الأخبار المتلاحقة عن التهافت العربي الرسمي للتطبيع مع الدولة العبرية، ومصافحة المسؤولين فيها بمناسبة وغير مناسبة، باتت تصيب المرء بالغثيان، وتجعله يسير منكس الرأس من شدة الحرج، ويلعن حظه العاثر الذي جعله ينتمي الي أمة يتزعمها مثل هؤلاء الحكام والمسؤولين.
فنحن لا نفهم لماذا يعانق الرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة نائب رئيس الوزراء الاسرائيلي شمعون بيريز، خاصة ان الأخير ليس زعيماً عربياً، ولا هو من بين الاصدقاء الحميمين للشعب الجزائري.
واذا كان السيد بوتفليقة يطمح لنيل الرضا الامريكي، والانضمام الي نادي المطبعين، فما الذي يدفع زعيماً روحياً يتمتع بمكانة بارزة بين المراجع الاسلامية مثل السيد الصادق المهدي لمصافحة هذا البيريز ، فهل يريد السيد المهدي العودة الي حكم السودان عبر البوابة الاسرائيلية، بعد ان فشل في العودة اليه عبر البوابات الاخري، ابتداء من المقاومة المسلحة، وانتهاء بمهادنة النظام الحاكم في الخرطوم؟
ان هذا التهافت المجاني المخجل يعكس توجهاً عربياً رسمياً باحتقار الشعوب، والقفز فوق كل القيم والاخلاق العربية، والاسلامية، مما يصب في نهاية المطاف في خانة الجماعات والمنظمات الاسلامية الاصولية المتطرفة، ويسهل مهمتها في تجنيد الشباب المحبط المستعد لتفجير نفسه تعبيراً عن غضبه ورفضه لهذه الأنظمة وممارساتها.
المسؤولون العرب باتوا يذهبون الي المؤتمرات الدولية ليس من أجل الدفاع عن قضايانا العربية والاسلامية العادلة، وانما من أجل مصافحة المسؤولين الاسرائيليين، والانخراط في حوارات معهم، وتبادل الابتسامات، والاحاديث الودية، وكأن هؤلاء لا يحتلون ارضاً، ويجوعون شعبا، ويقتلون اطفالا.
اتخيل المسؤولين العرب يتجولون في اروقة المؤتمرات وهم مادون ايديهم بحثاً عن يد اسرائيلية لمصافحتها، للتأكيد علي تنكرهم لمواقف بلادهم السابقة، وتنصلهم من اي مسؤولية تجاه قضية كانت حتي الامس القريب تعتبر مركزية، ومساندتها واجب اخلاقي وديني وقومي.
سفراء عرب يعودون مظفرين الي سفاراتهم في تل ابيب، ومكاتب تجارية ودبلوماسية اسرائيلية يعاد فتحها في عواصم عربية، ودعوات توجه الي ارييل شارون، رئيس الوزراء الاسرائيلي، للمشاركة في مؤتمر ينعقد في تونس. ورئيس مجلس ادارة اكبر شركة استثمارية عربية ضاقت في وجهه فرص الاستثمار بحيث لم يجد غير المستوطنات الاسرائيلية في قطاع غزة لشرائها ومكافأة مستوطنيها علي سرقتهم لارض العرب ومياههم بشراء مسروقاتهم!
كل هذا التهافت المعيب جاء مقابل الافراج عن خمسمائة اسير فلسطيني انتهت مدة سجنهم، وبات الافراج عنهم مسألة ساعات او بضعة ايام فقط.
لتذكير المتهافتين فقط نقول ان شارون، زعيم اسرائيل مدان بارتكاب المجازر في حق شعب اسمه الشعب الفلسطيني، ينتمي الي امة تسمي الامة العربية، ويعتنق معظم ابنائه ديانة اسلامية، وهو ما زال مستمرا في بناء الجدار العنصري، وتوسيع المستوطنات، واعتقال اكثر من عشرة الاف مواطن يتحدثون العربية بطلاقة، ويصلون الصلوات الخمس جماعة في اوقاتها خلف القضبان.
