عرض مشاركة واحدة
  #3  
قديم 01-04-2005, 03:18 PM
ابومحمد الشامري ابومحمد الشامري غير متصل
ابوحمد الشامري ( سابقا )
 
تاريخ التسجيل: Dec 2004
الدولة: شـبـكـة مـجـالـس العجمـــــان
المشاركات: 19,132
معدل تقييم المستوى: 10
ابومحمد الشامري قام بتعطيل التقييم



من المبدع إلى المتلقي

(1) الإبداع والانفتاح على الواقع والناس:‏


ستبقى الظاهرة الإبداعية تمثّل لغزاً في تاريخ العلوم الإنسانية. فهي القدرة الأكثر تعقيداً بين قدرات الإنسان العقلية والمعرفية. في مقدمة كتبها عالم النفس البريطاني (سيريل بيرت) لكتاب (نعمة الإبداع) لمؤلفه (آرثر كسلر) وصف الظاهرة الإبداعية من خلال نظرة تاريخية بقوله:‏

نعمة الإبداع كانت معروفة منذ أزمان بعيدة جداً وكان ينظر إليها بكثير من الإجلال والإكبار كما لو كانت هبة إلهية مقدسة، كما أن الأساطير اليونانية كانت تلحق قوى الإبداع والموهبة الإبداعية إلى بعض الأبطال الأسطوريين العباقرة من أمثال (برومثيوس) مؤسس أقدم مدرسة للطب. فهؤلاء جميعاً يظهرون في الثقافة اليونانية القديمة على أن فيهم نفحة من الآلهة، ويتميزون بوجود عنصر إلهي في تكوينهم أو على الأقل عنصر إعجازي يفوق قدرات البشر الآخرين(1).‏

جرت العادة، ردحاً من الزمن، أن يقرن الإبداع بالذكاء، وقد وصفه بعضهم بأنه نوع من الذكاء العالي، أو أنه الذكاء في أعلى مستوياته. لكن الإبداع يجاوز الذكاء ويبدو للباحث من طبيعة أخرى قد لا تكون مغايرة كثيراً لطبيعة الذكاء الذي يعرف تعريفات عدة، من مثل القدرة على التكيف أو القدرة على حل المشكلات. إلا أن الإبداع في تجاوزه لمفهوم الذكاء فإنه يشق دروباً جديدة ولا يحل المشكلات حلاً تقليدياً أو معروفاً بل يخلق عوامل مبتكرة مخالفة للمألوف. وغالباً ما تكون الاستجابة في حالة الإبداع مفتوحة على شتى الاحتمالات، وليس ذلك فحسب فالعقل الخلاّق لا يقتصر دوره على خلق المبتكر والجديد وإنما يمتلك القدرة على تقبل الجديد المبتكر.‏

فليس الإبداع صفة المبدع للجديد فحسب، وإنما صفة للمتلقي القادر بحدسه ونفاذ بصيرته أن يكتشف الجديد ويتقبله.‏

والعمل الإبداعي (نصاً كان أم لوحة أم مشهداً..) الذي لا يستثير في المتلقي ردوداً متنوعة ويفتح ذهنه على أكثر من احتمال يفقد الكثير من عناصر الإبداع. أما النص أو العمل الذي لا يعطي أكثر من إجابة مهما كانت دقيقة فهو لا يمتلك سمات إبداعية كافية. العمل الإبداعي يضع المتلقي داخله فيشارك في صنع الصور واقتراح الحلول والمسارات ويفسح لـه في المجال للتنبؤ والاستشراف.. لذلك فإن النص المفتوح يظل نصاً محرضاً للقدرات العقلية ومنشطاً لها ومحفزاً.‏

