عرض مشاركة واحدة
  #8  
قديم 01-04-2005, 03:24 PM
ابومحمد الشامري ابومحمد الشامري غير متصل
ابوحمد الشامري ( سابقا )
 
تاريخ التسجيل: Dec 2004
الدولة: شـبـكـة مـجـالـس العجمـــــان
المشاركات: 19,132
معدل تقييم المستوى: 10
ابومحمد الشامري قام بتعطيل التقييم



( استشراف التجربة الإبداعية "حالات من الاستبطان والملاحظة" )

(1)مكابدة الإبداع:‏

يشعر المبدع- ربما أكثر من غيره- بثقل المسؤولية التي يؤمن أنها أحد أهم جوانب شخصيته، وقد يذهب بعضهم إلى الاعتقاد بأن ذلك مسوغ وجوده.. ويصل الأمر لدى بعض المبدعين إلى حد أنه يعد نفسه رسول مهمة اختير لها. والمبدع يجد نفسه باستمرار بعيداً عن العيش بسعادة، لأنه، على حد تعبير (يونغ) أداة الحياة النفسية اللاواعية للإنسانية القائم على تشكيلها حيث هي وظيفته. وهذا ما يجعله يشعر بصورة دائمة تقريباً بأنه يرفع فوق كتفيه وفي عقله حملاً ثقيلاً جداً يحتم عليه التضحية بالسعادة، وبكل ما يجعل الحياة في نظر الإنسان العادي جديرة بأن يحياها، خاصة وأن دروب التعبير الفني ليست واضحة المسالك دائماً وإنما هي دروب مزالقها كثيرة، وهي متشعبة يسير عليها المبدع وكأنه في متاهة من المتاهات التي قد يقوده أحد تفرعاتها إلى أبواب جديدة، أو جدران يصعب تجاوزها. وقد وقف (أبو حيان التوحيدي عند هذه المسألة وبيّن صعوبة التعبير الفني بقوله:‏

"الكلام صلف تياه لا يستجيب لكل إنسان، ولا يصحب كل لسان وخطره كثير، ومتعاطيه مغرور، وله أرن كأرن المهر، وإباء كإباء الحرون، وزهو كزهو الملك، وخفق كخفق البرق، وهو يتسهّل مرة ويتعسّر مراراً ويذل طوراً، ويعز أطواراً، ومادته من العقل والعقل سريع الحؤول، خفي الخداع، وطريقه على الوهم والوهم شديد السيلان، ومجراه على اللسان واللسان كثير الطغيان وهو مركب من اللفظ اللغوي والصوغ الطباعي والتأليف الصناعي والاستعمال الاصطلاحي ومستمده من الحجا، ودربه بالتمييز ونسجه بالرقة والحجا في غاية النشاط". وعل ما تقدم أوضح عبقرية الجاحظ بقوله:‏

"ألا يعلم أبو الفضل- يقصد ابن العميد- أن مذهب الجاحظ مدبر بأشياء لا تلتقي عند كل إنسان ولا تجتمع في صدر كل أحد".(1)‏

إذا كان فيما ورد في الاستشهاد دليلاً على طبيعة الإبداع وصعوبته وفيه توضيح للعوامل التي تساعد المبدع على إنجاز عمل يتصف بالجدة والأصالة، فإن ذلك جانب مما يوجه فعلنا في استكشاف جوانب المعاناة، كما وصفها الأقدمون، وفيما يلي محاولة لقراءة ما يتفوه به المبدعون والكشف عن حالات أو جوانب أخرى للحالة الإبداعية من خلال تجارب مختلفة.‏

