عرض مشاركة واحدة
  #2  
قديم 08-05-2006, 09:14 AM
خالد المحفوظي خالد المحفوظي غير متصل
 
تاريخ التسجيل: Apr 2005
المشاركات: 1,686
معدل تقييم المستوى: 21
خالد المحفوظي is on a distinguished road

الفصل الثاني:: المرتكزات التأسيسية الكبرى الفلسفية للمجتمع المدني الحديث‏ :

تم ارساء الأسس والمكونات المعرفية والنظرية للمجتمع المدني في عصر النهضة الأوروبية وفلاسفة الأنوار. ذلك أن تاريخ مفهوم المجتمع المدني يعود إلى تطور الفكر السياسي الليبرالي على مدى القرنين السابع عشر والثامن عشر، المرتبط بالمذاهب الاجتماعية والاقتصادية، والذي بلور النظرية السياسية الليبراليه الكلاسيكية الغربية، منذ بداية انهيار "النظام القديم"، أي عهد انهيار الحكم المطلق وسلطان البابا الديني والدنيوي المتحكم في ملوك أوروبا باسم سلطة الكنيسة المسيحية، وبداية الهجوم الكاسح عبر الثورات على حكم الملوك، الذين يحكمون بمقتضى الحق الإلهي، الذي يبيح لهم بأن لا يحاسبوا عن سياستهم إلا أمام الله، وإلى بداية سلطان القانون الطبيعي، الذي يقر بحرية الفرد الإنسان باسم العقل والمنطق، فإلى سيادة الشعب، والسيادة القومية، وحقوق الإنسان، التي فجرتها الثورة البرجوازية الانكليزية، وتدعمت بشكل جذري قوى مع اندلاع الثورة البرجوازية الفرنسية، التي أصبحت منذ ذلك ثورة عالمية بالمعنى التاريخي والإنساني، تفصل بين العالم القديم والعالم الحديث والعصري، ودشنت عهداً جديداً في تاريخ الإنسانية جمعاء، بحكم ما أعلنته من حريات ومساواة قانونية وسياسية للإنسان الفرد.‏

إذن، فتاريخ المجتمع المدني، هو تاريخ التطور الجامح للفلسفة والايديولوجية البرجوازية ورؤيتها للعالم الجديد، فضلاً عن أنه تاريخ الإعداد الايديولوجي والسياسي، والثقافي للثورة البرجوازية حيث "كانت العناصر الأساسية للتصور البرجوازي للعالم قد بزغت في أوروبا الغربية قبل هذه الحقبة. فالمذهب الإنساني للقرون الرابع عشر والخامس عشر والسادس عشر كان قد حمل السمات المتطورة لعقلية وصبوات الطبقة الجديدة التي هي قيد التكون: البرجوازية ففي إطار المذهب الإنساني، عارض التصور الجديد العلماني للعالم الذي تقدم به المجتمع البرجوازي الوليد، عارض سلطة الكنيسة القوية في ظل الاقطاع بمبدأ حرية تفتح الشخصية الإنسانية، وأخلاق القرون الوسطى التقشفية الزهدية، بالتأكيد على حق التنعم بملذات الدنيا وإشباع مختلف الحاجات والأهواء"(1).‏

إن تطور مفهوم المجتمع المدني مرتبط عضوياً بتطور الفكر السياسي الليبرالي بمختلف مكوناته الفلسفية والسياسية، وكذلك نواحيه التطبيقية، التي مهدت لولاده المجتمع المدني الحديث والمعاصر، الذي يمثل أهم ما ورثته الإنسانية من عصر النهضة من مبادىء لا تزال تشع بروحها التحررية، السياسية والإنسانية إلى يومنا هذا. وهي أساس النظريات السياسية الحديثة في الحرية، بشقيها الإيجابي والسلبي، والمبادىء الديمقراطية، وحقوق الإنسان، وحقوق وواجبات المواطنة والسيادة للشعب الخ. إنها شتى الحقوق التي "جعلت حياة الإنسان جديرة بالحياة بما كسبه لا في ميادين السياسة فحسب بل في ميادين الاجتماع والاقتصاد والقانون، وساعد هذا الكسب في تقدم المدنية السريع واتساع نطاق الانتاج مدى أربعة قرون بما يفوق بمراحل ما سبق أن حصلت عليه البشرية من كسب عشرات القرون السالفة"(2).‏

أولاً- انحطاط النظام القديم والصعود المطرد للبرجوازية:‏

كان النظام القديم السائد في أوروبا حتى القرنين السابع عشر والثامن عشر، يجمع بين عناصر الحكم المطلق من النظام الاقطاعي البالي، وبين عناصر البنية البرجوازية الصاعدة. فالملكية المطلقة باعتبارها جزءاً من نظم القرون الوسطى، قبلت بمذهب الحكم الدستوري الاقطاعي، ودول المدن الحرة، التي تطورت في العصور الوسطى، وعصر النهضة، وشكلت حضارتها. وارتبط نمو الملكية المطلقة بنمو الملكية الدستورية الاقطاعية، وظهور شرعية العائلات المالكة المتنفذة في السلطة. وكان الحكم المطلق يستند إلى جبروت القساوسة وعبثهم، وطغيان البابا ونفوذه في بلاط الملوك والأمراء، باعتبار البابا يمثل سلطة مرجعية وزعامة روحية على مجتمع الدول المسيحية، وعلى سلطان الكنيسة الديني والقانوني، التي اعتمدت عليها الملكية المطلقة، حيث كانت الكنيسة شريكة للحكم الوطني.‏

ويقوم الحكم المطلق على نظرية الحق الإلهي للملوك، باعتبارها السلطة المرجعية الايديولوجية الدينية والسياسية، لتدعيم سلطانهم ومركزية حكمهم، في تناقض جذري مع القانون الطبيعي وحرية الإنسان.‏

وهكذا "فالملوك في رأى الذين كتبوا دفاعاً عن الحق الإلهي ومنهم الملك جيمس الأول أمير اسكتلندا والذي أصبح ملك أنجلترا فيما بعد ونشر كتابه بعنوان "القانون العقائدي للملكيات الحرة" سنة 1595 هؤلاء الملوك "صورة حية لله على الأرض"، ولا خيار للشعب في هذه الحالة"(3).‏

لقد أصبحت الملكية المطلقة النظام السياسي السائد للحكم في أوروبا مع بداية القرن السادس عشر. وكانت فرنسا هي النموذج الساطع لنمو سلطة الحكم المطلق على درجة عالية من المركزية في عهد لويس الرابع عشر.‏

واعتمدت نظرية حق الملوك الإلهي على الصراع بين الطوائف الدينية من أجل السلطة، ودفاعاً عن حق الملوك الذي لا يمس أو ينقص، وعلى نظام الحكم المطلق ضد النظام الدستوري، وتقر نظرية الحق الإلهي بأن الدين هو السلطة المرجعية للسلطة، وهو الذي يقرها. فسلطة الملك على وجه الأرض تضاهي سلطة الله في السماء، وما الملك إلا صورة الله الحية، ووكيله على الأرض. أما الشعب فما عليه الإذعان، والطاعة العمياء، والخضوع المطلق لراعي المصلحة العليا. ففي أيام "حكم هنري الرابع كان لويز وما يزال يعتبر الملك ضابطاً لدى الشعب، وفي الوقت نفسه ملازماً لدى الله. وفي عهد لويس الثالث عشر كان لوبريه أكثر وضوحاً: "ومن ذلك يمكن أن نستنتج أن ملوكنا يتلقون صولجانهم، إلا من الله وحده. فليسوا مجبرين أن يقدموا أي خضوع لأية سلطة على الأرض ويتمتعون بسائر الحقوق الممنوحة للسيادة، التامة المطلقة. فهم سادة في مملكتهم بالتمام والكمال"(4).‏

إن نظرية الحق الإلهي، أسهمت إسهاماً كبيراً في إضفاء صفة الحكم الإلهية على الملك، باعتباره حاكماً مطلقاً بهالة من القدسية والاحترام الديني، ويتمتع بكل السلطات، فضلاً عن سلطانه غير المحدود. ويمكن تلخيص أهم مرتكزات نظرية الحق الإلهي في الحكم، كما صاغها المؤرخ الفرنسي المعروف Bossuet.‏

أولاً- "إن هذه السلطة مقدسة، فالملوك هم خلفاء الله في الأرض وعن طريقهم يدير شؤون مملكته(...) ولذلك لم يكن العرش الملكي عرشاً ملكياً وكفى، بل كان ذلك العرش عرش الإله ذاته".‏

ثانياً- السلطة الملكية سلطة أبويه "إن الملوك يحلون محل الله الذي هو الأب الحقيقي للجنس البشري (...) وحيث كانت الفكرة التي يملكها عن القوة الأبوية (...) فقد كان الملوك على غرار صور الآباء .‏

ثالثاً- "فليس الملك أن يقدم تبرير لما يأمر به (...) إذ بغير هذه السلطة المطلقة يكون عاجزاً عن فعل الخير وعن المعاقبة على الشر. وينبغي لسلطته أن تكون من القوة بحيث أنه ليس لأحد أن يأمل في الإفلات من قبضته".‏

رابعاً- وتتعلق بطاعة الرعية العمياء، وليس لتلك الرعية "أن تعترض على عنف الأمراء إلا متى كان الاعتراض في شكاوى ملؤها الاحترام والتعظيم من غير فتنة ولا شغب، وفي دعوات صالحة لهم بالمرشد والهداية الملكية"(5).‏

إن نظرية الحق الإلهي للملك، تبلورت في خضم الحروب الدينية، والطائفية، التي عرفتها أوروبا في نهاية القرون الوسطى. وكان الصراع بين الكاثوليك والبروتستانت، هو الوجه البارز لهذه الحروب الأهلية ذات الطابع الديني، خصوصاً مع ظهور المصلحين البروتستانت الأوائل، الذين مزجوا النظرية السياسية باختلافات في العقيدة الدينية وتماسك التعاليم الدينية.‏

إن كلاً من الكاثوليك والبروتستانت عجزوا عن ربط معتقداتهم السياسية بفلسفة اللاهوت، أو بلورة نظرية سياسية تعتمد على الخلافات الدينية، لأن الفريقين كليهما كانا يستلهمان من التراث المسيحي عينه، والتجربة السياسية الأوروبية عينها. ومن هذا المنطلق، فإن الاصلاح البروتستانتي، الذي قاده مارتن لوثر في وقت مبكر من القرن السادس عشر في ألمانيا، والذي كان أساس حجته ضد البابا وحكومة رجال الكنيسة، وهجوماً على ما يتمتع به رجال الدين من امتياز واعفاءات خاصة، معتمداً على إيمانه الصادق بالحرية الدينية، ونزعته الباطنية للتجربة الدينية، لم يحقق النتائج المرجوة. فلوثر كان يؤكد على وجوب الطاعة العمياء للشعب تجاه الملك أو الأمير، حين قال: "ليس من الصواب بأي حال أن يقف أي مسيحي ضد حكومته، سواء كانت أفعالها عادلة أو جائرة، ليس ثمة أفعال أفضل من طاعة من هم رؤساؤنا وخدمتهم. ولهذا السبب أيضاً فالعصيان خطيئة أكبر من الفعل والدنس، والسرقة، وخيانة الأمانة، وكل ما تشتمل عليه هذه"(6).‏

ومع ذلك، فإن أنجلز يسمى اللوثرية بالاصلاح البرجوازي، كحركة هزت الشعب الألماني بأكمله "فمن ناحية رأى الفلاحون والعوام دعواته (لوثر) إلى النضال ضد الكهنة، وفي مواعظه عن الحرية المسيحية إيذاناً بالانتفاضة، ومن ناحية أخرى تجمع حوله البرجوازيون المعتدلون وقسم كبير من النبالة الصغيرة، بل جروا معهم عدد لا يستهان به من الأمراء"(7).‏

أما آراء المصلح الثاني كلفن السياسية واللاهوتية، التي كانت تستند عليها الكنائس الكلفنية في هولندا، واسكتلندا، وفرنسا، وأميركا، فهي لا تختلف بأي حال من الأحوال عن أراء لوثر. فكلفن كان في حقيقته يعتقد في واجب الطاعة العمياء، لأنه يعتبر الحاكم نائب الله، ومقاومته مقاومة لله. وكان معادياً لليبرالية، وظالماً، ورجعياً. وفضلاً عن ذلك، فإن الكلفنية تطورت إلى نوع من التيوقراطية، لأنها قامت على مبدأ هيلدبراند، الذي يقر بأن السلطان الروحي أحسن من السلطان الزمني- ولذا فهي تعطي الأولية للسلطة الروحية، وتستغل السلطة الزمنية لكي تطبق الشرع والسنن الدينية، والنظام الأخلاقي. ولهذا السبب، لم تلق الكلفنية قبولاً من الكنيسة الوطنية، التي رئيسها الزمني الملك، لأن مبدؤها الأساسي يشتمل في حق الكنيسة إعلان "المذهب الخالص وفي ممارسة رقابة شاملة بتأييد من جانب السلطة الزمنية".‏

