مجالس العجمان الرسمي

العودة   مجالس العجمان الرسمي > ~*¤ô ws ô¤*~المجالس العامة~*¤ô ws ô¤*~ > مجلس الدراسات والبحوث العلمية

مجلس الدراسات والبحوث العلمية يعنى بالدراسات والبحوث العلمية وفي جميع التخصصات النظرية والتطبيقية.

رد
 
أدوات الموضوع طرق مشاهدة الموضوع
  #1  
قديم 01-04-2005, 03:16 PM
ابومحمد الشامري ابومحمد الشامري غير متصل
ابوحمد الشامري ( سابقا )
 
تاريخ التسجيل: Dec 2004
الدولة: شـبـكـة مـجـالـس العجمـــــان
المشاركات: 19,132
معدل تقييم المستوى: 10
ابومحمد الشامري قام بتعطيل التقييم
التجربة الإبداعية دراسة في سيكولوجية الاتصال والإبداع. ( دراسة )


( التجربة الإبداعية دراسة في سيكولوجية الاتصال والإبداع ــــ إسماعيل الملحم )

( تمهيد )

ليس ما يجمع هذه الأبحاث ما يمت إلى النقد بقدر ما يحاول الولوج إلى العملية الإبداعية في مجالات فنية متنوعة. وإذ تقترب أحياناً من مثال أو حادثة تتعلق بميدان من ميادين العلوم الأساسية يكون القصد توسيع في فضاء الإفصاح عن عمليتي الإبداع والاتصال وهما العمليتان اللتان تأخذان القسط الكبير من اهتمام الباحثين في مجالات العلوم الإنسانية والسلوكية، كونهما تستأثران في زمننا هذا، زمن التفجر المعرفي، بعمليات التجريب ويعدهما المهتمون بالقضايا العامة الاجتماعية والسياسية المجال الأهم لمواكبة التغيرات المذهلة في مختلف جوانب المعرفة البشرية.‏

وليس –ما سبق- فحسب، وإنما الاهتمام بهذين الموضوعين يتعلق بجوانب وجدانية وأخلاقية.. فالإنسان الذي تستهلك طاقاته اهتمامات العيش في مجتمعات إنسانية تنساق، بشكل أو بآخر نحو نزعات استهلاكية، ليس كالفن ما يعيد لـه إنسانيته التي يكاد التطور التكنولوجي يأتي عليها. كما أن حمى الاستهلاك وخضوع المجتمعات البشرية على نحو من الأنحاء لما بات يعرف باقتصاد السوق قد أخذ برقاب البشر نحو جعلهم سلعاً ويعامل الإنسان في هذا النظام معاملة السلعة.. والأدلة على ذلك ليست قليلة فبحسب سوق العمل يتلون الإنسان الذي يعرض نفسه سلعة.‏

فالفن إنتاجاً وتواصلاً بين ذوات إنسانية هو صمام أمان يقي الشخصية من الهبوط إلى مستوى الحيوان بل مستوى الأشياء. فما كان يسمى تشيؤ البشر صار واقعاً يقرع الأجراس لإنذار من لديه أذنان ليسمع بأن هاوية من التردي الأخلاقي تنزلق نحوها البشرية.‏

فممارسة الفن إنتاجاً وتقبلاً قد تحمي البقية الباقية من إنسان عوالم التكنولوجيا وقيادة منظومات الهيمنة على مستوى المعلومة والسلعة والسيطرة المالية.‏

 

التوقيع

 


تِدفا على جال ضوه بارد إعظامي=والما يسوق بمعاليقي ويرويها
إلى صفا لك زمانك عِل يا ظامي=اشرب قبل لا يحوس الطين صافيها
 
 

التعديل الأخير تم بواسطة : ابومحمد الشامري بتاريخ 01-04-2005 الساعة 03:32 PM.
رد مع اقتباس
  #2  
قديم 01-04-2005, 03:17 PM
ابومحمد الشامري ابومحمد الشامري غير متصل
ابوحمد الشامري ( سابقا )
 
تاريخ التسجيل: Dec 2004
الدولة: شـبـكـة مـجـالـس العجمـــــان
المشاركات: 19,132
معدل تقييم المستوى: 10
ابومحمد الشامري قام بتعطيل التقييم



( الإبداع والاتصال )

(1) ما الإبداع؟‏


يصدر الإبداع –كما يقول روجرز – عن ميل في الإنسان ليحقق ذاته ويستغل أقصى إمكاناته. وعندما يتفتح ذهن الإنسان أمام خبراته كافة يصبح سلوكه سلوكاً إبداعياً، ويصبح بناءً. هل نستطيع وصف الإبداع وصفاً مقنعاً مهما امتلكنا من القدرات المعرفية؟ يجيب (ويليامز): الإبداع أمر يعزّ وصفه.. ففي لحظات ما يشعر المرء خلالها أن الفعل الإبداعي صار طوع بنانه وقد هبطت على ذهنه أو شعّ ذهنه بشرارة أو قبس منه.. وفجأة يخبو كل شيء.. وفي أحيان يبدو له أن اقتناص الإبداع سهل وفي المتناول، لكن هذه السهولة لا تلبث أن تصبح أثراً بعد عين فتتبدد على نحو يعصى على الفهم.‏

إن الاهتمام بالإبداع كقدرة عقلية عالية إن في مجالات العلم والتكنولوجيا وإن على المستوى الفني والجمالي مطلب إنساني وضرورة ملحة في عالم سريع التغير. وتسعى باستمرار مراكز البحث والدراسات وأشكال التدريب والتمرين لاكتشاف الطاقات الإبداعية وتربيتها. لكن ما يمكن بوساطته أن نضع تحديداً للإبداع والفعل المبدع يبقى سراباً فسرُّ العبقرية يبقى غامضاً.‏

يفترض في المبدع أن يمتلك نوعاً من التفكير المنطلق المتشعب، وبناء على هذه الفرضية فإن العديد من الدراسات ينفي الارتباط العالي بين الإبداع والذكاء كما يمكن أن يظن كثير من الناس الذين يخلطون بين هاتين القدرتين المعرفيتين.‏

لهذا فإن نتائج روائز الذكاء لا تعطي إجابات مفيدة في هذا الشأن. لأن المبدع عامة قلما يلتزم في إجاباته ببنود الرائز.. فإجاباته تجنح نحو الجدّة والابتكار وتبتعد عن المنوالية التي تفترضها مقاييس الذكاء.. فالإبداع ليس مشروطاً بنسبة الذكاء العالية. كما يقول (فرانك بارون) عالم النفس الشهير:‏

"ليس شرطاً أن تكون نسبة ذكائك مرتفعة كي تكون ثاقب الحدس. إذ أن الحدس يعتمد على الإحساس والمجاز أكثر من اعتماده على قدرة الاستدلال والقدرة على الفهم اللفظي وهما مما تعتمده بشكل رئيسي مقاييس الذكاء"(1).‏

(2) سمات المبدع:‏

يركّز الدارسون في محاولاتهم لتحديد شخصية المبدع على عدد من السمات النفسية، لكنهم في تركيزهم هذا لا يقيمون حدوداً فاصلة بين سمة وأخرى، فهذه السمات مترابطة مع بعضها وغير متمايزة، على أنه ليس شرطاً ليكون الشخص مبدعاً أن يحوز عليها جميعها.‏

إلا أنه كلَّما زاد نصيبه منها كان أكثر إبداعاً وتميزاً. وتتمثل هذه السمات في النزوع القوي إلى الجماليات الشخصية، ولب التحدي غالباً ما يكون في التعامل مع متاهة الغوامض في سبيل صياغة هوية جديدة أو كيان جديد، هذا ما يمكن أن نعدّه سمة أولى من سمات المبدع.‏

أما السمة الثانية فتتمثل في القدرة العالية على اكتشاف المشكلات.‏

ومن جهة ثالثة فالحراك العقلي سمة من سمات المبدع يتمثل بالميل القوي إلى التفكير بمنطق المتضادات والمتناقضات عندما يفكر المبدع بالبحث عن مركب جديد للأفكار.‏

والسمة الرابعة تكون في الاستعداد للمخاطر وفي البحث الدؤوب عن الإثارة، ويرتبط بهذه السمة ما يسمى بتقبّل الفشل، وكلما ازداد إنتاج المبدع ازدادت لديه الفرص لإبداع شيء جديد.‏

السمة الخامسة تكون في إشادة المبدع في عمله عالماً خاصاً، لا حقيقة فيه ويشارك في النشاط لذاته وليس من أجل التقدير.‏

ويبقى السؤال قائماً هل استطعنا بما ذكر أعلاه أن نصف المبدع وصفاً على درجة عالية من الدقة وأحطنا بسمات شخصيته إحاطة وافية؟‏

إن عملية الإبداع من أكثر العمليات المعرفية والنفسية تعقيداً، وليس من اليسير أن يصل البحث فيها إلى تعريف محدد جامع مانع..!‏

وسيظل الإبداع ذا طبيعة خلافية مفتوحاً كعملية للدراسة والبحث. فهو من حيث المكانة يمثل أعمق وأوسع وأعقد نوع من أنواع التفكير البشري.‏

(3) عمليات الاتصال‏:

لخّص (لا سويل) عملية الاتصال بالعبارات التالية:‏

"من يقول؟ ماذا يقول؟ لمن يقول؟ لماذا يقول؟‏

ليست عملية الاتصال بالعملية البسيطة مهما بسطناها، وإنما هي عملية مركّبة ومعقدة. فهي من حيث المبدأ علاقة أو حدث تنطوي أو ينطوي على عناصر، إن صحّ القول، المرسل، الرسالة، المرسل إليه. وأي رسالة تتضمن هدفاً أو ترمي إلى غاية وتحقيق غرض. وهكذا تكون هذه العلاقة مكوّنة من أربعة أركان وليس من ثلاثة.. ثم إن ما بين هذه الأركان ليس بالعامل الثابت وإنما هي وما بينها تتحركان في بيئة محددة تمثل الثقافة إحدى سماتها أي أن هذه الأركان تشترك مع بعضها بخصائص معينة أهم سماتها التغيّر وهي ذات طبيعة ديناميكية تؤثر وتتأثر ببعضها في سياق اجتماعي وفي ظروف محددة، أي أنها لا تحدث في فراغ.‏

ويتوقف فهم عملية الاتصال على فهم مادتها أي على فهم الرسالة من حيث محتواها وأهدافها وهي تتكون من فكرة أو أفكار، أو صورة.. وهي تتأثر بطريقة صوغها. ولا ينتهي الأمر عند هذا الحد فالمرسل هو إنسان أو آلة أو برنامج أو مبرمج ومن حيث هو كذلك فإن طبيعته تؤثر في الرسالة ذاتها فإن كان إنساناً محدداً أو قائماً على برنامج ما فإن لبنيته الشخصية (العقلية والنفسية والجسدية، حالة النطق مثلاً) أثرها في الرسالة وبالتالي بالعملية ذاتها.. وكذلك الأمر بالنسبة للمتلقي أو المرسل إليه.‏

هذه الأمور تتفاعل مع بعضها فتنتقل بالعملية الاتصالية من مستوى إلى مستوى آخر أعلى أو أدنى..‏

وفي عملية الاتصال نميز عمليات أخرى تشكل كل منهما عملية اتصالية تتداخل مع غيرها من العمليات حيناً وتستقل عنها أحياناً، من ذلك:‏

1-الاتصال عملية بيولوجية: يتطلب استقبال الرسالة وإرسالها عملية بيولوجية لدى كل من المرسل والمتلقي. وهي تتصل بأنظمة الجسد المتداخلة والمتفاعلة. وتتعلق إلى حدٍ كبير وأساسي بالجهاز العصبي وبالحواس فكل عملية اتصالية تتضمن أو يمكن تحليلها إلى ميزات واستجابات، هذا من ناحية،‏

ومن ناحية أخرى تتجلى عمليات الاتصال من الناحية البيولوجية فيما يسمى تواصل الأجيال، (جيل يتواصل مع ما يليه أو ما سبق عن طريق عملية التكاثر) والذي يحدث عند الإنسان كما غيره من مخلوقات أخرى باتصال الذكر والأنثى في عملية جنسية ينتج عنها اندماج الخلية الذكرية بالخلية الأنثوية.‏

ومن أشكال الاتصال البيولوجي الأخرى ما يتجلى في اتصال بين أفراد النوع الواحد من الحيوانات أو الاتصال بين أنواع مختلفة عن طريق الرائحة أو الصوت أو الرؤية.. إلخ.‏

2-الاتصال عملية سيكولوجية: ما العلاقات القائمة بين الأفراد أو الجماعات إلا شكل من أشكال الاتصالات وترمي هذه العلاقات إلى إحداث تغيرات في سلوك المتلقي، كما أنها تضطر المرسل أيضاً إلى إحداث تغيرات في سلوكه. وعلى هذا يكون الاتصال الناجح –أي القادر على تحقيق أهدافه- هو الذي يستطيع أن يجعل المثيرات قادرة على إحداث الاستجابات المرغوب فيها. وهذا لا يتم إلاَّ إذا روعي في العملية الاتصالية ما عند المتلقي من دوافع وحاجات.‏

ويلتقي الاتصال من حيث الهدف بالتعلم، فكلاهما يرمي إلى إحداث تغير في سلوك المتلقي، ويتمان من خلال عمليات التفاعل بين جهتين (مرسل متلقٍ في حالة الاتصال، معلم –متعلم في حالة التعلم).‏

وهكذا ينظر إلى التعلم نفسه على أنه شكل من أشكال الاتصال، أو أنه عملية اتصالية.‏

3-الاتصال عملية اجتماعية: تبرز نظريات الاتصال المختلفة دور الظروف الاجتماعية التي يتحقق فيها صوغ الرسالة وتحديد أهدافها وكذلك قبولها أو رفضها.‏

ويتعلق الأمر بأهمية الاتصال في حياة الجماعة وتعبيره عن اتجاهاتها والقيم السائدة عند المتلقي.‏

ولا تخفى الأهمية التي للاتصال من الناحية التربوية بخاصة وقد تنوعت وسائله واتسع دورها ليشمل جوانب الحياة المختلفة.‏

(4) الاتصال والإبداع:‏

إذا كانت الرسالة تشكل العنصر أو الركن الأساسي من العملية الاتصالية، فإن صوغها يشكل أهم شروط نجاحها.. والرسالة ليست نصاً مجرداً ولكنها أيضاً موضوعاً وبقدر ما تملك الرسالة من عناصر الجدّة والأصالة بقدر ما تؤدي وظيفة ذات فعالية أفضل خلال العملية الاتصالية.. فبين الإبداع والاتصال تقوم علاقات لا يمكن إغفالها..‏

الرسالة التي تحوز على رضا المتلقي والتي يبحث عنها هذا الأخير تكتسب قيمتها من جملة شروط أو خصائص تتصف بها وأهمها أن تكون حائزة على درجة من المصداقية تساعدها على أن تكون مقنعة. ويتطلب الإقناع في أدنى حدوده، أن تكتسب الرسالة مظهراً مقبولاً من الصدق، وأن تكون البساطة أحد أهم صفاتها.. وإلى ذلك فلا بد من تدعيمها بالأمثلة واستخدام الرموز التي تحمل المتلقي على الاهتمام بها والبحث عن حلول لها فلا يبقى المتلقي مجرد مستقبل وإنما تحرك فيه رغبة الاكتشاف وتحفز فيه دافع الفضول لمشاركة المرسل في فك رموز الرسالة وقراءة ما تنطوي عليه من معان.‏

معد الرسالة قد يكون أديباً أو فناناً وقد يكون إعلامياً أو معلناً وما إلى ذلك وهو لا يعدم الموهبة وإلا ضاعت رسالته في الهواء.. أي كما يُقال تدخل من الأذن اليمنى لتخرج من اليسرى.‏

وأقل ما يوصف بها معد الرسالة أو مبدعها حيازته على قدرة عالية من المعرفة وامتلاكه تفكيراً خلاقاً.. وهي صفات تقربه من المبدع.‏

لكن كثيراً ما تلجأ الوسائط الإعلامية إلى إثارة السلوك الاتصالي عند المتلقي بدبلجة رسالتها مع وسائل وأساليب متنوعة تجذب المتلقي فلا تقتصر في مادتها على نقل المعلومة بل تقدم معها التسلية ومداعبة الخيال واستثارة الشهوات.. فتبتعد في مهمتها عن الموضوعية. إذ أن المشكلة الأخلاقية أو الفكرية لا تثيرها أداة الاتصال وإنما مصدر الإثارة فيها (مضمون الرسالة التي تحملها الأداة)(2).‏

وتكمن خطورة عملية الاتصال، بخاصة في عصرنا، تحول وسائل الاتصال الحديثة إلى قوة مهيمنة في العلاقات الدولية وفي العلاقات بين الجماعات والأفراد.‏

وهو ما يدفع إلى استثارة القدرة الإبداعية عند الأفراد والجماعات إلى أن يصبح بالمقدور الوصول بالوعي إلى مستوى من القدرة على مقاومة الغواية والإغراء وهما من أكثر العوامل تزييفاً للوعي ومن أكثر الأساليب ضرراً بالأفراد والجماعات تمارسها –مع الأسف- مراكز الهيمنة العالمية وتستقبلها المؤسسات التي لا تحرم ولا تحلل في سبيل جني ثمار وأرباح على حساب عقول البشر بأية وسيلة كانت فلا قيم لديها غير قيم الإثراء والسوق والاستهلاك..‏

ولا يستطيع المرء ضبط مدخلات الوسائط الاتصالية المختلفة إذا لم يكن مسلحاً بضوابط معرفية تمكنه من انتقاء المعلومات الملائمة ومن اليقظة في تفاعله واستجاباته لكل المثيرات التي يتعرّض لها. وإذ تكمن وراء عمليات الاتصال محركات وموجهات تتمثل بالدوافع التي تنشط سلوك الأخذ والعطاء بين أطراف هذه العمليات وتدعمها وترتقي بها –كما يقول ليندسلي- وذلك بإقرار سلوك اتصالي على أساس قوى دافعية تحقق فيها وظيفتين متكاملتين: الأولى تنشيطية تحريكية. والثانية توجيهية تنظيمية(3).‏

