"بسم الله الرحمن الرحيم"
نادى ببناء الإنسان الكويتي أولاً من أجل بناء الدولة المستقبلية و ثبت دعائم الديموقراطية ورسخ مبادىء الشورى تحقيقا للعدالة
أصدر د.عبدالله يوسف الغنيم رئيس مركز البحوث والدراسات الكويتية تقريراً عن سمو أمير البلاد الراحل الشيخ جابر الأحمد يضم لمحات مشرقة من تاريخ المغفور له صاحب السمو الشيخ جابر الأحمد الصباح ومنجزاته على الصعيد المحلي والدولي.
وجاء في التقرير إن الكويت وهي تمر الآن بلحظة من أصعب لحظات تاريخها، هذه التي تودع فيها أميرها المغفور له صاحب السمو الشيخ جابر الأحمد الجابرالصباح، بما كان يتمتع به من خبرة سياسية ورؤية نافذة في الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية لدولة الكويت، الى جانب اسهامات كبيرة في قضايا المنطقة العربية والعالم الاسلامي، لتضرع الى الله تعالى بأن يجعل كل ما قدمه اميرها الراحل من خير لبلده ولأمته في ميزان حسناته، وأن تظل راية النهضة المعاصرة التي أعلاها وأسهم في ارتقائها محفوفة برعاية الله تعالى وعونه في ظل القيادة الراشدة من بعده.
وأعرب مركز البحوث والدراسات الكويتية عن أمله ان يكون ما يقدمه اليوم من لمحات مشرقة من تاريخ حياة المغفور له بإذن الله منارة يستضاء بها في استمرار تحقيق تنمية الكويت المستدامة والحفاظ على استقلالها وامنها واستقرارها في مواجهة تحديات الحاضر ومعطياته والمستقبل وتوقعاته، حتى تظل الكويت كما ارادها سمو الأمير الراحل والراشدون ممن سبقه من حكامها اسرة واحدة، وواحة امن واستقرار.
وجاءت اللمحات المشرقة لسمو الأمير مستعرضة مسيرة الأمير الوالد الراحل منذ بداية نشأته مروراً بإنجازاته حتى رحيله الى جنات الخلد بإذن الله.
صاحب السمو الشيخ جابر الأحمد الصباح
«نشأة كريمة وحياة واعدة»
في التاسع والعشرين من مايو 6291م كانت إطلالة سمو الشيخ جابر الأحمد على الكويت، وهو الابن الثالث لسمو المرحوم الشيخ أحمد الجابر الذي تولى حكم الكويت بين عامي 1291ـ.0591
بدأ سمو الشيخ جابر دراسته بالمدرسة المباركية، وهي أولى المدارس النظامية التي تأسست بالكويت عام 1191م، وكانت تركز آنذاك بالدرجة الأولى على التربية الإسلامية والشؤون التجارية بحكم طبيعة المجتمع، ثم انتقل منها إلى المدرسة الأحمدية التي تأسست في بداية عهد والده الشيخ أحمد الجابر الذي أبدى اهتماما بالثقافة والتعليم، ومن ثم حظيت المدرسة بدعم مادي منه، وسميت بالأحمدية نسبة إليه. وتعد هذه المدرسة ثاني مدرسة نظامية في الكويت بعد المدرسة المباركية، وتميزت بأنها أكثر تطورا من الأولى إذ أدخلت بها مواد دراسية غير تقليدية ـآنذاكـ كاللغة الإنجليزية والمعارف العامة، ولم تلبث أن خضعت لمجلس المعارف بعد إنشائه في أكتوبر 6391م.
وإثر انتهاء سمو الشيخ جابر من دراسته في المدرسة الأحمدية بدأ يتلقى تعليما خاصا على أيدي أساتذة من ذوي الاختصاص في الدين واللغة العربية وآدابها، واللغة الإنجليزية والعلوم الأخرى كافة، كما أتاح له والده زيارة العديد من دول العالم ليتعرف عن كثب أحوال الشعوب الأخرى، وما بلغته من تقدم في شتى الميادين.
إن سمو الشيخ أحمد الجابر كان له أثر كبير في تنشئة نجله سمو الشيخ جابر حيث كان الوالد حريصا على تطبيق أحكام الشريعة الإسلامية وأصدر العديد من القرارات المتصلة بذلك، لكنه لم يكن في الوقت نفسه متعصبا أو متزمتا، بل عرف باستنارته وميله إلى الأخذ بالمنجزات والأساليب الأوروبية الحديثة بشرط ألا يكون هناك تعارض بينها وبين التعاليم الإسلامية الصحيحة، والقيم الأصيلة للمجتمع الكويتي.
عاش سمو الشيخ جابر في المناخ الثقافي الذي أتاحه والده حيث شهد عقد الثلاثينيات بداية النهضة التعليمية والثقافية في الكويت، إذ كان لهذه النهضة أثرها في تنمية الوعي القومي لسموه وللشباب المعاصر في تلك المرحلة، حيث واكب في باكورة نشأته ظهور العديد من الأدباء والكتاب والشعراء الكويتيين الذين شجعهم والده بما عرف عنه من تكريم للعلماء والأدباء وتقريبهم من مجالسه.
وحين وجد سمو الشيخ أحمد الجابر في نجله مقدرة وحكمة في تحمل المسؤولية ومواجهة أعبائها، عينه عام 9491م، وهو لا يزال في بداية العشرينيات من عمره، نائبا عنه في مدينة الأحمدي، ومن ثم بدأ سمو الشيخ جابر أولى ممارساته العملية، واتصاله المباشر بشؤون الحكم والإدارة والسياسة.
واستطاع سمو الشيخ جابر أن يبرز ويؤكد دوره كمسؤول عن الأمن العام في مدينة الأحمدي خاصة مع تعدد هذه المسؤوليات وتنوعها بين الحفاظ على الأمن، والتعامل مع شركات النفط أو التخطيط العمراني لهذه المدينة التي تميزت بطابعها الخاص الملازم لها حتى الآن بما فيها من ساحات خضراء ومنازل مبتكرة التصميم، وشوارع هادئة ذات أشجار وارفة الظلال.
