د. نايف بن أحمد الحمد 15/7/1427
09/08/2006
- الأول: الإيمان بأن الله تعالى عالم بكل صغيرة وكبيرة جملة وتفصيلاً.
- الثاني: الإيمان بأن الله تعالى كتب في اللوح المحفوظ مقادير كل شيء.
- الثالث: أنه لا يكون شيء في السموات ولا في الأرض إلا بإرادة الله ومشيئته.
- الرابع: أن الله تعالى خالق كل شيء.
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وبعد:
فهذا السؤال مما يكثر طرحه، وتسبب سوء فهمه لبعض الناس بترك العمل –العبادات مع اقترافه للمحرمات- محتجاً بالقدر، والجواب يحتاج إلى بسط وذكر لفتاوى العلماء الموضحة، لذلك فأقول مستعيناً بالله تعالى: إن التصديق بالقضاء والقدر ركن من أركان الإيمان ولا يتم إلا بأربعة أمور:
الأول: الإيمان بأن الله تعالى عالم بكل صغيرة وكبيرة جملة وتفصيلاً.
قال تعالى: "جعل الله الكعبة البيت الحرام قياماً للناس والشهر الحرام والهدي والقلائد ذلك لتعلموا أن الله يعلم ما في السماوات وما في الأرض وأن الله بكل شيء عليم" [المائدة:79]. وقال تعالى: "قل أتعلمون الله بدينكم والله يعلم ما في السماوات وما في الأرض والله بكل شيء عليم" [الحجرات:16]. وقال تعالى: "ألم تر أن الله يعلم ما في السماوات وما في الأرض ما يكون من نجوى ثلاثةٍ إلا هو رابعهم ولا خمسةٍ إلا هو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم أين ما كانوا ثم ينبئهم بما عملوا يوم القيامة إن الله بكل شيء عليم" [المجادلة:7]. وقال تعالى: "يعلم ما في السماوات والأرض ويعلم ما تسرون وما تعلنون والله عليم بذات الصدور" [التغابن:4].
الثاني: الإيمان بأن الله تعالى كتب في اللوح المحفوظ مقادير كل شيء.
قال تعالى: "ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب ٍ من قبل أن نبرأها إن ذلك على الله يسير" [الحديد:22] وقال تعالى: "وكل شيءٍ فعلوه في الزبر" [القمر:52]. ولحديث عبد الله بن عمرو بن العاص –رضي الله عنهما- قال سمعت رسول الله –صلى الله عليه وسلم- يقول: "كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة". رواه مسلم (2653).
الثالث: أنه لا يكون شيء في السموات ولا في الأرض إلا بإرادة الله ومشيئته.
الدائرة بين الرحمة والحكمة يهدي من يشاء برحمته ويضل من يشاء بحكمته، قال تعالى: "إنا كل شيء خلقناه بقدر" [القمر:49].
الرابع: أن الله تعالى خالق كل شيء.
قال تعالى: "قل الله خالق كل شيءٍ وهو الواحد القهار" [الرعد:16]. وقال تعالى: "الله خالق كل شيء وهو على كل شيءٍ وكيل" [الزمر:62]. وقال تعالى: "والله خلقكم وما تعملون" [الصافات:96]. (انظر: شرح لمعة الاعتقاد لشيخنا العلامة ابن عثيمين(/51)، معارج القبول للشيخ الحكمي (2/328) السلفية شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والتعليل لابن القيم، والقضاء والقدر في ضوء الكتاب والسنة د. عبد الرحمن المحمود).
قال العلامة عبد الرحمن السعدي –رحمه الله تعالى- "مراتب ذلك –أي القدر- أربع لا يتم الإيمان بالقدر إلا بتكميلها: الإيمان بأنه بكل شيء عليم، وأن علمه محيط بالحوادث، دقيقها وجليلها، وأنه كتب ذلك باللوح المحفوظ، وأن جميعها واقعة بمشيئته وقدرته. ما يشاء كان وما لم يشأ لم يكن، وأنه مع ذلك مكَّن العباد من أفعالهم فيفعلونها اختياراً منهم بمشيئتهم وقدرتهم، كما قال الله تعالى: "ألم تعلم أن الله يعلم ما في السموات والأرض إن ذلك في كتاب" [الحج:70] وقال: تعالى: "لمن شاء منكم أن يستقيم، وما تشاءون إلا أن يشاء الله رب العالمين" [التكوير:28-29].