والاتصال الناجح تنجزه قدرات إبداعية وهي تنطوي على إمكانات النماء والارتقاء. ففيه خبرات تعليمية وتقويم للسلوك وإحساس بالذات وبالآخرين. أي أنه ذو قوام قائم على التمكن الفعال للفرد من نفسه ومن تفاعله مع الآخرين..‏

(5) الإبداع في العلم والفن:‏

الخصائص العامة لعملية الإبداع تكاد تكون متشابهة في أي نشاط بشري فالخصائص العامة في مجال العلم التي أبدع فيها العلماء مقارباتهم الأهم في تاريخ العلم، والخصائص العامة للفنان التشكيلي أو الشاعر أو الروائي لا تختلفان حيث أن العوامل والعمليات التي تؤدي إلى الإبداع في هذه المجالات كافة وإن اختلفت أساليبها وطرائق البحث فيها والمعنى الذي تكشفه. العملية الإبداعية أي كانت تكون مصحوبة بتوتر وقلق يشعر معهما المبدع أنه قد فقد توازنه المعتاد، وأن رغبة شديدة تدفعه لخفض التوتر وإعادة الاتزان.‏

فالتجربة الإبداعية لدى العلماء والفنانين والأدباء والتقنيين وإن حملت سمات متشابهة إلا أنها في كل مجال منها لها خصوصيتها التي تتمايز فيها عن غيرها. لكنها جميعاً تعود إلى نقطة واحدة أو مركز واحد في الإنسان حيث تتمثل الوحدة من خلال الكثرة والتعدد. فثمة ما يربط الكون والإنسان في نظام موحد عام تتخلق داخله نظم فرعية تتداخل فيما بينها وتعود في نهاية المطاف إلى مقرّها الممتد عبر العصور والمسافات.‏

وإن كان ميدان التجربة الإبداعية واسعاً شاسعاً والطرق المؤدية إليه متنوعة ومتعددة.. فإن بحثاً مهما كان القائم عليه أو القائمون عليه ملمين بجوانبه ويمتلكون الرؤية العامة الشاملة لعناصره ومكوناته يعجز عن الإحاطة به الإحاطة النهائية فليس من جواب نهائي في أي بحث إنساني فثّمة نهايات مفتوحة على غيرها.. أي أن النهاية ليست أكثر من افتراض أو مصطلح يعتمد للوقوف عن الاستمرار وقوفاً مؤقتاً قد تتبعه خطوات نحو المزيد إن من قِبل المتنطع لهذا البحث أو من قِبل آخرين يعملون في موازاته أو يتمون ما قام به.‏

ولأن الأمر كذلك فسيكون المجال في هذا الكتاب مفتوحاً على التجربة الإبداعية في مجال الفن عامة والأدب خاصة. وسيكون ما يقدم يتمحور حول علاقة لا تنفصم عراها بين مبدع منتج ومتلق هاو أو محترف.‏

(6) بين يدي التجربة الإبداعية:‏

التجربة الإبداعية تؤكد أن الحياة لا تطلق مخزونها دفعة واحدة، لأنه غني ثري أولاً وهو في طور الاكتمال ثانياً.. فليس من جواب نهائي لإمكانات الحياة التي تبرز لنا في كل آونة جديداً لا عهد لنا به.‏

ولا يقنع الإنسان –كما أنه لم يقنع من قبل- بلعب دور المتفرج المأخوذ بعظمة الكون وجلاله والذي هو لا ينقطع عن الدهشة أمام الجمال وأسرار الوجود التي تتكشف كل يوم عن واحد أو أكثر منها. والكشف الذي يحرزه المرء رهن سعيه ودأبه واجتهاده وامتلاكه أدوات التعبير والحفر على المعاني. والمبدع من تكشفت له آفاق قد يتيسر لغيره الاتصال بها لكنه يشعر بما لا يشعرون به وتكون لديه القدرة على الإفصاح بما يخامره في لحظات يكون فيها في حالة من الكشف والوجد والدهشة.‏

ومن فاته أن ينعم بمثل هذه الحالة لن تفته –إن أراد- حالة يقتنص فيها ما فاض على المبدع في تلك اللحظات لأنه على أي حال يمتلك القدرة على التلقي فتصله الرسالة ويتفاعل معها على قدر جهده.. ويغوص في بحر ما أعطاه ذلك المرسل أو بحر الرسالة التي يبعث بها إليه فيكتشف بدوره ما اكتشف الأول ولربما تحصل لـه ما لم يكن قد رآه المبدع فيما أبدع فتتراءى له من بحر الإبداع لآلئ ودرر قد يتفاجأ صاحب النص أن قد رآها غيره في نصه. وحالة النشوى التي يشعر بها المبدع بعد فيض ما كان مستغرقاً فيه تتصل بالمتلقي في عملية اتصالية لا حاجة فيها لاستخدام الأسلاك التي تربط بين المرسل والمستقبل ودون أن يتحدث هذان الأخيران بصوت عالٍ وجهاً لوجه أو بأية لغة مما تعرفه الأبجديات.‏

حالة الخلق هذه بظواهرها المختلفة الوجوه المتعددة الأشكال كانت باستمرار محط تساؤل الناس على مختلف مستوياتهم المعرفية. إذ خلق الإنسان على الفضول وحب الاطلاع فاجتذبته هذه الظواهر منذ بدء النشاط البشري على ظهر المعمورة وتفاوتت النظرة بين إنسان وآخر نحو المبدعين.‏

فهناك من ميزهم عن غيرهم من المخلوقات فمنهم من ادعى أن هؤلاء مسكونين بالأشباح أو بالأرواح الطيبة أو الشريرة.. أو أنهم تحركهم الشياطين فتمنحهم قدرات مختلفة عن غير ما لدى أبناء جلدتهم من البشر العاديين.‏

وقديماً قيل إن الشاعر إنما تحركه شياطين الشعر فلكل شيطانه.. وقد عرف العرب مثل هذه التهيؤات حين قالوا بموطن لهؤلاء الشياطين من وادي عبقر.‏

وليس غريباً مثل هذه التصورات لأن المبدع عندما يأتي بالمبتكر والجديد يبدو كأنه حطم مألوفاً لأنه يتجاوز المألوف وإلا فهو غير مبدع. وعلى يديه تتكسر الجمل والخطوط والمفردات لتنهض بدلاً منها وفوقها صور وبنى ما لا قبل للإنسان بها من قبل ولا خطرت على ذهنه.‏

وكلما بدا أن الصورة -شعرية كانت أم نثرية، حروفاً أم أشكالاً، خطوطاً أم أحجاماً، نغمات أم ألحاناً- قد جنحت نحو الرتابة أو السكون يأتي المبدع على جناح طائر سري خفي لا تراه عين ولا تسمع لخفقات جناحيه نأمة فيخترق السكون ويفتعل الضجيج وما أن تنقشع حالة المعاناة والقلق ويتبدد السراب والضباب حتى تتألق صور جديدة.. يضج السكون ويخرج عن كونه سكوناً فتكون القصيدة أو الرواية أو اللوحة التشكيلية منها أو الراقصة.. وترتفع نقرات المطرقة على الإزميل فتكون المنحوتة ويكون اللحن..‏

ولا يتأتى إدراك الجمال لمتكاسل أو جاهل أو عابر طريق، بل أن ذلك يحتاج فيما يحتاجه الدربة والمران والممارسة.‏

نحس الجمال فيغدو الإحساس شعوراً ويصير إدراكاً يتذوقه المرء أو يقدّره، وذلك جزء من وظيفة الدوافع في الإنسان. فثمة علاقة بين الشعور بالجمال وتذوقه من جهة وابتكاره، أو خلقه من جهة أخرى. وأولئك الذين لم يروا في الجمال سوى أنه قيمة عليا لم يتسن لهم معرفة أساس هذه القيمة في الحياة العضوية وفي دوافعها الأولية فاتهم أن يروا تلك الدلالات التي تشير إلى أن ابتكار المقطوعة الموسيقية أو الشعرية وتذوقها إنما يرتبط أساساً بوظيفة عضوية (حاسة السمع)، أما فنون الرسم والنحت والتصوير والحفر وما إليها فترتبط بحاسة البصر، كما يرتبط فن الرقص بأشكاله المختلفة وصوره المتعددة بدافع الحركة الذي هو أحد الدوافع الأولية في الكائنات الحية.‏

فالأشياء الجميلة التي ذكرنا والجمال الذي تشتاق إليه هذه الفنون ما هما إلا تعبير لإرضاء حاجات أساسية في حياة البشر. وليست ظاهرة إنتاج الأشياء الجميلة محصورة فيما ينتجه الإنسان. وإنما نلحظه أحياناً عند بعض أنواع من الحيوان فبعض الطيور تزين أعشاشها وتزخرفها، كما أن بعض أصناف من الحيوان تبدي ضروباً من الانجذاب نحو لحن عذب أو أغنية جميلة.‏

ويرتبط إنتاج الفنون بصوره المتنوعة بجملة مؤثرات وعوامل تشكل الحياة الاجتماعية وتوجهها نحو الأفضل. وهو ما يفسر تطور القيم الجمالية وتنوعها. فقد تتغير النظرة إلى الأثر الفني بتغير المتلقي له وبتغير الأزمنة والأمكنة.. لكنه لا بد محتفظ بقيمة فنية جمالية على مرّ السنين.‏

فالحياة جافة إذا لم يبللها طلل من الفن. والفنون جزء من فعل بشري يهدف إلى تطور حياة الإنسان ويحاول استشراف آفاق مستقبله. ومن تآزر ريشة الفنان وكلماته مع قراءة المتلقي وتأويلاته يكشف المجهول عن أسراره. فالفن –كما يقول زكريا إبراهيم- هو بعامة دعوة حارة إلى تكوين إنسان جديد وإبداع مخلوق مبدع.‏

فالفعل الإبداعي إسهام من أجل الإنسان.. نعت (إيلوار) زميله (بيكاسو) بوصفه له أنه أستاذ الحرية الطيب، بعد أن قال له:‏

أنت لا تعلمهم أن المرور بالخيالات السعيدة والحلم بإجازة لا نهائية أمر جميل، لكنك تمنحهم الرغبة في رؤية كل شيء، والشجاعة اليومية لرفض الخضوع للمظاهر الفانية.‏

لو استطاع أحدهم أن ينتزع من قلوبنا حب الجمال لما بقي في عيوننا –كما يقول روسو- أي سحر.‏

فأي ألق هذا الذي نراه في عيني متلق ينظر إلى اللوحة، أو يقرأ المقطوعة الشعرية أو النثرية أو تشنف أذنيه مقطوعة موسيقية أو أغنية جميلة.‏

وأية تربية تستطيع أن تمنحنا القدرة على تذوق الجمال، وأية نشوة هي التي يتيحها عمل خلاق أبدعته مخيلة شاعر أو ريشة رسام. فالعمل الإبداعي يضن بأسراره على المتأمل العابر أو الناظر المتعجل.. الفن إبداعاً كان، أم تذوقاً يظل جهداً وتأملاً أكثر من كونه حلماً وتخيلاً، إنه متعة العقل وفرحة الذكاء. ولا ينفصل توليد النص أو اللوحة وتذوقهما من المتلقي عن الحياة.‏

فحين عرّف (سان جون بيرس) الشاعر، قال:‏

"من يروم التغني بقصيدة شعب لا يكون وحده، بل يكون مع الجموع وتدفعه الجموع"‏

وستنطلق قصائدنا في طريق الإنسان تحمل البذرة والثمرة إلى سلالات إنسان ينتمي إلى عصر آخر.. حتى الشطآن البعيدة حيث يهرب الموت.. الشاعر معكم وأفكاره كأبراج المراقبة معكم، فليواظب على المراقبة حتى المساء، وليثبت نظره على حظ الإنسان وستحولون الأحلام التي تجاسر عليها إلى أعمال".‏

"الفن مسلك للارتقاء وترقية الآخرين، وليس بضاعة ينتجها أصحابها قصد الإثارة والوصف –كما قال كمال جنبلاط- لأجل بيعها والاتجار بها في الأسواق".‏

في جدل الإبداع والتلقي، في خصائص المبدع وتمايز سلوكه وجنوحه للخروج على السائد والمألوف، في عدم فهم تصرفاته ووصفه بالشذوذ تارة وبالجنوح أخرى وبنعته في بعض الأحيان بالجنون تتحدث الصفحات التالية، وهي تعمل على كشف شروط التذوق الجمالي التي يشارك فيها المتلقي المبدع فيكتسب النص نبضاً يحيل سطوره وخطوطه حياة تنفض الغبار عمّا سكن أو بدا ثابتاً فإذا هو دائب الحركة ديدنه النمو، فتكون القراءة إنتاجاً للمعاني ويكون إقفال النص انتهاء للمعنى.‏

فما آية التقاء المبدع بالمتلقي وما هي أسرار الرحلة من مباشرة الإحساسات وإغراء الحواس إلى كشف الأعماق عبر اختبار حالات من الملاحظة والتأمل؟‏

أيكون سر هذا وذاك فيما كشفه (يونغ) بقوله:‏

الأثر الفني هو ولادة الحياة، والإحضار الفاعل للاوعي الجماعي، وأن الشاعر أو الفنان يقوم بمهمة الأم في حمل هذا اللاوعي جنيناً.. ثم ولادته بعد أن يتكامل نموه ويسعى إلى النضج في رحمه، بعد أن طافت همسات غائمة فيها الشيء الكثير من الضباب على كل شفة..‏

فهل تتكشف أمامنا بعض صور التجربة الإبداعية؟ هيهات أن يكتمل العرس سيظل حلماً.. وإلا تكسرت الأحلام وسدت نوافذ الأمل.‏

(1) الثقافة العالمية – ع49-ص 89.‏

(2) فيليب تايلور: قصف العقول –ترجمة سامي خشبة – سلسلة عالم المعرفة 256 ص9.‏

(3) طلعت منصور: سيكولوجية الاتصال ص 147 – عالم الفكر 2/11.‏

التعديل الأخير تم بواسطة : ابومحمد الشامري بتاريخ 01-04-2005 الساعة 03:35 PM.
رد مع اقتباس
  #3  
قديم 01-04-2005, 03:18 PM
ابومحمد الشامري ابومحمد الشامري غير متصل
ابوحمد الشامري ( سابقا )
 
تاريخ التسجيل: Dec 2004
الدولة: شـبـكـة مـجـالـس العجمـــــان
المشاركات: 19,132
معدل تقييم المستوى: 10
ابومحمد الشامري قام بتعطيل التقييم



من المبدع إلى المتلقي

(1) الإبداع والانفتاح على الواقع والناس:‏


ستبقى الظاهرة الإبداعية تمثّل لغزاً في تاريخ العلوم الإنسانية. فهي القدرة الأكثر تعقيداً بين قدرات الإنسان العقلية والمعرفية. في مقدمة كتبها عالم النفس البريطاني (سيريل بيرت) لكتاب (نعمة الإبداع) لمؤلفه (آرثر كسلر) وصف الظاهرة الإبداعية من خلال نظرة تاريخية بقوله:‏

نعمة الإبداع كانت معروفة منذ أزمان بعيدة جداً وكان ينظر إليها بكثير من الإجلال والإكبار كما لو كانت هبة إلهية مقدسة، كما أن الأساطير اليونانية كانت تلحق قوى الإبداع والموهبة الإبداعية إلى بعض الأبطال الأسطوريين العباقرة من أمثال (برومثيوس) مؤسس أقدم مدرسة للطب. فهؤلاء جميعاً يظهرون في الثقافة اليونانية القديمة على أن فيهم نفحة من الآلهة، ويتميزون بوجود عنصر إلهي في تكوينهم أو على الأقل عنصر إعجازي يفوق قدرات البشر الآخرين(1).‏

جرت العادة، ردحاً من الزمن، أن يقرن الإبداع بالذكاء، وقد وصفه بعضهم بأنه نوع من الذكاء العالي، أو أنه الذكاء في أعلى مستوياته. لكن الإبداع يجاوز الذكاء ويبدو للباحث من طبيعة أخرى قد لا تكون مغايرة كثيراً لطبيعة الذكاء الذي يعرف تعريفات عدة، من مثل القدرة على التكيف أو القدرة على حل المشكلات. إلا أن الإبداع في تجاوزه لمفهوم الذكاء فإنه يشق دروباً جديدة ولا يحل المشكلات حلاً تقليدياً أو معروفاً بل يخلق عوامل مبتكرة مخالفة للمألوف. وغالباً ما تكون الاستجابة في حالة الإبداع مفتوحة على شتى الاحتمالات، وليس ذلك فحسب فالعقل الخلاّق لا يقتصر دوره على خلق المبتكر والجديد وإنما يمتلك القدرة على تقبل الجديد المبتكر.‏

فليس الإبداع صفة المبدع للجديد فحسب، وإنما صفة للمتلقي القادر بحدسه ونفاذ بصيرته أن يكتشف الجديد ويتقبله.‏

والعمل الإبداعي (نصاً كان أم لوحة أم مشهداً..) الذي لا يستثير في المتلقي ردوداً متنوعة ويفتح ذهنه على أكثر من احتمال يفقد الكثير من عناصر الإبداع. أما النص أو العمل الذي لا يعطي أكثر من إجابة مهما كانت دقيقة فهو لا يمتلك سمات إبداعية كافية. العمل الإبداعي يضع المتلقي داخله فيشارك في صنع الصور واقتراح الحلول والمسارات ويفسح لـه في المجال للتنبؤ والاستشراف.. لذلك فإن النص المفتوح يظل نصاً محرضاً للقدرات العقلية ومنشطاً لها ومحفزاً.‏

