نسبه
هو أبو الوليد حسان بن ثابت من قبيلة الخزرج التي هاجرت من اليمن إلى الحجاز وأقامت في المدينة مع الأوس . ولد في المدينة قبل مولد محمد بنحو ثماني سنين ، عاش في الجاهلية ستين سنة ، وفي الإسلام ستين أخرى . شب في بيت وجاهة وشرف منصرفا إلى اللهو والغزل . فأبوه ثابت بن المنذر بن حرام الخزرجي ، من سادة قومه وأشرافهم . وأمه " الفريعة " خزرجية مثل أبيه . وحسان بن ثابت ليس خزرجيا فحسب بل هو أيضا من بني النجار أخوال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فله به صلة وقرابة .
وكانت المدينة في الجاهلية ميدانا للنـزاع بين الأوس والخزرج ، تكثر فيها الخصومات والحروب، وكان قيس بن الخطيم شاعر الأوس ، وحسان بن ثابت شاعر الخزرج الذي كان لسان قومه في تلك الحروب التي نشبت بينهم وبين الأوس في الجاهلية ، فطارت له في البلاد العربية شهرة واسعة .
وقد اتصل حسان بن ثابت بالغساسنة ، يمدحهم بشعره ، ويتقاسم هو والنابغة الذبياني وعلقمة الفحل أعطيات بني غسان . وقد طابت له الحياة في ظل تلك النعمة الوارف ظلالها . ثم اتصل ببلاط الحيرة وعليها النعمان بن المنذر ، فحل محل النابغة ، حين كان هذا الأخير في خلاف مع النعمان ، إلى أن عاد النابغة إلى ظل أبي قابوس النعمان ، فتركه حسان مكرها ، وقد أفاد من احتكاكه بالملوك معرفة بالشعر المدحي وأساليبه، ومعرفة بالشعر الهجائي ومذاهبه . ولقد كان أداؤه الفني في شعره يتميز بالتضخيم والتعظيم ، واشتمل على ألفاظ جزلة قوية .
وهكذا كان في تمام الأهبة للانتقال إلى ظل محمد صلى الله عليه وسلم نبي الإسلام ، والمناضلة دونه بسلاحي مدحه وهجائه .
حياة حسان بن ثابت في الإسلام
لما بلغ حسان بن ثابت الستين من عمره وسمع بالإسلام فدخل فيه . وراح من فوره يرد هجمات القرشيين اللسانية ، ويدافع عن محمد والإسلام ، ويهجو خصومهما . قال صلى الله عليه وسلم يوما للأنصار: "ما يمنع القوم الذين نصروا رسول الله بسلاحهم أن ينصروه بألسنتهم؟" فقال حسان بن ثابت : أنا لها ، وأخذ بطرف لسانه ، وقال عليه السلام :
"والله ما يسرني به مِقْول بين بصرى وصنعاء"
ولم يكن حسان بن ثابت وحده هو الذي يرد غائلة المشركين من الشعراء ، بل كان يقف إلى جانبه عدد كبير من الشعراء الذين صح إسلامهم . وكان النبي صلى الله عليه وسلم يثني على شعر حسان ، وكان يحثه على ذلك ويدعو له بمثل :" اللهم أيده بروح القدس" عطف عليه ، وقربه منه ، وقسم له من الغنائم والعطايا . إلا أن حسان بن ثابت لم يكن يهجو قريشا بالكفر وعبادة الأوثان ، إنما كان يهجوهم بالأيام التي هزموا فيها ويعيرهم بالمثالب والأنساب . ولو هجاهم بالكفر والشرك ما بلغ منهم مبلغا . كان حسان بن ثابت لا يقوى قلبه على الحرب ، فاكتفى بالشعر ، ولم ينصر محمدا بسيفه ، ولم يشهد معركة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا غزوة .
