عرض مشاركة واحدة
  #2  
قديم 01-04-2005, 03:17 PM
ابومحمد الشامري ابومحمد الشامري غير متصل
ابوحمد الشامري ( سابقا )
 
تاريخ التسجيل: Dec 2004
الدولة: شـبـكـة مـجـالـس العجمـــــان
المشاركات: 19,132
معدل تقييم المستوى: 10
ابومحمد الشامري قام بتعطيل التقييم



( الإبداع والاتصال )

(1) ما الإبداع؟‏


يصدر الإبداع –كما يقول روجرز – عن ميل في الإنسان ليحقق ذاته ويستغل أقصى إمكاناته. وعندما يتفتح ذهن الإنسان أمام خبراته كافة يصبح سلوكه سلوكاً إبداعياً، ويصبح بناءً. هل نستطيع وصف الإبداع وصفاً مقنعاً مهما امتلكنا من القدرات المعرفية؟ يجيب (ويليامز): الإبداع أمر يعزّ وصفه.. ففي لحظات ما يشعر المرء خلالها أن الفعل الإبداعي صار طوع بنانه وقد هبطت على ذهنه أو شعّ ذهنه بشرارة أو قبس منه.. وفجأة يخبو كل شيء.. وفي أحيان يبدو له أن اقتناص الإبداع سهل وفي المتناول، لكن هذه السهولة لا تلبث أن تصبح أثراً بعد عين فتتبدد على نحو يعصى على الفهم.‏

إن الاهتمام بالإبداع كقدرة عقلية عالية إن في مجالات العلم والتكنولوجيا وإن على المستوى الفني والجمالي مطلب إنساني وضرورة ملحة في عالم سريع التغير. وتسعى باستمرار مراكز البحث والدراسات وأشكال التدريب والتمرين لاكتشاف الطاقات الإبداعية وتربيتها. لكن ما يمكن بوساطته أن نضع تحديداً للإبداع والفعل المبدع يبقى سراباً فسرُّ العبقرية يبقى غامضاً.‏

يفترض في المبدع أن يمتلك نوعاً من التفكير المنطلق المتشعب، وبناء على هذه الفرضية فإن العديد من الدراسات ينفي الارتباط العالي بين الإبداع والذكاء كما يمكن أن يظن كثير من الناس الذين يخلطون بين هاتين القدرتين المعرفيتين.‏

لهذا فإن نتائج روائز الذكاء لا تعطي إجابات مفيدة في هذا الشأن. لأن المبدع عامة قلما يلتزم في إجاباته ببنود الرائز.. فإجاباته تجنح نحو الجدّة والابتكار وتبتعد عن المنوالية التي تفترضها مقاييس الذكاء.. فالإبداع ليس مشروطاً بنسبة الذكاء العالية. كما يقول (فرانك بارون) عالم النفس الشهير:‏

"ليس شرطاً أن تكون نسبة ذكائك مرتفعة كي تكون ثاقب الحدس. إذ أن الحدس يعتمد على الإحساس والمجاز أكثر من اعتماده على قدرة الاستدلال والقدرة على الفهم اللفظي وهما مما تعتمده بشكل رئيسي مقاييس الذكاء"(1).‏

(2) سمات المبدع:‏

يركّز الدارسون في محاولاتهم لتحديد شخصية المبدع على عدد من السمات النفسية، لكنهم في تركيزهم هذا لا يقيمون حدوداً فاصلة بين سمة وأخرى، فهذه السمات مترابطة مع بعضها وغير متمايزة، على أنه ليس شرطاً ليكون الشخص مبدعاً أن يحوز عليها جميعها.‏

إلا أنه كلَّما زاد نصيبه منها كان أكثر إبداعاً وتميزاً. وتتمثل هذه السمات في النزوع القوي إلى الجماليات الشخصية، ولب التحدي غالباً ما يكون في التعامل مع متاهة الغوامض في سبيل صياغة هوية جديدة أو كيان جديد، هذا ما يمكن أن نعدّه سمة أولى من سمات المبدع.‏

أما السمة الثانية فتتمثل في القدرة العالية على اكتشاف المشكلات.‏

ومن جهة ثالثة فالحراك العقلي سمة من سمات المبدع يتمثل بالميل القوي إلى التفكير بمنطق المتضادات والمتناقضات عندما يفكر المبدع بالبحث عن مركب جديد للأفكار.‏