مهما كانت نتيجة الإبداع (شعر) قصة، رواية، مسرح، عمل تشكيلي، اختراع علمي، مقاربة علمية، فالعمل الإبداعي يشكل منظومة مشرعة الأبواب والنوافذ على منظومات أخرى، وإلا، فسيكون محكوماً عليه بالموت. وهذا ما تدل عليه مقاربة النظم التي ترى في الكون سلسلة منظومات متشابكة يتداخل بعضها بالبعض الآخر في عمليات استغراقية كلية أحياناً وأحياناً جزئية تؤثر وتتأثر ببعضها. لذا فمقولة (الفن أكبر من شراحه) تظل قابلة للتصديق. فمهما علا كعب الناقد، ومهما كان النقد يحمل من صفات الموضوعية والدقة فالطريق إلى أغوار النص ليست بالسهلة وقلما تصل بسالكها إلى النهاية أو تستنفذ النص، إلا إذا كان النص مغلقاً على ذاته غير قابل للتأويل والشرح والتفسير وآنئذ يفقد الكثير من مواصفاته الإبداعية.‏

وتبقى نظريات النقد –كما يقول أحمد أبو زيد- نظريات جزئية، متحزبة متميزة، وذاتية، وقابلة للحوار والمناقشة. أما الأحكام التي تصدر عن الناقد فينبغي لها أن تكون تقريبية فلا تدعي الإحاطة بجوانب العمل وجوهره. ذلك أن العمل الفني الذي يستحق هذه التسمية هو (مجموعة من الأفكار والآراء والأحاسيس المتشابكة والعواطف والتجارب المعقدة التي خضع لها المبدع(2).‏

لكن السعي لتفسير الخاصية العمومية والكلية للعمل الإبداعي التي لا يحدها زمان أو مكان تظل مشروعة، على ألا يعطي أي كان لتفسيره صفة اليقين أو أن يجعله مسك الختام في عصر انهيار اليقين حتى في ميادين العلوم الأساسية.‏

لنصغ إلى صدى قراءة هذا النص في دواخلنا لجلال الدين الرومي:‏

"استمع إلى الناي كيف يقص حكايته، إنه يشكو ألم الفراق.. ويقول: إنني منذ قُطِعتُ من منبت الغاب والناس رجالاً ونساء يبكون لبكائي، فكل إنسان أقام بعيداً عن أصله يظل يبحث عن زمان وصله، إن صوت الناي هذا نار لا هواء، فلا كان من لا تضطرم في قلبه مثل هذه النار".‏

فعملية الإبداع لا تجري بعيداً وفي اتجاه واحد، ومن أجل هدف محدد الإطار ثابت إنما هي تتحرك وتتخذ أشكالها المختلفة بتأثير من تفاعلات نوعيةّ، يشكل كل من التواصل والاتصال والتفاعل بعض أهم جوانبها. فالمبدع ليست بينه وبين المتلقي حواجز أو موانع. ولا يتصورن مبدعاً لا يضع في اعتباره أولئك الذين يتلقون نتاجه. فالمتلقي قابع في ذات المبدع في أشد لحظات إشراق الفكرة ومكابدة ولادتها لتصير وجوداً حاضراً بالفعل بعد أن كانت مجرد إمكانية.‏

(2)-المبدع والمتلقي (حالات من سوء العلاقة والانسجام):‏

يقول الناقد الأمريكي (واين بوث) في كتابه (بلاغة القصة) الكاتب (يخلق في نصه صورة عن نفسه وصورة أخرى عن قارئه... فهو يصنع قارئه كما يصنع نفسه".‏

بعملية تبسيطية يمكن اكتشاف بعدين للفعل الإبداعي لا ينفصلان، ولا حدود فاصلة بينهما فهما متكاملان متفاعلان يعانق أحدهما الآخر –هذان البعدان هما: بعد ذاتي يتعلق بالمبدع نفسه، وبعد خارجي يتعلق بالأخر، وهو هنا المتلقي المفترض، عناصره حالات فردية وجماعية، وربما رأي عام، وعناصر بيئية متنوعة ومختلفة.. وفي الوقت الذي تختل في أثنائه العلاقة بين المبدع والمتلقي بحيث تتخذ شكل الإحجام أو التنافر، يحدث ما يمكن أن نسميه أزمة في عملية التواصل التي ينبغي أن تكون في اتجاهين متمازجين (من المبدع إلى المتلقي ومن المتلقي إلى المبدع) بحيث تشكل الحركة الثانية عملية تغذية راجعة تدعم الجوانب التي كانت فيها استجابة المتلقي إيجابية، وتبلغ الفاعل بالنواقص الأخرى فيسعى إلى تلافيها في عمل مقبل أو في كتابة ملحق أو توضيح أو استدراك. والإحجام أو التنافر إن استمر في حد القطيعة، فإنه يقود إلى إحباط المبدع والحكم على نتاجه بالعقوبة التي تتناسب شدتها عكساً مع وعي المتلقي لها..‏

لكن العلاقة بين المبدع والمتلقي لا تسير –كما يبدو للوهلة الأولى- حسب هذا الظن الظاهري، وقد يأخذ حدوث الاستجابة من المتلقين زمناً يطول أو يقصر.. وفي كل الأحوال إن المبدع لا يؤخذ بردات الفعل السريعة والآنية وإن كان ذلك يحفزه إلى تعديل المسار، والتوقف للمراجعة وإعادة النظر، أو تغيير المسار نهائياً.. أو تكون المكابرة التي قد تؤدي بالمبدع إلى المخاطر.. كما حصل لـ (غاليله وكوبرنيكوس وغيرهما). لكن القطيعة قد لا تطول وتكون مجرد حالة عرضية.. ويعاني المبدع في أحيان كثيرة من جحود الأقربين وحسدهم فيحسب أنه قد صار وحيداً بلا أصحاب يؤازرونه ويستطيعون إسداء المعونة لمواصلة إبداعه. وقد يصبح عمله سلاحاً يُشهر ضده، فتستنفر في الآخرين الأهواء المرضية من مورثات عقدية متكلسة أو ثارات قبلية وطائفية، ويتلقى اتهامات جاهزة، وقد يجرد من وسائل الدفاع عن نفسه ولا تُتاح له الفرصة ليتلقى محاكمة عادلة وفق معايير عقلية ومنطقية ذات مقدمات سليمة.‏

ومن الأعمال الإبداعية مالا تجد المتلقي القادر على الارتفاع إلى مستواها لسبب أو لآخر، فتفقد هذه الأعمال الفرصة التي تؤهلها لأن تبلغ حقها من التقدير والاستيعاب والفهم. ولحسن الحظ أن ذلك لا يستمر فسرعان ما يأتي الوقت الذي فيه تنصف وتعطى ما تستحقه من اهتمام.. وإن كان ذلك قد يحدث بعد زمن طويل.‏

ومن الصيغ التي تتخذها العلاقة بين المبدع والمتلقي، التنكر للمبدع ونتاجه أو التنكر لـه شخصياً حين يوصم بالجنون أو الانحراف. فتصبح حياته الشخصية هدفاً للتشنيع.. الذي يكون لـه أساس في حياة المبدع وسلوكه أو لا أساس لـه. ولكن المبدع الأصيل يمضي في طريقه ويترك للزمن مصير أعماله.. فهل تأثر جان جينيه كمبدع بما كان عليه سلوكه الشخصي؟‏

ورمي المبدعين بالجنون ليس بالشيء الجديد في علاقة المتلقي بالمبدع وهو ما سنفرد له بحثاً خاصاً. إلا أن ذلك ليس بالغريب كون المبدع –كما يفسّر بعضهم سلوكه ويحلل شخصيته- يتصف في الغالب بكثير من خصائص الطفولة من حيث ميله للانطلاق وعدم مبالاته بالعادات والتقاليد، مما يجد فيه بعض المتربصين به سبباً للنيل من شخصيته بخاصة وأنه يتصرف تصرفات لا تنسجم مع ما يراه الناس تصرفاً سليماً. دعي (لامبير) عالم الطبيعة المشهور لتناول طعام الغداء على مائدة الإمبراطور الفرنسي (نابليون). وقد رأى ذلك العالم في تلك الدعوة شرفاً عظيماً أغدقه عليه الإمبراطور، وعلى الرغم من ذلك نسي لامبير الذهاب في الموعد المحدد. مثل هذا السلوك يستهجنه الناس العاديون وقد ينعتون صاحبه بالجنون والاستهتار. وقد يعامل من الآخرين أنه مجنون فعلاً.‏

هذا لا يعني براءة جميع المبدعين من الجنون والهوس. وتاريخ الأدب والعلم والفن ينبئنا عن من أدت حالات عدم تقبل نتاجاته أو ما قوبلت به من الاستهجان والإعراض إلى حافة الجنون أوالانتحار. لكن حالات أخرى –لحسن الحظ- نرى فيه المبدعين يقومون بعمليات تكييفية أو تكيفية يدرؤون بها الصدمة مثل تبديل البيئة.. وليس غريباً عنا ما يدعى بهجرة الأدمغة.‏

حتى الآن تبدو العلاقة السيئة بين المبدع والمتلقي وكأن أسبابها موجودة عند الثاني مما يثبت براءة المبدع.. مع أنه في كثير من الحالات يسهم بعض المبدعين في تطوير العلاقة إلى حد التنافر عندما يصاب المبدع بالغرور والتعالي. وفي أحايين كثيرة تقوم وسائل الإعلام بدور سلبي حينما تكيل المديح جزافاً لهذا المبدع أو ذاك، أو حين يتطوع بعض النقاد، لسبب أو لآخر في تدبيج الأوصاف بحق أو بغير حق، فيصل الأمر بالمبدع إلى حد الاعتقاد بأنه قد وصل القمة بسبب ما زين له هؤلاء، فيلجأ إلى الإسراف في النتاج إلى مدى يستهلك فيه الكمُّ الكيفَ، فيحكم المبدع على نفسه بموت مؤكد، فلا يدرك ذلك إلا بعد فوات الأوان. وهو موت لا يرتقي بصاحبه إلى مرحلة فقد التوازن بين العمل في ذاته وبين تلقيه.‏

هذه حالات من عدم الانسجام بين الإبداع، كنتاج ومنتج، وبين التلقي وهي حالات لا تشكل قاعدة عامة وتظل في حدود الاستثناء غير المخل.‏

(3)-التناغم بين المبدع والمتلقي:‏

لحسن حظ البشرية لا تكون العلاقة بين المبدع ومجتمعه دائماً علاقة سلبية وغير منسجمة. فقد أتيح للبشرية مبدعون في مجالات الحياة المتعددة والمتنوعة أسهم في تجميل الحياة، بحيث أن المتتبع لتاريخ البشرية ووجودها فوق كوكب الأرض يكتشف أن حياة الإنسان كانت سلسلة من العمليات الإبداعية التي أطلقت يده وعقله في هذا الكون، فأسهمت في تنامي الوحدة بينه وبين ناسه في الوقت الذي يسهم الإبداع في جعل الإنسان –فرداً- يبلغ تحقيق شكل من الوحدة مع نفسه. فكأنه بوساطة الإبداع تمكن من إدراك الوحدة داخل التنوع، فلا تناقض ولا تعارض، وهذا هو سر جنوح العلاقة إلى نوع من التوازن ما أن يلم به بعض الخلل حتى يعود إلى حالة الانسجام في تناغم كوني لا يملك المرء معه إلا التسبيح بقدرة مدبر الأكوان. وهذا أحد نتائج العلاقة الإيجابية بين المبدع ومجتمعه. فالإحساس بالرضا والبهجة عند إنجاز العمل الإبداعي، وبعد ذلك عند تذوقه هو مربط الفرس في هذه العلاقة المنسجمة والمتناغمة. هذا الإحساس بالتوهج المشترك هو ما عناه الروائي (س.ب.سنو) في حالة ذلك الشاب الذي تأكد له صحة ما وصل إليه من جراء عمله الذي كان يجربه على التركيب الذري للبلورات حيث قال:‏

"انتصاري وبهجتي ونجاحي كلها تحيط بي، بيد أنها بدت تافهة بجانب هذه النشوة الصافية، لقد بدا الأمر كما لو كنت أسعى للعثور على حقيقة ما خارج ذاتي، وأصبح العثور عليها للحظة واحدة جزءاً من الحقيقة التي كنت أبحث عنها وكأن العالم كله، الذرات والنجوم، كانت مشرقة بصورة رائعة وقريبة مني وأنا قريب منها حتى أصبحت جزءاً من نورانية أنصع وأروع من أي سر مقدس"(3).‏

(4)-في الإبداع عودة الذات إلى موضوعها:‏

نشوة المبدع الصافية كيف تنتقل إلى المتلقي. وبكلمة أخرى كيف تنبجس من داخل هذا الأخير تلك البهجة؟‏

يتعامل المبدع مع الأشياء من حيث ما تمثله لأناه، ومن حيث تبدو مقدرته على إمتاع المتلقي وجذبه نحو موضوع، ومن حيث قدرته على أن يجعل لموضوعه لدى المتلقي الوظيفة نفسها أو قريباً مما يراه هو أو يخلعه عليها.‏

فالنوع البشري الذي تباعد الأهواء والشهوات والرغبات المادية بين أعضائه يعيده الفن بأية صورة كان إلى صفائه، ويمهد الطريق إلى وحدة الذات مع موضوعها ودخول الجزء في كله.. إنها اللحظات التي تعود فيها الحركة إلى نقطة انطلاقها، إلى نقطة البيكار، حيث تتلاقى النفوس الجزئية عند سدرة المنتهى، عند النقطة التي كشفت عنها العبقرية الغطاء الذي كانت تلوذ به..‏

هذا التناغم بين الذات وموضوعها، بين العمل الإبداعي الذي يتوسط العلاقة بين المبدع والمتلقي يشرحه يونغ بقوله:‏

"فاوست هو الذي خلق غوته وليس العكس، فاوست موجود في أعماق كل ألماني". وفي مقالة بعنوان (الشعر وعلم النفس) يقول (يونغ):‏

"الشعر العظيم يستمد قوته من حياة الإنسان كنوع، وسنخطئ معناه بشكل تام، إذا حاولنا استلال ذلك المعنى من عوامل شخصية".‏

فالأثر الإبداعي ولادة حية وإحضار فاعل للاوعي الجماعي. والمبدع يقوم بدور الأم في حمل هذا اللاوعي جنيناً ثم ولادته بعد أن يكون قد تكامل نمواً ونضجاً في رحمه، وطاف همسات غائمة فيها الكثير من الضباب وعدم التوضيح على كل شفة"(4) الحاجة إلى التعبير عن النفس ، إلى الإفصاح عما يختلج في الأعماق، إلى توضيح المشاعر هي الأجوبة التي تكاد تكون جاهزة لدى كل مبدع حين يُواجه بالسؤال عن مقومات عمله وعلله.. ومشروع دائماً السؤال عن الآلة النفسية في عملية الإبداع وعن سر التناغم بين مشاعر المبدع ومشاعر المتلقي. يقول علي حرب في كتابه (نقد الحقيقة):‏

يبقى النص فضاء دلالياً وإمكاناً تأويلياً، لا يحمل دلالة جاهزة ونهائية والنص الذي يستهوي القارئ يشكل بالنسبة له –على حد قول رولان بارت- موضوع اشتهاء... فهو كالجسد يغري قارئه، ويفتح شهية الكلام لديه، ويحرّك رغبته في المعرفة"(5).‏

(5)-الاتصال الإنساني والدوافع:‏

تعتمد فعالية الاتصال الإنساني على عدد من الدوافع النفسية. ويتمايز المبدعون في قدراتهم على إثارة هذه الدوافع وإشباعها، وذلك بسلوك قادر على الاختيار بين قناتين هما:‏

1-إثارة الشهوات الرخيصة لدى المتلقي ودغدغتها وإتباع الوسائل والطرائق التي تلبي رغبات آنية وضيعة لديه.‏

2-إثارة دوافع تدعم نشاط الأخذ والعطاء بين طرفي المعادلة والعمل على تصعيده. ويتمايز المتلقون في تأثرهم وتفاعلهم مع الرسالة الاتصالية من حيث الضبط المعرفي حسب ما يقول (كلاين)، أي ما يتحقق للسلوك من تنظيم وتكامل بواسطة الانتباه الذي تعمل ميكانيزمياته بطريقة انتقائية. فنظام المعارف والآراء والمعتقدات الذي يتخذه الفرد نحو البيئة ونحو نفسه وسلوكه يمثل ضوابط معرفية تمكنه من انتقاء المعلومات الملائمة، ومن اليقظة في تفاعله واستجاباته لكل المثيرات التي يتعرض لها(6).‏

لكن ذلك لا يعني انقطاع الصلة بين المبدع والمتلقي أو قسر العلاقة بينهما على خصائص كل منهما. فالصورة التي تساعد في رؤية التفاعل جلية بينهما أكثر ما تُرى في الشعر: إذ أن الشاعر دوماً يحس أنه يفتقد الآخر الذي يتصل به، وليس ذلك فحسب فهو "لا يرضيه حال، ولا يقنع بشيء، إنما يريد أن يهجر ذاته، ويطفر صوب الأشياء كلها.. من أجل أن يتوحد في كل الأشياء ويتمرأى في كل الذوات ويرى العيون منعكسة في كل العيون"(7).‏

(6)-بذور العملية الإبداعية:‏

الإبداع عملية تفاعلية قوامها الاحتكاك المباشر والإيجابي بين الفرد والجماعة. فهو لا يتم في فراغ.. يندفع المبدع بنشاط غايته خفض حالات التوتر التي تنتابه وإعادة التوازن.. ومع انغماس المبدع في عمله يتزايد التوتر الدافع..‏

وهذا النشاط الذي تحركه الدوافع وتؤججه العاطفة يبقى نشاطاً عقلياً تنتج عنه صور واستبصارات جديدة. ويعبر (بيكاسو) عن حالة التوتر في الخيال الإبداعي بقوله: يصور المصور كما لو كانت هناك حاجة ملحة تدفعه إلى أن يخفض من إحساساته ورؤاه(8).‏