مما لا شك فيه أن حسان بن ثابت كان يحظى بمنزلة رفيعة ، يجله الخلفاء الراشدون ويفرضون له في العطاء . في نفس الوقت ، فإننا لا نجد في خلافة أبي بكر رضي الله عنه موقفا خاصا من الشعر ، ويبدو أن انشغاله بالفتوحات وحركة الردة لم تدع له وقتا يفرغ فيه لتوجيه الشعراء أو الاستماع إليهم . في حين نجد أن عمر رضي الله عنه يحب الشعر ، خاصة ما لم يكن فيه تكرار للفظ والمعنى . وقد روي عن كل من الخليفتين الراشدين عددا من الأبيات لسنا في صدد إيرادها .
آثار حسان بن ثابت
اتفق الرواة والنقاد على أن حسان بن ثابت أشعر أهل المدر في عصره ، وأشعر أهل اليمن قاطبة . وقد خلف ديوانا ضخما رواه ابن حبيب ، غير أن كثيرا من الشعر المصنوع دخله ، لأنه لما كان لحسان بن ثابت موقف خاص من الوجهة السياسية والدينية ، دس عليه كثير من الشعر المنحول ، قام بهذا العمل أعداء الإسلام ، كما قام به بعض كتاب السيرة من مثل ابن إسحاق .
أغراض شعر حسان بن ثابت
أكثر شعر حسان في الهجاء ، وما تبقى في الافتخار بالأنصار ، ومدح محمد صلى الله عليه وسلم و الغساسنة والنعمان بن المنذر وغيرهم من سادات العرب وأشرافهم . ووصف مجالس اللهو والخمر مع شيء من الغزل، إلا أنه منذ إسلامه التزم بمبادئ الإسلام .
ومن خلال شعر حسان بن ثابت نجد أن الشعر الإسلامي اكتسب رقة في التعبير بعد أن عمر الإيمان قلوب الشعراء ، وهي شديدة التأثير بالقرآن الكريم والحديث الشريف مع وجود الألفاظ البدوية الصحراوية. ومهما استقلت أبيات حسان بن ثابت بأفكار وموضوعات خاصة فإن كلا منها يعبر عن موضوع واحد ، هو موضوع الدعوة التي أحدثت أكبر تغيير فكري في حياة الناس وأسلوب معاشهم . وسنقسم شخصية حسان بن ثابت الشعرية إلى أربعة أقسام هي :
1. حسان شاعر القبيلة : قبل أن يدخل حسان بن ثابت في الإسلام ، كان منصرفا إلى الذود عن حياض قومه بالمفاخرة ، فكان شعره النضال القبلي تغلب عليه صبغة الفخر. أما الداعي إلى ذلك فالعداء الذي كان ناشبا بين قبيلته والأوس . ولقد كان فخر حسان لنفحة عالية ، واندفاعا شديدا .
2. حسان شاعر التكسب : اتصل حسان بالبلاط الغساني ، فمدح كثيرا من أمراء غسان أشهرهم عمرو الرابع بن الحرث ، وأخوه النعمان ، ولاسيما جبلة بن الأيهم . وقد قرب الغساسنة الشاعر وأكرموه وأغدقوا عليه العطايا ، وجعلوا له مرتبا سنويا وكان هو يستدر ذلك العطاء بشعره :
يسقون من ورد البريص عليهم= بردى يصفق بالرحيق السلـل
بيض الوجوه كريمة أحسابهم = شم الأنوف من الطراز الأول
حسان شاعر الإسلام
نصب حسان نفسه للدفاع عن الدين الإسلامي ، والرد على أنصار الجاهلية، وقد نشبت بين الفريقين معارك لسانية حامية ، فكان الشعر شعر نضال يهجى فيه الأعداء ، ويمدح فيه رجال الفريق ، ولم يكن المدح ولا الهجاء للتكسب أو الاستجداء ، بل للدفاع عن الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم. وهذا ينقسم لقسمين :
أما المدح الذي نجده في شعر حسان لهذا العهد فهو مقصور على النبي صلى الله عليه وسلم وخلفاءه وكبار الصحابة ، والذين أبلوا في الدفاع عن الإسلام بلاء حسنا.وهو يختلف عن المدح التكسبي بصدوفه عن التقلب على معاني العطاء والجود ، والانطواء على وصف الخصال الحميدة ورسالة محمد صلى الله عليه وسلم ، وما إلى ذلك مما ينبثق من العاطفة الحقة والعقيدة النفسية ، قال حسان :