أما بالنسبة للكلفنية فقد رأى فيها ماكس فيبر عاملاً مجتمعياً مزوداً بتصور عن الله بعيداً مطلق القوة، وغير مستجيب للتوسلات، وكمتحكم مطلق بإقدار البشر. وفي هذه الحالة، فإن النصيحة الوحيدة الممكنة في عالم متصور على هذا الشكل هي التوجه نحو الزهد". بكل تأكيد، إن التعامل مع هذا الموجود الخارق، أي مع الإله البعيد، سينسجم عنه مشاكل، حيث أن التغلب عليها يمر في نظر فيبر عبر تطور الكلفنية لخطين مميزين" الأول كان أن لدى كل كالفيني يخاف الله واجباً دينياً في أن يعتقد أنه مختار للخلاص، وأن كل الشكوك التي تعتريه هي بمثابة اغراءات شيطانية. الثاني كان أن النشاط المركز في هذا العالم هو الوسيلة الأكيدة لازالة الشكوك ولتلقين الثقة بالنفس.‏

والصعوبات التي كانت مستوطنة في أي تعامل مع الله كانت تخل جزئياً عن طريق نمو دعوة نشيطة في هذا العالم(8). إذا، فالكلفينية دعت إلى التوحيد بين الزهد والدعوة الحثيثة للعمل في هذا العالم، وهو الذي اشترط حسب تعبير ماكس فيبر مجموعة متكاملة فريدة من الحوافز الدينية الملهمة للمشروع الرأسمالي. ففي نظر فيبر شكلت الأخلاق البروتستانتية شرطاً قبلياً ضرورياً للرأسمالية، فضلاً عن أنها كانت منسجمة مع روح أنماط الانتاج الرأسمالي.‏

أما فلسفة جون نوكس، فقد قلبت الموقف جذرياً إذ تخلى نوكس، الذي وجد نفسه منفياً ومحكوماً عليه بالإعدام من قبل الكنيسة الكاثوليكية في اسكتلندا العام /1558/، عن مذهب كلفن في الطاعة العمياء، وحث نوكس في نداء موجه إلى النبلاء، والطبقات، وعامة الشعب في اسكتلندا، على مقاومة الطغيان الملكي لتحقيق الاصلاح الديني. لقد طور نوكس الكلفنية بشكل جذري، حين دعا ثابتاً إلى ضرورة المقاومة المعادية للملكية طارحاً بذلك الفكرة الرئيسية التالية، على الملك مسؤولية أمام رعاياه وضرورة احترام هذه المسؤولية في حكمه.‏

ومنذ موت كلفن في العام 1564، انتشرت الحروب الدينية في انكلترا، وألمانيا، وفرنسا وإسبانيا وكان أبشع صورة مذبحة سانت بارتليمي في باريس، وظهرت أعقاب هذه الحرب الدينية في نهاية القرن السادس عشر التي سبق أن قال لوثر عنها سوف تملء العالم بالدماء، اتجاهان رئيسان في الفلسفة السياسية اللاهوتية في أوروبا، اتجاه يدافع عن قدسية الحكم المطلق للملك، ونظرية الحق الإلهي، كما شرحناها سابقاً. واتجاه معادي للملكية المطلقة وبخاصة في فرنسا، حيث أكد هذا الاتجاه على حق مقاومة الحكم المطلق، لأن سلطة الملك يجب أن تكون مستمدة بصورة ما من الشعب، ويقر بحق الشعب في الدفاع عن الحق بالقوة رداً على نظرية الحق الإلهي للملوك.‏

إنه اتجاه هجومي على الحكم بالمطلق لمصلحة الشعب، وهو في الوقت عينه يؤيد نظرية القانون الطبيعي، وحرية الفرد. لقد أصبحت الفلسفة السياسية لمقاومة الطغيان، التي تمثل الاتجاه الاصلاحي التنويري في الدين، تطالب بأن يكون القانون هو العقل والحكمة نفسها، والحد من سلطة الملك أو خضوعه للقانون وهي ترى أنه لا يجوز للملك أن يتصرف بأرواح رعاياه وممتلكاتهم إلا بالطرق التي يسمح بها القانون، وهو مسؤول طبقاً للقانون عن كل فعل يقوم به.‏

ويشكل حق المقاومة نظرية وممارسة الطوائف البروتستانتية والكاثوليكية الاصلاحية وبخاصة الطائفة الجوزيتيه، التي دعت إلى الدفاع عن التقاليد الدستورية، والحكم التمثيلي ضد طغيان الحكم المطلق.‏

وفي مقارنة تماثليه مع هذا الاتجاه الاصلاحي التنويري على الصعيد العربي، يمكن أن نعتبر تيار الجامعة الاسلامية، أو الاصلاح الديني، الذي ظهر كتيار تجديدي مع اشتداد الهيمنة الاستعمارية الغربية، وعجز السلطة عن مواجهة غزوات القوى الاستعمارية الخارجية، أوردِها في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، التيار الحامل لعقلانية إسلامية، والفاتح باب الاجتهاد في تفسير أحكام الدين، وفي مقاومة الاستبداد.‏

"إنها محاولة للتوفيق بين النقل والعقل، بين الدين والحضارة الحديثة.‏

يتميز أصحاب هذا المفهوم بالفكر التوازني التوفيقي الوسطي، بالدعوة إلى التقدم التدريجي"(9). وكان أبرز قادة هذا التيار الشيخ جمال الدين الأفغاني، والشيخ محمد عبده.‏

من المعلوم بوجه عام، إن الإطار الزمني للنظام القديم قد شهد صراعاً عنيفاً بين النظرية السياسية، التي ترى في السلطة السياسية ملكاً للشعب، وتقر بمشروعية مقاومة الحكم المطلق، وبالتالي ضرورة إعادة المراجعة في الاعتقاد القديم، ورفض قدسية السلطان الزمني، أي الحكم المطلق ضد النظام الدستوري، والتي عبدت الطريق كمؤسسة وطنية وسلطة مركزية، وبخاصة في فرنسا، باعتبارها رد فعل وطنياً إزاء حالة عدم الاستقرار السياسي والاضطرابات التي أفرزتها الحروب الدينية.‏

والحال هذه، وفي إطار النظام القديم الاقطاعي الاستبدادي، حيث أن جيمس الأول ملك أنجلترا قال "مركز الملكية أسمى شيء على وجه الأرض، إذ ليس الملوك فقط نواب الله على الأرض ويحلمون على عرش الله، ولكن الله نفسه يدعوهم الإلهه- لا يمكن أن يوجد مجتمع مدني، لأن الشعب مجرد "جمع بلا رأس" وعاجز عن وضع القانون، الذي يصدر عن الملك باعتباره المشرع لشعبه والذي أقامته العناية الإلهية"(10).‏

ولأن المجتمع المدني هو بالأساس ذلك المجتمع غير الديني، أي المجتمع المنعتق سياسياً من السلطة المطلقة الدينية التيوقراطية.‏

واستلهمت العقود الأخيرة من القرن السابع عشر، بالثورة الانكليزية، التي امتدت من العام 1689 إلى العام 1714، والتي تمخض عنها إعلان حقوق البرلمان في العام 1689، الذي كان له أهمية عظيمة، حين أصبحت الملكية الدستورية، هي النظام السياسي السائد على الأمة، وفكرة العقد، بدلاً من الملكية الوراثية المستندة على نظرية الحق الإلهي. وهذه الثورة البرجوازية، أوقفت الحروب الدينية بين البروتستانت الانلكيز، التي دامت قرابة قرن، من خلال اعلان الحرية الدينية، كما أن الصراعات السياسية وجدت طريقها إلى الحل، عبر إقامة توازن السلطات بين الملك والبرلمان. وفي خضم هذه الثورة، نهج الاقتصاد البريطاني الجديد مستفيداً من تطبيق قوانين الملاحة، التي شجعها عهد تشارل الثاني، والمكتسبات التي حققتها بريطانيا في المحيط الهندي، وأميركا الشمالية، واحتلال الانكليز مكان هولندا في احتكار التجارة الأوروبية، ولاسيما في البحر المتوسط، والمحيط الهندي، واستغلال المناجم والصناعة المعدنية، والانشاءات البحرية، وصناعة النسيج وبداية صناعة القطن، ونمو الموانىء وبخاصة ميناء نيو كاستيل للفحم، وميناء بريستول المختص بالتجارة الثلاثية.‏

إن نمو هذه القاعدة الاقتصادية، وتطور العلاقات الرأسمالية، ونموبرجوازية المدن، وكذلك برجوازية الريف، التي أصبحت توظف أموالها في الصناعة، قد زاد من قوة الطبقة الرأسمالية الصاعدة الوليدة في رحم المجتمع الاقطاعي البائد، وأمنت لنفسها السيطرة على السلطة السياسية بواسطة البرلمان في أعوام 1688- 1689، جاعلة من البحث عن الربح، واحترام حرية المشروع، والمبادرة الفردية فلسفتها الأيديولوجية الملائمة لهذا النشاط الرأسمالي الحر.‏

وهكذا، دشنت الثورة الإنكليزية، والثورة الصناعية، الرأسمالية عامة باعتبارها نظام انتاج جديد، ونمو حياة جديدة، التاريخ العالمي الحديث للمجتمع المدني الحديث في القرن السابع عشر، ووجهت ضربة قاصمة لبنية النظام القديم الاقطاعية البائدة، وأصبحت أساس التوسع والريادة للعالم. وقد عزا ماكس فيبر نشوء الرأسمالية إلى حركة الاصلاح الديني وظهور الأخلاق البروتستانتية، التي تكلمنا عنها سابقاً "التحرر من الاتجاه الاقتصادي التقليدي يبدو بمثابة أحد العوامل التي ينبغي أن تفرز الميل إلى التشكيك أيضاً بالتراث الديني، وإلى التمرد على السلطات التقليدية، غير أن المهم أيضاً الإشارة إلى حقيقة منسية جداً هي أن الاصلاح الديني لا يعني بالتأكيد إزالة سيطرة الكنيسة بشكل نهائي على شؤون الحياة بل يعني بالأحرى استبدال القديمة منها بشكل جديد من السيطرة، وهي تعني استبدال سلطة متراخية إلى الحد الأقصى وغير موجودة عملياً في حينه، بأخرى تخترق كل ميادين الحياة العامة والخاصة، فارضة تنظيماً للسلوك شديد الوطأة والقساوة.. إن البروتستانت قد أيدوا استعداداً خاصاً للعقلانية الاقتصادية سواء كانوا يشكلون شريحة مسيطرة، أم شريحة مسيطراً عليها الأغلبية أم الأقلية. وهذا ما لم يكن ملحوظاً عند الكاثوليك، في هذه أو تلك من الحالات. بالنتيجة ينبغي ألا يبحث عن مبدأ الاختلاف في المواقف هذه فقط في الظروف الخارجية والمؤقتة تاريخياً واجتماعياً، بل أيضاً في الطبيعة الملازمة للمعتقدات الدينية ومن داخلها (11).‏

في حين أن ماركس عزا نشوء الرأسمالية إلى العلاقة التاريخية بين اليهودية والرأسمالية "مع انتصار المجتمع البرجوازي، الشعوب المسيحية صارت يهودية، تناقض المسيحية واليهودية هو تناقض النظري والعملي، الشكل والمحتوى الدولة السياسية والمجتمع المدني"(12).‏

لم يكن في وسع النظام القديم، حيث الملكية المطلقة المنحدرة من النظام الاقطاعي هي السائدة فيه، القدرة على الخروج من أزمته البنيوية العميقة، خصوصاً مع انحطاط الارستقراطية الاقطاعية، التي تمثل الطبقة المحظوظة في هذا النظام القديم، والمتشكلة من النبلاء والاكليروس، وأفولها التاريخي، مع تعاظم الأهمية الاقتصادية والسياسية للبرجوازية الصاعدة، التي تمثل الفئة المزدهرة من الطبقة الثالثة. كما أن سياسة حفظ التوازن في المعاملة بين طبقة النبلاء والبرجوازية من جانب الملكية المطلقة، أو القيام بدور الوسيط بين هاتين الطبقتين، لم تعد ملائمة لواقع الأزمة، التي يعيشها مجتمع النظام القديم برمته، مع تطور العلاقات الرأسمالية الانتاجية الجديدة، وتطور الاقتصاد الرأسمالي الوليد، الذي أصبح توسعه وتطوره يصطدم بعقبة بنية ودعائم الاقطاعية، وعجز الملكية المطلقة على التغلب على التناقض التناحري بين علاقات الانتاج الاقطاعية القديمة، التي أصبحت معيقة للتطور الاقتصادي والاجتماعي البرجوازي، وبين البرجوازية الصاعدة، ممثله بنظام الانتاج الرأسمالي الجديد. "والواقع أن الدولة الاقطاعية والمطلقة ظلت لفترة من الزمن تتدخل لمصلحة الرأسمالية الوليدة ولحمايتها، وإنما بقدر ما كان تطور هذه الأخيرة لا يلحق الأذى بمصالح الطبقة المسيطرة وبأداتها السياسية أي الملكية المطلقة.‏

ذلك هو المغزى الاجتماعي للسياسة الاقتصادية للمركنتيليه التي عرفت تطبيقاً متماسكاً في عهد كولبير. وليس من قبيل المصادفة إن كان أحد المؤرخين قد أطلق على النظام المركنتيلي اسم داية الرأسمالية الوليدة"(13).‏

