الفصل الثالث: :حول التناقض المزدوج بين الدولة السياسية والمجتمع المدني
أولاً- نقد من داخل الليبرالية:
يقوم المجتمع المدني على مفهوم الحرية، بما يعني ذلك غياب العقبات والعراقيل أمام طريق الاختيارات، التي قد يقرر هذا المجتمع المدني السير عليها، ليس طريق الاختيارات الفعلية فقط، وإنما طريق الاختيارات الكامنة أيضاً. ولقد كانت حرية المجتمع المدني، ولا تزال، أي مسألة الحدود، التي لا يجوز لسلطة الدولة السياسية البرجوازية عادة بتجاوزها، هي الباعث للنقاش وللصراع الفلسفي والسياسي، حول التناقض المزدوج بين الدولة السياسية والمجتمع المدني، وعلاقته بأزمة المشاركة السياسية في الحكم، من جانب الجماهير.
إن الليبرالية الغربية، التي تشكل ايديولوجية المجتمع المدني، تعتبر الحرية المبدأ والغاية، التي يجب أن تسود فيه. واستطاعت هذه الفلسفة الليبرالية الكلاسيكية الغربية أن تبني منظومة مكتملة من الأفكار تتعلق بالحرية داخل المجتمع المدني، خلال المراحل الأربع التي مرت بها. ففي المرحلة الأولى من تطور الليبرالية، كان التركيز على مفهوم الفرد، ومفهوم الذات، الذي يميز الفلسفة الغربية الحديثة جميعها، إذ ينطلق التحليل الفلسفي الغربي من الإنسان باعتباره الفاعل الصاحب الاختيار والمبادرة"(1). وفي المرحلة الثانية تم تشييد علمان عصريان مهمان، وهما من أهم إنجازات الثورة البرجوازية في القرن الثامن عشر، أي علم الاقتصاد السياسي العقلاني، المتناقض جذرياً مع الاقتصاد الاقطاعي المتفكك والمجزأ، وعلم السياسة النظرية، المتأسس على العقلانية والعلمانية في العلاقة الحرة بين الأفراد المستقلين والمتساوين، في تناقض جذري مع سياسة الاستبداد الاقطاعي، التي كانت سائدة في النظام القديم.
وقد عرفت المرحلة الثالثة من الليبرالية في الغرب نزعة المبادرة الفردية الخلاقة والمبدعة. وجدير بنا أن نذكر أن مبدأ الحرية، الذي يعتبر من المكونات الأساسية للمجتمع المدني، قد استحل من جانب الدولة السياسية البرجوازية الحديثة والمعاصرة، وحولته إلى مذهب للاضطهاد، أصبح ظاهرة مألوفة جداً في الدول الرأسمالية الصناعية الغربية، لأن سلطة الدولة هناك "قد باعت حقوق الفرد المالك الخلاق باسم حقوق مجردة للفرد العاقل"، في حين أن الإنسان الواقعي الذي تبلور عبر سيرورة معقدة وطويلة على مر الحقب التاريخية، هو الذي يجب أن يكون هدف السلطة السياسية، على نقيض الفرد العاقل الذي يعيش حالة من السيادة الوهمية داخل الدولة السياسية البرجوازية.
يقول هيغل في هذا الصدد: "ليست الدولة في ذاتها مبنية على مصلحة الفرد، وليس هدفها الدفاع عن المجتمع المدني (...) وتمثل الدولة بالنسبة للأسرة وللمجتمع المدني ضرورة خارجية، وقوة متعالية، تتكيف قوانينهما ومصالحهما مع طبيعتها، لكن، في نفس الوقت، تمثل غاية الاثنين معاً. تكمن الغاية العامة مع المصالح الخاصة، ورمز تلك الوحدة هو أن الأسرة والمجتمع يتحملان، إزاء الدولة، واجبات بقدر ما يتمتعان بحقوق"(2).
وإذا كان المفهوم الأساس للحرية في المرحلة الرابعة من الليبرالية حيث يسود مبدأ عدم التدخل، Laissez Faire هو حق الاختلاف أو التباين، والمعارضة، فإن النظام الاقتصادي، والاجتماعي والقانوني، للدولة السياسية البرجوازية السائدة في كل البلدان الرأسمالية الصناعية، حيث تسود النزعة الاقتصادية الفردية غير المحدودة، والمزاحمة الرأسمالية، قد حولت الأغلبية المسحوقة في المجتمع المدني، التي تتمع بالحقوق القانونية في ظل سيادة القانون الانتخابي، والبرلمان، إلى مجرد قطيع خاضع لأقصى درجات الاستغلال، والوحشية، والظلم. فالحرية في هذه المجتمعات المدنية، هي في يد الفئات، أصحاب المصانع، والتجار، وأصحاب الأراضي والملكيات العقارية الكبيرة، والبنوك، والمصارف المالية، وذريعة تدخل الدولة السياسية أو بعض الهيئات الفعالة الأخرى، لكي توفر للأفراد ظروف الحرية الايجابية المتمثلة في مشاركة المجتمع المدني في الانتخابات البرلمانية، لانتخاب ممثلين عنه، باعتبار هذه المشاركة السياسية تمثل ركيزة الايديولوجية الليبرالية، وأساس الديمقراطية الغربية. كما أن صعود القوة المتطرفة للنزعة الفردية الليبرالية، والدعاوة الايديولوجية والسياسية الطنانة للحرية الايجابية، ونعني بها سيادة الديمقراطية الليبرالية، باعتبارها أسلوباً تقنياً للتوفيق ما بين الحرية السلبية والحرية الايجابية، كل هذه المفاهيم المقترنة بتطبيق سياسات هدامة اجتماعياً، واقتصادياً، وسياسياً، لأنها، كانت ولا تزال، تسلح الأقلية من الأقوياء والمتوحشين وغير الأخلاقيين من الرأسماليين، ضد الأغلبية الساحقة من المجتمع المدني، الفقراء والضعفاء، الذين يعيشون من بيع قوة عملهم، ما زالت ماثلة للعيان بشكل واضح، وتؤدي دورها التاريخي في المجتمعات الصناعية الرأسمالية، قناع للطغيان، والاستغلال، والظلم الاجتماعي، الذي تمارسه الدولة السياسية ضد المجتمع المدني عامة، والطبقات المضطهدة والمستغلة فيه بخاصة، تحت ستار قدر أكبر من الديمقراطية الليبرالية، وبالتالي من الحرية في إطار المفهوم العام البرجوازي. وهذا الوضع يعبر عن سيطرة المجتمع السياسي، أي الأدوات المادية والقهرية للدولة السياسية على المجتمع المدني، في تناقض كلي مع أساس فلاسفة الأنوار، ألا وهو المجتمع المدني، حيث أن هدف الدولة السياسية، باعتبارها التركيب الاصطناعي يخدم هذا المجتمع المدني، حسب وجهة نظرهم.