نبي أتانا بعد يأس وفترة = من الرسل والأوثان في الأرض تعبد
فأمسى سراجا مستنيرا وهاديا = يلوح كما لاح الصقيل المهنـد
وأنذرنا نارا وبشر جــنة= وعلمنا الإسلام ، فالله نحــمد
وأنت إله الخلق ربي وخالقي = بذلك ما عمرت في الناس أشهد
قصائده في الدفاع عن الرسول صلى الله عليه وسلم
قال ابن إسحاق وكان من حديث كعب بن الأشرف : أنه لما أصيب أصحاب بدر ، وقدم زيد بن حارثة إلى أهل السافلة ، وعبد الله بن رواحة إلى أهل العالية بشيرين بعثهما رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى من بالمدينة من المسلمين بفتح الله عز وجل عليه وقتل من قتل من المشركين كما حدثني عبد الله بن المغيث بن أبي بردة الظفري وعبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم ، وعاصم بن عمر بن قتادة ، وصالح بن أبي أمامة بن سهل كل قد حدثني بعض حديثه
قالوا : قال كعب بن الأشرف وكان رجلا من طيء ، ثم أحد بني نبهان ، وكانت أمه من بني النضير ، حين بلغه الخبر : أحق هذا ؟ أترون محمدا قتل هؤلاء الذين يسمي هذان الرجلان يعني زيدا وعبد الله بن رواحة فهؤلاء أشراف العرب وملوك الناس والله لئن كان محمد أصاب هؤلاء القوم لبطن الأرض خير من ظهرها .
شعرالاشرف في التحريض على الرسول عليه الصلاة والسلام ورد حسان عليه
فلما تيقن عدو الله الخبر ، خرج حتى قدم مكة ، فنزل على عبد المطلب بن أبي وداعة بن ضبيرة السهمي وعنده عاتكة بنت أبي العيص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف فأنزلته وأكرمته وجعل يحرض على رسول الله صلى الله عليه وسلم وينشد الأشعار ويبكي أصحاب القليب من قريش ، الذين أصيبوا ببدر فقال
طحنت رحى بدر لمهلك أهله = ولمثل بدر تستهل وتدمع
قتلت سراة الناس حول حياضهم = لا تبعدوا إن الملوك تصرع
كم قد أصيب به من أبيض ماجد = ذي بهجة يأوي إليه الضيع
طلق اليدين إذا الكواكب أخلفت = حمال أثقال يسود ويربع
ويقول أقوام أسر بسخطهم = إن ابن الأشرف ظل كعبا يجزع
صدقوا فليت الأرض ساعة قتلوا= ظلت تسوخ بأهلها وتصدع
صار الذي أثر الحديث بطعنه = أو عاش أعمى مرعشا لا يسمع
نبئت أن بني المغيرة كلهم = خشعوا القتل أبي الحكيم وجدعوا
وابنا ربيعة عنده ومنبه = ما نال مثل المهلكين وتبع
نبئت أن الحارث بن هشامهم = في الناس يبني الصالحات ويجمع
ليزور يثرب بالجموع وإنما = يحمى على الحسب الكريم الأروع
قال ابن هشام : قوله " تبع " وأسر بسخطهم " عن غير ابن إسحاق .
شعر حسان في الرد عليه
قال ابن إسحاق : فأجابه حسان بن ثابت الأنصاري ، فقال
أبكى لكعب ثم عل بعبرة = منه وعاش مجدعا لا يسمع
ولقد رأيت ببطن بدر منهم = قتلى تسح لها العيون وتدمع
فأبكي فقد أبكيت عبدا راضعا = شبه الكليب إلى الكليبة يتبع
ولقد شفى الرحمن منا سيدا = وأهان قوما قاتلوه وصرعوا
ونجا وأفلت منهم من قلبه = شغف يظل لخوفه يتصدع
قال ابن هشام : وأكثر أهل العلم بالشعر ينكرها لحسان .