ومن نافل القول، أن الفلسفة السياسية لجون لوك بخاصة، والأفكار السياسية الانكليزية بعامة، قد مارست تأثيراً مباشراً على تطور الفكر الليبرالي البرجوازي في فرنسا، في القرن الثامن عشر. وكانت النظريات السياسية الانكليزية متلائمة أكثر مع مصالح البرجوازية الصاعدة، الباحثة عن تأسيس نظام معرفي، أيديولوجي وسياسي وثقافي، للمجتمع المدني الحديث، وهي بمنزلة الصرخة المدوية للثورة الانكليزية وروحاً لعصر القرن الثامن عشر، باعتبارها أوسع الفلسفات السياسية انتشاراً وشعبية، وبخاصة في فرنسا الرازحة آنذاك تحت نير الحكم المطلق، الذي يعاني حاله من الأفول، ولما انطوت عليه من أفكار دستورية وجمهورية، وديمقراطية، وكتابات حول الحكم المدني. وقد لاقت فلسفة جون لوك السياسية رواجاً كبيراً في فرنسا لأهميتها الثورية، التي استلهمت البرجوازية الفرنسية ايديولوجيتها، من أجل دك وإحداث شرخ في بنيان النظام القديم، وكنسه من أمام حركة التقدم البرجوازية.‏

وكان البنيان الفلسفي لنظرية لوك السياسية، ينطلق من حالة الطبيعة، باعتبارها "حالة سلام وحسن نية، ومعرفة متبادلة، ومحافظة متبادلة"، ومن العقد الأصلي، الذي ولَّد المجتمع السياسي والحكم المدني.‏

لقد دافع لوك عن قانون الطبيعة على أساس أن "قانون الطبيعية يملي عماداً كاملاً من حقوق الإنسان وواجباته"، والعقد الأصلي، الذي يشكل قاعدة الحكومة. ويعتبر لوك أن وجود حقوق الفرد الطبيعية في حالة الطبيعة، هي الضمانة الحقيقية لحماية هذا الفرد في حالة المجتمع من تجاوزات السلطة. وحالة الطبيعية عند لوك على النقيض منها لدى طوماس هوبز، الذي سنتحدث عنه لاحقاً، لأن الحقوق الطبيعية لا يمكن أن يتخلى عنها العقد الأصلي، على عكس نظرية هوبز، التي تقر باكتساحها في حال سيادة حالة المجتمع "أن الزامات قوانين الطبيعة لا تتوقف في المجتمع أبداً، بل إنها تصبح فيه أقوى من أحوال عدة".‏

إن حالة الطبيعة عند لوك تقوم على حالة الحرية الكاملة، وحالة المساواة أيضاً. ولكن حالة الحرية هذه لا تؤدي كما رسم لنا هوبس صورة قاتمة عنها إلى حرب الكل ضد الكل.‏

لقد وضع لوك نظريته في جوهر الحكم المدني كنقيض للحكم المطلق، باعتبار أن هذا الأخير لا يمكن بأي حال من الأحوال أن يكون شرعياً، ولا يمكن أن يحظى برضى الناس عنه. ويقوم أصل الحكم المدني على الفصل بين السلطات، وهو الفصل الذي تعمق وشق طريقه في خضم الصراعات السياسية، بين الملوك والبرلمان في جميع مراحل الثورة الانكليزية. وبهذا يكون المجتمع المدني وريث الأفراد الأحرار، في حالة الطبيعة، وقد امتلك السلطتين الأساسيتين بدوره. الأولى هي السلطة التشريعية، التي تنظم كيف ينبغي أن يستخدم قوى الدولة من أجل بقاء المجتمع وبقاء أعضائه، والثانية هي السلطة التنفيذية، "التي تؤمن تنفيذ القوانين الوضعية الداخلية". وهكذا فان السلطة التشريعية، التي يكمن دورها في المحافظة على المجتمع المدني مثلها في ذلك مثل القوانين الأساسية في الطبيعة، تصبح السلطة العليا "إنها مقدسة".‏

إن فلسفة لوك التي دافعت عن الحقوق الفردية في الملكية الخاصة، والحرية باعتبارها حقوق لا تقبل النقض مطلقاً، طالبت بضرورة التمثيل الشعبي، وأكدت على مشروعية الثورات ضد الحكم المطلق. وكان لها أهمية عظيمة من حيث أنها أصبحت الأساس للديمقراطية الليبرالية، ذات الجوهر الفردي، والأساس الايديولوجي، التي بني عليها الفكر السياسي الليبرالي الغربي، وحركة التنوير الفرنسية التي بلغت ذروتها مع اندلاع الثورة الفرنسية الكبرى، وانتقال مركز الثقل في مجال الفلسفة السياسية إلى فرنسا في القرن الثامن عشر.‏

وهكذا، حين اشتدت المتناقضات في بنية النظام القديم ومؤسساته، وأصبح التنظيم الاجتماعي والسياسي لهذا النظام القديم عقبة حقيقية أمام صعود البرجوازية، باعتباره نظاماً يكرس امتيازات الارستقراطية العقارية، اندلعت الثورة البرجوازية الفرنسية، وكانت حسب تعبير جوريس ثورة برجوازية وديمقراطية بشكل واسع وليست ثورة برجوازية ومحافظة بشكل ضيق، كالثورة الانكليزية المحترمة في /1688 (000) ولا توضح هذه المميزات الأزمة الاقتصادية العامة في نهاية النظام القديم بل أعمق من ذلك أيضاً البنى والمتناقضات في المجتمع القديم.‏

لقد كانت الثورة الفرنسية ثورة برجوازية فعلاً، إنما بمساعدة شعبية وعلى الأخص قروية.(14).‏

ثانياً- الفلسفة الليبرالية الكلاسيكية‏

ومفهوم المجتمع المدني:‏

شكلت دراسة تحرير الفلسفة السياسية من الارتباط باللاهوت، وكذلك السياق التاريخي الذي اتجه فيه الفكر نحو دراسة المعضلات السياسية في العهد الكلاسيكي على أساس عقلاني وعلماني تدريجي، لا على أساس ديني المكونات المعرفية للفلسفة الكلاسيكية العقلانية، منذ عصر النهضة، حيث أصبحت تشكل بين أيدي الفلاسفة والمفكرين السياسيين البرجوازيين سلاحاً فعالاً في محاربة الحكم المطلق، ومقاومة أسس ومبادىء النظام الاقطاعي الاستبدادي المتناقض جذرياً مع طبيعة الانسان، في سبيل إرساء أسس ومبادىء النظام البرجوازي الجديد.‏

ولم تكن النظرية السياسية الليبرالية الكلاسيكية حول مفهوم المجتمع المدني، إلا جزءاً مما قصد أن يحصل منه مذهباً شاملاً من المكونات الفلسفية والمعرفية، مبنياً على نظرية الحق الطبيعي، التي أكدت على ضرورة بناء النظام الطبيعي، باعتباره نظاماً تحكمه قوانين طبيعية متماثلاً مع المراحل الأولى من تاريخ البشرية، حين كان الإنسان يعيش في حالة الطبيعة أي الحالة الأولى السابقة على ظهور المجتمع، وعلى نظرية العقد الاجتماعي، ونظرية السيادة، التي لعبت جميعها دوراً بالغ الأهمية في تكوين الفكر السياسي الليبرالي حول مفهوم المجتمع المدني، والدولة الديمقراطية البرجوازية، في القرن الثامن عشر.‏

لقد كان معظم المفكرين السياسيين في العصر الكلاسيكي ينادون بنظرية القانون الطبيعي أي القانون المنبثق، معاييره وأساسه ومبادئه من طبيعة الإنسان، وبنظرية حالة الطبيعة في مقابل حالة المجتمع، باعتبارها الحالة الأولى التي عرفتها البشرية، على الرغم من أن الفلاسفة والمفكرين السياسيين "تساءلوا" بصدد حالة الطبيعة" فقالوا ما هي الأفضل بالنسبة إلى الإنسان أن يبقى على حالة الطبيعة أم الأنسب بالأحرى أن يكون على حالة المجتمع؟ وهل كانت حالة الطبيعة حالة بؤس وتعاسة، فلم يفقد الإنسان شيئاً أذ يخلص من تلك الحالة أم أنها كانت على العكس من ذلك حالة سعادة وهناء، فهو قد أضاع جزءاً وكلا من بهته في ابتعاده عنها؟ وفي سؤال جامع: هل حالة الطبيعة حالة شر أم إنها حالة خير بالنسبة إلى الإنسان"(15).‏

حالة الطبيعة:‏

يعتبر مكيافيلي أول فيلسوف للتاريخ ومفكر سياسي في العصر البرجوازي الصاعد، فضلاً عن أنه رائد للمجتمع البرجوازي الصاعد، حيث أنه استطاع أن يحرر السياسة من اللاهوت، واللاهوت من السياسة، ويؤسس علم السياسة، الذي أسهم إسهاماً حقيقياً في تطور وازدهار ذلك المجتمع البرجوازي. وهذا العلم السياسي الحديث المؤسس في عصر النهضة، هو ملازم منذ نشأته بتطور علوم الفيزياء والكيمياء، وإدخال الأساليب الرياضية في هذه العلوم، وبتطور العلوم الميكانيكية التي تستخدم الرياضيات، وعلم النفس الجديد، وبتطور التقنية والصناعة، وابتكار وسائل جديدة للانتاج، حيث أن مكيافيلي اعترف بمسألة التماثل بين وجود علم للسياسة وبين المحرزات الايجابية والتقدمية للعصر البرجوازي الجديد، وحيث أن المجتمع البرجوازي الوليد يسعى إلى السيطرة على الطبيعة، مثلما كان يقوم أيضاً على سيطرة بعض الناس على أناس آخرين.‏

في كتابه الأساس "خطب حول عشريه تيت ليف الأولى، تصاغ هوية طبيعة البشر على النحو التالي: "كل البشر يولدون يعيشون ويموتون دائماً حسب القوانين ذاتها". وتعتبر نظرية ثبات طبيعية البشر مرتكزاً ومحور أساساً لكل أعمال ميكافيلي السياسية. فهو يقول "من يقارن بين الحاضر والماضي يجد أن كل المدن كل الشعوب، كانت دائماً ولا تزال تحركهم نفس الرغبات والأهواء. وهكذا يسهل بدراسة دقيقة ومتبصره للماضي، التنبؤ بما يحدث في جمهورية ما، عندئذ ينبغي استخدام الوسائل التي اعتمدها الأقدمون، أو في حالة عدم اعتمادها ينبغي تصور وسائل أخرى جديدة انطلاقاً من تشابه الأحداث"(16). ويستطرد ميكافيلي مضيفاً "الحكماء بحق أنه ينبغي استشارة الماضي للتنبؤ للمستقبل، لأن أحداث العالم الحالي تجد دائماً مثيلها الصحيح في الماضي. ولأن تلك الأحداث أنجزت من قبل أناس حركتهم ولا تزال تحركهم دائماً نفس الأهواء فمن الضروري أن تكون لها نفس النتائج"(17).‏

ليس من شك أن مكيافيلي كفيلسوف سياسي، قد خلق المعنى الذي ارتبط بالدولة في الاستعمال السياسي الحديث، ألا وهو سيادة الدولة، أو الكيان السياسي ذي السيادة، "فالدولة كقوة منظمة لها التفوق على أرضها وتنهج سياسة واسعة من التوسع في علاقاتها مع الدول الأخرى، لم تصبح المؤسسة السياسية الحديثة والنموذجية فحسب، ولكنها أصبحت بصورة متزايدة أقوى مؤسسة في المجتمع الحديث"(18).‏

ولقد كانت الميكافيلية "ميزه كل البلدان التي تحتاج مجتمعاتها لحكومة مركزية قوية قادرة على الغاء الحدود الاقتصاد العائدة إلى القرون الوسطى، وآثار الاقطاع معها (000) لقد أنشأ ريشليو الدولة القومية الموحدة في فرنسا انطلاقاً من مبادىء مكيافيلية(000).‏

كما أن فختة، الذي نادى بالحرية وبأنماط التفكير البرجوازي، وهو مؤلف مرافعة عن ميكافيلي. أما هيغل، الذي عبرت فلسفته أوضح تعبير ايديولوجي عن البرجوازية الألمانية ما قبل /1848/، والتي كانت متعثرة في تطورها الاقتصادي والسياسي من كل الجوانب، فإنه لم يقاسم مكيافيلي عدة أفكاره فعلاً فحسب، بل إنه أبدى تقديراً عالياً لها"(19).‏

إن الخلل المنهجي في تفكير مكيافيلي يكمن في تصوره للتاريخ، باعتباره نمطاً من التفكير والاحساس قائم على عوامل طبيعية ثابتة تاريخياً، دون أخذ بعين الاعتبار العوامل والمتغيرات الاجتماعية، وانعكاساتها على الطبيعة البشرية ذاتها- فعناصر النفس البشرية، كالغرائز، والأهواء، التي تشكل مكونات الطبيعة البشرية، تظل ثابتة عند مكيافيلي، في حين أن منطق العلم الجديد، يقر بأن ما هو ثابت هو نسبي، وإن هذه العناصر عينها النفسية والفيزيقية الطبيعية، تتطلب دراستها، ورؤيتها ضمن الشروط المحددة من الواقع التاريخي، في إطاره الزماني والمكاني وفي تعاقب أطواره ومراحله.‏

أما طوماس هوبز (1588- 1679)، فهو ينطلق في فلسفته السياسية، في تفسيرها للمجرى العام للتاريخ، وكل التحولات في الدولة، والسياسة والدين، وفي الأخلاق والقانون، من مفهوم الفرد معزولاً عن الآخرين. وحيث أن هوبز يتصور أن خصائص هذه الفرد تظل ثابتة و"متماثلة تماثلاً واعياً مع خصائص الأجسام اللاعفوية".‏

