عرض مشاركة واحدة
  #1  
قديم 03-05-2015, 08:07 AM
محمود المختار الشنقيطي محمود المختار الشنقيطي غير متصل
 
تاريخ التسجيل: Jul 2012
المشاركات: 968
معدل تقييم المستوى: 12
محمود المختار الشنقيطي is on a distinguished road
حياة أميرة عثمانية في المنفى"2"

حياة أميرة عثمانية في المنفى"2"
في ظل النقاش حول وفاة (العم حميد) .. (وفي هذه اللحظة ظهر أحد الخصيان،يعلن عن وصول رسول من السلطان.
وكان هذا الرسول سودانيا عظيم الهامة. ومع أنه عبد،فقد نهضوا جميعا،لا احتراما لشخصه،لأنه غير موجود بالنسبة إليهم،ولكن تعبيرا عن الاحترام للكلام الذي هو حامله.
إن جلالته الإمبراطور،السلطان رشاد،أمير المؤمنين ... وظل الله على الأرض،وخاقان البحرين،الأسود والأبيض،وسلطان البرين،يرسل إلى أفراد أسرته هذه الرسالة : بمناسبة موت أخينا المحبوب جدا،السلطان عبد الحميد الثاني،ندعو الأمراء والأميرات من أسرة جلالة السلطان مراد إلى الاشتراك في المأتم،في الأماكن والطريقة المحددّة في الأعراف. فليكن السلام معكم،وليتولاكم الله جل وعلا بلطيف عنايته.
وهنا نراهم يتقلبون الأمر الصادر. وليس من شك في أن رسالته ليست بدعوة،بل هي أمر.
وما كاد الرسول يغادر المكان حتى دمدم الأمير نهاد،رافعا كتفيه وقائلا :
ليحدث ما يحدث،فلن أذهب.
وتتدخل السلطانة خديجة لتقول بلهجة اللائم.
- يا نهاد،أظن أن (فؤاد) على حق. فالموقف خطير. وعلينا أن نبقى على وحدة الأسرة.
- وحدة الأسرة! آه. لنتحدث عنها،يا خالتي العزيزة. إنها أسرة لم تنقطع منذ ستة قرون عن الاقتتال من أجل السلطة. فكم قتل جدنا مراد الثالث "قاهر الفرس"من إخوته؟ إنهم تسعة عشر فيما أظن. وكان أبوه أكثر تواضعا،إذ لم يقتل إلا خمسة.
وأجابت الخالة :
- لقد كان ذلك مبررا بضرورة الحكم. وقد حدث مثل هذا في كل الأسرة الحاكمة. لكن الذي حدث في أوربا،أن الملوك لم يكن لهم إخوة بهذا العدد. وأنا لا أحقد في هذا على السلطان عبد الحميد. ففي تلك الظروف الصعبة التي كانت فيها إنكلترا وفرنسا وروسيا تريد اقتسام أراضينا،كان يجب بلا ريب أن يوجد رجل مثله،لكي يدير دفة الحكم. ولقد استطاع خلال ثلاث وثلاثين سنة أن ينقذ الإمبراطورية من شرور الدول،التي كانت تريد تمزيقها. أما أبي. المفرط في حرصه على الشرف،والشديد الحساسية،فربما لم يكن قادرا على أن ينجح في ذلك. وأخيرا،أليست مصلحة البلاد أولى بالرعاية من سعادتنا الشخصية؟
وعندئذ تبادلت فهيمة السلطانة والأمير فؤاد غمزة عين ساخرة. ذلك أن كبراهم كانت دوما امرأة تحرص على الواجب. ولكن من يهتم اليوم بهذه المبادئ الكبرى؟ أما فهيمة فتريد قبل كل شيء أن تتمتع،وهي تقبل على المتعة إقبالا عنيفا بحكم شعورها أنها أضاعت في الأسر أجمل سني حياتها. إنها من المرح،والخفة بحيث لقبت بلقب "السلطانة الفراشة" (..) – إذا كنت أفهم سيادتك (أفنديمز)،فإنه ليس علينا فقط أن نحضر المراسم،بل لعل علينا،كذلك،أن نذرف فيها بعض الدموع،لنكون في مستوى الموقف.
- يكفيكم أن تحضروها. ولكن تذكروا هذا،يا فؤاد،وأنت يا نهاد،فلئن وصلتما إلى العرش يوما،فانسجوا على مثال السلطان عبد الحميد لا على مثال جدكم السلطان مراد. إذ لا تملك المرأة،في آن واحد،أن يكون لها ولد،وأن تحتفظ بعذريتها. وعندما انفجرت ضاحكة من سحنتهما المندهشة – إذ إنهم لن يتعودوا أبدا على خشونة كلماتها – نهضت لتختم الاجتماع) {ص 22 - 24}.
الآن يقترب الحديث عن شخصية سترافقنا طول هذه السياحة – إذا كتب لها الاستمرار - ولكن قبل ذلك نذهب إلى السوق في رفقة السلطانة :