فالايديولوجية الليبرالية، التي تؤمن بسلطان الحرية غير المحدود، وسلطة العقلانية، عملت على تقوية الحكم البرجوازي للدولة السياسية، التي تكمن في سياستها الاقتصادية الرأسمالية المتوحشة، وفي أحزابها ومنظماتها السياسية، وأجهزتنا البيروقراطية الادارية، وليس في معاقل المجتمع المدني فالمشاركة السياسية للمجتمع المدني عبر آلة الديمقراطية، تم بموجبها تأمين ضمان ولاء الطبقات الشعبية، بواسطة اخضاعها وإسهامها، وتبعيتها، بأشكال لحكم البرجوازية. والديمقراطية في المجتمعات الرأسمالية أضحت عملية إشراك رئيسة، واستيعاب شمولية للمجتمع المدني كله من جانب الدولة السياسية البرجوازية بواسطة حقيقة دولة القوانين المسيطرة. وعلى هذا الأساس، كان البرجوازيون بشكل عام قادرين على تقرير وتوقيت طبيعة الدمقرطة، وعلى تكييف طبيعة الانتخاب والترشيح العام، والانتخابات الحرة، ومسؤولية الحكومة تجاه الناخبين بحيث تتلائم جميعها مع جهاز الدولة البرجوازية، وعملية إعادة إنتاج رأس المال، والميكانزمات البرجوازيات لاعادة الانتاج(3).
الحرية في المذهب الليبرالي
وأزمة المشاركة السياسية للمجتمع المدني:
إن القضية المركزية في الايديولوجية الليبرالية هي حرية الأفراد بحسب وجهة نظر أحد أكبر روادها المخلصين، جون ستيورات ميل، في كتابه الشهير "في الحرية". وقد شهد ميل مآزق الإنسان الفرد إزاء تنامي القوى الجديدة الصاعدة، قوى النزعة القومية البرجوازية، والثورة الصناعية، وإزاء الدولة- الأمة، والمنظمة الصناعية، أو المجموعة السياسية، أو الاجتماعية، التي كانت تقوم بتغيير العالم، بواسطة الصناعة الرأسمالية، والثورات الديمقراطية، التي شهدها القرن التاسع عشر في أوروبا، والصراعات بين التنظيمات السياسية.
ومن الواضح أنه لم تكن لدى ميل تنبؤات، على نقيض معاصريه ماركس، بيركهارت، وتوكفيل، فيما يتعلق بالنتائج السياسية والاجتماعية للثورة الصناعية، وللتقدم العلمي الهائل، ولصعود الايديولوجيات الشمولية الدنيوية، وما أفرزت من حروب فيما بينها على المجتمع المدني. وكان ميل قد " أيقض وخشي التوحيد القياسي، وأدرك أن مجتمعاً، باسم النزعة الخيرية، والديمقراطية، والمساواة، في طريقه إلى الوجود تتحول فيه الأهداف البشرية إلى أشكال أضيق وأصغر بشكل مصطنع، كما يجري تحويل غالبية البشر فيه (ولنستعمل عبارته هو)"الحالة الوسطية الجماعية" تحقق الأصالة والمواهب الفردية تدريجياً"(4).
إن ميل يدافع في كراسه عن الحرية، عن الفرد أمام مخاطر الضغوطات الهائلة على المجتمع المدني، من جانب الدولة السياسية. وكانت له ريبة شديدة إزاء الديمقراطية باعتبارها الشكل العادل الوحيد للحكومة، ولكنه أكثر الأشكال جوراً على نحو كامل. يقول ميل: "ليس الفرد مسؤولاً عن تصرفاته أمام المجتمع بمقدار ما يبتعد عن المس بمصالح أي إنسان سواه"(5). ويتابع أن "السبب الوحيد الذي يبيح ممارسة السلطة ممارسة صحيحة على أي فرد في مجموعة متحضرة ضد إرادته هو ان ترد أذاه عن الآخرين. وأن خيره هو على أن يفعل أو يعاني... لأن ذلك برأي لن يكون حكيماً ولا حتى مصيباً"(6).
