير حفنة كتْم أحب إلي من إقرار هذه الوظيفة".[48]

3- توسع في العهد الراشد اصطفاء الأصول الثابتة للدولة الإسلامية، فكانت صوافي عمر من أرض السوداء. والصوافي أراض تختارها الدولة الإسلامية من الأرض الموات، أو من أرض الخراج غير المؤجرة للأفراد، وتخصصها ملكية للدولة تتصرف بها لصالح المسلمين. فقد أصفى عمر رضي الله عنه من السواد عشرة أصناف: أرض من قتل في الحرب، وأرض من هرب... إلخ. قال أبو عبيد: "فهذه أرضون قد جلا عنها أهلها فلم يبق بها ساكن، ولا لها عامر، فكان حكمها إلى الإمام".[49] وكانت هذه الأراضي المصفاة تزرع لصالح الخزانة، أي أنها داخلة فيما يسمى اليوم بالقطاع العام الاقتصادي، إذ يروي أبو عبيد أن غلتها كانت سبعة ملايين درهم.[50]

وقريب من الصوافي أرض الحمى فقد توسع الحمى في العهد الراشد توسعا كبيرا. والحمى أرض تخصصها الدولة لمصالح عامة للمسلمين أو لفئات منهم "فقد حمى أبو بكر رضي الله عنه بالربذة لإبل الصدقة... وحمى عمر"[51] لإبل الصدقة وللفقراء. والحمى يكون لأرض غير مملوكة للأفراد من أرض الموات. ومن نتائج الحمى امتناع تملكها للأفراد عن طريق الإحياء. ويختلف شمول الحمى "فإن كان للكافة، يتساوى فيه جميعهم من غني وفقير ومسلم وذمي في رعي كلئه بخيلهم وماشيتهم. فإن خص به المسلمون، اشترك فيه أغنياؤهم وفقراؤهم، ومنع منه أهل الذمة. وإن خص به الفقراء والمساكين،، منع منه الأغنياء... ولا يجوز أن يخص به الأغنياء دون الفقراء."[52] ويمكن أن يخصص الحمى لهدف معين فقط مثل نعم الصدقة أو خيل المجاهدين فقد خصص أبو بكر حمى الربذة لإبل الصدقة، وخصص عمر ما حماه فيها أيضا لنعم الصدقة وماشية الفقراء. فقال لهُني، عامله على هذا الحمى: "وأدخل الصُريمة والغُنيمة، وإياك ونعم ابن عفان وابن عوف، فإنها إن تهلك ماشيتهما يرجعان إلى نخل وزرع، وإن رب الصريمة ورب الغنيمة يأتيني بعياله فيقول يا أمير المؤمنين، أفتاركهم أنا؟ لا أبا لك."[53]

4- اتسعت التجارة الخارجية في عهد عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، وكتب إليه بعض أهل الحرب،منبج ومن وراء بحر عدن، يعرضون عليه أن يدخلوا تجارتهم أرض العرب وله منها العشر. فشاور عمر في ذلك أصحاب النبي، صلى الله عليه وسلم، فأجمعوا على ذلك."[54] "وكتب له أبو موسى الأشعري أن تجارا من قبلنا من المسلمين، يأتون أرض الحرب، فيأخذون منهم العشر، فكتب إليه عمر: خذ أنت منهم، كما يأخذون من تجار المسلمين."[55] وكتب بمثله إلى عثمان بن حنيف، وأنس بن مالك، وكانا عاملين له.[56] وسأل عمر: كيف يصنع بكم الحبشة، إذا دخلتم أرضهم؟ قالوا :يأخذون عشر ما معنا، فقال: فخذوا منهم مثل ما يأخذون منكم.[57]

فالعشر، إذن، ضريبة على تجار أهل الحرب، على بضاعتهم المملوكة لهم، يدخلون بها بلاد المسلمين. وهي قائمة على مبدأ المعاملة بالمثل. فهي ضريبة تقوم على أسباب سياسية أكثر منها اقتصادية. فعند ما لاحظ عمر أن الدول الأخرى تأخذ عشر أموال تجار المسلمين، يدخلون إليها ببضاعتهم كان أمامه خيارات ثلاثة: إما أن يعاملهم بالمثل، أو أن يعفي بضائع تجار الدول الأخرى عند دخولها أراضي المسلمين من أية ضريبة، أو أن يفرض ضريبة بمعدل أقل إذا كان في ذلك مصلحة للمسلمين. ولقد اختار عمر رضي الله عنه تطبيق مبدأ المعاملة بالمثل، لأنه اعتقد أن ذلك في مصلحة المسلمين، فكان عمر أول عاشر في الإسلام.[58]

ولقد لاحظ بعد ذلك أن من مصلحة الأمة تخفيض هذه الضريبة عن بعض المواد الغذائية، التي يحتاج إليها المسلمون ويأتي بها تجار أهل الحرب. فقد خفض الضريبة إلى نصف العشر على الحنطة والزيت يأتي بهما النبط إلى المدينة، وذلك "ليكثر جلب التجار لها" وحتى "يكثر الحمل إلى المدينة"[59]

وليس في ذلك حجة لمن شبهها بالضريبة الجمركية المعروفة الآن بدعوى أن في كليهما تمييز حسب أصناف السلع. إذ أن هذا الاشتراك لا يجعلهما متشابهتين في طبيعتهما. فالعشر الذي فرضه عمر رضي الله عنه قائم على أساس سياسي هو مبدأ المعاملة بالمثل وهو مقتضى العدل. وله أن يختار الإحسان، أي أن يخفف الضريبة أو يعفي تجار أهل الحرب من تطبيق مبدأ المعاملة بالمثل، إذا رأى في ذلك منفعة للمسلمين.

وقد يلتبس فهم طبيعة هذه الضريبة بسبب أمرين هما:

أ- أن أمر جبايتها كان موكولا لجباة الزكاة في كثير من الأحيان. فقد كان أنس، وعثمان بن حنيف، وأبو موسى الأشعري، عمال صدقات أيضا[60]، كلفوا بجباية هذه الضريبة القائمة على المعاملة بالمثل. ولعل السبب في ذلك حداثة نظام الجباية نفسه، وعدم تعقده البيروقراطي في ذلك الوقت، فضلا عن ألفة تكليف الموظفين العامين بمهمات متعددة، خاصة إذا تقاربت تلك المهمات. فجباية الزكاة والخراج والجزية والعشور متشابهة، بعضها مع بعض، على كل حال.

ب- أن معظم النصوص، التي تتحدث عن عشور التجارة، تضيف إليها نصف العشر، وربع العشر بوقت واحد. ونصف العشر يجبى من تجار أهل الذمة، من بني تغلب، أما ربع العشر فمن تجار المسلمين. وقد سبب جمع هذه الثلاثة مع بعضها في النصوص لبسا كبيرا، بحيث يظن أن نصف العشر وربعه هما من نفس طبيعة عشر التجارة. والواقع أن الباحثين المدققين، وبخاصة من علماء السلف، لم يلتبس عليهم ذلك. فأبو يوسف يذكر أن ما يؤخذ من التاجر، عما يمر به من بضاعة هو "ربع العشر إن كان مسلما "ويضيف" وكل ما أخذ من المسلمين من العشور فسبيله سبيل الصدقة.[61] ويقول أبو عبيد "وكان مذهب عمر فيما وضع من ذلك (أي العشور)، أنه كان يأخذ من المسلمين الزكاة، ومن أهل الحرب العشر تاما، لأنهم كانوا يأخذون من تجار المسلمين مثله، إذا قدموا بلادهم.[62] وتؤكد جميع الروايات عن العاشر، الذي عينه عمر بن الخطاب، وهو زياد بن حدير قوله: "ما كنا نعشّر مسلما ولا معاهدا" قلت: فمن كنتم تعشرون؟ قال "تجار الحرب كما كانوا يعشروننا، إذا أتيناهم."[63] يضاف إلى ذلك أن خصائص الزكاة المعروفة من ضرورة توفر الحول، والنصاب، وخلو المال من الدين، كلها كانت تطبق على ربع العشر هذا.[64] أما ما يؤخذ من أهل الذمة، وهو نصف العشر فقد كان تطبيقا لنصوص الصلح، الذي عقده عمر رضي الله عنه معهم على أن تضاعف عليهم الزكاة، أو يضرب عليهم نصف العشر في تجاراتهم. فكل ما كان من زكاة على المسلمين كان عليهم ضعفه. يقول أبو عبيد "وكان الذي يشكل عليّ وجهه، أخذه من أهل الذمة... فوجدته إنما صالحهم على ذلك صلحا." وأضاف "فأرى الأخذ من تجارهم في أصل الصلح".[65]

وأخيرا فإن تحصيل زكاة التجارة من المسلمين، ربع العشر، عند خروجهم بها من مدنهم إلى مدن أخرى، وتحصيل الضريبة التعاقدية من أهل الصلح، نصف العشر، عند خروجهم بتجارتهم بين المدن ليس لهما أي شبه بالضريبة الجمركية المعاصرة لأن ربع العشر ونصفه هنا مفروضان مرة في العام وهما على أموال التجار يحصلان عند انتقالها داخليا، وليسا على الاستيراد من البلدان الأجنبية.

5- شملت عطايا العهد الراشد جميع أصقاع المسلمين،[66] كما أن تأثيرات هذه العطايا على تحسين الأحوال الاقتصادية والمعاشية لهم، بدأت تظهر. فيحدث المؤرخون عن توفر ثروات طائلة في المدينة وغيرها.

ولكن ما يهم جانب الإيرادات العامة، التي هو موطن البحث هنا، هو أن حصيلة الزكاة قد نقلت للمرة الأولى من إقليم إلى آخر. فقد فاضت زكاة اليمن عن حاجتها في زمن عمر بن الخطاب. فبعث عامله معاذ بن جبل الصدقة من اليمن إلى عمر في المدينة، فأنكر عمر عليه ذلك" وقال: لم أبعثك جابيا ولا آخذ جزية، ولكن بعثتك لتأخذ من أغنياء الناس فترد على فقرائهم. فقال معاذ: إني لم أبعث إليكم بشيء وأنا أجد أحدا يأخذه مني. فلما كان العام الثاني بعث إليه بشطر الصدقة. فتراجعا بمثل ذلك. فلما كان العام الثالث بعث إليه بها كلها. فراجعه عمر بمثل ما راجعه، فقال معاذ: ما وجدت أحدا يأخذ مني شيئا."[67]

وليس فيما روي ما يدل على أن الزكاة نقلت من بلد إلى آخر قبل عهد عمر رضي الله عنه. ومعروف كذلك أن عمر استنجد بمصر واليمن والشام، عام الرمادة، وأرسلت له قوافل الطعام والكساء، لنجدة أهل الحجاز من حضر وبدو. ويمكن أن يكون بعض - أو كل - ما أرسل من الزكاة أو من الفيء، إذ المجاعة سبب كاف لنقل الزكاة ولو لم تكن فائضة عن الحاجة في بلد تحصيلها.

6- وكذلك فقد أخر عمر رضي الله عنه، جباية الزكاة عن وقتها للازمة تصيب الناس. ففي عام الرمادة، وهو عام جدب وقحط، لم يرسل عمر جباته لتحصيل الزكاة في المدينة، وما حولها، وجباها مضاعفة في العام التالي.[68] وقد عرفنا إمكان تقديم جباية الزكاة من قصة زكاة العباس في زمن الرسول، صلى الله عليه وسلم، وهنا في العهد الراشدي نلاحظ تأخير الجباية، للمصلحة في عدم تحميل المسلمين ما يشق عليهم ويرهقهم.

7- ويلاحظ في هذه الفترة أن مبدأ عدم فرض الضرائب على المسلمين في أموالهم، سوى الزكاة، قد ازداد ترسخا في ممارسة الدولة الإسلامية. يبدو ذلك واضحا في الدفاع القوي الذي يقدمه أبو عبيد في الصفحات 528 - 537 عن مسلك عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، في العشور، وبيانه أن عمر إنما فرض العشر على تجار أهل الحرب في بضاعتهم يدخلون بها ديار المسلمين على مبدأ المعاملة بالمثل. حتى إن أبا عبيد، ليرفض تفسير ابن شهاب لأخذ عمر العشر من أهل الذمة، وهو أنه "كان يؤخذ منهم في الجاهلية، فأقرهم عمر على ذلك." ويؤكد أبو عبيد أن سبب فرض ذلك عليهم إنما هو تطبيق نصوص عقود الصلح معهم لأن ذلك "أشبه بعمر وأولى به، وبه كان يقول مالك نفسه"[69]. ومالك هو الراوي عن ابن شهاب.

فإذا لم تفرض ضريبة على ذمي، فمن باب أولى أنها لم تفرض على مسلم. على أنه ينبغي ملاحظة عدم احتياج الدولة إلى فرض الضرائب في تلك الفترة بسبب غزارة إيراداتها غير الضريبية من جهة، وعدم توسع الإنفاق الحكومي من جهة أخرى.

8- وآخر ما نلاحظه في العهد الراشد بالنسبة للإيرادات العامة هو حرص الخلفاء الراشدين على عدم تراكم الموارد في بيت المال، والسرعة في إنفاقها، كلما وردت إليه. يروي أبو عبيد أن عليا، رضي الله عنه، دخل بيت المال وقال: "... لا أمسي وفيك درهم، ثم أمر رجلا من بني سعد، فقسمه حتى أمسى." وكذلك" أن عليا أعطى العطاء في سنة ثلاث مرات، ثم أتاه مال أصفهان فقال: اغدوا إلى عطاء رابع، إني لست لكم بخازن، قال: وقسم الحبال فأخذها قوم وردها قوم."[70]



ثالثا -الضوابط الشرعية لسياسات الإيرادات العامة:
إن مسألة مشروعية الضرائب، أي جواز فرضها في دولة إسلامية، وشروط ذلك الجواز، قضية خارجة عن نطاق البحث الحالي. لذلك فإننا سنبحث في الضوابط الشرعية في سياسة الإيرادات العامة مباشرة دون التعرض لأساس فرض الضرائب في النظام الإسلامي. معنى ذلك أننا نفترض ضمنًا أننا في مجتمع إسلامي يتبنى وجهة النظر القائلة بجواز فرض الضرائب، وتتوفر في هذا المجتمع الشروط التي يتحدث عنها الفقهاء لجواز فرض الضرائب، وذلك في ضوء ما رأيناه من تجربة الدولة الإسلامية الأولى، في عهد النبي وخلفائه الراشدين، عليه وعليهم صلوات الله وسلامه.

كما أننا سنركز في ضوابط سياسات الإيرادات العامة على إمكان استعمال هذه السياسات في معالجة التضخم، لذلك سيتم توجيه البحث في هذا الاتجاه تجنبًا للخوص في عموميات سياسات الإيرادات العامة.

وكذلك فإنه من المعروف أن سياسات الإيرادات العامة يمكن تقسيمها إلى أنواع ثلاثة من الإجراءات هي : 1) إجراءات تتعلق بمعدلات الضريبة دون تغيير في بنية النظام الضريبي في البلد؛ 2) إجراءات تتعلق بتغيير البنية الضريبية، مما يؤدي إلى تعديلات في مجموعات دافعي الضرائب، بحيث يحصل تحول من مجموعة إلى أخرى، فتزيد حصة التجار مثلاً في تحمل أعباء مالية الدولة، وتنقص حصة العمال، أو العكس[71]؛ 3) وأخيرًا، إجراءات تتعلق بتحصيل الضريبة، من توقيت التحصيل، ونوعيته: نقدًا أم عينًا، وسائر ظروف التحصيل.

وسنقوم بدراسة الضوابط الشرعية لسياسات الإيرادات العامة لهذه الأنواع الثلاثة من الإجراءات، مقسمين البحث إلى ثلاثة أجزاء: جزء أول يتعلق بالزكاة، وجزء ثان يتعلق بالإيرادات العامة الناشئة عن الأملاك العامة للدولة. أما الجزء الثالث فيتعلق بالضرائب نفسها.

3-1 الضوابط الشرعية لسياسة جباية الزكاة:
من المعروف أن الرسول، صلى الله عليه وسلم، قد حدد نسب أو معدلات الزكاة على الأموال الزكوية التي كانت موجودة في عصره، وهذا التحديد توقيفي - بإجماع أهل العلم الذين يعتد بأقوالهم. وبالتالي فلا يصح التغيير في أي من هذه النسب، فلا يمكن للسياسة المالية للزكاة أن تنحو منحى التعديل في نسب الزكاة على الأموال المختلفة.

وكذلك فإن ركنية الزكاة وصفة العبادة التي تتميز بها لا تجعلان من الممكن التغيير في بنية الأموال الواجبة فيها إلا من خلال الاجتهاد القائم على النصوص من جهة، وفهم الواقع المعاصر وإدراكه من جهة ثانية. فإذا توصل ذلك إلى رأي أخذ به، دون أن تترك الأموال الخاضعة للزكاة مسرحاً للسياسة المالية توسيعًا أو تضييقًا.

أما فيما يتعلق بسياسة تحصيل الزكاة، فإن النبي، صلى الله عليه وسلم، قدم تحصيل الزكاة من عمه لعامين،[72] وإن عمر، رضي الله عنه، أخر الزكاة في الحجاز عام الرمادة، وأمر أن تجبى من قابل عن عامين.[73]

وقد اختلفت المذاهب في ذلك، فقال كثيرون بإباحة تعجيل الزكاة (بالنسبة للمزكي نفسه)، وقال البعض بعدم جواز التعجيل إلا أن يكون يسيرًا. أما التأخير للمزكي فالجمهور على الفورية، ويرى بعض الفقهاء جواز التأخير للمزكي، وبخاصة إذا كان مسبَّبا.[74]

والذي نراه أنه سواء أقلنا بجواز ذلك للأفراد أم لا، فإن جوازه للحكومة من باب أولى إذا رأت في ذلك مصلحة بينة وبخاصة أن الحديثين المذكورين يتعلقان بتصرف إجرائي حكومي، مما يؤكد جواز تأخير موعد تحصيل الزكاة للحكومة الإسلامية. وإن كنا نفضل أن لا يكثر استعمال تأخير الزكاة وتعجيلها، في السياسة الاقتصادية إلا لمصلحة راجحة بينة. والسبب في هذا التفضيل هو الصفة العبادية للزكاة مما يستدعي لها الاستقرار والتقليل من التغييرات الإجرائية إلى أبعد حد ممكن.

وبالتالي فإنه يمكن القول بجواز تقديم أو تأخير تحصيل الزكاة - عندما تقوم الحكومة بتحصيلها وتوزيعها - إذا رأت الحكومة الإسلامية مصلحة في ذلك. ويمكن استعمال سياسة التقديم والتأخير حسب المصالح العامة للأمة، بحيث يؤخر تحصيل الزكاة إذا كان من المرغوب إبقاء الأموال بأيدي الناس وتشجيع الطلب العام (استهلاكا واستثمارًا)، وتعجيل تحصيلها عندما يراد تخفيف كمية النقود بأيدي الناس.[75]

وكما أن التعجيل والتأخير يمكن أن يكونا من عام لآخر، فكذلك يمكن أن يكونا أثناء العام نفسه. فتعجل الحكومة تحصيل الزكاة أو تؤخره على كل نوع من أنواع الأموال الخاضعة للزكاة أو عليها كلها معًا حسب المصلحة القصيرة الأجل في إحداث تغييرات مطلوبة في الطلب العام، أو الطلب لدى فئات وشرائح معينة من الناس (هم مالكو الأموال التي تؤخر أو تعجل زكاتها).

فيمكن إذن استعجال موعد تحصيل الزكاة وتأخيره - كواحد من السياسات المالية للتأثير على الطلب العام، أو طلب فئات معينة، مما يؤثر في معدلات التضخم في الاتجاه المرغوب، وسنسمي هذه النتيجة الأولى أو الضابط الأول بالنسبة لسياسات تحصيل الزكاة.

أما الضابط الثاني، فهو نوع المال الذي تحصله الحكومة زكاة، بأن يكون من عين المال المزكى فهو تحصيل عيني، أو يكون بالنقود الدارجة فهو تحصيل نقدي.