والسمة الرابعة تكون في الاستعداد للمخاطر وفي البحث الدؤوب عن الإثارة، ويرتبط بهذه السمة ما يسمى بتقبّل الفشل، وكلما ازداد إنتاج المبدع ازدادت لديه الفرص لإبداع شيء جديد.‏

السمة الخامسة تكون في إشادة المبدع في عمله عالماً خاصاً، لا حقيقة فيه ويشارك في النشاط لذاته وليس من أجل التقدير.‏

ويبقى السؤال قائماً هل استطعنا بما ذكر أعلاه أن نصف المبدع وصفاً على درجة عالية من الدقة وأحطنا بسمات شخصيته إحاطة وافية؟‏

إن عملية الإبداع من أكثر العمليات المعرفية والنفسية تعقيداً، وليس من اليسير أن يصل البحث فيها إلى تعريف محدد جامع مانع..!‏

وسيظل الإبداع ذا طبيعة خلافية مفتوحاً كعملية للدراسة والبحث. فهو من حيث المكانة يمثل أعمق وأوسع وأعقد نوع من أنواع التفكير البشري.‏

(3) عمليات الاتصال‏:

لخّص (لا سويل) عملية الاتصال بالعبارات التالية:‏

"من يقول؟ ماذا يقول؟ لمن يقول؟ لماذا يقول؟‏

ليست عملية الاتصال بالعملية البسيطة مهما بسطناها، وإنما هي عملية مركّبة ومعقدة. فهي من حيث المبدأ علاقة أو حدث تنطوي أو ينطوي على عناصر، إن صحّ القول، المرسل، الرسالة، المرسل إليه. وأي رسالة تتضمن هدفاً أو ترمي إلى غاية وتحقيق غرض. وهكذا تكون هذه العلاقة مكوّنة من أربعة أركان وليس من ثلاثة.. ثم إن ما بين هذه الأركان ليس بالعامل الثابت وإنما هي وما بينها تتحركان في بيئة محددة تمثل الثقافة إحدى سماتها أي أن هذه الأركان تشترك مع بعضها بخصائص معينة أهم سماتها التغيّر وهي ذات طبيعة ديناميكية تؤثر وتتأثر ببعضها في سياق اجتماعي وفي ظروف محددة، أي أنها لا تحدث في فراغ.‏

ويتوقف فهم عملية الاتصال على فهم مادتها أي على فهم الرسالة من حيث محتواها وأهدافها وهي تتكون من فكرة أو أفكار، أو صورة.. وهي تتأثر بطريقة صوغها. ولا ينتهي الأمر عند هذا الحد فالمرسل هو إنسان أو آلة أو برنامج أو مبرمج ومن حيث هو كذلك فإن طبيعته تؤثر في الرسالة ذاتها فإن كان إنساناً محدداً أو قائماً على برنامج ما فإن لبنيته الشخصية (العقلية والنفسية والجسدية، حالة النطق مثلاً) أثرها في الرسالة وبالتالي بالعملية ذاتها.. وكذلك الأمر بالنسبة للمتلقي أو المرسل إليه.‏

هذه الأمور تتفاعل مع بعضها فتنتقل بالعملية الاتصالية من مستوى إلى مستوى آخر أعلى أو أدنى..‏

وفي عملية الاتصال نميز عمليات أخرى تشكل كل منهما عملية اتصالية تتداخل مع غيرها من العمليات حيناً وتستقل عنها أحياناً، من ذلك:‏

1-الاتصال عملية بيولوجية: يتطلب استقبال الرسالة وإرسالها عملية بيولوجية لدى كل من المرسل والمتلقي. وهي تتصل بأنظمة الجسد المتداخلة والمتفاعلة. وتتعلق إلى حدٍ كبير وأساسي بالجهاز العصبي وبالحواس فكل عملية اتصالية تتضمن أو يمكن تحليلها إلى ميزات واستجابات، هذا من ناحية،‏