في معنى الحرية، التي لا يربطها هربز بالإرادة بالمعنى المثالي، إنما يرى الحرية موجودة ضمن ارتباطها بالعقبات والعراقيل، التي تحد من امكانيات الإنسان في التصرف، يقول: "ليست الحرية شيئاً آخر سوى غياب كل ما يمنح الحركة. ولهذا السبب فإن الماء المقفل عليه داخل إناء ليس حراً، الإناء يمنع جريانه، وبالعكس فإن الماء يغدو حراً عندما يتحطم الإناء. وكل واحد هو أكثر أو أقل حرية حسب امتلاكه للكثير أو للقليل من الحيز كي يتحرك.‏

ولهذا السبب فإن شخصاً سجيناً داخل سجن واسع هو أكثر حرية من سجين داخل سجن صغير. ويمكن للإنسان أيضاً أن يكون حراً من جانب دون أن يكون كذلك من جانب آخر. وهكذا، فإن أسيجة أو أسوار، من هذا الجانب أو من ذاك، من شأنها أن تمنع عابر السبيل من اتلاف الحقول أو الكروم التي تحاذى الطريق- والعوائق التي من هذا النوع هي عوائق خارجية، ومطلقة. وبهذا المعنى يعد كل العبيد وكل من هم خاضعون للعنف أحراراً شريطة ألا يكونوا مقيدين أو معتقلين.‏

وثمة عوائق أخرى لا تخص سوى الإرادة، إذ أنها لا تعيق الحركة بطريقة مطلقة، بل بطريقة غير مباشرة، وذلك بالتأثير على اختيارنا. وهكذا فإنه ما من شيء يمنع مسافراً على متن باخرة عن القاء نفسه في البحر إذا شاء. ولكن هنا أيضاً، يمتلك الإنسان من الحرية حداً يوفر له أكثر من طريقة للتحرك. وهذا هو معنى الحرية المدنية(...). ولكن في كل دولة، وفي كل عائلة يوجد فيها عبيد يمتلك المواطنون الأحرار وأبناء العائلة، بالنسبة للعبيد حظوة ممارسة أعمال ووظائف مشرفه أكثر، سواء في الدولة أو في العائلة، مع امتلاك زائدة عن حاجتهم. والفرق بين مواطن حر وعبد يتمثل في كون الإنسان الحر لا يخدم سوى الدولة، بينما يخدم العبد مواطناً أيضاً. وكل حرية أخرى هي حرية التحرر من قوانين الدولة ولا يمتلكها سوى الحاكمين".‏

إن محور فلسفة هوبز السياسية، محور عقلاني ومادي في الوقت عينه، خصوصاً وأنه تأثر تأثراً كبيراً بالاكتشافات العلمية التي قام بها معاصراه غاليلووهارفي. ففي تعريفه للمجتمع المدني يقول هوبز، الطبيعة لم تغرس في الإنسان غريزة الاجتماع، والإنسان لا يبحث عن أصحاب إلا بدافع المنفعة والحاجة، إن المجتمع المدني (السياسي) هو ثمرة مصطنعة لميثاق اختياري لحساب قائم على المنفعة. ويميل منهج هوبز، مثله في ذلك مثل روسو وكانط إلى نظرية العقد الاجتماعي، فنقل الحق الطبيعي المطلق، الذي يملكه كل واحد في كل شيء، إلى شخص ثالث، بعقد يتم "بين كل واحد وكل واحد:" هو الاصطناع الذي يكون من الناس الطبيعيين مجتمعاً مدنياً (سياسياً)"(20).‏

ففي حالة الطبيعة لا يوجد بعد أي نوع من أنواع الحكومات، ولهذا فإن العقد الأصلي ليس مبرماً بين الحكومة والمحكومين بل هو مبرم بين سائر مواطني المستقبل في الدولة. وعلى قاعدة ارادتهم المجتمعة، ينقل الأفراد السيادة إلى إنسان واحد أو مجلس يمارس السلطة. فيما بعد بمقتضى هذا العقد "ويمثل الملك، أو رئاسة الجمهورية، التي أحيلت إليه كل سلطات المتعاقدين إرادة الجميع من خلال ارادته. من هنا نفهم أن السلطة تنبع من الشعب باعتبارها مستندة إلى إرادة كل الأفراد الحرة. وحين تتجسد السلطة في إرادة الملك، فإن على الأفراد الخضوع كلياً لقوانينه، باعتبار إن إرادة الملك متطابقة مع إرادة الدولة.‏

"يستنتج هوبز اذن الدولة كنتاج ضروري لقابليات الأفراد الطبيعية. ومن هنا بالذات يتطابق الحق الايجابي (العملي) مع القوانين السارية في الدولة وينطبق الحق الطبيعي عند هوبز على كل أفعال الإنسان التي تنتج بالضرورة عن طبيعته، في نطاق تعلقها باعتبارات عقلانية"(21).‏

في كتابه اللوياثان، أو الوحش، أو الإنسان المصطنع، أو ما يسيء بالدولة (كومنولث) وباللاتينية CIVITAS، ينطلق هوبز، من المقولة التالية بالنسبة لكل إنسان، الإنسان الآخر مناقض له، طامع مثله في السلطان بمختلف أشكاله، وهذا يقود إلى نتيجة الحرب الدائمة جزاء المنافسة، والتحدي المتبادل، والطموح والمجد، فالحرب، هي حرب "كل واحد على كل واحد" و"الكل على الكل". فالحرب موجودة، وليس السلم، والإنسان ذئب للانسان. لهذه المعطيات اقتضى وجوب ابرام العقد الاجتماعي، الذي يتجسد في الدولة، التي يسميها هوبز بالتنين.‏

شكلت نظريات العقد الاجتماعي والحق الطبيعي عند هوبز، خطراً حقيقياً على شرعية الحكم المطلق، ولأن ما جاءت به نظرية هوبز، هو أن الدولة والمجتمع مدينين في وجودهما وشرعيتهما إلى إرادة الأفراد الأحرار، أي إلى إرادة الشعب الحرة، فضلاً عن أن هدفهما يكمنان في خدمة الشعب. وهذه النظرية تتناقض جذرياً مع نظرية حق الملوك الإلهي، ومع كل نظام الاتحادات والدول، التي تعتبرهم نظرية الحق الإلهي هم خلق الله. و"يستخلص هوبز من مبادئه الفلسفية العامة نتائج سياسية وثقافية، تتطابق إجمالاً مع الآراء التاريخية الفلسفية لمجموعة كتاب آخرين مكونين ما يمكن دعوته النزعة المادية في فلسفة التاريخ عند البرجوازية الصاعدة. ويمثل هذه النزعة كل من مكيافيلي، وسبينوزا، وبييربايل، وماندفيل وبعض المفكرين الراديكاليين في مرحلة الأنوار في فرنسا مثل دولباخ، وهلتفتيوس، وكوندوريه.‏

إن منهج تفكيرهم هو كالتالي: خارج الطبيعة، وامتداداً في الفضاء لا يوجد أي واقع، البشر أنفسهم قطعة من الطبيعة، وهم يخضعون لقوانينها العامة شأنهم شأن الكائنات الأخرى"(22).‏

في رسالة "في اللاهوت والسياسة" الفصل السادس عشر، مقومات الدولة- حق الفرد الطبيعي والمدني- حق الحاكم، يتساءل الفيلسوف الكبير سبينوزا أولاً، ما الحق الطبيعي لكل إنسان بغض النظر عن الدين والدولة؟ ويقول "أعني بالحق الطبيعي، وبالتنظيم الطبيعي مجرد القواعد التي تتميز بها طبيعة كل فرد. الطبيعية في ذاتها نجد أنها تتمتع بحق مطلق على كل من يدخل تحت سيطرتها أي أنه حق الطبيعة يمتد بقدر امتداد قدرتها لأن قدرة الطبيعة هي قدرة الله نفسه الذي له حق مطلق على كل شيء (...) ولكن لما كان القانون الأعظم للطبيعة هو أن كل شيء يحاول بقدر استطاعته- أن يبقى على وضعه، وبالنظر إلى نفسه فقط، دون اعتبار لأي شيء آخر، فيبني على ذلك أن يكون لكل موجود حق مطلق في البقاء على وضعه (أي كما قلنا من قبل) في أن يوجد ويسلك كما يتمتع عليه طبيعياً أن يفعل. وفي هذا الصدد لا نجد فارقاً بين الناس والموجودات الطبيعية الأخرى أو بين ذوي العقول السليمة ومن هو خلو منها، أو بين أصحاب النفوس والأغبياء وضعاف العقول..(...).‏

فبقدر ما ننظر إلى الناس على أنهم يعيشون تحت حكم الطبيعة وحدها، نجد أن لهم جميعاً وضعاً واحداً، فمن لم يعرف العقل بعد، أو من لم يحصل بعد على حياة فاضلة، يعيش طبقاً لقوانين العقل وكما أن للحكم حقاً مطلقاً في أن يعمل كل ما يأمر به العقل، أي من يحيا طبقاً لقوانين العقل، فإن للجاهل، ولمن هو خلو من أية صفة خلقية حقاً مطلقاً في أن يفعل كل ما تدفعنا الشهوة نحوه، أي أن يعيش طبقاً لقوانين الشهوة.‏

في الواقع الطبيعة لا تبدو وفق إيقاع العقل الإنساني ومكوناته، فهي لا ترى المصلحة الشخصية للفرد، مثلما ليس في الطبيعة شيء أساسه شر، وآخر خير، فالخير والشر نسبيان. إن العقل شأنه شأن المجتمع، هو أيضاً شيء طبيعي. وهنا يختلف سبينوزا عن هوبز، وكذلك روسو، لأنه يعارض حالة الطبيعة مع حالة المجتمع، باعتبار أن أفضل مجتمع هو أقرب المجتمعات إلى الطبيعة. وبما أن غاية المجتمع هي الحرية لا العبودية، فإن تحقيقها يتسم بالطرق الطبيعية التي تشمل العقل والشهوة على حد سواء. ومن هذا المنطلق، يجب أن تكون الدولة ممثلة للقوة، حتى أن أساءت استعمال سلطتها لأنها تمثل العقل والمجتمع.‏

ويؤكد سبينوزا أنه، إذ أراد الناس العيش في أمان، وعلى نحو أفضل، فإن هذا يترتب عليهم أن يسعوا إلى التوحد في نظام واحد، وأن يتفقوا فيما بينهم عن طريق تنظيم أو تعامل حاسم، وعلى اخضاع كل شيء لتوجيهات العقل وحده، وعلى كبح جماح الشهوة، بقدر ما تسبب أضراراً للآخرين، وعلى المحافظة على حق الآخرين كما لو كانوا يحافظون على حق الآخرين. فالتنظيم الاجتماعي يقوم بين الأفراد الذين يضعون المصلحة العامة فوق المصلحة الشخصية، وهذا التحالف الاجتماعي ليس مجرداً، بل يتضمن تعييناً مشخصاً، يمثل الجميع. وهو في الأغلب شخصية جماعية حتى لو كان فرداً، فإنه يمثل سلطة الجماعة التي فوضت له حقها وسلطتها وبالتالي ينشأ العقد بين الطرفين الجمهور الذي يفوض حقه السياسي بمحض إرادته واختياره، والشخص الذي يملك هذا الحق، بناء على هذا التفويض أي السلطة العليا أو الحاكم.‏

ففي حالة المجتمع، القانون العام يقرر الخير والشر، ونستطيع أن نميز بين التحايل عن سوء نية والتحايل عن حسن نية أما في حالة الطبيعة، فإن كل فرد له سلوك خاص، ويكون له الحق المطلق في أن يضع لنفسه القوانين وأن يفسرها كما يراها.‏

ويستعرض سبينوزا تحليله حول شرط عدم تعارض المجتمع الإنساني مع الحق الطبيعي، الذي به يمكن احترام كل عقد احتراماً تاماً. فيقول "هذا الشرط هو أنه يجب على كل فرد أن يفوض إلى المجتمع كل ما له من قدره، بحيث يكون لهذا المجتمع الحق الطبيعي المطلق على كل شيء أي السلطة المطلقة، في إعطاء الأوامر التي يتعين على كل فرد أن يطيعوا إما بمحض اختياره، وإما خوفاً من العقاب الشديد، ويسمى نظام المجتمع الذي يتحقق على هذا النحو بالديمقراطية"(23).‏

وفي هذا النظام تتحقق فيه الديمقراطية، التي تجمع في أن معاً بين الحرية وبين الخضوع للقوانين على الرغم أن هوبز يرى الإنسان في حالة الطبيعة، ذئب بالنسبة للإنسان، وفي حالة المجتمع يصبح إلهاً، إلا أن سبينوزا يرفض هذا التعارض بين الحالتين، لأنه يعتبر العقل جزء من طبيعة الإنسان، بقدر ما يهتدى بسنة العقل. فحالة الطبيعة عند سبينوزا ليست حالة حرب بل غياب الأمن والوقوع في الخوف. وفي هذا الرأي يكون سبينوزا أقرب إلى مونتسكيو.‏