إن ميل يدافع عن الديمقراطية المباشرة لمصلحة المجتمع المدني، ويعتبر أن الحكم الصالح هو ذلك الذي يسعى وراء "تنمية فضيلة الشعب وذكائه"، ويطرح قضية الحرية في إطار التاريخ الحديث لأوروبا، على حساب الحكم، الذي يشارك فيه المجتمع المدني كله، حين يقول "إن المشاركة يجب أن تكون في كل مكان، وعلى أوسع نطاق تسمح به درجة التقدم العام في المجتمع، وأن الهدف النهائي لا يمكن أن يكون أقل من إشراك الجميع في السلطة العليا للدولة". ويلتقي ميل في هذا المبدأ مع جان جاك روسو، الذي يقول في المشاركة السياسية للشعب" إن كل ما لم يوافق عليه الشعب بنفسه هو لاغ وليس بقانون". إن ميل أصبح متخلفاً عن عصره، جراء تناقضه مع الدولة السياسية الديمقراطية البرجوازية الصاعدة، ويزداد تخلفاً أمام تنامي القوة الصاعدة للثورة الصناعية الثانية. ولذا، فهو يرتد إلى الخلف في محاولة للدمج بين النزعة العقلانية والنزعة الرومانتكية، التي ترتكز على معرفة الذات المسؤولية التربية، والمطالب الديمقراطية المباشرة، وسيادة الشعب. ويعلل هذا التخلف بقوله "إن مشكلة الحرية تطرح بالحاح داخل الديمقراطية بقدر ما تزداد الحكومة ديمقراطية، بقدر ما ينقص ضمان الحرية الفردية (7).
في هذا المجال، ينبه ميل من خطر هيمنة الدولة السياسية على الفرد في المجتمع الصناعي المعاصر، ولذا كان يرى أن هناك رباطاً بين الحرية والمشاركة للمجتمع المدني، وهو يشاركه في هذه النقطة صديقة توكفيل. وقد رأيا بأن تبدأ هذه المشاركة السياسية على المستوى المحلي "فالمؤسسات القائمة على مبدأ المشاركة هي الخطوة الأولى للتربية السياسية، وهي "المدرسة الابتدائية لتعليم فن الحكم"، أو بحسب تعبير توكفيل: "إن المؤسسات المحلية هي للحرية بمثابة المدارس الابتدائية للمعرفة"(8). ثم إن ميل متشائم من الديمقراطية في المجتمعات الصناعية، باعتبارها الشكل العادل الوحيد للدولة السياسية، ولكنها أكثر الأشكال ظلماً وجوراً، لأنها في الوقت عينه، هي حكم الأقلية، التي تملك رأس المال. وهو مرتاب جداً من تمركز السلطة ورقابة الجميع على كل فرد، لأن سلطة كهذه كما يقول د توكفيل يمكن أن تحول أفراد المجتمع المدني بكامله إلى قطيع من "الحيوانات الخانعة المجتهدة التي ترعاها الحكومة". وكان ميل يرى في الدولة السياسية البرجوازية الصناعية تنحو هذا المنحى، حين يقول "إذا كانت الطرق والسكك والبنوك ودور التأمين والشركات المساهمة، والجامعات المحلية، والجمعيات الحزبية، كلها تابعة لادارة الحكومة، وإذا أصبحت زيادة على ما سبق، البلديات والجماعات المحلية مع ما يترتب عنها اليوم من مسؤوليات أقساماً متفرعة عن الادارة المركزية، إذا كانت الحكومة هي التي تعين موظفي تلك المصالح وتكافئهم بحيث يعود أملهم في تحسين معاشهم معقوداً عليها، إذا حصل كل هذا حينئذ تصبح الحرية اسماً بلا مسمى رغم المحافظة على حرية الصحافة وعلى انتخاب المجلس التشريعي بالاقتراع العام"(9).
إن المذهب الليبرالي يركز على الفرد باعتباره أصل المجتمع المدني، وعلى الملكية الخاصة، بوصفها، هي "وحدها ما يجعل البشر أهلاً للحقوق السياسية"(10)، وحيث بواسطة "الملكية حضر الله العالم ونقل الإنسان من الصحراء إلى المدينة، ومن القوة إلى الرقة، ومن الجهل إلى المعرفة، ومن الجهالة إلى الحضارة"(11)، والحرية الاجتماعية والسياسية بالنسبة إليه، تكمن في تطبيقاته العملية على الصعيدين الاقتصادي والسياسي، باعتبار تطورها تاريخياً، لا كقضية فلسفية مجردة. ولنعد إلى مفاهيم الحرية داخل المجتمع المدني، فليس هناك حدود فاصلة كبيرة بين الحرية السلبية والحرية الايجابية. فالحرية السلبية ترتكز على حرية الفرد، بما لا يجوز للدولة السياسية أن تتعدى عليها، أو تتجاوز الحدود المرسومة لها. وهي في المحصلة النهائية هي عنصر من شبكة من القيم المدنية، التي تتضمن احترام الحقوق الشخصية، والحقوق المدنية، وقدسية الحرية الشخصية. أما الحرية الايجابية فهي تفتح عادة الأبواب للمشاركة السياسية للمجتمع المدني، وهي مرتبطة بهذا المعنى منطقياً على الأقل بالديمقراطية.
ومع ذلك، فإن مصالح العلاقة بين الديمقراطية والحرية الايجابية، هي أشد غموضاً، لأن المعنى الايجابي للحرية يكمن في المحاولة لايجاد إجابة على السؤال "من الذي يحكمني؟ أو من "الذي يقرر ما أنا، وماذا سأكون، أو ما سأفعل؟ ولكن ممارسة الحرية الايجابية في الواقع بقدر ما هي تعبير عن رغبة عميقة للمشاركة السياسية من جانب المجتمع المدني، في إدارة شؤونه، تفضي في النهاية إلى الاصطدام الكبير بالايديولوجيات البرجوازية، والشمولية، التي تسيطر على عالمنا المعاصر "لأن هذا التصور "الايجابي" للحرية، ليس التحرر من أن يعيش الفرد شكلاً واحداً مقرراً من الحياة، بل الحرية في أن يعيشه هو ما يمثله دعاة الحرية السلبية بأنه في بعض الأحيان ليس أكثر من قناع خادع للطغيان الوحشي"(12)، أي طغيان الدولة السياسية، مهما كانت برجوازية، أو دينية، عن طريق الحزب، والطبقة، والبرلمان.