ويلحق بهذا المدح رثاء محمد صلى الله عليه وسلم ، فقد ضمنه الشاعر لوعة، وذرف دموعا حارة ، وتذكرا لأفضال رسول الدين الجديد ، وحنينا إليه في النعيم :
مع المصطفى أرجو بذاك جواره= وفي نيل ذلك اليوم أسعى وأجهد
وأما الهجاء النضالي : فقد وجهه إلى القرشيين الذين قاموا في وجه الدين الجديد يحاربونه ويهجون محمدا صلى الله عليه وسلم . وكان موقف الشاعر تجاههم حربا لما بينهم وبين محمد من نسب . أما أسلوبه في هجائه فقد كان يعمد إلى الواحد منهم فيفصله عن الدوحة القرشية ، ويجعله فيهم طائرا غريبا يلجأ إليها كعبد ، ثم يذكر نسبه لأمه فيطعن به طعنا شنيعا ، ثم يسدد سهامه في أخلاق الرجل وعرضه فيمزقها تمزيقا في إقذاع شديد ، ويخرج ذلك الرجل موطنا للجهل والبخل والجبن ، والفرار عن إنقاذ الأحبة من وهدة الموت في المعارك .قال حسان هاجبا بني سهم بن عمرو :
والله ما في قريش كلها نفر= أكثر شيخا جبانا فاحشا غمرا
هذر مشائيم محروم ثويهم= إذا تروح منهم زود القـمرا
لولا النبي ، وقول الحق مغضبة = لما تركت لكم أنثى ولا ذكرا
حسان يرثي النبي محمد صلى الله عليه وسلم
بطيبةَ رَسْمٌ للرّسُول وَمَعْهَدُ= مُنِيرٌ، وَقَد تَعْفُو الرُّسُومُ وتَهْمــَدُ
ولا تَنْمَحي الآياتُ مِن دَارِ حُرْمَةٍ = بها مِنْبَرُ الهادي الذي كانَ يَصْعـَدُ
ووَاضِح ُ آياتٍ، وَبَاقي مَعَالِمٍ،= وَرَبْعٌ لَهُ فيهِ مُصَلَّى وَمَســـْجِدُ
بِها حُجُرَاتٌ كانَ يَنْزِلُ وَسْطَها= مِنَ الله نورٌ يُسْتَضَاءُ، وَيُوقـــَدُ
مَعالِمُ لمْ تُطْمَسْ على العَهْدِ آيُها= أتَاهَا البِلَى، فالآيُ منها تَجــَدَّدُ
عرَفْتُ بِهَا رَسْمَ الرّسُولِ وعَهْدَهُ،=وَقَبْرَاً بِهِ وَارَاهُ في التُّرْبِ مُلــْحِدُ
ظَلِلْتُ بها أبكي الرّسولَ، فأسْعَدَتْ = عُيون، وَمِثْلاها مِنَ الجَفْن ِ تُسـعدُ
تَذَكَّرُ آلاءَ الرّسولِ، وَمَـا أرَى= لهَا مُحصِياً نَفْسي، فنَفسي تبـلَّدُ
مُفجَّعَةٌ قَدْ شَفّهَا فَقْدُ أحْـمَدٍ، = فَظَلّتْ لآلاءِ الرّسُولِ تُعـــَدِّدُ
وَمَا بَلَغَتْ منْ كلّ أمْرٍ عَشـِيرَهُ، = وَلكِنّ نَفسي بَعْضَ ما فيهِ تـحمَد