أما جان جاك روسو (1712- 1778)، فهو يشترك مع هوبز وسبينوزا، من أن "حالة الطبيعة والعقد الاجتماعي "ليست سوى أصل المجتمع. ولكن روسو يختلف مع هوبز بوصف الإنسان في حالة الطبيعة، بالذئب لأخيه الإنسان، أي معنى آخر بالشر. وتتجسد نقطة الخلاف هنا، حسب وجهة نظر روسو في أن هوبز ينظر للإنسان في حالة الطبيعة بنفس المنظار الموجود عليه اليوم في حالة المجتمع. يقول روسو: "اكتشف هوبز عيب كل التعريفات الحديثة للحق الطبيعي، بيد أن النتائج التي يستخلصها من التعريف الذي يعطيه هو تظهر لنا أنه يأخذها في معنى ليس بأقل خطأ (...) لقد تعين على هذا المؤلف أن يقول أن حالة الطبيعة هي الحالة التي يكون فيها الاهتمام بحفظ وجودنا الخاص أقل الحاقاً للغير بالضرر وبأن هذه الحالة هي بالتالي الحالة الأكثر موافقة للسلام والأكثر ملائمة للنوع البشري، ولكنه يقول بالضبط عكس ذلك لأنه يدخل خطأ رغبات هي من صنع المجتمع ويدرجها في عداد ما يسعى إليه الإنسان من أجل حفظ حياته"(24).‏

ففي حالة الطبيعة نجد في السلوك الخاص للإنسان، تتحكم فيه غريزة البقاء والرأفة، حسب روسو. وانطلاقاً من هذين المبدأين الأساسيين تنحدر قوانين الحق الطبيعي كافة(25).‏

فالرأفة تلعب دوراً مهماً في حالة الطبيعة، وهي بمنزلة القوانين، والأخلاق، والفضيلة. ويستطرد روسو قائلاً، أن البشر في حالة الطبيعة ليسوا لا صالحين ولا أشراراً، إذ لا تجمع بينهم أية علاقة أخلاقية أو واجبات مشتركة.‏

وبما أن العمل هو قانون التطور الانسان، فضلاً عن أن الإنسان الفاعل المنتج، يستنير بعقله، لتحسين شروط الانتاج المادي، فإن البشر يتعذر عليهم أن يبقوا في ديمومة ثابتة في حالة الطبيعة، لأن البشر ابتدعوا حاجات مصطنعة، أورثتها الأجيال السابقة وزرها الثقيل، وبخاصة مع بروز الملكية العقارية، حيث حصل التحول الحقيقي للجنس البشري باتجاه الانحطاط، والنزوع إلى الشر، وإلى حب الامتلاك. وكما يقول روسو: "إن أول من سيج أرضاً وقال هذا ملك لي، ووجد أناساً سذجاً بما فيه الكفاية ليصدقوا قوله، هو المؤسس الحقيقي للمجتمع المدني". ويضيف روسو قائلاً: "لم تتكون فكرة الملكية هذه دفعة واحدة في العقل البشري، فقد احتاج الإنسان إلى الكثير من التقدم، وإلى اكتساب قدر لابأس فيه من المهارات العملية والمعارف... حتى يصل إلى هذه النهاية الأخيرة للحالة الطبيعية(26).‏

في حالة الطبيعة تبدو اللامساواة شكلية وتافهة، ولا تكاد تكون محسوسة، أما في المجتمع حيث تسود الملكية، وما تفرزه من ظواهر سيادة الجشع، والطموح، والمنافسة، وصراع المصالح، فإن اللامساواة بين البشر تكون شديدة الوطأة. ولقد شكل بروز الملكية العقارية مرحلة حاسمة في تعميق الفوارق، واللامساواة بين البشر.‏

في مؤلفه: المقال في اللامساواة، احتل تعريف الحالة الطبيعية حيزاً كبيراً، ولكن في هذا المؤلف نجد روسو ينحني جانباً في مفهوم الانسان الطبيعي، الطليق من مكتسباته التاريخية كافة، ويتبنى بدلاً منه مفهوم الإنسان التاريخي، الذي يحمل السمات النوعية للعصر الذي خلقه.‏

ويخلي مبدأ القانون الطبيعي كنظام من القيم القابلة للتطبيق في كل مكان وزمان مكانه عنده لصالح مبدأ النسبية التاريخية. فالطبيعة البشرية بحسب وصف روسو لها تتغير، وتتبدل، حتى ليعزو تعرف قسماتها الأولى، في مجرد تطور الجنس البشري. فما قد يكون ممتازاً في عصر من العصور، قد يقدر غير مناسب في عصر آخر"(27).‏

إن قيمة المقال في اللامساواة، تكمن في نقد روسو الجذري للعلاقات الاجتماعية القائمة، وفي التعبير عن آرائه ومواقفه السياسية الصريحة بصدد تعاطفه مع النظام الجمهوري، والديمقراطية. فهو يقول "لكم تمنيت أن أرى النور في ظل حكم ديمقراطي... كل بودي أن أعيش حراً وأن أموت حراً.‏

أما في كتابه "العقد الاجتماعي"، الذي حدد روسو لنفسه فيه، مهمة البحث عن مبادىء الحق السياسي وجلائها، فهو يشكل ركيزة نظرية لأفكار روسو حول الجمهورية، والديمقراطية، حيث تحول فيما بعد إلى "انجيل سياسي للديمقراطيين الثوريين"، في الثورة الفرنسية 1789، أي . أن العقد الاجتماعي، الذي يقدمه روسو للجميع، يعبر عن حقيقة المساواة في الحالة المدنية، التي ينتقل إليها الإنسان من حالة الطبيعة. إنه يضع مساواة خلقية وشرعية" محل ما أمكن أن تضعه الطبيعة من لا مساواة فيزيائية بين البشر، والبشر، مع إمكان كونهم غير متساويين في القوة أو في القريحة، يصبحون جميعاً متساويين بالاتفاق وبالحق"(28).‏

إن العقد الاجتماعي شرط ملازم لكل سلطة شرعية، وبالتالي شرط ضروري لكل نظام سياسي طبيعي. فالعقد الاجتماعي يشكل مرحلة تاريخية نوعية في عملية الانتقال من الحالة الطبيعية إلى حالة المجتمع المدني. وهنا يربط روسو رباطاً جدلياً بين تكون المجتمع المدني، وبين تأييده للعقد الاجتماعي. فهو يقول: "ما يجسده الانسان من جراء العقد هو حريته الطبيعية والحق اللامحدود في كل ما يغريه، وكل ما يستطيع أن يبلغه ويطوله، وما يربحه بالمقابل هو الحرية المدنية وحق تملكه لكل ما ملكته يده". وفي هذا القول الصريح، يؤكد روسو على أهمية المجتمع المدني، "يقلد الميثاق الاجتماعي الجسم السياسي سلطة مطلقة على أعضائه كافة. وتشمل هذه السلطة حياة المواطن بالذات. فليست الحياة في المجتمع المدني من حسن صنيع الطبيعة ومعروفها، وإنما هي هبة مشروطة من الدولة. إن غاية العقد الاجتماعي الحفاظ بلا ريب على حياة المتعاقدين"(29).‏

ويتكون بفعل الأصل التعاقدي، أي العقد الاجتماعي مالك السيادة، أي سلطة الشعب، التي تتطابق مع الإرادة العامة، التي يعبر عنها القانون، الذي يعول له وحده الفصل في الحرية والعدل. وتتمتع هذه السيادة بسمات معينة، كونها لا تخلع، وغيرقابلة للتصرف، ومعصومة عن الخطأ، ومطلقة. إن السيادة عند روسو، حسب نظرة جان جاك شفالييه، هي: "سيادة مجردة تماماً، محل سيادة لويس الرابع عشر العيانية المغصوبة على سيادة الله سيادة تعارض الدولة أنا للمونارك المطلق بالدولة نحن للمحكومين في جسم"(30).‏

إن نظرية الإرادة العامة تخص السيادة فيها إلى الشعب، باعتباره شخصية مشتركة، بينما تكون الحكومة مجرد وسيط "لسلطات مفوضة يمكن سحبها وتعديلها وفقاً لما تمليه إرادة الشعب". وتشكل نظرية التعاقد الاجتماعي نقطة الالتقاء بين الفيلسوفين السياسيين، الكبيرين، هوبز و روسو، وإن اختلفت طرائقهما في التحليل للوصول إليها.‏

وهكذا، نصل إلى تطور المفاهيم حول السيادة، والإرادة العامة عند روسو، والملكية الخاصة، والحرية الفردية عند لوك، والمواطن عند سبينوزا، والقانون، والديمقراطية، لكي تتفاعل هذه المفاهيم مجتمعة، وتتمفصل بعضها عن بعض، لتشكل أساساً راسخاً للمجتمع المدني الحديث.‏

ليس من شك، أن نظرية العقد الاجتماعي أسهمت اسهاماً حقيقياً في دك سلطة النظام الاقطاعي حتى وإن كانت من وحي برجوازي. "وبالفعل فإن فكرة كون البشر هم صانعوا مجتمعهم في حلف أصلي يمكن أن يزدوج أحياناً إلى حلف مشترك (مدني) وحلف سيطرة (سياسي) هي حينئذ فكرة ثورية، مرددة ضمن النظرية البحتة، النزاعات الاجتماعية والسياسية لعالم في طور الولادة. وإن هذه الفكرة هي في آن معاً احتجاج ضد الظلم القديم، وبرنامج من أجل نظام جديد (...) في هذه النظرية حول حالة الطبيعة والعقد الاجتماعي، التي تبدو مجرد تأمل، نشهد نظاماً اجتماعياً وسياسياً يسقط، وأناساً يشيدون النظام الجديد الذي يريدون الدفاع عنه أو بناءه على أسس ومبادىء مبتكرة"(31).‏

حين نصل إلى مونتسكيو (1689- 1755) نجد أن مشروعه، كان يتجسد في بناء علم للسياسة والتاريخ. وهو، وإنْ كان يتقاسم المشروع عينه مع كل الفلاسفة والمفكرين السياسيين، الذين سبقوه، إلا أنه يختلف عنهم جميعاً في تنطحه لانشاء علم للسياسة لكل المجتمعات المتجسدة في التاريخ. "هذه الوحدة في المشروع وهذا الاختلاف في الموضوع والمنهج يجعلان من مونتسكيو الرجل الذي أعطى المتطلبات العلمية لسابقيه الشكل الأكثر صرامة ودقة والخصم الأكثر تعنتاً لـ"تجريدهم" في الوقت نفسه. إن مشروع إنشاء علم للسياسة والتاريخ يفترض أولاً أن السياسة والتاريخ يمكن أن يكونا موضوعاً لعلم، أي يتضمنان ضرورة يود العلم اكتشافها"(32).‏

إن الفلاسفة والمفكرين السياسيين، الذين سبقوا روسو انطلقوا من حالة الطبيعة والعقد الاجتماعي، باعتبارها كانت تشكل نقطة اللقاء المركزية فيما بينهم جميعاً، حيث أن التعاقد الاجتماعي شكل أيضاً جسر العبور من حالة الطبيعة إلى المجتمع المدني. غير أن الأمر عند مونتسكيو، يختلف كلياً، إذ أن موضوع العقد الاجتماعي غائب عن مشروعه. يقول مونتسكيو في الرسالة الرابعة والأربعين الفارسية، من الكتاب الأول من روح الشرائع: "لم أسمع أبداً أحداً يتحدث عن الحق العام إلا وبدأ البحث بعناية عن أصل المجتمعات: مما يبدو لي مستهجناً" إن لم يكن البشر يشكلون أي مجتمع، إن كانوا يبتعدون ويهربون من بعضهم بعضاً فيجب أن نتساءل عن السبب أن نبحث لماذا يبقون منفصلين، لكنهم يولدون جميعاً مرتبطين بعضهم ببعض: فالابن قد ولد بقرب أبيه ويبقى بقربه: هذا هو المجتمع وهذه هي مسببات المجتمع".‏

وهنا يؤكد مونتسيكو على "غريزة الالفة والاجتماع"، التي تحل محل العقد الاجتماعي، وهو بذلك يضع نفسه خصماً عنيداً لنظرية الحق الطبيعي والعقد، ويجسد القطيعة الكاملة مع منظري الحق الطبيعي. لكن الثورة التي يحدثها مونتسكيو، تكمن في نظريته الجديدة عن القوانين، التي يعرفها على النحو التالي: "القوانين... هي العلاقات الضرورية التي تشتق من طبيعة الأشياء وبهذا المعنى فإن لجميع الكائنات قوانينها: وللعالم المادي قوانينه وللعقول الفائقة للإنسان قوانينها وللحيوانات قوانينها وللإنسان قوانينه"(روح الشرائع الكتاب الأول، الفصل الأول). ومن وجهة نظر ألتوسير، الله في هذه الحال، الذي خلق العالم "ليس إلا حداً من حدود العلاقات، إنه العقل الأولي، لكن القوانين تضعه على قدم المساواة مع الكائنات". ويضيف مونتسكيو قائلاً "القوانين هي العلاقات السائدة بينه (العقل الأولي أي الله) وبين مختلف الكائنات وعلاقة مختلف هذه الكائنات ببعضها"(روح الشرائع الكتاب الأول، الفصل الأول).‏

