عرض مشاركة واحدة
  #10  
قديم 01-04-2005, 03:28 PM
ابومحمد الشامري ابومحمد الشامري غير متصل
ابوحمد الشامري ( سابقا )
 
تاريخ التسجيل: Dec 2004
الدولة: شـبـكـة مـجـالـس العجمـــــان
المشاركات: 19,132
معدل تقييم المستوى: 10
ابومحمد الشامري قام بتعطيل التقييم



الإبداع (من العصاب إلى التطهير النفسي)

(1)ـ التمايز والإبداع:‏


تعكس الأفعال الإبداعية التجربة الإنسانية في صورة شديدة التركيز تحمل عناصر الغرابة والمفاجأة والاختلاف والتمايز في أسلوب التفكير وتداعي الأفكار وارتباطها ببعضها. وهو ما يتحدى ذهن المتلقي ليذهب إلى التعرف على معناها.‏

وكون العملية الإبداعية تنزع إلى تجاوز المألوف وتتصف بقدرة تخطي الذات والتحرر من النظرة الجامدة، لذا تسعى إلى التفتح على عالم متنوع وخصيب بالرؤى والأشكال.‏

والمبدع لا يكرر نفسه. فعلى الرغم من الطابع العام لشخصية وأسلوب شكسبير في الكتابة إلا أنه في كل عمل جديد من أعماله التي أنجزها كان يحاول التحرر من منظور العمل الذي سبقه ومن موضوعه، فهو لا يكرر فكرة ولا يستخدم صوره الشعرية بصورة جامدة متكررة. فالمأساة في هاملت يختلف مضمونها وتختلف معالجتها عنها في كل من (الملك لير)، أو (عطيل).‏

وينطبق الأمر نفسه على كل من ديستويفسكي وديكنز ودافنشي.(1).‏

والمبدع في بحثه عن الجديد فإنما يعبر عن حالة إنسانية تتمثل في نزوع الإنسان نحو التمايز والفرادة. وصفة التمايز هذه تعد خاصة أساسية من خواص أي نظام سواء كان نظاماً نفسياً أو بيولوجياً أو اجتماعياً.‏

ويمتاز الكائن البشري، بصورة عامة، بقدرته على تنمية عملية التمايز النفسي المعرفي منذ بدء حياته. ويختلف الأشخاص في أساليب سلوكهم وخصائصهم النفسية، تبعاً لدرجة أو مستوى نمو عملية التمايز المعرفي عند كل منهم.‏

التمايز لغوياً: جاء في المعجم المدرسي:‏

يقال انماز الشيء أي انفصل عن غيره وانعزل. وتمايز القوم تفرقوا وتميز بعضهم عن بعض.‏

والأصل ماز، مازه ميزاً ميزه: عزله وفرزه أو فصل الشيء عن بعضه.‏

جاء في القرآن الكريم:‏

(ماكان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب( (سورة آل عمران ـ الآية 79).‏

يقال مزَّ الضأن من المعز، ومزَّ الطيب من الخبيث، وماز الشيء عنه: نحاه عنه.‏

يقال مازته أخلاق رصينة. ويقال فلان يميز بين الغث والسمين.‏

الميزة: المزية (اسم مصدر لفعل: ماز الشيء عن غيره إذا فرزه ونحاه، وقد يكون هذا الفرز أحياناً لتفضيل ذلك الشيء على غيره فتكون الميزة بمعنى المزيّة).‏

والتمييز قوة في الدفاع تستنبط بها المعاني.‏

وتميّز الشيء من الشيء: انفصل عنه وبان عنه... وامتاز الشيء: اعتزل وانفرد أو بان من غيره لا يختلط ولا يلتبس.‏

(2)ـ من اللا تمايز إلى التمايز:‏

تتميز عملية الإدراك لدى الإنسان في بداية حياته بالكلية والعمومية. ومع عملية النمو تبدأ عملية التمايز التي تزداد وتتوضح شيئاً فشيئاً، وتبرز بعد ذلك القدرة على إدراك تفاصيل هذا الكلي والعمومي، ثم قدرة الإنسان على تمييز الذات عما يحيط بها من مثيرات، ومن صفات النمو في كل جوانب الحياة الانتقال من هذه المدركات الإجمالية الكلية إلى تمييزها عن بعضها وهو ما يؤدي إلى ما نلاحظه من فروق بين الأشخاص في جوانب حياتهم المختلفة.‏