وهنا نلاحظ أقوالاً لعدد من الفقهاء بجواز إخراج القيمة في الزكاة. فقد منعها كثيرون وأباحها البعض.[76] وفي كلامهم ما يدل بشكل واضح بأن الجواز والمنع هما بحق المزكي نفسه، أما إذا كان ذلك من مصلحة الفقراء، ومصلحة الأمة من مصلحتهم، وكانت الدولة هي التي تقرر الجباية عينًا أو نقدًا، فإن لذلك ضوابط أخرى تحددها المصلحة العامة …

ومما يذكر أن اختيار التحصيل النقدي أم العيني أمر يتعلق بالسياسة النقدية للحكومة، أكثر مما يتعلق بسياستها المالية، لأنه يؤثر على حجم كمية النقود في الاقتصاد، وهو يؤثر تأثيرًا مباشرًا في اتجاه محاربة التضخم، إذا رأت الحكومة أن تحصل الزكاة نقدًا (ثم توزع قيمة ما تحصله سلعًا عينية من تحصيلات سابقة وزعت مقابلها – في الماضي - نقدًا)[77]

ومن جهة أخرى، فإن الإفادة من طرق تحصيل الزكاة، من خلال الضابطين المذكورين، إنما يعتمد على فرضية أن مقدار حصيلة الزكاة ذات حجم مؤثر على الاقتصاد، وعناصره الكبرى من طلب عام، واستثمار، وادخار، ومجموع الإيرادات الحكومية، وغير ذلك.[78]

3-2 الضوابط الشرعية لإيرادات الأملاك العامة للدولة:
يمكن - من وجهة نظر الضوابط الشرعية لسياسة الإيرادات - تقسيم إيرادات الأملاك العامة إلى نوعين هما:

الإيرادات من أملاك الدولة العادية والإيرادات من الأملاك التي للناس فيها مشاركة انتفاع.

أ ) الإيرادات التي تتأتى نتيجة لإجارة، أو استثمار الأملاك العامة للأمة، نحو أراضي الخراج، والمباني المملوكة للدولة، والمعادن الباطنة والظاهرة (على ما رجحه جمهور العلماء المعاصرين) وسائر الاستثمارات الحكومية المتأتية عن هذه الأملاك. وهذا النوع يتحدد إيراده حسب معيار المصلحة العامة شريطة أن لا يحيف ذلك على الأفراد الذين يترتب عليهم أداء هذه الإيرادات لخزانة الدولة، كما هو معروف في وصية عمر لعثمان بن حنيف وعبد الله بن مسعود عندما كلفهما بمسح سواد العراق، وكما يؤكد ذلك أيضا أبو يوسف في كتاب الخراج. ويمكن تحديد هذا النوع من الإيراد بمبلغ مقطوع، أو بنسبة من الإنتاج، وبخاصة بالنسبة للأرض ولمشاركات القطاع العام للقطاع الخاص في بعض المشروعات.

وفي جميع الأحوال، فإن للسياسة المالية دور كبير في هذا النوع من الإيراد. وإذا كان أهم المعايير في تحديد هذا النوع من الإيراد هما المصلحة العامة والعدالة، فإن هذين المعيارين هما الضابطان الأساسيان في السياسة المالية نفسها.

لذلك فإن الحكومة تستطيع زيادة، وإنقاص، وتعجيل، وتأخير هذه الإيرادات، طالما أن ذلك يدور في حدود العدل، مع المصلحة العامة حيثما دارت. ويمكن اعتبار ذلك أداة مهمة من أدوات السياسة المالية في النظام الاقتصادي الإسلامي، تستطيع الحكومة استعمالها من اجل محاولة الوصول إلى الأهداف الاقتصادية المرغوبة، وبخاصة في محاربة التضخم والتخفيف من عجز الميزانية الذي هو من أهم أسبابه.

واستعمال هذه الأدوات يشمل أنواع الإجراءات (أو السياسات) الثلاثة سواء في ذلك التغيير في معدلات الخراج، أو أسعار السلع التي ينتجها القطاع العام، بالزيادة والإنقاص، ضمن حدود شرطي المصلحة العامة والعدالة، أم التغيير في بنية عوائد هذه الأملاك العامة بهدف تغيير مجموعات المتحملين النهائيين لأعباء هذه العوائد (مثل تخفيض عمر رضي الله عنه لمعدل عشور التجارة عن الزيت والطعام اللذين كان يجلبهما النبط إلى المدينة)[79]، أم السياسات المتعلقة بالجباية من تعجيل وتأخير، أو عينية ونقدية.

غير أنه ينبغي أن نلاحظ ثلاثة ضوابط إضافية هامة تستفاد من مواقف الفقه الإسلامي بهذا الخصوص:

1- قياسا على المبادئ العامة في الحمى والأرض الموات والأملاك العامة للمسلمين، لا يجوز للدولة أن تخص الأغنياء ببعض المزايا وتمنع منها الفقراء، وإن كان يصح العكس، وبالتالي فإن الأسلوب الرأسمالي القائم على تشجيع الاستثمار عن طريق ضخ الوفورات من القطاعات الفقيرة (الزراعة والرعي) إلى القطاع الغني (الصناعة) بوسائل الضرائب والتسعير وغير ذلك قد يكون موضع تساؤل كبير في الاقتصاد الإسلامي.

2- إن كثيرا من الخدمات التي ألفت المجتمعات الاشتراكية اعتبارها مجانية قد لا تكون بالضرورة مجانية في الاقتصاد الإسلامي. فالتعليم والعناية الصحية واجبان على الدولة الإسلامية عند توفر إيرادات كافية لها من إيرادات القطاع العام الاقتصادي.

وفيما عدا ذلك فتعليم الصبيان مسئولية آبائهم وكذا الخدمة الصحية هي جزء من النفقة الشرعية الواجبة بتفصيلاتها المعروفة في الفقه الإسلامي. فإذا لاحظنا أن الفقراء قد فرض لهم الإسلام كفايتهم من الزكاة، فإن لم تكف الزكاة، ففي أموال الأغنياء حق ضمان الحد الأدنى من المعيشة للفقراء، فإن من الممكن أن لا يكون تعليم الأغنياء ولا الخدمات الصحية المقدمة إليهم مجانيين في الاقتصاد الإسلامي. أما الفقراء فيمكن لصندوق الزكاة أن يعطيهم ما ينفقون منه على القدر الضروري من التعليم والصحة.

3- إن إنشاء الخدمات العامة، كالطرق، ومسابل المياه والمساجد وصيانة هذه المنشآت هما مسئولية الدولة الإسلامية، إذا كانت لديها إيرادات من أملاك الدولة والقطاع العام الاقتصادي. فإذا لم يكن لدى الدولة ما يكفي من هذه الإيرادات، كان لها فرض رسوم استعمال عادلة على المستفيدين من هذه الخدمات.[80]

ب- الإيرادات المتأتية من الأملاك العامة التي تتضمن حقًا مشتركا في الانتفاع للأمة كلها:

وهي الأملاك التي يشترك في الانتفاع فيها الناس كلهم كملح مأرب “من ورده أخذه". إن التطور التكنولوجي الحديث يقتضي - في معظم الأحوال - أن الانتفاع من الماء والكلأ والنار والملح وما شابه ذلك مما يشترك فيه الناس يحتاج إلى استثمارات قد تكون ضخمة في كثير من الأحيان، مثل مد شبكات المياه في المدن، وتحضير المراعي العامة، وإمدادها ببذور الأعشاب المغذية للحيوانات، وغير ذلك. والسؤال الذي يرد هنا هو: هل يقتضي مفهوم حق الاشتراك في الانتفاع أن لا تفرض الحكومة أي رسم، أو ثمن، لهذه المنافع يتجاوز تكلفة الاستثمارات التي قامت بها لتيسير الإفادة من هذه المنافع للناس؟ أم أنه يمكن للدولة معاملة هذه أسعار الخدمات مثل معاملة الخراج، فتزيد فيها أو تنقص، حسب مقتضيات المصلحة العامة والعدل؟ وبمعنى آخر، هل يقيِّد حقُّ الاشتراك في الانتفاع، الذي قرره الرسول، صلى الله عليه وسلم، حرية الحكومة بأن لا يزيد الثمن عن تكلفة إنتاج هذه الخدمات؟.

والذي يبدو - والله أعلم - أن حديث أبيض بن حمال يضع قيداً حقيقيًا على سلوك السياسة المالية، فإنه لابد من إعمال قول النبي - صلى الله عليه وسلم - في أن "الناس فيه شرع"، فلا نسمح للغني أن ينال من هذه الأموال العامة أكثر مما يناله الفقير، عن طريق رفع أسعار هذه الخدمات - فوق تكاليفها - حيث يستطيع الغني تحمل ذلك، ولا يستطيعه الفقير.

وعلى فرض تقيد الحكومة بهذا الموقف، بالنسبة للماء والكلأ والنار والملح وما شابهها، فإن ذلك لا يشكل كل جوانب السياسة المالية الإسلامية، لأن كثيرًا من الحكومات تقدم الكثير من الخدمات العامة بأسعار معانة من قبل الدولة. أي أن كثيرًا من الخدمات العامة، وبخاصة الماء، والكهرباء، والهاتف وغيرها، تعرضها الحكومات في كثير من البلدان بأسعار تقل عن التكلفة مما يطرح مسألتين لابد من بحثهما. واحدة تتعلق بالعجز المالي الناشئ عن ذلك، ومن يتحمله. أما الثانية فتتعلق بما يرد من سياسات على الأسعار المعانة، من حيث رفع المعونة أو التخفيف منها. وسنتعرض لهاتين المسألتين عند الحديث عن سياسات الإنفاق العام.

3-3 - الضوابط الشرعية للسياسات المالية المتعلقة بالضرائب:
إن كون الزكاة الفريضة المالية الوحيدة في النظام الاقتصادي الإسلامي، التي تجب على الإنسان لأنه يملك مالا، أو هي الفريضة الوحيدة على المال لأنه "متمول" لا يعني عدم إمكان وجود وجائب مالية أخرى، عامة أو خاصة، ولكنه يعني أن جميع الوجائب الأخرى ليست مفروضة على المال نفسه أو على الإنسان لمجرد أنه غني - أي يملك المال. فالنفقة على الأقارب، وقرى الضيف، وسد حاجة الفقير والمسكين، والجزية على أهل الذمة، وعشور تجارة أهل الحرب، وغير ذلك من وجائب مالية عرفها النظام الإسلامي، إنما تتوجب لأسباب أخرى، هي حاجة الأقارب، ونزول الضيف، وحاجة الفقير والمسكين، والدخول في حماية الدولة الإسلامية، صلحا أو حربا، وإدخال بضاعة أهل الحرب إلى أراضي المسلمين، وغير ذلك من أسباب. وإنما اعتبر وجود المال شرطا لها، كالحج يجب بسبب الإسلام وشرطه الاستطاعة وأمن الطريق.[81]

وهذا يعني أن النظام المالي الإسلامي لا يقبل مبدأ أخذ جزء من مال الغني جبرا بسبب كونه غنيا، سواء أكان هذا الأخذ الإجباري كاملا، باسم الغصب أو المصادرة، أم كان جزئيا باسم ضريبة، تفرض على الغني لأنه يملك المال.

وقد أشرت في الأقسام الأولى من هذا البحث إلى أن الدولة الإسلامية في صدر الإسلام لم تفرض الضرائب على الناس، وأن ما فرض من ضرائب بعد العهد الراشدي اعتبره العلماء جائرا وغير مشروع، وألغاه خامس الخلفاء الراشدين عمر بن عبد العزيز.

ومن جهة أخرى، فمعلوم أن الأنظمة الاقتصادية والمالية المعاصرة تتحدث عن فرض الضرائب، والتغيير في معدلاتها وبنيتها، لأهداف متعددة أهمها سداد النفقات العامة التي يتطلبها إنتاج السلع العامة.[82] وهو يمثل الجزء الأهم مما يسمى بالدور التخصيصي للضريبة، الذي يتعلق بتخصيص الموارد الاقتصادية بين إنتاج السلع العامة وإنتاج السلع الخاصة. على أن للضريبة دور تخصيصي آخر هو بين أنواع السلع الخاصة نفسها. أما الأهداف الأخرى للتغييرات في الضريبة، مما يتحدث عنه الاقتصاديون فهي أهداف التوزيع والاستقرار والتوازن والتنمية.[83] ولا شك أن كلا استقرار الأسعار وتوازن الأنشطة الاقتصادية في المجتمع يتعلقان بموضوع التضخم مباشرة.

والسؤال الذي يطرح نفسه بإلحاح هنا هو: ما إذا كانت الشريعة الغراء تفرض على الدولة أية قيود فيما يتعلق باستعمال الضرائب، كوسيلة لتحقيق الأهداف المذكورة.

وللإجابة على هذا السؤال لابد من الاستعانة بالآراء العلمية لعلماء المسلمين خلال التاريخ، مما لا يتسع له المجال في هذا البحث[84]. ولكن العرض الذي قدمته في أول هذا البحث وفي أبحاث أخرى[85], واستعراض آراء العلماء المشار إليها يمكنان من استخلاص الضوابط الأربعة التالية:

1- إن مبدأ عدم جواز فرض الضريبة على المال لأنه متمول، أي بسبب كون الأغنياء يملكون ما يملكون من ثروات ودخول، يعني أن هدف تحويل الوفورات الخاصة إلى القطاع العام ليس مما يبيح في النظام المالي الإسلامي زيادة الضرائب ولا فرضها أصلاً. ومن باب أولى أن ذلك يعني عدم جواز زيادة الضرائب بقصد امتصاص السيولة الفائضة من أيدي الناس. وقد يعني هذا أيضا أن زيادة الضرائب بقصد تقليل دخل (أو ثروة) أصحاب الدخول (أو الثروات) بحجة أن الحجم الحالي للدخل (أو الثروة) يثير زيادة في الطلب، مما ينشأ عنه ضغط على الأسعار باتجاه الزيادة، ليس أمرا يدخل في حسبان النظام المالي الإسلامي، لأنه حتى لو تقرر أن مثل هذا الضغط على الأسعار مؤذ وينبغي تجنبه أو الخلاص منه، فإن حجم الأذى لا يبرر مصادرة المال الخاص باسم الضريبة من أجل استقرار الأسعار لسببين هامين: أولهما وجود بدائل لتقليل الدخل تؤدي نفس الغرض، منها تقليل الطلب الحكومي، وامتصاص جزء من الدخل الفردي بالاقتراض العام، واستعمال الأدوات النقدية لتقليص الطلب، إلخ. وثانيهما أن مثل هذا الأذى - لو ثبت وتأكد شرعا - لا يقتضي أخذ الزيادة وإنما مجرد الحجر عليها فقط، مثل حالة إنفاق السفهاء أموالهم المشار إليها في الآية الخامسة من سورة النساء.

2- من يقول من الفقهاء بإمكان فرض الضرائب على الناس، إنما يربط ذلك بالضرورة - ويفسر هؤلاء عدم وجود ضرائب في صدر الدولة الإسلامية بعدم نشوء هذه الضرورة بسبب وفرة الموارد الأخرى. إن لهذا الفهم للضريبة نتيجتين هامتين هما:

أ - إن فرض الضريبة وزيادتها هو آخر سهم في جعبة النظام المالي الإسلامي تأتي قبله أسهم كثيرة أهمها: خراج القطاع العام الاقتصادي، واستنفاذ الزكاة جباية وإنفاقا مع عدم كفايتها لسد حاجات مستحقيها، وبيع ما يمكن بيعه من السلع والخدمات العامة لمشتريها أو المستفيدين منها لقاء سعر مناسب، وتمويل ما يمكن من المشاريع العامة، وبخاصة التنموية منها، بمساهمات من القطاع الخاص قائمة على مبادئ المشاركة أو المضاربة الشرعية، والاقتراض العام الاختياري أو الإجباري، والتبرعات للخزانة العامة.[86]

ب- لابد من تمحيص النفقات التي تفرض من أجلها الضريبة واستبعاد ما ليس بضروري منها. ويلاحظ أن تحديد معنى الضرورة هنا يتخذ المعنى الشرعي فلا يصح فرض الضريبة، أو زيادتها لتمويل نفقات سرفية، أو غير واجبة شرعا. الأمر الذي يقتضي ربط زيادة الضريبة بزيادة الحاجات للإنفاق العام ربطا محكما، وبما يجب على الدولة أن تقوم به من وظائف في النظام الإسلامي، مع ملاحظة التفريق بين ما يجب القيام به في جميع الأحوال، وما يتعلق وجوب عمله بتوفر موارد غير ضريبية له كما أشرت إلى ذلك في مثال كفالة الديون في العهد النبوي.[87]

ولنأخذ مثالا على ذلك: إذا لم تكف حصيلة الزكاة لسد حد الكفاف للفقراء، ولم تكن لدى الدولة مصادر غير ضريبية، جاز لها فرض الضريبة لسد حد الكفاف. فهل يصح فرض الضريبة لتحقيق مستوى من المعيشة لائق اجتماعيا أو ما يسمى مستوى الكفاية اللائق؟ إن الإجابة على هذا السؤال تحتاج إلى التدقيق في مدى دخول هذا الحد في معنى الضرورة الشرعية، وملاحظة أن العلماء قد بحثوا في حد شرعي من الغنى يمنع من إعطاء الزكاة، وإن كانت - عندما تعطى - يمكن لها أن تغني ولا تقتصر على بلوغ ذلك الحد.[88]

أما الضرورات غير الإنفاقية التي تذكر عادة لتبرير الزيادة في الضرائب، فينبغي أيضا أن تقاس بالمعيار الشرعي، وأن تقدر بقدرها بدقة، مع التأكد من أن زيادة الضريبة فيها هي العلاج لتلك الضرورة، وليس في غيرها مما لا يتطلب أخذ أموال الناس غناء ممكن. وقد لاحظنا أن هذه الضوابط قلما تنطبق على هدف استقرار الطلب الإجمالي والأسعار مثلا.

3- إن مبدأ التضامن بين أفراد المجتمع الإسلامي يمكن أن يشكل قاعدة متينة لفرض الضرائب - عندما تفرض[89]، أو لزيادتها وإنقاصها. وقد رأينا أن الرسول، صلى الله عليه وسلم، قد طبق هذا المبدأ على المعاقل (الديات)، وفداء الأسرى في الصحيفة الدستورية التي أصدرها عند قدومه المدينة. "وأن المؤمنين لا يتركون مفرحا بينهم أن يعطوه بالمعروف في فداء أو عقل."[90] وينبغي أن يلاحظ أن نفقات العقل والفداء من النفقات اللازمة، التي لا يمكن الاستغناء عنها. ففي الاستناد إلى مبدأ التضامن لابد من التفريق بين النفقات الواجبة التي يتضامن من أجل سدادها أفراد المجتمع والنفقات غير الواجبة، التي لا يجبر الناس على المساعدة فيها، دون أن يعني ذلك عدم إمكان تضامنهم التبرعي في التخفيف من وقعها.

4- وأخيرا يلاحظ أن علماء المسلمين لم يختلفوا في أن عبء الضريبة ينبغي أن يوزع على "ذوي المكنة" أي على الأغنياء. وواضح أن ذلك يعني بحسب أحوالهم في الغنى أيضا. فالعدل والتضامن الاجتماعي يقتضيان أن الضرائب تفرض على الأغنياء بطريقة تصاعدية.[91] وأن لا تفرض الضرائب على الفقراء.

من هنا يبدو أن من المحتمل الاعتراض على بعض أنواع الضرائب التي توجد في كثير من المجتمعات، من وجهة النظر الشرعية. فالضرائب غير المباشرة التي يقصد منها تحصيل أكبر إيراد للخزانة، غالبا ما تفرض على سلع أو خدمات يستهلكها قطاع كبير من الناس مما يحمل الفقراء عبئا مساويا لعبء الأغنياء، إن لم يكن يزيد عليه كما أن كثيرا من الضرائب الجمركية يمكن أن يكون تنازليا بحيث يتحمل منه الفقراء أكثر مما يتحمل الأغنياء.

يضاف إلى ذلك أن التمويل عن طريق الاقتراض من البنك المركزي كنوع من الإيرادات العامة قد تثار عليه علامة استفهام كبيرة من الوجهة الشرعية، على أساس مبدأ تحميل الضريبة للأغنياء، فالتمويل عن طريق الإصدارات الجديدة للنقود، إذا كان يؤدي إلى تضخم نقدي عام وانخفاض في قيمة العملة، هو في الواقع نوع من الضريبة على ثروات ودخول الناس المحددة بوحدات نقدية. وهو بذلك يحمل الفقراء - مع غيرهم - عبء هذا النوع من الضريبة، الأمر الذي لا يتفق مع المبدأ الإسلامي في توزيع العبء الضريبي على ذوي المكنة وحدهم.