أ.هـ سؤال وجواب في أهم المهمات (67).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله تعالى- مبيناً مذهب أهل السنة في أفعال العباد: (والعباد فاعلون حقيقة، والله خالق أفعالهم، والعبد هو المؤمن والكافر والبر والفاجر والمصلي والصائم، وللعباد قدرة على أعمالهم، ولهم إرادة، والله خالق قدرتهم وإرادتهم، كما قال تعالى: "لمن شاء منكم أن يستقيم، وما تشاءون إلا أن يشاء الله رب العالمين" [التكوير:28-29] أ.هـ الواسطية مع شرح هراس (ص65).
وقال ابن قدامة –رحمه الله تعالى- (ومن صفات الله –تعالى- أنه الفعال لما يريد، ولا يكون شيء إلا بإرادته، ولا يخرج شيء عن مشيئته، وليس في العالم شيء يخرج عن تقديره، ولا يصدر إلا عن تدبيره، ولا محيد عن القدر المقدور، ولا يتجاوز ما خُط في اللوح المسطور، أراد ما العالم فاعلوه، ولو عصمهم لما خالفوه، ولو شاء أن يطيعوه جميعاً لأطاعوه، خلق الخلق وأفعالهم، وقدر أرزاقهم وآجالهم يهدي من يشاء برحمته، ويضل من يشاء بحكمته، قال تعالى: "لا يسأل عما يفعل وهم يسألون" [الأنبياء:23]، وقال تعالى: "وخلق كل شيء فقدره تقديراً" [الفرقان:2]، وقال تعالى: "ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها إن ذلك على الله يسير" [الحديد:22] وقال تعالى: "فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقاً حرجاً" [الأنعام:125]، وروى ابن عمر: أن جبريل عليه السلام قال للنبي –صلى الله عليه وسلم- ما الإيمان؟ قال: (أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وبالقدر خيره وشره) فقال جبريل: صدقت. رواه مسلم، وقال النبي –صلى الله عليه وسلم- "آمنت بالقدر خيره وشره حلوه ومره"، ومن دعاء النبي –صلى الله عليه وسلم- الذي علمه الحسن بن علي يدعو به في قنوت الوتر: (وقني شر ما قضيت).
ولا نجعل قضاء الله وقدره حجة لنا في ترك أوامره واجتناب نواهيه، بل يجب أن نؤمن بأن لله علينا الحجة بإنزال الكتب وبعثه الرسل، قال الله تعالى: "لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل" [النساء:165].
ونعلم أن الله سبحانه ما أمر ونهى إلا المستطيع للفعل والترك، وأنه لم يجبر أحداً على معصية، ولا اضطره إلى ترك طاعة، قال تعالى: "لا يكلف الله نفساً إلا وسعها" [البقرة:286]، وقال تعالى: "فاتقوا الله ما استطعتم" [التغابن:16]، وقال تعالى: "اليوم تجزى كل نفس بما كسبت لا ظلم اليوم" [غافر:17]، فدل على أن للعبد فعلاً وكسباً يُجزى على حسنه بالثواب، وعلى سيئه بالعقاب، وهو واقع بقضاء الله وقدره" أ.هـ لمعة الاعتقاد(/194) مطبوع ضمن الجامع للمتون العلمية.