أما على صعيد المجتمع المدني، فإذا كنا لا نجد تعريفاً محدداً حوله، إلا أننا نرى أن الصورة التي يتجسد فيها المجتمع المدني هذا، تتمثل في التعريف النظري، الذي يعطيه للجمهورية الديمقراطية. وتتميز طبيعة الجمهورية الديمقراطية، باعتبارها حكومة العدد الأكبر، في أن "الشعب لنفهم مجموع المواطنين، يظهر فيها تحت وجهين متعارضين، ومتكاملين، من بعض الحيثيات، هو المونارك (الرئيس الأوحد، الملك)، من حيثيات أخرى هو الرعية"(33). إن الجمهورية الديمقراطية لمونتسكيو، هي "جمهورية أعيان". فهو يصرح بأنه يحبذ الديمقراطيات القديمة، أي ديمقراطية "التمثيل الشعبي". ويقول في هذا الصدد "في الحكومة حتى وإن كانت شعبية، يجب ألا يسقط النفوذ بين يدي حثالة الشعب"(روح الشرائع، الكتاب الخامس عشر، الفصل الثامن عشر). فمونتسكيولا يريد أن تكون السلطة لحثالة الشعب هذه، "إن حثالة الشعب هي الطاغية الأكثر وقاحة الذي يمكننا الحصول عليه ". بينما تظهر الجمهورية الديمقراطية عند روسو كجمهورية المستقبل، حين يقول "لا يمكن تمثيل السيادة لنفس السبب بأنه لا يمكنها الاغتراب عن ذاتها، إنها تكمن ما هو يا في الإرادة العامة ولا يمكن تمثيل الارادة اطلاقاً"(العقد الاجتماعي، الكتاب الثاني، الفصل الخامس عشر). ولأن روسو يعتبر أن أية ديمقراطية تعطي لنفسها ممثلين، فهي محكوم عليها بالهلاك والموت. في حين أن مونتسكيو يؤكد على عكس ذلك، أن أية ديمقراطية بدون ممثلين تصبح استبداد شعبي. إن مبدأ هذه الجمهورية الديمقراطية، التي يتحدث عنها مونتسكيو هو الفضيلة، التي "تطلب أن يضحي المرء للدولة، للمصلحة العامة، تضحية مستمرة بذاته ونزواته، وبأنانيته، بعدم انضباطه، بجشعه، بكل شهواته"(34).‏

على نقيض الجمهورية الديمقراطية، يعرف مونتسكيو الحكومة الاستبدادية عامة، والملامح الاستبدادية بشكل خاص، كونها نظاماً سياسياً ليس له إذا جاز التعبير "أية بنية لا سياسية حقوقية واجتماعية. فالاستبدادية هي فكرة الشر المطلق، وليس لها "قوانين أساسية". فالطاغية حسب مونتسكيو يتمتع من القانون "السياسي سوى بالمظهر. فحتى الدين في الاستبدادية، هو بحد ذاته استبدادي على رأي مونتسكيو: "إنه خوف مضاف إلى الخوف"(روح الشرائع، الكتاب الخامس، الفصل الرابع عشر). في الحكومة الاستبدادية لا شيء يميز بين البشر: إنه حكم "المساواة المطلقة"، التي تسقط كل الرعايا ضمن نفس التجانس. يقول مونتسكيو: يتمتع جميع الناس هنا بالمساواة، لا لأنهم كل شيء كما هو الحال في الديمقراطية، بل "لأنهم لا شيء"(روح الشرائع، الكتاب السادس، الفصل الثاني).‏

إن النقطة المركزية في نظرية مونتسكيو، تكمن بشكل خاص في الفصل الشهير حول الدستور الانكليزي، الذي بلور فيها أسطورة الفصل بين السلطات، السلطة التنفيذية (الملك ووزرائه)، السلطة التشريعية (الغرفة السفلى والغرفة العليا)، والسلطة القضائية (هيئة القضاة).‏

إن هذا التحليل الواقعي لرواد ومنظري الحق الطبيعي، وحالة الطبيعة، والعقد الاجتماعي، الذي يظهر وكأنه استعادة عرضية للماضي، يسمح لنا أن نقول، بأن نظرية الحق الطبيعي، هي في جوهرها غير جدلية، وإنما ميتافيزيقية، لأنها تنظر إلى الأشياء، والكائنات في ثباتها، لا تتبدل. إن منظري الحق الطبيعي، تمترسوا حول مقولة مركزية، بأن الانسان الذي يعيش في مختلف المراحل التاريخية، تلازمه دوماً وأبداً بعض الخصائص، التي منحته إياها الطبيعة. ومن هنا انطلقت نظرية الحق الطبيعي، من أن الطبيعة البشرية لا تتبدل، ولا تتغير، ووفق هذا المنظور تصبحُ الحقوق الطبيعية المنبثقة بدورها من هذه الطبيعة الأبدية، حقوقاً ملازمة للإنسان، وثابتة، بصرف النظر عن المراحل والتحولات، التي يشهدها المجتمع في سيرورة تطوره، والقوانين الموضوعية للتطور الاجتماعي والسياسي، والايديولوجي، التي تفعل فعلها، وتؤثر جدلياً في مسيرة المجتمع والإنسان على حد سواء، حيث أن هذه القوانين الموضوعية "قد تكون مطابقة للقوانين الطبيعية، وقد لا تكون".‏

ليس من شك، أن نظرية الحق الطبيعي شكلت حلقة متقدمة في الصراع ضد نظرية حق الملوك الإلهي، وفي مقارعة الحكم المطلق، وارتبطت ارتباطاً وثيقاً بالتصور العقلاني البرجوازي للعالم الجديد، وللعلاقات الاجتماعية، وللمجتمع المدني، الذي عرف النور في القرن الثامن عشر، مع صعود البرجوازية، وسيادة العقلانية، والعلمانية، بلا منازع. ومع التطور البرجوازي اللاحق في جميع حلقاته الايديولوجية، والسياسية، والصناعية، سقطت نظرية الحق الطبيعي، لأن سياق التطور التاريخي عينه، أثبت أن طابعها غير علمي، وبالتالي غير تاريخي.‏

تتميز فلسفة هيغل السياسية بالربط بين عنصرين أساسيين، احتلا مركز الأصالة والأهمية في المجرى الرئيس لتطور فلسفته، وهما: الجدل، باعتباره الطريقة المثلى، التي تمتلك القدرة على إظهار العلاقة المنطقية والضرورية بين "عالم الحقيقة وعالم الأشياء"، والمنهج الجديد الثوري، لدراسة معضلات المجتمع والتاريخ، والدولة القومية، باعتبارها تجسيداً للسلطة السياسية.‏

وفي فلسفة الحق، الجزء الثالث، يوجد قسمان فرعييان، يتعلقان بالمجتمع المدني والدولة، حيث أن هيغل يصل إلى النتيجة التالية في فلسفته السياسية، وهي أن الدولة تعتبر من الناحية الأخلاقية أسمى من المجتمع المدني. فالدولة في نظر هيغل هي "الإرادة المقدسة، بمعنى أنها عقل كائن على الأرض وكاشفة عن نفسها". وهي بهذه الصفة تمتلك سلطة مطلقة، تجعل من تسلط الدولة السياسي، وحتى دكتاتوريتها على المجتمع المدني أمراً محتوماً. ولهذا، قلما نجد في الفلسفة السياسية لهيغل نظرية متبلورة على المجتمع المدني، الذي هو بالنسبة إليه، ليس إلا نظام من الانسجام الآلي في علاقاته الداخلية، بدون ذكاء أو توجيه ذاتي، وهو لا يرده إلى عمق الأبعاد الإنسانية، وإنما تكمن قضيته في فرض الدولة السياسية عليه.‏

إن تعرف هيغل للمجتع المدني يتمثل في تحليله الدقيق للنقابات المهنية، والشركات، وللجمعيات، والمجتمعات المحلية، والطبقات الاجتماعية، والقوى السياسية، والمؤسسات التي شكلت أساس المجتمع المدني" وعلى العموم كان راي هيغل في المجتمع المدني يتضمن مبدأ سليماً وهو أنه عندما ينظر إلى الفرد على أنه مواطن فحسب، تميل الدولة إلى امتصاص كل أشكال الاجتماع البشري. وليس هذا في الواقع حرية ولكنه استبداد، كما تثبت ذلك كل أشكال الدكتاتورية السياسية. ولعل حجج أنصار مذهب التعددية السياسية في نهاية القرن التاسع عشر كان في الإمكان استخلاصها إلى حد كبير من نظرية هيغل في المجتمع المدني، كما أن الأهمية التي علقها ماركس على القوى الاقتصادية في السياسة كانت جذورها تمتد هناك بصفة قاطعة تماماً، حتى وأن حكم ماركس على دولة هيغل بالفناء"(35).‏

في فلسفة الحق الهيغلية يتضمن المجتمع المدني اللحظات الثلاث التالية:‏

آ- توسط الحاجة وإرضاء الفرد بعمله وبعمل الآخرين جميعاً وإرضاء حاجاتهم، وتلكم هي منظومة الحاجات.‏

ب- واقعية عنصر الحرية الكلي، المتضمن في هذه المنظومة، وهي الدفاع عن الملكية بالعدالة.‏

ج- الحيطة ضد ترسبات جواز هذه المنظومات، والدفاع عن المصالح الخاصة، وكأنها شيء ما مشترك، بالادارة والمنظمات الحرفية" (36).‏

المجتمع المدني حسب الايقاع الثلاثي الهيغلي، يتكون من ثلاث لحظات مترابطة ترابطاً جدلياً وضرورياً.‏

1- منظومة الحاجات: وتتضمن أولاً، أنماط الحاجات وارضائها تصبح الحاجات والوسائل بوصفها وجوداً واقعياً، وجوداً من أجل الآخر، الذي يصبح الإرضاء مشروطاً بحاجاته وعمله بالتبادل"(37). وثانياً، التقسيم الاجتماعي للعمل "إن التوسط الذي يهيء للحاجة المتخصصة وسيلة متخصصة أيضاً ويحصل لها عليها هو العمل. إنه بالأساليب الأكثر تنوعاً يخصص المادة التي استلمتها الطبيعة إليه مباشرة، لغايات مختلفة. وهذا الإعداد يخلع على الوسيلة قيمتها وفائدتها. فالإنسان يلاقي في أثناء استهلاكه، المنتجات الإنسانية على الخصوص، والجهود التي يستخدمها هي جهود إنسانية"(39). وثالثاً الثروة، في إطار التبعية المتبادلة بين إرضاء الحاجات، والتقسيم الاجتماعي للعمل، يبرز توسطاً للجزئي بالكلي، حين يربح وينتج الإنسان ويتمتع بذاته، فهو يربح وينتج في الوقت عينه من أجل متعة الآخرين. وفي إطار هذا التشابك المعقد، تبرز الثروة كضرورة قائمة.‏

2- القضاء: وينقسم بدوره، أولاً، إلى الحق بوصفه قانوناً. "إن الحق الذي يدخل إلى الوجود، في صورة قوانين وضعية يتحقق أيضاً بوصفه مضموناً، بالتطبيق، ويدخل عندئذ في علاقة مع العادة التي تقدمها أوضاع أنواع الملكيات والعقود في المجتمع المدني، التي هي أوضاع معقدة وفردية إلى ما لا نهاية له، وتدخل أيضاً في علاقة مع الأوضاع الأخلاقية"(39). وثانياً وجود القانون، "كما أن الحق في ذاته يصبح هو القانون في المجتمع المدني، كذلك يتلقى الوجود المباشر والمجرد سابقاً لحقي الفردي، دلالة شيء ما معترف به بوصفه وجوداً، في وجود الإرادة والعلم الكليين"(40).‏

وثالثاً المحكمة"، إن الحق يؤول إلى الوجود، في صورة قانون يوجد لذاته، ويتعارض مع الإرادة الخاصة، والرأي الذاتي عن الحق بوصفه شيئاً ما مستقلاً. أن ينبغي له أن يجعل لنفسه قيمة بوصفه كلياً. إن هذا الفعل الذي يعترف بالحق ويحققه في الحالة الخاصة، خارج الانطباع الذاتي للمصالح الخاصة، يمت إلى سلطة عامة، إلى المحكمة (...) لعضو المجتمع المدني الحي في الحضور ساعة الحكم، كما عليه واجب المثول أمام المحكمة، وأن لا يطلب الاعتراف بحق متنازع فيه إلا أمام المحكمة"(41).‏

3- الشرطة والهيئات الحرفية النقابية، وهي مرتبطة أولاً في وجودها بالسهر على حماية حرمة الملكية الخاصة للأفراد، وضمان الأمن دون تعكير، وتطبيق القوانين.‏

إن الموضوعات الأساسية الثلاثة لهيغل حول المجتمع المدني، تتلخص على النحو التالي:‏

يعتبر هيغل الأسرة، والمجتمع المدني، ميداني فهم للدولة، وميداني نهائيتها. أولاً، الأسرة، باعتبارها كلاً جوهرياً، هي التي يتعلق بها قبل أي شيء، التبصر من أجل الفرد في هذا الوجه الخاص، سواء من وجهة نظر الوسائل والقابليات الضرورية، لينال نصيبه من الثروة الجماعية، أم من جهة نظر معاشه ونفقته، في حال حدوث العجز (42). وتمثل الأسرة الكلي. أما المجتمع المدني، فهو يقطع هذه الرابطة ويبعد أعضاء الأسرة بعضهم عن بعض ويعترف بهم بوصفهم أشخاصاً مستقلين (...) وعلى هذا النحو، يصبح الفرد في المجتمع المدني، الذي بإمكانه أن يطالب به، بيد أن الفرد تكون له أيضاً حقوق عليه"(43).‏

