عرض مشاركة واحدة
  #7  
قديم 12-07-2005, 06:24 AM
ابومحمد الشامري ابومحمد الشامري غير متصل
ابوحمد الشامري ( سابقا )
 
تاريخ التسجيل: Dec 2004
الدولة: شـبـكـة مـجـالـس العجمـــــان
المشاركات: 19,132
معدل تقييم المستوى: 10
ابومحمد الشامري قام بتعطيل التقييم

المتنبي عنوان على مرحلة
القصائد التي تنضوي تحت هذا النمط من التعامل مع شخصيّة المتنبي، يحمّلها أصحابها جزءاً كبيراً من المواقف التي فرضتها المرحلة التي كُتبت فيها هذهِ القصائد؛ وذلك انطلاقاً من سمات متشابهة بين تلكَ الحقبة التي عاش فيها المتنبي؛ وتلك التي يعيشها الشعراء المعاصرون أنفسهم؛ بمعنى آخر قد نَرَى شاعِراً يستحضرُ -من خلالِ استدعائِهِ للمتنبي- تلك التجزئة والفرقة اللتين عاشهما العالم العربي في زمنِهِ ويسقطهما على الواقع الراهن، فنجدُ المتنبي وقد أمسى عنواناً لمرحلةِ التجزئة، وقد نجد شاعراً آخر يستحضرَهُ ليتحدّثَ من خلالِهِ عن قائدٍ كسيف الدولة يقفُ في وجهِ الروم ويحمي بلاد العرب ليصلَ من خلالِ ذلك إلى إدانةِ الواقعِ العربي الراهن كما فعَلَ -على سبيل المثال- محمّد مصطفى درويش في قصيدتِهِ "قراءات محظورة في ذاكرة المتنبي"؛ حيثُ يقول على لسان المتنبي:

"دثّروني

بالليلِ والجنونِ

يقالُ: سيف الدولةِ انتحرْ

وتُركتْ جثتُهُ وحيدةْ

تنعقُ مثل الريحِ في العراءِ

زَرعتُ قلبَ ساعةٍ مسلولةٍ

في جسد القصيدةْ

ولذتُ بالبكاءِ" (75)

فيصبحُ استدعاء المتنبي بمرحلتِهِ عنواناً على مرحلةِ تخاذلٍ أو ماشابه ذلك.

سأتناولُ بشيٍ من التفصيل كمثالٍ على هذا النمط قصيدتين، الأولى لفايز خضّور، عنوانُها "المتنبي يقرأُ في كتاب قاسيون" والثانية لأمل دنقل وعنوانها "من مذكرات المتنبي في مصر"، واللافتُ للانتباه أن قصيدة خضّور مكتوبة بعد حرب تشرين التحريريّة 1973، وقصيدة دنقل بعد نكسةِ حزيران، ولكن سنة 1968.



آ- فايز خضّور والمتنبي
تتألف قصيدة "المتنبي يقرأ في كتاب قاسيون" من ستة فصول، ومقدّمة جاءت في أربعة مقاطع، وقد استهلَّ الشاعر كلاً من الفصول والمقدّمة ببيتٍ للمتنبي، والحقيقة أن عملية تقسيم القصيدة إلى مقدّمة، وفصول مرّتبة بشكلٍ متنامٍ، أمرٌ لايسيء إلى النص، ولايمزّقُ كليتَهُ وبناءه، بقدر مايعكس رغبة خضّور المعروفة في إخراج الهيكل المعماري للقصيدة الحديثة من دائرة النمطية والتقليد! بالإضافة إلى انسجام هذا التقسيم مع عنوان النص! فالنص "كتابٌ" والكتب عادةً تتألف من مقدمات وفصول مختلفة، ولكلِ فصلٍ أن يعالج فكرةً ما، موضوعاً جديداً يختلفُ عن سابقهِ أو يعمقّه وينميّه..