وإذا كان العمل الإبداعي تشترك فيه قدرات مختلفة (إذ يشترك الطبع والرواية والذكاء) ثم تكون الدربة مادة له وقوة لكل سبب من أسبابه، كما أفصح عن ذلك القاضي الجرجاني. لا تسير عملية الإبداع في مسار خطي ولا يسير العمل خلالها يسيراً سهلاً، وليس الإبداع عملية تحت الطلب. إذ أنه كثيراً ما يصاب الكاتب والفنان بحالة من الإحباط قد تصل بصاحبها إلى حالة من اليأس.. والشعور بالإحباط واليأس كثيراً ما يسبق مرحلة إشراق الفكرة أو الصورة، وتأتي أحياناً بعد إنجاز العمل الإبداعي، وعندئذ يردد المبدع سؤالاً- ربما لا يشذ عنه أي مبدع في أي مجال- وماذا بعد؟‏

ففي اللحظة التي تصمت فيها العملية الإبداعية، بعد أن أنجزت موضوعها. يبدأ شعور اللذة وانفعال الفرح بالتسلل خارج الشخص بعد أن كانت نوافذهما مشرعة في اللحظات الأخيرة من الإنجاز.. وتبدأ النوافذ والأبواب بالانغلاق.. فيشعر المبدع من جديد وكأنه قد عاد إلى وحدته داخل جدران يظن أنها قد أطبقت عليه وأن ما أنجزه كان آخر ما يمكن أن يفعله.. ولكن تلك الحالة- لحسن الحظ- لا تكون نهائية.. فسرعان ما تبدأ حالة الصمت بالتبدد ويعود إلى ذهن المبدع النشاط.‏

وليست حالة الإحباط- المؤقتة- هي الوحيدة- فيما يعانيه المبدع من مكابدات، إذ كثيراً ما تتملكه مشاعر أخرى يحس معها أنه قريب من الجنون، أو أنه على جرف هاوية، فإن ما يجب أن يجلب له إعادة التوازن المفقود قبيل الاشتغال بالعمل وفي أثنائه سرعان ما يجد نفسه وقد عاد إلى حالة القلق والتوتر.. من قمة النشوة حيث يشعر المبدع بتحقيق الذات والإنجاز إلى حضيض الواقع الذي تراءى له خلال فترات قصية وبالتماعات بسيطة أنه قد أسهم في تحريك الواقع نحو الأحسن.. فإذا الواقع عنيد لم يتزحزح من مكانه.‏

(2)في طبيعة العملية الإبداعية:‏

العملية الإبداعية- كما سبق- حادثة عقلية نفسية نلمس نتائجها ونقرأ بعض جوانب السلوك التي تبرز على تصرفات المبدع وفي بعض التغيرات التي نلمحها على وجهه ونشاهدها في حركاته. لكن أي دخول إلى عملية الإبداع بقصد تفسيرها والكشف عن طبيعتها والتعريف بالمراحل التي تمر بها ليس أكثر من وشي على سطح مادة سائلة..‏

فليس لحدوث العملية توقيت يمكن تحديده، ولا يمكن التنبؤ به من خلال ظهور علامات تدل على قرب حدوثها، ولا يمكن قراءتها في طقس يصدق على كل حالة من حالاتها.‏

فهي قد تأتي بعد حالة من الضيق أو التوتر تبلغ أحياناً ما يشبه المخاض الذي تعاني منه الحامل قبيل ولادتها. وقد تحدث دون أية محاولة من شحذ الهمة، واستدرار الطاقة واستنفارها، وحينئذ تبدأ العملية وتتم على نحو مفاجأة مفتوحة على الدهشة وكأنها والرغبة على موعد دقيق.‏