مهما كانت نتيجة الإبداع (شعر) قصة، رواية، مسرح، عمل تشكيلي، اختراع علمي، مقاربة علمية، فالعمل الإبداعي يشكل منظومة مشرعة الأبواب والنوافذ على منظومات أخرى، وإلا، فسيكون محكوماً عليه بالموت. وهذا ما تدل عليه مقاربة النظم التي ترى في الكون سلسلة منظومات متشابكة يتداخل بعضها بالبعض الآخر في عمليات استغراقية كلية أحياناً وأحياناً جزئية تؤثر وتتأثر ببعضها. لذا فمقولة (الفن أكبر من شراحه) تظل قابلة للتصديق. فمهما علا كعب الناقد، ومهما كان النقد يحمل من صفات الموضوعية والدقة فالطريق إلى أغوار النص ليست بالسهلة وقلما تصل بسالكها إلى النهاية أو تستنفذ النص، إلا إذا كان النص مغلقاً على ذاته غير قابل للتأويل والشرح والتفسير وآنئذ يفقد الكثير من مواصفاته الإبداعية.‏

وتبقى نظريات النقد –كما يقول أحمد أبو زيد- نظريات جزئية، متحزبة متميزة، وذاتية، وقابلة للحوار والمناقشة. أما الأحكام التي تصدر عن الناقد فينبغي لها أن تكون تقريبية فلا تدعي الإحاطة بجوانب العمل وجوهره. ذلك أن العمل الفني الذي يستحق هذه التسمية هو (مجموعة من الأفكار والآراء والأحاسيس المتشابكة والعواطف والتجارب المعقدة التي خضع لها المبدع(2).‏

لكن السعي لتفسير الخاصية العمومية والكلية للعمل الإبداعي التي لا يحدها زمان أو مكان تظل مشروعة، على ألا يعطي أي كان لتفسيره صفة اليقين أو أن يجعله مسك الختام في عصر انهيار اليقين حتى في ميادين العلوم الأساسية.‏

لنصغ إلى صدى قراءة هذا النص في دواخلنا لجلال الدين الرومي:‏

"استمع إلى الناي كيف يقص حكايته، إنه يشكو ألم الفراق.. ويقول: إنني منذ قُطِعتُ من منبت الغاب والناس رجالاً ونساء يبكون لبكائي، فكل إنسان أقام بعيداً عن أصله يظل يبحث عن زمان وصله، إن صوت الناي هذا نار لا هواء، فلا كان من لا تضطرم في قلبه مثل هذه النار".‏

فعملية الإبداع لا تجري بعيداً وفي اتجاه واحد، ومن أجل هدف محدد الإطار ثابت إنما هي تتحرك وتتخذ أشكالها المختلفة بتأثير من تفاعلات نوعيةّ، يشكل كل من التواصل والاتصال والتفاعل بعض أهم جوانبها. فالمبدع ليست بينه وبين المتلقي حواجز أو موانع. ولا يتصورن مبدعاً لا يضع في اعتباره أولئك الذين يتلقون نتاجه. فالمتلقي قابع في ذات المبدع في أشد لحظات إشراق الفكرة ومكابدة ولادتها لتصير وجوداً حاضراً بالفعل بعد أن كانت مجرد إمكانية.‏

(2)-المبدع والمتلقي (حالات من سوء العلاقة والانسجام):‏

يقول الناقد الأمريكي (واين بوث) في كتابه (بلاغة القصة) الكاتب (يخلق في نصه صورة عن نفسه وصورة أخرى عن قارئه... فهو يصنع قارئه كما يصنع نفسه".‏

بعملية تبسيطية يمكن اكتشاف بعدين للفعل الإبداعي لا ينفصلان، ولا حدود فاصلة بينهما فهما متكاملان متفاعلان يعانق أحدهما الآخر –هذان البعدان هما: بعد ذاتي يتعلق بالمبدع نفسه، وبعد خارجي يتعلق بالأخر، وهو هنا المتلقي المفترض، عناصره حالات فردية وجماعية، وربما رأي عام، وعناصر بيئية متنوعة ومختلفة.. وفي الوقت الذي تختل في أثنائه العلاقة بين المبدع والمتلقي بحيث تتخذ شكل الإحجام أو التنافر، يحدث ما يمكن أن نسميه أزمة في عملية التواصل التي ينبغي أن تكون في اتجاهين متمازجين (من المبدع إلى المتلقي ومن المتلقي إلى المبدع) بحيث تشكل الحركة الثانية عملية تغذية راجعة تدعم الجوانب التي كانت فيها استجابة المتلقي إيجابية، وتبلغ الفاعل بالنواقص الأخرى فيسعى إلى تلافيها في عمل مقبل أو في كتابة ملحق أو توضيح أو استدراك. والإحجام أو التنافر إن استمر في حد القطيعة، فإنه يقود إلى إحباط المبدع والحكم على نتاجه بالعقوبة التي تتناسب شدتها عكساً مع وعي المتلقي لها..‏