الملاحظة الأولى التي يجدرُ ذكرها، أن المتنبي غير موجود إطلاقاً إلا في العنوان، ولو حذفتَ اسمهُ من عنوان القصيدة لوجدتَ نفسك أمام نصٍ لاعلاقة لهُ من قريبٍ أو بعيد إلا بفايز خضور والوطن العربي سنة 1973. ولهذا فالعنوان يؤُثّرُ هنا تأثيراً دلاليّاً رئيساً في النص، بالإضافة لأبيات المتنبي المختارة بأناةٍ وذكاء، والتي لاتشكلُّ عكازاً للنص، بقدرِ ماتدخل في علاقة تأُثير متبادل معهُ، ويستطيع القارئ أن يدرك مالهذه الأبيات من أهميّة، حين ينتبه أن أربعة فصول من ستة استهلها الشاعرُ ببيت من قصيدة المتنبي الأشهر "على قدْرِ أهل العزمِ تأتي العزائمُ"، وهي القصيدة التي قالها يمدَحُ سيف الدولة بعدَ انتصارهِ على الروم سنة (343هـ-954م)، وبنائهِ ثغر الحدث.

أما البيت الأول الذي يفتتح به المقدمة وهو :



وتخافُ أن يدنو إليكَ العارُ



للهِ قلبُكَ ماتخافُ من الردى




فهو من قصيدته التي قالها يمدحُ سيف الدولة أيضاً، وقد سألهُ السير معهُ لمّا سارَ لنصرةِ أخيهِ ناصر الدولة ومطلعها:



وأرادَ فيكَ مُرادُكَ المقدارُ



سِرْ! حلَّ حيث تحلّه النّوارُ




وبالتالي فإن ربط هذه الأبيات وهي مكتوبة في مدحِ انتصارات عربيّة نادرة في زمنٍ كانت فيهِ الإمارات العربيّة المتَبقيّة من الدولة العباسيّة تخوض حروبها الخاصة فيما بينها! ويحاول كل أميرٍ أو سلطان أن يجدَ لهُ متراً مُربعاً يبني عرشهُ عليه، إن ربط هذهِ الأبياتِ بنصٍ حديث يكتبُ في زمنٍ شديد الشبه بالزمن المذكور! زمن تحاول فيهِ دولتان عربيتان أن تحققا نصراً عربياً على عدوٍ في منتهى الشراسة، وتفلحان إلى حدٍ بعيد، هي مسألة تنطوي على كثير من الأهميّة.

إن المتنبي في هذهِ القصيدة ليسَ قناعاً فنياً، خضّور يحاولُ أن يستدعي هذهِ الروح العظيمة التي شهدت نصرَ سيف الدولة على الروم، وبناءَه لثغر الحدث على جماجم الأعداء في زمنٍ هو زمن التردّي العربي، لتأتي الآن وتحوّم فوق جبهات القتال! فوق جبل الشيخ والحمّة و طبريّا وسيناء، وقناة السويس، وتشهد حدثاً عظيماً في مرحلة سوداء من مراحلِ حياة العرب....

إن المقدّمة ومعظم الفصول تأتي على لسان متحدثٍ ما، أغلب الظن أنه فايز خضّور نفسه رغم تعدّدِ وتغيّر ضمير المتكلم، أما المتنبي فهو الشخص الذي وَضَع قاسيون كتابهُ بين يديه وقال له: اقرأ بنفسك.

فراح يقلّبُ صفحاته، ويقرأها فتثيرُ في ذهنهِ ذكريات قديمة تأتي على شكل أبيات قليلة تصفُ شيئاً مشابهاً للحدث المعاصر.

في المقدّمة وقبلَ أن يتسنّى للمتنبي أن يغوص في فصول الكتاب نسْمعُ صوت الشاعر المُنْشِئ الذي يمتزج بأصوات الناس؛ يُعلنُ انتسابهُ إلى العامة الفقيرة التي تصارع وتخوضُ حروبها فلا تحصد إلا الهواء:

"ياعشقنا المجنون

نفنى هنا

نبقى هُنا

وتبقى:

الشاهدَ الوحيدَ في صراعنا

مصيرنا

عذابنا المحكومِ بالولاءِ والرضوخْ"

- الفصل الأول: ويفتتحهُ الشاعر بقول المتنبي:



وأرادَ لي. فأردتُ أن أتخيّرا



أعطى الزمانُ فما قبلتُ عطاءهُ




والبيتُ يعني أن المتنبي لم يقبل ماجاد بهِ الزمان عليه! أي ماوردَ منهُ عفواً دون سعيٍ وجد لأنه لايقبلُ شيئاً لايحصّلهُ بجهده، ولأنه لايُريدُ للقدر أن يرسم لهُ كل شيء.

