مكر العظماء ومكر رب الأرض والسماء
الشيخ / توفيق علي
تتعرض الفئة المؤمنة التي وقع عليها اختيار الله للنهوض بالأمة والصعود بها إلى مرتقى الحضارة والتقدم لمكر شديد وصفه رب العالمين: { ومكروا مكرا كبارا } [ نوح : 22 ]، لكن الله عز وجل طمأن الفئة المؤمنة بأنه محيط بمكر الماكرين ومفسده ومحبطه، ووصاهم سبحانه وتعالى بالصبر، وعدم الضيق؛ لأنه لا يصيبهم من مكر الماكرين شيء إلا بإذنه، لحكمة يعلمها سبحانه وتعالى، والعاقبة لهم بإذن الله .
المَكْرُ في اللغة: الاحتيال والخديعة(1).
المكر في الاصطلاح: صرف الغير عما يقصده بحيلة، وهو ضربان:
مكر محمود: وذلك أن يُتحرى بذلك فعلٌ جميل.
ومذموم: وهو أن يتحرى به فعل قبيح.
حقيقة المكر: فعل يُقْصَد به ضر أحد في هيئة تخفى أو هيئة يحسبها منفعة(2).
مكر الله عز وجل
مكر الله استدراجه لعباده من حيث لا يعلمون، قال ابن عباس: "كلما أحدثوا خطيئة جدد الله لهم نعمة"(3).
وقال بعضهم: من مكر الله إمهال العبد وتمكينه من أعراض الدنيا، ولذلك قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه : "من وسع عليه دنياه ولم يعلم أنه مكر به فهو مخدوع عن عقله"(4).
الله سبحانه خَير الْمَاكِرِين: قال تعالى: { ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين } [ آل عمران : 54 ] .
ومعنى "خَيْرُ الْمَاكِرِينَ": أي أقواهم عند إرادة مقابلة مكرهم بخذلانه إياهم(5).
الله أَسرع مكراً
قال تعالى{ ..قل الله أسرع مكرا إن رسلنا يكتبون ما تمكرون } [ يونس : 21 ] .
{ قل الله أسرع مكرا }، أي أشد استدراجاً وإمهالاً حتى يظن الظان من المجرمين أنه ليس بمعذب، وإنما هو في مهلة ثم يؤخذ على غرة منه، والكاتبون الكرام يكتبون عليه جميع ما يفعله ويحضونه عليه، ثم يعرضونه على عالم الغيب والشهادة، فيجازيه على الجليل والحقير والنقير والقطمير(6).
فالله أقدر على التدبير وإبطال ما يمكرون. ومكرهم مكشوف لديه ومعروف، والمكر المكشوف إبطاله مضمون .
لله المكر جمِيعاً
قال تعالى: { وقد مكر الذين من قبلهم فلله المكر جميعا يعلم ما تكسب كل نفس وسيعلم الكفار لمن عقبى الدار } [ الرعد : 42 ] .
"فلله أسباب المكر جميعاً وبيده وإليه، لا يضر مكر من مكر منهم أحداً إلا من أراد ضره به. فلم يضر الماكرون بمكرهم إلا من شاء الله أن يضره ذلك، وإنما ضروا به أنفسهم لأنهم أسخطوا ربهم بذلك على أنفسهم حتى أهلكهم ونجى رسله"(7).
إحاطة الله بالماكرين
قال تعالى: { وقد مكروا مكرهم وعند الله مكرهم } [ الرعد:46 ].
أي هو عالم بذلك فيجازيهم.
{ وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال } [ الرعد : 46 ] أي كان مكراً عظيماً تزول منه الجبال، ولكن الله حفظ رسوله صلى الله عليه وسلم ، والجبال لا تزول ولكن العبارة عن تعظيم الشيء(8).
"إن الله محيط بهم وبمكرهم، وإن كان مكرهم من القوة والتأثير حتى ليؤدي إلى زوال الجبال، أثقل شيء وأصلب شيء، وأبعد شيء عن تصور التحرك والزوال، فإن مكرهم هذا ليس مجهولاً وليس خافياً وليس بعيداً عن متناول القدرة. بل إنه لحاضر عند الله يفعل به كيفما يشاء، فما لهذا المكر من أثر، وما يعوق تحقيق وعد الله لرسله بالنصر وأخذ الماكرين أخذ عزيز مقتدر.
لا يدع الظالم يفلت، ولا يدع الماكر ينجو.. وكلمة الانتقام هنا تلقي الظل المناسب للظلم والمكر، فالظالم الماكر يستحق الانتقام، وهو بالقياس إلى الله تعالى يعني تعذيبهم جزاء ظلمهم وجزاء مكرهم، تحقيقاً لعدل الله في الجزاء. وسيكون ذلك لا محالة"(9).
قال تعالى: { ومكروا مكرا ومكرنا مكرا وهم لا يشعرون } [ النمل : 50 ] .
"كذلك دبروا. وكذلك مكروا.. ولكن الله كان بالمرصاد يراهم ولا يرونه، ويعلم تدبيرهم ويطلع على مكرهم وهم لا يشعرون.
وأين مكرٌ من مكرٍ؟ وأين تدبيرٌ من تدبير؟ وأين قوة من قوة؟!
وكم ذا يخطئ الجبارون وينخدعون بما يملكون من قوة ومن حيلة! ويغفلون عن العين التي ترى ولا تغفل، والقوة التي تملك الأمر كله وتباغتهم من حيث لا يشعرون"(10).