لكن العلاقة بين المبدع والمتلقي لا تسير –كما يبدو للوهلة الأولى- حسب هذا الظن الظاهري، وقد يأخذ حدوث الاستجابة من المتلقين زمناً يطول أو يقصر.. وفي كل الأحوال إن المبدع لا يؤخذ بردات الفعل السريعة والآنية وإن كان ذلك يحفزه إلى تعديل المسار، والتوقف للمراجعة وإعادة النظر، أو تغيير المسار نهائياً.. أو تكون المكابرة التي قد تؤدي بالمبدع إلى المخاطر.. كما حصل لـ (غاليله وكوبرنيكوس وغيرهما). لكن القطيعة قد لا تطول وتكون مجرد حالة عرضية.. ويعاني المبدع في أحيان كثيرة من جحود الأقربين وحسدهم فيحسب أنه قد صار وحيداً بلا أصحاب يؤازرونه ويستطيعون إسداء المعونة لمواصلة إبداعه. وقد يصبح عمله سلاحاً يُشهر ضده، فتستنفر في الآخرين الأهواء المرضية من مورثات عقدية متكلسة أو ثارات قبلية وطائفية، ويتلقى اتهامات جاهزة، وقد يجرد من وسائل الدفاع عن نفسه ولا تُتاح له الفرصة ليتلقى محاكمة عادلة وفق معايير عقلية ومنطقية ذات مقدمات سليمة.‏

ومن الأعمال الإبداعية مالا تجد المتلقي القادر على الارتفاع إلى مستواها لسبب أو لآخر، فتفقد هذه الأعمال الفرصة التي تؤهلها لأن تبلغ حقها من التقدير والاستيعاب والفهم. ولحسن الحظ أن ذلك لا يستمر فسرعان ما يأتي الوقت الذي فيه تنصف وتعطى ما تستحقه من اهتمام.. وإن كان ذلك قد يحدث بعد زمن طويل.‏

ومن الصيغ التي تتخذها العلاقة بين المبدع والمتلقي، التنكر للمبدع ونتاجه أو التنكر لـه شخصياً حين يوصم بالجنون أو الانحراف. فتصبح حياته الشخصية هدفاً للتشنيع.. الذي يكون لـه أساس في حياة المبدع وسلوكه أو لا أساس لـه. ولكن المبدع الأصيل يمضي في طريقه ويترك للزمن مصير أعماله.. فهل تأثر جان جينيه كمبدع بما كان عليه سلوكه الشخصي؟‏

ورمي المبدعين بالجنون ليس بالشيء الجديد في علاقة المتلقي بالمبدع وهو ما سنفرد له بحثاً خاصاً. إلا أن ذلك ليس بالغريب كون المبدع –كما يفسّر بعضهم سلوكه ويحلل شخصيته- يتصف في الغالب بكثير من خصائص الطفولة من حيث ميله للانطلاق وعدم مبالاته بالعادات والتقاليد، مما يجد فيه بعض المتربصين به سبباً للنيل من شخصيته بخاصة وأنه يتصرف تصرفات لا تنسجم مع ما يراه الناس تصرفاً سليماً. دعي (لامبير) عالم الطبيعة المشهور لتناول طعام الغداء على مائدة الإمبراطور الفرنسي (نابليون). وقد رأى ذلك العالم في تلك الدعوة شرفاً عظيماً أغدقه عليه الإمبراطور، وعلى الرغم من ذلك نسي لامبير الذهاب في الموعد المحدد. مثل هذا السلوك يستهجنه الناس العاديون وقد ينعتون صاحبه بالجنون والاستهتار. وقد يعامل من الآخرين أنه مجنون فعلاً.‏