وهنا يمثل المجتمع المدني لحظة الجزئية. أما الدولة فهي ضرورة خارجية وقوة أسمى، من جهة مقابل دوائر الحس الخاص والمصلحة الخاصة للأسرة والمجتمع المدني، فبطبيعتها تلحق قوانينها ومصالحهما التي تتعلق بها. ولكنها من جهة أخرى، غايتهما المتضمنة فيهما وقوتها في وحدة غايتها النهائية الكلية ومصالح الأفراد الخاصة، وهي وحدة تعبر عن نفسها في حقيقة أن لهؤلاء، الأفراد واجبات حيالها، ضمن الحد الذي لهم فيه حقوق في الوقت ذاته"(44).‏

وهنا تمثل الدولة اللحظة الفردية، التي هي في الوقت عينه، الوحدة الجوهرية للكلية والجزئية، فالأسرة والمجتمع المدني هما قسمان من الدولة في نظر هيغل. وهكذا، فإن الدولة السياسية، لا توجد بدون الأساس الطبيعي، الأسرة، والأساس الاصطناعي، المجتمع المدني. ففي داخل الدولة تتطور الأسرة إلى مجتمع مدني، ويتطور بدوره لكي يكون الأساس الاصطناعي للدولة السياسية. فلا دولة سياسية بدون مجتمع مدني، ولا مجتمع بدون أسرة. فالدولة السياسية تشترط في وجودها الضروري والمنطقي، وجود المجتمع المدني، والأسرة، فالأسرة لا تذوب في المجتمع المدني، مثلما لا يذوب المجتمع المدني في الدولة. ولكن الأسر بالنسبة لهيغل الدولة الحقيقية التي أعضاؤها مواطنون واعون لإرادة وحدة الكل والجزئي ترتفع فوق المجتمع المدني "إنها روحه ولكنها غايته أيضاً". فهيغل يقول، إن المجتمع المدني هو "دولة الضرورة والفهم، فهو يتطابق مع لحظة الذاتية.‏

وهكذا، فإن المجتمع المدني حسب رأي هيغل، الذي يمثل فضاء للمنافسات والمواجهات بين المصالح الاقتصادية الذرية الخاصة للأفراد، باعتبارها سمة مميزة للاقتصاد البرجوازي، يحتاج إلى دولة سياسية قوية، شمولية وعيانية، منفصلة على طوائف الحرف من طراز القرون الوسطى، ومتموقعة فوق المجتمع المدني. إن هيغل، وهو إن كان يريد السلطة التشريعية بالمعنى الحديث، إلا أنه يربطها بنظام دولة الطوائف الوسيط، لفرض النظام والتعددية، على المجتمع المدني. والحال هذه، يعلو هيغل على التناقض الحديث بين المجتمع المدني والدولة السياسية. وهو بهذا الموقف يكون متخلفاً عن نظرية الحق الطبيعي، التي أعلنت "حقوق الإنسان والمواطن". والتي تنصلت عن الفصل بين المجتمع المدني والدولة السياسية، لكونها النظرية التي مثلت "التعبير الفعلي عن العلاقة الواقعية بين الدولة والمجتمع المدني البرجوازي وعن انفصالهما".‏

ثالثاً: استنتاجات مفاهيمية حول المجتمع المدني:‏

تمثل الثورة السياسية البرجوازية في حقيقتها التاريخية ثورة المجتمع المدني. ولقد دكت هذه الثورة بنيان السلطة الاستبدادية الاقطاعية، وحطمت جميع المراتب، والاتحادات والطوائف الحرفية، والامتيازات السائدة في المجتمع الاقطاعي، باعتبارها تعابير متنوعة عن انفصال الشعب عن كليته السياسية، أي عن دولة النظام القديم، التي أصبحت غريبة بالنسبة للشعب، وأفسحت في المجال لعملية الانعتاق السياسي، أو بالأحرى للتحرر السياسي للمجتمع المدني المتماثل مع نمط الانتاج الرأسمالي، ومع سيادة الحق البرجوازي، أو سيادة "الرجل الخاص" البرجوازي، ولأن هذا التحرر السياسي للمجتمع المدني، يعتبر مرحلة حاسمة من مراحل تحرر العقل السياسي، ذلك أن الثورة البرجوازية قد حررت هذا المجتمع المدني من القيود الاقطاعية، واعترفت به رسمياً وسياسياً، وعبدت له الطريق للصعود إلى الدرجات المتوسطة من التحرر السياسي في آن معاً مع الدولة البرجوازية الحديثة والمعاصرة. بهذا المعنى، نقول أن مفهوم المجتمع المدني، الذي أغنته الفلسفة الليبرالية الكلاسيكية الغربية، بمختلف مكوناتها، بمضامين فكرية، وسياسية، واجتماعية، وثقافية، قد انبثق في القرن الثامن عشر، مع البرجوازية، والصناعة الحرة، والتجارة الحرة، اللتين تلغيان الأنطواءات المميزة، والطوائف الحرفية، لكي تقوم "حالة الحقوق العامة "المعاصرة"، أو الحق البرجوازي عوضاً عن الامتيازات الاقطاعية، حيث أن النظرية السياسية الليبرالية تتطابق على الصعيد التاريخي مع القضاء العملي على هذه الامتيازات.‏

يقوم الأساس التاريخي لمفهوم المجتمع المدني ضمن ارتباطه بالواقع البرجوازي، وضمن الشروط التاريخية التي تشكل فيها، على ما يلي:‏

أولاً: على أساس مضمون الحياة المدنية الحديثة والمعاصرة، الذي جوهره التحرر السياسي، وعلى التمييز بين الإنسان المطلق والإنسان الديني، أو بالأحرى على انفصال واستقلال الإنسان الديني، مسيحي، أو يهودي، أم مسلم الخ عن مواطن الدولة المدنية، باعتبار هذا التمييز، أو هذا الاستقلال هو البذرة العقلية للتحرر السياسي بالذات، أو الأسلوب السياسي للتحرر من الدين. ولكن علينا أن نؤكد أن تحرر الدولة السياسي من الدين، لا يعني بأي حال تحرر الإنسان الفعلي من الدين، فالدولة تستطيع أن تتحرر تماماً من الدين، حتى حين لا تزال أغلبية الشعب أو الأمة متدينة، علماً أن بقاء هذه الأغلبية دينية لا يعدو أن يكون بقاءا دينياً خاصاً.‏

فالتحرر السياسي يعتبر خطوة تقدمية وثورية كبيرة إلى الأمام، ولكنه ليس هو الشكل النهائي للتحرر الانساني. لهذا نقول، أن التحرر السياسي للدولة من الدين، وكذلك التحرر السياسي للإنسان من الدين، يمثل انتقال الدين من ميدان الحق العام إلى ميدان الحق الخاص، لكي يأخذ شكل قضية فردية خاصة محضة. ولأن هذا التحرر السياسي هو حق يتعلق بالإنسان الواقعي، الفرد، مواطن الدولة، ومقياساً لحريته، لا في الأفكار والمعتقدات أي كانت طبيعتها فقط، وإنما إيضاً في الحياة الواقعية، حيث يعيش الإنسان حياة مزدوجة، سماوية وأرضية، حياة في الدولة السياسية، باعتباره كائناً اجتماعياً، وحياة في المجتمع المدني، باعتباره فرداً خاصاً.‏

إن عملية الانتقال هذه، هي التي كانت أساس ولادة العلمانية للدولة السياسية من ناحية، وللمجتمع المدني من ناحية أخرى. وكما يقول محمد أركون، أن العلمانية التي تأسس عليها المجتمع المدني، والدولة السياسية البرجوازية، سواء بسواء، هي موقف للروح إزاء قضايا الوجود، قضايا العمل والمعرفة، قبل كونها نظاماً سياسياً اجتماعياً يقوم على فصل الدين عن الدولة.‏

ومن هنا ينجم أن التحرر السياسي، قلما يقضي على التدين الفعلي للإنسان، مثلما لا تعني العلمانية الإلحاد، وكما قلما تسعى إلى التقليل من شأن الدين، أو القضاء عليه. ومن هذا المنظار، تصبح العلمانية روح المجتمع المدني، ولا يمكن تحقيقها إلا في درجة جذرية من انفصال الدين عن الدولة، وبالقدر الذي تبرز به الدرجة المعنية من تطور الروح البشري للإنسان، حيث أن التحرر السياسي، هو التعبير عنها، لكي تبني نفهسا به في شكل دنيوي. وهذا ما لا يمكن حدوثه إلا في ظل سيادة العقلانية، واستقلال المجتمع المدني عن السلطة الدينية، واستقلال السلطة الدينية عن السلطة الزمنية، والعلمانية عن الظلامية، وفي ظل سيادة الدولة الديمقراطية الحديثة والمعاصرة، حيث أن كل إنسان مطلق بمفرده، مؤمناً كان أم متديناً، متعصباً لدينه وأصولياً أم ملحداً، ظلامياً أم عقلانياً، يكون فيها كائناً إنسانياً نوعياً سائداً. يقول ماركس بهذا الصدد، في أضواء على المسألة اليهودية: "أما الدولة الديمقراطية، الدولة الفعلية، فإنها لا تحتاج إلى الدين لأجل اكتمالها السياسي بل بالعكس. ففي وسعها أن تتجرد من الدين لأن قاعدة الدين الأساسية محققة فيها بأسلوب دنيوي"(45).‏

وهكذا، فالمجتمع المدني مؤسس على العقلانية، والعلمانية، باعتبارها سيرورة تاريخية معقدة، شكل انفصال أو استقلال الإنسان الديني عن الإنسان المطلق، لحظتها الجدلية العقلانية والعلمانية الكبرى، أو خطوتها الأولية، علماً بأن ما نعنيه بالإنسان المطلق أو الكوني، هو:‏

أولاً: التصور الجدلي للإنسان الكائن النوع، والشمولي، وتاريخه، ومصائره.‏

ثانياً: وتملك الإنسان للعالم أي عالمه.‏

ثالثاً: وهو "الوحدة الجدلية التي تجمع بين ثلاث مستويات مترابطة ترابطاً ضرورياً، الخاص والفردي، والعام".‏

ثانياً: يقوم المجتمع المدني على أساس احترام حقوق الإنسان، وهي جزئياً الحقوق السياسية، ومضمونها يكمن في المشاركة السياسية في الدولة. ومن هذا المنظار، فهي تدخل في مقولة الحرية السياسية. وحقوق الإنسان هي حقوق عضو المجتمع المدني المتحرر سياسياً، أي حقوق الإنسان الأناني، أو الفرد البرجوازي. أما مرتكزات إعلان حقوق الإنسان، فتتمثل في المساواة السياسية والقانونية، والحرية والملكية الخاصة، والأمن. من الناحية التاريخية، والسياسية، والأخلاقية، إن حق الإنسان في الحرية يعني فعلياً وعملياً حق الإنسان في الملكية الخاصة. يقول ماركس معلقاً على هذا الموضوع، "ومن هنا ينجم أن حق الإنسان في الملكية الخاصة هو حقه في انتفاع بملكه والتصرف به على هواه (a som gré) دون أي علاقة بالناس الآخرين، بصورة مستقلة عن المجتمع، أنه حق المصلحة الشخصية"(46).‏

إن الحرية الفردية تشكل أساس المجتمع المدني، وهي قائمة على مبدأ الحق البرجوازي، باعتباره حقاً ناجماً عن الملكية الخاصة عامة، والملكية الخاصة لوسائل الانتاج بخاصة. إن هذه الحقوق مأخوذة بمفردها، هي حقوق الإنسان الأناني البرجوازي، عضو المجتمع المدني، حيث أن هذا الإنسان لا تعتبره جزءاً من الكل، أي المجتمع، وإنما على العكس تعتبر المجتمع أو الدولة إطاراً خارجياً منفصلاً عنه، بل تذهب الليبرالية البرجوازية إلى اعتبار تدخل الدولة قيداً لاستقلالية الأفراد الأولية، أوكبْحاً لحريتهم الفردية، لأن الروابط الضرورية، المنطقية، والتاريخية، والعقلانية، والطبيعية، بين الأفراد، قائمة على المنفعة، والحاجة، والمصلحة الخاصة، والحفاظ على الملكية الخاصة للفرد، الذي حولته الرأسمالية إلى الفرد البرجوازي الأناني، وعلى شخصيته الأنانية.‏

ونخلص إلى القول، أن المجتمع المدني، هو مجتمع القانون والنظام، وهو قائم على مفهوم الحق البرجوازي، وعلى مفهوم الملكية الخاصة، ومفهوم الحرية، ومفهوم النزعة الذاتية الاستقلالية، وعلى سيادة الحق البرجوازي في العلاقات التبادلية بين الأفراد داخل هذا المجتمع المدني، على نقيض العلاقات التبادلية بين الناس في نظام المراتب، والطوائف الحرفية، المتجسدة في الامتيازات داخل المجتمع الاقطاعي، أو المجتمع القديم. إن التحرر السياسي في المجتمع المدني، قد قاد الإنسان، إلى تحرر الإنسان من الدين، من خلال نيله الحرية الدينية، أولاً، وإلى حصوله على حرية وحق الملكية الخاصة، ثانياً، وإلى اعتباره فرداً برجوازياً أنانياً مستقلاً، وعضواً في المجتمع المدني، ثالثاً، وإلى اعتباره مواطناً شخصاً حقوقياً في الدولة السياسية البرجوازية رابعاً.‏

