حياة أميرة عثمانية في المنفى"3"
لا يقف الأمر عند تلك المشاعر التي تكنها السلطانة لعمها،بل يبدو أن أسرتي السلطانين،كانتا تتجنبان اللقاء!
(وكان قد حان الوقت لتمضي إلى تقديم تعازيها لأسرة الميت. وباستثناء الاحتفالات الرسمية التي يحاولن فها عدم التعرف ببعضهن على بعض،فإن هذه أول مرة تلتقي فيها الأسرتان.
وتجتاز السلطانة خديجة الحديقة،متبوعة بأختيها وابنتها،لكي تتجه إلى الجسر المبني من الحجر الذي نبتت عليه الطحالب فيما بعد. وكانت النسوة الأربع يلبسن اللباس الأبيض {هذه "لقطة" تصلح كنهاية ممتازة لحلقة من مسلسل متلفز} لون الحزن،أما اللون الأسود المعتبر كلون الشؤم،فإنه محرم في البلاط العثماني.
وساعدهن الخصيان،فصعدن إلى القارب اللطيف،بعد أن حياهن المجدفون العشرة الذين يلبسون،على ما كانت عليه الحال أيام سليمان الرائع،قمصانا واسعة من الباتيستا وسراويل قرمزية اللون. والمجدفون لا يكونون إلا عشرة،عندما يستقبل الأمراء والأميرات.أما الوزراء فحصتهم ثمانية مجدفين. وأما السلطان فإنه يستخدم عادة (قايق){نوع من القوارب التي تستعمل للنزهات القصيرة في البحر} فيه أربعة عشر مجدفا.
وعندما كان القايق يسبح فوق الماء،كانت السلطانات يرفعن حجبهن لكي يتمتعن بالنسيم العليل،إذ ما من إنسان هناك لكي يراهن. أما المجدفون فعليهم أن يخفضوا عيونهم،وإلا فإن التسريح عقوبتهم. وفي الماضي كان هذا العقاب هو الموت.){ص 31}.
من أي إسلام أخذت تلك العقوبة؟!!! والتي لاشك أن الإسلام بريء مها.. ويا له من فرق شايع بين العقوبتين (القتل) ثم (التسريح)!!! ويا ترى تحت أي تأثير تم تخفيف العقوبة؟! أهو (العدول عن الظلم) فقط،أم لأسباب أخرى؟!! الضغوط الأوربية مثلا!!!!!!!!
ثم ..( وصلت الأميرات إلى قصر بيلربي،وقد دُخن قليلا بهواء البحر،فواكبهن الخصيان في البهو الكبير ذي السقوف المزينة بأشكال هندسية خضراء وحمراء،وذي الجدران المكسوة بمرايا دمشقية مطعمة بالصدف. وكان هذا القصر قد بني في القرن الماضي بأمر من السلطان عبد العزيز،الذي أراد له زينة شرقية فخمة ليتميز بها من الدُرجات{الموضات} الآتية من أوربا. ويروى أنه عندما جاءت أوجيني دو مونتيجو،التي كان يحبها حبا شديدا،أقامت فيه قبل أن تمضي لتدشين قناة السويس،فأمر السلطان بأن تطرز الناموسية،التي تنام تحتها الإمبراطورة بألف حبة من اللؤلؤ الناعم.(..) وعندما ظهرت السلطانات الثلاث،دمدم الحضور دمدمة الدهشة. لكن "الكادين"{أرملة السلطان عبد الحميد} تبتسم،وهي أذكى من أن يخفى عليها السبب السياسي لهذه الزيارة. ومع ذلك فإنها لا تقلل من شأن هذه الزيارة العظيمة. فنهضت على عجل،لاستقبالهن،إذ حتى في ذلك اليوم،الذي وصلت فيه إلى قمة الفخار والتشريف{كونها تستقبل العزاء في السلطان عبد الحميد،لعدم وجود أمه،وهي أكبر الزوجات سنا} لا تنسى الاحترام الواجب للأميرات بالدم. ومهما يكن الأمر فإنها،ككل زوجات السلطان،ليست إلا امرأة من الحريم،تميزت عن غيرها بحظوتها لدى السلطان الشديد القوة.