في البيت إصرارٌ على دور الإرادةِ والصبر في بلوغ المعالي والرتب

ثُمّ يبدأُ الفصلُ هكذا:

"نبدأُ الهجرةَ الدمويّةَ، من لثغةِ الجرحِ،

ولولةِ البرقِ

نبدأُ نفخَ صورِ الشهادةِ.

(قدرٌ نحنُ).

أيّها الوطنُ الثأرُ. أُعْليكَ نسراً،

وأصفيكَ دربَ خلاصٍ.."(77)

أول مايلفت انتباهنا أن ضمير المتكلم هنا، هو ضمير الجماعة، وليسَ المفرد، فندرك أن صوت الشاعر هو صوت الشعب.

"(لغةٌ نحنُ)

ننتخي بالأهازيجِ، يومَ الجنازاتُ زغرودةٌ

في طريق البطولاتِ.

يومَ التوّجعُ نشوة"

ويتابع الصوتُ التحامهُ بالناس، بل هو صوتها:

" (أُمّةٌ نحن)

حَرّضتنا النزوحاتُ والغدرُ

والهجرةٌ الموسميّةُ:

أن نبدأ الزحفَ

أن نُشعلَ الغارة- الصُبحَ-

أن نحملَ القتلَ كأساً

مشعشعةَ المزجِ

مُترعةَ النارِ

أن نستردَ الحقولَ السليبهْ"(78)

إن هذا الفصل؛ هوالفصل الذي يضعُ بين يدي المتنبي المشكلة، المصيبة، ويعللُ لهُ سببَ الزحف الذي لابُدّ منهُ.

وهكذا نستطيع أن ندرك منذُ البداية أن خضوّراً ماأرادَ أن يلبسَ المتنبي قناعاً، بقدر ماأرادَ منهُ أن يقرأ كتابَ قاسيون ويُعلّق على فصولهِ مُعبراً عن ذلك بتلك الأبيات المتناثرة على مداخل تلك الفصول؛ وعليهِ أستطيع أن أربط بين بيت المتنبي السابق، وماجاءَ في هذا الفصل:

إن هذا الشعب لم يأخذ من الزمن ماأعطاه! لأنه أقل من أن يُرضي طموحه، وفضّل الزحف طلباً للتحرير، إن الصوت الذي كان منفرداً في البيت أعلاه، أصبح كصوت جماعة في النص.

- الفصل الثاني: يبدأُ ببيت المتنبي



سروا بجيادٍ مالهنَّ قوائمُ



أتوكَ يجرّونَ الحديدَ كأنّهم




هَلْ يجهَلُ فايز خضوّر أن هذا البيت قاله المتنبي في وصف جيش الروم المرعب؟ لاأظنُ ذلك! ولكنَ من حقّهِ أن يقلبَ الأمر.. ونكتشفُ هذا منذُ بداية الفصل:

" إلى أينَ هذي القوافلْ؟

- إلى جبلِ الشيخِ والحمّةِ الدافئهْ.

ومن أينَ هذي القوافلْ؟

- من كل قريهْ

ومن كلِ جردٍ، وسفحٍ وسهلٍ وكوخٍ وبيتْ.

من الريحِ والرملِ والأرصفهْ"(79)

إنهُ فصلُ الزحفِ.

شعبٌ يزحفُ من كلِ مكان، شعبٌ يجرُّ الحديد والعتاد الثقيل،

ويحملُ في القلبِ غصّاتهِ وثآليل نكسة حزيران:

" أتينا وفي القلبِ غصةَ غدرٍ حملناهُ

عشرَ سنينٍ عجافٍ

ثآليل من نكسةِ الصيفِ

آية ثأرٍ، حفظنا تعابيرها، والمضامين

كنّا نغضُّ- من الخزي- أبصارنا..."(80)

إلى أن يقول:

"زحفنا لنرجعَ للأُمّهاتِ ارتياحَ الولادةِ:

زنابقَ حمراء مكحولةً بالنجيعْ"(81)

وهاقد وصلتِ الجموع الزاحفة وكان لها هذهِ المرّة أن تأخذ القرار بالبدءِ..

