الجدار بعد سقوطه
احتفل العالم قبل أيام بالذكرى الـ 20 لسقوط جدار برلين في ألمانيا، هذا السقوط الذي كان بداية تحوّل جديد في العالم، وعلامة على انهيار المنظومة الشيوعية وانبعاث الأمل بانتشار الديمقراطية، لكن الأمور سرعان ما تبدّلت سريعاً وبدل الجدار نشأت عشرات الجدران.
الصور التي التُقطت في تلك الفترة لسقوط الجدار توحي وكأن العالم سيدخل الى الجنة أو الفردوس الأرضي، أناس من هنا وهناك وصيحات وضحكات ودموع وجدار يسقط وأشخاص يجمعون بقايا منه للذكرى، جدار كان يفصل مدينة الى مدينتين، وبقي نحو ثلاثة عقود علامة على {الحرب الباردة} والشرخ العميق في العالم. يقول الروائي أمين معلوف في كتابه {اختلال العالم} الصادر عن دار الفارابي (بيروت) {إن سقوط جدار برلين منحنا الأمل في ولادة عالمٍ جديد، وأن نهاية المواجهة بين الغرب (الرأسمالي) والاتحاد السوفياتي (الشيوعي) أزالت التهديد النووي الذي كان مسلّطاً فوق رؤوسنا منذ 40 عاماً، ومنحتنا الشعور بأن الديمقراطية لن تلبث أن تنتشر في أنحاء المعمورة. لكن بسرعة تبيّن لنا أن الأمور كانت على خطأ}. إذ سرعان ما راجت الجدران الكثيرة والاضطرابات السياسية والأمنية والاقتصادية، وأصبح العالم غرفة كونية بملايين الجدران من باكستان والهند الى {الجدار العازل} في فلسطين الى حرب الشيشان وغزو العراق ومجازر أفريقيا والسودان وانقسامات البوسنة والهرسك.
بيروت
برلين تشبه بيروت من حيث الانقسام، السياسة أزاحت التقارب الاجتماعي واللغوي بين الناس وصنعت المتاريس والتاريخ القاتم. برلين التي عاشت تجربة الجدار الذي قسّمها إلى مدينتين تشبه بيروت التي قسمتها الحرب الأهلية، وكانت خطوط التماس تمثل جداراً حقيقياً بين الأحياء المتقابلة وإن كان غير مرئي وربما ما زال حتى الآن. بعد سقوط جدار برلين أزيلت علامات الانقسام الواضحة فيها وظهرت تدريجياً علامات الاختلاف سواء من حيث العقلية أو ثقافة التعبير. في المقابل، وعلى رغم عدم وجود جدار مرئي في بيروت، فإن علامات الانقسام ما زالت موجودة في الحي الواحد والحارة الواحدة، وباتت هناك خطوط تماس كثيرة تتشكل في أي لحظة غضب سياسي أو نشرة أخبار سوداء. يذكرنا هذا بالروائي الألماني غونتر غاس الذي عاش ويلات الحرب الكونية الثانية طفلاً ثم شاباً، ومشى فوق أنقاض المدن المهدّمة إثر سقوط الرايخ الثالث، وعاين بنفسه الكوارث والفواجع والتمزّقات التي أصابت شعبه وبلاده بسبب النازية. وعندما تحوّلت المانيا إلى قوة اقتصادية مهابة، وذلك مطلع الستينات من القرن الماضي، كان أول من نبه إلى ضرورة مقاومة التكالب على الاستهلاك وعدم الانجذاب إلى المغريات المادية التي حققتها {المعجزة الاقتصادية}. ولما سقط جدار برلين، وتوحد شطرا ألمانيا، رفع صوته عالياً ليعلن أنه يتحتّم على الألمان أن يتوحدوا أخلاقياً قبل أن يتوحدوا تحت راية {الدوتشمارك}، العملة الألمانية القديمة. هل توحد اللبنانيون أخلاقياً أم أن الانقسام هو المشكلة الكبرى منذ نهاية الحرب؟
أحلام
كان الجدار قناعاً لتصوير أفلام سينمائية كثيرة عن سقوط الشيوعية، بل علامة لكتابة الكثير من الشعر ولسقوط الكثيرين من الشعراء مع شعرهم، خصوصا تلك الأشعار المضمّخة بالأيديولوجيات والأحلام التي أفضت الى كوابيس لا طائل لها.
