الغزو الفكري بين الاستعمارين القديم والجديد
كان الغزو الفكري الذي صَاحَبَ الغزو العسكري أو لاَحَقَه أو انبثق عنه ، والذي استخدمته القوى المعادية للإسلام لاحتوائه والاستيلاء على أمة الإسلام والتأثير عليها بنحو يجعلها تتجه الوجهةَ التي أرادتها .. كان – الغزو الفكريّ – أخطر وأدق من الغزو العسكري ، لكونه يعتمد السريّةَ ؛ فلا تحسّ به الأمة التي تُغْزَىٰ ؛ فلا تتأهّب لمواجهته حتى تقع في فخّه ، فتعود فاقدة لوعيها الديني الحقيقي ، و الشعور بمتطلباتها القوميّة ، وتحبّ ما يريد عدوّها أن تحبه ، وتكره ما يريد أن تكرهه ، ويعود علاجُها من هذا الداء العضال مُسْتَعْصِيًا حتى على حكماء الأمة وأطبّائها النطاسيين ومفكّريها المتبصّرين .
وإذا كان الغـزو الفكري على أشدّه اليوم ، فإن علماء الأمة ومؤرخيها يرجعونه إلى عصور ازدهار الإسلام ، التي أدركت فيها القوي المحاربة للإسلام أنّه مهما انتصرت عليه في الحروب العسكريّة ، فإنّ انتصاراتها تظلّ وقتية ؛ ففكّروا في البديل الأفضل الأدوم تأثيرًا ، وتوصّلوا بعد تفكير طويل ودراسات مكثفة واجتماعات متصلة إلى ما هو أخطر من الحروب التي خاضوها بالجيوش والأسلحة والعتاد ، علمًا بأنّ الاستيلاء على العقل والقلب والفكر الناشىء فيهما أَمْكَنُ وأَثـْبَتُ من الاستيلاء على الأرض والتراب ؛ حيث إن المسلم ما لم يلوث فكره ويغسل عقله وقلبه لا يتحمل وجود المحتل الكافر على الأرض الإسلامية ، وإنما يبذل قصارى جهوده لإخراجه منها . وقد حدث ذلك فعلاً لدى الحروب الصليبية الماضية كما يحدث حالاً تجاه الاحتلال العسكري الصهيوني الصليبي للأقطار الإسلامية وعلى رأسها فلسطين وأفغانستان والعراق وغيره .
لكن المسلم المغزو فكريًّا ، يعود مريضَ الوعي معتلَّ الفكر ، وعديمَ الإحساس بما يُفْعَل معه من الأفاعيل الشيطانية ، لإفقاده الغيرة الدينية ، وتجريده من الحمية الإسلاميّة و الأصالة الفكريّة ، والتزامه بالثوابت الإيمانية في أدقّ الساعات وأحرج الأوقات ؛ فلا يرى أيّ خطر في وجود اليهود والنصارى المحتلين والقوى الكافرة الماكرة على أرض الإسلام ؛ بل قد يرى أنّ ذلك مما يدرّ الخير على أمــة الإسلام ، ويساعد على تحقيق التقدم المادّي ، والرقي الحضاريّ ، وتنوير الفكر ، ومحاربة MالأصوليّةL و Mالتزمّت الفكريL ونشر Mالتسامح الدينيL وبث روح التعايش السلميّ ، والتفاعل الثقافي ، والتعاطي الحضاريّ ، والتنامي العلمي والتكنولوجي !!.
ولكون الغزو الفكري أدوم وأثبت وأقوى من الغزو العسكري ، فقد استغنت القوى المعادية للإسلام بالأوّل عن الثاني في أغلب الأحوال ، إلاّ عند الحاجة الملحة التي أحوجتها إلى غزو المسلمين عسكريًّا وعلانية وإلى استخـدامها الأسلحة والعتاد والقوة ، أي عندما رأت أن الحالات تقتضي الاستعجال لتحقيق الأغراض التي لابدّ لها من تحقيقها عاجلاً ، كما صنعت إبّان عهود الاستعمار ؛ حيث غزت واحتلت جزءًا كبيرًا من البلاد الإسلامية ، ومزّقت الخلافة الإسلاميّة ، وعملت خلال احتلالها لها على تثبيت منطلقات وإيجاد مؤسسات تقوم من خلالها بالغزو الفكريّ المتّصل ؛ حيث تمكّنت بشكل أقوى وأكثر من ذي قبل من غسيل مخّ أبناء المسلمين ، والاستيلاء على عقــولهم ، وترسيخ المفاهيم الغربيّة فيها ، فعاد كثير منهم – ولاسيما المثقفين بالثقافة الغربيّة – يعتقدون أن الطريقة المثلى والمنهج الأفضل في كل شيء في الحياة إنما هما ما عليه الغرب من الديانات المهلهلة ، والمذاهب المضطربة ، واللغات ذات اللوثات ، والأخلاق المنحلـة ، والأفكار الفاسدة المفسدة ، والدعوات الباطلة ، والحركات الهدّامة ، والعادات السيئة ؛ فتقليدُهم الأعمى في كل شيء ضمانُ الرقي ومجلبُ الخيرات ومبعثُ النهضة الشاملة ومخلصُ من جميع أنواع التخلف التي قعدت بالمسلمين عن الانطلاق نحو الانتصار في مجالات الحياة .