أطالتْ وُقوفاً تَذْرِفُ العَينُ جُهْدَها = عَلى طَلَلِ القَبْرِ الّذي فِيهِ أحْـمَدُ
فَبُورِكتَ، يا قبرَ الرّسولِ، وبورِكتْ = بِلاَدٌ ثَوَى فيهَا الرّشِيدُ المُســَدَّدُ
وَبُورِكَ لَحْد ٌ منكَ ضُمّنَ طَيّباً، = عَليهِ بناءُ من صفيحٍ، مُنَـــضَّدُ
تَهِيلُ عَلَيْهِ التَرْبَ أيْدٍ وأعْيُنٌ= عليهِ، وقدْ غارَتْ بذلِكَ أسْــعُدُ
لقد غَيّبوا حِلْماً وعِلْماً وَرَحمةً، = عَشِيّةَ عَلّوْهُ الثّرَى، لا يُوَسَّـــدُ
وَرَاحُوا بحُزْنٍ ليس فيهِمْ نَبيُّهُمْ، = وَقَدْ وَهَنَتْ منهُمْ ظهورٌ، وأعضـُدُ
يُبكّون مَنْ تَبكي السَّماوات يَوْمَهُ،= وَمَنْ قدْ بَكَتْهُ الأرْضُ فالناس أكمَدُ
وَهَلْ عَدَلَتْ يَوْماً رَزِيّةُ هَالِكٍ = رَزِيّةَ يَوْمٍ مَاتَ فِيهِ مُحَــــمّدُ
تَقَطَّعَ فيهِ منزِلُ الوَحْيِ عَنهُمُ،= وَقَد كان ذا نورٍ، يَغورُ ويُنــْجِدُ
يَدُلُّ على الرّحمنِ مَنْ يقتَدي بِهِ، = وَيُنْقِذُ مِنْ هَوْلِ الخَزَايَا ويُرْشِــدُ
إمامٌ لَهُمْ يَهْدِيهِمُ الحقَّ جَاهِداً،= مُعلِّمُ صدْقٍ، إنْ يُطِيعوهُ يَسـعَدوا
عَفُوٌّ عن الزّلاّتِ، يَقبلُ عُذْرَهمْ،= وإنْ يُحسِنُوا، فالله بالخَيرِ أجــْوَد
وإنْ نَابَ أمْرٌ لم يَقوموا بحَمْدِهِ، = فَمِنْ عِنْدِهِ تَيْسِيرُ مَا يَتَشــَدّدُ
فَبَيْنَا هُمُ في نِعْمَةِ الله بيْنَهُمْ = دليلٌ به نَهْجُ الطّريقَة ِ يُقْصَـــدُ
عزيزٌ عليْهِ أنْ يَحِيدُوا عن الهُدَى، = حَريصٌ على أن يَستقِيموا ويَهْتَدوا
عَطُوفٌ عَليهِمْ، لا يُثَنّي جَناحَهُ = إلى كَنَفٍ يَحْنو عليهم وَيَمْهــِدُ
فَبَيْنَا هُمُ في ذلكَ النّورِ، إذْ غَدَا = إلى نُورِهِمْ سَهْمٌ من المَوْتِ مُقصـِدُ
فأصْبَحَ محمُوداً إلى الله رَاجِعاً،= يُبَكّيهِ جَفْنُ المُرسَلاتِ وَيَحمــَدُ
وأمستْ بِلادُ الحَرْم وَحشاً بقاعُها، = لِغَيْبَةِ ما كانَتْ منَ الوَحْيِ تعهـدُ
قِفاراً سِوَى مَعْمورَةِ اللَّحْدِ ضَافَها = فَقِيدٌ، يُبَكّيهِ بَلاطٌ وغَرْقـدُ
وَمَسْجِدُهُ، فالموحِشاتُ لِفَقْدِهِ، = خلاءٌ لَه ُ فِيهِ مَقامٌ وَمَقْــعَدُ