وهذه المسؤوليات التي ألقيت على عاتق سموه وهو في شرخ الشباب أمدته بالكثير من الخبرة والدراية الاقتصادية، وخلقت لديه اهتماما بشؤون النفط واقتصادياته، وتمكن من خلال ذلك من أن يتعامل مع شركات النفط من منطلق المصلحة الوطنية وأحقية الكويت في ثرواتها الطبيعية، والحفاظ على حقوق الشعب الكويتي في عائدات بلاده، بالإضافة إلى حصول العمال الكويتيين في هذا المجال على حقوقهم كاملة.
وبعد عشر سنوات كاملة من العمل الوطني في مدينة الأحمدي (9491ـ9591م) كان سمو الشيخ جابر الأحمد على موعد مع رحلة أخرى من العطاء الوطني، حيث أسند إليه المرحوم الشيخ عبدالله السالم أمير الكويت (0591ـ5691م) دائرة المالية والأملاك العامة للدولة، وكان بحكم منصبه هذا مسؤولا كذلك عن مكتب شؤون النفط والإسكان في الكويت، وقد حقق سمو الشيخ جابر من خلال هذه المسؤولية الجديدة رغبة الشيخ عبدالله السالم في تحقيق العدالة الاجتماعية من خلال توجيه جزء من العائدات النفطية التي تدفقت على الكويت إلى المواطنين عن طريق تثمين الأراضي والبيوت القديمة بأثمان عالية، ومن ثم إتاحة المجال لخطط التعمير وإنشاء المساكن الحديثة، وتوافر رؤوس أموال لدى المواطنين الذين أخذوا يبحثون عن وسائل جديدة للاستثمار.
وحين تم الاستقلال الرسمي للبلاد وإلغاء اتفاقية 9981م التي تربط الكويت ببريطانيا، وتحولت الدوائر الحكومية إلى وزارات مسؤولة تولى سمو الشيخ جابر في أول تشكيل وزاري بعد الاستقلال حقيبة وزارة المالية والصناعة، كما ضمت إليه وزارة التجارة، وفي يناير من 3691م وهو العام التالي لذلك أصبح نائبا لرئيس الوزراء مع احتفاظه بالوزارة المذكورة، وفي عام 5691م أصدر سمو الشيخ صباح السالم الصباح مرسوما أميريا بتعيينه رئيسا لمجلس الوزراء.
وهكذا تعددت المناصب التي شغلها سمو الشيخ جابر منذ بداية عهد الاستقلال حتى وصوله إلى سدة الحكم في الكويت (ديسمبر عام 7791م) من وزير للمالية والصناعة إلى نائب لرئيس مجلس الوزراء، ثم صار رئيسا لمجلس الوزراء ونائبا لأمير الكويت ووليا للعهد، ولقد رافق سموه في هذه المسيرة كل من سمو الشيخ سعد العبدالله الصباح الذي كان تعيينه وليا للعهد ورئيسا لمجلس الوزراء أول مرسوم أميري أصدره سمو الأمير الشيخ جابر الأحمد عقب وصوله إلى الحكم في 81 من فبراير 8791م، وسمو الشيخ صباح الأحمد الصباح النائب الأول لرئيس مجلس الوزراء ووزير الخارجية حتى تاريخ 41/7/3002 حين أصبح سموه رئيسا لمجلس الوزراء، وتفرغ سمو الشيخ سعد العبدالله السالم الصباح لولاية العهد.
إن هذه التنشئة الكريمة كشفت عن سمات وملامح رئيسة في شخصية سمو الشيخ جابر الأحمد تجلت في مساحات عريضة من الفكر والسياسة والاقتصاد والإدارة، استطاع سموه توظيفها جميعا في خدمة حاضر الكويت ومستقبلها، مستلهما ـكما أوضحنا من قبلـ حكمة والده المرحوم الشيخ أحمد الجابر الصباح، ومتأثرا في تجاربه ومواقفه السياسية بكل من سابقيه المغفور لهما الشيخ عبدالله السالم الصباح، والشيخ صباح السالم الصباح اللذين عايشا فترة مهمة في تاريخ الكويت، وكانت لهما اليد البيضاء في وضعها على طريق السيادة والاستقلال والانفتاح على العالم شرقه وغربه.
منجزاته على طريق التنمية الشاملة
إن سمو الشيخ جابر الأحمد واحد من الرجال الذين ازدان تاريخ الكويت المعاصر بأعماله ومنجزاته، فقد استطاع حين بدأ تمرسه بالعمل العام وهو لا يزال في مرحلة مبكرة من عمره أن يحقق للكويت العديد من الإنجازات خلال الستينيات والسبعينيات من القرن العشرين، كما استطاع في خضم الثمانينيات وما بعدها، وما واكب هذه الفترة من اضطرابات وحروب إقليمية وظروف اقتصادية دقيقة أن يتغلب على الكثير من الأزمات التي مرت بها الكويت بمقدرة وحكمة.
ونجح بعون الله وتوفيقه في إدارة أزمة العدوان العراقي على الكويت، وأن يعيد إلى البلاد سيادتها واستقلال ترابها الوطني، وكان لطبيعة شخصية القائد الأمير ومتابعته لكل صغيرة وكبيرة أثر في كل ما تحقق من منجزات في تاريخ الكويت على المستويات المحلية والإقليمية.
لقد وضع صاحب السمو الشيخ جابر الأحمد أسس استراتيجية تقوم على إدارة شؤون البلاد الداخلية بما يحقق التنمية المستدامة والرفاهية لأبناء شعبه، ويضمن للأجيال اللاحقة نصيبا من هذه الوفرة الاقتصادية التي أنعم الله بها على البلاد، وذلك في ضوء رؤية اقتصادية واعية.
كما كان يحرص سموه على تثبيت دعائم الديموقراطية وترسيخ مبادئ الشورى التي كانت منهج حياة وأسلوب عمل في إدارة شؤون البلاد منذ نشأة الكويت، تحقيقا للعدالة التي هي أساس الحكم، وضمان استقراره.