ومن ناحية أخرى تتجلى عمليات الاتصال من الناحية البيولوجية فيما يسمى تواصل الأجيال، (جيل يتواصل مع ما يليه أو ما سبق عن طريق عملية التكاثر) والذي يحدث عند الإنسان كما غيره من مخلوقات أخرى باتصال الذكر والأنثى في عملية جنسية ينتج عنها اندماج الخلية الذكرية بالخلية الأنثوية.‏

ومن أشكال الاتصال البيولوجي الأخرى ما يتجلى في اتصال بين أفراد النوع الواحد من الحيوانات أو الاتصال بين أنواع مختلفة عن طريق الرائحة أو الصوت أو الرؤية.. إلخ.‏

2-الاتصال عملية سيكولوجية: ما العلاقات القائمة بين الأفراد أو الجماعات إلا شكل من أشكال الاتصالات وترمي هذه العلاقات إلى إحداث تغيرات في سلوك المتلقي، كما أنها تضطر المرسل أيضاً إلى إحداث تغيرات في سلوكه. وعلى هذا يكون الاتصال الناجح –أي القادر على تحقيق أهدافه- هو الذي يستطيع أن يجعل المثيرات قادرة على إحداث الاستجابات المرغوب فيها. وهذا لا يتم إلاَّ إذا روعي في العملية الاتصالية ما عند المتلقي من دوافع وحاجات.‏

ويلتقي الاتصال من حيث الهدف بالتعلم، فكلاهما يرمي إلى إحداث تغير في سلوك المتلقي، ويتمان من خلال عمليات التفاعل بين جهتين (مرسل متلقٍ في حالة الاتصال، معلم –متعلم في حالة التعلم).‏

وهكذا ينظر إلى التعلم نفسه على أنه شكل من أشكال الاتصال، أو أنه عملية اتصالية.‏

3-الاتصال عملية اجتماعية: تبرز نظريات الاتصال المختلفة دور الظروف الاجتماعية التي يتحقق فيها صوغ الرسالة وتحديد أهدافها وكذلك قبولها أو رفضها.‏

ويتعلق الأمر بأهمية الاتصال في حياة الجماعة وتعبيره عن اتجاهاتها والقيم السائدة عند المتلقي.‏

ولا تخفى الأهمية التي للاتصال من الناحية التربوية بخاصة وقد تنوعت وسائله واتسع دورها ليشمل جوانب الحياة المختلفة.‏

(4) الاتصال والإبداع:‏

إذا كانت الرسالة تشكل العنصر أو الركن الأساسي من العملية الاتصالية، فإن صوغها يشكل أهم شروط نجاحها.. والرسالة ليست نصاً مجرداً ولكنها أيضاً موضوعاً وبقدر ما تملك الرسالة من عناصر الجدّة والأصالة بقدر ما تؤدي وظيفة ذات فعالية أفضل خلال العملية الاتصالية.. فبين الإبداع والاتصال تقوم علاقات لا يمكن إغفالها..‏

الرسالة التي تحوز على رضا المتلقي والتي يبحث عنها هذا الأخير تكتسب قيمتها من جملة شروط أو خصائص تتصف بها وأهمها أن تكون حائزة على درجة من المصداقية تساعدها على أن تكون مقنعة. ويتطلب الإقناع في أدنى حدوده، أن تكتسب الرسالة مظهراً مقبولاً من الصدق، وأن تكون البساطة أحد أهم صفاتها.. وإلى ذلك فلا بد من تدعيمها بالأمثلة واستخدام الرموز التي تحمل المتلقي على الاهتمام بها والبحث عن حلول لها فلا يبقى المتلقي مجرد مستقبل وإنما تحرك فيه رغبة الاكتشاف وتحفز فيه دافع الفضول لمشاركة المرسل في فك رموز الرسالة وقراءة ما تنطوي عليه من معان.‏

معد الرسالة قد يكون أديباً أو فناناً وقد يكون إعلامياً أو معلناً وما إلى ذلك وهو لا يعدم الموهبة وإلا ضاعت رسالته في الهواء.. أي كما يُقال تدخل من الأذن اليمنى لتخرج من اليسرى.‏

وأقل ما يوصف بها معد الرسالة أو مبدعها حيازته على قدرة عالية من المعرفة وامتلاكه تفكيراً خلاقاً.. وهي صفات تقربه من المبدع.‏