في بداية الحياة يصعب على الطفل في شهوره الأولى أن يميّز بين ذاته وبين البيئة من حوله ويكون تمييز جسده عن المجال الذي هو فيه في أضيق الحدود. ومع النمو يبدأ في انتزاع إدراكه لجسده مميزاً إياه عن مجاله ومحيطه... وهنا تبدأ أولى عمليات التمايز النفسي. ويتمثل هذا التمايز في إدراك حدود فاصلة بين الجسم والعالم الخارجي... ويتضح التمايز أكثر في عملية الانفصال التدريجي عن الأم حيث كان الالتصاق بالأم هو الشيء الثابت منذ الحمل مروراً بالحالة الجنينية إلى أن يبدأ في الابتعاد عن حضنها الذي يبلغ ذروته في حالة الفطام. وفي أثناء ذلك ينمو عند الطفل مفهومه عن ذاته وتصوره عن نفسه وبموازاته ينمو إدراكه لأوجه الشبه والاختلاف عن الآخرين، بحيث يصل إلى مرحلة فهم وإدراك مدى التمايز الموجود بين ألوان نشاطه وسلوكه وزيادة القدرة على تنمية الجوانب الانفعالية وألوان السلوك الدفاعي.‏

والخلاصة: التمايز هو عملية نمو مستمرة. فمع زيادة النمو تزداد قدرة الشخص على عزل نفسه وتمييزها عما حولها، وكذلك يزداد نمو الشعور باستقلال الهوية ويزداد مقدار ما لديه من قدرة على تنظيم انفعالاته وألوان سلوكه ومقدرته على التنظيم والتحكم في الجوانب الرئيسة. من شخصيته في علاقتها مع بيئتها.(2).‏

وحركة النمو نحو التمايز لا تحقق دائماً عند الأشخاص حالة من الاتزان أي الاحتفاظ في حالة تحقيق التمايز حالة من الثبات يتغلب فيها المرء على القصور والعجز، وهذه الحالة إن صح بلوغها هذه النقطة عند الناس العاديين فإنها لا يمكن الركون إليها في تفسير سلوك المبدعين... يشرح هكسلي ذلك بقوله:‏

"إن الحياة الإنسانية كفاح ضد الإحباط، والتجاهل، والمعاناة، والقصور بصفة عامة، لكنها أيضاً كفاح من أجل شيء ما....، أي تحقيق الإمكانات الكامنة بواسطة الفرد، والإمكانات الجديدة بواسطة الجنس البشري، وإشباع الحاجات النفسية، والمادية، ونمو خصائص جديدة للخبرة يستمتع بها الفرد، وبناء الشخصية."(3).‏

وفي نزوع الإنسان نحو التمايز والفرادة كثيراً ما يلجأ إلى المقايسة بين سلوكه، والسلوك الذي يراه عند الآخرين في موقف من المواقف... ، قد يدفع به للاستغراب حيناً، فيطرح على نفسه السؤال مرة تلو أخرى: لماذا لا يدرك الآخرون أنَّ تصرفهم على هذا النحو لا جدوى منه؟.. فإما أن يكون تصرفاً خاطئاً أو ضاراً أو أنه لا يقود إلى نتائج مرغوبة... ، وإما يرى فيه سلوكاً يمتاز بردود واستجابات تتوافق مع بعضها بنسب عالية، لكنها مختلفة عن ردود أفعاله واستجاباته فيقوم بعملية مراجعة ذاتية. فإما يكتشف في سلوكه تفرداً يصر عليه ويتبناه، وإما يعيد النظر فيما صدر عنه، لكن ليس للاندماج في نمط سائد، وإنما للتكيف مع واقع لا يستغرقه، وفي هذه المحاولة يظل يجنح نحو تشكيل صورة لنفسه نحو نفسه ذاتها وللآخرين فيها ما يميزه ويؤكد ذاته.‏