ومن هنا ينفصل المجتمع المدني نهائياً عن الدولة السياسية، بل ويدخل في تناقض معها. وفي هذا الموقف الايديولوجي، تأكيد صريح على أن البرلمانيين ممثلي المجتمع المدني، ليسوا إلا منفذين وتابعين لقادة أحزابهم، ويحتفظون بامتيازات، ويخدمون في المحصلة النهائية مصالح الفئات الطبقية الحاكمة، وبالتالي مصالح أدوات الدولة السياسية سواء كانت دستورية أو غير دستورية، نوعية أم مغتصبة للسلطة. لقد كتب دافيد لويديو جورج، بأن "البرلمان ليس له أية رقابة حقيقية على السلطة التنفيذية، وأن هذه الرقابة وهم خالص". لأنه مع تعاظم السلطة التنفيذية، وسلطة الرئيس، يزداد انفلات الرقابة البرلمانية، وهذا يقود إلى إضعاف السلطة التشريعية، أي إضعاف المجتمع المدني، ويصبح البرلمان عبارة عن أداة طيعة، والأمر عينه بالنسبة للنواب، في خدمة السياسة، التي تقرها الحكومة على هواها، حسب ما تقتضيه مصالح الاحتكارات الرأسمالية القومية، أو الطبقة الحاكمة، أو الحزب الشمولي المحتكر للسلطة. يقول كلود جوليان في هذا الصدد: "إذا كانت الحياة الديمقراطية مصابة بفقر الدم، تعود ذلك قبل كل شيء إلى أن أساسها وهو الاستفتاء الانتخابي لا يتيح للمواطنين أن يعبروا عن آراء انتخابية واضحة وأن يمارسوا مسؤوليتهم كأمناء على السيادة القومية.(13).
والحقيقة أن حتى الحرية الايجابية الشكلية جداً، التي تتجسد على صعيد المشاركة السياسية للمجتمع المدني في ممارسة حق التصويت، فإنها في ظل سيطرة سلطة المال، أو ديكتاتورية الحزب الأوحد الشمولي، أو حتى في نظام ديمقراطي حقيقي، تكون سريعة العطب دوماً، وتتقهقر بحسب التبدلات، التي تحدثها الصراعات السياسية، بين الأحزاب والكتل المتنافسة، أو بين السلطة التشريعية والسلطة التنفيذية، أو جراء حدوث أزمات سياسية لهذه الحكومة أو تلك.
ولأن المجتمع المدني، الذي من المفترض أن يتمتع بهذه الحرية، يصبح مبعداً على صعيد التدخل المباشر في تحديد الخيارات السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، بواسطة المشاركة السياسية الجماعية، وبالتالي يكون مسلوب الارادة على صعيد اتخاذ القرارات السياسية. ففي الديمقراطية الكلاسيكية الغربية، نجد أن المواطن السياسي ينحصر حقه في انتخاب القادة والنواب، والحق في التعبير، حيث أن هذه الديمقراطية البرجوازية، تجعله أداة مطواعة مسخرة لخدمة الآلة الانتخابية بنجاح، ومتمتعة بانضباط ذاتي ديمقراطي. وهذه المشاركة السياسية المحدودة والضيقة والمقيدة من جانب المجتمع المدني، هي نقيض لدوره وتدخله المباشر في المجال السياسي.
ويصف جيوفاني سارتوري، الباحث المتعمق في قضايا العلم السياسي، دور الجماهير في البلدان الرأسمالية الصناعية الغربية، من أنه مجرد "خرافة" ينحصر دوره بهذه الأخيرة في كفالة عمل الآلة الانتخابية. "إن التوصل للقرارات السياسية لا يتم من قبل الشعب "السيد". إنما تقدم هذه القرارات إليه. إذ أن عمليات تكوين الآراء لا تبدأ من الشعب، بل تمرر من خلاله(14).
ولكن إذا ما كان للمدارس الفلسفية السياسية، الليبرالية والماركسية، تنشد سمو منزلة المواطن داخل المجتمع المدني، على صعيد المشاركة السياسية، باعتباره أغلى من المؤسسات الدولتية، التي جُعِلت لخدمة المجتمع المدني، فإننا نجدها تقمع حرية المجتمع المدني، بالمعنى الذي قصد إليه الليبراليون البرجوازيون، والفاشيون، والاشتراكيون، الذين شيدوا الدولة السياسية البوليسية، الممتلكة لأدوات القهر السافر. فضلاً عن أن هذه المؤسسات، والحكومة، هي في غايتها نفعية في غاية الصراحة، وتخدم مصالح الأقلية المالكة للثورة، والحائزة على الملكية الخاصة لوسائل الانتاج، أو المتنفذة على صعيد السلطة السياسية. وغالباً ما يقال لنا بأن عالم اليوم، الدولة السياسية الجيدة تجعل المواطن حراً سعيداً داخل المجتمع المدني، بيد أن المحصلة الأخيرة للدولة السياسية في حضارة الرأسمالية الغربية، و"الاشتراكية المشيدة" قبل انهيارها، سواء بسواء، لم تسهم حقيقياً وتاريخياً، في توسيع الحرية الاجتماعية والسياسية، على صعيد المشاركة السياسية للمجتمع المدني.