من هنا تأتي الصعوبة في مقاربة العملية الإبداعية وتفسيرها.. وكأن أي محاولة تستهدف دراستها والبحث عن خصائصها والوصول إلى اليقين في النتائج التي تتولد عنها محكومة إلى حد ما بالفشل. إذ أن الذاكرة تختزن الخبرات والأفكار بقصد أو بلا قصد. وتتجاوز الذاكرة مخزوناتها التي قد يساكن بعضها بعضها الآخر فتتآلف معاً وتتداخل الصور والخبرات وتتمازج وتتفاعل.. وهذه جميعاً تعد مدخلات، وما يجري بينها من عمليات التفاعل والانتقاء والحذف والتعديل التي تتم داخل الذهن البشري. لكن هذا لا يفسح في المجال للتنبؤ عن مخرجات هذه العملية أو العمليات، أيكون منتجاً إبداعياً أو عادياً، ولا تجد مناهج البحث ما هو مقنع لإعطاء أجوبة أو الوصول إلى أجوبة تريح الباحث وترتاح المخيلة إلى أحكامها. إذ أن الآلية التي تسير بمقتضاها عمليات الإدخال والعمليات الداخلية وبروز المخرجات ما زالت ملتبسة وتخضع لتأويلات علماء النفس وعلماء الفيزيولوجيا... فلا يرتاح العقل لما قد تخرج به هذه التأويلات من تفسير أو إدراج عملية الإبداع في مراحل متتالية..‏

فقد خلعت دراسات متنوعة لعلوم مختلفة على الإبداع وتجلياته وطبيعته تسميات ومصطلحات ستظل موضوع بحث قد لا ينتهي، لأن عالم الإبداع عالم رحب وشاسع ومعقد وهو عالم كثير الغنى بما تفاجئنا به عمليات الدرس والاكتشاف. فكل عمليات الاستيطان والاستنطاق والتأمل والملاحظة على غنى ما تمد به المتابع إلا أن القائمين عليها وممارسيها ما زالوا يجدون أمامهم الكثير من أجل الوصول إلى نتائج من المعلومات ومعارف عن التفاعلات بين الخبرات والمعارف التي تنتج عملاً مما يمكن أن نسميه إبداعاً، أكان اختراعاً أو فناً أو أدباً أو غير ذلك من ضروب الإبداع البشري. لكن تحليل المنتج الإبداعي، بخاصة في ميدان الأدب والفن، ينبئ عن وجود مسبق لعناصره هي جزء من مكنونات النفس الإنسانية ومخزوناتها التي يعود تاريخ حفظها في أعماق النفس الإنسانية إلى عهد الطفولة المبكر، وإلى تلك "الكوكبة من الذكريات أو الأفكار المشحونة جداً من الناحية الانفعالية". وهي مكونات أو خبرات بعيدة عن الشعور الراهن للمبدع. لكنها تسبغ على العمل الإبداعي بعض خصائصها وسماتها. فكأن العمل في هذه الحالة هو ضرب من ضروب التعويض تحدث بفعل جهود تهدف إلى "إعلاء الشأن الشخصي في مجال آخر".‏

(3)الخبرة في العملية الإبداعية:‏

في كتابه الذي ابتكر نظاماً سياسياً (كتاب العالم الصناعي الجديد)، يقول (شارل فورييه): "كشف الحجاب عن مكايد البورصة والسماسرة يتصف بأنه مباشرة عمل من أعمال (هرقل) وأشك في أن هذا النصف إله أحسّ وهو ينظف اصطبلات (أوغياس) بقدر ما أحسست به من التقزز الذي أعانيه وأنا أنبش هذه البالوعة من القاذورات الأخلاقية التي نسميها بيت البورصة والسمسرة المشبوه، وهو موضوع لم يمسسه العلم... ولا بد لمعالجته من ممارس شاخ وهو يمارس هذه الفاعلية وتربى مثلي في الحظائر التجارية منذ سن السادسة. ومنذ هذا العمر لاحظت التضاد بين التجارة والحقيقة، فقد كانوا يعلمونني في كتاب التعليم الديني وفي المدرسة أنه ينبغي للمرء ألا يكذب أبداً، ثم كانوا يقودونني إلى المخزن ليعودوني فيه في وقت مبكر على مهنة الكذب النبيلة أو فن البيع. وإذا صدمتني ضروب الغش والمكر التي كنت أراها، فإني كنت على انفراد أجذب التجار الذين تراءى لي أنهم مخدوعون بها وأكشف لهم.. وكان أحدهم أرعن حين كشف لي خلال شكواه أمراً بقوله هذا الطفل لا يصلح للتجارة أبداً، وقد مقته كثيراً وأقسمت بما أقسم به هانيبال ضد روما:‏