أما سلمى الغارقة في تقديم احتراماتها الصغيرة،فإنها تقبل يد النساء المتميزات اللواتي يحطن بالزوجة العزيزة. وكانت تتهيأ للسلام على سيدة قميئة جدا جالسة على يمينها،ولكنها أمام نظرات البعض العنيفة التي ركزت عليها،لم تجد بدا من التوقف. فماذا أتت من السوء؟ وبحكم ما اعتراها من الاضطراب،نظرت إلى أمها التي كانت تدفعها بحزم إلى الأمام.
- سلمى،هيا سلّمي على خالتك السلطانة نعيمة،ابنة المرحوم السلطان عبد الحميد.
ولكن البُنية تراجعت وهي تهزّ خُصل شعرها الأحمر،لتثير أكثر العجب والاستغراب.
فأزاحتها عنها أمها إزاحة مفاجئة،والتفتت إلى الأميرة قائلة :
- أرجو أن تعذري هذه الطفلة،فحزنها على فقد عمها لابد أن يكون قد رفع حرارتها.
لكن السلطانة نعيمة،التي قابلت هذا الكلام بشيء من الاحتقار،أزاحت وجهها،كما لو أنها لم تكن تستطيع أن تتحمل رؤية التي تكلمها. وعندئذ انتصبت خديجة بقامتها الطويلة،وألقت على الجماعة الحاضرة نظرة ساخرة،ومضت لتجلس على يسار"الكادين"التي دعتها إلى الجلوس بجانبها. فانتصرت. أما ما ظهر من عامية على ابنة عمها،فقد كان بمثابة الاحترام. وما من شخص هنا يخفى ذلك عليه. وهكذا فإن الجرح بعد أربع عشرة سنة،ما يزال ينزف،كما كان الأمر من قبل! ){ص 32 - 33}.
عدم قدرة الأميرة نعيمة على إخفاء كراهيتها للسلطانة خديجة،لم يأت من فراغ،فعندما تزوجت الأخيرة بزوج فرضه السلطان عبد الحميد عليها :
(.. وكان القصر الذي أهديته من قبل السلطان – كما هي الحال مع كل أميرة تتزوج حديثا – ملاصقا لقصر ابنة عمها نعيمة. وتعودت خديجة أن تزور السيدة الشابة،قريبتها. وكانت تقدم لها نصائحها،كأخت كبرى،وتوصل إليها بواسطة زينل،بعض الهدايا الصغيرة. وسرعان ما جعلت منها صديقة. وكانت نعيمة تعشق زوجها الأنيق،المتفتح،أكبر العشق. فهل من انتقام منها أفضل من أن تسرقه منها. وأية وسيلة أوثق من هذه لكي تجرح جلادها وجلاد أبيها،ذلك الأب الذي كانت تحبه حبا جما،عندما تجعل ابنة السلطان تيأس من الحياة بهذه الصورة؟
وبهدوء وصبر،قامت خديجة،كما لو أنها تقوم بواجب العدالة،بإغواء كمال الدين. وكان ذلك سهلا عليها،لأن نعيمة القليلة الحذر،حرصت،خلافا للتقاليد، على أن يلتقي زوجها،أفضل صديقاتها.وكانت خديجة جميلة،فوقع الباشا في غرامها،وصارحها بحبه لها،في رسائل غرامية عنيفة،كانت تحفظ بعناية. (..) فجعلت من رسائل كما الدين حزمة،ونادت زينل وأمرته أن يسلمها إلى السلطان،مدعيا بأنه عثر عليها بالمصادفة.
وكانت تحرص على الانتقام،وعلى حريتها. ولم يكن لمثل هذه الفضيحة إلا أن تؤدي إلى الطلاق.){ص 34}.
نُفيَ كمال الدين باشا إلى بروسة العاصمة القديمة .. أما السلطانة خديجة،فقد استدعاها السلطان عبد الحميد .. (واكتفى بالضحك الساخر منها و ... أعادها إلى زوجها.