فالنشاط الإبداعي وقوده خبرات متراكمة منها ما هو شعوري ومنها ما هو غير ذلك، وادعاء المبدع أن له طريقة أو طرائق يتفرد بها من حيث الخلق والإبداع وأنها تعبير عن استقلاله في النظرة والتفكير ما هو إلا زعم (ولا يجد أساساً له من الصحة غالباً، لأن الإسهام هذا لابد أن يكون له مكان بالضرورة داخل نسق منظم متكامل)(9).‏

فأي نص إبداعي "مبني على غياب، ويستعصي على الحضور لأنه يحمل أثر الآخر الذي يسكننا، أو يهجس بالآخر الذي لا يحضر"(10).‏

يفسر المتعاطون بالتحليل النفسي الإبداع كونه تعبيراً راقياً مموهاً ومكشوفاً للخبرات المكبوتة دون أن يشعر المبدع أو المتلقي أنها كذلك. تخرج الخبرات المكبوتة من سجنها في أعماق النفس حين تخف الرقابة الشعورية عليها أو تضعف فتظهر أحلاماً في أثناء النوم أو أحلام يقظة أو زلات لسان أو شطحات قلم، وقد تتطور نصاً إبداعياً..‏

إلا أن الخبرات المكبوتة سواء كانت خبرات مبكرة منذ عهد الطفولة –كما يقول فرويد- أم كانت خبرات موروثة من الأسلاف فيما دعاه يونغ باللاشعور الجمعي، تبقى أهم بذور ومنطلقات العملية الإبداعية ومرتكزات تلقيها وتذوقها.‏

يقول (فرويد):‏

أن عدم حصول الإشباع، وتجربة خيبة الأمل المترتبة عليه هي التي أدت إلى التخلي عن الانغماس في محاولة الإشباع هذه عن طريق الهلوسة، وبدلاً من ذلك اضطر الجهاز النفسي إلى اتخاذ قرار بتكوين تصور الظروف التي في العالم الخارجي، ومحاولة إحداث تغيير حقيقي في هذه الظروف(11).‏

(7)-في الفن والأدب علاج وتطهير للنفس:‏

يكون الإبداع سبيلاً للعلاج، أو لتحقيق التوازن الذي يهدده الكبت، وقد يقود صاحبه إلى المرض النفسي. وتكون العملية الإبداعية قفزة إيجابية يتجاوز بوساطتها صاحبها كل أشكال الخوف المتأصل في الموقف الإنساني كتب غراهام غرين في سيرته الذاتية:‏

"الكتابة أسلوب من أساليب العلاج، وإني لأتساءل في بعض الأحيان كيف يتسنى لمن لا يكتب أو يؤلف الموسيقى أو يرسم أن ينجو من الجنون أو الملانخوليا".‏

ويكون تلقي الأعمال الإبداعية، تذوقاً أو قراءة أو مشاهدة أو استماعاً بدوره أسلوباً من أساليب العلاج والتطهر النفسيين.‏

وبحسب (يونغ) تتبدى عملية العلاج في انسحاب الليبيدو من رموزه الاجتماعية التي كان متعلقاً بها في الخارج. لأن هذه الرموز لم تصلح لأداء مهامها لما أحدثه التطور في تغير الثقافة. وهذا الانسحاب إلى أعماق الشخص يثيرها لتبرز كوامن اللاشعور الجمعي. يرى الناس العاديون هذه الكوامن في أحلام النوم بينما يراها المبدعون في اليقظة عملاً فنياً ناجزاً، يرى فيه المحللون كثيراً من الرموز ا لتي تدل على أساطير الأولين وتجارب الأجيال القديمة. ودليل ذلك عودة فنانين كبار من أمثال (بيكاسو) و(ماتيس)، وكاتب كبير مثل (أندريه مالرو) إلى ذلك المعين الكامن في الفن البدائي، وقبول المتلقين له. فما ذلك إلا تعبير لا تخطئه ذائقة عن تلك الجذور التي لم تمت حيث يتلاقى المبدع والمتلقي عند نقاط مشتركة تلتغي عندها، إلى حد ما، الحدود بين الثقافات. فالمهم –كما يقول ليفي ستراوس- أنّ المرء لا يسير وحده أبداً على دروب الخلق والإبداع.‏

(1) أحمد أبو زيد: الظاهرة الإبداعية –ص 9 عالم الفكر 4/15-1985م‏

(2) أحمد أبو زيد: الاتجاهات الحديثة في النقد الأدبي ص 5- عالم الفكر 9/2. 1978.‏

(3) أنطوني ستور: العبقرية والتحليل النفسي ص38-39 في كتاب العبقرية –عالم المعرفة.‏

(4) محمد المبارك: الآداب –أيلول- 1970، ص77.‏

(5) علي حرب: نقد الحقيقة ص9.‏

(6) عالم الفكر 11/2، ص147.‏

(7) علي حرب، ص19.‏

(8) ؟ : العملية الإبداعية في الفن والتصوير ص128، عالم المعرفة.‏

(9) أحمد أبو زيد: عالم الفكر 62/15، ص‏

(10) علي حرب: ص19.‏

(11) أنطوني ستور، ص318.‏


التعديل الأخير تم بواسطة : ابومحمد الشامري بتاريخ 01-04-2005 الساعة 03:39 PM.
رد مع اقتباس
  #4  
قديم 01-04-2005, 03:19 PM
ابومحمد الشامري ابومحمد الشامري غير متصل
ابوحمد الشامري ( سابقا )
 
تاريخ التسجيل: Dec 2004
الدولة: شـبـكـة مـجـالـس العجمـــــان
المشاركات: 19,132
معدل تقييم المستوى: 10
ابومحمد الشامري قام بتعطيل التقييم



الإبداع والجنون

(1)-لمحة عامة:‏


في مراحل تاريخية سابقة سادت أفكار متشابهة إلى حد ما بين العديد من المجتمعات. فحين ساد في المجتمع العربي ما قبل الإسلام تفكير مفاده أن الشاعر حين تأتيه حالة الدفق الإبداعي يكون مسكوناً بشيطانه الخاص ولشياطين الشعر العربي، كما تكلمنا سابقاً، موطن خاص به هو وادي عبقر. وخلال القرن السادس عشر مال الأطباء في إنكلترا بشكل عام اعتماداً على سلطة الكتاب المقدس إلى القول بأن التلبس الشيطاني هو المسؤول عن الجنون عند الأشخاص العاديين كما عند المتفوقين والمبدعين.‏

واستمر هذا الاتجاه الذي يربط العبقرية بالجنون حتى أيامنا هذه . وقد تم النظر عند الإغريق للجنون على أنه ظاهرة مقدسة مع أنهم عدوه أيضاً مرضاً عقلياً. لكن مصطلح الجنون لم يثبت على حال واحدة.. فقد ارتبط بشكل ما في تعريفه بالعقل غير المنظم وبأنه يمثل أنواعاً وتجليات عديدة للسلوك اللاعقلاني.‏

"وظل هناك تفاعل وتداخل بين المعاني الخاصة بالجنون باعتباره يشكل نوعاً معيناً من المرض العقلي وبين الإطار المعرفي المميز المرتبط بالسلوك اللاعقلاني. وربما كان هذا هو أحد الأسباب الكبيرة التي وقفت وراء عمليات الربط بين سلوك المبدع الغريب الشاذ في بعض الأحيان وسلوك المجنون الغريب الشاذ أيضاً(1).‏

والمجنون ليس من كانت سويته العقلية متدنية. فثمة فرق شاسع بين الجنون والبله. وقد ميز (جون لوك) بين الأبله (ضعيف العقل) وبين المجنون، الأبله محروم من العقل أو غير قادر على استخدام قدراته العقلية بشكل ناضج، بينما المجنون مضطرب لكن قدراته العقلية تكون نشطة. والمجانين في رأي لوك يبدو أنهم يعانون نقيض ما يعاني منه البلهاء لأنهم يبدون قد فقدوا قدرتهم على الاستدلال مع أنهم يقومون بالربط بين الأفكار بشكل خاطئ أنهم يضلون طريقهم، ويخطئون مثل البشر الذين يدافعون عن الحق استناداً إلى مبادئ خاطئة(2).‏

المجنون تتداخل سماته السلوكية مع سمات العاشق من حيث المخيلات القوية فهما صاحبا خيال أكثر تأثيراً.. من هنا قد يرى البعض في الشاعر أنه الذي تستبد به الخيالات والأحلام فما الحلم إلا حالة جنون عابر يشفى منه المرء حين يستيقظ وكذلك يشفى الشاعر من جنونه حالما تهدأ نفسه وترتاح مخيلته بعد ولادة القصيدة.. وكذلك الحال مع الرسام والنحات وغيرهم من المبدعين.‏

لكن الأحلام كما تحدثنا الأساطير، ويؤكد علماء التحليل النفسي وإن كانت تبدو شكلاً من أشكال الجنون، بحسب ما ذكرنا، فإنها كانت عبر العصور تعدّ سبيلاً للشفاء ففي ملحمة جلجامش ما يدلنا على ذلك الوعي العميق الذي ساد في الأساطير السومرية وفي مملكتي آشور وبابل، بالفعل الشفائي للأحلام، جلجامش يطالب الجبل أن يأتي لصديقه أنكيدو بحلم مطمئن فيقول لـه: أيها الجبل، يا موطن الآلهة، أرسل حلماً لأنكيدو، ابعث إليه بحلم مطمئن(3).‏

إن فكرة ارتباط العبقرية بالجنون قد تجد ما يؤيدها في أن بعض المبدعين تكون لديهم أعراض عصابية أو ذهانية وقد تبدو قوية أكثر مما هي عند الناس العاديين. وأن كلاً منهما تتميز بخبرات عقلية يجد الفرد العادي أنه غير قادر على فهمها.. لكن هل كل مبدع مجنون؟‏

(2)-العبقرية والجنون:‏

سواء كانت العبقرية قريبة من حالة الجنون، أو بعيدة عن ذلك، أو مساوية له أو أنها أحد وجوهه. فإن حالة المبدع في لحظة إشراق الفكرة أو المعنى هي حالة خاصة متميزة ليست مما يعرف الناس من الحالة السوية للشخص أو لسلوكه.‏

ففي محاورة ايون ينسب (أفلاطون) العبقرية إلى الإلهام، فيقول: "الشاعر كائن أثيري مقدس ذو جناحين، لا يمكن أن يبتكر قبل أن يُلهم فيفقد صوابه وعقله، وما دام الإنسان يحتفظ بعقله فإنه لا يستطيع أن ينظم الشعر".‏

وبعض الشعراء لا يستغرب أن ينعت بالجنون ولا يرفض ذلك بل يذهب، بحسب (ترلنغ) إلى حد القبول بأن مرضه ملازم لقدرته على قول الصدق. وإن ملاحظة المبدع وهو في حالة إشراق الفكرة لا تخفي ما يعانيه من عذاب نفسي بل وجسدي أيضاً، لكنه عذاب مستحب، يشبه عذاب المرأة خلال المخاض، فهو يعاني عذاباً وألماً يقربانه من (الماسوشي) الذي يستمتع بإيذاء نفسه(4).‏

أما (مصطفى سويف) فإنه يرى في عملية الإبداع الشعري ما يقربها من وصف الجنون، إذا أنها كما يقول تتم عادة في مرحلة تقع بين اختلال الأنا واتزانها، وهذا أحد أسباب إطلاق وصف الجنون كصفة ملازمة في غالب الأحيان للإبداع. ففي حالة الجنون –وقد ذكرنا بعض سماته فيما سبق- وهو مفهوم فضفاض يتضمن حالات مرضية متعددة، تكثر فيها عمليات تتميز بحرية التفكير وانطلاق العقل وجموحه وإذكاء الخيال وفيضانه وحضوره، وهو حالة يتوق إليها كثير من الأدباء والفنانين. وليس غريباً على الذهن العربي وصف الشاعر على أن به مساً أو أنه مسكون بالشياطين، كما أسلفنا.‏

هذه النظرة التي تربط العبقرية بالجنون أو تقربها منه تدفعه مع نتائج الدراسات القائمة على استخدام الروائز والاستبيانات. ففي دراسة أجراها (جيز وجاكسون) وهما من علماء النفس المشهورين وجدا أن المبدعين يجنحون في إجاباتهم إلى الريبة التي يوحون بها إلى الفاحص أو المعلم، وهي ريبة غير معترف بها وينفيها المعنيّ بشدّة، وأنهم يصنفون حب الدعابة تماماً في عداد الصفات التي يتمنون أن يوصفوا بها، وتتجلى إبداعاتهم في النتاجات الخيالية، ولكن بعض الدعابات التي ظهرت في إجاباتهم غير خالية من الذوق الرديء وغرابات الخيال(5).‏

وتضيف نتائج الدراسة أن المبدعين تميّزوا بنتائج غير متوقعة، وبالدعابة، وعدم اللباقة والمخيلة، ويتميزون أيضاً بأمر يصعب شرحه يتمثل بالعنف الأكبر الذي ينتشر في قصصهم الصغيرة.‏

(3)-الإبداع والجنون من خلال بعض الشهادات:‏

تحدثت الرسامة (ميلي) عن زوجها (راسكين) قائلة:‏

"إنه عملاق في كل ما يخص الموهبة الأدبية، ولكنه بالنسبة إلى كل ما تبقى موجود مسكين ضعيف لا لون له، ولا قلب ولا شجاعة".‏

وسيرة حياة (راسكين) لا تكذب شهادة زوجته فيه. فقد انتهى هذا الأديب إلى المعاناة من نوبات من الجنون، وغرق في السنوات الإحدى عشرة الأخيرة من حياته في الجنون نهائياً.‏

ويضرب (كريشمنر) أمثلة كثيرة على متاخمة العبقرية للجنون من خلال ذكره لعدد من المبدعين الذين انتهوا إلى حالات منه: ستيورات ميل، دوستوفيسكي، غالتون، موباسان، نيوتن، نيتشه، روسو، شوبان، وفان غوخ. خلال جزء من حياتهم على الأقل.‏

يقول (جان بول سارتر) في ترجمته الذاتية، (الكلمات)، الصادر 1963:‏

ها أنذا أرى بوضوح، لقد خاب أملي منذ عشر سنوات تقريباً، وأنا إنسان يستيقظ بعد أن شفي من جنون طويل مر عذب معاً، ولا يستطيع الخلاص من ذلك، ولا يملك أن يذكر دون ضحك ضلالاته القديمة، ولا يعرف ماذا يصنع بالحياة(6).‏

ومما يوصف به (غوغول)، أنه كان طفلاً وديعاً ومتسامحاً تارة، وطوراً متحذلقاً لا يطاق، ويعتقد أنه أسمى من الجميع.‏

وفي رواية ما قاله جدّ نيتشه لأمه مصداقاً لما سبق:‏

"قد يصبح ذكر البط القبيح الصغير ذكرنا ذكر بجع، إنه طفل موهوب بصورة غريبة، وينبغي ألا نتوقع منه أن يلتزم بقواعد الناس العاديين"(7).‏

وهل ما آلت إليه حالة كل من خليل حاوي، وتيسير سبول إلا ضرب من الجنون؟ وفي (مي زيادة) ألم تودع مستشفى الأمراض العقلية؟‏

وفي وصف لحياة الروائية الإنكليزية (فيرجينيا وولف) نرى أنها عاشت حياتها في خوف دائم من أن تسقط فريسة الجنون، إذ كانت تنتابها أحياناً حالات من الكآبة والقنوط تهدد بانهيار قواها العقلية. وقد سبق أن أصابتها إحدى النوبات وكادت أن تذهب بعقلها فعلاً قبيل الحرب العالمية الأولى بقليل. وظلت تقاوم هذه النوبات حتى عام 1942 حين انتهت من روايتها الأخيرة وأصبحت منهوكة القوى بسبب الإرهاق في العمل والخوف الدائم إضافة إلى التوتر العصبي الذي أصابها جراء الحرب. فخرجت ذات صباح متجهة صوب شاطئ النهر كعادتها.. وحين خرج زوجها وأختها يبحثان عنها، لم يجدا سوى عصاها ملقاة على الشاطئ.‏

(4)-الأدب والخروج عن المألوف:‏

ينطلق الاتجاه الذي يربط بين العبقرية والجنون من سمة رئيسة تجمعهما تتمثل في ابتعاد من يوصف بهما عن المألوف. وكونهما يسعيان إلى صورة ما من صور الفكر، فلا يخلو فكر معقول من الجنون، فالعقل والجنون متلازمان. ويرى (باسكال) أن الناس مجانين بالضرورة، أما كونهم غير مجانين فصورة أخرى من الجنون. أما عن علاقة الأدب بالجنون فتتمثل بأن كلاً منهما يقوم على الخيال ويعمل على كشف الوهم في قلب الواقع وإبراز قيمة الإنسان.‏

يبدو سلوك المبدع أحياناً، إن لم يكن في غالب الأحيان، شاذاً عن القواعد المألوفة، لأن الإبداع يقتضي جهداً متواصلاً ليس عادياً، وصبراً ومثابرة. ويتطلب من صاحبه مرونة عقلية من جهة، بينما يكون هو ذا حساسية غير عادية من جهة أخرى. تستحوذ الفكرة عليه وهو في حالة يصبح فيها موجهاً قواه نحوها، فيبدو سلوكه شاذاً عن القاعدة أو عن المألوف، ويكون حينئذ أشبه ما يكون بمن ينتابه مرض مما يمر بالشاعر أو الفنان.‏

ومن حالات المخالفة للمألوف عند معظم المبدعين رفضهم ما يسعى إليه العموم من الثراء المادي، وعزوفهم عن السعي لتبوؤ ما يتزاحم الناس عليه من مراكز توصف بالمرموقة. فيحتقرون المناصب والمظاهر الأرستقراطية، ويرفضون بعناد أن يرتدوا عن قناعاتهم أو التنازل عنها حتى لو كانت في رأي من حولهم أفكاراً مجنونة أو منحرفة(8).‏