وللتذكير فقط، نقول ان بيريز هذا الذي يصافحونه ويعانقونه، هو مهندس مفاعل ديمونا النووي، وهو الذي ارتكب مجزرة قانا، وايد اعادة احتلال الضفة الغربية، ووضع الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات تحت الاقامة الجبرية في مكتبه في رام الله، ورفض كل نداءات الاستقالة من منصبه كوزير للخارجية في حينها.
الانظمة العربية، بزعامة شيخ المطبعين الرئيس حسني مبارك، تريد اصلاح علاقاتها مع الولايات المتحدة، وتخفيف الضغوط الممارسة عليها من اجل الاصلاح الديموقراطي، من خلال البوابة الاسرائيلية التي تعتبر الطريق الاقصر والأسرع الي قلب الرئيس بوش والمحافظين الجدد. ومثلما استخدمت القضية الفلسطينية علي مدي ثلاثين عاما لقمع شعوبها، ونهب ثرواتها، ومصادرة حرياتها، تريد استخدامها حاليا من اجل البقاء في الحكم، وتسهيل مسيرة التوريث.
نحن نلوم الفلسطينيين ايضا، كسلطة وحركات مقاومة بسبب مواقفهم الرخوة التي تسهل للحكام المطبعين المتهافتين مخططاتهم هذه، سواء بارتكاب جريمة الصمت، او بالمواقف المؤيدة المساندة.
السيد محمود عباس رئيس السلطة المنتخب وجه اهانة كبري للشعب الفلسطيني عندما وافق ان يقابل شاؤول موفاز، وزير الدفاع الاسرائيلي، ولن نفاجأ في المستقبل القريب اذا ما ارسل اليه شارون ضابطا اسرائيليا لمحاورته علي اساس ان هذا هو المستوي الذي يستحق.
ايضا الفصائل الفلسطينية المقاتلة التي يتوجه مسؤولوها الي القاهرة للانخراط في جولات حوار يتحملون مسؤولية كبري في تشجيع التطبيع. فقد كنا نتمني علي السيد خالد مشعل، زعيم المكتب السياسي لحركة حماس ، الذي انتقد اعادة السفيرين المصري والاردني الي تل ابيب، ان يقاطع هذه الحوارات لايصال رسالة واضحة الي القيادة المصرية برفض كل اهاناتها التي توجهها الي الشعب الفلسطيني وقضيته.
فالرئيس مبارك الذي يواجه سخطا شعبيا مصريا يجب ان لا يكافأ علي استضافته شارون علي ارض مصر في شرم الشيخ، واعادة تقديمه الي العرب والعالم كرجل سلام، وتبرئته من كل مجازره في حق الشعب الفلسطيني، بل وفي حق ابناء مصر، فدماء شهداء مجزرة بحر البقر ما زالت شاهدة علي هذه المجازر.
الكثير من العواصم العالمية ترفض استقبال شارون، والمسؤولين الاسرائيليين الآخرين، مثلما ترفض فتح سفارات اسرائيلية علي ارضها، احتراما لارواح شهداء العرب، وانسجاما مع قيم شعوبها واخلاقها، اما نحن فنتسابق في ما بيننا علي المصافحة والعناق والتطبيع!
عمدة مدينة لندن كين ليفنغستون قال ان شارون يجب ان يكون خلف القضبان ويحاكم كمجرم حرب، ورفض مصافحة الرئيس بوش او استقباله بسبب جرائمه في العراق، وامتنعت حكومة سيرلانكا البوذية الهندوسية عن استقبال وفد طبي اسرائيلي لمساعدة ضحايا كارثة تسونامي، اما زعماؤنا فيفعلون عكس ذلك تماما، بل ربما يعتبرون ليفنغستون هذا عدوا وأحد انصار تنظيم القاعدة، وسيريلانكا دولة مارقة ، معادية للعرب والمسلمين؟!
القدس العربي
15/3/2005