والإصرار على حالة الفرد والتمايز بصورة ظاهرة أو مستتره هو إحدى حالات تجليات الإبداع. وكل يختار ما يميزه وما يريد أن يكونه... وقد يصيب المرء في اختياره وفي حكمه على سلوكه وطموحه. وقد يجانبه الحظ فيقع في الخطأ لأنه لم يكتشف مواضع القوة في إمكاناته وقدراته فيتحول نحو مجال من مجالات الحياة، ونشاطات لا تتناسب مع قدراته...‏

(3) ـ توقيت الإنجاز الإبداعي وعناصره:‏

لا يأتي الإبداع سهلاً طائعاً، فهو إضافة إلى ما يحتاجه من جهد ودأب المبدع، يلزمه فترة من الكمون والتخمر تكون خفية ومستترة لا يدركها صاحبها، إلا عندما تصبح ثمراً حان قطافه. وأن كثيراً من الناس يفوتون على أنفسهم وعلى الآخرين إنجازاً إبداعياً لجهلهم بإمكاناتهم وقدراتهم. من ذلك ما يقصه الكاتب الأمريكي (مارك توين)، عن "رجل كان يشغل نفسه بالبحث عن أعظم قائد حربي عرفه التاريخ، وحين سأل أين يمكن العثور على ذلك الرجل، قيل له: إنه مات منذ زمن طويل وصعد إلى السماء، وذهب الرجل وراءه، وعلى أبواب الجنة رأى القديس بطرس وسأله عن مطلبه، فأشار القديس إلى "روح" تهيم على مقربة منهما. فقال الرجل: ولكن هذا ليس أعظم القادة جميعاً، لأنني كنت أعرف هذا الذي تدلني إليه أثناء حياته. ولم يكن إلا إسكافياً غير ماهر، فقال له القديس بطرس: وأنا أعرف ذلك، ولكن لو كان هذا الرجل جنرالاً لكان قد صار أعظمهم جميعاً".‏

هذه الطرفة إلى جانب أنها كانت إجابة مباغتة وغير متوقعة تشير إلى أن الكثيرين من الناس لا يعرفون إمكاناتهم وقدراتهم ومواهبهم الحقيقية، كما أن الآخرين لا يقدرونهم حق التقدير.(4).‏

لا يأتي النص الإبداعي أو اللوحة في اللحظة التي يريدها الكاتب أو الرسّام، كما أن القدرة على الإنتاج الإبداعي قد لا تظهر علاماتها في وقت مبكر. فقد تعلَّم اينشتاين الكلام متأخراً بينما كان ديكارت طالباً فاشلاً، كذلك كان باسكال وفيثاغورث وموزارت وغيرهم عديمي المواهب في الطفولة(5).‏

ولم يجل في فكر (وليم فوكنر) عندما كان صبياً، أي طموح أو رغبة ليكون روائياً، وإنما كان شاعراً وكان خجولاً ولم يكن شغوفاً بدراسته.‏

ووصف (جون ديوي) حضور الفكرة الإبداعية بقوله: الفكرة الجميلة كالمرأة الجميلة تأتي وقتما تشاء، لا وقتما نريد".‏

وكثيراً ما يخطئ الإنسان طريقه نحو الإبداع، فلا يعرف الطريق إليه، أو أنه لا يعرف أين يكون ناجحاً، ويحقق تميزه، بسبب من ظروف خارجية، أو بسبب داخلي يعود إلى عناده ومكابرته في التطلع نحو نشاطات ليست مما لديه من إمكانات وقدرات... فهنري ماتيس الفنان الذي راجت لوحاته لتميزها بألوانها المشرقة، وما تتصف به من إحساس بالهدوء المفعم بالوئام، والذي كان من أشهر الفنانين في زمانه، و الذي ما زالت لوحاته مصدر إمتاع لمتذوقي الفن التشكيلي، لم يكن قبل بلوغه سن التاسعة عشرة يعرف شيئاً عن الرسم، كما أنه لم يشاهد قبل ذلك أية لوحة زيتية، ولم تكن عنده أية رغبة بذلك، ولم يكن يمتلك الطموح لأن يكون فناناً، كما تقول (هيلاري سبرلنغ) التي كتبت سيرة حياة هذا الفنان في كتابه (ماتيس المجهول):‏