وخلال احتلالها – القوى الاستعمارية المعادية للإسلام – للبلاد الإسلاميّة ركّزت تركيزًا كبيرًا على الغزو الفكري لها ، من خلال وسائل عديدة وَظَّفَتْها بشكل مدروس دراسة عميقة طويلة :
( الف ) استدعت كثيرًا من أبناء المسلمين إلى بلادها الغربيّة ، لتُلَقِّيَهُم التعليمَ في معاهدها وجامعاتها ؛ فعُنِيَتْ بهم عناية كبيرة ، وربّتهم تربية غربيّة ، وشَرِّبتهم الأفكارَ الغربيّةَ ، وجعلتهم ينبهرون بالمنهج الغربي في كل شيء ، ويشيدون به ، ويتغنون بمجده وفضله ، ويؤمنون بأستاذيّة الغرب في كل شيء ، ويُعْجَبُوْنَ بهم الإِعجابَ كلَّه ، وعادوا إلى بلادهم الإسلامية دعاةً متحمسين إلى تقليد الغرب ومحاكاتهم ، وتسلّموا فيها المناصبَ الحساسةَ ، وأمسكوا بزمام القياة والحكم ، فعملوا جهدَهم على نشر الأفكار الغربية ، وأقاموا معاهد وجامعات تعليمية تتبع المنهجَ الغربيَّ ، وتخضع له ، وتبثّه في الطلاب والناشئين و المنتسبين ، فتخرجوا عليه متشبّعين به .
( ب ) عملت على تعليم اللغات والثقافات الغربية في البلاد الإسلاميّة ، وعلى تنشيط الدعوات إلى الزهد في اللغات الوطنية الأم ، ولاسيّما اللغة العربية الفصحى التي نطق بها الرسول S وصحابته ونزل بها عليه القرآن والشريعة الإسلامية ؛ وإلى محاربتها من خلال الدعوة إلى العامّيّة وزعزعة الإيمان بثرائها وغنائها ووفائها بمتطلبات الحياة المعاصرة المتزايدة .
( ج ) أقامت في البلاد الإسلامية دور حضانة روضات أطفال ومدارس وجامعات تبشيريّة ومستشفيات ومستوصفات اتخذتها أوكارًا لأغراضها الخبيثة ، وجذبت إليها كثيرًا من أبناء الطبقة الارستقراطية ، فسممت أفكارهم ، وأفسدت عليهم دينهم وعقيدتهم ، وشكّكتهم في ثوابت الدين الإسلامي ومسلّماته ، فتخرّجوا طلابًا أوفياء لأساتذتهم الغرب .
( د ) سيطرت على مناهج التعليم والتربية في البلاد الإسلامية ، وصاغتها بشكل يُخَرِّجُ أبناءَ المسلمين ، مسلمين بالاسم والجسم والانتماء إلى الطين ، وغربيين في الفكر والعقيدة والسيرة والدين ؛ حتى أصبحوا معاول هــدم خطيرة في بلاد المسلمين ، وسلاحًا فتّاكًا من أسلحة العدوّ المتربّص بالإسلام والمسلمين ، يعملون جاهدين على ترويج الفكر الغربي والعلمانية والديموقراطية الغربية .
( هـ ) إلى جانب ذلك نهضت طائفة كبيرة من الغرب لدراسة الإسلام واللغة العربية ، فسميت بـ MمستشرقينL فألّفت كتبًا مسمومة ، وصدرت عنها كتابات ظاهرها خير وباطنها شرمستطير ، وأصبحت أساتذة في معاهد وجامعات ، فبثت السموم ، وأفسدت أفكار الشباب المسلم ، وأحدثت فتنة فكرية وبلبلة عقدية لدى المثقفين من المسلمين ، وأصبح معظمهم يتكئ على كتبها المملوءة شبهات وشكوكًا في كثير من الثوابت الإسلامية ، ثم تخرج على هؤلاء المثقفين المسلمين أجيال منحرفة فكريًّا ، فتولّوا مسؤولية إحداث الفتنة بين المسلمين .
( و ) وصَاحَبَ ذلك انطلاقُ بعثات تبشيرية كثيرة إلى بلاد المسلمين ، فقامت بحملات التبشير في العالم الإسلامي ، معضدة بالوسائل المادية والأسباب المعنوية والميزانيات الكبيرة .
( ز ) وَجَّهت الدعوة إلى إفساد المجتمع المسلم ، وتزهيد المرأة المسلمة في وظيفتها الأصلية في الحياة ، وترغيبها في تجاوز الحدود التي رسمها لها الله تعالى ، وفي الاختلاط بالرجال ، وإبداء المفاتن ، والسفور والفجور ، والتأكيد لها بأنّها ظُلِمَتْ في المجتمع الإسلامي ، وأنّ لها الحق في التحرر من الحجاب وخلع الطهر والعفاف والخروج من البيت والاشتغال بالسياسة والإدارة والعمل في المكاتب ، متكاتفة مع الرجال ، والعمل مغنية راقصة فنانة وممثلة في السينما والمسرح والتلفاز ومجالس اللهو المشكوفة .