لكن كثيراً ما تلجأ الوسائط الإعلامية إلى إثارة السلوك الاتصالي عند المتلقي بدبلجة رسالتها مع وسائل وأساليب متنوعة تجذب المتلقي فلا تقتصر في مادتها على نقل المعلومة بل تقدم معها التسلية ومداعبة الخيال واستثارة الشهوات.. فتبتعد في مهمتها عن الموضوعية. إذ أن المشكلة الأخلاقية أو الفكرية لا تثيرها أداة الاتصال وإنما مصدر الإثارة فيها (مضمون الرسالة التي تحملها الأداة)(2).‏

وتكمن خطورة عملية الاتصال، بخاصة في عصرنا، تحول وسائل الاتصال الحديثة إلى قوة مهيمنة في العلاقات الدولية وفي العلاقات بين الجماعات والأفراد.‏

وهو ما يدفع إلى استثارة القدرة الإبداعية عند الأفراد والجماعات إلى أن يصبح بالمقدور الوصول بالوعي إلى مستوى من القدرة على مقاومة الغواية والإغراء وهما من أكثر العوامل تزييفاً للوعي ومن أكثر الأساليب ضرراً بالأفراد والجماعات تمارسها –مع الأسف- مراكز الهيمنة العالمية وتستقبلها المؤسسات التي لا تحرم ولا تحلل في سبيل جني ثمار وأرباح على حساب عقول البشر بأية وسيلة كانت فلا قيم لديها غير قيم الإثراء والسوق والاستهلاك..‏

ولا يستطيع المرء ضبط مدخلات الوسائط الاتصالية المختلفة إذا لم يكن مسلحاً بضوابط معرفية تمكنه من انتقاء المعلومات الملائمة ومن اليقظة في تفاعله واستجاباته لكل المثيرات التي يتعرّض لها. وإذ تكمن وراء عمليات الاتصال محركات وموجهات تتمثل بالدوافع التي تنشط سلوك الأخذ والعطاء بين أطراف هذه العمليات وتدعمها وترتقي بها –كما يقول ليندسلي- وذلك بإقرار سلوك اتصالي على أساس قوى دافعية تحقق فيها وظيفتين متكاملتين: الأولى تنشيطية تحريكية. والثانية توجيهية تنظيمية(3).‏

والاتصال الناجح تنجزه قدرات إبداعية وهي تنطوي على إمكانات النماء والارتقاء. ففيه خبرات تعليمية وتقويم للسلوك وإحساس بالذات وبالآخرين. أي أنه ذو قوام قائم على التمكن الفعال للفرد من نفسه ومن تفاعله مع الآخرين..‏

(5) الإبداع في العلم والفن:‏

الخصائص العامة لعملية الإبداع تكاد تكون متشابهة في أي نشاط بشري فالخصائص العامة في مجال العلم التي أبدع فيها العلماء مقارباتهم الأهم في تاريخ العلم، والخصائص العامة للفنان التشكيلي أو الشاعر أو الروائي لا تختلفان حيث أن العوامل والعمليات التي تؤدي إلى الإبداع في هذه المجالات كافة وإن اختلفت أساليبها وطرائق البحث فيها والمعنى الذي تكشفه. العملية الإبداعية أي كانت تكون مصحوبة بتوتر وقلق يشعر معهما المبدع أنه قد فقد توازنه المعتاد، وأن رغبة شديدة تدفعه لخفض التوتر وإعادة الاتزان.‏

فالتجربة الإبداعية لدى العلماء والفنانين والأدباء والتقنيين وإن حملت سمات متشابهة إلا أنها في كل مجال منها لها خصوصيتها التي تتمايز فيها عن غيرها. لكنها جميعاً تعود إلى نقطة واحدة أو مركز واحد في الإنسان حيث تتمثل الوحدة من خلال الكثرة والتعدد. فثمة ما يربط الكون والإنسان في نظام موحد عام تتخلق داخله نظم فرعية تتداخل فيما بينها وتعود في نهاية المطاف إلى مقرّها الممتد عبر العصور والمسافات.‏