"نشأ هنري في (بوهن) وهي مدينة تحولت إلى مدينة صناعية بالكامل، ومركز نسيج محتشد بالمعامل، وفي صباه لم يعرف شيئاً عن الرسم، ولم يشاهد لوحة زيتية حتى بلغ سن التاسعة عشرة من عمره، ولهذا لم يمتلك طموحاً مبكراً في أن يكون فناناً إلا أنه أدرك بلا ريب انعدام رغبته في إدارة تجارة الحبوب. لقد امتلك إرادة قوية حتى وهو صبي، إلا أن ضغوط هذه الوضعية قادته إلى عدد من الأزمات، ازدادت سوءاً، إلى أن لجأ الأخير بكل بساطة إلى سريره لمدة عام كامل تقريباً، كما سيروي فيما بعد وهو يستعيد ذكرى تلك الأيام، فتخيل أن ينهار شخص يبلغ من العمر الثامنة عشر عاماً بهذه الطريقة، ويمضي عاماً في السرير، ثم يقرر والده أن مهنة مثل مهنة المحامي ستكون الأفضل بالنسبة لهنري، ويشرع الابن بالسير في هذه الطريق، وسرعان ما تغلبه الكآبة والإحباط، وينتهي في المستشفى أخيراً... بعد انهيار أشد من الانهيارات السابقة.‏

عند هذه النقطة تدخل القدر، حين رأى رجلٌ (يرقد في السرير المجاور لسريره)، في هنري شخصية مريض يعاني من العصاب فقدم له نصيحة، وأخبر الشاب أنه هو ذاته عانى من حالة يأس مشابهة أراح أعصابه بالرسم مستخدماً معدات تلوين مرقمة، كانت شائعة تلك الأيام. وكان يشتري صندوق ألوان صغيراً على غطائه صورة للاستنساخ وتعليمات عن كيفية نسخها. وهكذا اشترت أم ماتيس صندوق الألوان هذا سراً. وسيتذكر ماتيس فيما بعد أنه حين وقع صندوق الألوان ذاك بين يديه عرف بالضبط ماذا كان يفترض به أن يفعل بحياته، كان الأمر كشفاً روحياً بالنسبة له، وحول مجرى حياته، ومنذ ذلك اليوم حتى يوم وفاته، ألقى بنفسه تماماً في عالم الرسم والتصوير محاولاً من حيث الأساس تعويض ما ضاع من زمن"(6).‏

(4) ـ من الحلم إلى الإحباط:‏

تقول (غادة السمان) عن أدبها:‏

"لا أعتقد أن هناك أي عمل علمي أو أدبي أو سياسي خارق إلا خلفه رجل حالم، لكنه حالم يعمل. كل الأعمال الكبيرة في تاريخ الإنسانية، بدأت برجل يحلم... ثم يكرس حياته ليحقق عملياً ماكان مجرد تصورات، إني أؤمن بضرورة الزواج بين الحلم والواقع في محراب العقل والوعي، حيث تتحد النفس بذاتها دون أقنعة، ويصير العقل اللا واعي قوة متضامنة مع الإرادة، لا مشتتاً لها، الإبداع الفني في نظري هو محاولة لاتحاد مستوى العمل ومستوى الحلم من أجل مزيد من الاقتراب من النفس الإنسانية وأسرارها، والفنان باستمرار بحاجة إلى القدرة على إفشاء توازنه الخاص بين حالة الحلم وحالة اليقظة... فالحلم هو مادة حياتنا السليمة وليس شيئاً يضاف إلى اليقظة.(7).‏

يلتقي الحلم مع الإبداع، فالحلم تعبير ينفذ المحلل النفسي من خلاله إلى أعماق النفس، فهو بهذا المعنى نتيجة خبرة سابقة، لكنها إذا اعتبرناها بذاتها، فإنها من طبيعة أخرى بالنسبة للخبرات عند الإنسان الصحيح العقل والتفكير، لأنها تجمع في أفق واحد ـ كما يقول مصطفى زيور، في مقدمته لترجمة كتاب (تفسير الأحلام) لسيغموند فرويد ـ بين العقل والجنون بسبب من طبيعته الهلوسية وإن كان الكشف عن طبيعته هو كشف عن طبيعة العقل والجنون جميعاً. وهذه المقاربة لا تختلف كثيراً عما تقول غادة السمان التي تلعب الأحلام دوراً هاماً في إبداعاتها:‏