خوف المؤمنين من مكر الله
قال ابن القيم يرحمه الله: "وأما خوف أوليائه من مكره فحق، فإنهم يخافون أن يخذلهم بذنوبهم وخطاياهم فيصيروا إلى الشقاء، فخوفهم من ذنوبهم ورجاؤهم لرحمته.
والذي يخافه العارفون بالله من مكره:
أن يؤخر عنهم عذاب الأفعال فيحصل منهم نوع اغترار، فيأنسوا بالذنوب فيجيئهم العذاب على غرة وفترة.
أن يغفلوا عنه وينسوا ذكره فيتخلى عنهم إذا تخلوا عن ذكره وطاعته، فيسرع إليهم البلاء والفتنة، فيكون مكره بهم تخليه عنهم.
أن يعلم من ذنوبهم وعيوبهم ما لا يعلمونه من نفوسهم، فيأتيهم المكر من حيث لا يشعرون.
أن يمتحنهم ويبتليهم بما لا صبر لهم عليه فيفتنون به وذلك مكر"(11).
مكر الرؤساء والعظماء سنة جارية
قال تعالى: { وكذلك جعلنا في كل قرية أكابر مجرميها ليمكروا فيها وما يمكرون إلا بأنفسهم وما يشعرون } [ الأنعام : 123 ] .
عن ابن عباس: { أكابر مجرميها ليمكروا فيها } قال: سلطنا شرارهم فعصوا فيها، فإذا فعلوا ذلك أهلكناهم بالعذاب.
وقوله تعالى: { وما يمكرون إلا بأنفسهم وما يشعرون } ، أي وما يعود وبال مكرهم ذلك وإضلالهم من أضلوه إلا على أنفسهم(12).
قال مجاهد: يريد العظماء، وقيل: الرؤساء والعظماء، وخصهم بالذكر لأنهم أقدر على الفساد.
والمكر: الحيلة في مخالفة الاستقامة وأصله الَفتل، فالماكر يفتل عن الاستقامة أي يصرف عنها(13).
"إنها سنة جارية أن ُينتدب في كل قرية وهي المدينة الكبيرة والعاصمة نفرٌ من أكابر المجرمين فيها، يقفون موقف العداء من دين الله. ذلك أن دين الله يبدأ من نقطة تجريد هؤلاء الأكابر من السلطان الذي يستطيلون به على الناس، ومن الربوبية التي يستعبدون بها الناس، ومن الحاكمية التي يستذلون بها الرقاب، وردّ هذا كله إلى الله وحده.. رب الناس.. ملك الناس.. إله الناس..
إنها سنة من أصل الفطرة: أن يرسل الله رسله بالحق، بهذا الحق الذي يجرد مدعي الألوهية من الألوهية والربوبية والحاكمية، فيجهر هؤلاء بالعداوة لدين الله ورسل الله، ثم يمكرون مكرهم في القرى، ويوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غروراً، ويتعاونون مع شياطين الجن في المعركة مع الحق والهدى، وفي نشر الباطل والضلال، واستخفاف الناس بهذا الكيد الظاهر والخافي..
إنها سنة جارية، ومعركة محتومة، لأنها تقوم على أساس التناقض الكامل بين القاعدة الأولى في دين الله وهي رد الحاكمية كلها لله وبين أطماع المجرمين في القرى، بل بين وجودهم أصلاً..
معركة لا مفر للنبي أن يخوضها، فهو لا يملك أن يتقيها، ولا مفر للمؤمنين بالنبي أن يخوضوها وأن يمضوا إلى النهاية فيها، والله سبحانه يطمئن أولياءه أن كيد أكابر المجرمين مهما ضخم واستطال لا يحيق إلا بهم في نهاية المطاف. إن المؤمنين لا يخوضون المعركة وحدهم، فالله وليهم فيها، وهو حسبهم، وهو يرد على الكائدين كيدهم: { وما يمكرون إلا بأنفسهم وما يشعرون } . فليطمئن المؤمنون!"(14).
وقال تعالى: { ومكروا مكرا كبارا } [ نوح : 22 ] .
قال مجاهد: كباراً أي عظيماً. { ومكروا مكرا كبارا } ؛ أي باتباعهم في تسويلهم لهم أنهم على الحق والهدى(15).
فهؤلاء القادة مكروا مكراً متناهياً في الكبر:
مكروا لإبطال الدعوة، وإغلاق الطريق في وجهها إلى قلوب الناس.
ومكروا لتزيين الكفر والضلال والجاهلية التي تخبط فيها القوم"(16)
------------
الهوامش
(1) مختار الصحاح،(1-642).
(2) تفسير التحرير والتنوير،ص 1598.
(3) تفسير القرطبي،(4- 99).
(4) مفردات القرآن، ص 1380.
(5) تفسير التحرير والتنوير،ص 758.
(6) تفسير ابن كثير،(2- 542).
(7) تفسير الطبري،(7-408).
(8) تفسير القرطبي،(9- 324).
(9) في ظلال القرآن،( 4-2113).
(10) في ظلال القرآن،( 4- 2646).
(11) الفوائد، ص 164.
(12) تفسير ابن كثير، (2- 232).
(13) تفسير القرطبي،(7- 71).
(14) في ظلال القرآن،(/1202).
(15) تفسير ابن كثير،(4/ 741).
(16) في ظلال القرآن،(6- 3716).