وقال الشيخ السعدي –رحمه الله تعالى- ذاكراً شبهة الجبرية ومجيباً عنها: "إن الجميع يقولون بما جاء به الكتاب والسنة، من إثبات الأصلين: (أحدهما): الاعتراف بأن جميع الأشياء كلها –أعيانها، وأوصافها، وأفعالها- بقضاء وقدر، لا تخرج عن مشيئة الله وإرادته، بل: ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن. (والأصل الثاني): أن أفعال العباد- من الطاعات، والمعاصي، وغيرها- واقعة بإرادتهم وقدرتهم: وأنهم لم يجبروا عليها: بل هم الذين فعلوها بما خلق الله لهم: من القدرة: والإرادة، ويقولون: لا منافاة بين الأمرين: فالحوادث كلها –التي من جملتها أفعال العباد- بمشيئة الله وإرادته: والعباد هم الفاعلون لأفعالهم، المختارون لها. فهم الذين اختاروا فعل الخيرات وفعلوها، واختاروا ترك المعاصي فتركوها. والآخرون اختاروا فعل المعاصي وفعلوها، واختاروا ترك الأوامر فتركوها. فاستحق الأولون المدح والثواب، واستحق الآخرون الذم والعقاب، ولم يجبر الله أحداً منهم على خلاف مراده واختياره. فلا عذر للعاصين إذا عصوا، وقالوا: إن الله قدرها علينا، فلنا بذلك العذر. فيقال لهم: إن الله قد أعطاكم المكنة والقدرة على كل ما تريدون، وأنتم –بزيغكم وانحرافكم- أردتم الشر ففعلتموه: والله قد حذركم، وهيأ لكم كل سبب يصرف عن معاصيه: وأراكم سبيل الرشد فتركتموه، وسبيل الغي فسلكتموه، وإذا أردت زيادة إيضاح لهذا المقام: فإنه من المعلوم لكل أحد: أن كل فعل يفعله العبد، وكل كلام يتكلم به –فلابد فيه من أمرين: قدرة منه على ذلك الفعل والقول: وإرادة منه. فمتى اجتمعا: وجدت منه الأقوال والأفعال. والله تعالى هو الذي خلق قدرة العبد، وإرادة العبد: وخالق السبب التام، خالق للمسبب. فالله تعالى خالق أفعال العباد، والعباد هم الفاعلون لها حقيقة، فهذا الإيراد الذي أورده هذا المشكك، وما أشبهه-: من الإيرادات التي يحتج بها أهل المعاصي، بالقدر- يجيبونهم بهذا الجواب، المفحم، فيقولون: دلت أدلة الكتاب والسنة الكثيرة: على أن الله خالق كل شيء وعلى كل شيء قدير، وأن كل شيء بقضاء وقدر: الأعيان، والأوصاف، والأفعال. ودلت –أيضاً- أدلة الكتاب والسنة: أن العباد هم الفاعلون لفعلهم حقيقة، بقدرتهم واختيارهم، فإنه تعالى نسب إليهم، وأضاف إليهم كل ما فعلوه: من إيمان وكفر، وطاعة ومعصية. وإنه تعالى مكنهم من هذا، ومن هذا. ولكنه تعالى حبب إلى المؤمنين الإيمان وزينه في قلوبهم، وكره إليهم الكفر والفسوق والعصيان: وولى الآخرين ما تولوا لأنفسهم: حيث اختاروا الشر على الخيرة وأسباب العقاب على أسباب الثواب. وهذا –كما أنه معلوم بالضرورة من الشرع- فهو معلوم بالحس الذي لا يمكن لأحد المكابرة فيه: فإن العبد يفرق بين أفعاله التي يقسر ويجبر ويقهر عليها، وبين أفعاله التي يختارها ويريدها، ويحب حصولها" أ.هـ الدرة البهية شرح القصيدة التائية (149).
وسئل شيخنا العلامة ابن عثيمين –رحمه الله تعالى- مثل هذا السؤال: (هل الإنسان مسير أو مخير؟) فأجاب –رحمه الله تعالى- "على السائل أن يسأل نفسه هل أجبره أحد على أن يسأل هذا السؤال، وهل هو يختار نوع السيارة التي يقتنيها؟ إلى أمثال ذلك من الأسئلة، وسيتبين له الجواب هل هو مسير أو مخير، ثم يسأل نفسه هل يصيبه الحادث باختياره؟ هل يصيبه المرض باختياره؟ هل يموت باختياره؟ إلى أمثال ذلك من الأسئلة، وسيتبين له الجواب هل هو مسير أو مخير.