( ح ) وأنشأت كنائس ومعابد فارهة رائعة في البلاد الإسلامية ، وبذلت عليها أموالاً طائلة ورصدت لها ميزانيات ضخمة ، وجعلتها تطل على مناظر خلابة ، ومشاهد جذابة ، وأماكن جميلة للغاية ، حتى تصطاد من أبناء المسلمين من تشاء بحيلها الماكرة ، وإثارة الغريزة الجنسية ، وإقامة الحفلات المختلطة بين الفتيان والفتيات الكاسيات العاريات .
( ط ) وظّفتْ وسائلَ الإعلام المتنوعة للدعوة إلى المسيحية والصهيونية والمنهج الغـربي في الحياة ، وجعلت المنهج الغربي يتمثل في جميع مناحي الحياة : في المباني والمطارات ، في الطائرات ، في المحطات ، في القطارات ، في الفنادق ، في المحلات والمجمعات التجارية ، في البضائع والمصنوعات ، في الألعاب والملاعب ، في المدارس والشوارع . ( اقرأ للتفصيل مقال سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز رحمه الله تعالى في مجلة Mالتضامن الإسلاميL العدد 9 ، السنة 38 : ربيع الأول 1404هـ الموافق ديسمبر 1983م ) .
ولم ينس الاستعمار الحديث أعني أمريكا الصليبية الصهيونية استخدام هذه الوسائل كلّها في البلاد العربية والإسلامية ، فعملت طويلاً على الغزو الفكري لهذه البلاد مباشرة وعن طريق عملاء أوفياء لها في تلك البلاد . وقد رأت أن أغراضها الملحة العاجلة لا تتحق عاجلاً ، فاحتلت بالغزو العسكري الرهيب عددًا منها ، وعجَّلت تنفيذ مخططها الهائل خلال الاحتلال .
وأحدثت تهمًا وجهتها للإسلام ، ماكان يعرفها الاستعمار في الماضي ، وهي أن الإسلام الأصيل يعلّم أبناءه MالإرهابL و MالعنفL و MالأصوليّةL و Mعدم التسامحL .
كما ركّزت على أمركة وتغريب وصهينة المناهج التعليمية في البلاد الإسلامية التي احتلتها اليوم مباشرة أو غير مباشرة ، وهدّدت القادة والحكام فيها بإدخال التعديلات المرضية لديها عليها ، حتى بإخراج السور والآيات والأجزاء الكثيرة من كتب السيرة والتاريخ التي تتحدث عن المسيحية أو اليهودية MبسلبيةL .
وكذلك استعجلت إفساد المجتمع في تلك البلاد بتنشيط دور اللهو والرقص ونشر الأغاني الخليعة والأفلام المتهتكة ، وحمل النساء على السفور ، وتشجيع التعليم المختلط ، وتكثيف الجهود لإنشاء مدارس وجامعات ذات المنهج الغربي .
الاستعمار الأمريكي الجديد يستفيد اليوم من جميع الأساليب التقليديه إلى جانب توظيفه الأسلوب الحديث المطور بوسائل الإعلام الحديثـة وتكنولوجيا المعلومات الحديثة ، لتعطي الغز الفكري زخمًا جديدًا قويًّا فيصبح أكثر مفعولاً من ذي قبل .
إن نفسية الاستعمار الجديد لم تتغيـر عن نفسية الاستعمار الماضي ، وإنما ازداد عداءً للإسلام ، وتخطيطًا لإفساد المسلمين ، وامتصاصًا لخيراتهم ، ونهبًا لثرواتهم ، وتدميرًا لبلادهم ، وتقتيلاً لنفوسهم ، وإزهاقًا لأرواحهم .
ومقاومةُ الاستعمار الجديد ، إنما تتم بنفس الطريقة التي تمت بها مقاومة الاستعمار في الماضي ، أي بالذكاء الديني ، والغيــرة الإسلاميــة ، والصمود والثبات النابع منهما ، وبالتالي بالاستعصام بأمر الله ونهيه ، والاستمساك بهدي نبيه في شأن العدو والصديق ، والإنابة إليه تعالى ، لأنه مغيّـر الليل والنهار ، ومداول الأيام بين الناس ، وهو المعزّ والمذلّ . Mولِلّهِ الْعِزَّةُ ولرسوله ولِلْمُؤْمِنِيْنَL (المنافقون /8) . وصدق الله العلي العظيم إذ قال : Mوَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُوْدُ وَلاَ النَّصَارَىٰ حتى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْL (البقرة / 120) Mوَلاَ يَزَالُوْنَ يُقَاتِلُوْنَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوْكُمْ عَنْ دِيْنِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوْاL (البقرة / 17) .
(تحريرًا في الساعة 12 من يوم الأربعاء 25/ محرم 1425هـ = 17/ مارس 2004م)
نور عالم خليل الأميني