"ألتزم بالكره الأبدي للتجارة.. فإن كنت لا أصلح لها، فإني أصلح لأكشف القناع عنها".(2)‏

هذه الخبرات البعيدة الكامنة في أغوار النفس التي يعي المرء بعضها ويلتبس عليه الكثير منها ويغيب عنه معظمها، يمكن تسميتها بالحالة الخامة للناتج، ويكون كمونها موجوداً وجود قوة عند الشخص بينما يصبح وجودها وجوداً بالفعل بعد بروزها وتشخيصها في نتاجات سلوكية منها الإبداعي ومنها ما هو غير ذلك.. وقد تبرز في كلام مسموع أو في أثر منظور أو مقروء.‏

لكن كون هذه الخبرات مخبوءة تنتظر الوقت والظرف المناسبين لتبرز في أفعال الشخص وأقواله، ليست مجرد التاريخ الفردي كما يمكن أن يرسمه الشهود (الوالدين على سبيل المثال) مجدداً، بل المقصود أحداث الماضي كما كانت تعيشها الأنا بوسائلها الخاصة، وفي الحالة العامة التي كانت توجد فيها هذه الأنا خلال العهود المعنية. فالمقصود إذن في هذه الخبرات الواقع النفسي لا الواقع التاريخي.(3)‏

وحالة الإبداع التي لا يمكن أن تصنف نتاجاتها مجردة من خبرات الأنا، لا تساعدنا محاولات تلمسها واستقرائها في القبض عليها. وإن ما لخصه علماء النفس والفيزيولوجيا لها من قوانين، مهما حاولوا أن يأتوا بالبراهين على صحتها والتدليل على مصداقيتها فإنهم لا يفلحون في تقريبها إلى حقيقة هذه العملية العقلية والنفسية الشائكة والمعقدة، كما جرى وصفها من قبل.‏

فما صنفته كتب علم النفس ورتبته على أنه يشكل مراحل عملية الإبداع من (إعداد وتخمر، فكمون، فإشراق، وأخيراً تحقق) ما هو إلا نتيجة عملية مقايسات افتراضية لا تمتلك نتائجها الخصائص التي تقربنا من اليقين. وهي لم تمنح الدارسين أو تقربهم من الاقتناع بها.‏

لذا يظل السؤال مطروحاً: ما الإبداع؟ ما طبيعته؟‏

(4)السمة المشتركة للمقاربات العلمية:‏
ما سبق لا يعني أن ما أحرزه البحث في الإبداع يفتقر إلى الحقيقة العلمية أو أن نغفل نتائجه أو ننتقص من قيمتها.‏

فما سبق ليس بالأمر الغريب عن مسيرة العلوم كافة، وبالأخص العلوم الإنسانية التي ما زال الفكر البشري غير قادر على الركون إلى نتائجها.. لكن ذلك هو من باب ثان مصدر ثراء ومجال للمنافسة للبحث والباحثين وأن تنوع النتائج التي تزخر بها الدراسات في هذا المضمار لتفسح في المجال إلى المزيد من البحث وإلى تفجر طاقات إبداعية فيه.. فكأن البحث في الإبداع إنما لم يصل إلى القرار النهائي في التعريف به والإلمام بجوانبه فهو يحث أو يسبب على بروز الإبداع البشري في جوانب مختلفة من جوانب المعرفة الإنسانية منها الجانب البحثي نفسه. وهذا لا يشكل عيباً في بابنا هذا ولا في مجال العلوم الإنسانية لأن ذلك ليس محصوراً بها، ولكن هذه سمة العلم الحديث بمختلف أبوابه وميادينه فلا نظرية قارة في أي مجال وإنما هي مقاربات وما زالت الحياة تطلب المزيد من البحث وسيستمر الأمر هكذا إلى ما لا نهاية.‏