وبِالجَمْرَةِ الكُبْرَى لهُ ثَمّ أوْحشتْ = دِيارٌ، وعَرْصَاتٌ، وَرَبْعٌ، وَمــوْلِدُ
فَبَكّي رَسولَ الله يا عَينُ عَبْرَةً = ولا أعرِفَنْكِ الدّهْرَ دمعَكِ يَجْمَدُ
وَمَا لكِ لا تَبْكِينَ ذا النّعْمَةِ الّتي = على النّاسِ مِنْها سابغٌ يَتَغَـــمَّدُ
فَجُودي عَلَيْهِ بالدّموعِ وأعْوِلي = لِفَقْدِ الذي لا مِثْلُهُ الدّهرَ يُوجَــدُ
وَمَا فَقَدَ الماضُونَ مِثْلَ مُحَمّدٍ، = ولا مِثْلُهُ، حتّى القِيَامَةِ، يُفْقـــَدُ
أعَفَّ وأوْفَى ذِمّةً بَعْدَ ذِمّةٍ، = وأقْرَبَ مِنْهُ نائِلاً، لا يُنــــَكَّدُ
وأبْذَلَ مِنهُ للطّريفِ وَتَالـِدٍ،= إذا ضَنّ معطاءٌ بما كانَ يُتـــْلِدُ
وأكرَمَ حَيَّاً في البُيُوتِ، إذا انتمى، = وأكْرَمَ جَدَّاً أبْطَحِيَّاً يُســــَوَّد
وأمْنَعَ ذِرْوَات، وأثْبَتَ في العـُلى = دَعَائِمَ عِزٍّ شاهِقات ٍ تُشــــيَّدُ
وأثْبَتَ فَرْعاً في الفُرُوعِ وَمَنْبِـتاً،= وَعُوداً غَداةَ المُزْنِ، فالعُودُ أغـيَدُ
رَبَاهُ وَلِيـداً، فَاسْتَتَمَّ تَمامــَهُ = على أكْرَمِ الخيرَاتِ، رَبٌّ مُمـجَّدُ
تَنَاهَتْ وَصـَاةُ المُسْـلِمِينَ بِكَفّهِ، = فَلا العِلْمُ محْبوسٌ، ولا الرّأيُ يُفْـنَدُ
أقُولُ، ولا يُلْفَى لِقَـوْلي عَائِبٌ = منَ النّاسِ، إلاّ عازِبُ العقلِ مُبعَدُ
وَلَيْسَ هَوَائي نازِعاً عَنْ ثَنائِهِ، = لَعَلّي بِهِ في جَنّةِ الخُلْدِ أخْـــلُدُ
مَعَ المُصْطَفَى أرْجو بذاكَ جِوَارَهُ، = وفي نَيْلِ ذاك اليَوْمِ أسْعَى وأجْـهَدُ
شعر حسان في تأنيب قريش
قال حسان بن ثابت بعد أحد في غزوة بدر الآخرة يؤنب قريشا لأخذهم تلك الطريق
دعوا فلجات الشام قد حال دونها = جلاد كأفواه المخاض الأوارك
بأيدي رجال هاجروا نحو ربهم = وأنصاره حقا وأيدي الملائك
إذا سلكت للغور من بطن عالج = فقولا لها ليس الطريق هنالك
قال ابن هشام : وهذه الأبيات في أبيات لحسان بن ثابت نقضها عليه أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب ، وسنذكرها ونقيضتها إن شاء الله ( في ) موضعها .