القسم الثاني: سياسات النفقات العامة في النظام الاقتصادي الإسلامي وضوابطها الشرعية


لدراسة سياسات الإنفاق العام، في النظام الإسلامي لا بد لنا من التأكيد أن هذه السياسات تقوم على فهم واستيعاب الدور أو الوظيفة الاقتصادية التي يضعها هذا النظام على عاتق الدولة بمؤسساتها المتعددة. ولكن البحث في الوظائف الاقتصادية للدولة الإسلامية أمر نجد مكانه في غير هذه الورقة، ولغير جمهور الحاضرين في هذه الندوة. ومع ذلك فإنه لا بد لي من أن أذكّر القارئ الكريم بأن يستحضر في ذهنه ذلك الدور أو تلك الوظائف، لأنها تشكل الأساس الأول والرئيسي للحديث عن سياسات الإنفاق العام.

وسياسات الإنفاق العام هي التي تتحكم بحجم النفقات العامة (مقدار الإنفاق) وتركيبها البنيوي (جهة الإنفاق)، يقصـد تحقيق الأهداف الاقتصادية، وغير الاقتصادية، للدولة.

ويمكـن، من وجهة النظر الإسلامية، تقسيم النفقات العامة إلى ثلاثة أقسام: هي النفقات العامة التي تتطلبها الوظائف الأساسية للدولة في النظر الإسلامي، والنفقات التي تقتضيها الوظائف التي يمكن للدولة أن تقوم بها إذا توفرت لها المصادر التمويلية اللازمة، والنفقات التي تتعلق بأعمال تتفق الأمة على تكليف الدولة بها، وتحدد لها مصادر اتفاقية للتمويل.

ولا شك أن هنالك مجموعة من الضوابط العامة التي تتحكم بسياسة الإنفاق العام في الدولة الإسلامية، بكل أنواع النفقات، وذلك إضافة إلى الضوابط المتعلقة بسياسة كل نوع من أنواع الإنفاق العام، الأمر الذي يجعلنا نرتب البحث على أن يبدأ بالضوابط العامة لسياسة الإنفاق ثم الضوابط الخاصة بكل نوع منه. وسنذكر هذه الضوابط دون التفصيل في حجمها وتم أهميتها لأنها صارت معروفة ومفصلة في الكتابات الإسلامية المعاصرة :

1 - الضوابط العامة في الإنفاق العام في الدولة الإسلامية
وهي التي تتعلق بكل أنواع النفقات العامة. فان طبيعة النظام الإسلامي بأكمله تجعل من الدولة حارسا للدين والبيضة معا. وحراسة الدين وصون أرضه وأهله يقتضيان أن يكون المعيار الأول للإنفاق العام هو تحقيق المصلحة العامة في هذا الإنفاق. وهذا يتطلب أن يكون هدف النفقة هو القيام بالوظائف المناطة بالدولة الإسلامية من دفاع عن الدين وأرضه وأهله، وتنفيذ أحكامه وإعمال نصوصه في المجتمع (الأمن الخارجي والداخلي)، والإنفاق على الإدارة العامة، وكفالة الحد الأدنى من المعيشة، وغير ذلك مما هو داخل في وظائف الدولة الأساسية والفرعية.

فالضابط الأول في سياسة الإنفاق العام هو أن تدور هذه السياسة مع المصلحة العامة دائما. فيحدد كل من حجم النفقة أو مقدارها، وجهة الإنفاق بحيث تحقق المصالح العامة للأمة، ولا تتوجه إلى مصالح أفراد معينين، حاكمين كانوا أو محكومين، ولا فئات معينة، فيطفأ السراج الذي يغذيه الدهن المشترى من المال العام عندما يبدأ الحديث عن شخص الخليفة وقضاياه الخاصة.

يلي ذلك ضابط الكفاءة في الإنفاق العام والكفاءة تعني أن يُعمل على تحقيق المصلحة بأقل ثمن، فلا يكون إسراف ولا تبذير في الإنفاق العام، ولا توضع النفقة في غير مواضعها الشرعية.

والضابط الثالث هو عدم التحيز إلى فئة الأغنياء في النفقة، مع جواز التحيز إلى فئة الفقراء حتى يغنوا. وهو أمر تدل عليه نصوص كثيرة في الكتاب والسنة، وفي إجراءات الخلفاء الراشدين [92]، ويشمل ذلك ما يتحدث عنه الفقهاء من عدم جواز اختصاص المقربين من الحكومة ببعض المنافع الناتجة عن الإنفاق العام.

والضابط الرابع هو الإفادة من المبادرات الشخصية للقطاع الخاص، وعدم محاولة الحلول محله، بل دعمه، وتنشيطه وهو أمر تدل عليه النصوص والأحداث والأحكام الكثيرة، سواء منها ما تعلق بتوزيع الغنائم، وأحكام الزكاة، والعطايا في العهدين النبوي والراشدي، ووقائع الحمى وقيود ذلك وشروطه، وأحداث ترك المزارعين في خيبر وأراضي السواد ومقاسمتهم، وأحكام أخرى كثيرة منها ما يتعلق بصيانة الأنهار العامة، وفتح القنوات، وتيسير سبل الانتفاع بها، مما يشير إليه أبو يوسف في كتاب الخراج، وغيره من العلماء أيضا. ومنها ما يتعلق بالقواعد الأساسية للنظام الاقتصادي الإسلامي نحو مبادئ الملكية الخاصة، والحرية الشخصية وغير ذلك.

والضابط الخامس هو ضابط الالتزام الأحكام الشرعية في الإنفاق فلا تقع النفقات العامة إلا في الواجبات والمباحات، وتجتنب المحرمات.

وقد يتصل هذا الضابط بالذي يليه ويتعلق به، وهو الضابط السادس: ضابط الالتزام بالترتيب الشرعي للأولويات.فللأحكام الشرعية درجات، من واحبات، ومندوبات، ومباحات، وغيرها. وهنالك أيضا درجات داخل كل زمرة من الأحكام. فالواجبات على درجات، وكذلك المندوبات والمباحات. ولعل في التصنيف الذي ارتضاه كثير من العلماء لما يتعلق بمقاصد الشريعة من حفظ للأصول الخمسة، وترتيب ما يحفظهــا من أمور إلى ضروريات لا بد منها، وحاجيات يقع الحرج من دونها، وتحسينات تكمل وتجمل، لعل في هذا التصنيف ما يجعل الالتزام بهذه الأولويات في الإنفاق العام هو الآكد والأشد، وبخاصة أن الحكومة هي وكيلة الأمة في رعاية مصالحها كما تشير إلى ذلك الأقوال المشهورة للخليفتين الأولين أبي بكر وعمر، رضي الله عنهما.



2- الضوابط الشرعية الخاصة بكل نوع من أنواع الإنفاق العام:
أما بالنسبة لما يخص النفقات الواجبة على الدولة، مما يدخل في وظائفها الرئيسية من صون للدين وحراسة للدنيا، فإن الضابط الأول والأهم فيما يتعلق بها هو تحقيق الأهداف الشرعية فيها. فإذا جاع الفقير فلا مال لأحد. لأن الواجب الذي ينبغي أن ترعاه الدولة هو كفالة الفقراء والمحتاجين، والإنفاق الذي يسد جوعتهم ويكسو عريهم في الضروريات الحياتية، كالمأكل والمأوى، والضروريات الشرعية مثل ستر العورة. وإذا انتهكت حرمة من حرمات الأمة أو خيف انتهاكها أنفقت الدولة ما يحتاجه صون تلك الحرمة وردع الأعداء عنها. فالضابط في هذا النوع من الإنفاق العام هو تأدية الدور التي وضع على كاهل الدولة، بحده الضروري، مهما تطلب ذلك من الأموال. وينطبق هذا الضابط أو المعيار، إضافة إلى الضوابط العامة التي أشرنا إليها سابقا، على كل إنفاق عام من شأنه وطبيعته تأدية الوظائف الأساسية للدولة الإسلامية، بما في ذلك الدفاع عن الدين والدنيا، وتطبيق الشريعة، وصون أموال الناس وحقوقهم من خلال فعاليات القضاء والأمن والرعاية الاجتماعية، وضمان إشباع الحاجات الأساسية للناس، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فيما يتعلق بالحياة العامة والحاجات المجتمعية، مما يمكن التعبير عن معظمه بأنه ينطبق عليه المبدأ المعروف في الاقتصاد باسم مبدأ فشل نظام الأسعار أو مبدأ فشل نظام السوق[93].

أما بالنسبة للنوع الثاني من النفقات العامة، وهي تلك التي تتحملها الدولة عندما تتوفر لها الموارد التي تقوم بأمرها. فهي تشمل المستويين الحاجي والتحسيني من الوظائف الأساسية للدولة، إضافة إلى جميع ما تعرف بالخدمات العامة من ماء وكهرباء واتصالات وتصريف صحي، وما تقدمه بلدان كثيرة من خدمات صحية وتعليمية واجتماعية وغيرها. والضابط في أمر السياسة الإنفاقية المتعلقة بها هو توفر الموارد المالية التي تبيح الشريعة استعمالها في هذه النفقات، نحو الخراج (عوائد الأملاك العامة)، والجزية، وميراث من لا وارث له.

وبالنسبة للنوع الثالث من النفقات العامة، وهو النوع التوافقي الذي تتفق الأمة على تكليف الحكومة بالقيام بأعبائه، وتحمل مسئولياته، على الرغم من أنه غير داخل فيما يجب عليها أساسا، وتفرض من الجبايات ما يسعها (في حالة عدم توفر الموارد المباحة لمثل هذا الإنفاق)، فإن ضابط السياسة الإنفاقية فيها هو الالتزام بما خصصته الأمة من نفقات لتأدية هذه المهمات. وفي هذا فإن اتفاق الأمة على إضافة مهمات جديدة للدولة مع إضافة مصادر تمويلية ضريبية للقيام بأعبائها، يوسع من دائرة الإنفاق العام ولكنه يقيد السلطة التنفيذية بالالتزام بالأهداف والأعمال التي حددت لاستعمال هذه الضرائب.

ومن أنواع النفقات العامة الشائعة في كثير من البلدان الإسلامية المعونات لأسعار السلع والخدمات وهذه ا لمعونات تتخذ نوعين رئيسيين : 1) معونات إنتاجية، تدفع لمنتجي بعض السلع والخدمات. منها ما يكون بشكل شراء منتجاتهم بسعر محدد يزيد عن سعر السوق، مثل التزام الدولة بشراء القمح بسعر محدد. ومنها ما يكون بتقديم مبالغ من الميزانية العامة لدعم عملياتهم الإنتاجية، نحو ما يقدم للمدارس مثلا من معونات نقدية أو عينية. ومنها ما يتخذ شكل تقديم بعض عناصر الإنتاج بسعر مخفض أو مجانا، كالماء والكهرباء والأرض للمصانع وغيرها. 2) ومعونات استهلاكية تتخذ شكل بيع بعض السلع والخدمات للمستهلك محدد مخفض يقل عن التكلفة [94]، أو مجانا في بعض الأحيان. وأوضح أشكال هذه المعونات معونات السلع الغذائية الرئيسية، كالخبز والأرز والسكر، ومعونات أسعار البنزين، والمعونات التي تتخذ شكل أسعار مخفضة لبعض الخدمات التي تنتجها مؤسسات تملكها الحكومة، أو تقديم بعضها مجانا، مثل الكهرباء، والماء، والهاتف، وجمع النفايات والتخلص منها، وتصريف المياه المستعملة، وغير ذلك.

وتلعب معونات الأسعار، وبخاصة الاستهلاكية منها، دورا مهما في بعض الدول في زيادة عجز الميزانية، حيث تشكل جزءا مهما من الإنفاق الحكومي. وتتعلق بها ثلاث نقاط مهمة ينبغي الإشارة إليها في معرض الحديث عن ضوابط الإنفاق.

1- إن الأصل الشرعي أن يعان الفقراء بحسب حاجتهم مع البدء بحد الكفاف. وإن المعونات السعرية للسلع الغذائية الرئيسية قد يتوفر فيها هذا المعنى. فالفقير الذي يستهلك كمية أكبر من السلعة المعانة يحصل بطبيعة الحال على كمية أكبر من المعونة الحكومية. ولكن هذا المعيار قد لا يتوفر في جميع السلع والخدمات المعانة. بل إن بعض إعانات الأسعار قد يفيد منها الأغنياء أكثر من الفقراء. من أمثلة ذلك إعانات أسعار بنزين السيارات ووقود الطائرات، وإعانات الكهرباء والماء والهاتف والصرف الصحي وجمع القمامة، فإن معظم هذه السلع والخدمات قد يختص بغير الفقراء، مثل بنزين السيارات الخصوصية في معظم البلدان الإسلامية، ونحوه الهاتف، وكذلك الكهرباء في بلدان إسلامية كثيرة. لذلك، فإن المعيار الشرعي يقتضي أن يكون الضابط الأول في سياسات الإعانات السعرية هو اختيار السلع المعانة بحيث يتحقق وصول الإعانة للفقراء في سداد حاجاتهم الأساسية.

2- إن تحقيق مبدأ العدالة التوزيعية القائل بأن لا يختص الأغنياء بمنافع من الخدمات الحكومية دون الفقراء يقتضي أن يكون الضابط الثاني في سياسات الإنفاق على الإعانات السعرية هو تحديد الإعانات والتغيير فيها بحيث تتناسب المعونة عكسيا مع استعمال الأغنياء لها. فإعانة سعر الكهرباء تنعدم، أو تنقلب إلى زيادة سعرية Surcharge إذا تجاوز الاستهلاك مقدارا معينا يعتبر من استهلاك الأغنياء، أو إذا استعملت الكهرباء لأهداف مثل إنارة المسابح والحدائق الخاصة، وما يشبه ذلك من أنواع الاستهلاك التي يختص فيها غير الفقراء.

3- يضاف إلى ذلك أن الشريعة تعلق أهمية كبيرة على المصدر التمويلي للنفقة الحكومية، وبخاصة فيما يتعلق بما يقصد به إيصال منافع وإعانات مباشرة للأفراد. ولدينا في التراث الإسلامي الذي أشرنا له في القسم الأول من هذه الورقة ما يدل على أن العطايا والمنح الحكومية كانت من الإيرادات الحكومية غير المخصصة، نحو الخراج وسائر الإيرادات المتحصلة من الأملاك العامة، وعشور التجارة، وما يشبه ذلك من إيرادات عامة. وإذا كانت الشريعة تبيح تمويل الإنفاق على الإعانات السعرية للفقراء من الزكاة (لأنها بمثابة توزيع عيني بدل التوزيع النقدي). وإذا كان من الفقهاء من يقول بجواز فرض الضرائب على الناس لتمويل الإنفاق على الوظائف الأساسية للحكومة الإسلامية، فإن الإعانات السعرية لغير الفقراء ينبغي أن يكون تمويلها من مصادر الإيرادات العامة غير المخصصة وغير الضريبية، أي من أنواع خراج الأملاك العامة، نحو عوائد البترول والمعادن الأخرى. وبالتالي فإن الضابط الثالث في سياسات الإعانات السعرية التي لا تخصص لسداد الحاجات الأساسية للفقراء هو أن يكون مصدرها التمويلي من الإيرادات العامة غير المخصصة وبشكل محدد أن لا يكون المصدر زكويا ولا ضريبيا.




استعمال سياسات الإنفاق العام في محاربة التضخم
إذا لاحظنا أن معظم أحوال التضخم تعني أن حجم الإنفاق في المجتمع يزيد عن حجم السلع والخدمات المتوفرة، وذلك بغض النظر أسباب التضخم، فإن تقليل الإنفاق العام يساعد، على العموم، في الحد من الضغط التضخمي، لأنه ينقص من الطلب على السلع والخدمات المتاحة في المجتمع [95]. ولكن من المهم جدا النظر إلى أنواع النفقات العامة التي يتم تخفيضها عند استخدام سياسة الإنفاق العام في محاربة التضخم، بالنظر إلى عدة اعتبارات داخلية وخارجية..

فالإنفاق التنموي على مشروعات البنية الأساسية يؤدي إلى زيادة الدخول مع تأخر الزيادة في الإنتاج المحلي، بما يتناسب مع طول فترة نضوج المشروع وبدئه بإنتاج التدفقات السلعية والخدمية المرجوة منه. وكذلك الإنفاق على المشروعات التنموية الأخرى ذات الإنتاج السلعي والخدمي مما يتأثر بفترة التأسيس والإعداد لبدء الإنتاج.

وكذلك يختلف تأثير الإنفاق العام على التضخم حسب الجزء من الإنفاق الذي يتم في السوق المحلية مقارنا مع ما يتم في السوق الخارجية، فيقل تأثير الإنفاق العام على التضخم كلما كبر المضمون الخارجي من الإنفاق العام.

ومن جهة أخــرى، فان الإنفاق العام الهادف إلى إغاثة الفقراء ورعايتهم يعتبر تضخميا، على الرغم من الحاجة إليه من منطلقات العدالة وحقوق الإنسان، في معظم الأحيان. الأمر الذي يجعل التراجع عنه صعبا جدا من الوجهتين الشرعية والاجتماعية، مما يستدعي التفكير في أسلوب عبقري يقوم على الإبقاء على الرعاية الاجتماعية الضرورية دون التضحية بالسياسة الكابحة للتضخم. ولعل النموذج الزكوي في ذلك - على بساطته، وكونه بدهيا جدا لأنه من دين الفطرة، يضع الأساس لهذا الأسلوب العبقري المطلوب، ألا وهو أن يتم تمويل الرعاية الاجتماعية الاقتصادية للفقراء من أموال الأغنياء. مما يقلل الآثار التضخمية لنفقات الرعاية الاجتماعية، إلى درجة الصفر، أو قريبا جدا منها، بسبب تمويلها الكامل من أموال الأغنياء،. ولعل في بعض النصوص والآثار ما يؤكد هذا المعنى. من ذلك الحديث المعروف أن الزكاة "تؤخذ من أغنيائهم وترد على فقرائهم" والأثر المنسوب إلى علي بن أبي طالب أنه ما جاع الفقراء إلا بتقصير من طرف الأغنياء.

وإن في تطبيق هذا المعيار في تمويل الكثير من نفقات الرعاية الاجتماعية - وبخاصة الإعانات السعرية للسلع الأساسية والخدمات العامة بما فيها الكهرباء والماء والهاتف والنظافة والصحة والتعليم وغير ذلك كثير - ما سيخفف من الآثار التضخمية لهذا النوع من النفقات إلى حدود بعيدة جدا.



القسم الثالث: عجز الميزانية والضوابط الشرعية في معالجته


ينبغي أولا أن نلاحظ أن ظهور عجز في تمويل الدول أمر قديم، عرفته الحكومات حتى قبل اختراع الميزانية العامة. وقد كانت الدول في القديم تقترض من التجار والمرابين في أحوال حاجتها، وبخاصة لتمويل الحروب والاحتفالات الملكية والكوارث العامة.

ولقد ورد في السنة المطهرة ما يدل على أن الرسول، صلى الله عليه وسلم قد احتاج إلى التمويل في إدارة الدولة. فقد اقترض عدة مرات من عدد من الصحابة ومن غيرهم. وكان واضحا في بعض قروضه أنها لم تكن إلا للمصالح العامة للأمة. فلم تكن بمبالغها، وأنواعها مما يستعمله الرسول، صلى الله عليه وسلم، استعمالا شخصيا، (أربعين ألف درهم، واستعارة الدروع من صفوان وإن كان في حديث الدروع مقال)[96].

ومما هو جدير بالذكر أن لعجز الميزانية نتائج كثيرة مهمة. منها ما يعتمد على وجود العجز نفسه ومنها ما يعتمد على طريقة تمويل العجز. فالعجز معناه أن الحكومة تستهلك أكثر من مجموع إنتاجها واقتطاعاتها من إيرادات الأفراد. الأمر الذي يعتبر تضخماً في الطلب الكلي على السلع والخدمات مقارنا مع العرض الكلي، على فرض مجتمع مغلق عن التجارة الخارجية مما يؤدي إلى الضغط على استهلاك الأفراد بحيث يضطرون – بمجموعهم – إلى تخفيف استهلاكهم لإفساح المجال للاستهلاك الحكومي الزائد. فإذا تم تمويل هذا العجز في الميزانية عن طريق الاقتراض العام الداخلي، فإن الضغط النقدي من مجموع الطلب العام على الأسعار لن يحدث – نظرياً على الأقل – بسبب امتصاص وسائل الدفع الزائدة لدى الأفراد، وبالتالي فيمكن أن لا يحصل تضخم بالأسعار نتيجة لذلك. أما إذا تم تمويل العجز بواسطة اللجوء إلى الاقتراض من المصرف المركزي – إصدار العملة – فإن الضغط التضخمي على الأسعار يبدأ بالظهور نتيجة لوجود وسائل دفع تدفع بالطلب إلى مستويات أكبر من المقدار الذي يستطيع العرض تلبيته.