وهذا الذي نسميه تجاوزاً، نقصاً في نتاج الدراسة في الإبداع مسوغ في كل عمل علمي وهو سر تنامي العلوم وتفجرها بالمعارف المتزايدة وتسارع الاكتشافات وما يرافق ذلك من تطور تقني مذهل وزخ للمعارف والمعلومات مدهش. وهذه هي إحدى سمات العقل البشري الذي من أهم خصائصه الديناميكية والفضول، فما أن يستريح ويصل إلى حدود القناعة ويكاد يحصل على الاطمئنان لما حققه من نتائج وابتكره من تقنيات ترتكز إلى المقاربات العلمية التي وصل إليها ويكاد يحصل على عطلة له من خلال البراهين المحسوسة على صحة ما أنجز حتى تنفتح أمامه الأسئلة من جديد وهي أسئلة تتكاثر باستمرار وقد تطرح شكوكاً فيما أنجز أو تبحث عن تعديل له أو تغير في مسار البحث. وهذا هو أحد ملامح السر فيما نلاحظه في سلوك المبدعين من انفعالات عنيفة تصل أحيانا حدود الغضب.‏

ويمكن استقراء ذلك فيما يقوله المبدعون في مجالسهم ومسامراتهم وفيما يبوحون به خلال الحوارات التي تجري معهم، وفيما يكتبونه بصراحة أو ما يستشف في كتاباتهم خلال بعض السير الذاتية أو شرح مراحل عمل أنجزوه أو توقفوا عنه قبل استكماله أو عزوفهم عن الاستمرار به.. الخ.‏

ووجوه المعاناة متنوعة وكثيرة، والانفعالات التي يتعرض لها المبدع متنوعة وتبدو أحياناً متناقضة. فتنتقل عنده بين حديها النهائيين- إذا صح التعبير.. إذ لا نهاية في أي فعل بشري أو انفعال- من حدود الفرح القصوى إلى حدود الغضب الأبعد، ومن النشوة إلى الألم ومن الشعور بتحقيق الذات إلى الشعور بالإحباط والفشل وربما إلى الشعور بالإثم.‏

(5)من شهادات بعض المبدعين:‏

يسبح المبدع دائماً في محيط من الانفعالات المتلاطمة تستغرقه حيناً استغراقاً كلياً، وأحياناً استغراقاً جزئياً. يتحاور داخله الخوف مع الأمل، الحب مع الكراهية، الحزن مع السرور، البكاء مع الضحك، وقد عبر (فولك فريجيل) عن هذا الوضع في مرثيته لسيدني، حيث يقول:‏

"الصمت يفاقم الحزن، في حين تؤجج الكتابة الغضب".‏

فردود الفعل على الإنجاز مهما كانت درجته وكان مستواه والشروط التي يتمتع بها فيها الكثير من الاستجابات العنيفة للحالة النفسية الفريدة والمتميزة من حالات النفس البشرية في تلاؤمها، وفي حالات شعورها بالحاجة إلى التوازن الذي تطمح في الوصول إليه أن تنعم بالراحة والأمان ولو إلى حين. ولعل أشد حالات العنف التي يتعرض لها المبدع تتمثل بالغضب.. وليس غريباً عن ذاكرة القارئ، ما فعله ذلك النحات بعد أن أنجز عمله.. إذ هاجمه بالمطرقة وبدأ في تكسيره إذ لم يعد يحتمل روعة ما أنجزت يداه.‏