لكن (فوكو) يميز في الجنون ما هو في حدود المرض العقلي الذي ينتهي في غيابه كل إبداع، وبين ما هو ذو سمات إيجابية كبرى يناط بالأدب الرفيع والفكر الفذ استغلاله في إنتاج ضروب من المعارف والحقائق الباهرة التي لا تفطن إليها العقول الأليفة والسوية(9).‏

وتختلف الرؤية الأدبية للجنون جذرياً عن الرؤية العلمية، إذ ترفض الأخيرة الجنون على أنه انحراف غير مقبول، تقوم الرؤية الأولى على الذاتية الخالصة وعلى محاولة التفهم لدوافع الجنون وبواعثه، وفي حالات قصوى على تقمص شخصية المجنون أو اللجوء إلى تجارب غير عادية يقصد بها اختراق حدود العقل المألوف وكسر قوانينه وأعرافه المتوارثة(10).‏

كتب (جان لوي بودري) في مقالة له عنوانها (فرويد والإبداع الأدبي):‏

"المبدعون على صلة من نوع خاص بالجنون (...) والأثر الفني هو مظهر من مظاهر الهذيان التي يتملك المبدعين (...) الجنون، التملك، الهذيان، الإبداع هي ألفاظ، الواحدة منها قابلة لأن تحل محل الأخرى"(11).‏

في عام 1621 أعلن الكاتب والعالم ورجل الدين الإنكليزي (روبرت بروتوث) أن كل الشعراء مجانين، وأضاف إليهم فيما بعد الفنانين والفلاسفة، أما (درايدن) فيقول بالمعنى ذاته شعراً:‏

"العقول العظيمة مرتبطة يقيناً بالجنون على نحو وثيق‏

وهي الحواجز الرقيقة التي تفصل بعضها عن بعض‏

أما الشاعر الرومانسي الفرنسي المعروف (لامارتين) فهو يقول في المعنى ذاته:‏

"تحمل العبقرية في ذاتها مبدأ الهدم والموت والجنون كما تحمل الثمرة في باطنها الدود".‏

وقاد الخروج عن المألوف العديد من المبدعين إلى حتوفهم، فقدموا حياتهم ضريبة لموهبة رأى فيها الآخرون انحرافاً لم يحتملوه. فقد قتل (طرفة بن العبد) بأمر من ملك لم يتحمل خروجه عن المألوف ولم يستسغ سلوكه. ودفع المتنبي حياته ثمناً لخياله الشعري الذي صاغ فيه طموحه، فهجا من هجا، وفخر بنفسه ما رأى فيه الآخرون تجاوزاً عن حدود ألفوها، وكانت نهايته بحسب ما ترويه بعض الروايات، بسبب أحد أبيات من قصيدة له:‏

الخيل والليل والبيداء تعرفني .... والسيف والرمح والقرطاس والقلم‏

ومن المبدعين مَنْ كان ثمن إبداعاته صحته وأمنه واستقراره، خاصة حين لا يجد المبدع التقدير والتقبل من الآخرين فيتعرض للاضطراب والقلق. فهذا (نيتشه) فيلسوف القوة الكبير كان اضطراب الأعصاب ملازماً للحيّز الأكبر من حياته، عاش وهو يعاني الأرق المزمن والفساد في المعدة وكانت حياته حياة شقاء، إلى جانب أن المبدع في عناده وتشبثه بقناعاته واندفاعه في البحث والعمل يلاقي ما يلاقيه من عذاب يضع نفسه في أتونه وهو في معظم الأحيان في حالة إرادية لا قسرية، لذلك فهو يوصف في الغالب بأنه ذو شخصية (مازوشية)، كما ذكرنا سابقاً، وتبلغ به حالة الاضطراب النفسي تلك إلى العصاب أو إلى ما يشبهه.‏

هذا الخروج عن المألوف في سلوك المبدعين سهّل على الآخرين وصفهم بالجنون، وليس الأمر بدعة عصر من العصور، وإنما هو جارٍ في كل العصور. ألم يربط (أرسطو) بين الشعر والجنون؟ أما هوراس فقد فعل الشيء ذاته.‏

لكن ما يهوّن في الأمر أن أولئك الذين ينعتون المبدعين بالجنون، يعترفون في مواقف كثيرة بملازمة الجنون لتصرفات البشر، وهناك من يطلق هذه الصفة على حيوانات أخرى أيضاً.‏

والجنون، كما قلنا، درجات، وهو أمر نسبي. فما يعد اليوم جنوناً قد يغدو في يوم آخر سلوكاً مقبولاً وقد يوصف بالعقلانية أو التعقل.‏

وإذا راجع المرء سلوكه وحاول تفحص ما يطرأ على أحواله النفسية وسلوكه من تغيرات، يدرك أنه لا يستطيع التخلص من جنونه تخلصاً كاملاً، فكم يخفي مظهر الرزانة الذي يتزيا به من قلق قريب مما يتصف به الجنون، وكم من حكم يصدره على سلوكه فيصفه بالسلوك غير العاقل ويخاطب نفسه (لو كنت في عقلي الساعة لما حدث ما حدث). فكأن الحدود بين التعقل والجنون ليست واضحة..!‏

وقد ربطت بعض الدراسات السريالية بالجنون حين اعتبرت الجنون نقيض العقل.‏

وقد كان مؤسس السريالية (أندريه بريتون) يؤمن بأن الجنون يمثل الوضع الطبيعي للإنسان، واستعان بعلم النفس المرضي ومختلف ظواهر الهلوسة العصابية والفصامية من أجل تعريف الشعرية(12) .‏

(5)المبدع على حافّة الجنون:‏

للملاحظ العادي يتبدى الجنون في اضطراب الخيال الذي يقربه من حالة الهذيان، حيث يكون خيال المريض شديد الحيوية، وهي حالة تشبه إلى حد بعيد الصورة المثالية للشاعر حيث يكون أقرب إلى الجنون من أي شخص عبقري أو ينتمي إلى زمرة المبدعين.‏

(المجنون والعاشق والشاعر هم أصحاب الخيال الأكثر تأثيراً).‏

فيطلق المبدعون رؤياهم التي قد تؤذي الفئات المتسلطة أو الأعراف السائدة، (حتى الأنبياء وصفوا من مخالفيهم بالجنون..). وقد صنف (نيتشه من معاصريه ومواطنيه في زمرة المجانين وقد انتهى فعلاً إلى هاوية الجنون، لأنه كان يعد اليقين الحقيقي الطريق إلى الجنون. وكان الجنون بالنسبة له أحد المتطلبات الضرورية لإحداث التحول الجذري في وجدان الفنان وإطلاق طاقاته الكامنة. ومن نبوءاته التي كانت سبب رميه بالجنون والانحراف والشذوذ إعلانه أن الإنسان الجرماني يسير نحو الكارثة، وقال بتعريته من الأقنعة الحضارية والأخلاقية والفكرية الزائفة:‏

"ويل لهذه المدينة العظيمة، أنا الذي تمنيت، أن أشاهد أعمدة النار التي تحترق فيها، لأن هذه الأعمدة النارية يجب أن تسبق الظهر العظيم، ومع ذلك فلهذا أوانه وقدره الخاص".‏

ليس خروج المبدعين عن المألوف هو الغالب في سلوكهم. وإنما يظهر ذلك في لحظات معينة خاصة قبل توليد الفكرة أو القصيدة أو الخطوط العامة للوحة أو الكشف عن حقيقة علمية. (خروج أرخميدس عارياً من الحمام، وهو يصيح: وجدتها وجدتها). ومن الحالات التي تبدو فيها على المبدع أشكال سلوكية تقربه من الحد الذي يوصف به الإنسان بالجنون. يحدثنا (حنا مينة) عن حالة مما ذكرنا في وصفه للشاعر الكبير (محمد مهدي الجواهري) في موقف محدد، موقف تولد فيه عنده قصيدة جديدة، إن غرابة ما شاهده في سلوك الشاعر وهو الذي يغلب على السلوك الذي يصدر عنه ما هو رزين، فيقول:‏

"رؤيتي الأولى له –يعني الجواهري- كانت في أواسط الخمسينات، حين جاء دمشق مخلفاً (غاشية الخنوع وراءه)، دخلت غرفته في الفندق الذي نزل فيه، في الظهيرة، كانت النوافذ مغلقة، والكهرباء ضعيفة، وكان يدور في الغرفة في حالة من الغضب الغضوب، وهو يتمتم بما لا أدري من الكلمات، كان الدخان منعقداً، وأعقاب السجائر في كل مكان، في المنفضة، على حديد مشعاع التدفئة على الأرض، وكان قد كتب على ظهر علبة سجائره، وعلى أوراق صغيرة، وعلى الجدران. وقال لي إنه يدون مطلع المورد في القصيدة فقط. وبعد ذلك في الملعب البلدي –الذي كان في موقع معرض دمشق الدولي الحالي –ألقى قصيدته في تأبين الشهيد عدنان المالكي، والتي مطلعها:‏

خلفت غاشية الخنوع ورائي وجئت أقبس جمرة الشهداء‏

هذه الحالة يرى فيها (أندريه جيد) بعداً جمالياً وفكرياً ما كان ليكون لولا هذه الحالة من الجنون، حيث يقول:‏

"إن أجمل الأشياء هي التي يقترحها الجنون ويكتبها العقل. ينبغي التموقع بينهما بالقرب من الجنون حين نحلم، وبالقرب من العقل حين نكتب".‏

هذا البعد الجمالي على حافة الجنون، حدثنا عنه (جبرا إبراهيم جبرا) في صورة بهية بدت في سلوك فدائية فلسطينية شاعرة، بقوله:‏

"إنني لا أنسى مطلقاً لقائي مع شابة فلسطينية جذابة قرأت لي قصيدة، أو بالأحرى عدة قصائد، سلسلة من القصائد القصيرة، كانت قد كتبتها في دفترها الصغير خلال ليلة من ليالي القتال في عمان (أيلول 1970)، وكانت إحدى المقاتلات في المقاومة وكانت تقوم بواجبها في ليلة رعب، وهي مسلحة برشاش (كلاشينكوف) تدافع مع عدد قليل من رفاقها عن أحد الأحياء... وكانت في فترة الهدوء الطارئ بين نيران المدافع والانفجارات، تضع دفترها على رشاشها وتكتب في الظلام أبياتاً ملتاعة، لم تفكر قط بأنها ستحيا لتقرأها... إن شعراً كهذا لهو صوت من الجحيم".‏

قوة الإبداع في الأمثلة التي سقناها حين تستغرق سلوك صاحبها فإنها ترهنه للاوعي الذي يشكل في لحظاته تلك سلوكه وحياته أكثر مما تشكلهما إرادته الواعية.‏

وما يقرؤه علماء النفس في مثل هذه الأمثلة، يعدونه دليلاً على ما يتفرد به المبدع من سلوك بخلاف الآخرين من بني البشر، وهو نتيجة لسعة خياله وانطلاقه ولما يمتلكه من حدس ثاقب بحيث أنه يرى ما لا يراه الآخرون فيكون عرضة للاتهام في كونه شخصاً سوياً. وبسبب من ظهور البادرة الإبداعية أو الإرهاص بولادتها يكون شارد الذهن، غير قادر على توزيع انتباهه بين ما يعتمل في داخله وما يجري حوله كونه في حالة من الانتباه المركّز، فيغدو أمام الآخرين وكأنه يعيش في عالم غير عالمه فهو يعيش حلمه أو ما يشبه الحلم وفي حالة ما يسمى (تغير الوعي)(13).‏

ومع هذا فلا مسوغ لإطلاق صفة الجنون على المبدع، لأنه ثمة حدود ما زالت تفصله عن المرض العقلي. فيما يلي مثال عن (ك. غ. يونغ) يميز فيه بين سلوك الشخص العادي وسلوك المبدع.‏

طلب الروائي "جيمس جويس" نصيحة (يونغ) كمحلل نفسي بما يتعلق بسلوك ابنة الروائي التي تسبب له القلق. بعد الفحوصات الكثيرة استنتج (يونغ) أن الابنة مصابة بالانفصام لأن تفكيرها وكلامها يتسمان بالتشويه والانحراف الشديدين.‏

احتج (جويس) على هذا التشخيص قائلاً:‏

حاول يونغ أن يمدّ حدود اللغة الإنكليزية بحيث تغدو بنتي منحرفة ومشوهة.‏

فأجاب يونغ: إن جويس وابنته مثلهما كمثل شخصين ذهبا إلى قاع النهر، فبينما استطاع جويس أن يغوص إلى الأعماق النفسية للحياة ويعود منها، فإن ابنته قد غرقت فيها".‏

المريض العادي إذاً لا يستطيع أن يساعد نفسه في التفكير والكلام، بينما استطاع (جويس) أن يطور ذلك من خلال كتاباته الإبداعية.‏

فأنا المبدع تقوم على أساس من الوعي والتوجه والاستبصار ووجود إمكانات لديه للتنمية. ويتزايد الشعور بالذات عنده ويكون مطلوباً في حالات كثيرة. إلا أن هذه الأمور تكون غائبة في حالة المريض عقلياً.‏

وفي عمل المبدع ما يتوجه أساساً للتواصل مع الآخرين، ولا يكتمل عمله في ذهنه إلا بتوقع أو حدوث عمليات التلقي والاستقبال المناسبة لهذا العمل. فالإبداع في النهاية هو عملية تفاعلية قوامها الاحتكاك الإيجابي النشط بين المبدع والمتلقي بينما يتصف المريض عقلياً بالانعزال والانفصال الاجتماعيين والاجترار الداخلي.‏

لكن ذاكرة المبدع الناشطة قد تؤدي أحياناً إلى آثار سلبية تظهر عندما يحطم المبدع ما أبدع، حيث يتمثل نشاط الدافع لديه بدور الذاكرة التي تبدو على شكل حلم تغويه وتجذبه إليها مسحوراً بها مما يؤدي إلى تحطيم فنه وهلاكه، ويمثل (جبرا إبراهيم جبرا) ذلك بعروس البحر في الأساطير الإغريقية التي تغوي البحارة فينجذبون نحوها مما يؤدي إلى تحطم سفنهم وهلاكهم.‏

المبدع إذ يوصف بالجنون فذلك تجن عليه في غالب الأحيان وما ذلك –كما ذكرنا من قبل- إلا إحدى نتائج الحلم الذي –كما يقول مصطفى زيور- يجمع في أفق واحد بين العقل والجنون من حيث أنه خبرة من خبرات الإنسان العاقل ولكن طبيعته الهلوسية لا تختلف عن هلوسة المجنون.‏

وما من إنسان وخاصة المبدع إلا وحاصرته أشكال من أشكال التوتر والقلق وإن بدرجات متفاوتة من شخص لآخر. وبذا نفهم (سر غربة الراعي والسيرة الذاتية) التي كتبها (إحسان عباس) ووصفها أنها غربة نفسية، فيها نرى كيف كان هذا الكاتب الكبير المبدع يحاول نسيان نفسه من خلال عمله المتواصل، وفيها يستشف القارئ عمق المعاناة النفسية والمعرفية التي خاض غمارها إذ أنه "يرى فيما رأى النائم أن الماء قد غمر الطريق وأخذ يرتفع مع ارتفاع الجبل، لكنه أمعن في التسلق دون أن يلتفت إلى والده الذي كان يرجوه أن يعود(14).‏

وأخيراً مهما اختلفت التنظيرات المتعلقة بالعملية الإبداعية، فإن الإبداع يبقى قوة فريدة من نوعها في هذا الكون ويبقى هبة الحياة للنوع البشري. وقدرة الإنسان على استخدام خياله في الإبداع هي قدرة موجودة دائماً وهي بحاجة إلى رعاية واهتمام مستمرين.‏

ويتمتع الشخص المبدع بقدرة على استشعار الحاضر واستشراف المستقبل لأنه على اتصال دائم بعوامل لا شعورية لم تصبح بعد "موضع تقدير الرجل العادي وإن كانت مبشرة بحدوث تغييرات في المواقف الاجتماعية، لأن المبدع هو طليعة زمانه.. وهو أداة الحياة النفسية اللا واعية والقائم على تشكيلها، وهي أحياناً حمل ثقيل جداً، تحتم عليه التضحية بالسعادة وبكل شيء يجعل الحياة في نظر الإنسان العادي، جديرة بأن يحياها"(15).‏

(1) شاكر عبد الحميد: المرض العقلي والإبداع الأدبي ص45- في عالم الفكر (الجنون في الأدب)‏ 18/1، 1987.‏

(2) السابق، ص46.‏

(3) السابق، ص51.‏

(4) سامي قدوح: عملية الإبداع –ص137- الفكر العربي المعاصر، ع 13 ,‏

(5) رومي شوفان: المبدعون ص124، منشورات وزارة الثقافة، ترجمة وجيه أسعد.‏

(6) عبد الرحمن بدوي: التيارات الفكرية في فرنسا اليوم، ص29، عالم الفكر 15/2، 1984.‏

(7) رومي شوفان: س.ذ. ص164.‏

(8) عالم الفكر 15/1، ص70.‏

(9) عالم الفكر 18/1، ص19.‏

(10) السابق، ص21.‏

(11) الفكر العربي المعاصر: ع 23- ص130.‏

(12) الفكر العربي المعاصر- ع11- ص129.‏

(13)الثقافة العالمية –ع49- ص61.‏

(14) إحسان عباس: غربة الراعي- دار الشروق- عمان 1996- ص 174.‏

(15) أنطوني ستور: فرويد ويونغ ومفهوم الشخصية- في العبقرية (م. س.ذ).