أما الرعاية السكنية للمواطنين، وإلى جانبها الرعاية الاجتماعية الشاملة لأبناء المجتمع: أطفالا ، وشبابا، وشيوخا، فلقد أصبحت الكويت في عهد سموه النموذج الرائد في هذا المجال، وهذا أمر تعتز به الكويت، ويزهو به أميرها في المؤتمرات الدولية، وأكد كل هذا صدور المراسيم الأميرية والقوانين المنظمة لهذه الأمور وفقا لحاجات المجتمع، وتحقيقا لمصالح أبنائه.
يضاف إلى ذلك ما التزمت به الكويت من إنفاق حكومي على الخدمات الصحية، والتعليم، وتحديث الإدارة الحكومية، وتشجيع النهضة العلمية والحركة الأدبية، وإنشاء المؤسسات والمراكز المتخصصة وفق أحدث النظم والأساليب للقيام بدورها الفاعل والمؤثر في هذه المجالات، وكان مردود ذلك عطاء وفيرا في التميز الذي تحظى به الكويت الآن.
أما فترة رئاسة سموه لمنظمة المؤتمر الإسلامي فقد كانت حافلة بالرؤى والتوجهات الجديرة بما يجب أن يكون عليه العالم الإسلامي، ووقوفه صفا واحدا في مواجهة التحديات العالمية القائمة على صراع الحضارات لا على حوار الحضارات وتحقيق المصالح المشتركة.
ولعل أبرز ما توجه به سموه إلى العالم الإسلامي هو مشروع إنشاء محكمة العدل الإسلامية، أملا في دورها المأمول في حل النزاعات بين الإخوة المسلمين في هذه البقعة من العالم أو تلك، وحتى يكونوا في ضوء التوجه الإسلامي الراشد أمة واحدة.
كما لا تزال مبادرة سموه التي أعلنها من فوق منبر الأمم المتحدة، وأكدها في اجتماعات عدة لدول العالم بشأن إلغاء فوائد الديون المستحقة على الدول المدينة، وتخفيض هذه الديون على الدول الأشد فقرا، والإسراع في تطبيق الكويت هذا الأمر على نفسها، أمرا غير مسبوق على المستوى العالمي في العمل على تقريب الفجوة بين الأغنياء والفقراء أو بالأحرى بين الشمال والجنوب.
وكان هذا التوجه الراشد في علاج الأزمات الاقتصادية، حقيقا بأن يحرك عملية الاقتصاد العالمي بين الدول المنتجة والأخرى المستهلكة، ويؤدي إلى القضاء على العجز والركود الاقتصاديين فيهما.
كما كان مجلس التعاون لدول الخليج العربية مدينا في فكرة إنشائه ووضع الأسس التي قام عليها لجهود سمو الأمير الشيخ جابر الأحمد الجابر الصباح، فلقد كان سموه ينطلق في التخطيط والتنفيذ لهذا التجمع الإقليمي من حس وطني وقومي صادق، بالإضافة إلى عمق النظرة السياسية في ضوء الأحداث التي كانت تحيط بالمنطقة ودفع بعض القوى الإقليمية بها إلى توهم أن فراغا سياسيا قد نشأ بمنطقة الخليج بعد انسحاب بريطانيا منها، وأن هذا الفراغ يجب أن يُملأ بقوة أخرى تهيمن وتسيطر على مقدرات المنطقة سياسيا واقتصاديا، فكان مجلس التعاون في صيغته المشروعة بعيدا كل البعد عن أحلام السيطرة، وأوهام الطمع في ثروات المنطقة والتحكم في مساراتها.
ولا تزال الكويت مع شقيقاتها الخليجيات تبذل الكثير في سبيل بقاء هذا المجلس فعالا في مجالات اقتصادية وتربوية واجتماعية، وتعاون سياسي تمليه مصلحة هذه الدول وشعوبها.
وحين وقع العدوان العراقي على الكويت عام 0991م استطاع سمو الأمير الشيخ جابر الأحمد الصباح وإلى جانبه أعضاء القيادة السياسية أن يجمعوا العالم لأول مرة على قلب رجل واحد، لكي يقف مع الكويت، ويجمع أمره دولا وشعوبا على ضرورة استعادة الشرعية لدولة الكويت، وتحرير أرضها وشعبها من هذا العدوان القائم على الغدر والخيانة من جار لم يرع حقا، ولم يحفظ عهدا.. وكان التحرير الذي أعاد للكويت حريتها وشرعيتها الدولية.
كما تجلت روعة السلوك والأداء الإداري والسياسي لسمو الأمير الشيخ جابر الأحمد الصباح ومعه القيادة السياسية الكويتية في ملحمة البناء وإعادة التعمير، وإطفاء آبار النفط، هذه التي جاءت كلها على خلاف توقعات الخبراء والمختصين في الدول التي لها باع طويلة في هذه المجالات.
وعادت الحياة الطبيعية إلى الكويت، واستؤنفت عجلة التنمية على المسارين الاقتصادي والاجتماعي، كما توطدت أكثر فأكثر صلة الكويت بالعالم الخارجي الذي لم تكن قد انقطعت بسبب الغزو العراقي بفضل نشاط أبناء الكويت وقدرتهم على تفعيل أوجه النشاط والتعامل مع دول العالم في شرقه وغربه.
وكانت المرأة الكويتية ـأسوة بأشقائها الرجالـ على رأس اهتمامات سموه منذ عام 9991م حين أصدر مرسوما أميريا بمنح المرأة الكويتية جميع حقوقها السياسية إيمانا بأهمية دورها في نهضة البلاد الحديثة، وما بلغته من حظ طيب في الثقافة والتعليم، ووصولها إلى درجة عالية من الوعي السياسي وتقدير المسؤولية، وكان يوم السادس عشر من مايو عام 5002م يوما تاريخيا حين وافق مجلس الأمة الكويتي على ذلك، وشهد الشهر التالي لذلك تعيين أول وزيرة كويتية تنهض بحقيبة وزارة التخطيط والتنمية الإدارية، وتحقق لنصف المجتمع الكويتي أملا طالما راوده وناضل من أجله أسوة بدول العالم المعاصرة.