"أتينا، وها نحنُ نمتلكُ البدءَ

وصلنا، بدأنا بسفر الدخولْ"

- الفصل الثالث: يبدأُ ببيت المتنبي:



كما تتمشى في الصعيد الأراقِمُ



إذا زلقتْ مشيّتها ببطونها




والبيتُ في وصف خليل سيف الدولة التي طاردَ عليها فلول الروم، فوقَ ذرا الجبال، وبين وكور الطيور الجارحة! وكانَ إذا هبط بها في الشعاب جعلها تنزلق على بطونها كالأفاعي.. وحين نتذكر أنَ الكثير من معارك تشرين كانت في الجبال والتلال، وأشهرها معارك جبل الشيخ، نستطيع أن نفهم هذا الاستهلال! نقرأ:

"أيّها القادمونَ مع الفجر

ممحّوةٌ

في الطريق التضاريسُ

جبهتكم وعْرَةٌ..

بدّلَ الغزو كلَّ الثمارِ

بألغامِ قتلٍ

حديدٍ

دمارٍ

وكل المفازاتِ تسكُنُها الأسلحهْ!"

ويتابع المتنبي قراءة هذا الفصل، فيعيشُ المعركة الحديثة بكل هولها، كما كانَ لهُ من قبل أن يحْضُر وقعة الحدث وغيرها، لكن صوت الشاعر الشعب لاينسى أن يذكّرَ هذا القارئ الجليل! أنَ من يخوض هذه الحرب هي الجموع البائسة الفقيرة التي تعرّضت عبر تاريخها الطويل لكل أشكال القمع والظلم والخيانة.

"يابلاد الحرائقِ والبعثِ

باسمك نفتتحُ الزمنَ الصعبَ

باسمِ ضحاياكِ

نفتض ختم التخاذلِ والموتِ

بالرغمِ من هيمناتِ الخياناتِ والغدرِ

والعسس الواقفينَ على صدرنا

صخرةً رازحة"(84)

- الفصل الرابع: فصلٌ غريب! إنهُ يبدأُ بقول المتنبي:



كأنّكَ في جفن الردى وهو نائِمُ



وقفت ومافي الموتِ شكٌ لواقفٍ




وهو فصل أبيض؛ لاكلام فيهِ سوى ملاحظة تأتي في آخر القصيدة تقول:

"أوراق هذا الفصل متروكة في مرصدِ جبل الشيخ والقنيطرة".

وأعتقد أن الشاعر تركَ للقارئ أن يشارك بطريقةٍ مافي كتابة النص، فتركَ لَهُ هذا الفصل بعد أن قامَ بتوجيهه بالشكل الذي يُريدهُ.

- ويبدأ الفصل الخامس بقول المتنبي:



جدي مثلَ من أحببتُهُ تجدي مثلي



تقولينَ مافي الناس مثلكَ عاشِقٌ




وبيت المتنبي واضح؛ إنه يقول لعاذلته: إن وجدتِ مثل الذي أحببتهُ بين المعشوقين، فسيكون لكِ أن تجدي بين العاشقين مثلي.

لكن المتنبي يتابع في قصيدتهِ تلك قائلاً:



وبالحسنِ في أجسامهنَّ عن الصقلِ



محبٌّ كنى بالبيض عن مرهفاتهِ



جناها أحبائي وأطرافها رُسلي



بالسُمرِ عن سُمرِ القنا، غير أنّني




فيتضح أنهُ يتحدّث عن عشقهِ للسيوف والرماح أو ماتكسبُهُ من المعالي.

فماالذي يُريده خضّور من بيت المُتنبي ذاك؟

حين نقرأ هذا الفصل ننتبه أن ضمير المتكلم هو ضمير المفرد! بعد أن كانَ فيما سبق. ضمير الجماعة، ونلاحظ بعدَ قليل أن هذا الفصل في كتاب قاسيون هو فصلٌ كتبَهُ شهيدٌ ما! شهيدٌ مجهول:

"ظالِمٌ ياشتاءْ

كيفَ غاب المغنونَ، ليلةَ عُرسي الأخير؟!