أما في اقتصاد متصل بالخارج من خلال الاستيراد والتصدير، فإن فائض الاستهلاك الحكومي يمكن أن تتم تلبيته بواسطة الاستيراد. وهنا أيضاً فإن لأسلوب تمويل العجز أكبر الأثر في النتائج الناجمة عنه. حيث إن التمويل بإصدار النقود، وهو ما يعرف بالتوسع النقدي، سيؤدي إلى التضخم إضافة إلى انـهيار في سعر العملة المحليـة بالنسبة للعملات الأخرى مما يزيد في مصاعب عجز الميزانية ويجعل من الصعوبة بمكان الاستمرار في مثل هذا النوع من السياسة الاقتصادية. لذلك فإن الدعوة لاستقرار الأسعار واستقرار معدلات تبادل العملات تركز دائما على ضرورة توازن الميزانية العامة وعدم تمويل العجز بالوسائل النقدية.

ولما كان العجز في الميزانية العامة، إنما هو زيادة في الإنفاق على الإيرادات، وكان هدف هذا القسم مناقشة النماذج الإسلامية لمعالجة العجز، فقد قسمته إلى أربع نقاط رئيسية. تبحث أولاها في المنهج الإسلامي لتقديم السلع العامة، وما تقدمه الدولة عادة من السلع والخدمات الأخرى. وتبحث النقطة الثانية في ملاحظات حول تمويل عجز الميزانية العامة. أما النقطة الثالثة فتبحث في الأدوات المالية التي تستطيع الدولة، في النظام الإسلامي، استخدامها في سد العجز في الميزانية العامة، في حين تبحث النقطة الرابعة في وسائل أخرى لسداد العجز لا تقوم على إصدار الأوراق المالية.





أولا - السلع العامة في النظام الاقتصادي الإسلامي
السلع العامة
قد تعجز آلية السوق، التي تتألف من تلاقي العرض والطلب، عن استيعاب بعض أنواع السلع والخدمات. بحيث لا يمكن من خلال آلية السوق إنتاج هذه السلع، إما بسبب طبيعة السلعة، أو الخدمة، وإما بسبب التصور الفكري والفلسفي أو الديني السائد، وإما بسبب الاختيار الواعي للحكومة.

فمن السلع والخدمات ما لا يمكّن من نشوء سعر سوقي لها، لأن طبيعة السلعة أو الخدمة لا يمكن معها حصر الإفادة منها بدافع الثمن. مثال ذلك إنارة الشوارع أو الدفاع عن الوطن. وكذلك، من السلع والخدمات ما لا يؤثر استعمال مستهلك آخر لها، على استعمال دافع ثمنها، مثال ذلك البث الإذاعي أو التلفزيوني. فطبيعة هذين النوعين، من الخدمات، لا تجعل من آلية السوق جهازا صالحا، لتوزيع تكلفتها على المستفيدين منها، مما يتطلب أن يتم تمويل إنتاجها بطريقة أخرى، تتعلق بالمجتمع بكامله. وهذا ما نسميه اصطلاحا بالسلع والخدمات العامة، بسبب عدم انسجام طبيعتها مع نظام السوق.

ومن المعلوم، أن هذه السلع، تتأثر بمستوى التقانة في المجتمع، فقد يمكن تحويل استعمال طريق عام، إلى سلعة خاصة، خاضعة للسعر السوقي، إذا وضعت عليه بوابة، تسمح فقط بعبور دافعي الثمن. وكذلك، يمكن تحويل البث التلفزيوني إلى سلعة خاصة (مقابل السلعة العامة)، إذا أمكن استعمال أنظمة مخصصة للتشويش، على غير دافعي الثمن.

ومن جهة أخرى، فإن من السلع العامة ما لا تسمح الأفكار والمعتقدات، بخضوعها لقوى العرض والطلب. مثال ذلك، استعمال مكان في المسجد للصلاة، أو استصدار فتوى شرعية من عالم. ومنها ما يرى المجتمع - مهما كانت طريقة اتخاذ القرار الجماعي فيه - أن من مصلحته، تحويلها إلى الحكومة وتقديمها على اعتبارها سـلعة عامة، رغم أن طبيعتها تسمح بخضوعها لقوى السوق. مثال ذلك تعليم الأطفال، حيث يمكن خضوع هذه الخدمة لعوامل وقوى السوق، ودفع ثمنها من قبل آباء الأطفال، وأوليائهم، ولكن كثيرا من المجتمعات، تختار تقديم هذه الخدمة من قبل الحكومة، لاعتبارات سياسية، واجتماعية، واقتصادية متعددة.

ومن الممكن القول، إن حجم السلع والخدمات العامة التي تُلقى على عاتق الحكومة، هــو مـن أهم محددات العجز في الميزانية. فمهما كان حجم الإيرادات العامة، فإنه يمكن - ولو نظريا على الأقل - أن يكون هنالك مستوى معين، من حجم السلع العامة لا يوقـِـع الحكومة في العجز، أي لا يضطرها لتنفق أكثر من إيراداتها.

ولقد لاحظنا في القسم الأول من هذا البحث كيف أن الدولة الإسلامية الأولى عمدت إلى تأمين مصادر تبرعية لتقديم الكثير من الخدمات والسلع العامة، نحو ماء بئر رومة، ومسجد النبي، صلى الله عليه وسلم، في المدينة. وذلك قبل بدء فيض الإيرادات العامة من الغنائم والخراج وغير ذلك من الإيرادات العامة للدولة.




المصادر غير الحكومية لتمويل إنتاج السلع العامة
هنالك مزايا كثيرة، لقيام جهات غير حكومية، بتقديم بعض السلع العامة، من هذه المزايا :

1- التخفيف عن الميزانية العامة للحكومة، وبالتالي تخفيف احتياجاتها المالية، وما يعود به ذلك، من توفير إيرادات الحكومة لأغراض أخرى، قد لا يمكن تحقيقها إلا من خلال الميزانية العامة.

2 - التخفيف من حجم الحكومة، مما يقلل من مركزية القرار، ومن احتمالات دخول الفساد، والاستغلال، وذلك بتخفيف حجم الجهاز الحكومي (البيروقراطية).

3 - رفع مستوى الممارسة الديمقراطية، وذلك بتوزيع القرارات المتعلقة بتقديم السلع العامة، ووضع بعضها بأيدي الأفراد، والهيئات التبرعية، والأوقاف دون حصرها جميعها بيد الحكومة.

4 - تحسين كفاءة تقديم الخدمة، وبخاصة أن الهيئات والجمعيات التبرعية تتوفر - على الأغلــب - في أفرادها، عناصر الحرص على أهداف المؤسسة، وتقديم التضحيات، فضلا عن تمتعهم بمزايا الرغبة في خدمة المؤسسة التبرعية، التي جاءوا إليها بدوافع ذاتية، هي بطبيعتها خيرية في معظم الأحوال.

5 - تقليل التكاليف. وهو وجه من وجوه تحسين الكفاءة، لأن الهيئات التبرعية تحصل - في العادة - على كثير من الموارد العينية، وبخاصة الوقت المتبرع به لخدمة هذه الهيئات. كما يغلب على العمل المتبرع به أن يكون ذا كفاءة عالية لأن المتبرع يغلب عليه أن يأتي من المثقفين وذوي الحصافة.

6 - تحسين وصول السلعة العامة إلى أكثر الناس حاجة لها، لأنه يغلب أن تكون المؤسسات التبرعية محلية، مما يجعل حصولها على المعلومات الدقيقة أكثر سهولة وأقل كلفة.

ولا يعني وجود هذه المزايا، استغناء الهيئات التبرعية عن الرقابتين الإدارية والمالية، اللتين تخففان من احتمالات الاستغلال، وإساءة التصرف. ولكنها قد تتمتع بتفوق ملحوظ بالمقارنة مع قيام الحكومية بتقديم بعض السلع العامة.

ولقد تضمن النظام الاقتصادي الإسلامي، تصورا واضحا لتقديم عدد من السلع العامة، بواسطة قطاعي الأوقاف، والجهات والمؤسسات التبرعية، كما جعل تقديم بعض خدمات الرعاية الاجتماعية، بتمويل اجتماعي مؤسسي، هو الركن الثالث من أركان هذا الدين. لذلك فإنه لا بد من إعادة إحياء مؤسستي الزكاة، والأوقاف، بشكل يجعلهما يتحملان العبء المناسب، في تقديم السلع العامة، بحيث تخففان عن الميزانية العامة للحكومة نفقات كبيرة.




الخدمات العامة لمؤسسة الزكاة
فمؤسسة الزكاة جهاز مستقل، مجهز بفيض من التمويل المستمر، قد يصل حسب بعض التقديرات والاجتهادات الفقهية، إلى ما بين 2% - 5ر7% من الإنتاج القومي الإجمالي [97]. ولقد حمّلت الشريعة هذا الجهاز مسئولية تقديم خدمات اجتماعية كثيرة، نص عليها القرآن الكريم، وأحاطتها السنة المطهرة بعناية خاصة. وقد رفع الإسلام من أهمية الزكاة فجعلها الركن الثالث، وأناط بالدولة الإسلامية مهمة تطبيقها وتحقيق أغراضها.

إن التطبيق الصحيح للزكاة، إلزامية على الأغنياء، وحقا للفقراء، يرفع عن كاهل ميزانية الدولة عبئا كبيرا في المعونات والمشروعات الاجتماعية، مما يخفف من الضغط على الميزانية، ويقلل من عجزها إن وجد. فضلاً عما يفعله من تأثير على التضامن، والتآخي، والتراحم، وزيادة الكفاءة الإنتاجية للفقراء في المجتمع (التزكية والتطهير الاجتماعيين)، مما يزيد في رغبة واستعداد القطاع الخاص لدعم الميزانية العامة للدولة.

مؤسسة الأوقاف
منذ أول وقف خيري نشأ في الإسلام (ولعله بئر رومة، التي اشتراها عثمان، رضي الله عنه، وجعل ماءها للمسلمين، وكان قبل ذلك يباع بيعا، والظاهر أنها كانت قبل حائط عمر في خيبر ) كانت فكرة الوقف الخيري تقوم على مبدأ تقديم سلع وخدمات للناس عامة،أو لبعض فئاتهم.

ولقد استطاعت مؤسسة الوقف، خلال التاريخ الإسلامي، أن تتحمل المسئولية كاملة تقريبا، في إقامة نظام تعليمي شمل الصغار والكبار، وتضمن إعاشة الطلبة، وكفاية حاجاتهم التعليمية، منذ نعومة أظفارهم، وحتى تخرجهم من جامعات دمشق وبغداد،والقيروان، ونيسابور... فكان عصر العلم والعلماء الزاهر واحدا من منتجات نظام الوقف في تاريخنا الإسلامي.

فاستطاع نظام الوقف أن يقوم بأعباء النظام التعليمي، وأن يمد المساجد بالعمارة، والخدمة، والرعاية، وأن يقيم المشافي، والحدائق العامة، وخدمات رعاية الأمومة والطفولة، وخدمات الرعاية الحيوانية، وغير ذلك، مما كان له دور كبير في إقامة الأساس المادي والقوي للخدمات الاجتماعية، عبر التاريخ في المجتمع الإسلامي.

وعلى الرغم من تعرض أملاك الوقف، لإساءة الاستعمال بشكل كبير، خلال عصور الانحطاط فإن هذه المؤسسة ما تزال تحمل الشيء الكثير، الذي تستطيع أن تقدمه في تحمل أعباء كثير من الخدمات الاجتماعية، والصحية، والتعليمية، والدينية، ويتطلب ذلك :

أ - حصر أملاك الأوقاف، واسترجاع ما سطي عليه منها، حيثما حصل سطو على أملاك الأوقاف.

ب - إعادة تنظيم الأوقاف بحيث يتمتع قيم الوقف (ويفضل أن يكون لجنة محلية وليس فردا) بصلاحيات حقيقية لتنمية الأوقاف. وينبغي في هذا التأكيد على عدم مركزية قرار استعمال أملاك الأوقاف، حتى ولو فقدت الوثائق الخاصة بالأوقاف القديمة. وفي هذا احترام لإرادة الواقف فقلما يمكــــن الافتراض، أن إرادة الواقف، قد توجهت إلى تسليم ما أوقفه إلى إدارة حكومية مركزية.

ج - تنظيم عملية دعم الوقف وتنميتها، وذلك بواسطة جهاز للرقابة الإدارية والمالية على قيّمي الأوقاف، وإقامة بنك إسلامي لتنمية الأوقاف، وجهاز فني استشاري للمساعدة في دراسات الجدوى والدراسات الفنية الخاصة بتنمية الأوقاف.

د - توفير الحماية القانونية الرسمية للأوقاف القائمة، والتشجيع على إقامة أوقاف جديدة، وقد يكون ذلك باستصدار نصوص قانونية تزيد من حوافز إقامة الأوقاف، بما في ذلك دراسة مدى القبول الشرعي للوقف مع شرط الانتفاع والوقف المعلق على الوفاة، وغير ذلك.





ثانيا - ملاحظات حول تمويل عجز الميزانية العامة
هناك بضعة ملاحظات لا بد من تقديمها قبل الحديث عن تمويل عجز الميزانية

أ - فما تحتاجه الميزانية العامة من تمويل، يمكن أن يكون قصير الأجل، أو طويل الأجل. فالحاجات التمويلية القصيرة الأجل، هي بصورة رئيسية حاجات خلال السنة المالية نفسها، يقصد منها تحقيق التوازن، بين مواعيد تحصيل الإيرادات العامة، ومواعيد صرف النفقات. إذ أن كثيرا من النفقات دوري بطبيعته، بينما قد يكون كثيرا من الإيرادات موسميا يحصل في مواعيد الحصاد، أو بعيد انتهاء السنة المالية، الخ.

وتحتاج الحكومة، عندئذ، إلى تمويل قصير الأجل، تستطيع الحكومة الوفاء به، عند تحصيلها لإيراداتها خلال أشهر قليلة. وفي مقابل ذلك هنالك حاجات تمويلية طويلة الأجل. لا تستطيع الحكومة وفاءها إلا بعد سنوات عديدة.

ب - ومن جهة أخرى فإن الحاجات التمويلية للميزانية العامة، يمكن تصنيفها تحت ثلاثة عناوين كبرى هي :

أولا - تمويل المشاريع ذات العائد الإيرادي. وهي تشمل المشروعات الاقتصادية للقطاع العام، كما تشمل أيضا مشروعات أخرى كثيرة، تتعلق بالبنية الأساسية، مما تسمح طبيعته بصياغته بشكل مشروع مدر للربح. مثال ذلك الطرق التي يمكن أن تباع خدماتها لقاء أجرة استعمال، والمطارات التي يمكن بيع خدماتها للشركات، والناقلين، والمسافرين، والحدائق العامة التي يمكن أن يفرض فيها رسم دخول.

ثانيا- تمويل مشاريع البنية الأساسية، التي لا يمكن صياغتها (بسبب طبيعة السلعة أو الموقف الشرعي منها)، بشكل يعود بالربح على المساهمين فيها، أو أن صياغتها ممكنة، ولكنها غير رابحة، لقلة الطلب عليها، رغم أن الاختيار الاجتماعي للبلد يعتبرها مفيدة أو ضرورية. وقد يكون ذلك لأسباب فنية بحتة كالمباني الإدارية للحكومة، أو لأسباب سياسية، أو اجتماعية، أو دينية، أو اقتصادية كثيرة، مثل الكثير من الطرق الريفية، ومشاريع كهربة الأرياف البعيدة، أو توطين البدو، أو بناء المساجد، الخ.

ثالثا- تمويل النفقات العادية للحكومة، مثل صرف رواتب القضاء وموظفي الإدارة الحكومية، وحراس الأمن، وغيرهم، أو شراء المواد الاستهلاكية للجهاز الحكومي، أو شراء السلع المعمرة، للاستعمالات الحكومية، المتعلقة بالإدارات العامة العادية (أي ما لا يتعلق بمشاريع مخصصة)، مثل سيارات وأثاث الإدارات العامة.

ج - ومن الحاجات التمويلية. ما يتمثل بعملات أجنبية، حيث تكون السلع والخدمات، التي ترغب الحكومة في الحصول عليها خارجية، لا بد أن يتم الدفع من أجلها بالعملة الأجنبية. مما يتطلب تمويلا خارجيا لهذه الاحتياجات. وهنالك أيضا احتياجات بالعملة المحلية، يمكن للقطاع الخاص المحلي تحملها. ولا شك أن قابلية العملة للتحويل، والتوقعات الاقتصادية، والسياسية، للظروف المستقبلية للبلد، تؤثر تأثيرا كثيرا، في التفاعل المتبادل بين السوقين المحلية والخارجية. وكذلك، فإنه حتى مع قابلية العملة المحلية للتحويل، فإن للتمويل الخارجي تأثيراته الإيجابية والسلبية على التنمية، والعمالة، ومستوى الأسعار، [98]، فضلا عن الآثار السياسية الكثيرة المعروفة.

د- وكذلك، فالممول من القطاع الخاص يفضل، دون شك، أدوات التمويل التي يستطيع التخلص منها، بسهولة ويسر، في أي وقت يشاء. لذلك فإن قابلية الأداة التمويلية للتداول، تعتبر على جانب من الأهمية كبير، بالنسبة لنجاح الأداة المالية في اجتذاب المستثمرين. وثمة صفتان أخريان، يهتم بهما المستثمر أيضا، هما العائد المتوقع لاستثماره، ودرجة المخاطرة التي يتعرض لها. لذلك، فإن هذه الخصائص الثلاثة، ينبغي أن تكون محل تركيز خاص، عند اختيار الأدوات المالية المناسبة حسب الظروف الاقتصادية السياسية لكل بلد.


ثالثا- الأوراق المالية المشروعة لتمويل عجز الميزانية


وهي ما يمكن التعبير عنه بأوراق مالية منها ما هو قابل للتداول في السوق المالية الثانوية، ومنها ما ليس له هذه الخاصية. ومنها ما هو قائم على التملك ومنها ما هو قائم على المديونية.

من المعروف أن مبادئ التمويل الشرعية تنبثق من مسائل المشاركات والبيوع الآجلة والقروض. وبما أن البيوع الآجلة والقروض تقوم على مديونية المتمول (أي الدولة)، فإنه يمكن تصنيف الأدوات المالية المشروعة في تمويل عجز الميزانية إلى صنفين عريضين هما: أدوات تقوم على ملكية الممول للأصل الذي تستعمله الدولة، وأدوات تقوم على مديونية الدولة للممول. وعند حديثنا عن الوسائل الأخرى لتمويل العجز في الميزانية، سنضيف إلى هذين الصنفين عوائد بيع الأملاك العامة أو ما يمكن أن نسميه بعوائد الخوصصة، لأن كثيرا من البلدان الإسلامية تملك مشروعات عديدة قابلة للتحويل إلى القطاع الخاص. وسنتحدث أيضا عن التمويل بالاقتراض من المصرف المركزي، أو ما يسمى أحيانا التمويل بالعجز، وهو يقوم على طباعة النقود.

3 - 1) الأدوات المالية القائمة على الملكية
تقوم فكرة الأدوات المالية المنبثقة من مبدأ الملكية، على تداول وثائق أو مستندات التملك. فمستندات التملك إنما تمثل ملكية لأعيان محددة ومعروفة.

ويستند تداول هذه المستندات، إلى مبدأ القبض الشرعي، الذي يغني عنه قبض المستند الذي يمثل الملكية. والأعيان المملوكة تخضع لعوامل السوق في تحديد أسعارها. لذلك يمكن بيع هذه المستندات بأسعار السوق، سواء قلّت، أم زادت عن ثمن شرائها، أو إصدارها للمرة الأولى.

أما العائد الذي ينشأ عن هذه المستندات فهو ما ينشأ عن الأعيان نفسها من إيراد، ولنسمه بالعائد الايرادي إضافة إلى ما ينشأ عن التغيرات السوقية في أسعار الأعيان نفسها، وهو ما يسمى بالعائد الرأسمالي.