إن تجربة ممارسة السلطة أثبتت، إن هذه الدولة السياسية الفعلية تسد المنافذ بالنسبة للرأسمالية، والاخفاق الكبير في فتحها، نتيجة لازمة الاشتراكية المشيدة قبل انهيارها، من أمام الاختيارات الفعلية للمجتمع المدني، حيث أن الدولة السياسية في تلك البلدان، قلصت عمل المجتمع المدني إلى الحدود القصوى من التضييق، وهمشته، وهيمنت باطلاقية على الحياة الاجتماعية في كافة صورها وأشكالها، ووضعت أمامه عقبات حقيقية أمام طغيان سلطانها، فغابت بذلك حرية المجتمع المدني، ودينامكيته الداخلية في المشاركة السياسية، لأن الحرية لا تضمنها الدساتير أو المحاكم على حد قول (ليوندهاند).
ثانياً- الماركسية والتخطي الجدلي للتناقض بين المجتمع المدني والدولة السياسية
ليس ثمة نظرية تبدو للوهلة الأولى أنها على تناقض جذري صارم مع النظرية الليبرالية الكلاسيكية أكثر من الماركسية، فإن المبادىء الأساسية المتعلقة بامكانية خلق مجتمع مدني متجانس قائم على أسس واقعية للديمقراطية، والعقلانية، والمواطنة، وحقوق الانسان، والالتحام بين الحرية والمساواة، هي مبادىء مشتركة بين الاثنتين. ومع أن الليبرالية والماركسية تتناقضان بشكل حاد بخصوص الغايات والأساليب، والدور التاريخي الذي قدر للبروليتاريا أن تلعبه، إلا أن على حدودهما كان يتم تداخل الواحدة منها بالأخرى، باعتبار أن الماركسية، التي ترعرعت في موروث الفلسفة الليبرالية الكلاسيكية الأوروبية، شكلت تحولاً تاريخياً على نحو متواصل، وقفزة ثورية وفق نمط مترابط منطقياً، حيث أبدعت جدلاً نوعياً جديداً في غمار النضال الثوري، مستفيدة، ومنقذة، ومحافظة في الوقت عينه، في سيرورة تطويرها للنواة العقلانية الحقة لجدل هيغل، ومنتقدة إياه من مواقع نظرية نوعية. فإذا كان الاقتصاد السياسي الانكليزي، والاشتراكية الفرنسية، والفلسفة الكلاسيكية الألمانية، شكلت المصادر النظرية الأساسية للفلسفة الماركسية، فإنه والحق يقال تمثل النظرية الماركسية الوريث الشرعي للمنجزات الجدلية المثالية، من القرن السادس عشر إلى منجزات هيغل الجدلية، التي طرحت مسألة تطابق الجدل من المنطلق ونظرية المعرفة، والتي كانت في الوقت عينه، نقطة انطلاق لأسس الماركسية، والتجاوز الجدلي الخلاق والمبدع للنظرية الليبرالية الكلاسيكية الأوروبية عامة.
ذلك إن الماركسية درست، وحللت، واستخلصت الدروس، التي قدمتها الثورات البرجوازية الأوروبية في الماضي، فيما يتعلق بمفهوم المجتمع المدني وعلاقته ببناء الديمقراطية، وبخاصة الثورة الانكليزية خلال أعوام 1640- 1649، والثورة الفرنسية الكبرى خلال أعوام 1789- 1794، وربيع ثورات 1848، التي اجتاحت أوروبا، وهدمت عروش الملكية المطلقة، وقضت على الاقطاعية، ونجحت في مرحلة صعودها في إحداث تطورات تاريخية عظيمة لا تتزعزع في مجال بناء مجتمع مدني منعتق سياسياً، يسود فيه مبدأ الحق البرجوازي، حيث تشكل الملكية الخاصة عامة، والملكية الخاصة لوسائل الانتاج بخاصة، الضمانة الحقيقية لنظام الدولة السياسية البرجوازي.
إن مفهوم المجتمع المدني عند ماركس ينطلق من السياسة كتجريد، حيث يمثل نقد فلسفة الحق لهيغل 1843، والمسألة اليهودية، النقد الأكثر جذرية، التي كان موضوعه الحق والدولة الدستورية التمثيلية الحديثتين، وذلك باسم الديمقراطية الجذرية، حيث يبقى هذا النقد أدنى بكثير من الناحية النظرية من نقد الرأسمال، ولكنه شكل مرحلة انتقالية، المحرك لايصال نقد السياسة إلى نقد الاقتصاد السياسي، أي إلى نقد رأس المال، باعتباره يدخل في سياق عميق التحليل النظري لنمط الانتاج الرأسمالي، وللعلاقات الانتاجية الرأسمالية الجديدة. كتب ماركس في مقدمة كتاب مساهمة في نقد الاقتصاد السياسي، يقول"... وساقتني أبحاثي إلى النتيجة التالية، وهي أن العلاقات الحقوقية، شأنها بالضبط شأن أشكال الدولة لا يمكن فهمها لا بحكم ذاتها، ولا بحكم ما يسمى التطور العام للروح البشرية، وإنما على العكس، تمد جذورها في العلاقات الحياتية المادية التي يسمى هيغل، مجموعها "بالمجتمع المدني" على غرار ما فعل الكتاب الانجليز والفرنسيون من القرن الثامن عشر، وأنه ينبغي البحث عن تشريح المجتمع المدني"(15).
ويظهر أول نقد علمي للاقتصاد السياسي، الدولة السياسية البرجوازية، كامتداد، تعبر عن علاقات الانتاج الرأسمالية، التي تتمفصل عليها، وإن استقلالها مرتبطة، بتبعيتها لبنية التبادل من أجل الانتاج، أي بتشكل المجتمع المدني في طبقات متناقضة.
وهكذا، فالمجتمع المدني، يختزله ماركس إلى مواجهة ذريه للمصالح الخاصة واعتباره مجتمع غير سياسي، تحدده تناقضات المصالح فيه، الدولة السياسية البحتة و"شكلياتها وبيروقراطيتها كتوسط مجرد وعاجز لمصالحه".