ألا يسأل كثير من المبدعين أنفسهم عن ذلك العنف الذي يتملكهم في حالات من حالات القيام بإنجاز بعض أعمالهم؟ ألا يتحدثون إلى أنفسهم وإلى الآخرين عما فعلوه وسيفعلونه وكأنهم في معركة حربية.. لنقرأ ما يلي:‏

"ماذا أفعل.. لقد أجهزت بالفأس والسكين لا بالقلم على جسد اللغة قطعته أشلاء، أعدت صوغه، ركبته من جديد مخلوقاً سوياً، لا ليس مخلوقاً سوياً، بلى صار مخلوقاً سوياً. جمعت الأجزاء المبعثرة خلقتها خلقاً جديداً رائعاً غير مسبوق في شيء من ملامحه وأجزائه.. لكن!‏

آه.. أين تلك النشوة التي خلت أنها ملأت عليّ كياني؟.. أين هربت؟ ما شعرت به كان وهماً.. لا. هذا الذي فعلته لم يكن كما تصورته.. انقلبت سحنته تغيرت ملامحه.. خُدعت به..‏

هذا العجين الذي عركته وصيرته خبزاً شهياً، أو خلت أنه خبز شهي.. ما عدت أرغبه.. أخشى أن يتآكل كل لونه، أن يفسد طعمه وهو لما يزل تحت ناظري.. فكيف إذا تناقله المتلقون وتداولوه؟"‏

بين العمل الإبداعي والزواج أكثر من وجه للتشابه والتطابق. فحيث يبدأ الزواج تأخذ البهجة بالزوال.. كلاهما الإبداع والزواج تكونهما الدهشة.. لكنها سرعان ما تغدو سراباً ويفتقدان لما تصورته الرغبة ويصوره الحب بريقاً لا يزول.‏

يتساءل المبدع:‏
أحقاً ما أنجز يستحق الإعجاب؟ وهل يعبر هؤلاء المتلقين بصدق عما يشعرون به في اتصالهم بالعمل المنجز؟ أيكون ما يسمع ويقرأ عن هذا العمل شكلاً من أشكال المجاملة.. أو أن المقصود به الخدعة؟ ألا يبوح بعض الناس بأحكام عن أعمال سمعوا بعناوينها ولم يقوموا بعملية تواصل معها؟‏

شكوك كثيرة تراود المبدع وقد تدفعه إلى نقطة يفقد عندها كل ما يربطه بالحياة.‏

ومن المبدعين من إذا أدركه شعور اليقظة تأخذه الدهشة إلى حين.. ومنهم من يستبد به الغضب.. وأحياناً قد يدرك صمت عمله.. فيتبرأ منه أو يحكم عليه بالإعدام قد يكون هذا الذي ذكرنا حالات نادرة إذا أخذنا بالحد الأعلى الذي وصفناه، لكنه حاصل عند من كان الإبداع هاجسه ومحركه وإن بدرجات متفاوتة. إذ ليست طباع المبدعين على صورة واحدة، فمنهم الانطوائي، ومنهم المنبسط، ومنهم العنيد ومنهم المتسامح.. كما أن فيهم من كان ذا ترجيع بعيد ومن هو على العكس من ذلك ذو ترجيع قريب.‏

لكن أبرز ما يجمع المبدعين في علاقاتهم بما أنتجوه هو الشك وهو إحدى سمات الصحة في العمل الإبداعي.‏

فالسؤال المحيّر دائماً هو: هل الكلمات والجمل والصور التي جرى التعبير بها كافية لتوصيل الهدف إلى المتلقي؟ وهل هي قابلة لإقناع المتلقي وأنه يمكن أن يشعر بحاجته إليها.. أما أنها دون مستواه أو أعلى من ذلك بحيث يعزف عنها في الحالتين؟‏

عبّرت الروائية المعروفة (ليلى عسيران) في إحدى المقابلات معها عن هذا الشعور بقولها:‏