وأما درجة المخاطرة، فتتفاوت حسب نوع الأعيان نفسها، والأحوال الاقتصادية، والسياسية، والأمنية السائدة في البلد، طيلة مدة التمويل بالتملك. وكذلك فإن درجة المخاطرة تتأثر بنوع الأداة التمويلية المستخدمة، كما سنرى فيما يلي من هذا القسم.

وأهم أنواع الأدوات المالية القائمة على التملك، صكوك الإجارة، وأسهم المشاركة وأسهم المضاربة، وحصص الإنتاج [99].




1-1 صكوك الإجارة [100]
تقوم فكرة صكوك الإجارة على التمويل بالإجارة. وهو تمويل من خارج الميزانية يستند إلى بيع المنفعة، ويمكن توضيح صكوك الإجارة فيما يلي :

تصدر الصكوك للبيع للجمهور، وهي تمثل مستندات ملكية في عقارات، أو آلات، أو تجهيزات، أو طائرات، أو بواخر، أو أية سلع معمرة أخرى، مما هو قابل لأن تباع منفعته. وتتضمن الصكوك أيضا، عقد تأجير هذه السلع المعمرة إلى الحكومة بأجرة محددة، تبين طريقة دفعها.

ويمكن إصدار صكوك إجارة لقاء أصول ثابتة موجودة فعلا، يتم تمليكها لحاملي الصكوك، واستئجارها منهم. كما يمكن كذلك صدورها لقاء أصول ثابتة، تقوم الحكومة، بشرائها وكالة عن حملة الصكوك، ثم استئجارها بعد ذلك منهم.

فمشتري الصك يتحمل، بصفته مالكا، جميع ما يتحمله المالك للسلعة المؤجرة من مخاطر. ويمكن لنظام صكوك الإجارة أن يلزم المستأجر - الحكومة - بالقيام، وكالة عن المالك، بما يقع على عاتقه من أعمال الصيانة، والتأمين، وأن يعود عليه، بما ينبغي أن يتحمله المالك، بما يتفق مع الشريعة الإسلامية الغراء.

ويمكن لهذه الصكوك، أن تتداول في السوق، بالأسعار التي تحددها قوى العرض والطلب - وهي تعكس، دون شك، القيمة الحالية لما يتوقع من عائد إيجاري دوري لها، والقيمة الحالية للأصل الثابت - إن وجدت - عند نهاية عقد الإجارة، فضلا عن توقعات المخاطر والأعباء، التي يتحملها المؤجر، وكذلك التقييم النسبي في السوق لهذا الاستثمار، مقارنا مع الفرص البديلة.

ويمكن للحكومة أن تصدر أنواعا لا حصر لها من صكوك الإجارة. فيمكن أن تكون صكوك الإجارة دائمة تمثل عقود إجارة متتالية متجددة، بحث يتم تخصيص جزء من عوائدها، للتعويض عن الاستهلاك السنوي للأصل، فيتجدد الأصل بصورة مستمرة، أو أنها تمثل أصلا ثابتا غير قابل للاهتلاك، مثل الأرض السكنية.

كما يمكن أن تكون ذات أجل محدود، دون التعويض عن استهلاك رأس المال، وفي هذه الحالة، فإن قيمة الصك تتناقص مع الزمن، وتتضمن العوائد الدورية - ضمنا - استرداد رأس المال. كما يمكن للحكومة - إذا كانت ترغب في تملك الأصل الثابت بعد فترة زمنية - أن تخصص مبالغ لشراء نسبة معينة من صكوك الإجارة كل سنة، أو أن تصدر الصكوك على طريق الإجارة المنتهية بالتمليك عند من يبيحها من الفقهاء المعاصرين.

وكذلك يمكن إصدار صكوك الإجارة ذات الأجل المتوسط أو القصير للسلع ذات الأعمار المتوسطة أو القصيرة، كالسيارات (3 - 5 ) سنوات مثلا)، أو أجهزة الكمبيوتر (1-3 سنوات)، أو الأدوات الصناعية التي لا تعيش أكثر من سنة واحدة في العادة.

ويمكن كذلك الصكوك الإجارة أن تنحصر بأصل ثابت واحد، كمجمع للوزارات مثلا، أو أن تشمل عدة موجودات متجانسة، كأسطول طائرات، أو غير متجانسة في مشروع واحد، كالموجودات الثابتة لشركة السكر الحكومية، أو في مشاريع متعددة كالموجودات الثابتة لمشروعات متعددة، إذا أمكن تحديد هذه الموجودات بدقة، بحث يمكن أن يتملكها حاملو صكوك الإجارة، ويؤجروها للحكومة.

ويمكن لصكوك الإجارة أن تمثل مالكية أصول ثابتة لمشروع ينتج الربح كمصنع للحديد، أو لمشروع لا ينتج أي ربح مثل طريق ريفي، الحركة عليه قليلة، ولكنه ضروري من وجهة نظر العدالة، وخدمة أهل الريف. أو أن تكون تمويلا خارجا عن الميزانية بديلا عن نفقات عادية تصرف لشراء الأثاث المكتبي للحكومة.

كما يمكن إصدار صكوك الإجارة من قبل الحكومة نفسها، أو من قل أي مؤسسة حكومية ذات استقلال ذاتي كالبلديات، أو هيئات الأوقاف، أو أي مؤسسة حكومية اقتصادية.

وينبغي أن يلاحظ في صكوك الإجارة أنها لا ينشأ عنها تغيير في الجهة، التي تقدم السلع العامة. فإذا كانت الحكومة، هي التي تقدم مثلا خدمة فرصة التنزه في حديقة عامة، ثم أصدرت صكوك إجارة أصبح فيها حاملو الصكوك، هم المالكين للحديقة، وتدفع لهم الحكومة الأجرة كل ستة شهور مثلا، لقاء استئجارها، فإن إدارة الحدائق في الحكومة تظل هي التي تقدم خدمة فرصة التنزه، وهي التي تتخذ جميع القرارات المتعلقة بهذه السلعة، ولا يحق لحملة الصكوك، التدخل في كيفية فتح الحديقة للجمهور وما يتعلق بذلك من قرارات. وبمعنى آخر، فإن التمويل بإصدار صكوك الإجارة ليس له تأثير على حجم الحكومة، ولا حجم العمالة عندها، ولا حجم إنتاجها من السلع والخدمات العامة أو غيرهما.

وكذلك، فإنه من المفيد أن نلاحظ أن المثال السابق قد تضمن أيضا، تحويل موجودات ثابتة حكومية، إلى القطاع الخاص، دون أن يحول قرار استثمار هذه الموجودات من الحكومة إلى الأفراد. فهو بذلك نوع من الخوصصة غير الكاملة فالقطاع الخاص - من جهة - يصبح مالكا للأصل الثابت الذي تستعمله الحكومة. ولكنه من الجهة الأخرى، ليس له الحق باتخاذ القرار الاستثماري.

وأخيرا، فإن حصيلة بيع صكوك الإجارة التي تأخذها الحكومة - في المثال السابق ( أي بيع أصل مملوك للحكومة إلى حملة الصكوك ) - يمكن لها أن تتصرف بها في بناء مصنع للأسمنت، أو في الصرف على بنود الميزانية العامة من مرتبات ولوازم. فهي حرة في التصرف بهذه الحصيلة في أية مشروعات يقررها الاختيار الاجتماعي للدولة. أما إذا كان عرض صكوك الإجارة للجمهور من أجل بناء حديقة عامة، لم تكن موجودة من قبل، فإن الحكومة لا تستطيع أن تستعمل الحصيلة في غير بناء الحديقة، لأنها إنما تتصرف بالمال - في هذه الحالة - تصرف الوكيل عن مالكه.



3-1-2 أسهم المشاركة وأسهم المضاربة
تختلف هذه الأسهم اختلافا بينا عن صكوك الإجارة. فإن الأسهم تمثل ملكية، يؤمل منها أن تجني أرباحا، لا تعرف إلا عند التحقق الفعلي، في آخر المدة. وهي لذلك لا يمكن إصدارها إلا لمشروعات تدر، في العادة، أرباحا. وأوضح أمثلتها المؤسسات الاقتصادية للدولة.

أما أسهم المشاركة فهي تعطي لمالكيها الحق في الإدارة أيضا، إضافة إلى التملك والمشاركة في الربح والخسارة. فيصبح القطاع الخاص، شريكا في الإدارة عندما يمتلك هذه الأسهم. لذلك فهي تصلح، بشكل خاص، إذا كانت الحكومة راغبة بالإفادة من الخبرات الإدارية للممولين. فهي بذلك نوع من الخوصصة الكاملة أو الجزئية بترك المشروع كليا، أو جزئيا، لإدارة القطاع الخاص.

وأما أسهم المضاربة، فلا تشارك في الإدارة، كما هو معلوم، لذلك فهي تُبقي على قرار إنتاج السلعة العامة بيد الحكومة. ولذلك فإن نجاحها يتطلب أن تتهيأ لإدارتها المهارات الفنية المناسبة.

وتصدر الأسهم - في العادة - دائمة، غير أنه يمكن أيضا أن تصدر أسهم موقتة، لأن الشركة نفسها يمكن أن يتحدد لها وقت معلوم. وكذلك يمكن في بعض الأحيان إصدار أسهم المضاربة، بشكل خاص، لمدة لا تزيد عن السنة، كما يمكن توزيع الأرباح (والخسائر) بشكل شهري أو فصلي أو نصف سنوي. ولا شك أن أسهم المشاركة والمضاربة، تمثل نوعا من الممارسة الديمقراطية، في مجال تقديم السلع العامة. فإن أسعار هذه الأسهم إنما هي عملية تصويت مستمرة تظهر تقييم المستثمرين لإنجازات الحكومة في هذا المجال.

وحسب فتوى مجمع الفقه الإسلامي، التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي، فإنه يمكن ممارسة ضمان الطرف الثالث، لجبر الخسارة في راس مال أسهم المشاركة وأسهم المضاربة، شريطة تحقق شروط ثلاثة هي : 1) أن يكون الطرف الثالث منفصلا في شخصيته، وذمته المالية عن طرفي العقد، 2) وأن يكون متبرعا بضمانه بدون مقابل، 3) وأن يكون الضمان مستقلا عن عقد الشركة أو المضاربة فلا يكون شرطا في نفاذه، ولا في ترتب أحكامه. [101] فإذا أصدرت الحكومة نفسها أسهم المضاربة، فإنه يصعب تحقق الشرط الأول. أما إذا أسست الحكومة هيئة مستقلة بشخصيتها المعنوية وذمتها المالية، ثم قامت هذه الهيئة بإصدار أسهم المضاربة، فإن مسألة ضمان هذه الأسهم من قبل الحكومة نفسها، وزارة المالية مثلا، قد تصبح سائغة، ولا شك أن الأمر يحتاج إلى نظر فقهي لتحديد مدى تحقق الشرط الأول المذكور في هذه الحالة. ومما يذكر أن قانون سندات المقارضة الأردني قد أساغ ذلك بالنسبة للأوقاف باعتبار أن أموالها مستقلة بذمتها المالية وبشخصيتها المعنوية عن الحكومة.

وقد توجد ظروف اقتصادية كثيرة، تستدعي تقديم ضمان الطرف الثالث، في بعض المشروعات، التي يكون للأمة مصلحة حقيقية بقيامها، رغم أنه لا ينصح بالتوسع، باللجوء إلى هذا الضمان، نظرا لما يحدثه من خلل في نظام السوق.

وأسهم المشاركة والمضاربة قابلة للتداول في السوق الثانوية، بأسعار تتحدد بقوى العرض والطب. ولا شك أن العوائد المحققة فعلا للسنوات الماضية، والمتوقعة للسنوات القادمة، تدخل ضمن العوامل التي تحدد أسعار هذه الأسهم. أما ربحيتها فتحددها كفاءة المشروع، بمجمله ضمن معطيات السوق التي يعمل فيها. وكذلك فإن درجة المخاطر تتحدد حسب طبيعة الاستثمار إضافة إلى نوع العلاقة التمويلية إذ أن مخاطر المشاركة والمضاربة أكبر من مخاطر الإجارة.

أما من حيث جهة الإصدار، فإنه يمكن إصدار أسهم المشاركة والمضاربة من قبل الجهة المستفيدة من التمويل. ويمكن كذلك إصدارها من قبل جهة حكومية مركزية، بحيث تمثل إصداراتها مساهمات محددة في عدد من المشروعات الحكومية، فتستفيد من ميزة تنويع الاستثمارات، مما يوزع المخاطر فيخفف من عبئها.

وأخيرا، فإن أسهم المشاركة والمضاربة، لا تحتاج إلى إعادة سداد، شأنها في ذلك شأن جميع الأدوات المالية القائمة على الملكية. وذلك لأن طبيعتها لا ترتب مديونية على الجهة المستفيدة من التمويل




3-1-3 حصص الإنتاج
وهي تمثل أسهم ملكية أيضا، لمشروع تتم فيه مقاسمة الإنتاج، بدلا من العائد الصافي. أما كيفية صدور حصص الإنتاج، وكيفية عملها فيمكن وضعها فيما يلي :

تقوم الإدارة المعنية في الحكومة، بإصدار حصص إنتاج، ودعوة الناس لشرائها. ويتضمن عقد الاكتتاب في الحصة توكيل الإدارة بشراء سلعة ( أو مجموعة سلع) معمرة، محددة بدقة، تكون من السلع الإنتاجية، كالطائرات، والبواخر، والجسور ذات السعر عند العبور. ويحدد في الحصة نصيب المالك، من الإيراد الإجمالي لهذه العين أو الأعيان المنتجة. وتقوم الإدارة بتشغيل هذه الموجودات الإنتاجية، وتحمل جميع نفقات التشغيل، ثم مقاسمة إجمالي العائد مع مالكي الأصل المنتج حسب الاتفاق.

ويمكن أن تصدر حصص الإنتاج، أيضا بدعوة لشراء أصل منتج قائم فعلا، مثل الموجودات الثابتة الإنتاجية، كحديقة حيوانات يدخلها الناس بالأجرة، أو طريق يتحمل سالكوه أجرة عبور.

وحصص الإنتاج تستند إلى رأي معروف عند الحنابلة بجواز المضاربة بالأعيان الثابتة، كالدابة والسفينة، يذكره ابن قدامــة في الجزء الخامس من المغني. ويمكن تطبيقها، في المشروعات ذات الإيراد، أو مشروعات البنية الأساسية، التي يمكن صياغتها بشكل يجعل لها إيرادا. ولكنها لا تصلح للموجودات الثابتة غير ذات الإيراد.

وهي أقل مخاطرة من أسهم الشركة والمضاربة، لأن الإيراد الإجمالي آكد من الربح الصافي في أي مشروع. وهي كذلك أقل تعرضا لمخاطر سوء الأمانة لاقتصار المحاسبة، بين الشريك المالك والشريك العامل، على مجمل الإيرادات وانتفائها عن المصروفات وفروعها. على أن حصص الإنتاج أكثر مخاطرة من صكوك الإجارة، لأن الأخيرة تتضمن تعاقدا على ثمن الخدمة، فهي أكثر تحديدا لإيرادها من حصص الإنتاج.

وهي تتمتع بنفس القابلية للتداول بالأسعار السوقية، التي تتأثر بعوائدها الماضية، والمتوقعة، شأنها في ذلك شأن سائر الأدوات المالية القائمة على الملكية، كما يمكن فيها أن يحدد العمر الإنتاجي للأصل الثابت بآجال معروفة، كأن يكون خاضعا لامتياز لأجل محدود، أو يكون قابلا للنفاد، كبئر للبترول.



الخصائص الاقتصادية للأدوات المالية القائمة على الملكية
تتمتع جميع أنواع الأدوات المالية، القائمة على الملكية، بخصائص مشتركة نعرضها مختصرة، فيما يلي :

أ - قابليتها للتداول، بأسعار تحددها قوى السوق، دون التقيد بالقيمة الاسمية لها. وهذا مما يمكن من قيام سوق ثانوية لها [102]. ويشجع الناس على اقتنائها بسبب قدرتهم على تنضيض Liquidation ما يملكونه منها بسرعة. كما أن تكون سعر سوقي لها سيربط هذه الأدوات، بتثمين إيراداتها المتوقعة، [103]. وبكلفة الفرصة البديلة، وبالطلب على منتجاتها، الخ.

وتتضمن القابلية للتداول، القدرة على التصرف بهذه الأدوات تصرف المالك، كاستعمالها رهنا لدين، وهبتها، وبيعها، وميراثها، وغير ذلك من حقوق شرعية للمالك على ملكه.

ب - لا تشكل هذه الأدوات مديونية على الحكومة. وهي تعتبر - جميعا - أنواعا من التمويل من خارج الميزانية العامة للدولة. ولا تحتاج الحكومة فيها إلى رصد مبالغ، في السنوات القادمة، لسدادها أو شرائها من أصحابها. وذلك فيما عدا حالة واحدة هي، الالتزام بالشراء في حالة الإجارة المنتهية بالتمليك. وبالتالي فإن هذه الأدوات، لا تثير مشاكل العدالة، أو عدمها، بين الأجيال، التي تنشأ عن اضطرار جيل لاحق، لسداد ديون جيل سابق له.

أما إذا رغبت الحكومة، بتملك الموجودات التي تمثلها هذه الأدوات، فينبغي عليها أن تدفع سعر السوق. وذلك فيما عدا الإجارة المنتهية بالتمليك - عند من يجيزها - فإنها تلزم بمبالغ مستقبلية محددة مسبقا.

ج - تعتبر هذه الأدوات نوعا من الخوصصة Privatization في الملكية فقط، دون القرار الاستثماري. وذلك فيما عدا أسهم الشركة، فإنها تتضمن مشاركة المساهمين في الإدارة أيضا، أما قرار إنشاء الشركة، وعرض أسهمها على الاكتتاب العام، فيبقى بيد الحكومة التي تستطيع الاحتفاظ بنسبة معينة من الأسهم تضمن لها حق السيطرة على القرار الإداري.

د - إن عرض أدوات التمويل القائمة على الملكية على الاكتتاب العام هو نوع من الممارسة الديمقراطية فيما يتعلق بمشروعات الحكومة. فإن المشروع الذي ينال تثمينا أكثر من الناس هو ذلك الذي يقبلون على الاكتتاب فيه. ويتفاوت شكل الممارسة الديمقراطية من أداة إلى أخرى، ففي حين تتنافس أسهم المضاربة، وأسهم المشاركة، مع استثمارات القطاع الخاص، فإن صكوك الإجارة، يمكن أن تحدد أجرة مرتفعة، لا تمكّن القطاع الخاص من منافستها، وتقلل بالتالي من كشف مواقف المكتتبين فيها، عن مدى دعمهم الأدبي للمشروع، بسبب فرط الإغراء المادي للعائد الايجاري. ويمكن أن يحدث قريب من ذلك في حصص الإنتاج، إذا ما حددت لمالكي الحصص نسبة عالية من الإنتاج.



هـ - يتفاوت تأثير هذه الأدوات على السلع العامة. فاستعمال أسهم الشركة، أو أسهم المضاربة، أو حصص الإنتاج يتطلب تغيير طبيعة السلعة العامة وإخضاعها الآلية السوق، أي جعلها سلعة خاصة لها أسعار تمكّن من استبعاد أولئك الذين لا يدفعونها من الاستمتاع بالسلعة. أما صكوك التأجير فإنها لا تغير من طبيعة السلعة العامة، فيمكن مثلا، استئجار مبنى المحكمة دون الحاجة إلى خوصصة خدمة القضاء، كما يمكن استئجار أسلحة أفراد الشرطة دون خوصصة خدمة الأمن الداخلي.

و- ومن جهة أخرى، فإن أسهم المشاركة تغير أيضا من صفة الجهة التي تقوم، بإنتاج السلعة، فتصبح شركة مختلطة بدلا من كونها القطاع العام وحده. أما الأدوات الأخرى، فلا تغير من الجهة المنتجة للسلعة، إذ تبقى مؤسسات القطاع العام أو الحكومة نفسها، هي الجهــاز الذي ينتج السلعة أو الخدمة ويعرضها في السوق، أو يقدمها للناس بشكل سلع عامه.

ز - إن استعمال أدوات التمويل القائمة على الملكية، لا يستدعي فرض ضرائب، ولا الحصول على قروض في المستقبل، لأنه لا حاجة إلى "سداد" قيمة هذا التمويل في المستقبل، باعتباره ليس دينا على الحكومة. وذلك عدا حالة الإجارة المنتهية بالتمليك. ولكنه ينبغي أن يلاحظ أن صكوك الإجارة تتطلب دفع أجرة دورية إلى حملة الصكوك. وهنا يمكن الافتراض بأن هذه الأجرة لا تزيد عن الفائدة الربوية في حالة الاقتراض بالفوائد [104]. وبالتالي فإنها لا تشكل عبئاً يزيد عن عبء البدائل غير الإسلامية. ومن جهة أخرى فإن هذا العبء هو عبء إيرادي يقابل استخلاص المنافع من الأعيان المستأجرة.