وإن كان ميدان التجربة الإبداعية واسعاً شاسعاً والطرق المؤدية إليه متنوعة ومتعددة.. فإن بحثاً مهما كان القائم عليه أو القائمون عليه ملمين بجوانبه ويمتلكون الرؤية العامة الشاملة لعناصره ومكوناته يعجز عن الإحاطة به الإحاطة النهائية فليس من جواب نهائي في أي بحث إنساني فثّمة نهايات مفتوحة على غيرها.. أي أن النهاية ليست أكثر من افتراض أو مصطلح يعتمد للوقوف عن الاستمرار وقوفاً مؤقتاً قد تتبعه خطوات نحو المزيد إن من قِبل المتنطع لهذا البحث أو من قِبل آخرين يعملون في موازاته أو يتمون ما قام به.‏

ولأن الأمر كذلك فسيكون المجال في هذا الكتاب مفتوحاً على التجربة الإبداعية في مجال الفن عامة والأدب خاصة. وسيكون ما يقدم يتمحور حول علاقة لا تنفصم عراها بين مبدع منتج ومتلق هاو أو محترف.‏

(6) بين يدي التجربة الإبداعية:‏

التجربة الإبداعية تؤكد أن الحياة لا تطلق مخزونها دفعة واحدة، لأنه غني ثري أولاً وهو في طور الاكتمال ثانياً.. فليس من جواب نهائي لإمكانات الحياة التي تبرز لنا في كل آونة جديداً لا عهد لنا به.‏

ولا يقنع الإنسان –كما أنه لم يقنع من قبل- بلعب دور المتفرج المأخوذ بعظمة الكون وجلاله والذي هو لا ينقطع عن الدهشة أمام الجمال وأسرار الوجود التي تتكشف كل يوم عن واحد أو أكثر منها. والكشف الذي يحرزه المرء رهن سعيه ودأبه واجتهاده وامتلاكه أدوات التعبير والحفر على المعاني. والمبدع من تكشفت له آفاق قد يتيسر لغيره الاتصال بها لكنه يشعر بما لا يشعرون به وتكون لديه القدرة على الإفصاح بما يخامره في لحظات يكون فيها في حالة من الكشف والوجد والدهشة.‏

ومن فاته أن ينعم بمثل هذه الحالة لن تفته –إن أراد- حالة يقتنص فيها ما فاض على المبدع في تلك اللحظات لأنه على أي حال يمتلك القدرة على التلقي فتصله الرسالة ويتفاعل معها على قدر جهده.. ويغوص في بحر ما أعطاه ذلك المرسل أو بحر الرسالة التي يبعث بها إليه فيكتشف بدوره ما اكتشف الأول ولربما تحصل لـه ما لم يكن قد رآه المبدع فيما أبدع فتتراءى له من بحر الإبداع لآلئ ودرر قد يتفاجأ صاحب النص أن قد رآها غيره في نصه. وحالة النشوى التي يشعر بها المبدع بعد فيض ما كان مستغرقاً فيه تتصل بالمتلقي في عملية اتصالية لا حاجة فيها لاستخدام الأسلاك التي تربط بين المرسل والمستقبل ودون أن يتحدث هذان الأخيران بصوت عالٍ وجهاً لوجه أو بأية لغة مما تعرفه الأبجديات.‏

حالة الخلق هذه بظواهرها المختلفة الوجوه المتعددة الأشكال كانت باستمرار محط تساؤل الناس على مختلف مستوياتهم المعرفية. إذ خلق الإنسان على الفضول وحب الاطلاع فاجتذبته هذه الظواهر منذ بدء النشاط البشري على ظهر المعمورة وتفاوتت النظرة بين إنسان وآخر نحو المبدعين.‏

فهناك من ميزهم عن غيرهم من المخلوقات فمنهم من ادعى أن هؤلاء مسكونين بالأشباح أو بالأرواح الطيبة أو الشريرة.. أو أنهم تحركهم الشياطين فتمنحهم قدرات مختلفة عن غير ما لدى أبناء جلدتهم من البشر العاديين.‏

وقديماً قيل إن الشاعر إنما تحركه شياطين الشعر فلكل شيطانه.. وقد عرف العرب مثل هذه التهيؤات حين قالوا بموطن لهؤلاء الشياطين من وادي عبقر.‏