يقول ماركس "وإن النظام الذروي الذي يتجلى بواسطة المجتمع المدني عندما يعبر عن ذاته سياسياً، ناتج بالضرورة عن كون المحيط الجماعي الذي يعيش فيه الفرد فعلاً هو المجتمع المدني المفصول عن الدولة... الدولة السياسية".
إن رأي ماركس عن المجتمع المدني قريب من رأي هيغل، الذي يرى أن هذا المجتمع، خاضع كلياً لمفهوم المنفعة، ويهدف إلى توحيد المصالح الفردية، ويفصله عن مفهوم الدولة المستقل عن مفوم المنفعة. وماركس يعتبر المجتمع المدني نتاج التطور التاريخي البرجوازي، متميز بالتنافس والصراع بين المصالح الاقتصادية الفردية، ومتماثلاً مع الاقتصاد البرجوازي الصاعد، ومع النزعة الفردية، أساس الأخلاقية البرجوازية.
"غير أن حياة الشعب الجوهرية، الديمقراطية الحقيقية، التي هي المطلب الأول والأهم لهذه الذرية، تتجلى في نفس الوقت من ذريه المجتمع المدني، مغتربه ومنفصله عن ذاتها.إذا ذاك يتم تعريف الدولة السياسية، في نهاية الأمر بالنسبة لحياة الشعب الممنوعة والتي هي الأساس. يغترب الشعب (الذات) في المجتمع المدني الذرّي الذي يخلق تجريد ذاته (توسط خيالي) الذي هو الدولة... تمد حياة الشعب عبر الدولة السياسية لأنها منقسمة أساساً بالتعارض الواقعي للمصالح الخاصة، هو تناقض يحدد المجتمع المدني"(16).
إن النتيجة التي توصل إليها ماركس في نقده فلسفة الحق العام عند هيغل، هي مسألة الانفصال بين المجتمع المدني والدولة السياسية، الذي يتم في العالم البرجوازي، المترافق مع تأكيد سلطة البرجوازية كطبقة مسيطرة، والدولة الديمقراطية البرجوازية، تؤكد هذا الانفصال، الذي يصيب كل عضو فرد في المجتمع المدني. إنها تؤكد هذا الانشطار بين الوجودين، وجود الفرد البرجوازي العيني، الفردي، الانساني في المجتمع المدني، ووجود المواطن المجرد الشامل والمساواتي في الدولة السياسية، التي يمارس فيها سيادة مجردة ووهمية.
والإنسان في هذه الدولة الديمقراطية البرجوازية، لا يمكن أن يعيش في الواقع حياة مزدوجة سماوية وأرضية، لأن حياة الإنسان في هذه الدولة البرجوازية، التي تتحدد فيها قيمة الإنسان، باعتباره كائناً اجتماعياً، "يكون هذا الإنسان عضواً موهوماً في سيادة موهومة"، أما في المجتمع المدني (أي بصورة خاصة في الحياة الاقتصادية)، الذي يتصرف فيه باعتباره "فرداً خاصاً، ويرى في البشر الآخرين مجرد أدوات، وينزل هو بنفسه إلى مجرد أداة، ويصبح لعبة في يد قوى غريبة، إذ أن الدولة السياسية تجاه المجتمع المدني هي كائن روحي روحية السماء تجاه الأرض".
هذه الحياة المزدوجة للإنسان، وهذا الإنشطار في حياة الإنسان، وهذا النزاع الذي يتواجد فيه الإنسان، هو الذي يفضي على حد قول ماركس إلى الانشقاق الدنيوي، بين المجتمع المدني والدولة السياسية. يقول ماركس في هذا الصدد: "إن الدولة السياسية تتواجد حيال المجتمع المدني في نفس التضاد، وتذلله بنفس الأسلوب، الذي يذلل به الدين محدودية العالم الأرضي".
إن هذه الحياة المزدوجة للإنسان في الدولة الديمقراطية البرجوازية، أو هذا الانشطار بين حياته الخاضعة لسلطة الوحوش الضارية في غابة (رأس المال)، حيث أن حياته في المجتمع المدني هي أقرب في الواقع إلى الكائن الدنيوي، وبين حياته الموهومة على سيادة موهومة، باعتباره مواطناً مجرداً في الدولة السياسية. إن هذا الانشطار، هو الذي أفضى كما قال ماركس إلى الانشقاق الدنيوي بين المجتمع المدني والدولة السياسية، الناجم عن التناقض بين الانسان البرجوازي ومواطن الدولة، بين التاجر والصناعي الرأسمالي ومواطن الدولة، بين مالك الأرض الرأسمالي أو العقاري ومواطن الدولة، بين المصلحة العامة والمصلحة الخاصة، بين الطابع الاجتماعي للعمل وبين أسلوب التملك الخاص لوسائل الانتاج ولنتائج العمل، وبين الفرد الحي ومواطن الدولة. إن هذا الانشقاق بين المجتمع المدني والدولة السياسية قائم على هذه التناقضات الدنيوية. وهذه هي السمة الجوهرية للألينة السياسية، Aliéation politique والألينة الدينية، Alienation religieuse.