ح- وبالتالي فإن هذا النوع من التمويل يحقق الربط الكامل، بين التمويل، من جهة، واستعمال الحكومة للأموال التي تحصل عليها من جهة أخرى. فلا تستطيع الحكومة التصرف بالمال كما تشاء ويحلو لها. مما يقلل بذلك من احتمالات التبذير، والإتلاف، والضياع، وسوء الأمانة، مقارنا مع التمويل بالفوائد. لأن تجربة الواقع أثبتت أن القروض بفائدة كثيرا ما حولَّت الحكومات حصيلتها إلى استعمالات غير ما اقترضت من أجله، وكان كثير منها استعمالات سرفية تتصل بالفساد الإداري.

ط - ويضاف إلى ذلك، أن التمويل بأسهم الشركة والمضاربة يربط العملية التمويلية، بالكفاءة الإنتاجية للمشروع، مما يزيد في إنتاجية القطاع العام المستفيد من هذا النوع من التمويل. وليس الأمر كذلك عند التمويل بحصص الإنتاج، أو بصكوك الإجارة.

ي - إن ربط التمويل - وإيراداته الدورية للممول - بالموجودات العينية الحقيقية يسهل عملية الرقابة على الجهات المستفيدة من التمويل. فحتى في حالة صكوك الإجارة، لا بد من الوجود المستمر للأصل الثابت، حتى تستحق الأجرة. وبالتالي، فإن هذا الأسلوب من التمويل، لا يقلل فقط من إساءة استعمال التمويل عند الحصول عليه، بل يفرض رقابة مستمرة طيلة مدة التمويل، تؤدي إلى التخفيف من إساءة استعمال هذه الأموال.



ك- ويلاحظ من جهة أخرى، أن التملك يتضمن - بطبيعته - أن يتحمل المالك جميع المخاطر الذي تطرأ على ملكه. ولا شك أن في هذه المخاطر ما يدفع الكثير من الممولين - وبخاصة الخارجيين منهم - إلى تفضيل التمويل على أساس المديونية.




رابعا - وسائل أخرى لتمويل عجز الميزانية العامة


إضافة لأدوات التمويل التي يمكن تداولها في الأسواق المالية يمكن لبعض الدول الإسلامية الحصول على التمويل اللازم من مصدر مهم آخر هو بيع بعض المشروعات الحكومية للقطاع الخاص، أو ما يسمى بالخوصصة. وكذلك فإن كثيرا من الحكومات تلجأ لطريق السهولة في تمويل الفرق بين إيراداتها ونفقاتها وهو طريق الاقتراض من المصرف المركزي. وسنبحث هاتين الوسيلتين في هذا الجزء من الورقة.

4 - 1 - الخوصصــــة
الخوصصة هي تمليك القطاع الخاص، من أفراد وشركات، المشروعات الحكومية [109]. ويقصد بها عادة زيادة الكفاءة الإنتاجية لهذه المشروعات، وإعفاء الحكومة من الأعباء الاقتصادية الناشــئة عنها، وزيادة فعالية السوق ونظام الأسعار، وزيادة المنافسة، وعلى العموم التحويل بهذه المشروعات من النظام الحكومي إلى نظام السوق.

وتوجد في معظم الدول الإسلامية مشروعات حكومية عديدة يمكن خوصصتها عن طريق بيعها للقطاع الخاص المحلي. ومن هذه المشروعات مؤسسات الكهرباء، والماء، والنقل البحري، والمواصلات والنقل الداخلي، وحتى بعض الجسور والطرق السريعة. ويمكن وضع برنامج بحيث تتم تغطية العجز السنوي في الميزانية من إيرادات بيع هذه الأملاك العامة، على مدى سنوات عديدة، بحيث يباع كل سنة ما يكفي لسد العجز السنوي حتى نصل إلى توازن الميزانية العامة من خلال تفعيل العوامل ذات التأثير المتوسط والطويل الأجل في زيادة الإيرادات وتخفيض النفقات، على اعتبار أن ذلك هو الحل الأمثل لإنهاء العجز في الميزانية.

ويلاحظ في هذا المجال أن جزءا كبيرا عجز الميزانية العامة في كثير من البلدان الإسلامية ناشئ عن مشروعات الخدمات العامة نفسها، مما يعني أن خوصصة بعضها ستساهم في تخفيف العجز. فيكون للخوصصة تأثير مزدوج. فهي تدر إيرادات عامة من جهة لقاء ثمن بيع المشروعات، وهي تخفف العجز بإلغاء بعض أسبابه من جهة أخرى. وهذان التأثيران يعتبران مما يساعد على محاربة التضخم، وذلك بتعبئة إيرادات عامة غير تضخمية من جهة، وتخفيف النفقات العامة غير الكفوءة من جهة ثانية.

ولا يرد هنا الاعتراض بأن الخوصصة هي "بيع المستقبل " لأن خوصصة بعض المشروعات تزيد في كفاءتها وإنتاجيتها، وتوسع خدماتها. ففي خوصصتها إسهام في النمو الاقتصادي وزيادة العمالة والإنتاج المحلي، مما يزيد في الرفاه العام فضلا عن زيادة الطاقة الضريبية للاقتصاد.

يضاف إلى ذلك أن اتجاه الاقتصاد المحلي والميزانية العامة نحو التوازن يزيل توقعات العجز في المستقبل، مما يقلل الحاجات المالية للخوصصة نفسها.

ويمكن تصميم شروط الخوصصة بحيث تستمر الحكومة في سياسة الرعاية الاجتماعية التي تراها مناسبة، وفي تحقيق سائر الأهداف الإنمائية، سواء على المستوى الاقتصادي، أم الاجتماعي، مع الاحتفاظ بسلطة رقابية من مستوى مناسب على المشروعات التي تتم خوصصتها، ودون التفريط بوطنية هذه المشروعات، بحيث ينحصر بيعها للمواطنين فقط.

ومن جهة أخرى، فإن الخوصصة تساعد في زيادة كفاءة هذه المشروعات، وتحسين إنتاجيتها، وتخفيف الشحوم المتراكمة عليها، وبالتالي تزيد من قدرتها على النمو في المستقبل، وتزيد من قدرتها على امتصاص العمالة المحلية، فضلا عن امتصاص فائض السيولة من السوق النقدية المحلية، وتحصيل قيمة الممتلكات المباعة لتغطية عجز الميزانية مما يعتبر عاملا مساعدا مهما جدا في محاربة التضخم النقدي.

وكذلك يمكن إعادة صياغة بعض المشروعات كالطرق والجسور لتصبح مشروعات ذات عائد أو ربح مشروع، حتى ولو كان من المرغوب فيه - اجتماعيا وسياسيا - تقديم دعم سعري لبعض الزمر من مستعمليها لبضعة سنوات قادمة.

وإضافة لتأثيرها المحمود على التضخم، تمتاز هذه الطريقة في معالجة العجز بأنها لا ترتب مديونية على الدولة، تضطر في المستقبل إلى سدادها. كما أنها تيسر التخلص من المشروعات الخاسرة وذات الكفاءة القليلة، كما تساعد على التخلص من الدعم السعري الذي تقدمه الدولة لكثير من هذه الخدمات، بكشف هذا الدعم وجعله واضحا محددا تحت مجهر المناقشة والتمحيص والقرار السياسي المباشر في كل سنة عند تقديم الميزانية إلى مجلس الأمة، مما يساعد على تقليص هذا الدعم إلى أدنى حد ممكن


4 - 2 التمويل بالعجز
يعتبر التمويل بالعجز من أيسر الوسائل لسد العجز في الميزانية العامة وهو بنفس الوقت من أكثرها خطورة، حتى إنه ارتبط بالتضخم الفاحش ارتباطا مباشرا.

والتمويل بالعجز يقوم على طباعة النقود الورقية وإلقاءها في الأسواق أثمانا، لقاء شراء السلع والخدمات من القطاع الخاص المحلي، وكذلك شراء العملات الأجنبية بها من السوق المحلية، من آجل استعمال تلك العملات في مشتريات الحكومة الخارجية. يضاف إليه في العادة انتفاخ متصاعد في حجم الودائع المصرفية من خلال عامل المضاعف النقدي المصرفي مما يزيد الأزمة تعقيدا. وهو ينعكس بصورة هبوط في قيمة العملة، محليا تجاه السلع والخدمات المحلية، وخارجيا تجاه العملات الأجنبية.

أما سهولته، فلأن السلطة السياسة لا تحتاج إلى أكثر من إصدار أوامرها للبنك المركزي[110]، بطباعة النقود وإعطائها لوزارة المالية، لقاء إيصالات يقدمها في العادة وزير المالية إلى المصرف المركزي، تمثل مديونية الدولة نحوه، يضعها الأخير في جانب الأصول من ميزانيته الختامية لقاء ما قام بإصداره من نقود.

أما تأثير التمويل بالعجز على التضخم فمباشر، لأنه يزيد كمية النقود الموجودة داخل الاقتصاد الوطني. كما يؤدي بدء ارتفاع الأسعار إلى تهرب الناس من النقود، وتقليل ما يمسكونه منها إلى أدنى حد ممكن، مما يزيد من سرعة تداول النقود، فيزيد ذلك بدوره من سرعة التفاعل التضخمي. وهو يمثل بذلك نوعا من أكثر أنواع الضرائب إجحافا وبعدا عن العدالة. لأنه من خلال تأثيره التضخمي، يجرف أمامه دخول وثروات جميع أولئك الذين تُعرّف دخولهم وثرواتهم بالوحدات النقدية ( في مقابلة الأعيان )، وهم في الغالب من أضعف الفئات الاجتماعية، من حيث القوة الاقتصادية والقدرة على الدفاع عن دخولهم وثرواتهم وحمايتها. ومن أهم أمثلة هؤلاء موظفو الحكومة وأصحاب الودائع المصرفية. وهو بذلك يتناقض مع جميع مقتضيات العدالة، وبخاصة حسب المفاهيم الإسلامية لها.

ولا نستطيع أن نجد مبررا شرعيا لقبول مثل هذا الظلم. لذلك فإننا نرى من أهم ضوابط السياسة المالية الإسلامية في مسألة معالجة العجز هو الامتناع المطلق، وغير المتحفظ، عن التمويل بالعجز، مهما ساءت الظروف والأحوال الاقتصادية، لأنه لا يؤدي إلا إلى زيادتها سوءا وبخسا.




القسم الرابع: سياسات الدخول والأسعار وضوابطها الشرعية
أولا- تعريف:
تعرف سياسات الدخول والأسعار بأنها "أي إجراءات تدخلية مباشرة من الدولة بهدف التأثير على الدخول والأسعار"[111]. ويقصد عادة بكلمة الدخول "الأجور والرواتب" لأنها هي التي تشكل أهم عناصر التكاليف في الدول الصناعية. فهي - من جهة - سعر من الأسعار باعتبارها سعر العمل، وهي - من جهة أخرى - أهم أنواع الدخول في المجتمعات الصناعية من حيث الحجم إذ تشكل نسبة كبيرة تتراوح من 50 - 80% من مجموع كلفة الإنتاج. ولكن سياسات الدخول والأسعار تشمل بحكم تعريفها التدخل في أسعار السلع والخدمات الإنتاجية والاستهلاكية، بما في ذلك إيجارات العقارات أيضاً، باعتبار أن الإيجار سعر ودخل بأن واحد.[112]

ونلاحظ في التعريف أنه يقصد بسياسات الدخول والأسعار تلك الإجراءات المباشرة لأن السياسات المالية والنقدية تعتبر كلها إجراءات غير مباشرة تهدف إلى التأثير على الأسعار والدخول. وبالتالي كان لا بد من تمييز سياسات الدخول والأسعار عن السياسات الاقتصادية الأخرى.

وتهدف سياسات الدخول والأسعار - في العادة - إلى الحد من التضخم ومحاربته، وإن كان يمكن أن يكون لها أهداف توزيعية تقصد حماية دخول الفئة العاملة، أو بعض مجموعاتها، أو تحسينها. مثال ذلك سياسات الحد الأدنى للأجور، وسياسات تحديد أجور الأطفال.

أما محاربة التضخم من خلال سياسات الدخول والأسعار فتعود لسببين مهمين: أولهما أن بعض أنواع التضخم ينشأ عن ارتفاع الأجور. وهو ما يعرف بالتضخم المدفوع من قبل التكاليف، التي أهم عناصرها الأجور. فسياسة الدخول في هذه الحالة سياسة نوعية في محاربة أسباب التضخم. أما ثانيهما فهو أن كل تضخم يستمر فترة متوسطة أو طويلة يمر بمرحلة يستثير فيها الأوساط العمالية للمطالبة بزيادة الأجور. ومعلوم أن زيادتها تؤدي إلى زيادة جديدة في الأسعار، فيدخل التضخم بذلك في دورة شريرة من ارتفاع في الأسعار، فزيادة في الأجور، فارتفاع في الأسعار، فزيادة أخرى في الأجور، وهكذا. مما يقتضي تدخل الدول في محاولة لكسر هذه الدائرة.






ثانيا- أنواع سياسات الدخول والأسعار:
تتراوح سياسات الدخول والأسعار من إجراءات مراقبة التغيرات في الأجور والأسعار والتعليق عليها في وسائل الإعلام، إلى إجراءات تشجيع القطاع الخاص (المنتجين ونقابات العمال) على ضبط الزيادات في الأجور والأسعار ضمن حدود مقبولة من خلال بعض الحوافز والعقوبات، إلى الإلزام بالتقيد بتحديد الأجور والأسعار حسب اللائحة التي تفرضها الدولة، تحت طائلة العقوبات المالية والقانونية الأخرى. فلدينا إذن ثلاثة أنواع رئيسية من سياسات الدخول والأسعار، إنما هي في الحقيقة ثلاث درجات أو مستويات من التدخل المباشر.

فقد تكتفي الحكومة بالإشراف والرقابة، فتشترط مثلاً عدم إدخال أي زيادة في الأجور إلا بعد إعلام السلطة المختصة. فإذا ما أعلمت السلطة، ورأت في الزيادة اتجاها تضخمياً، اتخذت إجراءات يقصد منها إقناع أرباب الأعمال والعمال بعدم المضي في تنفيذ الزيادة المقترحة. وتشمل هذه الإجراءات في العادة الإقناع المباشر واستخدام وسائل الإعلام للتنفير من هذا الاتجاه، وبيان مساوئه. كما قد تعمد إلى التدخل بالمشاركة في المفاوضات بين العمال وأرباب الأعمال، فتكون طرفاً يحاول الإقناع من الداخل، وقبل الوصول إلى أي اتفاق.

وقد تعمد الحكومة إلى وضع حدود وضوابط للزيادات في الأجور، وتطلب من العمال وأرباب العمل التقيد الاختياري بهذه الحدود والضوابط، بعد أن تحشد لها الدعم السياسي والإعلامي المناسب، بحيث تمارس ضغطا نفسياً وسياسياً على ممثلي نقابات العمال ليكتفون بالزيادات التي لا تتجاوز الضوابط والحدود المرسومة.

وقد تتخذ الحكومة إجراءات أبعد من ذلك، بحيث تضع بعض الحوافز والعقوبات، ضريبية وغير ضريبية، لتشجع على الالتزام بالضوابط التي وضعتها لزيادة الأجور. كأن تقدم الحكومة بعض التنازلات أو الإعفاءات الضريبية للعمال الذي يقبلون بعدم تجاوز الزيادة في الأجور للحدود التي اقترحتها الدولة، أو أنها تقدم لهم بعض البرامج الاجتماعية، مثل المعونات الاجتماعية للمتقاعدين، أو تحسين برامج رعاية الأطفال الذين هم قبل سن المدرسة، أو تحسن التأمين الصحي وسائر أنواع التأمينات، وبخاصة التعويضية، للعمال workman Compensation. أو أنها تفرض بعض الغرامات والعقوبات الضريبية على المؤسسة التي تزيد أجور عمالها، أو تفرض على الأجور ضريبة تصاعدية تأكل الزيادات غير المرغوب فيها، أو تزيد على ذلك معاً.

وأخيرا، قد تعمد الحكومة إلى اتخاذ إجراءات إلزامية تجبر فيها العمال وأرباب الأعمال على التقيد بعدم زيادة الأجور إلا في الحدود التي ارتضتها الحكومة وحسب المعايير التي قررتها، وذلك تحت طائلة العقوبات المالية والجسدية، بما في ذلك الغرامات المالية، وسحب تراخيص العمل، والمحاكمة والحبس.

ومن السياسات الإلزامية أيضاً ربط زيادات الأجور ربطاً إلزامياً بمؤشر تغير الأسعار، وذلك بإجراء تفرضه الدولة، بأن تلزم أرباب الأعمال بزيادة الأجور بشكل تناسبي مع زيادة الأسعار. وقد تُزاد الأجور بنفس نسبة زيادة الأسعار، فيكون الربط عندئذ كاملاً. أو أنها تزاد بنسبة مئوية من زيادة الأسعار، بحيث تكون نسبة زيادة الأجور أقل دائماً من زيادة الأسعار. وينبغي أن نلاحظ هنا أن زيادة الأجور، الكاملة أو الجزئية، كثيراً ما تتضمن تأخراً زمنياً في تنفيذها، بالمقارنة مع زمن الزيادة في الأسعار. وذلك لأن زيادة الأسعار (معدل التضخم) تؤخذ في العادة عن فترة سابقة، ثم تطبق على فترة لاحقة بالنسبة للأجور، فتؤخذ مثلاً زيادة الربع الأول من السنة في الأسعار، لتطبق نسبتها برفع الأجور في الربع الثاني من السنة.[113]



ثالثاً- التقييم الاقتصادي لسياسات الدخول والأسعار:
ينطلق التقييم الاقتصادي لسياسات الدخول من ثلاث نقاط رئيسية، هي:

1) مبررات الزيادة في الأجور وأسس تحديدها، 2) مبررات التدخل الحكومي في تحديد الدخول والأسعار وآثاره الاقتصادية والاجتماعية، 3) كفاءة سياسات الدخول والأسعار في تحقيق أهدافها.

وقبل الحديث عن هذه النقاط الثلاثة ينبغي أن نلاحظ أن سياسات الأجور والأسعار إنما يقصد بها ما يتعلق بزيادات جميع الأجور أو معظمها، بحيث ينشأ عن ذلك زيادة في المتوسط العام للأجور وليس التغيير الداخلي في بنية الأجور في المؤسسة الإنتاجية الواحدة. إذ قد تزاد أجور بعض الأعمال وتنقص أجور أعمال أخرى لأسباب عديدة، ولكن ذلك يخرج عن نطاق سياسة الدخول والأسعار





1) مبررات الزيادة في الأجور وأسس تحديدها:
إن هنالك سببين مهمين يعتبران الأساس النظري في تبرير الزيادات في الأجور، هما زيادة الإنتاجية والارتفاع العام في الأسعار (التضخم). فمن الناحية النظرية، يرتبط تحديد مستوى الأجور في سوق العمل بمقدار الطلب على العمل وبمقدار المعروض منه. أما المعروض من العمل فيتحدد بناء على عوامل سكانية واجتماعية وتعليمية وثقافية. وأما الطلب على العمل فيحدده حجم الإنتاج المرغوب به من قبل المنتجين (أرباب العمل)، في ظل معطيات محددة من حجم رأس المال الثابت والمستوى السائد للتكنولوجيا، وغير ذلك من عوامل. ولا شك أن أهم محددات حجم الإنتاج الذي يرغب بإنتاجه أرباب الأعمال هو الطلب على منتجاتهم في الأسواق. وفي ظل فرضيات المنافسة الكاملة والعائد المتناقص وتعظيم الربح ومرونة السوق، إلخ. فإن المنتجين سيرغبون في الاستمرار بزيادة إنتاجهم حتى تلك النقطة التي يتساوى فيها إيراد الوحدة المباعة الأخيرة (أي الإيراد الحدي للإنتاج)، وهو يساوي السعر، مع التكلفة اللازمة لإنتاج تلك الوحدة (أي التكلفة الحدية للإنتاج). إن تطبيق هذا المبدأ نفسه على سوق العمل يعني أن يرغب المنتج في الاستمرار في الطلب على العمل واستمرار الزيادة في الأجرة التي يرغب بدفعها للعامل إلى النقطة، التي تتساوى فيها الأجرة مع الإنتاجية الحدية للعمل (أي يتساوى ما يكسبه رب العمل من إيراد ناشئ عن عمل العامل مع ما يدفعه له من أجره). أما وراء تلك النقطة، فإن رب العمل سيخسر من استئجار عامل إضافي لأن إنتاجيته ستكون أقل من أجرته. وأما قبل تلك النقطة، فإن رب العمل يتمكن من زيادة مجموع ربحه إذا ما استأجر عاملاً إضافياً.