التعديل الأخير تم بواسطة : ابومحمد الشامري بتاريخ 01-04-2005 الساعة 03:42 PM.
رد مع اقتباس
  #5  
قديم 01-04-2005, 03:20 PM
ابومحمد الشامري ابومحمد الشامري غير متصل
ابوحمد الشامري ( سابقا )
 
تاريخ التسجيل: Dec 2004
الدولة: شـبـكـة مـجـالـس العجمـــــان
المشاركات: 19,132
معدل تقييم المستوى: 10
ابومحمد الشامري قام بتعطيل التقييم



القراءة إنتاج المعاني

(1) وظيفة القراءة‏


فعل القراءة من أرقى الأنشطة التي يمارسها بنو البشر، فعلى الرغم من التنوع الواسع في وسائل الاتصال والتثقيف والمعرفة وطرائقها، وما ابتكرته من أسباب الجذب والتشويق، فإن ما يوليه المهتمون بشؤون التربية من مربين وأولي أمور لتعليم القراءة وتشجيع النشء على اعتيادها يندرج في إطار الأهمية التي ستبقى القراءة تحتلها في مختلف شؤون الحياة، من تثقيف ومعرفة واستمتاع.‏

فلم تزل المادة المطبوعة ذات قيمة عالية في اكتساب المعرفة، وأن الوسائل السمعية والبصرية التي تتنوع أشكالها في وسائط الإعلام لا تقلل منها على الرغم من كل ما في هذه الوسائط (مذياع، تلفاز، سينما، انترنيت...) من أسباب المتعة والسهولة واليسر وتوفير الجهد والوقت.. لكنها على أهميتها تبقى وسائل مكملة للكتاب ولا تتعارض معه، ومن شأنها أن تؤدي إلى تزايد الطلب على القراءة.‏

ومنذ العصور القديمة كان اهتمام الإنسان بالقراءة. فقد ورد في تعاليم أحد الحكماء المصريين القدامى قول موجه منه إلى ولده:‏

"ليتني أستطيع أن أجعلك تحب الكتب أكثر من حبك لأمك، وليت في استطاعتي أن أبرز لك ما في الكتب من روعة وجمال، فالكتابة أشرف مهنة في الوجود".‏

وللقراءة وظائف جمة، قد لا يدرك البحث جميعها. منها:‏

1- إنها توسع في أفق الإنسان من النواحي المعرفية والوجدانية وتساعد على انطلاق الخيال وتنشيط التفكير فيرود الإنسان بوساطتها عوالم لا متناهية.. فتنمو المعارف أفقياً وعمودياً. وعبّر المخترع الشهير (أديسون) عن هذه الوظيفة الهامة بقوله: "بالقراءة تعلمت كل شيء".‏

2- إنها واسطة تعلمية هامة تفسح في المجال لتعلم ذاتي ومستديم ما دامت الحياة.‏

3- بالقراءة يمكن أن تتم بعض المعالجات للمشكلات النفسية فهي تخفف من التوتر والضيق النفسيين، وبممارستها رياضة للنفس وراحة للفكر إضافة لما فيها من متعة.‏

4- للقراءة وظيفة تشخيصية تساعد المربي والأخصائي في مجال العلوم النفسية والتربوية والاجتماعية في اكتشاف عاهات ما لدى القارئ كما تكشف كثيراً من أسباب عدم التلاؤم النفسي والاجتماعي مما يساعد على تفهم حالات كثيرة من حالات عدم التكيف أو التكيف السيء مما يساعد على العلاج في حينه ووقته المناسبين.‏

5- للقراءة آداب وطقوس بحيث يمكن تصنيف القراء تبعاً لها في مستويات مختلفة وفقاً لها وبالاستناد إلى أهداف القارئ التي تستقرأ من خلال العلاقة بالمادة المقروءة.‏

(2)القراءة والإبداع:‏

كما نصف كاتباً بالمبدع ونصف النص الذي ينتجه بالعمل الإبداعي ونصف الفعل بالفعل الإبداعي كذلك يمكن أن نتحدث عن قارئ مبدع وقراءة إبداعية. فالنص –كما يقول (دي مان) -لا يقرأ نفسه مهما كان نوعه، وإنما يحتاج إلى قارئ يكشف عنه ويحركه ويجعله نابضاً بالحياة. فالنص لا يكون كذلك إلا بفعل عيني قارئ وعقله.‏

القراءة تجربة تفتح النص أمام التفسير، إنها حوار جدلي بين القارئ والنص، وبين الأسئلة التي يثيرها القارئ والأجوبة التي يقدمها النص، وبين الأسئلة التي يطرحها النص والأجوبة التي يحاول القارئ الإجابة عليها. وإضافة لذلك وبين الإجابات التي لا يقدمها النص والأسئلة التي يثيرها الكاتب الجديد للنص، وهو القارئ في محاولة كتابة نص جديد(1) يكون المتلقي في أثناء فعل القراءة أكثر من مجرد نفسه، وهو يتخيل بغير خياله، ويشعر بقلب غير قلبه- على حد تعبير (ج. س. لويس)- الذي يضيف إلى ذلك قوله: "عندما أقرأ الأدب العظيم أصبح ألوف الرجال ومع ذلك أبقى أنا نفسي، إني أرى بملايين العيون، ولكن الذي يرى لا أزال أنا... وكما هو الحال في العبادة والحب والفعل الأخلاقي، وفي المعرفة فإني أسمو على نفسي، ولكنني أكون حقيقة نفسي أكثر منه في أي وقت من الأوقات".‏

قد يتبادر للوهلة الأولى أن المتلقي في حالة القراءة، سواء كانت قراءة لوحة أو نص أدبي أو غير ذلك من ضروب الفنون يكون منفعلاً أو بحالة من حالات الانفعال أو ردود الأفعال البسيطة، لكن الواقع ليس كذلك، فليس القارئ –كما يظن- مجرد جهاز استقبال أو مستقبل، أو أنه واقع تحت وضع لا يسمح له إلا باستجابات بسيطة كالاستحسان أو النفور، أو أن ما يتعرض له من تغيرات وتحولات نفسية أو عقلية إن مثل هذا التخمين أو الظن لا يتعدى الانطباعات الأولية الذاتية ليس أكثر. فالقراءة فعل وليست انفعالاً، والنتيجة السابقة فيها الكثير من التسرع والسطحية في تقويم عمل القارئ، ولا أقول هنا الناقد، فليست القراءة مجرد عمل يقصد به التسلية واستهلاك وقت الفراغ واللهو أو النسج على وهم يهدف إلى التلاؤم مع وطأة الحياة وثقل الزمن. إن القراءة فعل ذو صلة بميادين ومجالات اجتماعية وأخلاقية متنوعة. وتتضمن فعاليات حسية حركية من ضمنها عمليات النطق والإبصار وحركة الشفتين والعينين ووضعية الجلوس وحركة الحبال الصوتية وغير ذلك مما تتطلبه القراءة جهرية كانت أم صامتة، لكن القراءة الجهرية تتطلب وضعاً اتصالياً مركباً يكون القارئ في أثنائها على صلة بنص يستجيب له فيكون معه متلقياً، يحركه ويبعث الحياة في كيانه بعامة، وبعقله بخاصة، وباتجاهين أو مسارين يتفرع أحدهما عن الآخر. مسار من النص إلى القارئ، ومسار من القارئ الذي يصبح مرسلاً إلى متلق ثانٍ (مستمع) أو أكثر. وقد تتخذ العلاقة أشكالاً متنوعة من مسارات خطية إلى أخرى متشعبة أو لولببة أو أنها تتخذ شكل شبكة متعددة الصلات والتقاطعات.‏

(3)فعاليات القراءة:‏

قد تكون القراءة صامتة وهي الأكثر شيوعاً في علاقة القارئ بالنص أو المشاهد باللوحة أو المجسم.. فلا تبدو العلاقة البيولوجية حركة أو جهداً ظاهراً.. وتتخذ شكل مسار خفي لا تمكن ملاحظته ولكن بالإمكان استقراءه بعملية تقويمية مقارنة بين حالة سابقة على الاتصال بالنص وبين مخرجات الاتصال به، كما يحدث في تقويم أي امتحان أو اختبار معرفي آخر.‏

وإضافة لما ذكر تتضمن فعالية القراءة فعاليات مكونة لها، عقلية ونفسية، وتفاعلات عاطفية وعمليات إدراكية وتذكرية يتآزر فيها فعل التصور والفهم والاستيعاب والتمثل والتطبيق والنقد والتقويم والتحليل والتركيب. وتبدو خلالها استجابات يقرأها الملاحظ في سلوك المتلقي (إقدام، إحجام، أو فيما يبدر عنه من ملاحظات أو التعليقات تتم عن الرغبة بـ، أو الرغبة عن.. الخ‏

وتختلف هذه الأفعال والاستجابة من حيث المستوى والدرجة من شخص لآخر، ومن زمن لآخر حتى بالنسبة للمتلقي نفسه.‏

ولا تستبعد من ذلك عملية التأثر بالنص وما يحمله من مضامين وما يشي به من معاني وما يحيله إلى خارج ذلك.‏

وقد تبلغ العلاقة بالنص حداً يتوحد فيه القارئ بالمادة أو النص أو الموضوع.. وإن في مستويات متنوعة. ويحدد الهدف من قراءة النص أحياناً مستوى أقل من القراءة الفعلية إذا اعتمد الفعل في البداية على مقدمات تهدف إلى كشف العلاقة وتحديدها أو استخدام النص في عمل من خارجه.‏

قد تكون القراءة هواية، وقد تكون وظيفة، وقد تكون ذات هدف يحدده القارئ مسبقاً وتتنوع بتنوع وظيفة القارئ وعمله (طالب، هاو، باحث، ناقد..) وخارج هذا القوس يكون القارئ الذي يستغل القراءة لتزجية فراغ عابر أو استجلاب النوم أو التخلص من ملل أو كسر حدة انتظار موعد.‏

تتباين الوظائف كما تتباين الهوايات، وبداية يكون التمايز مطلوباً بوضوح بين قراءة يقوم بها متلقون يقولبون تفكيرهم مع النص، أو يقسرونه للتطابق مع النص. وبين قراء ذوي عقل نقدي دون أن يكونوا من الباحثين أو النقاد أو المسؤولين والمحترفين.‏

ومما يتعلق بهذا الموضوع (الفعل، الفن، الانفعال) وكل المداورات والتفاصيل والعناوين والجزئيات وما يتكون منها ومن تفاعلها من كليات وتعميمات مهارة القراءة.. هل هذه المهارة معرض عنها في الزمن الثقيل والمثقل أم أنها في حالة تمدد أفقي أو شاقولي أو كليهما في وقت يتزايد فيه حملة الشهادات والحاصلون على الدرجات والألقاب العلمية المتكاثرة؟ هل هذا التكاثر تكاثر صحي أم أنه تكاثر سرطاني يشوه الثقافة ويسطحها ويدخلها في النفق المظلم؟‏

ومع هذا –الذي يشكو منه المهتمون ولا يرون فيه ظاهرة صحية –هل يبلغ الوجع حداً يدفع إلى التفكير والتفكر والتأمل والفحص والبحث والاستكشاف؟ أين يكمن السبب في العزوف عن القراءة؟ هل هو في المادة المقروءة؟ أم في الاكتفاء بالألقاب والأوسمة والزحف نحو المناصب وتقاسم الغنيمة وتعاطي شهادات الزور في المحافل والمؤتمرات والندوات التي يُقرأ في معظمها حال التردي..‏

قد تكون الصورة قاتمة حين يرى المرء أصنافاً من حملة الاختصاصات فقدوا صلتهم بالكتاب وبالقراءة واكتفوا بحمل الحقائب المحشوة بالأوراق الثبوتية التي تؤكد حيازتهم على الألقاب.. وتصبح هذه الأوراق كربابة البدوي الذي يتنقل بين مضارب القبائل يدعي الشعر بأشعار للآخرين لا ينقلها كما هي بل يشوهها وقد يدعيها لنفسه.‏

المجتمع المبعد عن القراءة، أو المجتمع الذي يعيش حالة الارتحال حيث السمة الأساسية له الاستهلاك والانغماس فيه...‏

يفرز الإهمال في تعلم القراءة وتعليمها متعلمين لم يتعلموا و (مثقفين) لم يتثقفوا، وما أكثر هؤلاء في مفاصل المجتمع الحساسة اقتصادية واجتماعية وثقافية و... في خضم هذا التردي والعطالة يجد الشامتون والحالمون من ذوي النوايا السيئة وغيرهم ممن تستهويهم الشعارات الفضفافة وأولئك الذين يقولون ما لا يضمرون فيعيدون كل شيء إلى أسباب يحيلونها إلى اللغة (العلة والمرض فيها، في حركات الفتح والضم والكسر والسكون) ويتكاثر المنظرون والمتفكرون من دعاة هجر العربية وغيرهم ممن لهم أهداف لا يخفونها، تهشيم اللغة، تخريبها، إلغاء التذكير والتأنيث، التثنية امتداداً إلى جمع المذكر السالم جمع المؤنث السالم وجمع التكسير.. اللهجة المحكية حل طرح وهناك من ينفذه بإصرار عبر وسائل اتصال لها اتجاهاتها وغاياتها إضافة لجاذبيتها وعناصر التشويق التي تذروها وتعطرها.. الكتابة باللاتينية بموازاة ذلك، وتتسلسل الحلول والاقتراحات تحت لافتات متنوعة تستخدم كلمات ومفاهيماً تخرج عن الحدود التي رسمها أصحابها (تقدم، عصرنة، تربية شاملة، تنمية شاملة).‏

كيف يتسنى للقارئ ضمن هذه اللوحة المزدوجة بالزيف والتزييف أن ينمي مهاراته ويسهم في إنتاج معاني النصوص التي دبلجها القادرون أن يؤمنوا لأنفسهم زوايا وصفحات وإصدارات يحشون بها الذهن فيسهمون في وأد الإبداع وتنحيته... وليس ذلك فحسب في عملية التزاحم على النشر والتكسب من الكتابة يصبح خط المبدع في أدنى الدرجات لأن الغث صار قاعدة والسمين شاذاً. ونتيجة صرعات التطوير وولوج الحداثة لا تتعدى الشعارات والنتيجة (أطباء لا يتقنون كتابة الوصفة الطبية، يكتبون ما لا يُقرأ، استهتار بالمريض وتواطؤ مع المرض، إيهام بعظمة المختص واختصاصه، جسور معلقة وأخرى محمولة صالحة للتصوير وليست صالحة للاستعمال).‏

هذه الصورة لا تلغي تنمية المهارات القرائية التي تنمي الذكاء وتكون القادرة على كشف الخلل وإعطاء الأجوبة ذات المصداقية العالية، إضافة لدورها في تنمية لغوية ومهارات في توظيف اللغة وتوسيع أفق القارئ بما سيمتلكه من معلومات أكبر قيمة مما يحصل عليه العازفون عن القراءة.‏

تنمية مهارة القراءة مسؤولية اجتماعية ليس الآباء من يستطيع الإسهام فيها في عصر تردي التعليم وتراجع دور المدرسة والمؤسسات التعليمية.‏

والآباء اليوم هم النماذج التي يمكن أن تكون قدوة للأبناء، ولا يتم إلى ذلك في الاستسلام لسلطان الشاشة الصغيرة استسلاماً مطلقاً.‏

(4) النص والتلقي:‏

نعود للعلاقة الجدلية بين النص والمتلقي. يقول (جاك لينهاردت): "ليس النص مجهولاً جهلاً تاماً من القارئ، فهو ليس مسبوقاً بمعرفة تهمّه بالذات، وإنما كل نص سبقت قراءته هو جزء من تجربة القراءة لنص جديد"(2).‏

تفرض بعض النصوص نفسها على ذهن القارئ، تدعوه، وقد تلح في الدعوة، إلى إعادة القراءة، إلى التفكير، تستثير خياله، بعضها يجلب للقارئ دفعاً للقوى الروحية وتكون ممتعة بلا حدود ومدهشة، كما يقول جيمس.‏

وكل قراءة، مهما كانت الدوافع إليها، هي محاولة اكتشاف وفهم، بشكل ما، وعندما تستنفر قدرات المتلقي تصبح جزءاً من حالاته الإدراكية.‏

وليست عملية الإدراك، كما يظن، عملية سلبية انفعالية أي أن القارئ لا يقوم بدور سوى استقبال المدركات دون القيام بفعل ما، وإنما يعمد إلى الانتقاء والتنظيم فتشكل القراءة بالنسبة له خبرة ذات سمة خاصة تتعلق به.‏

ومحددة في إدراك العالم الخارجي وتلوينه بخبرات سابقة. وتنطوي العملية الإدراكية على أنشطة متنوعة في التعامل مع عالم مركب متشعب يمد النفس بكم من المدركات ومن لحظات الوعي(3).‏

لكون القراءة عملية إدراكية، لا يكون إدراكنا لما تنقله حواسنا صورة فوتوغرافية للواقع الخارجي، كذلك فإن مخرجات القراءة ليست مطابقة للمادة المقروءة، حتى لو تساوت الظروف (ظروف النص، وظروف التلقي). فالمخرجات تتلون بمعارف المتلقي وبحالته الوجدانية وبمعتقداته وتوجهاته لكون فعل القراءة ينطوي على عمليات عقلية متعددة ويشتمل على عنصر الإرادة دون إغفال الحالات اللا شعورية والخبرات المكتوبة التي ينكأها النص... يكوّن النص والحالة هذه دلالات تستثير دلالات أخرى. فوجود النص يكون في هذا الإطار وجود قوة أو كمون ينتقل بفعل عمليات داخلية لدى القارئ تتفاعل مع بنيته إلى حالة من حالات الوجود بالفعل هو نتيجة لما سبق تسهم القراءة في تفجره وإخراجه إلى ساحة الشعور فيتنفس من هواء النص ويكتسبان معاً حياة موحدة. هذا إلى أن العمليات الداخلية تتفاعل مع الكلمات والعبارات والجمل وهي كائنات قابلة للتأويل وإعادة التفسير بحسب الموقف، والأشخاص وتنوع التجارب.‏