(في صباح اليوم التالي،ما كادت السلطانة خديجة تستيقظ من نومها،حتى استولت عليها رغبة مفاجئة في المضيّ إلى السوق لتشتري بعض "الشرائط" والعادة هي أن الباعة النساء من الأغارقة والأرمن،هن اللواتي يأتين إلى القصر ليعرضوا{هكذا!} أشيائهن،إذ لا يحسن بالأميرة أن تتردد على هذه الأماكن الشعبية،حتى ولو بقيت بعيدة عن الأنظار في عربتها المغلقة أحسن الإغلاق.
ولكنها اليوم لا تريد الانتظار.
فاستدعت زينل،خصيّها المفضّل. وهو ألباني طويل القامة،ذو بشرة شديدة البياض. ويجب أن يكون في الأربعين من عمره،وتلاحظ السلطانة بشيء من المتعة أن سمته الجديدة،تريق عليه هيبة الباشا.
وتتذكر الآن ذلك المراهق المرعوب الذي وصل منذ خمسة عشر سنة إلى قصر تشيراغان،حيث كانت تعيش سجينة مع أبيها،وإخوتها. وكان قد أرسل إليهم من قبل رئيس الخصيان لدى السلطان عبد الحميد،الذي وجد في إرساله هذا،وسيلة مناسبة للتخلص منه. ذلك مع أنه كان موهوبا بشكل خاص – لأنهم كانوا يعلمون الأطفال الذين يهيئونهم لخدمة البلاط الملكي – ويتميز بالذكاء والحيوية – فإنه فيما بعد بدا عصيا جدا على نظام الحريم القاسي.
ومع ذلك،فإن زينل هذا سرعان ما تلاءم مع صورة الحياة في قصر تشيراغان. فهل كان مثلا يشعر بأنه أكثر حرية،من هؤلاء المساجين؟ وتذكر خديجة أنه كان يتبعها إلى كل مكان. وكان شديد الانتباه لأصغر حركاتها،على حين أنه كان يتجاهل أختيها الأميرة فهيمة و الأميرة فاطمة. ولقد اختارها هي وحدها ليقوم بخدمتها. (..) ومن أعماق صمتها تتجه إليه،وتقول له أخيرا :
يا أغا أريد أن تجد لي عربة من عربات الأجرة،وبأسرع ما يمكن. وينحني الخصي،مخفيا دهشته. ذلك أن عربات القصر المغطاة والمكشوفة،وهي خمس،في أحسن حال! وبطبيعة الحال،فإن هذه العربات تحمل الشارات السلطانية ... فهل ترغب سيدته أن تمشي،مجهولة الهوية،في الوقت الذي كان فيه زوجها خيري بك،في رحلة خارج المدينة؟ و زينل هذا معتاد على نزوات النساء،فلطالما لاحظها بين نساء الحرملك،حيث كان يخدم لمدة أربعة عشر عاما. لكن سلطانته هذه مختلفة! فأنب نفسه على أنه شك فيها،ولو للحظة،وأسرع ليجد لها عربة أجرة. ){ص 25 - 27}.
أخذت السلطانة معها (سلمى) في رحلة التسوق،وسارت العربة،حتى أوقفها الازدحام،فقال زينل :
( - يا صاحبة السعادة،لم يعد في وسعنا أن نتقدم. فمن هنا يجب أن يمر الموكب الجنائزي.
وترتسم ابتسامة هادئة على محيا السلطانة.
- أحقا هذا؟ لقد نسيت ذلك. إذن فسننتظر ريثما يمر.
وألقت سلمى نظرة باتجاه أمها،إن هذا هو فعلا ما كانت تفكر به : فالشرائط لم تكن إلا ذريعة! فأيندجيم لا تهتم كثيرا بزينتها! والشيء الذي كانت تريده،هو أن ترى موكب الجنازة،ولما كانت التقاليد تقضي بأن لا تحضره الأميرات،فقد وجدت هذه الحيلة للحضور.
وكان هناك جمهور كبير من الناس قد تجمع،على دهشة كبيرة من السلطانة. فقالت في نفسها :
"يا بؤسهم،إن الناس لقليلو المتع،في أيام الحرب هذه،حتى يكفي أي شيء،لإخراجهم من منازلهم".
وفجأة يسود الصمت. إذ لقد ظهر الموكب في أعلى الشارع.
كان النعش مسبوقا بفرقة عسكرية موسيقية بالإستانبولية السوداء. ومرت الجنازة ببطء،محمولة على أكتاف الجنود. ويتبعها الأمراء،مشاة على الأقدام،بترتيب الأعمار،وعلى صدورهم أوسمة الألماس. ويأتي بعدهم الأصهار (الدامادا) أزواج الأميرات،ثم الباشوات في زيهم الاستعراضي الموحد،ثم الوزراء بالريدنجوت المزين الجوانب بمطرزات الذهب. وأخيرا،وعلى نفس مستوى الوزراء في هذه الاحتفالات الرسمية،يأتي ألكيسلر آغا،حارس أبواب السعادة،ورئيس الخصيان السود،في القصر.){ص 28}.