مواقف إنسانية غير مسبوقة
إن نجاح سمو الشيخ جابر الأحمد في تحقيق منجزاته الداخلية والخارجية كان يرتكز أساسا على التواصل الحميم والعلاقات الوثيقة التي أقامها مع أبناء شعبه، حيث لم يقتصر في هذه العلاقات على نخبة من المجتمع أو على أفراد الأسرة الحاكمة فحسب، بل تعدى ذلك إلى التفاعل مع القاعدة الشعبية على أوسع نطاق.
فلقد امتزج إيمانه العميق بربه الكريم وبدينه الحنيف بحبه لوطنه، حتى صار هذا الوطن لا يفارقه أينما كان، وعندما كان يناجي ربه ويدعو لنفسه لا ينسى أن يدعو للوطن الذي يكنّ له كل المحبة والتقدير. فهو حين عودته من أداء مناسك العمرة في مطلع العشر الأواخر من رمضان عام 5041هـ ألقى كلمة بهذه المناسبة قال فيها:
«في طوافي حول البيت العتيق، والسعي بين الصفا والمروة، وفي صلاتي داخل الكعبة، وفي ركوعي وسجودي، كانت الكويت دعوة يخفق بها قلبي، وينطق بها لساني، دعوت الله أن يعصمنا من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، دعوت الله أن يحفظ على أبناء الكويت نعمة الوحدة فلا يمزقها الاختلاف، ونعمة الحب فلا تدمرها الخصومات، ونعمة التقدم فلا تعوقها الأهواء».
واتضحت الجوانب الإنسانية كذلك في اهتمام سمو الشيخ جابر بإصدار المراسيم بقوانين في شأن المساعدات العامة لمواجهة زيادة نفقات المعيشة التي تقدم للأسر والأفراد، ومن أجل ذلك كان إصداره منذ أن تقلد شؤون الحكم العديد من المراسيم الأميرية بقوانين بشأن مساعدات الإغاثة في مواجهة النكبات العامة والخاصة، ومساعدة الأيتام، ومجهولي الوالدين، وتقرير منحة الزواج، وبدل السكن أو أي بدلات أخرى أو إعانات خاصة للأفراد والأسر الكويتيين لمواجهة أعباء معينة، أو كان ذلك تحقيقا لأغراض اجتماعية، ومساعدة للزوجة الكويتية المتزوجة من غير كويتي ولأولادها منه، وذلك في حالة عجز الزوج عن القيام بأي عمل بناء على تقرير طبي، أو إذا طرأت عليها ظروف قاهرة تتطلب المساعدة وكذلك إرساله الطلاب للدراسة في الخارج على نفقته الخاصة، وإرسال المرضى للعلاج على نفقته كذلك.
وهناك العديد من القوانين الأخرى التي حرص على إصدارها خاصة بزيادة العلاوة الاجتماعية والمعاشات التقاعدية وغيرها.
كما كانت تبدو نوازع الخير في طبيعة سموه متمثلة في حرصه على تحقيق العدالة الاجتماعية، ودعوته إلى تماسك المجتمع، وفي محاربته لعادات البذخ والإسراف في مظاهر الحياة الاجتماعية.
ولم تغب قضية الأسرى والمرتهنين لدى النظام العراقي بعد تحرير الكويت عن بال سمو الشيخ جابر الأحمد، بل كان يشملها دائما باهتمامه، ويناشد ضمير العالم من فوق منبر الأمم المتحدة في السادس والعشرين من سبتمبر عام 1991م من أجل وضع حد لهذه المأساة، وكان مما قال آنذاك:
«وها أنتم أيها الإخوة والأصدقاء ترون أمامكم عددا من الأطفال الكويتيين الذين يمثلون الكثير من غيرهم ينتظرون مساعدتكم للإفراج عن آبائهم وأمهاتهم وإخوانهم المحتجزين لدى النظام العراقي الذي اتخذ منهم وسيلة للضغط والمساومة.. إنها مأساة إنسانية لا يعرف لها سبب أو مبرر».
وأصدر سموه أوامر بتأسيس المكتب التنفيذي لشؤون الأسرى والمفقودين، واللجنة الوطنية لشؤون الأسرى التي أخذت على عاتقها دعوة المجتمع الدولي إلى المساعدة في الإفراج عن الأسرى، وتعبئة الرأي العام العالمي على كافة المستويات المحلية والإقليمية والعالمية لتحقيق هذا الهدف، والاهتمام بأسر الأسرى وكفالة أوجه الرعاية اللازمة لهم.
ولم ينس سموه شهداء الكويت، ومن أجل ذلك أسس مكتب الشهيد في أغسطس عام 1991م لتكريم أسر الشهداء، وتوفير المساعدات الإنسانية لهذه الأسر إلى جانب كافة أوجه الرعاية السكنية والتعليم والخدمات الاجتماعية لهم.
وكان يحرص على زيارة دورية لديوانية الشهيد التابعة لمكتب الشهيد للتعرف على حاجات أسر الشهداء، وبخاصة الأسر التي فقدت معيلها.
وكان حرص سموه على معالجة الآثار النفسية للغزو متمثلا في إقامة العديد من المؤسسات والمراكز والهيئات لخدمة كافة المواطنين الذين تضرروا نفسيا واجتماعيا من الغزو العراقي بتداعياته.
كما أمر سموه بتأسيس مكتب الإنماء الاجتماعي في أبريل للقيام بالدراسات الميدانية حول الآثار النفسية الناشئة عن آثار الغزو العراقي لدولة الكويت، وجعله تابعا ـبطريقة مباشرةـ للديوان الأميري.
وعلى الرغم من معاناة الكويت من الاحتلال العراقي ومساندة منظمة التحرير الفلسطينية للعدوان ووقوفها إلى جانب العراق، فإن سمو الشيخ جابر كثيرا ما كان يصرح بأن الكويت تميز بين الشعب الفلسطيني وقيادته، كما أنها تميز في الوقت نفسه بين الشعب العراقي ونظامه السياسي.