كان الجدار علامة على ما تفرزه السياسات وما تفرضه على الشعوب، في روايته {القافز فوق الجدار} الصادرة عام 1984، يبدو بيتر شنايدر كمن يتساءل إذا انتهت عزلة الجدار فهل ستنتهي العزلة النفسية بالنسبة الى الألمانيين؟ من وجهة النظر النقدية تمثل رواية شنايدر خروجاً على المألوف كونها الرواية الأولى لكاتب ألماني غربي يتحدث عن جدار برلين. وفي الأساس فهي تختزل ألم ما يُعرف بتجربة التقسيم السياسي والثقافي الذي خضعت له مدينة برلين على مدى 28 عاماً. {القافز فوق الجدار}، تجسيد لموهبة شنايدر في تشخيص أكثر رمز وضوحاً وتعبيراً عن أجواء الحرب الباردة، وتحويله إلى نوع من السخرية التي يمكن فهمها بأشكال مختلفة. ففي هذه الرواية تعبر شخصياته الصعبة المعقدة، الحدود الفاصلة بين شطري ألمانيا. بين مركز الطبقة الكادحة في الشرق ومرتع الرأسمالية الغربية في الغرب، وهي لا تفعل ذلك من أجل الاحتجاج ولكن من أجل رغبتها الإنسانية. حاجتها إلى الالتقاء بمن تحب مسيرة من عواطفها الشخصية لا من السياسة. تحتوي رواية شنايدر على قدر كبير من الواقعية ومن السخرية الموجّه إلى طبيعة الحياة اليومية في شطري مدينة برلين قبل عام 1990، وهو ما سيكون كافياً لوضع حد لما يعتبره مأساة حقيقية بهدم الجدار والعودة بشخصياته التي يتابع القارئ مغامراتها المضحكة المبكية بدهشة، إلى حياتها العادية. يرسم شنايدر هنا صورة استثنائية للتقسيم النفسي الذي تعاني منه شخصياته ضمن سعيها إلى تخطي العزلة بالقفز على الجدار. ومن يتابع الكثير من الروايات اللبنانية يفهم ما فرضته السياسات والحروب على العلاقات بين اللبنانيين، إذ صار الحب بين أبناء الطوائف أسطورة، والعيش خارج الجماعة معجزة.
خط التماس في بيروت لم يكن مجرد خط، وبدل إزالته عمد غلاة الميليشيا الى تعميم تجربته المريرة في كل مكان، ربما في البيت الواحد، وجدار برلين لم يكن مجرد جدار، فالتاريخ يذكر الأحداث المريرة التي كانت تحصل بسببه، وثمة لجنة انبثقت عن معهد الأبحاث التاريخية في بوتسدام ما تزال تبحث عن العدد الحقيقي لضحايا أوامر إطلاق النار على المتسلّلين عبر الجدار.
ذاكرة الموت
وقع معظم حوادث الموت، أو القتل، على جدار برلين في السنوات الخمس الأولى التي أعقبت بناء الجدار، أي بين 1961 - 1974. وكان معظم محاولي التسلّل من الذكور الشباب وتقل أعمارهم عن 30 سنة. وكانت ضحية الجدار الأولى من النساء واسمها ايدا سيكمان التي قفزت عبر الجدار إلى شارع بيرناور (غرب). قفزت الضحية من نافذة بيت ملاصق تقريباً للجدار ويقع في الجهة الشرقية من مدينة برلين. وسقط أول قتيل برصاص حرس الحدود يوم 24 أغسطس (آب) 1961، وهو غونتر ليفتين، 24 سنة، وذلك على الجدار بالقرب من منطقة فريدريش شتراسة.
ظل جدار برلين يُذكّر القادة الغربيين وأعداداً كبيرة من الألمان الغربيين بتقسيم ألمانيا غير الطبيعي ولكنهم قبلوا به ضمنياً وركزوا اهتمامهم على إنشاء {المجموعة الأوروبية}. واكتفت القوى الغربية بالتفاوض حول إجراءات تخفيف حدة الحرمان المتزايد الذي فرضه الجدار. أصبح الانفراج مع الاتحاد السوفياتي أكثر ما يأمل الغرب بتحقيقه، واتخذت هذه السياسة أشكالاً مختلفة.
كذلك أصيب الرأي العام الألماني والعالمي بالفزع عام 1966 يوم أطلق الجنود الشرقيون نيران مدافعهم الرشاشة على طفلين، 10 و13 سنة، حاولا التسلل بدفع من الوالدين. أصبح كريس جوفري آخر من صرع على الجدار برصاص الجنود يوم 6 فبراير (شباط) 1989. أما فينفريد فرويدنبيرغ فقد دخل التاريخ لأنه حاول اجتياز الجدار بواسطة بالون وفقد حياته أثناء المحاولة.
منقول
21-10-2009, 01:46 PM
الجدار إن سـقط
العرض العادي
المواضيع المتشابهه