إن التحليل السابق يقتضي أنه في ظل تلك الفرضيات كلها فإن المستوى العام للأجور يكون مساوياً للإنتاجية الحدية للعمل أو مقارباً جداً منها. ولكن من المعروف أن كلا من مستوى التكنولوجيا وحجم رأس المال الثابت يتغير، حتى في الأجل المتوسط، بل إن مستوى التكنولوجيا قد يتحسن في الأجل القصير، أي ما بحساب بالأشهر فقط. وبشكل خاص ذلك النوع من التحسن المتعلق بما يسمى بالتكنولوجيا المتضمنة في العمل Labor Embodied Technology. ويكون ذلك بسبب تحسن معرفة العامل بعمله، وإتقانه له الناشئين عن أسباب، من أهمها تكراره للعمل نفسه مرات كثيرة وتمرسه فيه، وتحسن معرفته بمحيط العمل وظروفه، وقلة التوتر النفسي الذي ينشأ عن بدء عمل جديد. يضاف إلى كل ذلك ما يطرأ عادة من تطوير على أدوات العمل، والمواد المستخدمة فيه، وطرق تنظيم العمل، وتحسن في الآلات، وغير ذلك.

ومن الناحية النظرية البحتة، فإن الزيادة في إنتاجية العمل تستتبع زيادة في مستوى الأجور، لأن تلك الزيادة هي التي تحفظ التوازن الاقتصادي في سوق العمل المتمثل في تساوي مستوى الأجور مع الإنتاجية الحدية للعمل، وذلك في ظل الفرضيات المشار إليها سابقاً.

ولكن واقع الحال غير ذلك، لأن فرضيات المنافسة الكاملة غير موجودة في دنيا الواقع، بل إن الواقع يتضمن الكثير من الممارسات الاحتكارية، في كل من طرفي العمال وأرباب الأعمال. من هنا جاء القول: إن ارتفاع مستوى الأجور بمقدار الارتفاع في الإنتاجية الحدية للعمل هو أمر مرغوب فيه لأنه يبقي توازن الدخول الناشئة عن عملية الإنتاج في وضع مماثل لما كانت عليه قبل الزيادة، دون ظهور رابح أو خاسر نتيجة الزيادة في الإنتاجية، بل الكل يربح بنسبة ما كان عليه، فكل صاحب مساهمة في الإنتاج (وبخاصة العامل ورب العمل) يأخذ حصة من الزيادة تتناسب مع نصيبه الذي كان يحصل عليه قبل هذه الزيادة.

إن القول السابق يقتضي نتيجة حتمية، لا مندوحة عنها، وهي أنه - على فرض عدم حدوث أية تغيرات أخرى، وبخاصة فيما يتعلق بكمية النقود والسياستين النقدية والمالية للدولة - فإن زيادة الأجور بنسبة الزيادة في إنتاجية العمل لا تؤدي إلى أي ارتفاع في الأسعار. فهي إذن زيادة صحية، فضلاً عن أنها لا توحي بأي تغير في القوى التفاوضية لعناصر الإنتاج المختلفة، وبخاصة العمال وأرباب العمل (المنتجين أو المنظمين).

لذلك، فإذا اقتصرت المطالبات العمالية بزيادة الأجور على الزيادة بنفس معدل الزيادة في الإنتاجية، فإنها لا تكون مطالبة تضخمية. وقد لا تؤدي فعلاً إلى التضخم إذا صح فعلاً أنها ضمن حدود الزيادة في الإنتاجية، ولم تُتخذ ذريعة لزيادة الأسعار، وبخاصة أن الواقع الاقتصادي في عالم اليوم هو واقع تسوده القوى الاحتكارية ولا تتمثل فيه الشروط النظرية للمنافسة.[114]

أما السبب الثاني لتبرير زيادة الأجور فهو ارتفاع تكاليف المعيشة، أي ارتفاع الأسعار أو التضخم. إذ من المعروف أن التضخم يخفض القيمة الحقيقية للدخول النقدية التي يحصل عليها العمال مما يدفعهم للعمل على حماية دخولهم الحقيقية والمطالبة بزيادة الأجور النقدية. وإذا ما أُريد للدخول الحقيقية للعمال أن لا تنقص عن مستواها الذي كانت عليه قبل التضخم، فإنه لا بد من زيادتها بنسبة زيادة المعدل العام للأسعار، بغض النظر عن التغير في الإنتاجية.

أما إذا زادت إنتاجية العمل وارتفعت الأسعار معاً، فإن زيادة الدخول النقدية للعمال بنسبة الزيادة في الإنتاجية لا تعني حمايتهم من التضخم، بل مجرد إعطائهم الزيادة التي اقتضتها الزيادة في إنتاجهم، دون تعويضهم عن النقص في دخولهم الحقيقية الذي حصل بسبب التضخم. أي مجرد المحافظة على التوازن التوزيعي الذي كان قائما قبل الزيادة في الإنتاجية (بفرض عدم زيادة الأسعار). والزيادة في الأجور التي تتناسب مع الزيادة في الإنتاجية هي حق للعمال على كل حال بغض النظر عن ارتفاع الأسعار، إذا ما أردنا المحافظة على الوضع الذي كان سائداً من قبل، دون أي تغيير. بل إن هذه الزيادة تمثل (مضافة إلى الأجر الأصلي) أجر المثل في السوق في ظل أوضاع المنافسة. وبمعنى آخر، لو فرضنا أن شروط المنافسة كانت متوفرة في السوق، وأن أجور العمال قد تحددت ( وتتحدد) فعلاً في ظل تلك الشروط، أي أن الأجور التي يحصل عليها العمال تمثل السعر السوقي للعمل فعلاً، ثم زادت إنتاجية العمل، فإن أجور العمال تزداد مع ازدياد الإنتاجية وبنفس النسبة، وذلك بفعل قوى العرض والطلب في سوق العمل، إذا ما استطعنا المحافظة على شروط المنافسة دون تغيير.

إن النتيجة المهمة التي نريد أن نخلص إليها هي أنه، لا يكفي أن تزداد الأجور بمقدار زيادة الإنتاجية في أحوال التضخم. وأن عدم أخذ عامل ارتفاع الأسعار بعين الاعتبار في زيادة الأجور (إضافة لعامل الزيادة في الإنتاجية) لا يؤدي إلى تعويض العمال عن النقص في دخولهم الحقيقية الذي سببه التضخم.

على أنه ينبغي أن نلاحظ - في الوقت نفسه - أن التضخم ذاته قد ينشأ عن الإفراط في زيادة الأجور بما يتجاوز الزيادة في الإنتاجية. ويكون السبب في ذلك وجود تشوهات سوقية تجعل من العمل سلعة يستطيع صاحبها ممارسة قوة احتكارية في السوق، تؤدي به ممارستها إلى الحصول على زيادات مفرطة في الأجور لا يستطيع أرباب الأعمال مقابلتها إلا برفع أسعار منتجاتهم. الأمر الذي يؤدي إلى بدء الحلقة التضخمية الشريرة، من تسابق بين الأسعار والأجور في التزايد.

فالتضخم الذي يسببه الارتفاع المفرط والمتكرر في الأجور هو ذلك النوع الذي تساعد على تخفيفه سياسات الدخول، عن طريق كبح الزيادات في الأجور ووضعها في إطار الزيادة في الإنتاجية. يضاف إلى ذلك أنه حتى في جميع أحوال التضخم الأخرى، ولو لم يكن ناشئاً عن الزيادة المفرطة في معدلات الأجور، فإن سياسات الدخول يمكن أن تستعمل كنقطة بدء تكسر عندها الحلقة الشريرة للتضخم.







) مبررات التدخل الحكومي في تحديد الدخول والأسعار:
يختلف الاقتصاديون اختلافا مبدئياً حول تدخل الدولة في تحديد الدخول والأسعار. فمنهم من يرى في هذه السياسات - وبخاصة الإلزامية منها - مخالفة أساسية لعقيدة حرية السوق، وتجدهم بالتالي يعارضون هذه السياسات من منطلق مبدئي محض.[115] وفي مقابل هؤلاء نجد أن التدخليين اليساريين يرون في معظم سياسات الدخول قصوراً عن مواقفهم المبدئية وسلوكا حكومياً يتجه في صالح أرباب الأعمال، وهم يطالبون بنوع من التدخل يؤدي إلى تغيير توازن القوى السائد في الاقتصاد إلى صالح العمال.

وأهم ما تُنتقد به سياسات الدخول هو تقييدها لحرية المساومة التي يعتبرونها الأساس الذي ترتكز عليه كفاءة قوى السوق في الوصول إلى التخصيص الأفضل للموارد والتوزيع الأمثل لصافي الإنتاج. وذلك على اعتبار أن أي نوع من أنواع الضغط على الأجور سيؤدي إلى عدم قدرة سوق العمل على اجتذاب الحجم والنوعية المناسبة من العمل، وكذلك فشله في إعطاء هذه الأعمال الحصة التي تستحقها من صافي الإنتاج. ومثل ذلك يقال عن الضغط على الأسعار حيث يؤدي إلى تهرب الموارد بعيداً عن إنتاج السلع ذات الأسعار المضغوطة. ولا شك أنه على الرغم من أن مقصد سياسات الدخول والأسعار هو أن تكون شاملة لجميع الأجور والأسعار وليس لبعضها دون البعض الآخر، فإن الواقع التطبيقي، الذي لا يمكن تجنبه، هو أن هذه السياسات لا تستطيع أن تصل إلى جميع الأجور والأسعار، وبالتالي فإنها تقع في مزلق التأثير على الأجور والأسعار النسبية، مما يجعلها غير قادرة على تجنب التأثير المخلّ لآلية قوى السوق.

على أنه، إذا ابتعدنا عن المواقف النظرية المبنية على العقائد التي ينتمي إليها المنظرون، فإن الواقع العملي يثبت أنه يصعب إدارة الاقتصاد - من الناحية التطبيقية - على حسب مقتضيات التبسيط النظري. وبمعنى آخر، فإن واقع العلاقة بين الأسعار والأجور يسوده الكثير من التعقيدات، الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، الناشئة عن التباين الكبير بين القوى الاحتكارية للأطراف وصعوبة قياس المعطيات الضرورية مثل الإنتاجية والتغير بمستوى الأسعار والاختلاف الكثير في طرق حسابها. الأمر الذي يفتح مجالاً كبيرا لتدخل الدولة، على درجاته المتعددة، من الرقابة والملاحظة، إلى التوجيه والتشجيع، وحتى إلى الإلزام باتخاذ المواقف المرغوب بها اجتماعياً وسياسياً، والتي يصعب معرفة صوابها من خطئها إلا بعد فوات الأوان ومرور الأحداث.





3) كفاءة سياسات الدخول والأسعار في تحقيق أهدافها:
من المعروف أن هنالك أهدافاً متعددة لسياسات الدخول والأسعار. وإذا كان حديثنا في هذا القسم من الورقة يتركز على دور هذه السياسات في التأثير على التضخم، فإننا ينبغي أن لا نُغفل حقيقة كون سياسات الدخول والأسعار تهدف أيضاً إلى مقاصد أخرى لعل من أهمها: العمل على تخفيف حدة البطالة، نظراً لما هو معروف من صلة عكسية بين مستوى العمالة وارتفاع الأسعار والأجور، وإحداث تغييرات في اتجاه عدالة التوزيع، وبخاصة عند وجود قوى احتكارية، وحماية المستهلك من جشع المحتكرين.

فسياسات الدخول والأسعار التي تعمل على محاربة التضخم أو كبح جماحه، يمكن أن يكون لها تأثير واضح في ذلك، في بعض الأحوال، وبخاصة عندما يكون التضخم ناشئاً عن ارتفاع تكلفة العمل.

وهنالك من التجارب ما كان له تأثير إيجابي على خفض معدلات التضخم، وبخاصة نتيجة لتلك السياسات الدخلية التي تعتمد على الحوافز الضريبية، من نوع التخفيض في ضريبة الدخل للعمال الذين يقبلون بعدم رفع الأجور بشكل تعتبره السلطة تضخمياً.

كما يمكن أن تتخذ الأساليب الضريبية لسياسات الدخول شكل الكوابح أو العقوبات الضريبية، فتزاد الضريبة على دخل المؤسسة التي تجاوزت المعايير المقررة من قبل السلطات الاقتصادية للزيادة في الأجور. ولا شك أن نجاح هذه السياسات يعتمد على درجة تركز النشاط الاقتصادي. ففي بلد مثل الولايات المتحدة يمكن تطبيق هذه السياسات بشكل خاص على الشركات الكبرى، حيث تنتج أكبر ألف شركة الجزء الأكبر من الدخل القومي في البلاد كلها. وبالتالي، فإن إدارة سياسات الدخول لن تتضمن تكلفة تجعل من العسير تطبيقها، في حين أن تطبيقها في كثير من الدول الأخرى قد يتضمن تكلفة إدارية عالية.

ومن جهة أخرى، فإن مما لا شك فيه أن استمرار السياسات الإجبارية في تحديد الأجور والأسعار يدخل كثيراً من التشوهات في آلية السوق بشكل يجعل من الصعب الوصول إلى التخصيص الأمثل للموارد من خلال قوى السوق. وبالتالي فإن المحاربة الحقيقية للتضخم ينبغي أن تتخذ شكل السياسات النقدية والمالية والتغيير في بنية الاقتصاد بشكل يعمل على إزالة أسباب التضخم وإعادة النشاط لآلية العرض والطلب في السوق دون مؤثرات احتكارية، أو بحد أدنى منها على الأقل. وبمعنى آخر، فإن إجراءات تحديد الأجور والأسعار بصورة إجبارية قد تكون لها فوائد مؤقتة في كبح التضخم ريثما يمكن تفعيل الوسائل ذات الفعالية الأطول أجلاً، بحيث تبدأ آثارها في التخفيف من حدة التوتر.






رابعا- الضوابط الشرعية لسياسات الدخول والأسعار:
إن الحديث عن الضوابط الشرعية لسياسات الدخول والأسعار يجرنا دونما شك إلى الحديث عن التسعير ومدى جوازه في الشريعة. فالدخول، وبشكل خاص الأجور، إنما هي أسعار من جملة الأسعار التي اختلف الناس في جواز تحديدها من قبل الحكومة الإسلامية، أو عدمه.

وخلاصة القول أن الأصل في التسعير المنع على سبيل الحرمة أو الكراهة التحريمية. وذلك للأدلة المتعددة من القرآن والسنة وأقوال الصحابة، مما هو معروف في مواطنه، من عدم أكل أموال الناس بالباطل، ورفض الرسول، صلى الله عليه وسلم، لفكرة التسعير، وتسليط الناس على أموالهم، وغير ذلك.[116] وفيما وراء هذا الأصل، فمن الفقهاء من منع التسعير مطلقاً متمسكا بعموم تلك الأدلة. ومنهم قال بجواز التسعير في أحوال مستخلصة من القواعد العامة بمنع الظلم والسعي لتحقيق مصالح الأمة.

ومبدأ منع الظلم يقوم على اعتبار ممارسة سلطة احتكارية، إما بوجود الاحتكار حقيقة أو بتواطؤ بائعي السلعة أو الخدمة على رفع السعر، مما يضر بالناس.[117] كما يؤكد ابن تيمية على أن من التسعير ما هو عدل، وذلك عندما يتضمن منع أصحاب السلع والخدمات من رفع أسعارها، ممارسة منهم لقوة احتكارية، يتمتعون بها، أو نتيجة لاتفاق فيما بينهم على إغلاء السعر، مع حاجة الناس لسلعتهم.[118] ويشترط ابن تيمية لجواز التسعير من قبل الحكومة شرطين هما: 1) أن تكون السلعة أو الخدمة مما يحتاجه الناس عامة، 2) وأن لا يكون سبب الغلاء قلة الرزق أو كثرة الخلق.[119]

فمن الواضح إذن من فهم ابن تيمية لمسألة التسعير أنه ينطلق من قواعد العدالة ومنع الظلم. فمن العدل التسعير في أحوال يكون فيها المنتج فرداً يمارس قوة احتكارية أو مجموعة من الناس يتفقون فيما بينهم. ويكون التسعير في سلع يحتاجها عامة الناس، أما في سلع يستعملها قلة منهم فقط فلا معنى لترجيح مصلحة المشترين على مصلحة البائعين. وكذلك فإذا كان الغلاء في السعر نتيجة لعوامل العرض والطلب (قلة الرزق أو كثرة الخلق)، فإنه غلاء طبيعي لا يستدعي تدخل الدولة في الأسعار. كل ذلك يدل على أن ابن تيمية لا يتحدث عن غلاء عام في الأسعار من النوع الذي نعرفه اليوم باسم التضخم.

ومن جهة أخرى، فإن نص حديث أنس "قال الناس: يا رسول الله، غلا السعر، فسعّر لنا. فقال: إن الله هو المسعر القابض الباسط الرازق، وإني لأرجو أن ألقى الله، وليس أحدكم يطالبني بمظلمة في دم ولا مال."[120] وهو نص عام في كل غلاء للأسعار سواء أكان تضخمياً أم بسبب قلة العرض الحقيقي (الرزق) أو كثرة الطلب الحقيقي (الخلق). ولكنه بسبب ظروف المدينة المنورة في عهده، عليه الصلاة والسلام، وما هو معروف من عدم كثرة الأموال في عهده، فإن ترجيح ابن تيمية لكون الغلاء المشار إليه في الحديث غلاء ناشئا عن ظروف حقيقية طبيعية من زيادة في الخلق أو قلة في الرزق، وبخاصة أن المدينة المنورة كانت تعتمد على ما يُجلب من الأرزاق، يعتبر ترجيحاً معقولاً، بحيث نستبعد حدوث ظاهرة التضخم في عهده، صلى الله عليه وسلم، وأن امتناعه عن التسعير كان لقناعته بعدم وجود ممارسات احتكارية ظالمة، وأن الغلاء كان يعزى لظروف العرض والطلب الحقيقيين، وليس لأسباب تضخمية.

نخلص من كل ذلك إلى أن التسعير الذي تحدث عنه الفقهاء بما فيهم ابن تيمية إنما هو تسعير انتقائي يقصد منه رفع الظلم في حالة الاحتكار والتعدي، وليس هو التسعير المتعلق بالحد من التضخم وإزالة أسبابه، وإن كا ن كثير من كلام الفقهاء في مسألة التسعير هو مما يشكل مرتكزاً يستأنس به في دراسة الضوابط الشرعية لسياسات الدخول والأسعار.

فإذا بدأنا من نقطة أولية نتفق فيها على سوء النتائج والآثار التي يؤدي إليها التضخم، فإن قواعد الشريعة العامة تدعو إلى الحد منه، بقدر الإمكان، والعمل على إزالة أسبابه.

وبالتالي، فإذا كان التضخم ناشئاً عن تشوهات في بنية الاقتصاد نشأ عنها وجود احتكارات وتكتلات، سواء أكانت للمنتجين أم للعمال، مما يؤدي إلى ارتفاع الأسعار والأجور، فإنه يمكن القول إن مبادئ الشريعة وقواعدها العامة، وفقه التسعير بشكل خاص، تقتضي أن يكون الضابط الأول في سياسات الدخول والأسعار هو منع التظالم من خلال فرض معايير لزيادات الأجور والأسعار، أو تحديدها مباشرة بصورة إلزامية من قبل الدولة. ولا شك أن ما دون ذلك من سياسات الدخول الاختيارية والتشجيعية هو مما يدخل في الممارسات المباحة لولي الأمر، طالما أنه لا تنفق فيه أموال الأمة ولا يلزم فيه الناس بما يقيد تسلطهم على أموالهم وقراراتهم في أنفسهم، التي تركهم الشرع فيها أحراراً.