يوسع النص في المجال الإدراكي، الذي هو مجال شخصي بامتياز وفردي لوعي الشخص. لكن هذا لا يعني أن الإنسان قادر على وعي كل ما في مجاله أو أنه يستطيع أن يكون واعياً بكل أجزائه على حد سواء(4).‏

وبسبب مما ذكر وما لم يذكر ينطوي فعل القراءة على عملية إبداعية على عكس ما يظن البعض- بخلاف القول إن المعنى يصنعه الكاتب أو المؤلف. هذا الاعتقاد لا يجد مصداقية في الواقع. لأن المعنى قضية تتعلق بالوعي وليس بالأشياء والعلاقات الخارجية –كما يقول كروسمان- فالكلمات تتميز بشكل ما بالغموض وبما أنه ما من كلمة تعني شيئاً محدداً فإن فهم المعنى عند المتكلم يتطلب تخميناً لقصده.‏

أي عمل فني لا يكشف عن مكنوناته دفعة واحدة ومن المرة الأولى، وإلا فإنه يتحول إلى وثيقة جامدة مكانها الأرشيف، وتبرز في حالة محددة فحسب. وما يدعى بالنظريات العلمية كثيراً ما يُكشف بعد مدة تطول أو تقصر أنها لا تنطبق مع تسميتها أو تصنيفها. فإذا كانت الطبيعة قابلة للتأويل وإعادة التفسير فكيف بالعمل الإبداعي أو النص المقروء، كما يقول وايتهد.‏

كم من أديب وفنان تشكيلي ومؤلف موسيقي حين يعود لقراءة ما أبدعه يصاب بالدهشة وأحياناً بالذهول غير مصدق أن ما يتلقاه الآن هو من إنتاجه.‏

لا تكون سيطرة المبدع على المادة التي أنتجها سيطرة مكتملة. حين سئل (نجيب محفوظ) مرة عن سر تشابه روايته (حضرة المحترم) مع قصة قصيرة له، اعترته الدهشة وعبّر في رده على السؤال بالأسف لعجزه عن تفسير الأسباب. أما (عبد الرحمن منيف) فقد أثار دهشته أحد قرائه حين تحدث عن شخصية السائق الأرمني (أكوب) في روايته المشهورة (مدن الملح) قائلاً:‏

"يسرني أنك وجدت في شخصية أكوب هذا الذي قلته". واعترف (منيف) قائلاً: إني لم أفكر بشيء منه حين كتبت الرواية. (5)‏

القراءة المبدعة تنتج المعنى وتكشف في النص وتقوله بما لم يخطر على ذهن مبدعه.‏

وليس شرطاً أن يكون المعنى ذاته الذي هدفه المبدع حين كتابة نصه أو بعدها. ويخترق القارئ النص بخصوصية تختلف من قارئ لآخر بقدرة تأويلية تتناسب مع مستواه الثقافي وخبراته السابقة وحالاته النفسية والجسدية. إذ لكل ذهن خصوصيته. يقول (أدونيس) إذا كانت كتابة القصيدة قراءة للعالم فإن قراءتها هي كتابة للعالم".‏

يتمايز المتلقون ويتجلى نشاطهم الإبداعي في عدم الاكتفاء بظاهر النص وإنما أيضاً في الغوص في أعماقه وبتجاوزه للكشف عما وراءه وما بعده (ماضيه ومستقبله).‏

ولا تكون معرفة دوافع المبدع، في الحالة الطبيعية، أو إدراك الفكرة التي توجهه أو العقيدة التي يصدر عنها مهمة إلا بقدر ما تكشف عن الهدف الذي يكتشفه القارئ في النص دالاً عليه.‏

تقول (هيلين غاردنر):‏

"يجد القارئ في القراءة الأمل والشجاعة لكي يلقن الأدبُ درساً في الأخلاق ويسجل التجربة الإنسانية، فلا بد أن يكون مشحوناً بالأفكار والمشاعر الأخلاقية".‏

يبقى النص العنصر الأبرز في القراءة إذ تتمحور التأويلات حوله وتنطّقه بما تحصل عند القارئ من التواصل معه.. وتلعب النصوص الأدبية والأعمال الفنية دوراً مهماً في حياة المتلقين في أثناء القراءة اليقظة، ذلك أن المعرفة وزيادة البهجة الدائمة من الطبيعة العظيمة التي تكمن في مؤلفات المبدعين –كما يقول ورد ذورث).‏

فالقراءة تخلق البهجة كما أن جاذبية النص تمد الإنسان بالمتعة حتى في بدايات تعلم القراءة.‏

عبرت عن ذلك (نادين. ج. غرانغون) بقولها: لكي يتعلّم الدارس القراءة لا بد أن يشاهد شخصاً يقرأ، وأن تتوافر لديه الرغبة في القراءة، والقدرة عليها، وأن يتقنها وهذه ملاحظة ذات قيمة كبيرة بالنسبة للمربين، إن اهتموا بها أثّروا في تنشئة أبنائهم وتلاميذهم بما يحقق لديهم تلك المهارة الجميلة، القراءة المبدعة.‏

(5) القراءة (متعة الإبداع):‏

تحدثنا (فرانسواز دولتو) عن تجربتها في تعلّم القراءة وعن شعورها وهي مستغرقة بالقراءة مستمتعة بنشاطها وبالنص الذي تتواصل معه بقولها:‏

"كنت أنصت إلى قراءتي، وكانت الجملة تتخذ معنى جديداً بالنسبة لي، وبدا الأمر رائعاً، كنت أشعر أني لا أريد أن أتوقف أبداً، لولا أنهم أعلنوا عن موعد تناول الغداء" وتتساءل:‏

هل هذا هو معنى القراءة؟ إن للجمل والفقرات معنى، نعم. ولكن. (6)‏

حين يكتشف المتلقي المعنى وهو يقرأ فإنه طفلاً أم راشداً يشعر بمتعة تملأ جوانحه بخاصة وهو يكتشف ما وراء السطور. فالقراءة وإن اتخذت طابع الاستقلال والاستهلاك ظاهرياً، فإنها في الواقع نشاط يهدف إلى إنتاج المعاني، وكما هي الحال في استراتيجيات الإدراك فإنها تتلخص في التقاء الخيارات واتخاذ القرارات. (7)‏

يعبّر (أوكتافيوباث) عن حالة الإبداع في القراءة مستشهداً بقراءة الشعر قائلاً:‏

"وكما نرى عبر جسد الحبيب حياة غنية بالمعاني، نرى كذلك عظمة الشعر عبر القصيدة في لحظة تحتوي كل اللحظات وكل الزمان. يتوقف الوقت حينها، لكنه لا يكفّ عن المرور.‏

باستطاعتنا الوصول إلى التجربة الشعرية عن طريق القصيدة التي هي إمكانية مفتوحة لكل إنسان أياً كانت قدراته ونفسيته. وفي كل مرة يعيش القارئ القصيدة يصل إلى درجة أو حالة نسميها بالشاعرية.. تشبه قراءة الشعر الخلق الشعري إلى حد بعيد. يولّد للشاعر الصور أو القصائد. والقصيدة تعيد إلى القارئ صوراً وشعراً –فهو –أي القارئ يقاتل مع (هكتور) ويتعرف مع (أوليس) إلى أرض مولده. إنه يعيش صورة، وينكر التتابع، إنه يستبعد الوقت"(8)‏

وتحتفظ القراءة بدورها في كونها الأداة الاتصالية الأفضل التي تحتكر الامتياز الثقافي. فيبقى القارئ هو المسيطر على الموقف. وهو ما لا تمتلكه أية وسيلة اتصالية أخرى، لأنه يستمر ممتلكاً القدرة على توجيه فعل التلقي. والقراءة المبدعة قادرة على صنع فهمها الخاص للنص، مهما بلغت فصاحته وقدرات مبدعه. فالقارئ ليس مجرد أداة استقبال إلا إذا كان غير قادر على امتلاك قدراته العقلية خاضعاً لأحلام اليقظة غير ممسك بعملية التداعي الداخلية منقاداً بها تتحرك عيناه فوق السطور ولا تنقلان ما تريانه إلى دماغه. القارئ مؤول قادر على الحالات الطبيعية على توليد صور يوحي بها النص، أو أن النص يوقظ عنده معاني وصوراً ليست في حسبان المبدع ولا أي ملاحظ أو قارئ آخر.‏

في المعنى ذاته يجيب (جاك لينهاردت) على سائله قائلاً:‏

"إذا لاحظنا عن كثب في القراءة فإن البنية المقترحة، البنية الأيديولوجية أو السياسية، رؤية العالم المطروحة على القارئ يعاد تأويلها وتفسيرها حسب أيديولوجية القارئ ورؤيته الخاصة للعالم. ولكي نفهم السيرورة الثقافية للأدب والقراءة، نلاحظ أن سيرورة القراءة جدّ حركية، ولا ينبغي الاعتقاد بسلبية من طرف القارئ إزاء البنية النصية المقترحة عليه، بل على خلاف ذلك هناك إعادة تأويل لا بد من التعرف عليها" (9)‏

وبعد. أتوجد وسيلة أقدر على الجمع بين كونها أداة معرفة وثقافة، وبين أنها مصدر متعة عقلية على درجة من السمو؟ وأنها رياضة عقلية توسع في قدرات المرء وتكشف مواهبه وقد تفجرّ عنده نشاطاً إبداعياً يتصف بالجمال ويبعث على الارتياح، وربما يدفع إلى نشاطات متتابعة ؟‏

ولعل أعظم دليل وأفضل برهان على ميزة القراءة هذه أن رسالة الإسلام كانت فاتحتها كلمة (اقرأ). بـ (اقرأ) تنفتح آفاق ويُعلم مجهول، وتتفجر طاقات.‏

(1)عن عبد الكريم درويش: فاعلية القارئ في إنتاج النص- ص109- الكرمل ربيع 2000.‏

(2) الفكر العربي المعاصر، ع 13 ص149.‏

(3) سيزا قاسم، عالم الفكر 3-4 / 23 ص45.‏

(4) عالم الفكر 1-2/21 ص133.‏

(5)-عن فؤاد مرعي في عالم الفكر 2-1/ 23 ص 354‏

(6) -دومنياك: الثقافة العالمية. تعلم القراءة –ع52 ص 59‏

(7) -السابق: ص 65‏

(8) -أحمد المديني: مقابلة مع جاك لينهاردت –الفكر العربي المعاصر ع13 ص 156‏

(9) -السابق –ص 147‏

التعديل الأخير تم بواسطة : ابومحمد الشامري بتاريخ 01-04-2005 الساعة 03:44 PM.
رد مع اقتباس
  #6  
قديم 01-04-2005, 03:22 PM
ابومحمد الشامري ابومحمد الشامري غير متصل
ابوحمد الشامري ( سابقا )
 
تاريخ التسجيل: Dec 2004
الدولة: شـبـكـة مـجـالـس العجمـــــان
المشاركات: 19,132
معدل تقييم المستوى: 10
ابومحمد الشامري قام بتعطيل التقييم



( إقفال النص انتهاء المعنى )

(1) النص والمعنى:‏


فرّق الجرجاني بين المعنى ومعنى الكلمة، فالأول عنده يكون عند كتابة النص، لكن النص لا ينتهي عند كتابته. فتداول النص يفسح في المجال للتأويل أي للبحث عن معنى المعنى.‏

فكأن معنى العمل الأدبي يثبت لكن التأويل هو الذي يتغير من قارئ إلى آخر كما من زمن إلى زمن مختلف وبيئة إلى بيئة مغايرة.‏

وهذا التعبير المتغير، لا مندوحة لنا –من وصفه بالمعنى من حيث هو موضوع مثالي يمكن التعبير عنه بعدة طرق، وهو هنا لا يعني الثبات (كما عرفه الجرجاني)، لأن القصد منه اختلف. فكأن الكاتب المبدع لا يرمي في نصه إلى دلالة معينة، بحسب (مالارمييه) الذي يقول:‏

لا يتكون البيت الشعري من ألفاظ ذات معنى، بل من ألفاظ ذات نوايا. فما ينتجه المبدع إنما هو مشروع معنى.. وفتح النص أمام احتمالاته الدلالية ثراء له وتخلق بدلاً من غلقه على دلالة واحدة تؤدي به إلى الانقراض، وتحوّل قراءة النص إلى عمل رتيب. (1)‏

(2)القراءة والمعنى:‏

يتولد النص –بحسب ما يعرف في سوسيولوجية القراءة –في القراءة وبها. والقراءة كما هو معروف نشاط يوظف كل مستويات الثقافة، لأنه بالقراءة تستثار المعرفة السابقة والخبرات المكتسبة، وهي جزء من اهتمامات القارئ ومن حياته الشخصية والاجتماعية. (2)‏

والقارئ خلال ما يقوم به من نشاط يحاول أن يصل إلى الحدود النهائية في تفسير العمل الفني.‏

وقد يصل في لحظة ما إلى النقطة التي يظن أنها نقطة النهاية، وأن لا شيء بعدها. لكن معاودة القراءة مرة أخرى تكشف له وهم النهاية. ذلك أنه من الناحية الواقعية يحدث ما هو مختلف عن ذلك، لأن النص نادراً ما يغلق نفسه، وبالتالي فهو لا ينغلق عند المتلقي عند الانتهاء منه، أو عندما يغدو خارج الإثارة الحسية المباشرة.‏

ففي نشاط القراءة تتجلى عمليات معرفية نشطة ومتنوعة تتعلق بعمليات التفكير والتخيّل ناهيك عن عمليات الانتباه والتذكر والإدراك.. كون هذه العمليات فعاليات عقلية تسير في اتجاهين أو مسارين بينهما كثير من نقاط التقاطع والالتقاء. أولاهما يكون تمثلاً داخلياً للوقائع والصور ورموزهما. وثانيهما يكون إعادة، لفك الرموز وتأويلها بغية فهم الواقع الخارجي لاستدخاله في عملية التلقي. وبوساطة هذه العمليات المعرفية ينشئ الذهن المعاني التي تتوالد منها معاني أخرى، وهكذا في سلسلة يصعب التنبؤ عن نهايتها.‏

حيث ينشط الإنسان ويمارس الفعل القرائي –في الحالة العادية، وبشكل أولي –فهو يبحث عن معارف، أو عما يمتع، أو للتزود بصورة أو صور، ويرمي من وراء ذلك أن يصل إلى يقين افتقده في مسألة أو حكاية أو حدث أو تاريخ أو ما شابه ذلك.. ولكن هل يصل المرء إلى يقين مهما كانت المادة التي بين يديه؟‏

يقلق الإنسان فيبحث عما يبدد توتره ويدفع عنه الحيرة التي تتملكه بشكل ما أو تسيطر على زاوية ما من زوايا حياته العقلية.. هل تحقق القراءة له ذلك؟‏

(3)هل يحيل النص إلى اليقين؟‏

الركون إلى يقين يتوقف عنده القارئ يحيل إلى حالة من السكون لا ينتج عنها غير الموت أو إحدى حالاته. توارث الناس دعاء يرددونه في خوف ظاهر أو ملتبس على شخص يحقق نجاحات ما في حياته، يقولون فيه:‏

"الله، لا يكمل له سعداً"، فاكتمال السعد يعني بالنسبة لهم الموت فلا حياة بعد هذا الاكتمال الذي إن حدث فهو نقطة ما بعدها نقطة إنه نقطة النهاية.‏

حين يركن المرء (فرداً أو جماعة) إلى يقين في جانب ما من جوانب الحياة، ينغلق العقل عليه حيث يغدو ثابتاً، فإن استمرأ المرء هذه الحالة سكن، واستحالت حالته سداً يمنعه من أية انطلاقة في هذا الباب.‏

فالقراءة المبدعة -التي كما ذكرنا من قبل وهي التي تفتح أمام ذهن القارئ فضاءات جديدة يعي بعضها ويتحرك بعضها الآخر في مساحات أخرى تخلق مساربها وقنواتها لتظهر في نشاطات أخرى في مرات لاحقة. لذا فأشد ما يسيء إلى الناقد ويمنعه من الانفتاح على النص، هو وقوعه في وهم اليقين الذي يعتقد أنه قد وصل إليه.. وهو بهذا يسد على النص النوافذ التي يتنفس منها، وينشغل في لي عنق النص أو تفصيله وفق قوالب جاهزة نحتها بالاستناد إلى نظرية نقدية جاهزة أو متداولة، وقد يدفع هذا الشعور باليقين لدى الناقد بجمهرة من القراء والكتاب إلى الهاوية التي وقع هو بها.‏

فهذا الشعور يصبح في مجالنا هذا وفي محاولات أخرى، حتى في ميادين العلوم الأساسية وهماً. ومازال بعض العاملين في مجالات العلوم السلوكية والسياسية والثقافية أسرى هذا الوهم، وهم اليقين.‏

شرح (بروكس) هذه المشكلة التي أصبحت مصدر قلق الأوساط العلمية والأدبية والفكرية والعامة من الناس، قائلاً:‏

"تكمن المشكلة اليوم في أنه لم يعد لدى العلماء وعامة الناس ذلك اليقين.‏

إنّ كل أنواع المعارف هي –في التحليل النهائي –في صالح البشر، فقد ظهرت وتطورت خلال العقود الأخيرة الكثير من التطورات التكنولوجية، أقل ما يقال فيها، أن لها من المخاطر مثل ما لها من الفوائد. وسرعان ما ينبه أصحاب النظرة النقدية إلى أن العلم قد لا يكون المتسبب في خلق هذا النوع من المستحدثات التكنولوجية.‏