ولن تتخلص خديجة من زوجها إلا بثورة 1908،التي خلعت السلطان عبد الحميد. (..) وبعد ذلك بسنة،وخلال نزهة في "مياه آسيا الحلوة"{نهر صغير في ضواحي إستانبول} التقت خديجة بدبلوماسي جميل،فوقعت في حبه،وقررت الزواج منه.
وكان ذلك الدبلوماسي هو خيري رؤوف بك،أي أنه أبو سلمى وخيري الصغير){ص 34 - 35}.
وجاء عيد (البيرم) – الأضحى – ولكن قبل ذلك،أليس ممن الممكن إعادة الروح – من الموتة الصغرى – إلا بالموسيقى؟ .. (وانتهى صوت منغم،عذب ومُلحّ،بأن يجعل سلمى تستفيق من نومها. فتفتح عينيها،وتبتسم للمراهقة التي تمس العود بريشتها،على مهبط السرير. وهذه عادة شرقية،للحذر من يقظة مفاجئة،ذلك أن الروح،على ما يقولون،تمضي إلى عوالم أخرى. ويجب أن نمنحها الوقت الكافي للرجوع بالتدريج إلى الجسم. (..) وفي ذلك الصباح،شعرت بأنها فرحة بشكل خاص : إنه البيرم. العيد الأكبر في الإسلام،الذي يستعيد ذكرى تضحية إبراهيم بابنه لله،وعلى كل إنسان أن يرتدي ألبسة جديدة ويتبادل الهدايا مع الآخرين. والمدينة كلها تدوي من ضجيج الألعاب،وصرخات البهالين،وباعة السكاكر. (..) ولكن الاحتفالات تكون أعظم ما تكون في قصر ضولمة باهتشه. حيث يستقبل السلطان،لمدة ثلاثة أيام،عظماء دولته وكل أفراد أسرته.
وأبت سلمى كأس الحليب الصباحي،المفروض أن يحفظ لها بشرة حلوة،وقفزت من السرير. ومضت متعجلة إلى الحمام،حيث تقوم عبدتان بتهيئة حمام الورد لها (..) ومن أباريق الفضة يسيل الماء الفاتر على جسد الطفلة الأبيض. وبعد أن تنشفها العبدتان بالموسلين الأبيض،ترشان على جسمها وشعرها رذاذا من تويجات الورود،وتمسدانها لمدة طويلة. (..) وها إن هذه {السلطانة خديجة } دخلت بهوها الصغير،فنهض خيري بك، ليقبل يدها،وبعد أن قال لها ما تقتضي به الأعراف في هذه المناسبة من تمنيات وتهان،قدم لها علبة مجوهرات من المخمل وتقضي الأعراف أن يقدم الرجل لزوجته بمناسبة بيرم،وكذلك بمناسبة عيد ميلاد السلطان،هدية ما لامرأته. فإذا لم يفعل ذلك،فإن هذا إشارة إلى قرب الطلاق. ويتنهد الداماد داخل نفسه. ولكن من حسن الحظ أن سكرتيره يفكر بكل شيء! وكان داخل العلبة عقد عظيم من الياقوت الأزرق،بل شديد الزرقة. وتدمدم الأميرة قائلة :
وأي ماء رائع! {في الهامش : في الشرق العربي اصطلح الناس على قول ماء الألماس،أو مية الألماس،على كل المجوهرات المصنوعة من الألماس}.
وينحني الرجل بهدوء :
لا شيء عظيم الجمال بالنسبة إليك،يا سلطانة! {التعجب من الأصل!}
لقد قام سكرتيره بكل ما يجب أن يقوم به. ولكن أنى له،في مثل أيام الحرب هذه والتضييق من المخصصات المدنية {في الهامش : مبلغ يعطى لأفراد العائلة المالكة للإنفاق على حاجاتهم الشخصية}. أن يدفع ثمن هذا كله؟ (..) ثم سحب من جيبه علبة مجوهرات ثانية،أصغر من الأولى – وهذه اختارها هو – ووضعها بين يدي سلمى. إنها مشبّك،وهو عمل دقيق يمثل طاووسا،له ريش مزين بالزمرد.){ص 37 - 39}.