والسهارى غفوا قبلَ دفن المساءْ

يادُجى المقبرةْ

كن فتيلَ القناديلِ، زيتَ الحياةِ الجديدةِ والمغفرةْ"(85)

إن هذا الصوت، وإن كان مُفرداً، إلا أنه يمثلُ هنا صوت كل من سقطوا في هذهِ الحرب المقّدسة، ومن هنا نفهم كيف يكون دجى المقبرة فتيل القناديل، إن الظلام الذي يحيط بأجساد الشهداء هو نورٌ للأحياء، وهو زيت حياةٍ جديدة، ولكن نغمة الشكوى والألم في صوت الشهيد توحي بالخوفِ والرهبة من القادم:

"يفعم العشقُ قلبي.

يفعم العصبَ الحيَّ حُبّي لأرضي وشعبي

وأهلي الذينَ انتظرتُ زغاريدهم ضيّعوني"(86)

إنها نغمة مُنذرة! لكأنّها تتنبأ بما آلت إليهِ الأمور بعد النصر! لقد كان أولى بنا أن نستثمِرهُ، لكن شريط الأحداث التاليّة ضيّع دماء الشهداء!

ويتابع الصوت:

"أيّها الكفنُ المطريُّ انتظرني

على ضفّةِ النهرِ

بضع ليالٍ

سآتيكَ أحملُ كلَّ جراحي

صلاتي

وشاهدتي الحجريّةَ

والأُغنياتِ العذارى

وآخر حرفٍ لها

للتي عشتُ من أجلها. وأنتهيتْ"(87)

لقد كفّنَ المطرُ الشهيد، ولايخفى علينا ماللمطر هنا من دلالةٍ رسّخها الشعر العربي القديم، والشعراء الرواد كالسيّاب، وننتبه هنا إلى أن السطر الأخير استطاع أن يعيدنا إلى بيت المتنبي؛ فرأينا أن محبوبة الشهيد (التي مافي الأرضِ مثلها) هي بلاده وليست السيوف والرماح كما هو الحال عند المتنبي!

- ويختتمُ خضّور قصيدته بالفصل السادس الذي يستهلُّهُ بقولِ أبي الطيب:



وللحُبِّ مالم يبقَ مني ومابقي



لعينيكِ مايلقى الفؤاد ومالقي




والمعنية عندَ خضّور هي البلاد التي تُسْفَحُ لأجلها الدماء! وهذا بالطبع ماسنخرجُ بهِ حين نقرأ هذا الفصل، الذي يختم القصيدة بكثيرٍ من الحزنِ والخيبةِ رغم أنها - كما قدّمتُ- مكتوبة سنة 1973؛ ولعلَّ فايز خضّور حينها، خالفَ معظم شعراء العربيّة الذينَ تناولوا هذهِ الحرب، وماكانَ بإمكان القارئ يومها أن يجدَ عُذراً للشاعر، إلا بنزعة التشاؤم التي تقلب الأمور، لكنُهُ -أي القارئ- وبعد فترةٍ غير طويلة سيصل لجوهر هذا الشعور؛ وسيصلُ إلى ماقاله محمود درويش ذات يوم:

"فقد يكذبُ الأنبياءُ

وقد يصدقُ الشعراءُ كثيراً.."(88)

ومن الذي كان يدفَعُ الثمن دائماً؛ إنها الجموع الفقيرة التي تزدادُ فقراً إثر الحرب:

"وحدنا، ننتخي، نحضنُ اللعبة الأزليّةَ

نفنى، نصدّقُ كلَّ الأكاذيب

نمضي شقائقَ في معمعان الشهادةِ

... ماذا نقولُ لأطفالنا

بعدَ أن شَرّشَ الجوعُ والبردُ

يومَ الزعاماتُ

لاتعرف الجوعَ والبردَ.."(89)

ب- أمل دنقل والمتنبي
لأمل دنقل - كما أسلفت- قصيدة عنوانها "من مذكرات المتنبي في مصر"، وقد استخدمَ الشاعرَ شخصيّة المتنبي قناعاً أرادَ من خلاله إيصال مجموعة من المواقف والآراء، بل وتمكّنَ من جعلِ هذهِ الشخصيّة عنواناً على مرحلة تمرُّ بها مصر في الستينات وتحديداً بعد النكسة، لقد أنشدَ دنقل من البدايةِ حتى النهاية بلسان المتنبي، وكان يتبنّي مواقف وأحلام هذه الشخصيّة التي بَثَّ في عروقها شيئاً من دمِهِ هو.