والجواب: أن الأمور التي يفعلها الإنسان العاقل يفعلها باختياره بلا ريب، واسمع إلى قول الله تعالى: "فمن شاء اتخذ إلى ربه مآبا" [النبأ:39]، وإلى قوله تعالى: "منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة" [آل عمران:152] وإلى قوله تعالى: "ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكوراً" [الإسراء:19]، وإلى قوله تعالى: "ففدية من صيام أو صدقة أو نسك" [البقرة:196]، حيث خير الفادي فيما يفدي به. ولكن العبد إذا أراد شيئاً وفعله علمنا أن الله –تعالى- قد أراده –لقوله –تعالى-: "لمن شاء منكم أن يستقيم، وما تشاءون إلا أن يشاء الله رب العالمين" [التكوير:29]، فلكمال ربوبيته لا يقع شيء في السموات والأرض إلا بمشيئته تعالى، وأما الأمور التي تقع على العبد أو منه بغير اختياره كالمرض والموت والحوادث فهي بمحض القدر وليس للعبد اختيار فيها ولا إرادة. والله الموفق". أ.هـ
وقال –رحمه الله تعالى- "هل الإنسان مسير أو مخير؟ وهل له إرادة أو ليس له إرادة؟ فنقول: الإنسان مخير إن شاء الله آمن وإن شاء الله كفر، بمعنى أن له الاختيار وإن كان ليس سواءً لا يستوي الكفر والإيمان، لكن له اختيار أن يختار الإيمان أو أن يختار الكفر وهذا أمرٌ مشاهدٌ معلوم فليس أحدٌ أجبر الكافر على أن يكفر، وليس أحدٌ أجبر المؤمن على أن يؤمن، بل الكافر كفر باختياره والمؤمن آمن باختياره، كما أن الإنسان يخرج من بيته باختياره ويرجع إليه باختياره، وكما أن الإنسان يدخل المدرسة الفلانية باختياره ويدخل الجامعة الفلانية باختياره وكما أن الإنسان يسافر باختياره إلى مكة أو إلى المدينة أو ما أشبه ذلك، وهذا أمر لا إشكال فيه ولا جدال فيه ولا يمكن أن يجادل فيه إلا مكابر، نعم هناك أشياء لا يمكن أن تكون باختيار الإنسان كحوادث تحدث للإنسان من انقلاب سيارة أو صدم أو سقوط بيت عليه أو احتراق أو ما أشبه هذا لا شك أن لا اختيار للإنسان فيه، بل هو قضاءٌ وقدر ممن له الأمر، ولهذا عاقب الله سبحانه وتعالى الكافرين على كفرهم لأنهم كفروا باختيارهم، ولو كان بغير اختيار منهم ما عوقبوا، ألا ترى أن الإنسان إذا أكره على الفعل ولو كان كفراً أو على القول ولو كان كفراً فإنه لا يعاقب عليه؛ لأنه بغير اختيار منه، ألا ترى أن النائم قد يتكلم وهو نائم بالكفر، وقد يرى نفسه ساجداً لصنم وهو نائم ولا يؤاخذ بهذا؛ لأن ذلك بغير اختياره، فالشيء الذي لا اختيار للإنسان فيه لا يعاقب عليه، فإذا عاقب الله الإنسان على فعله السيئ دل ذلك على أنه عوقب بحق ٍ وعدل؛ لأنه فعل السيئ باختياره، وأما توهم بعض الناس أن الإنسان مسير لا مخير من كون الله سبحانه وتعالى قد قضى ما أراد في علمه الأزلي بأن هذا الإنسان من أهل الشقاء، وهذا الإنسان من أهل السعادة فإن هذا لا حجة فيه، وذلك لأن الإنسان ليس عنده علمٌ بما قدر الله سبحانه وتعالى، إذ إن هذا سرٌ مكتوم لا يعلمه الخلق فلا تعلم نفسٌ ماذا تكسب غداً وهو حين يقدم على المخالفة بترك الواجب أو فعل المحرم يقدم على غير أساس وعلى غير علم؛ لأنه لا يعلم ماذا كتب عليه إلا إذا وقع منه فعلاً، فالإنسان الذي يصلي لا يعلم أن الله كتب له أن يصلي إلا إذا صلى، والإنسان السارق لا يعلم أن الله كتب عليه أن يسرق إلا إذا سرق، وهو لم يجبر على السرقة ولم يجبر المصلي على الصلاة، بل صلى باختياره والسارق سرق باختياره، ولما حدث النبي –صلى الله عليه وسلم- أصحابه بأنه "ما من أحد إلا وقد كتب مقعده من الجنة ومقعده من النار" قالوا: يا رسول الله ألا ندع العمل ونتكل؟ قال: (لا اعملوا فكلٌ ميسر لما خلق له" فأمر بالعمل والعمل اختياري وليس اضطرارياً ولا إجبارياً، فإذا كان يقول –عليه الصلاة والسلام- "اعملوا فكلٌ ميسر لما خلق له" نقول للإنسان اعمل يا أخي صالحاً حتى يتبين أنك ميسر لعمل أهل السعادة، وكل بلا شك إن شاء عمل عملاً صالحاً، وإن شاء عمل عملاً سيئاً، ولا يجوز للإنسان أن يحتج بالقدر على الشرع فيعصي الله ويقول هذا أمرٌ مكتوب علي بترك الصلاة مع الجماعة، ويقول هذا أمر مكتوب علي بشرب الخمر، ويقول هذا أمر كتب علي فيطلق نظره في النساء الأجنبيات ويقول هذا أمرٌ مكتوبٌ علي، ما الذي أعلمك أنه مكتوبٌ عليك فعملته؟ أنت لم تعلم أنه كتب إلا بعد أن تعمل، لماذا لم تقدر أن الله كتبك من أهل السعادة فتعمل بعمل أهل السعادة؟ وأما قول السائل هل للإنسان إرادة؟ نقول: نعم له إرادة بلا شك، قال الله تبارك وتعالى: "منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة" [آل عمران:152]، وقال تعالى: "ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن" [الإسراء:19]، وقال تعالى: "من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه، ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها وما له في الآخرة من نصيب" [الشورى:20]، والآيات في هذا معروفة، وكذلك الأحاديث معروفة في أن الإنسان يعمل باختيار وإرادة، ولهذا إذا وقع العمل الذي فيه المخالفة من غير إرادة ولا اختيار عفي عنه، قال الله تعالى: "ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا" [البقرة:28]، فقال الله: قد فعلت. وقال تعالى: "وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به" [الأحزاب:5]، وهذا أمرٌ -ولله الحمد- ظاهر ولا إشكال فيه إلا على سبيل المنازعة والمخاصمة، والمنازعة والمخاصمة منهيٌ عنهما إذا لم يكن المقصود بذلك الوصول إلى الحق، وقد خرج النبي –صلى الله عليه وسلم- ذات يوم على أصحابه وهم يتنازعون في القدر فتأثر من ذلك عليه الصلاة والسلام لأن هذا النزاع لا يؤدي إلى شيء إلا إلى خصومة وتطاول كلام وغير ذلك، وإلا فالأمر واضح ولله الحمد" أ.هـ.
كما سئلت اللجنة الدائمة عن ذلك.
فأجابت اللجنة: أولاً: ثبت أن الله –تعالى- وسع كل شيء رحمةً وعلماً، وكتب في اللوح المحفوظ ما هو كائن إلى يوم القيامة، وعمت مشيئته وقدرته كل شيء، بيده الأمر كله لا مانع لما أعطى ولا معطي لما منع ولا راد لما قضى وهو على كل شيء قدير، وقد دل على ذلك وما في معناه نصوص من الكتاب والسنة، وهي كثيرة معروفة عند أهل العلم، ومن طلبها من القرآن ودواوين السنة وجدها، من ذلك قوله تعالى: "إن الله بكل شيء عليم" [العنكبوت:62]، وقوله "الله خالق كل شيء" [الزمر:62]، وقوله "إنا كل شيء خلقناه بقدر" [القمر:49]، وقوله: "وما تشاءون إلا أن يشاء الله إن الله كان عليماً حكيماً" [الإنسان:30]، وقوله "يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب" [الرعد:39]، وقوله: "ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها إن ذلك على الله يسير" [الحديد:22]، وقوله: "ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعاً أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين" [يونس:99]، وقوله: "ولو شئنا لأتينا كل نفسٍ هداها" [السجدة:13].
ومما ثبت عن النبي –صلى الله عليه وسلم- في ذلك ما حث على الذكر به عقب الصلاة من قول: "لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد" البخاري (844)، ومسلم (593)، وكذا ما جاء في حديث عمر –رضي الله عنه- من سؤال جبريل رسول الله –صلى الله عليه وسلم- عن الإيمان فأجاب النبي –صلى الله عليه وسلم- بقوله: "الإيمان: أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره" مسلم (8)، فهذه النصوص وما في معناها تدل على كمال علمه –تعالى- بما كان وما هو كائن وتقديره كل شؤون خلقه، وعلى عموم مشيئته وقدرته، ما شاءه –سبحانه- كان وما لم يشأ لم يكن.