عذرا .. الآن عرفت سبب علامة التعجب تلك،بعد أن قال للسلطانة أنه لن يذهب إلى الاحتفال،مع أنه سوف يذهب :
( ولكنه لا يستطيع إلا أن يثير زوجته. فمع مضي السنين،أصبح لا يتحمل دوره هذا المصطنع. أما الطلاق،فإنه ليس بموضع بحث. إذ لا يطلق الإنسان زوجته وهي سلطانة،فهي وحدها لها هذا الحق،إذا وافق السلطان على ذلك.
وعلى كل حال فإن خيري بك لا يملك ما يلومها عليه. فهي زوجة كاملة،ولكنها أميرة إلى أقصى الحدود ... ومضجرة إلى حد الموت.{!!!!!!} هكذا كان يفكر،دون أن يعترف أنه مسحوق بشخصية أقوى من شخصيته،مما يحيله إلى مجرد ظل. ){ص 40}.
ما أكثر من يعيشون كـ"ظل"رغم أنهم غير متزوجين بـ"سلطانة"!!!!!!!
نترك هذه الملاحظة غير المهمة،وننقلكم إلى قصر :
(.. ضولمة باهتشه كله بالرخام الأبيض،يمتد بكسل على طول البسفور. ويلاحظ الإنسان فيه كل أساليب العمارة،من كل العهود وكل البلاد،بنظام فوضوي غني. فهناك نجد الأعمدة الإغريقية،والأقواس المورسكية،والغوطية،أو الرومانية Romans،كما نجد الزخرفة المثقلة تغمر الواجهات بباقات الزهر،وأكاليله،والورود {لماذا يصر المترجم على إغضاب سيبويه؟!! فــ"الورد" جمع !!} والرصائع،المزينة بنعومة بالأرابسكات المذهبة. لكن"الطهوريين"يجدون ما يسمونه "بحلوى العروس"شيئا بشعا جدا. ولكن الكثرة،والكرم،والأناقة الخيالية،والجهل البريء،بكل قواعد الزخرفة القانونية،تجعل ذلك كله،قريبا إلى النفس،كما لو أن طفلا وضع كل أنواع الزينة المتباينة،التي وجدها في خزانة أمه،لكي يبدو أجمل مما هو. وهذا لا يفهمه إلا الشعراء،والشعب التركي شاعر.
وعندما دخلت سلمى القصر،تجمدت أمام وابل الذهب والكريستال. وكثيرا ما كانت قد زارته من قبل،{لماذا يعقد تركيب الجملة؟!} ولكنها في كل مرة تقف فاغرة الفم أمام كل هذه الأثقال من الفخفخة. فالشمعدانات والثريات تدوي بآلاف وريقاتها البراقة،وسلّم الشرف مصنوع من "البكراة Baccarat"{في الهامش : البكرا : نوع من الزجاج الثقيل الفرنسي الأصل (من قرية بكرا)} وكذلك المواقد الضخمة ذات الجوانب المقصوصة قصة الماس،والتي تشع بنجمة أضواء متقزحة،يتغير لونها في مختلف ساعات النهار.
وتحب البنية الصغيرة هذا البذخ. فهو يشد عزمها عندما يُدخل في روعها أن قوة الإمبراطورية لا تغلب،وأن ثروتها لا تنفد،وأن العالم جميل وسعيد. هنالك طبعا هذه الحرب،التي يتحدث عنها أصدقاء أبيها،ثم هؤلاء الرجال والنساء،ذو النظرات المحمومة،الذين يتزاحمون حول شبك قصرها،لكي يطلبوا الخبز. إلا أنهم يظهرون في عيني سلمى وكأنهم يسكنون كوكبا آخر،فالحرب بالنسبة إليها ليست إلا كلمة في الفم الثرثار،لدى الأشخاص الكبار.){ص 40 - 41}.
إلى اللقاء في الحلقة القادمة ...إذا أذن الله
س/ محمود المختار الشنقيطي المدني
س : سفير في بلاط إمبراطورية سيدي الكتاب