وفي مؤتمر جدة أكتوبر 0991م الذي عقد إبان الاحتلال العراقي للكويت أكد سموه صراحة أن موقف القيادات الفلسطينية من الغزو لن يؤثر في تضامن الشعب الكويتي مع الشعب الفلسطيني في كفاحه العادل من أجل تحرير وطنه واسترجاع حقوقه المغتصبة، وكذلك أعلن المؤتمرون أنه على الرغم مما جره العدوان من المصائب والويلات فإن الشعب الكويتي لا يضمر شرا للشعب العراقي، ولا يحمل له حقدا لأنه شعب مغلوب على أمره.
ومن ثم فقد كان سمو الأمير الشيخ جابر يؤكد على ذلك في كثير من المواقف لأعضاء المعارضة العراقية إبان حكم صدام حسين، وعليه نهضت الحكومة الكويتية إلى تقديم الدعم المادي والمساعدات اللازمة لشعب العراق في المجالين الصحي والغذائي بعد تحرير العراق من حكم الطاغية صدام حسين ومدت جسور التعاون مع الممثلين الجدد لهذا الشعب والقائمين على أمره أملا في أن يرى العالم أجمع عراقا جديدا يحافظ على حقوق الآخرين، ويحترم جيرانه. ويلتزم بالمواثيق والقرارات الدولية.
رعاية كريمة لأبناء الكويت
كثيرا ما كانت الكلمات التي يرددها سمو الشيخ جابر الأحمد تبرز حبه لشعبه، وولاءه لوطنه، فالولاء هو العطاء غير المحدود في خدمة الوطن: »كلنا للكويت وكلنا أهل ديرة واحدة، ولا يوجد بيننا حجاب أو موانع«.. »الكويت لنا جميعا، وعلينا مسؤولية بنائها، والذود عنها، ودفع عملية التقدم والرقي بها«.
وتطبيقا لهذا التوجه الكريم شملت رعايته الكريمة طوائف المجتمع الكويتي أفرادا وجماعات، وقامت مؤسسات ذات ظلال وارفة على أبناء الكويت جميعا.
فثمة رعاية سكنية انطلقت من الخطط الإسكانية والعمرانية، حيث حدث تغير كبير في معالم المدينة، وأقيمت المباني الحديثة والساحات والأنفاق والمجتمعات السكانية، وتم ربط البلاد بشبكة واسعة ومتطورة من الطرق السريعة، وبتوالي عمليات التخطيط وتطورها صارت الكويت في مصاف العواصم العالمية بما فيها من مرافق ومنشآت حكومية وأهلية، وإلى جانب مساكن الموسرين كانت مساكن ذوي الدخل المحدود والمتوسط. كما تحولت القرى إلى مدن حديثة كالجهراء والفحيحيل والفروانية. وظهرت مجموعات من المجمعات التجارية الراقية تضارع مثيلاتها في العالم المتقدم.
كما أنشئ مكتب وجهاز خدمة المواطن لدراسة الحالات الخاصة التي تتطلب العرض على القياديين، وضمان سرعة إنجازها، وحل مشكلات المواطنين بالتنسيق مع قطاعات الوزارات الأخرى وإداراتها المختلفة.
ومن أبرز مهام هذا الجهار العمل على تلافي المشكلات قبل حدوثها ومراعاة التوفيق بين احتياجات المواطنين ومصلحة الوطن العليا، وتيسيرا على المواطنين أنشئت مكاتب لهذا الجهاز بالوزارات وبالمصالح الحكومية وبالأحياء السكنية في دولة الكويت.
ولسمو الشيخ جابر الأحمد كلمة معبرة عن اهتمامه بالإنسان الكويتي وهي كلمة صارت توجيها للعمل الحكومي في جميع مجالاته وعلى رأسها التخطيط للمستقبل فهو الذي قال: »ومن ثوابتنا الدائمة.. العمل المستمر على النهوض بالإنسان، إذ هو الرصيد الذي لا ينفد لكويت عزيز ينعم بحياة رغيدة من خلال خطط التنمية البشرية«.
والمتتبع لاهتمامات سمو الشيخ جابر بالتعليم وهو من أهم ركائز إعداد الشباب للمستقبل تجد أنه كان حريصا على هذا المرفق المهم: يوجه ويستفسر، ويدعم ويبذل عنايته، ويقدم للمعلم ما يحتاج إليه من تقدير وتشجيع، ويدعو إلى تأهيله وتدريبه حتى لا يتخلف عن الركب.
وأما فيما يتعلق بالطلاب فقد كان سموه يبذل لهم النصح من حين إلى آخر مؤكدا أن وطنهم في حاجة إليهم، وأن المستقبل رهين بما يصلون إليه من مستوى علمي، ولم يكن يبخل عليهم بالهدايا يتحف بها المتفوقين في المجالات الدراسية، وفي المراحل التعليمية العامة والجامعية، حيث كان يستقبل عددا منهم ويسعدهم بوجودهم عنده، ويوزع الشهادات على أبنائه المتخرجين في الجامعة وكليات الهيئة العامة للتعليم التطبيقي والكليات العسكرية بكافة تخصصاتها.
وفي المجال الرياضي لم يكن اهتمام سموه منصبا على نوع معين من الألعاب دون الآخر، بل كان يهتم بكل ما يقوم به الشباب من نشاطات رياضية، ولا ينسى الرياضيون استقباله لهم بعد كل فوز يقدمونه، ولا كأس الأمير الذي يقدمه كل عام في ميدان كرة القدم. كما لا ينسى أحدي أن سموه قد حرص على إضافة رياضة مهمة كادت تُنسى، فدعا إليها وهي رياضة رحلات الغوص على اللؤلؤ التي صارت تقام في الكويت كل عام باهتمام شخصي منه، وأصبحت رمزا يذكر الأبناء بجهد آبائهم وأجدادهم فيما مضى من الزمان.
كما كان إلى جانب النشاط البدني داعيا إلى الاهتمام بالأخلاق، وإلى أن يتحلى بها كل شاب من شباب الوطن معلنا:« أن القيم الفاضلة في النفوس حصانة ذاتية فعالة تبني وتحفظ، وتعمّر وتصون، وتبادر وتدفع، وتمد وتمنع».