"بل أعتقد أن جوهر لقاء الحلم والجنون في أن كليهما تعبير عن الصدق المطلق... ولذا فإن الأحلام تلعب دوراً هاماً في أعمالي... والحلم يحاكي الجنون، ولا أعتقد أن هناك عملاً عبقرياً دون لمسة جنون".(8).‏

وليست أحلام المبدع مقتصرة على المنامات، مثله في ذلك مثل غيره من البشر، إذ أنه يقع تحت تأثير أحلام اليقظة أيضاً، أليست روايات الخيال العلمي بشكل ما أحلام يقظة؟ في رواية (من الأرض إلى القمر) التي كتبها (جول فيرن) عام 1864: ((حلق عالياً في سماء خيال الطيران بين الكواكب. وقيل إنه استوحاها من قصة أخرى لا تقل عنها في التحليق بالخيال وهي قصة (ادغار آلان بو) التي تدور حول رحلة إلى القمر بوساطة بالون".‏

وكثيراً ما تعمل الأعراف، والتقاليد الاجتماعية، وأساليب الردع، وإطلاق النكات حول سلوك المبدع بخاصة، والإنسان بعامة، على إحباط العمليات الإبداعية، فما يوجه للإنسان الحالم من نقد لاذع يثبط همته. فقد تكون القدرة على الإبداع الموجودة لدى كل إنسان مثبطة، ويرى (فيليب شامون): إن إبداعية الأطفال الطبيعية هي الأكثر وضوحاً لإثبات ذلك. في حين تتكفل التربية، وتعلّم الأعراف والتقاليد والعقلانية بكبح أكثر مظاهرها وضوحاً.‏

(5) ـ العصاب والإبداع:‏

انكسار الأحلام، وإحباطها، والقمع، تفرضه المواصفات الاجتماعية على المبدعين، الذين كثيراً ما يتصرفون كالأطفال. فالطفل يظل حياً في المبدع وفي أعماق شعوره. ولأن المبدع كذلك، ولأنه في الأعم الأغلب يتميز بحساسية مفرطة، تتجاوز أوسط الأمور، نتيجة طبيعية حيث الجهد والمثابرة من خصائص الإبداع، فالمبدع الذي يواصل اتجاهه ويعمل ذهنه ويركز تفكيره يكون في كثير من لحظات حياته متوتراً وأي عارض أو طارئ يصادفه قد يواجهه بشيء من النزق والتبرم لأنه يعيش على حدود دقيقة، ويحتاج إلى التأمل والتركيز كي يكون إدراكه للتغيرات ونواحي الضعف فيما حوله هدفاً لنشاطه، من هذا الإحساس غير العادي بالأشياء والناس، يكون مستعداً للانطلاق نحو سد الثغرات، وحل الغموض، وفك ألغاز الوجود بتكوينات أدبية أو فنية أو غير ذلك من مجالات الإبداع وميادينه. وهذه الحساسية بالمستوى الذي تكونه عند ولادة العمل الإبداعي يصنفها بعض علماء النفس ارتفاعاً بالوعي. وفي هذا التوقيت يكون ذهن المبدع منفتحاً على بيئته ويقوم من خلال مجهوده الإبداعي بدافع من ذلك إلى فهمها وإعادة تشكيلها في الوقت الذي يراقب الأشياء تلفته بعضها حيث لا تستثير انتباه غيره... فيكوّن من الألوان وملمس الأشياء واستجابات الآخرين، وبعض الفقرات في الصحف اليومية أو بعض البرامج الإذاعية والتلفزيونية تشكيلات أو تكوينات أو نصوصاً تتصف بالجدّة والابتكار اللذين لا يبلغهما غيره.(9).‏

وفي لحظة ما أو أمام مشهد من المشاهد، تتكثف الفكرة في منظر أو مظهر فني، يكشف عن جمال لم يخطر على ذهن. وقد اختصر (بول فاليري)، في جملة واحدة، جمال برهة زمنية حين قال أمام الغروب:‏