وليس غريباً مثل هذه التصورات لأن المبدع عندما يأتي بالمبتكر والجديد يبدو كأنه حطم مألوفاً لأنه يتجاوز المألوف وإلا فهو غير مبدع. وعلى يديه تتكسر الجمل والخطوط والمفردات لتنهض بدلاً منها وفوقها صور وبنى ما لا قبل للإنسان بها من قبل ولا خطرت على ذهنه.‏

وكلما بدا أن الصورة -شعرية كانت أم نثرية، حروفاً أم أشكالاً، خطوطاً أم أحجاماً، نغمات أم ألحاناً- قد جنحت نحو الرتابة أو السكون يأتي المبدع على جناح طائر سري خفي لا تراه عين ولا تسمع لخفقات جناحيه نأمة فيخترق السكون ويفتعل الضجيج وما أن تنقشع حالة المعاناة والقلق ويتبدد السراب والضباب حتى تتألق صور جديدة.. يضج السكون ويخرج عن كونه سكوناً فتكون القصيدة أو الرواية أو اللوحة التشكيلية منها أو الراقصة.. وترتفع نقرات المطرقة على الإزميل فتكون المنحوتة ويكون اللحن..‏

ولا يتأتى إدراك الجمال لمتكاسل أو جاهل أو عابر طريق، بل أن ذلك يحتاج فيما يحتاجه الدربة والمران والممارسة.‏

نحس الجمال فيغدو الإحساس شعوراً ويصير إدراكاً يتذوقه المرء أو يقدّره، وذلك جزء من وظيفة الدوافع في الإنسان. فثمة علاقة بين الشعور بالجمال وتذوقه من جهة وابتكاره، أو خلقه من جهة أخرى. وأولئك الذين لم يروا في الجمال سوى أنه قيمة عليا لم يتسن لهم معرفة أساس هذه القيمة في الحياة العضوية وفي دوافعها الأولية فاتهم أن يروا تلك الدلالات التي تشير إلى أن ابتكار المقطوعة الموسيقية أو الشعرية وتذوقها إنما يرتبط أساساً بوظيفة عضوية (حاسة السمع)، أما فنون الرسم والنحت والتصوير والحفر وما إليها فترتبط بحاسة البصر، كما يرتبط فن الرقص بأشكاله المختلفة وصوره المتعددة بدافع الحركة الذي هو أحد الدوافع الأولية في الكائنات الحية.‏

فالأشياء الجميلة التي ذكرنا والجمال الذي تشتاق إليه هذه الفنون ما هما إلا تعبير لإرضاء حاجات أساسية في حياة البشر. وليست ظاهرة إنتاج الأشياء الجميلة محصورة فيما ينتجه الإنسان. وإنما نلحظه أحياناً عند بعض أنواع من الحيوان فبعض الطيور تزين أعشاشها وتزخرفها، كما أن بعض أصناف من الحيوان تبدي ضروباً من الانجذاب نحو لحن عذب أو أغنية جميلة.‏

ويرتبط إنتاج الفنون بصوره المتنوعة بجملة مؤثرات وعوامل تشكل الحياة الاجتماعية وتوجهها نحو الأفضل. وهو ما يفسر تطور القيم الجمالية وتنوعها. فقد تتغير النظرة إلى الأثر الفني بتغير المتلقي له وبتغير الأزمنة والأمكنة.. لكنه لا بد محتفظ بقيمة فنية جمالية على مرّ السنين.‏

فالحياة جافة إذا لم يبللها طلل من الفن. والفنون جزء من فعل بشري يهدف إلى تطور حياة الإنسان ويحاول استشراف آفاق مستقبله. ومن تآزر ريشة الفنان وكلماته مع قراءة المتلقي وتأويلاته يكشف المجهول عن أسراره. فالفن –كما يقول زكريا إبراهيم- هو بعامة دعوة حارة إلى تكوين إنسان جديد وإبداع مخلوق مبدع.‏

فالفعل الإبداعي إسهام من أجل الإنسان.. نعت (إيلوار) زميله (بيكاسو) بوصفه له أنه أستاذ الحرية الطيب، بعد أن قال له:‏

أنت لا تعلمهم أن المرور بالخيالات السعيدة والحلم بإجازة لا نهائية أمر جميل، لكنك تمنحهم الرغبة في رؤية كل شيء، والشجاعة اليومية لرفض الخضوع للمظاهر الفانية.‏