وفيها يقول حسان
دعوا فلجات الشام قد حال دونها
الفلجات جمع فلج وهي العين الجارية يقال ماء فلج وعين فلج وذكره أبو حنيفة : فلحات بالحاء المهملة وقال الفلحة المزرعة . حول كلمة المخاصمة والملك وقوله
جلاد كأفواه المخاض الأوارك
أي التي أكلت الأراك ، فدميت أفواهها ، والمخاض واحدتها خلفة من غير لفظها ، وهي الحامل من النوق ، وقد قيل في الواحد ماخض ومنه قول الطائي
وأخرتها عن وقتها وهي ماخض
وعندي أن المخاض في الحقيقة ليس بجمع إنما هو مصدر ولذلك وصف به الجميع وفي التنزيل فأجاءها المخاض وقولهم ناقة ماخض كقولهم حامل أي ذات مخاض وذات حمل وقد يقول الرجل لنسائه أنتن الطلاق فليس الطلاق بجمع وإنما معناه ذوات طلاق وكذلك معنى المخاض أي ذوات مخاض غير أنه قيل للواحدة ماخض ولم يقل ناقة مخاض أي ذات مخاض كما يقال امرأة زور وصوم لأن المصدر إذا وصف به فإنما يراد به الكثير ولا تكثير في حمل الواحدة ألا ترى أنك تقول هي أصوم الناس وما أصومها ، ولا يقال إذا حبلت ما أحبلها ، لأنه شيء واحد كما لا يقال في الموت ما أموتها ، فلما عدم قصد التكثير والمبالغة لم توصف به كما لا توصف بالسير إذا قلت : ما هي الأسير فإذا كانت إبلا كثيرة حصل معنى الكثرة فوصفت بالمخاض وهو المصدر لذلك فإن قلت : فقد يقول الرجل أنت الطلاق وأنت الفراق قلنا : فيه معنى التكثير والمبالغة ولذلك جاز لأنه شيء يتمادى ويدوم لا سيما إن أراد بالطلاق الطلاق كله لا واحدة ولي كذلك المخاض والحمل فإن مدته معلومة ومقداره مؤقت .
وقوله بأيدي الملائك هو جمع ملك على غير لفظه ولو جمعوه على لفظه لقالوا : أملاك ولكن الميم من ملك زائدة فيما زعموا ، وأصله مألك من الألوك وهي الرسالة قال لبيد :
وغلام أرسلته أمه = بألوك فبذلنا ما سأل
وقال الطائي :
من مبلغ الفتيان عني مألكا = أبي متى يتثلموا أتهدم
و [ أبو تمام حبيب بن أوس ] الطائي وإن كان متولدا ، فإنما يحتج به لتلقي أهل العربية له بالقبول وإجماعهم على أنه لم يلحن وإذا كان الأصل فيه مألكا فإنما قلبوه إرادة إلغاء الهمزة إذ سهلوا ولو سهلوا مألكا ، والهمزة مقدمة لم تسقط وإنما تسقط إذا سكن قبلها ، فقالوا : ملك ، فإذا جمعوا عادت الهمزة ولم تعد إلى موضعها لئلا ترجع كجمع مألكة وهي الرسالة ولو قيل إن لفظ ملك مأخوذ من الملكوت فلذلك لم يهمز لأن . أكثر الملائكة ليسوا برسل ولو أريد معنى الرسالة لقالوا : مؤلك كما تقول مرسل ولضمت الميم في الواحد وتكون الهمزة على هذا زائدة في الجميع كما زادوها في شمأل وهي من شملت الريح لكان هذا وجها حسنا ، وسر زيادة الهمزة في شمأل وهي من شملت الريح فأطلعت الهمزة رأسها لذلك إذ قد اجتمع فيها أنها من عن شمال البيت وأنها شامية وكذلك الملائكة هم من ملكوت الله وفيهم رسل وكواحد منهم من ملكوت الله فقط لأنه لا يتبعض كما تتبعض الجملة منهم فأما قول الشاعر
فلست لا لإنسي ولكن لمألك = تنزل من جو السماء يصوب
فهمز مألكا ، وهو واحد والبيت مجهول قائله وقد نسبه ابن سيده إلى علقمة وأنكر ذلك عليه ومع هذا فقد وصف مألكا بالرسالة لقوله تنزل من جو السماء يصوب فحسن الهمزة لتضمنه معنى الألوك كما حسن في جملة الملائكة إذ للجملة بعض هم إرسال والكل من ملكوت الله سبحانه وليس في الواحد إلا معنى الملكوتية فقط حتى يتخصص بالرسالة كما في هذا البيت المذكور فيتضمن حينئذ المعنيين فتطلع الهمزة في اللفظ لما في ضمنه معنى الألوك وهي الرسالة .
وفاته رضي الله عنه:
توفي حسّان بن ثابت -رضي الله عنه- على الأغلب في عهد معاوية سنة (54 هـ).
نقل بتصرف من مصادر متعددة