ولكن هنالك أحوالا أخرى قد لا يكون فيها سبب التضخم زيادة الأجور، كأن يكون سبب التضخم خارجياً مثلاً، نحو زيادة في أسعار المواد الأولية والسلع المستوردة، فهل يجوز في هذه الحالة تحديد الأجور والأسعار في محاولة من الحكومة لكبح التضخم والحد من غلوائه؟

لاشك أن لدينا من القواعد العامة ما يدل على تقديم المصلحة العامة على المصلحة الخاصة، بل وعلى التضحية بالمصلحة الخاصة في سبيل درء مفسدة عامة. ولكن تطبيق مثل ذلك على أحوال التضخم ينبغي أن يكون مع الحذر الشديد لأسباب عديدة، أهمها ما يلي:1) الإضرار بفئات من الناس لم يكن لسلوكها علاقة في نشوء التضخم، 2) ليس من المؤكد أن سياسات تحديد الأجور والأسعار ستؤدي إلى كبح جماح التضخم، 3) الأضرار الكثيرة الناشئة عن تحديد الأجور والأسعار، وبخاصة فيما يتعلق بالكفاءة الاقتصادية، وتخصيص الموارد، وحجم البطالة والإنتاج، 4) الكلفة الإدارية العالية لسياسات تحديد الأجور والأسعار ومراقبة تطبيقها.

لذلك وإذا كان الأصل ترك الأجور والأسعار لقوى السوق التي توصل إلى أجر المثل وسعر المثل، فإننا نرى أن الضابط الثاني لاستعمال سياسات الدخول والأسعار في محاربة التضخم هو أن تكون مؤقتة وتابعة لسياسات وإجراءات نقدية ومالية أخرى تكون هي الأصل في إزالة أسباب التضخم.

يضاف إلى ذلك أن سياسات الدخول ذات الأساس المالي، أي التي تعتمد على الحوافز المالية، وبخاصة الضريبية، ينبغي أن يكون لها ضابط ثالث يتعلق بتوفر معايير العدل فيما بين المكلفين،، فلا يحصل تعد على القاعدة الأصلية التي تقتضي أن تكون الضريبة على قدر المكنة المالية.

وأخيراً، فإنه ينبغي أن لا يغيب عن البال أن مبادئ العدل تقتضي أن لا يحدث حيف على الأجور نتيجة للتضخم، وأن لا يُحمّل عبء التضخم على غير مسببه. فإذا كان ارتفاع عامة الأسعار يعني - بذاته - أن الأجور النقدية للعمال تتآكل وتتضاءل، فإنه التصحيح الذي ينسجم مع مقتضيات العدل هو أن ترتفع هذه الأجور، بما يؤدي إلى عدم نقصان الأجور الحقيقية، وهي تساوي الأجور النقدية مقسومة على مستوى الأسعار. فإذا كان أرباب الأعمال مستفيدين من التضخم، فلم لا يكون الضابط الرابع أن تربط الزيادة في الأجور، في كل صناعة، بقدر زيادة أسعار منتجات تلك الصناعة، بحيث لا تتحقق مكاسب - نتيجة للتضخم- يستأثر بها أصحاب الأعمال مقابل مغارم تقع على عمالهم.




القسم الخامس: الخلاصة والنتائج


يقول أحد الاقتصاديين المعاصرين الأمريكيين "تجد كلا الاقتصاديين والسياسيين يتشددون في السنوات الأخيرة في تبنيهم للرأي القائل بأن مهمة الاستقرار في حجم الإنتاج القومي ومهمة محاربة التضخم ينبغي أن تتركان للسياسة النقدية، وأن السياسة المالية قد فقدت بريقها منذ سنوات ازدهارها في الستينات، وذلك لسببين، أولهما الاهتمام المتزايد بمشكلة العجز الضخم والمستمر في الميزانية العامة، وثانيهما الشك الكبير في قدرة النظام السياسي على اتخاذ القرارات المالية المتعلقة بالإنفاق والإيرادات في الوقت المناسب الذي يمكّن من تحقيق النتائج المرغوبة في الاستقرار"[121]

وإننا نعتقد أن لهذا القول الكثير من المبررات. وإذا كانت قدرة النظم السياسية في معظم البلدان الإسلامية على إدخال التعديلات في نظم الإنفاق العام والإيرادات العامة كبيرة بالنسبة لقدرة النظم الغربية الديمقراطية، فإن معظم البلدان الإسلامية لديها من العوائق الإحصائية والمعلوماتية الشيء الكثير مما يحد من قدرتها على اتخاذ القرار المناسب في الوقت المناسب. وذلك فضلاً عن تزايد العجز في ميزانياتها بشكل مثير للأعصاب. وفوق كل ذلك ضخامة التأثير الخارجي في التضخم الداخلي؛ وهو مما تتعرض له كثير من البلدان الإسلامية إلى درجة تزيد بفارق كبير عما تتعرض الاقتصاديات الغربية الكبرى. كل ذلك يجعل التضخم في كثير من البلدان الإسلامية ذا طبيعة خاصة ترتبط ببنية اقتصاداتها وعلاقاتها الخارجية.

ومن جهة أخرى، فإن التطور السياسي والاقتصادي الحديث لمعظم البلدان الإسلامية، وشكل وطرق نشوء مؤسساتها الاقتصادية، وطبيعة علاقاتها التجارية والمالية والنقدية مع البلدان الأخرى، كل ذلك جعل للحكومة دوراً كبيراً في اقتصادات هذه البلدان، بحيث يمكن القول إن السياسة الحكومية نفسها هي من أهم أسباب التضخم في كثير من البلدان الإسلامية، سواء في ذلك سياستها النقدية، أم سياستها المالية، وبخاصة سياسات الإنفاق وإجراءات العجز في ميزانياتها، أم سياساتها التجارية. بحيث نلاحظ أن لهذه السياسات دوراً في واقعة التضخم، يزيد كثيراً عن دور الهيئات النقابية، أو القوى الاحتكارية للمنتجين الوطنيين.

وبالتالي، وإن كنا نرى أنه ينبغي التركيز على السياسة النقدية للدولة في معالجة مشكلة التضخم في معظم البلدان الإسلامية، فإنه ينبغي أن لا نغفل عن التأثير الكبير لضخامة الإنفاق العام وطريقة تمويله، وبخاصة من خلال الإصدار النقدي (وهو ما يربط السياسة النقدية بالسياسة المالية) وكذلك لسياسات الحكومة الأخرى في وجود التضخم في هذه البلدان، واستمراره، وارتفاع معدلاته. ويزداد ذلك وضوحاً في الاقتصادات التي يشكل فيها الإنفاق الحكومي، بشكليه العادي والتنموي، جزءاً كبيراً من مجموع الاستهلاك والاستثمار في المجتمع.

ولقد حاولنا في القسم الأول من هذه الورقة، النظر في الإيرادات العامة للدولة الإسلامية، وحاولنا استنباط ضوابطها من النصوص والممارسات العملية في العهد النبوي، ومن التطبيقات الواقعية في عصر الصحابة. فوصلنا إلى أن الإيرادات العامة من أربعة أنواع هي: الزكاة، والإيرادات العامة ذات المعنى الخراجي من أملاك الدولة العامة، والإيرادات العامة الناتجة عن أملاك عامة أصلها أن يشترك الناس في فرصة الحصول عليها، وأخيراً الضرائب.

فما يتعلق بالزكاة من سياسات إيرادية لا يمكنه أن يمس معدلاتها ولا الأموال التي تجب فيها، بل يتركز على ما يقع ضمن سلطة ولي الأمر من أساليب التحصيل، ومواعيده من تعجيل وتأخير، ونوع المال الذي يحصل بأن يكون من النقود أو الأموال العينية.

أما بالنسبة للإيرادات من الأملاك العامة للدولة، فأهم ما يقال فيها هو أنها تدور مع معياري المصلحة العامة والعدل، من حيث تحديد معدلات الخراج (عائد الأملاك العامة)، وأساليب جبايته، ومواعيدها تعجيلا وتأخيراً، ونوع المال الذي يؤخذ في الخراج، عينا أو نقداً، وكذلك في تحديد أسعار منتجات القطاع العام، وفي أي تغيير في كل تلك السياسات. ولاحظنا أنه يستخلص من معياري المصلحة والعدل بعض الضوابط الفرعية التي منها: أن لا يخُص الأغنياء، دون الفقراء، ببعض المزايا الخراجية والجبائية، وأنّ توفُّر الإيرادات المناسبة شرط لتقديم بعض أنواع الخدمات والسلع من قبل الحكومة، بما في ذلك التعليم والخدمة الصحية وبعض أنواع الطرق ومسابل المياه.

أما الإيرادات العامة التي تتأتى من أملاك عامة أصلها مما يشترك فيه الناس، كالماء والكلأ والنار، فإن أهم ضابط لسياساتها هو استمرار المحافظة على مبدأ "الناس فيها شرع" بحيث لا تتيح أسعارها ورسومها أن يكون فائض المستهلك من الحصول عليها أكبر لدى الأغنياء مما هو لدى الفقراء.

أما سياسات الضرائب، فإن ضوابطها الشرعية تبدأ بأن لا يكون الهدف من الضريبة مجرد حجز وفورات القطاع الخاص وتحويلها إلى القطاع العام. ينطبق ذلك على إنشاء ضريبة كما ينطبق على الزيادة والتغيير فيها، يلي ذلك أن الضرائب إنما تفرض (أو يزاد فيها) بعد التمحيص الدقيق للنفقات وإلغاء ما يمكن الاستغناء عنه منها، لذلك فالضريبة - وبالتالي السياسة الضريبية - هي آخر سهم في جعبة النظام المالي الإسلامي. يضاف إلى ذلك أن السياسة الضريبية ينبغي أن تلتزم مبدأ الأخذ من الأغنياء، وعلى حسب غناهم، فلا تبنى السياسة الضريبية على الضرائب غير المباشرة - وبخاصة على السلع الأساسية - بل تتركز على الأغنياء، مع الأخذ بعين الاعتبار أن الغنى في الشريعة يعرّف باعتبار الدخل والثروة معاً وليس بواحد منهما دون غيره.

ولقد عرضنا في القسم الثاني إلى سياسات الإنفاق العام وضوابطها الشرعية، فاستنتجنا أن مسائل المصلحة العامة، والعدل، وعدم التحيز للأغنياء، والكفاءة في النفقة، والاعتماد على المبادرة الشخصية والحوافز الذاتية للقطاع الخاص، والالتزام بأحكام الشريعة وأولوياتها، تشكل أهم معايير سياسات الإنفاق العام. وأن مما ينشأ عن الالتزام بهذه الضوابط أن تصاغ سياسة الإنفاق العام بحيث يتساوى في الانتفاع من النفقة العامة الفقير والغني إن لم يستفد منها الفقير أكثر. وقد يقتضي ذلك إعادة النظر بالكثير من النفقات على الخدمات العامة في كثير من البلدان الإسلامية. إذ يصعب جداً الدفاع عن نفقات التعليم، وبخاصة التعليم الجامعي، والنفقات العامة على المدن، وشوارعها وخدماتها، والجانب الأكبر من النفقات الصحية، إذا ما قيست ونوقشت من وجهة نظر تحيزها - بواقعها وطبيعتها - للأغنياء دون الفقراء..

وبعد ذلك قسمنا النفقات العامة إلى ثلاثة أنواع: نوع يتعلق بالقيام بالوظائف الأساسية للحكومة في النظام الإسلامي، ونوع يتعلق بما يشترط لوجوبه على الحكومة توفر الموارد العامة للقيام به، ونوع تفويضي يتفق الناس على تكليف الحكومة به وتحملهم لنفقاته. أما النوع الأول، ومثاله حماية الدين وحراسة البيضة، فضابط السياسة الإنفاقية فيه، إضافة إلى الضوابط العامة السابق ذكرها، هو تحقيق هذه الأهداف المرسومة، بغض النظر عما يتطلبه ذلك من نفقة، فإنه إذا جاع فقير فلا مال لأحد، وإذا دُخلت أرض الإسلام صار الدفاع بالنفس والمال فريضة عين على كل أحد.

وأما النوع الثاني من النفقات العامة، ومثاله الخدمات الاجتماعية والصحية، فإن ضابطها الخاص هو تناسبها مع توفر الإيرادات التي يمكن استعمالها من أجلها كالخراج ونحوه. وتتحد سياسات النفقات العامة من النوع الثالث، وهي التفويضية بمقدار ما تخصصه الأمة لها من موارد مالية.

وفيما يتعلق بالإنفاق على إعانات الأسعار فإن أهم ضوابطها العمل على وصول المعونة من خلال السعر إلى مستحقيها من الفقراء، وأن تتناسب المعونة عكسيا مع استعمال الأغنياء للسلعة المعانة. وذلك مع مراعاة أن الأصل أن يتم تمويل الإعانات للفقراء من أموال الأغنياء، على طريقة الزكاة أو من الزكاة نفسها، بحيث لا تكون هذه الإعانات تضخمية.

ولقد استعرضنا في القسم الثالث عجز الميزانية والضوابط الشرعية في معالجته، وخلصنا إلى أنه بعد تفعيل مؤسستي الزكاة والأوقاف في تقديم ما تستطيع تقديمه من الخدمات العامة والرعاية الاجتماعية، فإنه يمكن العمل على سداد ما يبقى من عجز في الميزانية العامة للدولة بواسطة الأوراق المالية المشروعة التي يمكن للدولة أن تصدرها. ولاحظنا أن هذه الأوراق متنوعة. فمنها ما يقوم على أساس الملكية، وهذه يمكن أن توجد لها سوق ثانوية يتم فيها تداولها بسعر السوق. وهي تشمل: أسهم المشاركة، وأسهم المضاربة، وصكوك الإجارة، وحصص الإنتاج. وبعد عرض الخصائص العامة لهذا النوع من الأوراق، استعرضنا النوع الثاني، وهو ما يقوم على مبدأ المديونية، حيث يكون موضوع الورقة دينا نقديا أو عينيا، يكون بدوره من صنفين، صنف يكون الدين فيه سلعة معينة كما في السلم والاستصناع، وصنف يكون فيه الدين خدمة أو منفعة. وفيما عدا صكوك المنافع والخدمات التي يجوز تداولها في سوق ثانوية، فإن جميع أوراق المديونية الأخرى لا تصلح للتداول في السوق الثانوية. وقد عرضنا أيضاً للخصائص الأخرى للأوراق المالية القائمة على المديونية وتأثير وجودها على سلوك القطاع العام الذي أصدرها وعلى الميزانية العامة.

وناقشنا في هذا القسم الثالث أيضاً مسألتين مهمتين هما: 1) الخوصصة باعتبارها مصدراً مهماً لتوفير الموارد المالية للميزانية العامة، ينفس الوقت الذي تعمل فيه على إنقاص العجز عند خوصصة المشروعات التي تثقل كاهل القطاع العام. 2) والتمويل بالعجز (أي الإصدار النقدي) ورأينا ما لهذا التمويل من آثار ضارة على الاقتصاد بأكمله، والفقراء بشكل خاص.

أما القسم الرابع فقد عرض، بإيجاز شديد، سياسات الدخول والأسعار. وهي تشمل جميع الإجراءات الحكومية المباشرة التي تهدف إلى التأثير على مستويات الأجور والأسعار. وهي تبدأ من الرقابة والإقناع وتنتهي بالإلزام تحت طائلة العقوبات المالية والمادية، مارة خلال ذلك بسلسلة من الحوافز التشجيعية، والروادع المثبطة.

وقد لاحظنا أن هنالك مبررين اقتصاديين لرفع الأجور هما الزيادة في الإنتاجية، وارتفاع الأسعار الذي يؤدي إلى غلاء تكاليف المعيشة، وتآكل الدخول النقدية للعمال. وأن كفاءة هذه السياسات وقدرتها على محاربة التضخم تعتمد على بنية الاقتصاد نفسه ودرجة التركز الصناعي والعوامل الاحتكارية فيه.

وقد عرضنا لأهم الضوابط الشرعية في سياسات الأجور والأسعار. ولاحظنا أن الأصل في التسعير الإلزامي المنع على سبيل الحرمة أو الكراهة التحريمية. وأن جواز تدخل الدولة بالتسعير الإلزامي يستند إلى لزوم منع الظلم الذي ينشأ عن ممارسات احتكارية، سواء أكان ذلك من قبل العمال، أو أصحاب الأعمال. فإذا كان التضخم ناشئاً عن تشوهات في البنية الاقتصادية تقوم على وجود قوى احتكارية تتحكم بالأجور والأسعار، فإن ذلك يستلزم التدخل الحكومي للإلزام بحدود للزيادات في الأجور والأسعار تحول دون التظالم، وأن يكون ذلك بصورة مؤقتة، واستثنائية، ومترافقة مع سياسات وإجراءات نقدية ومالية تعمل على إزالة الأسباب الحقيقية للتضخم، وأن لا تتضمن الكوابح الضريبية لسياسات الدخول والأسعار تعدياً على القاعدة الأصلية في كون الضرائب - حين تفرض - على قدر المكنة المالية


 

التوقيع

 



من كتاباتي
صرخاااات قلم (( عندما تنزف ريشة القلم دما ))
قلم معطل وقلم مكسوووور
عندما ’تطرد من قلوب الناس !!!!!!(وتدفن في مقبرة ذاتك)
دعاة محترفون لا دعاة هواه ( 1)
الداعية المحترف واللاعب المحترف لا سواء(2)
نعم دعاة محترفين لا دعاة هواة!!!! (( 3 ))
خواطر وجها لوجه
همسة صاااااااااااارخه
خواطر غير مألوفه
اليوم يوم الملحمه ...
على جماجم الرجال ننال السؤدد والعزه
عالم ذره يعبد بقره !!!
معذرة يا رسول الله فقد تأخر قلمي
دمعة مجاهد ودم شهيد !!!!!!
انااااااااا سارق !!!!
انفلونزا العقووووووووول
مكيجة الذات
الجماهير الغبيه
شمووووخ إمرأه

 
 
رد مع اقتباس
  #2  
قديم 14-11-2010, 02:40 AM
السراب السراب غير متصل
 
تاريخ التسجيل: Sep 2010
المشاركات: 58
معدل تقييم المستوى: 14
السراب is on a distinguished road
رد: دور السياسات المالية وضوابطها

الدكتور فالح العمره بيض الله وجهك على ما كتبت

رد مع اقتباس
  #3  
قديم 06-05-2011, 04:51 PM
سمو الرووح سمو الرووح غير متصل
 
تاريخ التسجيل: Jan 2007
المشاركات: 31,712
معدل تقييم المستوى: 49
سمو الرووح is on a distinguished road
رد: دور السياسات المالية وضوابطها

تبارك الله

والله يعطيك الصحة والعافية على المجهود الكبير المبذول في دور السياسات المالية وضوابطها ولاهنت

د. فالح العمره

كل التقدير والاحترام لشخصك الكريم.

 

التوقيع

 


تستطيع أن ترى الصورة بحجمها الطبيعي بعد الضغط عليها
كلنا تميم المجد
 
 
رد مع اقتباس
  #4  
قديم 02-06-2011, 10:57 PM
‏جاك العلم ‏جاك العلم غير متصل
 
تاريخ التسجيل: Oct 2010
المشاركات: 77
معدل تقييم المستوى: 14
‏جاك العلم is on a distinguished road
رد: دور السياسات المالية وضوابطها

موضوع رائع لا هنت يا دكتور

رد مع اقتباس
  #5  
قديم 02-07-2011, 05:24 PM
الصورة الرمزية ڠـٍڜـٍڨ پـٍڋۋۑۓ
ڠـٍڜـٍڨ پـٍڋۋۑۓ ڠـٍڜـٍڨ پـٍڋۋۑۓ غير متصل
 
تاريخ التسجيل: Jun 2006
الدولة: [|[ بديآر مآدري وش نهايتهآ ^_^]|[
المشاركات: 1,736
معدل تقييم المستوى: 19
ڠـٍڜـٍڨ پـٍڋۋۑۓ is on a distinguished road
رد: دور السياسات المالية وضوابطها

شكرا أخي العزيز الدكتور / فالح بن عمره

ووإصلٍ منً غيرٍ فوإصلٍ

و إللهٍ يعطيكـً إلعآفيكـ إخيً ـآ إلعزيزً

رد مع اقتباس
رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 
أدوات الموضوع
طرق مشاهدة الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع إلى

 


الوقت في المنتدى حسب توقيت جرينتش +3 الساعة الآن 04:01 AM .


مجالس العجمان الرسمي

تصميم شركة سبيس زوون للأستضافة و التصميم و حلول الويب و دعم المواقع