هذا لا يعني براءة جميع المبدعين من الجنون والهوس. وتاريخ الأدب والعلم والفن ينبئنا عن من أدت حالات عدم تقبل نتاجاته أو ما قوبلت به من الاستهجان والإعراض إلى حافة الجنون أوالانتحار. لكن حالات أخرى –لحسن الحظ- نرى فيه المبدعين يقومون بعمليات تكييفية أو تكيفية يدرؤون بها الصدمة مثل تبديل البيئة.. وليس غريباً عنا ما يدعى بهجرة الأدمغة.‏

حتى الآن تبدو العلاقة السيئة بين المبدع والمتلقي وكأن أسبابها موجودة عند الثاني مما يثبت براءة المبدع.. مع أنه في كثير من الحالات يسهم بعض المبدعين في تطوير العلاقة إلى حد التنافر عندما يصاب المبدع بالغرور والتعالي. وفي أحايين كثيرة تقوم وسائل الإعلام بدور سلبي حينما تكيل المديح جزافاً لهذا المبدع أو ذاك، أو حين يتطوع بعض النقاد، لسبب أو لآخر في تدبيج الأوصاف بحق أو بغير حق، فيصل الأمر بالمبدع إلى حد الاعتقاد بأنه قد وصل القمة بسبب ما زين له هؤلاء، فيلجأ إلى الإسراف في النتاج إلى مدى يستهلك فيه الكمُّ الكيفَ، فيحكم المبدع على نفسه بموت مؤكد، فلا يدرك ذلك إلا بعد فوات الأوان. وهو موت لا يرتقي بصاحبه إلى مرحلة فقد التوازن بين العمل في ذاته وبين تلقيه.‏

هذه حالات من عدم الانسجام بين الإبداع، كنتاج ومنتج، وبين التلقي وهي حالات لا تشكل قاعدة عامة وتظل في حدود الاستثناء غير المخل.‏

(3)-التناغم بين المبدع والمتلقي:‏

لحسن حظ البشرية لا تكون العلاقة بين المبدع ومجتمعه دائماً علاقة سلبية وغير منسجمة. فقد أتيح للبشرية مبدعون في مجالات الحياة المتعددة والمتنوعة أسهم في تجميل الحياة، بحيث أن المتتبع لتاريخ البشرية ووجودها فوق كوكب الأرض يكتشف أن حياة الإنسان كانت سلسلة من العمليات الإبداعية التي أطلقت يده وعقله في هذا الكون، فأسهمت في تنامي الوحدة بينه وبين ناسه في الوقت الذي يسهم الإبداع في جعل الإنسان –فرداً- يبلغ تحقيق شكل من الوحدة مع نفسه. فكأنه بوساطة الإبداع تمكن من إدراك الوحدة داخل التنوع، فلا تناقض ولا تعارض، وهذا هو سر جنوح العلاقة إلى نوع من التوازن ما أن يلم به بعض الخلل حتى يعود إلى حالة الانسجام في تناغم كوني لا يملك المرء معه إلا التسبيح بقدرة مدبر الأكوان. وهذا أحد نتائج العلاقة الإيجابية بين المبدع ومجتمعه. فالإحساس بالرضا والبهجة عند إنجاز العمل الإبداعي، وبعد ذلك عند تذوقه هو مربط الفرس في هذه العلاقة المنسجمة والمتناغمة. هذا الإحساس بالتوهج المشترك هو ما عناه الروائي (س.ب.سنو) في حالة ذلك الشاب الذي تأكد له صحة ما وصل إليه من جراء عمله الذي كان يجربه على التركيب الذري للبلورات حيث قال:‏