إذا كان المجتمع المدني ببعده التاريخي العالمي، يشكل الأساس الطبيعي للدولة البرجوازية الحديثة والمعاصرة، فإنه لا يعني بأي حال من الأحوال اعتبار المجتمع المدني هو الليبرالية عينها فقط، كما تذهب إلى تصويره لنا كذلك الماركسية العربية، التي نجم عنها ضلالاً معرفياً وسياسياً كبيرين، لعدم دراستها بعمق مفهوم المجتمع المدني.‏

ومع أن هذا المجتمع المدني قد اكتمل تطوره في المجتمع البرجوازي الحديث، في أوروبا الغربية، وباحتوائه كل الحياة التجارية والصناعية، في إطار درجة معينة من تطور القوى المنتجة والنقابية، في الحياة السياسية، وبتخطيه جدلياً حدود الدولة القومية والأمة، ليعتنق رحاب العالمية، إلا أن الايديولوجية البرجوازية الليبرالية تحاول تقزيمه بإبرازه خارجياً في صورة القومية، وداخلياً في صورة الدولة.‏

ثالثاً: إن المجتمع المدني بهياكله الاقتصادية، وانقساماته الطبقية والفئوية، وتبايناته الاجتماعية وتكويناته السياسية والنقابية، الذي تحكمه مبادىء المواطنة، والمساواة السياسية والقانونية بين الأفراد في الحقوق والواجبات، والمشاركة السياسية من خلال الانتخابات التشريعية، والبلدية والمحلية، لانتخاب الممثلين عنه للاضطلاع بأعباء السلطة في الدولة البرجوازية، باعتبار أن الشعب أو الأمة، هو مصدر السلطات، الذي لا يتحقق كمبدأ، إلا في ظل سيادة الديمقراطية، بوصفها أيضاً الساحة التي يتقاطع فيها المجتمع المدني مع الدولة، فإن هذا المجتمع المدني عينه، هو مجتمع الاختلاف، والتعدد، والتعارض، والتناقض، داخل بنيانه، وهياكله الاجتماعية والسياسية.‏

لان الاختلاف والتعدد، والتعارض، والتناقض، صفات جوهرية متأصلة في الأفراد، والجماعات، والطبقات، والشرائح الاجتماعية المختلفة، والطوائف، والأمم، والدول، والشعوب، والحضارات وهي جميعها كظاهرات متأسسة بعضها على البعض الآخر في علاقة جدلية، تشكل قانون التغيير، والتطور، والتقدم، في حركة التاريخ بوجه عام، وتاريخ الديناميات الداخلية للمجتمع المدني بوجه خاص. فلا اختلاف بدون تشابه، وتشاكل، وتهاو على حد قول الأستاذ الياس مرقص.‏

فالاختلاف والتعدد، والتعارض والتناقض للأنا مع الآخر، حسب مقولة الجدل، ونظرية المعرفة، والمنطق، هو وحدة الأنا مع الآخر الجدلية في هوية واحدة. فليست حقيقة الأنا، أنه في هوية مع نسق أوانه مختلف مع غيره، وإنما حقيقته، إنه يشمل على آخر هو ماهيته، فمقولات الاختلاف، والتعدد، والتعارض، والتناقض في ترابطها الجدلي، باعتبارها ظاهرات موجودة داخل الفرد الواحد وغيره، والطبقة الواحدة وغيرها، والمجتمع وغيره، والأمة وغيرها، والشعب وغيره، تشترك في وجودها الأخرى. فلا وجود للاختلاف بدون تعدد، ولا وجود للتعدد بدون تعارض، ولا وجود للتعارض بدون تناقض، وهي كلها مقولات نسبية مترابطة داخلياً في جوهر الأشياء، والإنسان النوع، والكيان البشري، وفي الطبيعة، وفي علاقاتها الجذرية، التي لا حصرى لها. والجدل المادي يقر، بأن الواحد، والكلي، والعام، والكوني، موجود فقط في شبكة من العلاقات، والروابط القائمة على الاختلاف، والتعدد، والتعارض، والخاص، كوجود معين.‏

لهذا كله، نقول أن تكوينات المجتمع المدني ومؤسساته، من أحزاب سياسية، ونقابات، ومجالس نيابية وصحافة، ووسائل إعلام، قائمة في وجودها المعين، على الاختلاف، والتعدد، والتعارض والتناقض.‏

وبهذا تكون ماهية المجتمع المدني انعكاساً في الآخر، وفي ارتباطه الصميمي بغيره من مقولات الاختلاف، والتعدد والتعارض والتناقض.‏

والمجتمع المدني الحقيقي يشير دائماً إلى شيء آخر هوأساسه، القائم على الاختلاف، والتعدد، والتعارض، والتناقض، ومن هنا كان هذا الأساس هو الماهية الداخلية للمجتمع المدني، على نقيض النزعات التوتاليتارية والفاشية.‏





رابعاً: إن أصول المجتمع المدني قديمة وعالمية، وتاريخية، موجودة في الحضارات القديمة اليونانية والرومانية، والعربية في العصر الأموي والعباسي، وفي الحضارة الصينية. وهو وجود تاريخي، وثري بتنوعه. يقول الأستاذ الياس مرقص في هذا الموضوع، "إن تاريخ الإنسان بعد ظهور النوع، هو جوهرياً، في المنظور العريض والبسيط، تاريخ بروز وعدم بروز المجتمع المدني"(47).‏

ومع أن المجتمع المدني في الغرب يعاني من أزمة بنيوية عميقة، بسبب تناقضه مع هيمنة الدولة السياسية البرجوازية الاحتكارية عليه، التي تحمل في سيرورة وجودها، واستمرارها، توتاليتاريات جديدة، وفاشية جديدة، ليست نازية أميركا آخرها، بحكم استفحال أزمة النظام الامبريالي العالمي، حيث أن التاريخ العالمي يتطلب ضرورة التخطي الجدلي الكبير، لهذا المجتمع المدني البرجوازي السابق، نحو عملية التحرر الإنساني، أي نحو بناء المجتمع الانساني على حد قول ماركس في أفق اشتراكي، القائم على الملكية الجماعية لوسائل الانتاج. لأنه علينا نحن العرب (أي الشعب)، ونحن بصدد المطالبة بإنجاز الثورة القومية الديمقراطية، المنظور إليها عالمياً، وكونياً، أي نرتكز على المكتسبات الايجابية والتقدمية للمجتمع المدني، الذي تشكل في أوروبا الغربية، كأفكار الحق، والقانون المدني والدستوري، وثنائية الوطن والمواطن، والحريات الفردية والعامة، والحرية السياسية المرتبطة بالتعددية السياسية، والديمقراطية، دون أن يعني ذلك اعتبار المجتمع المدني هو نهاية المطاف في تاريخ البشرية. يقول الأستاذ الياس مرقص في نقده للرؤية الماركسية العربية القاصرة والعاجزة عن فهم المجتمع المدني، "التعامل مع هذا الشيء الكبير بإدارة الظهر، باللعن، أو بالركوع أو التعامل معه بالانبهار والحرب، بالسجال العنيف الابولوجيتيقي، الذي يخفي أو لايخفي الانبهار، موقف ألحق ويلحق ضرراً كبيراً بالوعي العربي، إنه الضياع(48).‏

ونحن نؤكد على الجوانب الايجابية والتقدمية للمجتمع المدني، علينا أن نعترف بأن أوروبا الغربية، كانت لحظة تاريخية مهمة كبيرة وحاسمة، وحيوية، في التبلور التاريخي لهذا المجتمع المدني بعمقه العالمي، وإن كان هذا الاعتراف ليس مقترناً بالنزعة التماثلية، أو بالتبعية للمركزية الأوروبية، بقدر ما هو نابع من منهج نظري، يتخذ من الجدل ركيزة أساس في بنيانه الداخلي، ومن المشروع القومي الديمقراطي النهضوي، دعامة ثابتة رئيسة في بنية المجتمع العربي لتأسيس فكر عربي نهضوي معرفي، وثقافي، وسياسي نضالي، قائم بذاته.‏

هوامش الفصل الثاني:‏



(1)- ف فولغين- فلسفة الأنوار- ترجمة هنريت عبودي- دار الطليعة للطباعة والنشر- الطبعة الأولى- إيلول (1981(ص7)).‏

(2)- جورج سباين- تطور الفكر السياسي- الكتاب الثالث- ترجمة الدكتور راشد البراوي- دار المعارف مصر- مارس 1971 (ص456).‏

(3)- المصدر السابق (ص458).‏

(4)- البيرسوبول- تاريخ الثورة الفرنسية- ترجمة جورج كوسى- منشورات بحر المتوسط ومنشورات عويدات- بيروت- باريس الطبعة الثالثة 1982 (ص64).‏

(5)-‏

Bossuet: "Politique tirée des propres paroles de lécriture sainte dans le pouvoir: Scienceet philosophie politique‏

Paris Editions Magnard I: 987 (PP 55- 58).‏

(6)-‏

On Good words (trans by W. A. Lambert) werke Vol VI (p250).‏

(7)- انجلز- فريدريك "حرب الفلاحين" حول الدين (كارل ماركس وفريدريك أنجلز) ترجمة ياسين الحافظ- دار الطليعة بيروت- الطبعة الأولى 1974 (ص82).‏

(8)-‏

Turner, Bryan, WEBERANDISLAM, London 74 (P42).‏

(9)- حسين مروه- محمود كروب- محمود أمين العالم- سمير سعيد- دراسات في الإسلام- دار الفارابي- الطبعة الأولى 1980- الطبعة الثانية 1981 (ص126).‏

(10)- جورج سباين- مصدر سابق (ص544).‏

(11)- ماكس فيبر- الأخلاق البروتسانتية وروح الرأسمالية (الصفحات 16- 19).‏

(12)- باور- ماركس- المسألة اليهودية عن مقدمة المترجمة (ص17).‏

(13)- ف- فولغين- مصدر سابق- (ص15).‏

(14)- البير سوبول- مصدر سابق (ص96).‏

(15)- د. سعيد بنسعيد العلوي- حول نشأة وتطور مفهوم المجتمع المدني في الفكر الغربي الحديث مقال نشر في جريدة السفير 23/1/1992.‏

(16)-‏

Machiaves Oeuvres completes N.R.F. (Bibliotique de lapleide) Pares 1964).‏

(17)-‏

N. R. F. (P 709).‏

(18)- جورج سباين- مرجع سابق (ص 490).‏

(19)- ماكس موركهايمر- بدايات فلسفة التاريخ البرجوازية- ترجمة محمد علي اليوسفي- دار التنوير الطبعة الأولى 1981 (ص34- 35).‏

(20)- جان جاك شوفاليه- أمهات الكتب السياسية- 1- ترجمة جورج صدقني- منشورات وزارة الثقافة والارشاد القومي دمشق 1980 (ص1-4).‏

(21)- ماكس موركهايمر- مصدر سابق (ص45).‏

(22)- المصدر السابق (ص49- ص50).‏

(23)- سبينوزا- رسالة في اللاهوت والسياسة.‏

(24)-‏

Jean Jacques Rousseau- Discours sur L`origine de Linegalité parmis les hommes (Paris- Gamier- Flammarion) 1971 )PP 194- 195).‏

(25)- الأعمال الكاملة لجان جاك روسوم 1- باريس 1788- 1793 السياسة (ص39- 40).‏

(26)- المصدر السابق (ص116).‏

(27)- ف- فولغين- مصدر سابق (ص207).‏

(28)- شوفاليه- جان- جاك- المؤلفات السياسية الكبرى- ترجمة الياس مرقص- دار الحقيقة بيروت- الطبعة الأولى- كانون الثاني 1980- (ص150).‏

(29)- ف- فولغين- مصدر سابق (ص219).‏

(30)- شوفاليه- جان جاك- مصدر سابق (ص155).‏

(31)- لوى ألتوسير- مونتسكيو- السياسة والتاريخ- ترجمة نادر ذكرى- الطبعة الأولى 1981 دار التنوير (ص22).‏

(32)- لوى التوسير- مصدر سابق (ص15).‏

(33)- شوفاليه- مصدر سابق (ص114).‏

(34)- شوفاليه- مصدر سابق (ص114).‏

(35)- جورج سباين- تطور الفكر السياسي- الكتاب الرابع ترجمة علي إبراهيم السيد- دار المعارف مصر- نيسان- 1971 (ص789- 880).‏

(36)- هيغل مبادىء فلسفة الحق- ترجمة تيسير شيخ الأرض (ص227).‏

(37)- المصدر السابق- (ص229).‏

(38)- المصدر السابق- (ص231- 232).‏

(39)- المصدر السابق- (ص243- 244).‏

(40)- المصدر السابق (ص247).‏

(41)- المصدر السابق (ص250- 251).‏

(42)- المصدر السابق (ص260).‏

(43)- المصدر السابق (260).‏

(44)- المصدر السابق (ص ).‏

(45)- ماركس وأنجلز بصدد الدولة ماركس- أضواء على المسألة اليهودية- دار التقدم- 1986 (ص80).‏

(46)- المصدر السابق (ص85).‏

(47)- الياس مرقص- المذهب الجدلي والمذهب الوضعي- الطبعة الأولى (1991) (ص22).‏

(48)- المصدر السابق (ص24).‏

رد مع اقتباس