"ما قيمة ألف ديوان من الشعر، أمام مغيب الشمس".‏

وفرط الحساسية عند المبدع، قد يؤدي به إلى الاضطراب النفسي، الذي يظهر انفعالاً حاداً يؤذي صاحبه، ويؤدي إلى سلوك ليس مما هو سائد في بعض الأحيان، قد يؤدي بصاحبه إلى مواقف حرجة، أو إلى نوع من السلوك الانطوائي، وإذا كان مثل هذا السلوك لا يعطل قدرته على التفكير، ولا يقطع صلته بالبيئة يكون المرء قد تعرض للعصاب. الذي قد يؤدي به إلى مواقف حرجة وإلى سلوك انطوائي.‏

وصورة (ألبرت اينشتاين)، عبر وثائق من كتاباته وأوراقه، التي بدأت ترى النور تبرزه عصابياً في سنواته الأخيرة: "ترك شعره مسترسلاً دون حلاقة، وأخذ يساعد الفتيات الصغيرات على حل واجباتهن المدرسية في الرياضيات وأصبح سريع التبني لأية قضية كرجل تتناقض حياته الخاصة غير المستقرة تناقضاً سافراً مع تأمله الهادئ للكون، رجل كان بإمكانه التزاوج بين دفء المشاعر وبرود العاطفة، وأن يكون أباً حانياً ومتحفظاً في التعامل على الرغم من ذلك، كذلك هو الزوج العطوف والمغازل العابث في الوقت ذاته". وكتب (فيليب فرانك)،ـ صديقه وكاتب سيرته ـ يقول: برغم اهتمامه العميق والحميم بمصير كل غريب قادم، فقد كان ينسحب سريعاً في الدخول إلى منطقة الحميمية".(10).‏

وتتنوع أعراض العصاب بتنوع البيئات وتختلف من شخص إلى آخر. ولتحديد السلوك العصابي يمكن الاتكاء على عتبته الدنيا التي تتصل بعتبة الغضب العليا. والعصابي يوصف بأنه شخص سيء التكيف. ولا يكون السلوك العصابي حالة دائمة أو مستمرة في سلوك الشخص وتصرفاته... وإنما يظهر بين فينة وأخرى في استجابات وردود أفعال لكنه يتحكم بصاحبه حيث تصبح الصفة الغالبة على سلوكه الانسحاب إلى عالم خاص به.‏

وإذ يهرب الفنان من الواقع إلى سلوك طريق إشباع بديل يظهر عليه السلوك العصابي.‏

كتب (جورج بيكرنغ) في كتابه (المرض الخلاق): "الانفعال صفة رئيسية أرى أنها تربط أنواع العصاب النفسي للشخصيات التي أصف عملها هنا بالخلاق الذي أدى بهم إلى الشهرة".(11).‏

وينشا العصاب من صراع بين الرغبة ومحاولة تحقيقها. وكلما ازدادت الرغبة اتقاداً زاد احتمال أن يؤدي إحباطها إلى العصاب النفسي، وقد ييسر هذا بدوره تحقيق الرغبة أو يؤدي دور الحافز للتطهير العقلي الذي ينتج عن عمل خلاق وعظيم، ويبدو أن هذا هو أساس العلاقة بين العصاب النفسي والإبداع، وباختصار يمثل العصاب انفعالاً مكبوتاً ويعبر العمل الخلاق العظيم عن انفعال متحقق."(12).‏

ـ لكن هل يعني هذا أن كل مبدع هو شخص عصابي أو قريب من المرض النفسي؟...‏

أو كما جاء في مسرحية (حلم ليلة صيف) لشكسبير حيث يقول:‏

ـ "المجنون والعاشق والشاعر يؤلف الخيال بينهم أجمعين"؟‏

فكأن الخيال الجامح والحساسية المفرطة تجعلان المرء يقوم بأنماط سلوكية مستهجنة مع إنتاجه للجديد غير المألوف.. ويلاحظ على المبدعين إضافة للسلوك المستهجن حالات سلوكية طفلية حيناً، وحيناً ينسحبون نحو حالة من الصمت والانكفاء، وقد تظهر عليهم علامات من نوبات الاكتئاب أو ما يقربه إلى ماهو أشد من ذلك. وقد تأخذهم العزة فيما أنتجوا فينصبون من أنفسهم مخلّصين للبشرية ومنقذين لها.‏