"انتصاري وبهجتي ونجاحي كلها تحيط بي، بيد أنها بدت تافهة بجانب هذه النشوة الصافية، لقد بدا الأمر كما لو كنت أسعى للعثور على حقيقة ما خارج ذاتي، وأصبح العثور عليها للحظة واحدة جزءاً من الحقيقة التي كنت أبحث عنها وكأن العالم كله، الذرات والنجوم، كانت مشرقة بصورة رائعة وقريبة مني وأنا قريب منها حتى أصبحت جزءاً من نورانية أنصع وأروع من أي سر مقدس"(3).‏

(4)-في الإبداع عودة الذات إلى موضوعها:‏

نشوة المبدع الصافية كيف تنتقل إلى المتلقي. وبكلمة أخرى كيف تنبجس من داخل هذا الأخير تلك البهجة؟‏

يتعامل المبدع مع الأشياء من حيث ما تمثله لأناه، ومن حيث تبدو مقدرته على إمتاع المتلقي وجذبه نحو موضوع، ومن حيث قدرته على أن يجعل لموضوعه لدى المتلقي الوظيفة نفسها أو قريباً مما يراه هو أو يخلعه عليها.‏

فالنوع البشري الذي تباعد الأهواء والشهوات والرغبات المادية بين أعضائه يعيده الفن بأية صورة كان إلى صفائه، ويمهد الطريق إلى وحدة الذات مع موضوعها ودخول الجزء في كله.. إنها اللحظات التي تعود فيها الحركة إلى نقطة انطلاقها، إلى نقطة البيكار، حيث تتلاقى النفوس الجزئية عند سدرة المنتهى، عند النقطة التي كشفت عنها العبقرية الغطاء الذي كانت تلوذ به..‏

هذا التناغم بين الذات وموضوعها، بين العمل الإبداعي الذي يتوسط العلاقة بين المبدع والمتلقي يشرحه يونغ بقوله:‏

"فاوست هو الذي خلق غوته وليس العكس، فاوست موجود في أعماق كل ألماني". وفي مقالة بعنوان (الشعر وعلم النفس) يقول (يونغ):‏

"الشعر العظيم يستمد قوته من حياة الإنسان كنوع، وسنخطئ معناه بشكل تام، إذا حاولنا استلال ذلك المعنى من عوامل شخصية".‏

فالأثر الإبداعي ولادة حية وإحضار فاعل للاوعي الجماعي. والمبدع يقوم بدور الأم في حمل هذا اللاوعي جنيناً ثم ولادته بعد أن يكون قد تكامل نمواً ونضجاً في رحمه، وطاف همسات غائمة فيها الكثير من الضباب وعدم التوضيح على كل شفة"(4) الحاجة إلى التعبير عن النفس ، إلى الإفصاح عما يختلج في الأعماق، إلى توضيح المشاعر هي الأجوبة التي تكاد تكون جاهزة لدى كل مبدع حين يُواجه بالسؤال عن مقومات عمله وعلله.. ومشروع دائماً السؤال عن الآلة النفسية في عملية الإبداع وعن سر التناغم بين مشاعر المبدع ومشاعر المتلقي. يقول علي حرب في كتابه (نقد الحقيقة):‏

يبقى النص فضاء دلالياً وإمكاناً تأويلياً، لا يحمل دلالة جاهزة ونهائية والنص الذي يستهوي القارئ يشكل بالنسبة له –على حد قول رولان بارت- موضوع اشتهاء... فهو كالجسد يغري قارئه، ويفتح شهية الكلام لديه، ويحرّك رغبته في المعرفة"(5).‏

(5)-الاتصال الإنساني والدوافع:‏

تعتمد فعالية الاتصال الإنساني على عدد من الدوافع النفسية. ويتمايز المبدعون في قدراتهم على إثارة هذه الدوافع وإشباعها، وذلك بسلوك قادر على الاختيار بين قناتين هما:‏