لو استطاع أحدهم أن ينتزع من قلوبنا حب الجمال لما بقي في عيوننا –كما يقول روسو- أي سحر.‏

فأي ألق هذا الذي نراه في عيني متلق ينظر إلى اللوحة، أو يقرأ المقطوعة الشعرية أو النثرية أو تشنف أذنيه مقطوعة موسيقية أو أغنية جميلة.‏

وأية تربية تستطيع أن تمنحنا القدرة على تذوق الجمال، وأية نشوة هي التي يتيحها عمل خلاق أبدعته مخيلة شاعر أو ريشة رسام. فالعمل الإبداعي يضن بأسراره على المتأمل العابر أو الناظر المتعجل.. الفن إبداعاً كان، أم تذوقاً يظل جهداً وتأملاً أكثر من كونه حلماً وتخيلاً، إنه متعة العقل وفرحة الذكاء. ولا ينفصل توليد النص أو اللوحة وتذوقهما من المتلقي عن الحياة.‏

فحين عرّف (سان جون بيرس) الشاعر، قال:‏

"من يروم التغني بقصيدة شعب لا يكون وحده، بل يكون مع الجموع وتدفعه الجموع"‏

وستنطلق قصائدنا في طريق الإنسان تحمل البذرة والثمرة إلى سلالات إنسان ينتمي إلى عصر آخر.. حتى الشطآن البعيدة حيث يهرب الموت.. الشاعر معكم وأفكاره كأبراج المراقبة معكم، فليواظب على المراقبة حتى المساء، وليثبت نظره على حظ الإنسان وستحولون الأحلام التي تجاسر عليها إلى أعمال".‏

"الفن مسلك للارتقاء وترقية الآخرين، وليس بضاعة ينتجها أصحابها قصد الإثارة والوصف –كما قال كمال جنبلاط- لأجل بيعها والاتجار بها في الأسواق".‏

في جدل الإبداع والتلقي، في خصائص المبدع وتمايز سلوكه وجنوحه للخروج على السائد والمألوف، في عدم فهم تصرفاته ووصفه بالشذوذ تارة وبالجنوح أخرى وبنعته في بعض الأحيان بالجنون تتحدث الصفحات التالية، وهي تعمل على كشف شروط التذوق الجمالي التي يشارك فيها المتلقي المبدع فيكتسب النص نبضاً يحيل سطوره وخطوطه حياة تنفض الغبار عمّا سكن أو بدا ثابتاً فإذا هو دائب الحركة ديدنه النمو، فتكون القراءة إنتاجاً للمعاني ويكون إقفال النص انتهاء للمعنى.‏

فما آية التقاء المبدع بالمتلقي وما هي أسرار الرحلة من مباشرة الإحساسات وإغراء الحواس إلى كشف الأعماق عبر اختبار حالات من الملاحظة والتأمل؟‏

أيكون سر هذا وذاك فيما كشفه (يونغ) بقوله:‏

الأثر الفني هو ولادة الحياة، والإحضار الفاعل للاوعي الجماعي، وأن الشاعر أو الفنان يقوم بمهمة الأم في حمل هذا اللاوعي جنيناً.. ثم ولادته بعد أن يتكامل نموه ويسعى إلى النضج في رحمه، بعد أن طافت همسات غائمة فيها الشيء الكثير من الضباب على كل شفة..‏

فهل تتكشف أمامنا بعض صور التجربة الإبداعية؟ هيهات أن يكتمل العرس سيظل حلماً.. وإلا تكسرت الأحلام وسدت نوافذ الأمل.‏

(1) الثقافة العالمية – ع49-ص 89.‏

(2) فيليب تايلور: قصف العقول –ترجمة سامي خشبة – سلسلة عالم المعرفة 256 ص9.‏

(3) طلعت منصور: سيكولوجية الاتصال ص 147 – عالم الفكر 2/11.‏

 

التوقيع

 


تِدفا على جال ضوه بارد إعظامي=والما يسوق بمعاليقي ويرويها
إلى صفا لك زمانك عِل يا ظامي=اشرب قبل لا يحوس الطين صافيها
 
 

التعديل الأخير تم بواسطة : ابومحمد الشامري بتاريخ 01-04-2005 الساعة 03:35 PM.
رد مع اقتباس