في حوار بين (جورج غريب والياس أبو شبكة)، قال جورج: ذات غروب كنا على مشرف رائع من (زوق مكايل) نتمشى أمام لوحة ربيعية ساحرة، فدار بيننا، أذكر، الحوار التالي:‏

ـ ما أجمل الطبيعة يا الياس..‏

أجابه أبو شبكة:‏

ـ لكن الشاعر وجد ليزيد في جمالها.‏

سأله جورج:‏

ـ ماهي رسالتك في الحياة؟..‏

أجاب:‏

ـ جئت إلى الدنيا لأفتح ورشة حب.(13).‏

(6) ـ أثر خبرات الطفولة في الإبداع:‏

لا يمكن تجريد السلوك في مراحل الحياة كافة عن تأثيرات الخبرات في مرحلة الطفولة وتبرز نواتج هذه الخبرات في إبداعات الفنانين والأدباء، ويكون اكتشاف صور هذه الخبرات التي تظهر رموزها في العمل الإبداعي واسطة لتحليل العمل وفهمه.‏

يرى أحد الدارسين أن لفظ البئر (وهو يعني حفرة في الأرض)، وقيل أنها موقد النار كما جاء بمعنى المخبأ والمذخر. كما ورد لفظ البئر بمعنى الحفرة من الأرض يستقى منها الماء". في سيرة جبرا إبراهيم جبرا، قد أطلقه جبرا عنواناً في سيرته الذاتية: "وأراد به ذلك الموقع من الذاكرة (التي تجمعت فيها أولى التجارب والرؤى والأصوات، أولى الأفراح والأحزان والمخاوف التي جعلت تنهمر على الطفل فأخذ إدراكه يتزايد ووعيه يتصاعد)، فجبرا هنا يجعل من الذاكرة البئر أو المخبأ الذي يحفظ فيه تجاربه الأولى تجارب الطفولة التي هي أكثر من حصيلة ذكريات خاصة، فهو يدرك أن الأصول الحقيقية للأشياء تعود إلى التجارب الأولى من حياة المرء. وقد أكد على ذلك في أكثر من مناسبة (طفولتي هي ينبوعي الأغزر... إنها البئر أو العين التي تمدني بالكثير من النسغ لما يتنامى في ذهني من بنت الخيال، وأرجو أن تستمر في منع الجفاف والعطش".(14).‏

أما الفيلسوف الفرنسي (رينيه ديكارت) الذي عاش يتيماً وقد ماتت أمه وهو في الثانية من عمره، وقد عاش مخلصاً للمرأة التي أرضعته وعنيت به، لم يمح طيف أمه وحادث وفاتها من حياته الشعورية واللا شعورية. وشكل ذلك بداية شعوره بالاغتراب. وقد ذكر هنا الحادث في رسالته إلى الأميرة "اليصابات" وهو في سن الخمسين، ويرى المحللون النفسيون أن الاغتراب هنا يبدأ في الظهور منذ بدايات الحياة عندما ينتقل المرء في نموه من مرحلة اللا تمايز أو اللا تغاير إلى مرحلة الانفصال الجسمي عن الأم، وهو الانفصال النسيجي الشامل للأنا ولما يغاير الأنا.(15).‏

(7) ـ الإبداع والتطهير النفسي:‏

إذا كان الانفعال الشديد هو ما يعاني منه المبدع قبيل أو أثناء النشاط المنتج فإن ذلك قد يتحول في حالة الإنجاز راحة وطمأنينة وتحرراً من كابوس الانفعال. وإذ يعاني المبدعون من ضغوط الكبت والخبرة والموروث الشعبي فإنهم حين يصوغون ذلك أدباً أو فناً تشكيلياً أو لحناً يخلصهم بعد الإنجاز من الضغط النفسي و من حالاته العصابية.‏