1-إثارة الشهوات الرخيصة لدى المتلقي ودغدغتها وإتباع الوسائل والطرائق التي تلبي رغبات آنية وضيعة لديه.‏

2-إثارة دوافع تدعم نشاط الأخذ والعطاء بين طرفي المعادلة والعمل على تصعيده. ويتمايز المتلقون في تأثرهم وتفاعلهم مع الرسالة الاتصالية من حيث الضبط المعرفي حسب ما يقول (كلاين)، أي ما يتحقق للسلوك من تنظيم وتكامل بواسطة الانتباه الذي تعمل ميكانيزمياته بطريقة انتقائية. فنظام المعارف والآراء والمعتقدات الذي يتخذه الفرد نحو البيئة ونحو نفسه وسلوكه يمثل ضوابط معرفية تمكنه من انتقاء المعلومات الملائمة، ومن اليقظة في تفاعله واستجاباته لكل المثيرات التي يتعرض لها(6).‏

لكن ذلك لا يعني انقطاع الصلة بين المبدع والمتلقي أو قسر العلاقة بينهما على خصائص كل منهما. فالصورة التي تساعد في رؤية التفاعل جلية بينهما أكثر ما تُرى في الشعر: إذ أن الشاعر دوماً يحس أنه يفتقد الآخر الذي يتصل به، وليس ذلك فحسب فهو "لا يرضيه حال، ولا يقنع بشيء، إنما يريد أن يهجر ذاته، ويطفر صوب الأشياء كلها.. من أجل أن يتوحد في كل الأشياء ويتمرأى في كل الذوات ويرى العيون منعكسة في كل العيون"(7).‏

(6)-بذور العملية الإبداعية:‏

الإبداع عملية تفاعلية قوامها الاحتكاك المباشر والإيجابي بين الفرد والجماعة. فهو لا يتم في فراغ.. يندفع المبدع بنشاط غايته خفض حالات التوتر التي تنتابه وإعادة التوازن.. ومع انغماس المبدع في عمله يتزايد التوتر الدافع..‏

وهذا النشاط الذي تحركه الدوافع وتؤججه العاطفة يبقى نشاطاً عقلياً تنتج عنه صور واستبصارات جديدة. ويعبر (بيكاسو) عن حالة التوتر في الخيال الإبداعي بقوله: يصور المصور كما لو كانت هناك حاجة ملحة تدفعه إلى أن يخفض من إحساساته ورؤاه(8).‏

فالنشاط الإبداعي وقوده خبرات متراكمة منها ما هو شعوري ومنها ما هو غير ذلك، وادعاء المبدع أن له طريقة أو طرائق يتفرد بها من حيث الخلق والإبداع وأنها تعبير عن استقلاله في النظرة والتفكير ما هو إلا زعم (ولا يجد أساساً له من الصحة غالباً، لأن الإسهام هذا لابد أن يكون له مكان بالضرورة داخل نسق منظم متكامل)(9).‏

فأي نص إبداعي "مبني على غياب، ويستعصي على الحضور لأنه يحمل أثر الآخر الذي يسكننا، أو يهجس بالآخر الذي لا يحضر"(10).‏

يفسر المتعاطون بالتحليل النفسي الإبداع كونه تعبيراً راقياً مموهاً ومكشوفاً للخبرات المكبوتة دون أن يشعر المبدع أو المتلقي أنها كذلك. تخرج الخبرات المكبوتة من سجنها في أعماق النفس حين تخف الرقابة الشعورية عليها أو تضعف فتظهر أحلاماً في أثناء النوم أو أحلام يقظة أو زلات لسان أو شطحات قلم، وقد تتطور نصاً إبداعياً..‏

إلا أن الخبرات المكبوتة سواء كانت خبرات مبكرة منذ عهد الطفولة –كما يقول فرويد- أم كانت خبرات موروثة من الأسلاف فيما دعاه يونغ باللاشعور الجمعي، تبقى أهم بذور ومنطلقات العملية الإبداعية ومرتكزات تلقيها وتذوقها.‏