وكان سموه لا يكتفي برعاية الشباب وحدهم، وإنما يعنى بالإنسان في كافة مراحل حياته من الطفولة إلى الشباب فالرشد فالشيخوخة، فقد أعلن أمام مؤتمر القمة العالمي للطفولة: «أن قضية العناية بالطفل تعني في حقيقة الأمر عناية بالأسرة والمجتمع، والطفل هو ثروة المجتمع الحقيقية وهو مستقبله، وإذا كنا نريد عالما أكثر رحابة وسعة، وتسامحا ونموا، فعلينا أن نؤكد أهمية الطفل وحقوقه التي هي جزء لا يتجزأ من حقوق الإنسان».
وقد قدمت الكويت للأطفال في العديد من دول العالم ما وسعها عن طريق دعم المنظمات العالمية المعنية برعاية الطفولة في العالم سواء أكان هذا الدعم ماليا أم طبيا، أم تعليميا.
كما لم ينس سموه ذوي الاحتياجات الخاصة من المعوقين والمكفوفين وغيرهم وذلك بتقديم الرعاية اللازمة لهم، وتوفير الأدوات الخاصة والمعدات اللازمة لهم وتأهيلهم للعمل في العديد من المجالات. وبالتالي يتم اندماجهم في المجتمع.
وكذلك كانت رعايته للمسنين انطلاقا من واجب الوفاء لهم، حتى لا ينسى الجيل الحالي الرعيل الأول من المواطنين الذين قامت على سواعدهم الكويت، فكانت اهتماماته كبيرة بضمان الأمن الاجتماعي والاقتصادي والمساعدات العامة لمن بلغ منهم سنّ العجز والشيخوخة.
هذا كله عدا الكثير من أوجه الرعاية الملحوظة بشدة في مجال الخدمات الصحية والاجتماعية والعناية بالحركة التعاونية التي تسهم في دعم الترابط الاجتماعي، ودفع حركة العمل بالسؤال والتوجيه ـالأمر الذي كان يحس معه المواطنون جميعا بأن وراءهم رجلا يبذل الكثير من الجهد في متابعة أمور الوطن والمواطنين، لينعم الجميع في ظلال رعايته بالأمن والاستقرار.
آفاق رحبة في العلاقات الخارجية
كان سمو الشيخ جابر الأحمد في سياسته الخارجية يحافظ على التقاليد التي درجت عليها الكويت منذ نشأتها، وهي حفظ التوازن في هذه العلاقات وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى. عدا ما كان يطلب إلى الكويت من التدخل في العديد من الأزمات الدولية من أجل وضع الحلول المناسبة والقيام بدور الوسيط بين أطرافها، ويرجع ذلك إلى ما عرف عن الكويت من اتزان في التعامل مع القضايا والمشكلات الإقليمية والدولية من أجل تحقيق السلام العالمي.
وكما اتسمت سياسة الكويت بالتوازن في علاقاتها بالقوى الإقليمية المجاورة لها حرصت على تحقيق ذلك التوازن كذلك في علاقاتها بالدول الكبرى.
وكان سمو الشيخ جابر بعيد النظر في اتجاهه إلى التوازن في العلاقات الخارجية، منتهجا في ذلك سياسة الحياد الإيجابي وعدم الانحياز، ومن ثم كان حريصا على توثيق علاقاته السياسية والاقتصادية بالعديد من الدول ذات الكثافة العالية والتي لها أصولها الفاعلة في المنظمات والمحافل الدولية لكسب تأييدها فيما يعرض من قضايا عربية في الأمم المتحدة، ومن أجل ذلك قام خلال السنوات الأولى من وصوله إلى الحكم وعلى وجه التحديد في الفترة من 7ـ02 سبتمبر 0891م بجولته الأولى في آسيا، وقد شملت كلا من: باكستان والهند وبنغلاديش، وأندونيسيا وماليزيا وسنغافورة وغيرها.
وكانت الرحلة الثانية إلى تركيا ودول الكتلة الشرقية زار خلالها كلا من تركيا وبلغاريا ورومانيا وهنغاريا (المجر) ويوغوسلافيا وذلك في الفترة من الثامن إلى التاسع عشر من سبتمبر 1891م.
وفي يوم 22/9/8891م قام سموه برحلة تاريخية بدأها بفرنسا ثم وصل إلى نيويورك وأجرى اتصالات ولقاءات مع شخصيات عالمية وعقد اجتماعات مع ممثلي الدول الإسلامية في الأمم المتحدة، وألقى خطابه أمام وفود الدورة الثالثة والأربعين للجمعية العامة للأمم المتحدة، وغادر نيويورك إلى إسبانيا في زيارة عمل استمرت يوما واحدا.
وشهد صيف عام 9891م سلسلة زيارات قام بها سمو الشيخ جابر الأحمد رئيس الدورة الخامسة لمنظمة المؤتمر الإسلامي إلى مجموعة من الدول في القارات الثلاث، بدأت من جمهورية مصر العربية، ومنها قصد إلى سويسرا كمحطة للتوقف ثم انتقل بعدها إلى بلغراد حيث رأس وفد الكويت إلى مؤتمر قمة عدم الانحياز، وفي طريق العودة إلى الكويت عرّج على بلغاريا وتركيا للتباحث مع كل من رئيس جمهورية البلدين.
وابتداء من يوم 32 من سبتمبر 9891م تعاقبت زيارات سموه إلى كل من الجمهورية الفرنسية، وجمهوريات غينيا ومالي والنيجر في القارة الإفريقية، وافتتح بعض المشروعات التي أسهمت بها دولة الكويت في تنمية هذه البلاد.
وعلى الرغم من إحراز الاتحاد السوفييتي لبعض النجاحات في بعض البلدان التي كانت تربطه بها علاقات وثيقة مثل العراق وعدن وأفغانستان وإثيوبيا فإنه كان حريصا على التعامل بمنهج آخر مع الكويت يختلف تماما عن نهجه الأيديولوجي، وبمعنى آخر تميزت سياسة الاتحاد السوفييتي في علاقته بالكويت بكونها سياسة براجماتية وليست أيديولوجية. ولم تتأثر هذه العلاقة بإدانة الكويت للتدخل السوفييتي في أفغانستان. وكذلك كان الأمر في علاقة الكويت بالصين الشعبية التي اعترفت بها الكويت عام 4791 وتبادلت معها التمثيل الدبلوماسي وأقامت معها العلاقات السياسية والاقتصادية.