يقول روجي غارودي في موضوع الانشطار هذا، مستنداً على بحث ماركس في المسألة اليهودية، "فالإنسان، وهو أسير العزلة الأنانية في مجاهل الاقتصاد البضاعي، وحبيس القوى الغريبة، التي تهدد وتطحنه، يعيش نفس الانشطار الذي يميز الوجود الديني: فهو في حياته الواقعية، فرد معزول عن الحياة الانسانية الحقة التي هي وفق تعبير ماركس، حياة "كائن نوعي"، وهو يبحث عن بديل لهذا النقص، لهذه العاهة، "بديل سماوي"(يقول ماركس في المسألة اليهودية، بأن "وجود الدين هو وجود عاهة، وجود نقص")، فنراه "يسقط" حياته "النوعية" الانسانية حقاً في مقابلة الفردية الأساسية، التي تتضمنها الرأسمالية، والاقتصاد البضاعي بصورة أعم)، يسقطها في السماء، حيث يسود الحب وحيث يتعرف الانسان إلى نفسه ككائن وعي (يعيش ويموت من أجل الإنسان بكليتها)، ولكن بصورة غيرمباشرة، كما يقول ماركس، من خلال وسيط، هو المسيح المخلص، أي: لا في الحياة الفعلية، بل بتعويض موهوم في "أَلْيَنَة"(17).
وفي نقد فلسفة الحق لهيغل، يقول ماركس إن الدين في كل مجتمع بضاعي، يعبر عن كل "ما يفتقد" في هذا العالم، فهو "تكملته العلوية"، وذريعته العامة عزاء وتبريراً.. إنه التحقيق الخارق للجوهر البشري، لأن هذا الجوهر البشري لا وجود له في الحقيقة". أما في المسألة اليهودية، فهو يقول: إن الدولة لا تستطيع أن تصرف النظر عن الدين، لأن القاع الانساني للدين يتحقق فيها بشكل دنيوي".
إن السؤال الذي يطرح نفسه هنا، هل يمكن تجاوز هذا التناقض العقلاني بين الدولة السياسية التمثيلية والمجتمع المدني الممزق، من خلال تحويل الديمقراطية التمثيلية إلى ديمقراطية فعلية. وذلك بواسطة تسييس المجتمع المدني؟ " إنه ميل المجتمع المدني إلى اتخاذ وجود سياسي، أو إلى جعل الوجود السياسي وجوده الفعلي الخاص به"، يسمى هذا الميل حتى اليوم مشاركة"، وإن يكن ماركس يتصوره بطريقة تبدو الآن محدودة (بيد أنها ذات مغزى كبير تاريخياً)" بوصفها أهم مشاركة ممكنة في السلطة التشريعية"(18).
ولما كانت الدولة الانتخابية لا توجد إلا باعتبارها دولة سياسية تمثيلية، حيث تجعل من الديمقراطية السياسية أداة لاعادة إنتاج السيطرة البرجوازية، فان كلية الدولة السياسية هي السلطة التشريعية. وينجم عن هذا، مطلب وسعي المجتمع المدني في المشاركة السياسية، وبالتالي إلى التغلغل في السلطة التشريعية عبر الانتخابات التشريعية، القائمة على التعددية السياسية، من أجل أن يبلغ وجوده السياسي، أي وجوده الفعلي، أي من أجل التحول إلى مجتمع سياسي، أو جعل هذا المجتمع السياسي مجتمعاً فعلياً. وتمثل الانتخابات حسب تعبير ماركس" العلاقة الفعلية للمجتمع المدني الفعلي بمجتمع السلطة التشريعية المدني، بالعنصر التمثيلي. وهذا يعني بتعبير آخر أن الانتخابات هي علاقة المجتمع المدني المباشرة، الصريحة، التي ليست تمثلية، وحسب، بل موجودة فعلاً بالدولة السياسية. ولهذا من المفهوم بديهياً أن تشكل الانتخابات مصلحة سياسية في غاية الأهمية للمجتمع المدني الفعلي. وفي الحق الانتخابي غير المحدود، النشيط والهامد، ارتفع المجتمع المدني فعلاً، للمرة الأولى إلى التجرد من نفسه بالذات، إلى الوجود السياسي بوصفه وجوده الحقيقي، العام الجوهري. ولكن السير بهذا التجريد إلى النهاية في الوقت نفسه هو الغاءله. إن المجتمع المدني، إن أكد وجوده السياسي بوصفه وجوده الحقيقي، إنما جعل بالتالي من وجوده المدني، فيما يميزه من الوجود السياسي، غير جوهري، وبسقوط أحد العنصرين المفصولين أحدهما عن الآخر يسقط نقيضه(19).
وهكذا، فإن اشتراك المجتمع المدني في الدولة السياسية، بواسطة النواب، لا يمكن أن يكون إلا في خدمة مصلحة الدولة السياسية البرجوازية، حيث تشكل الديمقراطية الدين العلماني لهذا الدولة والمواطن، في آن معاً.
وإذا كان التحرر السياسي للمجتمع المدني، فقد شكل خطوة تقدم كبيرة، حيث أن الديمقراطية البرجوازية قد حطمت الامتيازات الاقطاعية، وأعلنت المساواة السياسية، عبر المشاركة السياسية للمجتمع المدني، ولكنها أبقت على الامتيازات الاقتصادية الرأسمالية، والاضطهاد، والاستغلال البرجوازي، فان هذا التحرر السياسي عينه، متطابق مع سيادة الرجل الخاص البرجوازي في الدولة السياسية، وبالتالي فهو ليس كل التحرر الإنساني بل إنه تحرر مخادع ولأن الديمقراطية البرجوازية من وجهة النظر الماركسية لم تشكل أبداً تخطياً جدلياً للانشقاق، أو الانفصال، أو التناقض المزدوج بين المجتمع المدني، من دون أن يكتمل ببعده الملازم له، أي التاريخي والعالمي، أي التحرر الاجتماعي والإنساني يظل ويستمر اغتراباً سياسياً، أو ألينة سياسية، حيث سلطة الدولة السياسية تتجلى في سيادة سلطة الملكية الخاصة لوسائل الانتاج. إن التاقض بين المجتمع المدني والدولة السياسية، وقد اكتمل في وجوده كتناقض كلاسيكي بين الاتحاد الحقوقي العام والنظام العبودي، يقود إلى وجود المجتمع المدني العبودي، الذي أصبح يشكل الأساس الطبيعي للدولة السياسية الديمقراطية البرجوازية، "مثلما كان المجتمع المدني العبودي الأساس الطبيعي الذي ارتكزت عليه الدولة القديمة. أن وجود الدولة ووجود العبودية مترابطان أحدهما بالآخر بعرى لا انفصام لها"(20).