يقول (فرويد):‏

أن عدم حصول الإشباع، وتجربة خيبة الأمل المترتبة عليه هي التي أدت إلى التخلي عن الانغماس في محاولة الإشباع هذه عن طريق الهلوسة، وبدلاً من ذلك اضطر الجهاز النفسي إلى اتخاذ قرار بتكوين تصور الظروف التي في العالم الخارجي، ومحاولة إحداث تغيير حقيقي في هذه الظروف(11).‏

(7)-في الفن والأدب علاج وتطهير للنفس:‏

يكون الإبداع سبيلاً للعلاج، أو لتحقيق التوازن الذي يهدده الكبت، وقد يقود صاحبه إلى المرض النفسي. وتكون العملية الإبداعية قفزة إيجابية يتجاوز بوساطتها صاحبها كل أشكال الخوف المتأصل في الموقف الإنساني كتب غراهام غرين في سيرته الذاتية:‏

"الكتابة أسلوب من أساليب العلاج، وإني لأتساءل في بعض الأحيان كيف يتسنى لمن لا يكتب أو يؤلف الموسيقى أو يرسم أن ينجو من الجنون أو الملانخوليا".‏

ويكون تلقي الأعمال الإبداعية، تذوقاً أو قراءة أو مشاهدة أو استماعاً بدوره أسلوباً من أساليب العلاج والتطهر النفسيين.‏

وبحسب (يونغ) تتبدى عملية العلاج في انسحاب الليبيدو من رموزه الاجتماعية التي كان متعلقاً بها في الخارج. لأن هذه الرموز لم تصلح لأداء مهامها لما أحدثه التطور في تغير الثقافة. وهذا الانسحاب إلى أعماق الشخص يثيرها لتبرز كوامن اللاشعور الجمعي. يرى الناس العاديون هذه الكوامن في أحلام النوم بينما يراها المبدعون في اليقظة عملاً فنياً ناجزاً، يرى فيه المحللون كثيراً من الرموز ا لتي تدل على أساطير الأولين وتجارب الأجيال القديمة. ودليل ذلك عودة فنانين كبار من أمثال (بيكاسو) و(ماتيس)، وكاتب كبير مثل (أندريه مالرو) إلى ذلك المعين الكامن في الفن البدائي، وقبول المتلقين له. فما ذلك إلا تعبير لا تخطئه ذائقة عن تلك الجذور التي لم تمت حيث يتلاقى المبدع والمتلقي عند نقاط مشتركة تلتغي عندها، إلى حد ما، الحدود بين الثقافات. فالمهم –كما يقول ليفي ستراوس- أنّ المرء لا يسير وحده أبداً على دروب الخلق والإبداع.‏

(1) أحمد أبو زيد: الظاهرة الإبداعية –ص 9 عالم الفكر 4/15-1985م‏

(2) أحمد أبو زيد: الاتجاهات الحديثة في النقد الأدبي ص 5- عالم الفكر 9/2. 1978.‏

(3) أنطوني ستور: العبقرية والتحليل النفسي ص38-39 في كتاب العبقرية –عالم المعرفة.‏

(4) محمد المبارك: الآداب –أيلول- 1970، ص77.‏

(5) علي حرب: نقد الحقيقة ص9.‏

(6) عالم الفكر 11/2، ص147.‏

(7) علي حرب، ص19.‏

(8) ؟ : العملية الإبداعية في الفن والتصوير ص128، عالم المعرفة.‏

(9) أحمد أبو زيد: عالم الفكر 62/15، ص‏

(10) علي حرب: ص19.‏

(11) أنطوني ستور، ص318.‏

 

التوقيع

 


تِدفا على جال ضوه بارد إعظامي=والما يسوق بمعاليقي ويرويها
إلى صفا لك زمانك عِل يا ظامي=اشرب قبل لا يحوس الطين صافيها
 
 

التعديل الأخير تم بواسطة : ابومحمد الشامري بتاريخ 01-04-2005 الساعة 03:39 PM.
رد مع اقتباس