ثم نصل إلى مربط الفرس،تقارن السلطانة بين جنازة عمها،وجنازة أبيها،ولكن قبل ذلك، يستمر وصف جنازة العم:
(وعلى جانبي الموكب،وعلى طول الثلاثة الكيلومترات التي تفصل جامع أيا صوفيا،عن الضريح الذي سيقبر فيه السلطان،ينتشر الجنود في لباسهم الرسمي في وضعية التأهب. من الواضح كل الوضوح،أن حكومة تركيا الفتاة،التي أزاحت السلطان عبد الحميد عن العرش،قبل عشر سنوات،وتحت رعاية السلطان رشاد،هي التي بيدها مصائر الإمبراطورية. ولقد شاءت أن يكون الاحتفال بدفن السلطان ضخما. وفي وسع المرء أن يبدو طيبا مع الموتى.
أما الطيب .. فإن الرجل الذي يحتفل بدفنه اليوم،لم يعرفه قط .. وكانت الدموع تغشّي نظرة السلطانة. وفجأة ترى نفسها قبل أربعة عشر عاما،في تلك الليلة شديدة البرد التي قبر فيها أبوها السلطان مراد،بأمر من السلطان عبد الحميد،بصورة سريعة جدا. إذ لم يصحبه إلى القبر إلا بعض خدمه الأوفياء،أما الشعب الذي أحبه حبا جما،فإنه لم يسمح له بالإعراب عن أسفه.
وترتجف خديجة. ذلك أن العظمة التي تحيط بالموكب الجنائزي،لذلك الجلاد،أثار كراهيتها من جديد. (..) وشعرت السلطانة بأن طعما مرا يملأ فمها. أهو الغيرة؟ وهل تغار من ميت؟ .. إنها تفهم الآن ما هي الرغبة التي دفعتها لتجاوز الأعراف،من أجل حضور هذا الاحتفال الجنائزي. ولقد ظنت أن هذا منها ليس إلا من قبيل الفضول : والحقيقة أنها أرادت الشعور بالانتقام. فلقد جاءت تلاحظ وتستنشق وتتذوق موت الرجل الذي كان يقتل أباها،يوما بعد يوم،خلال ثمانية وعشرين عاما. (..) وفجأة ندت عن الحضور صرخات. وحاولت السلطانة داخل عربتها أن تكبت ابتسامة. إن هذا هو السبب الذي جعل الناس كثيرين في الاحتفال : إذ قلما يهتم الشعب باللياقات التي تمنع إحاطة الميت بالسخط. ولهذا جاء يحيي الطاغية التحية التي يستحقها!
ولما كانت شديدة الانتباه،فإنها أصغت بأذنها،داخل هذا الصخب،إلى ما بدا لها أنه تأوهات وشهقات وبكاء. ولكن هذا مستحيل،ويجب أن تكون أساءت السمع! ومع ذلك ... فقد كان ما سمعته قائما فعلا. فتجمدت في مقعدها،وعلا وجهها شحوب كلون الموت.وما ذلك الذي طنت أنه صرخات كره،بدا فعلا صرخات تألم ويأس. فاشتد فيها الاستياء. ماذا؟ أهذا الشعب الذي كان في الماضي يهزأ بالطاغية،يبكي عليه اليوم؟ أو نسي تلك السنوات السوداء التي كانت فيها الشرطة ودوائر المخابرات تحكم حكما مطلقا؟ أو نسي كم صفق للانقلاب الذي قام به رجال تركيا الفتاة،وأطاحوا فيه بالسلطان عبد الحميد،وأحلوا محله أخاه "رشاد"؟ فهزت رأسها باحتقار،وكأنها تقول : "حقا إن ذاكرة الناس قصيرة".
وبدا وجه امرأة من نافذة،وهي تتألم،وتتوجع،,تقول :
أيها الأب. لِمَ تتركنا وتتخلى عنا؟ ففي زمانك كان لدينا خبز نأكله. أما اليوم فنحن نموت جوعا!
وانضمت أصوات أخرى بعضها إلى بعض،لتقول :
أين تمضي؟لا تتركنا وحيدين. ){ص 28 - 30}.
لم أكن أرغب في إنهاء هذه الحلقة بهذا الكم من الكراهية .. ولكن : كم تبدو بائسة – يأكل الحقد،تحت ستائر الابتسامات، قلوبهم - حياة قوم في الأعالي،ربما حسدهم بعضنا!! ... إلى اللقاء في الحلقة القادمة ... إذا أذن الله.
س/ محمود المختار الشنقيطي المدني
س : سفير في بلاط إمبراطورية سيدي الكتاب

 

التوقيع

 

أقول دائما : ((إنما تقوم الحضارات على تدافع الأفكار - مع حفظ مقام"ثوابت الدين" - ففكرة تبين صحة أختها،أو تبين خللا بها .. لا يلغيها ... أو تبين "الفكرة "عوار"الفكرة"))

 
 
رد مع اقتباس