ثانياً: ثبت أن الله حكيم في خلقه وتدبيره وتشريعه، رحيم بعباده، وأنه –تعالى- أرسل الرسل –عليهم الصلاة والسلام- وأنزل الكتب وشرع الشرائع وأمر كلاً منهم أن يبلغها أمته، وأنه –تعالى- لم يكلف أحداً إلا وسعه، رحمة منه وفضلاً، فلا يكلف المجنون حتى يعقل، ولا الصغير حتى يبلغ، وعذر النائم حتى يستيقظ، والناسي حتى يذكر، والعاجز حتى يستطيع، ومن لم تبلغه الدعوة حتى تبلغه، رحمة منه تعالى وإحساناً.
وثبت عقلاً وشرعاً الفرق بين حركة الصاعد على سلم مثلاً، والساقط من سطح مثلاً، فيؤمر الأول بالمضي إلى الخير، وينهى عن المضي إلى الشر والاعتداء، بخلاف الثاني فلا يليق في شرع ولا عقل أن يوجه إليه أمر أو نهي.
وثبت الفرق أيضاً بين حركة المرتعش لمرضه وحركة من ليس به مرض، فلا يليق شرعاً ولا عقلاً أن يوجه إلى الأول أمر ولا نهي فيما يتعلق في الرعشة، لكونه ملجأ مضطراً إليه، بل يرثى لحاله ويسعى في علاجه، بخلاف الثاني، فقد يحمد كما في حركات العبادات الشرعية، وقد ينهى كما في حركات العبادة غير الشرعية وحركات الظلم والاعتداء، فتكليف الله عباده ما يطيقون فقط وتفريقه في التشريع والجزاء بين من ذكروا وأمثالهم دليل على ثبوت الاختيار والقدرة والاستطاعة لمن كلفهم دون من لم يكلفهم.
ثم إن الله –تعالى- حكم عدل علي حكيم لا يظلم مثقال ذرة، جواد كريم يضاعف الحسنات ويعفو عن السيئات، ثبت ذلك بالفعل الصريح والنقل الصحيح، فلا يتأتى مع كمال حكمته ورحمته وواسع مغفرته أن يكلف عباده دون أن يكون لديهم إرادة واختيار لما يأتون وما يذرون وقدرة على ما يفعلون، ومحال في قضائه العادل وحكمته البالغة أن يعذبهم على ما هم إلى فعله ملجؤون وعليه مكرهون، وإذاً فقدر الله المحكم العادل وقضاؤه المبرم النافذ من عقائد الإيمان الثابتة التي يجب الإذعان لها وثبوت الاختيار للمكلفين وقدرتهم على تحقيق ما كلفوا به من القضايا التي صرح بها الشرع وقضى بها العقل، فلا مناص من التسليم بها والرضوخ لها، فإذا اتسع عقل الإنسان لإدراك السر في ذلك فليحمد الله على ذلك، وإن عجز عن ذلك فليفوض أمره لله وليتهم نفسه بالقصور في إدراك الحقائق، فذلك شأنه في كثير من الشؤون، ولا يتهم ربه في قدره وقضائه وتشريعه وجزائه فإنه –سبحانه- هو العلي القدير الحكيم الخبير، "سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين" [الصافات: 180-182].
وليكف عن الخوض في ذلك الشأن خشية الزلل والوقوع في الحيرة، وليقنع عن رضا وتسليم بجواب النبي –صلى الله عليه وسلم- لأصحابه –رضي الله عنهم- لما حاموا حول هذا الحمى، فقالوا: يا رسول الله –صلى الله عليه وسلم- أفلا نتكل؟ فقال لهم: "اعملوا فكل ميسر لما خلق له" رواه البخاري (4949) من طرق عن أبي عبد الرحمن السلمي عن علي بن أبي طالب –رضي الله عنه- قال: كنا مع رسول الله –صلى الله عليه وسلم- في بقيع الغرقد في جنازة فقال: "ما منكم من أحد إلا وقد كتب مقعده من الجنة ومقعده من النار"، فقالوا: يا رسول الله –صلى الله عليه وسلم- أفلا نتكل، فقال: "اعملوا فكل ميسر لما خُلق له"، ثم قرأ قوله تعالى: "فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى فسنيسره لليسرى"، إلى قوله تعالى: "فسنيسره للعسرى"، ورواه أيضاً مسلم (2647) وأصحاب السنن الترمذي (2136)، وابن ماجة (78)، وأحمد (621). وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عبد العزيز بن عبد الله بن باز [الرئيس] عبد الرزاق عفيفي [نائب رئيس اللجنة]
عبد الله بن قعود [عضو] عبد الله بن غديان [عضو]
أ.هـ والله تعالى أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.