يلخص (سلتر) العلاقة بين القدرة الإبداعية والاضطراب النفسي بقوله: "يصدر العمل الخلاق عن العناصر النشيطة و الصحية للشخصية، ويمكن للسمات السيكوباتية أن تضفي على العمل طابعاً أو لوناً خاصاً. وقد تؤدي عمليات التثبيت العصابية إلى اختيار مادة من نوع خاص للعمل عليها أو تطويرها. وقد تجبر الأحزان والمحن الفنانين على البحث عن طريقة خلاقة تساعدهم على التطهير. لكن العمل الخلاق نفسه ينبثق من القوة لا من الضعف".(16).‏

وربما كان العامل المشترك بين الفنون كافة، وفي سائر العصور، روح الطفل الذي لم تلوثه المدنية. ففي الفن تمحي المسافات، وتتقارب الأمكنة، وتتكثف الأزمنة، وتزول الحدود. فكأن الإنسان يعود بعد عملية الإبداع إلى المرحلة العمرية الخالية من الدنس:‏

"إن لم تعودوا كالأطفال فلن تدخلوا ملكوت السموات".‏

يقول (جويل. ل. سويردلو): "في أمستردام كان فنسنت فان غوخ ابن الرابعة والعشرين عاماً تلفه الكآبة. ويشعر كأن الموت يتربص به. كان يسعده أن يهيم على وجهه في الطرقات كما ذكر لأخيه (ثيو) في إحدى رسائله. ولكن حالة الاكتئاب استمرت: "أحياناً أحس بأثقال ترزح تحتها رأسي، والنار تشتعل فيها، وأفكاري كلها مشوشة".‏

ولقد قابلت الدكتور بيترهان نيمان مدير مركز الأزمات النفسية في أمستردام والمتخصص في معالجة الشبان المشوشين الضائعين... ووصفت له كل ما عانى منه فنسنت من أعراض: "مولع بالجدل تستحوذ عليه الهواجس، وغالباً ما يشعر بالقلق، ولقد أصبحت معدتي لا تتحمل أي شيء. طعامه في أغلبه من الخبز، وشربه من القهوة، لا يعرف النوم المستقر الهادئ، ويحرم نفسه من الملذات... ومدخن مفرط".‏

تلكم كانت عليه حال فان غوخ، فماذا كان جواب الطبيب؟...‏

أدرك الطبيب أن المريض يعاني من ضغوط لا شعورية ويمكن التخلص منها بمساعدته: "في البحث عن الجزء الغامض من الذات ا لذي لم يستعمله بشكل مألوف. وقد يستلزم الأمر بعض الوقت. في كل شخص ذات عبقرية، إذا استطاع أن يكتشفها فسيتلاشى من حوله كل ما نسميه مشاكل، أو على الأقل تصبح تافهة".‏

ويقول الفنان فيما بعد أنه هجر الدراسات الكهنوتية، واكتشف نفسه قبل عيد ميلاده السابع والعشرين... ، وقصد زيارة الفنان (جول بريتون) في مرسمه الخاص، وبعد أن سار ثلاثين ميلاً سيراً على الأقدام، لم يجرؤ على اقتحام مرسم الفنان، فهام على وجهه (ثلاثة أيام وثلاث ليال يغسلني المطر، وتعصرني الريح ولا يظلني سقف أحتمي به)، في رحلته تلك تيقن أنه فنان... يقول فان غوخ: "منذ تلك اللحظات تبدى لي أن كل شيء قد تحول من حولي".‏

ولكن يظل المظهر الإبداعي للحياة ـ كما يقول كارل غوستاف يونغ ـ الذي يجد أوضح تعبير عنه في الفن، يستعصي على كل محاولات الصياغة العقلية، لأن أي رد فعل على مثير من المثيرات يمكن تفسيره سببياً بيسر، أما الفعل الخلاق، وهو النقيض الكامل لرد الفعل المحض، فسيظل إلى الأبد مستعصياً على الفهم البشري.‏


 

التوقيع

 


تِدفا على جال ضوه بارد إعظامي=والما يسوق بمعاليقي ويرويها
إلى صفا لك زمانك عِل يا ظامي=اشرب قبل لا يحوس الطين صافيها
 
 

التعديل الأخير تم بواسطة : ابومحمد الشامري بتاريخ 01-04-2005 الساعة 03:55 PM.
رد مع اقتباس