وبعد إعلان قيام مجلس التعاون الخليجي كان من الضروري قيام سمو الأمير الشيخ جابر الأحمد بزيارة لبعض الدول الاشتراكية التي ترددت فيها شائعات حول حياد الكويت، وقد شملت هذه الزيارة التي تمت عام 1891م خمس دول من بينها دولة عضو في حلف شمال الأطلنطي وهي تركيا، وثلاث دول أعضاء في حلف وارسو وهي رومانيا والمجر وبلغاريا، وأنهى هذه الجولة بزيارة ليوغوسلافيا وهي عضو بارز مؤسس لحركة عدم الانحياز. وقد قام سموه خلال هذه الزيارات بشرح أهداف مجلس التعاون الخليجي مؤكدا سياسة التوازن التي تنتهجها الكويت وبيان مدى أثرها في دعم الاستقرار بمنطقة الخليج.
وإلى جانب ذلك كان حضور سموه لكثير من المؤتمرات الدولية مثل مؤتمر قمة الأرض، ومؤتمر القمة العالمي للتنمية الاجتماعية، وطرحه للكثير من القضايا التي تهم دول العالم الثالث من فوق منبر الأمم المتحدة مثل مشكلة إلغاء فوائد الديون وتخفيض الديون للدول الأكثر فقرا، ومقترحات أخرى لعلاج الركود الاقتصادي في العالمـ فإن الكويت كانت محافظة على التزاماتها في جميع المنظمات الدولية والإقليمية التي شاركت فيها مثل منظمة الصحة العالمية والطيران المدني، والاتحاد الدولي للبريد، ومنظمة العمل الدولية، وبنك الإنشاء والتعمير، ومجموعة الأقطار المصدرة للنفط (أوبك) وغيرها مما ينضوي تحت لواء الأمم المتحدة، أو منظمة المؤتمر الإسلامي والجامعة العربية.
وفضلا عن ذلك فقد فتحت الكويت ذراعيها للوافدين الشرفاء من كل أنحاء العالم ممن يرغبون في الإسهام في بناء الكويت ودفع عجلة تقدمها، فيفيدون ويستفيدون ويستمتعون بحياة آمنة في إطار مظلة من التشريعات تكفل لهم حقوقهم وتحدد التزاماتهم.
كما أن دور سمو الشيخ جابر الأحمد في القضايا العربية والإقليمية جاء دائما متوافقا ومنسجما مع انتماء الكويت العربي والقومي والإسلامي.
ومن هذا المنطلق وضعت الكويت أقصى طاقاتها لخدمة المصالح الخليجية والعربية والإسلامية ومساندتها ماديا وفي المحافل الدولية، فضلا عن أنها قامت بدور الوساطة بينها لحل خلافاتها وتحقيق المصالحات بينها سواء أكان ذلك على المستوى الإقليمي أو العربي أو داخل حدود الدائرة الإسلامية المترامية الأطراف.
وقد أثبتت السياسة المتوازنة التي لم يكن يحد عنها سمو الشيخ جابر الأحمد الصباح طوال مدة حكمه للبلاد نجاحها على كافة المستويات الإقليمية والدولية، وليس أدل على ذلك من أنه استطاع أن يعبر بالكويت إلى شاطئ الأمان، وأن يقف بها في منأى عن الصراعات الدولية التي تنشب هنا وهناك، وأن يكون على صلة بقطبي العالم خلال الحرب الباردة التي انعكست آثارها على كثير من الدول الأخرى.
وحين تعرضت الكويت لمحنة الاحتلال الغادر عام 0991م وقف العالم كله إلى جانب قضيتها العادلة حتى إن الاتحاد السوفييتي وقف كذلك إلى جانبها رغم اتفاقية التعاون والصداقة التي كانت مبرمة بينه وبين العراق.
وحين طاف سمو الشيخ جابر العالم ليجعل قضية بلاده خارج الإطار المحلي، فتصبح قضية العالم أجمع في مواجهة النظام العراقي الخارج على القانون الدولي» وجد تأييدا ودعما أدبيا وعسكريا من مختلف بلاد العالم، وفي المؤتمرات التي عقدت من أجل ذلك بدءا من مؤتمر القمة العربي الذي عقد في جمهورية مصر العربية يوم 01 من أغسطس 0991م، والمؤتمر الإسلامي بمكة المكرمة، والجمعية العامة للأمم المتحدة في دورتها الخامسة والأربعين، وفي الدول الخمس دائمة العضوية بمجلس الأمن وغيرها من الدول الشقيقة والصديقة التي حاول أن تصل قضية الكويت إليها.
فكان التأييد حليفه في كل خطوة يخطوها، والأمل في الله تعالى والثقة في نصره يملآن كيانه ووجدانه، والعالم من أقصاه إلى أقصاه يبشره بأن النصر آت عما قريب.
رؤية واعية وثقة في المستقبل
إن قضية مستقبل الكويت أمانة ومسؤولية في أعناق القيادة المسؤولة، وبإحساس واع بهذه المسؤولية كانت نظرة سمو الشيخ جابر الأحمد الصباح، لأن مسؤوليات المستقبل أشد من مسؤوليات الماضي والحاضر، وعلى قدر سعة الآمال تأتي ضخامة الأعمال.
ويعلي من قدر هذه المسؤولية التحرك بإيجابية وفعالية نحو اتخاذ الإجراءات التي تحول دون حدوث المشكلات، أو الانتظار حتى حدوثها ثم البحث عن وسائل علاجها. وكان سمو الشيخ جابر الأحمد وهو يعيش الحاضر بمعطياته ومشكلاته يعالج قضايا المستقبل القريب منها والمتوقع، الداخلي منها والخارجي.