من هنا يندرج البرنامج الثوري لماركس، الذي يطرح على مختلف مكونات المجتمع المدني السياسية، والنقابية، وهياكله الاجتماعية والطبقية المستغلة، والمضطهدة، لاستعادة، ولامتصاص "قواهم الخاصة"، بغية التخطي الجدلي لهذا التناقض المزدوج بين المجتمع المدني والدولة السياسية البرجوازية الضامنة الرئيسة لملكية البرجوازية لوسائل الانتاج، ومصالحها، عبر الثورة الاجتماعية، باعتبارها ثورة تهدف إلى تحرير المجتمع المدني بأسره، وإلى تحرير الدولة البرجوازية ككيان قائم منفصل عن هذا المجتمع المدني المأزوم. ولقد أعطى ماركس هذا الدور التاريخي والتحريري لطبقة من طبقات المجتمع المدني، هي "البروليتاريا"، باعتبارها الطرف الحاسم في هذا التناقض الأساس في هذا المجتمع البرجوازي، القادر على حله، وانطلاقاً من رؤيته العقلانية للتطابق الحاصل بين ثورة الشعب مع تحرر الطبقة العاملة. "ولا يمكن لهذا التحرر الاجتماعي أن يرتكز إذن إلا على الغاء التفكيك السياسي، وليس على الديمقراطية، بل على نقد قواعد الديمقراطية، ليس على الدولة الحرة، بل على تحرير الدولة السياسية. هكذا تظهر الشيوعية بمثابة مشروع لاعادة تنظيم القوى الاجتماعية، واعادة امتلاك المنتجين لقوتهم الاجتماعية المنفصلة عنهم في شكلها السياسي"(21).
إن هذا التحرر الاجتماعي والإنساني الحاسم، يعتبر مكملاً للتحرر السياسي للمجتمع المدني البرجوازي السابق، الذي من الواجب الاستفادة منه، من مختلف الحقوق السياسية والمدنية، والحرية، والمساواة، التي تحققت في عهد البرجوازية، باعتبارها حقوقاً مثلت تقدماً عظيماً بالنظر إلى الامتيازات الاقطاعية، من أجل توظيفها بشكل صحيح نحو بناء علاقات اجتماعية وسياسية وحقوقية إنسانية جديدة، خالية من الاضطهاد، والاستغلال، والعسف.
هوامش الفصل الثالث:
(1)- د. عبد الله العروي- مفهوم الحرية- المركز الثقافي العربي- الدار البيضاء- المغرب الطبعة الثانية 1983 (ص40).
(2)- المقطع مأخوذ من كتاب عبد الله العروي- مفهوم الدولة- الطبعة الثانية 1983- دار التنوير للطباعة والنشر (ص24).
(3)- بولان ثربورن- سلطة الدولة- حول ديالكتيك- الحكم الطبقي- ترجمة عبد الله خالد- دار المروج 1985 (ص141).
(4)- اشعيا برلين- أربع مقالات في الحرية- ترجمة عبد الكريم محفوض- منشورات وزارة الثقافة والارشاد القومي- دمشق- 1980 (ص371).
(5)- جون ستيورات ميل "الحرية" طبعة الكلاسيك العالمي (ص115).
(6)- المصدرالسابق (ص150).
(7)- جون ستيورات ميل في الحرية- هارموندرورت- 1974 (ص62).
(8)- الصديق محمد الشيباني- أزمة الديمقراطية- الغربية- المعاصرة- المركز العالمي للدراسات وأبحاث الكتاب الأخضر- الطبعة الأولى 1989 (ص98).
(9)- ميل في الحرية- مصدر سابق (ص182).
(10)- المقولة لمنظر ليبرالي هو بنجامان كونسطان- انظر المصدر نفسه (ص132).
(11)- المقولة لثير (Thiers) في كتاب: في الملكية، وقد أوردها جبرارميري في
Gerard Mâret, Leliberalisme: Présupposés et Siginifications",
Dans: Les Ide?logies: De Rousseau à Mao, Sous La direction de F.F. Chatêlet tome 3 (PPI38- 139)>
(12)- اشعيا برلين- مصدر سابق (ص 290).
(13)- كلود جوليان- انتحار الديمقراطيات- ترجمة عيسى عصفور- منشورات وزارة الثقافة والارشاد القومي- دمشق 1975 (ص149).
(14)-
SARIORI, DEMOCRATIC Theory, OPCH (P 77).
(15)- ماركس وأنجلز- بصدد الدولة- دار التقدم 1986 (ص202).
(16)- أندريه توزيل- سيزار لوبوريني- ايتين باليهار- ماركس ونقده للسياسة- ترجمة جوزيف عبد الله الطبعة الأولى- 1981، دار التنوير، (ص16).
(17)- روجيه غارودي- ماركسية القرن العشرين، ترجمة نزير الحكيم- منشورات الآداب بيروت- الطبعة الخامسة- كانون الثاني (يناير) 1983 (ص155).
(18)- أندريه توزيل- سيزار لوبوريني- ايتين باليهار- مصدر سابق، (ص47).
(19)- ماركس وأنجلز بصدد الدولة- مصدر سابق (ص68- 69).
(20)- ماركس وأنجلز المصدر السابق (ص106).
(21)- أندريه توزيل- سيزار لوبوريني- ايتين باليهار- مصدر سابق، (ص18).