وعلى الرغم من ذلك، فإنه ما كان لهذه المستحدثات أن تحدث دون التقدم المذهل الذي حققته المعرفة العلمية في القرن العشرين.. وأصبح التشاؤم من النتائج المترتبة على تعاظم المعارف جزءاً من المناخ العام في زماننا. وعلى الرغم من أن العلماء أكثر تفاؤلاً عن ذي قبل، فإن فئة كبيرة منهم تسهم في إحداث جو من التشاؤم العام. ومن ثم لا يوجد مجال متعاظم للبحث يمكن أن يقال أن له مصلحة مؤكدة في إبراز الجانب الضار، كما وجد دائماً، ولا يزال لعدد كبير منهم مصلحة في إبراز الفوائد المرجوة" (3)‏

تقيم تكنولوجيا المعلومات قنطرة الوصل بين المادي وغير المادي لتدل على مفاهيم مشتركة تنطبق على الظواهر المادية والمعنوية. لكن هل تستطيع هذه المفاهيم أن تثبت على حال؟ سرعان ما يتبدد ما ظهر كأنه مشترك ليغدو حالات فردية متمايزة ومتباعدة، ما تلبث من جديد أن تعيد البحث عن القواسم المشتركة من جديد. سواء كانت أرقى من الأولى أو أدنى منها، وهذا هو مسار المفاهيم الذي لا ينتهي ينقلها من الوحدة إلى التنوع، ومن التنوع إلى الوحدة.‏

(4) لا نهائية النص:‏

أوضح (جاك دريدا) من خلال مقارباته في تفكيك النص أنّ لكل نص عدداً لا نهائياً من القراءات الممكنة، وفقاً لخلفية وهدف قراءته، والعلاقات التي تربط بينه وبين النصوص الأخرى. أو فيما يسمى بعلاقات التناص بأشكالها‏

المختلفة.‏

غالباً النصوص التي تفضح بواطنها من القراءة الأولى، ليست نصوصاً على درجة عالية من الأهمية. لذلك كثيراً ما يجد القارئ والناقد في غموض النص ما يثير وما يجذب نحو قراءته. وقديماً قال (الصابي) في (المثل السائر) أفخر الشعر ما غمض فلم يعطك غرضه. إلا بعد مماطلة منه. وذمّ (طه حسين) الوضوح داعياً إلى الارتفاع عنه لأنه يفسد الفن إفساداً ويقربه من الابتذال. وربما يكون هو ما قصده (راندل جاريل) حين قال: "أعظم خيانة يرتكبها الكاتب صوغ الحقيقة الصعبة في عبارة رخيصة.‏

لكن الغموض المطلوب لا يقصد منه التعمية وكتابة الطلاسم التي لا تفك أسرارها. ويوضح (خليل هنداوي) الغموض المطلوب بقوله:‏

" في الوقت الذي نرتد فيه عن بعض الآثار الفنية الواضحة كل الوضوح ضيقي الصدور، مظلمي القلوب، تملأ نفوسنا بعض الآثار الغامضة روعة وجلالاً. على ألا يقصد بالغموض الغموض لذاته، لأن ذلك يؤدي إلى فوضى تقوّض الفن".‏

هذا القدر من الغموض يتحدى فيه النص ذهن القارئ وتبرز من خلاله علاقة الكاتب بالمتلقي اللذان يمتحا من النص مالا ينتهي من المعاني.‏

ظل (غوته) يعلن حتى النهاية أن العبقرية تثير الدهشة، تثيرها بالوحدة في التنوع، بالدينامية التي تستوعبها التقاليد، والتي تبقى كذلك على التقاليد حية، بالتعبير الذاتي والاكتشاف الذاتي اللذين يشتركان معاً في صناعة نسيج للثقافة البشرية عبر التاريخ. (4)‏

(5) الكتابة وتحولات المعنى:‏


تظل الكتابة أحد أهم الإنجازات التي حققتها البشرية خلال تاريخها المديد. وفعل الكتابة يتعلق بنشاط التعلم الذي يعمل على تميّز العنصر البشري وفرض بقائه كجنس. فقد استطاعت الكائنات البشرية في الأعشار الأخيرة من المئة من وجودنا أن تبتكر لا المعرفة الموروثة فقط، بل والمعرفة الخارجية عن الجسم أيضاً أي تلك المعلومات المخزنة خارج الجسم والتي تشكل الكتابة ذاتها أهم نموذج لها. (5)‏

قبل اختراع الكتابة كانت المعرفة البشرية مقتصرة على ما يمكن للشخص أو للجماعة الصغيرة أن تتذكر، وفي بعض الأحيان، على غرار ما حدث في كتب الهندوس الدينية الأربعة، وفي ملحمتي هوميروسِ، أمكن المحافظة على جزء هام من المعلومات، ولكن لم يوجد حسب معرفتي –يقول ساغان –سوى القليل من أمثال هوميروس. أما بعد اختراع الكتابة، فقد أصبح ممكناً جمع وتوحيد واستخدام مصادر الحكمة المتراكمة عبر كل العصور، ولكل الناس.... إن الثقافة مدخل إلى أعظم العقول البشرية وأكثرها تأثيراً في التاريخ البشري، فسقراط، ونيوتن على سبيل المثال، لهما من القراء أكثر بكثير من كل الناس الذي أمكن لأي منهما أن يجتمع به في أثناء حياته. (6)‏

خلود الكتابة من ثراء المعنى وقدرة الفكرة أن تتسلل عبر العصور وإن كانت في تحول دائم من خلال نمو المفاهيم التي تحملها ونمو قدرات المتلقي على إنتاج معان تتناسب مع التحولات الاجتماعية والاقتصادية وتتطور معها. قد يتأثر فعل التلقي بالمعتقدات السائدة وبالأوضاع الاجتماعية والاقتصادية وما يتعلق بالعادات والقيم، فتحدث قطيعة بين القارئ والمبدع وإن إلى حين. وهو ما يفسر حتى على المستوى النقدي عدم تقبل التجديد مما دفع بعض المبدعين أن يتطوعوا لأداء دور النقاد. لكن النص المتميز يفرض نفسه مهما بعدت المسافة الزمنية بين زمن كتابته وزمن قراءته.‏

وهو ما تصدقه مقولة (هيراقليطس) لا شيء ساكن، كل شيء يتحرك.‏

من هنا يمكن لنا أن نفسر غنى الحياة وجاذبيتها في الفن وأثر الفن في الحياة... فالنص إما أن يكون مفتوحاً على الحياة يتزود منها، باستمرار، بالطاقة اللازمة لبقائه واستمراره، ويضفي عليها الجدة بما يكون محملاً به من المعنى الذي يسبغ عليه سمات تميزه وقدرته على التطور الداخلي.‏

وإما أن يكون النص مغلقاً مغرقاً في ذاتية صاحبه فيغدو غير موجود عملياً إلا من جانب نظري بحت، فيصح فيه وبكاتبه قول طرفه بن العبد:‏

كريم يروي نفسه في حياته ستعلم إن متنا غداً أينا الصدي‏

فهل انتهى طرفة حين مات جسدياً، أم أن موته كان مجازاً، وإلا فلم بقيت آثاره موضع اهتمام وبحث لم ينته ولن ينتهي..؟‏

في علاقة المتلقي مع الفن يتداخل مباشرة مع المبدع من وراء النص الفهم مع التفسير والتأويل مع التخيل. فالكشف عن بنية العمل الفني سواء كان من ناقد متخصص أم من متلق متذوق منفتح الذهن، يشير إلى بيئته ويكشف عما وراءه أي أنه يكشف ما يخفيه وما يضمره. فكل من الإلياذة والأوديسة سيظل موضع اهتمام. كما أنهما سيستهويان القراء والمبدعين في استلهام معان وأفكار تشكل أساساً لإبداعات جديدة في مجالات مختلفة (شعر، قصة، رواية، مسرحية، تشكيل فني –موسيقي..)‏

وهذا شأن النصوص والأعمال الإبداعية المتميزة. ففي كل مرة تجري قراءة مثل هذه الأعمال فإنها تخلق مناخاً خاصاً يتأثر به المتلقي، مما جعل بعض المهتمين يعتقدون بأن المتلقي يذعن مع مثل هذه الأعمال لقاعدة في القراءة، تتمثل فيما يخلفه النص ويتضمنه ويثيره من "طقوس وشعائر.. وثم فإن المعنى معنى العمل يكون معنى تفاعلياً، وأن روايته رهن إطاره. فليس للنص معنى واحد وإنما معان متعددة متواكبة مع فيض الحياة" (7)‏

ويتردد أمام الإنسان سؤال مفاده –وهو سؤال مكرر –هل يكتمل المعنى في زمان ومكان معنيين؟‏

الجواب على ذلك: نعم ولا.‏

نعم في لحظة يتراءى فيها أن المعنى اكتمل.. لكن الأمر لا يستقيم مع هذا اليقين –كما بينا سابقاً –ويكون الجواب آنئذ: لا، لن يكتمل المعنى ما دامت الحياة، والحياة في تطور مستمر.‏

فالنص أو أي عمل ينتمي إلى عالم الفن يخلق لنفسه قيمة تتجلى في قدرته على تحدي القدر كما يقول (أندريه مالرو). فكل إبداع فني يكشف عن إمكانية بشرية في تخطي العصور وتجاوز الأمكنة حتى لو كان منتمياً تاريخياً لحضارة اختفت أو ماتت، إذ أن فنها لا يموت. "لا نعرف شيئاً –يضيف مالرو –عن الفلاح المصري القديم أو عن الفراعنة، لكنا نعلم الكثير عن الفن الفرعوني ونتجاوب معه، فنجد التماثيل المصرية في فرنسة..." (8)‏

هكذا يتيح العمل الفني للمتلقي أن ينفتح ذهنه على فضاءاته فيتوهج الفكر وينطلق، إلا أن ذلك لا يعفينا من توضيح أمر هام يتعلق بأوهام الكاتب أو المبدع ووقوع المتلقي في مصيدتها.‏

كما أن العمل الفني نفسه قد يقع في مطب مصدره تعسف المتلقي. وفي الحالين يكون السبب كامن في الأفكار المسبقة والأحكام الجاهزة التي تقصي المعنى من وعائه أو تختصره أو تشوهه، أو أن تتعسف على النص فتسبغ عليه من الأحكام والمعاني ما ليس فيه إن سلباً، وإن إيجاباً.‏

وكثيراً ما يقع العمل الفني والمتلقي معاً في مصيدة أحد النقاد الذي يحاول إثارة زوابع حول عمل ما أو حول صاحبه متسلحاً بنظرية فيفصّل العمل على النظرية فيفقده وحدته وتوهجه. فكم من إبداعات شوهها النقد وجار على أصحابها إن قدحاً وإن مدحاً)، فأثر ذلك على المتلقي بما استقر في ذهنه من حكم يفتقد المصداقية. فيتخذ المتلقي موقفاً من العمل الفني منسجماً مع أحكام مجافية للصواب. وكثيراً ما كشفت الأيام الموقف من هذا العمل أو ذاك ومن هذا المبدع وغيره من المبدعين.‏

في ندوة عن كاتب متوفى، كان أحد المنتدين يقارن بين قصيدتين للكاتب نفسه، نقدهما بلهجة منبرية، فاستجرّ تصفيق الحضور على إحداهما باعتقاد أنها الأصدق شعرية. بينما رأى زملاؤه على المنصة أنه تعسّف على الكاتب وعلى النص فيما افتعله من لهجة منبرية.‏

وهذا ما يفسر كيف يصنع بعض النقاد وأجهزة الإعلام من لا شيء شيئاً ومن أشياء رماداً.‏

فالمتلقي تحت تأثير مواقف مما تقدم أو ما شابه ذلك قد يعزف عن نتاج هذا المبدع أو ذاك متأثراً بتقييمات الآخرين. أو أنه قد يقوم بعملية تقويمية لما تركه هذا السلوك لديه، أو ما حققه مقارناً إياه بما سمع أو قرأ عن هذا العمل أو عن صاحبه، وقد تنتابه الحيرة أهو موافق على الأحكام التي تلقاها، أم أن ذائقته ليست في المستوى الذي يؤهله لأن يكون متلقياً موضوعياً.‏

فالمعنى الذي تنتجه القراءة يتأثر بالآراء المتداولة والأفكار المسبقة عن العمل أو صاحبه.‏

ويتحدث (هاري ستون) في كتابه (ديكنز والعالم الخفي) عن إقبال القراء والنقاد على أدب ديكنز وتحول هذا الإقبال إلى عزوف بسبب بعض الآراء المعادية لهذا الكاتب المشهور الذي تجاوز صيته الحدود الجغرافية فقرأ أدبه الناس في قارات العالم الخمس وبلغات مختلفة..‏

يقول صاحب الكتاب: من يستطع أن ينكر عبقرية (تشارلز ديكنز) الذي تربع على الرواية الإنكليزية، فقد شغف البريطانيون بقراءة رواياته، وفي مقدمتهم الملكة (فكتوريا) لكن ما حدث بعد وفاته، فقد خفت شهرته بسبب ما استقر في أذهان الناس من تقولات مصدرها (هنري جورج لويس) الذي نشط في التحدث عن (ديكنز) أنه مجرد كاتب ميلودرامي كاريكاتوري تتسم رواياته بالطرافة والإضحاك والتهريج، وأن قيمتها الترفيهية تعلو على أي قيمة أخرى، وأنه تنقصه النظرة الجادّة والعمق الفلسفي والإتقان الفني".‏

ومن الذين تأثروا بهذه التقييم المجحف لأدب ديكنز الروائية (فيرجينيا وولف) و(فوستر) وغيرهما... واستمر المتلقون متأثرين بهذه النظرة التي سادت عن الكاتب حتى نهاية الثلث الأول من القرن العشرين، حتى أنصف من ناقدين شهيرين هما: الأمريكي (ادموندويلسن) والروائي البريطاني (جورج اورويل) اللذين أعادا تقييم فن (ديكنز) الروائي، وأكدا جديته كما أبرزا‏

الجانب المأساوي من رواياته، وكشفا عن حسه الاجتماعي والنفسي الصادق.(9)‏

فكم من مرة وقع القارئ العربي تحت تأثير أحكام أطلقها بعض البارزين على الساحة الثقافية مباينة للصواب بعيدة عن كل صدق في القياس والحكم.. وكم من كتاب رمي زوراً بما ليس فيه ومن كاتب اتهم بالزندقة والكفر وغير ذلك من اتهامات ليس لها أساس مادي لها في سلوك هذا الكاتب أو نتاجه.. وكم من كاتب هوجم بتهمة لا يستحقها.‏

وبالمقابل من ذلك فإن كتاباً تصدروا الواجهة الثقافية لا على أنهم من المبدعين والمبرزين، بل لأنهم ينتمون إلى هذا الفريق دون ذاك...‏

في يوم كانت الموضة قراءة الماركسية، فلا كاتب ولا متلق جيد إلا من قرأها... وفي يوم آخر كانت قراءة سارتر ودوبوفوار، وفي أيام أخرى عزف عنهما... وينطبق القول على كثير من الكتاب والمبدعين عرباً وأجانب.‏

فهل يقاس عمل ما من حيث ما يمتلكه من خصائص إبداعية، بما نقرأه أو نسمعه من شهادات عن هذا الكاتب أو ذاك؟ وهل أن النصوص التي غلفها الغبار في مستودعات مؤسسات النشر، أدنى قيمة من أعمال تحقق أرقاماً عالية بالقياس لما هو سائد، على الرغم من الكساد في سوق الكتب الثقافية.‏

الحكم على ذلك ليس جاهزاً، وقد لا يكون متاحاً في المدى المنظور.‏

(1) -عبد الرحمن محمد القعود: الإبهام في شعر الحداثة –ص 326 –عالم المعرفة 279 -2002‏

(2) -جاك لينهارت" م. س ص 154‏

(3) -الثقافة العالمية –ع46 –ص8‏

(4) -مايكل بدو: غوته والعبقرية –في العبقرية –ص 159‏

(5) -كارل ساغان: تنانين عدن –ترجمة نافع أيوب –ص 82 –اتحاد الكتاب العرب‏

(6) -السابق ص 242 /243‏

(7) -شوقي جلال: مقدمة كتاب لماذا ينفرد الإنسان بالثقافة –ص 14 –عالم المعرفة‏

(8) -جوزين عثمان: مالرو –سنغور وحضارة الإنسان في عالم الفكر 13/ 2 ص 83‏

(9) -هادي سنو: ديكنز والعالم الخفي –عن عالم الفكر 13/3 –ص 315 –316‏


التعديل الأخير تم بواسطة : ابومحمد الشامري بتاريخ 01-04-2005 الساعة 03:46 PM.
رد مع اقتباس
  #8  
قديم 30-04-2005, 09:15 PM
الخليجي الخليجي غير متصل
 
تاريخ التسجيل: Feb 2005
المشاركات: 1,246
معدل تقييم المستوى: 21
الخليجي is on a distinguished road

ماقصرت , جزاك الله خير

تحياتي

 

التوقيع

 

عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن ناسا من الأنصار سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعطاهم ثم سألوه فأعطاهم حتى إذا نفد ما عنده قال ( ما يكن عندي من خير فلن أدخره عنكم ، ومن يستعفف يعفه الله ، ومن يستغن يغنه الله ، ومن يصبر يصبره الله ، وما أعطي أحد من عطاء خير وأوسع من الصبر )
رواه مسلم

 
 
رد مع اقتباس
  #9  
قديم 03-12-2011, 10:14 PM
عقيق نادر عقيق نادر غير متصل
 
تاريخ التسجيل: Oct 2010
المشاركات: 115
معدل تقييم المستوى: 14
عقيق نادر is on a distinguished road
رد: التجربة الإبداعية دراسة في سيكولوجية الاتصال والإبداع. ( دراسة )

دراسة رااائعة كل الشكر على ما قدمت

رد مع اقتباس
رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 
أدوات الموضوع
طرق مشاهدة الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع إلى

 


الوقت في المنتدى حسب توقيت جرينتش +3 الساعة الآن 11:20 PM .


مجالس العجمان الرسمي

تصميم شركة سبيس زوون للأستضافة و التصميم و حلول الويب و دعم المواقع