ومما يُعبًّر عن ذلك قوله:
»إن قضايانا التي تشغلنا كثيرة ومتشابكة، منها الدائم المستمر وهي القضايا الاجتماعية والاقتصادية، ومنها المتغير المتحرك، وهي الأحداث والمتغيرات السياسية، وعلاجها جميعا يكون في إطار الثوابث الكويتية المقررة والمعروفة، والتي تركز على وجودنا الخليجي العربي والإسلامي، المنفتح على العالم بالفهم والتفاهم والتعاون والسلام، الساعي إلى كسب الأصدقاء، ويعمق العلاقات معهم، ومهما تتنوع القضايا فإن مركزها الذي تدور عليه هو الإنسان الكويتي«.
ومن هنا كانت رؤية سموه: »أن عملية بناء الدولة المستقبلية يجب أن تواكبها عملية بناء الإنسان الكويتي وإعداده لمواجهة تحديات العصر، مع العمل على اكتشاف القيادات من الشباب وتعهدها بالتنمية والرعاية، وهذه أولى مهمات التوسعات العلمية والمهنية والتعاونية«.
»فلتكن قضية بناء الإنسان الكويتي القادر على الالتحام بعصرنا هذا على أساس من دينه وعروبته وتقاليده هي القضية المركزية التي تدور حولها، انطلاقا منها، وعودا إليها، قضايانا الأساسية الأخرى«.
كما كان يحرص سموه على دفع الشباب الكويتي وتشجيعه على العمل في مختلف المجالات، ودعما لفكره واقتناعه بأن كويت المستقبل يجب أن تعتمد على سواعد أبنائها ووضع سموه إستراتيجية تقوم على تحقيق الأهداف التالية:
ـ علاج الاختلال الذي تعاني منه التركيبة السكانية، وهيكل قوة العمل ومراعاة التوازن في نسبة الوافدين، واتباع سياسة الهجرة الانتقائية في استقدام العمالة التي تتميز بالكفاءة.
ـ التزام القطاع الخاص بتشغيل أعلى نسبة من المواطنين.
ـ تشجيع الشباب الكويتي على اكتساب المهارات العلمية والفنية وارتياد مختلف مواقع الإنتاج.
ـ تأكيد دور المرأة الكويتية ومشاركتها في الجهود الإنمائية وقوة العمل.
وكانت دائرة النظرة المستقبلية تتسع لدى سموه فتشمل الأمن الاقتصادي والأمن الداخلي، والوحدة الوطنية، والعلاقات الخارجية.
فعن الأمن الاقتصادي يقول سموه: »إن قضية الاقتصاد هي في الحقيقة قضية الاستقلال وحرية الإرادة، ولقد غدا التنافس الاقتصادي والعلمي هو المضمار المفتوح للتسابق بين جميع الدول من أكبرها إلى أصغرها«.
إن هذه الكلمات ألقت الضوء على خطة سموه في مواجهة المستقبل اجتماعيا وحضاريا وهو الذي مارس الاقتصاد طويلا من باب السلم الوظيفي إلى أعلى درجة فيه. ويعد »صندوق رصيد الأجيال القادمة« وسام المسؤولية الوطنية على صدر سمو الشيخ جابر الأحمد. وليس ثمة شك في أن بناء رصيد للأجيال القادمة يسعى إلى حفظ حقها في ثروات البلاد، لكنه إلى جانب ذلك يسهم في تحويل النفط والغاز الطبيعي من مصادر ثروة نابضة إلى مصادر ثروة متجددة ومستدامة.
وفي مجال الأمن الوطني، كان سموه يدعو كل من يعيش على أرض الكويت من مواطنيها أو الوافدين إليها إلى أن يكونوا صفا واحدا في لحمة وطنية راسخة عميقة: »يجب ألا نجعل الكويت مطية الأهواء والمزايدات، فوحدتنا الوطنية خير وأبقى«.
وفضلا عن توجيهات سموه نحو تقدير الوزن الصحيح لدولة الكويت وإمكاناتها »لتكن خياراتنا على قدر إمكاناتنا، ولتكن تحدياتنا على قدر حجمنا، ولنحذر أن تكون صيحاتنا أعلى من حناجرنا« فإنه كان يدعو إلى أن تظل سياسة الكويت في علاقاتها الخارجية ملتزمة بمبادئ الشرعية الدولية، والإسهام بدور فاعل في المؤسسات والهيئات التابعة للمنظمات الدولية في المجالات السياسية والتربوية والثقافية والصحية، والحرص على كسب الأصدقاء على المستوى الدولي، وكذلك النأي بصفة مطلقة عن خلق العداوات أو تأجيج الخلافات والسعي إلى المبادرات الإنسانية في حالات الكوارث الطبيعية والأزمات المختلفة.
.. ومن الطبيعي أن التفكير في مستقبل الكويت لا يقف عند حد فالحياة متغيرة ومتجددة،. والرؤى المحلية والعالمية لا تنتهي طموحاتها، وتداعيات الأمور دائما تفتح الأعين والعقول على مزيد من التأمل والنظر، ثم التصور والدراسة ليسير كل ذلك بتوجيه سديد وتخطيط دقيق، وعزم واثق الخطى نحو آفاق المستقبل الواعد بالخير.
وبعد: فإن عزاءنا اليوم في هذا الفقيد الراحل عن دنيانا إلى رحاب الله عز وجل في يوم الأحد الخامس عشر من شهر ذي الحجة من عام 6241هـ الموافق الخامس عشر من يناير 6002م أنه أخلص العمل لدينه ولوطنه ولأمته من خلال أحداث ومواقف عايشها وتفاعل مع رؤاها المحلية والعالمية برؤية نافذة، وحرص على تحقيق المصلحة العليا للوطن.
وحري بالكويت حكومة وشعبا أن تكون من بعده على عهد الوفاء له: أسرة واحدة جديرة بمواجهة المستقبل الحضاري لهذا البلد، شريكة في صنع الحياة المنشودة حاضرا ومستقبلا.
<<اللهم أسبغ عليه من رحمتك، وهيئ لنا من بعده خير خلف لخير سلف يا أرحم الراحمين.>>
اللــــــــــــــهم آآآآآآآآآميــــــــــــــن