"كثيراً ما يحار الكاتب بالكلمة، فهي أحياناً أكبر من شعوره، وأحياناً أصغر. وكثيراً ما يغرق الكاتب في التفتيش عن الكلمة المناسبة حتى يكاد ينسى المعنى، ولذلك قلت يحار بالكلمة التي هي رئة الكاتب وهي أنفاسه وهي ألوانه".‏

الأسئلة المحيرة قد تسبق العمل، وقد يطرحها الكاتب على نفسه أثناءه، وفي أحيان كثيرة بعد إنجازه. وهذا ما يضيّع عليه معنى أو يفقده فكرة أو صورة كان على وشك التقاطها.‏

وكثيراً ما يتوقف الكاتب مثلاً عن الإفصاح بالكلمة أو الجملة ليرسم على الورق خطوطاً أو أشكالاً يحاول من خلالها إعادة نشاطه إلى مساره بعد أن كاد يضيع في متاهات الأسئلة. وقد ينتابه شعور آخر كما فيما تعبر عنه (ليلى عسيران) فيما يأتي:‏

"أنا من الكتاب الذين بدؤوا يشعرون أن الصورة قادرة أحياناً أن تلتقط أكثر من الكلمة لأنها تستوعب اللحظة بكل تفصيلها في الوقت ذاته. وبما أني من اللواتي يهتممن باللحظات المكثفة والمشاعر والحوادث، فإني كثيراً ما تمنيت أن أكون مصورة فوتوغرافية".‏

قد تضيق العبارة بالفكرة. أليس هذا شعور معظم المتعاملين بالإبداع وبالكتابات الإبداعية؟‏

وإذ يتوقف المبدع عند عقدة ما، أو يستوقفه حدث أو فكرة.. لا يعني- كما قد يخيل له- أنه قد رفع علم الاستسلام.. وفي هروبه من شكل إبداعي إلى آخر قد يكون فيه إغناء لما يبدعه وللأدب والفن، ولكن هذا الهروب لا يكون نهائياً فقد يستمر فترة تطول أو تقصر.. لكنه سرعان ما يعود إلى مساره. ومن الحوار المذكور مع ليلى عسيران نقرأ:‏

"هناك شعور بالنسبة لي هو شعوري بالحاجة إلى اللون، إلى التعبير عن حوادث معينة، ولا سيما فيما يختص بالمشاعر. فإني أشعر أحياناً أني عندما أفتت المشاعر إلى كلمات يزول الكثير من رونقها، وكثيراً ما يفي اللون بالحس. بل وكثيراً ما يختصر اللون مختلف أنواع المواقف. ولكن ليس هناك أمام الكاتب إلا الكلمة يلبسها مشاعره، ويلون بها حوادثه. تصبح اللغة مع الوقت، بالنسبة للكاتب، كالعجينة بيد الإنسان، تدخل اللغة مشاعري، تختلط بحركتها، وأتعذب كثيراً إلى أن ألتقط الخط القادر على ربط الأحداث والمشاعر في لحظة واحدة..!!‏

إن عملية الإبداع عملية مضنية ولا يغادر القلق الإنسان المبدع ولا ينجو من التوتر إلا ليعود ليه. أليس ذلك من مقتضيات عملية الولادة؟‏

(1) التوحيدي: الإمتاع والمؤانسة ج1 ص 10- عن محمد بركات مراد: نظرية الفن والجمال عند التوحيدي- الطريق- ص 44- 2/61.‏

(2) روجر موشلي: العقد النفسية- ترجمة وجيه الأسعد ص 88- وزارة الثقافة 1988.‏

(3) السابق- ص 51.‏

 

التوقيع

 


تِدفا على جال ضوه بارد إعظامي=والما يسوق بمعاليقي ويرويها
إلى صفا لك زمانك عِل يا ظامي=اشرب قبل لا يحوس الطين صافيها
 
 

التعديل الأخير تم بواسطة : ابومحمد الشامري بتاريخ 01-04-2005 الساعة 03:50 PM.
رد مع اقتباس