كل ذلك جاءَ بأسلوبٍ قصصي ناجح؛ وهذا ماجعلني أعتَبرُ أن دنقل لبسَ هذه الشخصيّة قناعاً؛ وهذهِ التقنيّة التي مَنَحها إسمَها الشاعر ييتس تقومُ على أن "يحقن الشاعِر أبطاله التاريخيين بوعيٍ مُعاصر"(90)

فيفهمون بعدَ ذلك أفعالهم القديمة من خلال هذا الوعي وكانَ الأمرُ قبلَ ييتس مختلفاً عن ذلك فبراوننغ مثلاً "يأخذُ أبطاله من التاريخ ويتركهم يسردونَ أفعالهم بلسانهم وضمن حدود وعيهم التاريخي، تاركاً وعي القارئ يشترك مع وعي الشاعِر في تحليلِ أفعال المتكلم".(91)

ولئن فرضت حساسيّة المرحلة، والخوف من سلطة الرقابة مثل هذا الأسلوب الفنّي، إلا أن القارئ لن يشعرَ بذلك مطلقاً؛ فقد استطاعت موهبة أمل دنقل أن تقدّم لنا هذا القناع على أنه أحد أهم غايات القصيدة، وليس مجّرد تقنية خارجيّة لتقديم أفكار النص.

إن تلك الأحداث التاريخيّة التي عاشها المتنبي (والتي اختلقها الشاعر نفسه) تتحّولُ في سياقٍ شعري جميل إلى مُعادلٍ موضوعي مُعاصر، يُساعدُ على ذلك تضمينٌ مُوّفق لمجموعة من أبيات المتنبي!

أجرى عليها الشاعِر بعض التغييرات متكئاً على ما تمتلكه من حرارةٍ وتأثيرٍ وشهرة بين الناس- فقدّمت دلالات جديدة مُعاصرة.

ولقد أجادَ الناقد عبد السلام المساوي في دراسةِ هذه القصيدة تحتَ عنوان "المتنبي؛ أو أسطرة الشخصيّة التاريخيّة" (92). التي ضمّنها كتابه "البنيات الدالة في شعر أمل دنقل"

لقد كشفَ المسّاوي "عن التحوّل الذي تخضع لهُ الشخصيّة التاريخيّة الواقعيّة، عندما يتمُّ توظيفها لأداء دلالات معيّنة يُريدها الشاعِر (93)"

لكنّهُ بالغَ قليلاً حين قرَّرَ أن شخصيّة المتنبي في القصيدة "قد انزاحت عن ملامحها التُراثيّة القديمة، وتلبّست ببعدٍ أسطوري، يُمكّنُها من تملكِ صوتٍ جديد، وموقفٍ مغاير لسابق مواقفها" (94)

ووجه المبالغة أن انزياح شخصيّة المتنبي عن ملامحها التُراثية، كان انزياحاً بسيطاً، ولم يصل إلى امتلاكها أو تلبّسِها ببعدٍ اسطوري.

لقد استطاع أمل دنقل أن يفيد من حبس كافور لأبي الطيّب، حيثُ كان يكيلُ لهُ الوعود ويماطِلهُ دون أن يعطيه شيئاً، وقد تناولت القصيدة هذا الحبس الذي تحدّثَ عنهُ المتنبي الحقيقي في بعض قصائدهِ التي هجاهُ فيها (ابتداءً من حنينه ورغبته في السفر إلى مرضِهِ في مصر، إلى بخلِ كافور وجشعهِ وجبنهِ).

القصيدة ذات نفسٍ واحد، فالمقاطع لايفصل بينها شيء، لكن دِنقل عمدَ إلى وضع نجمين إلى يمين النص عند بدايةِ كل فكرة جديدة، أو يوم جديد يدوّنُهُ المتنبي!

وبالتالي فقد قسّم النص إلى أيام ومشاهد دون أن يلجأَ إلى تقطيعه.

تبدأُ القصيدة هكذا:

"** أكرهُ لونَ الخمرِ في القنينَهْ

لكنني أدمنتُها.. استشفاءا

لأنني منذُ أتيتُ هذهِ المدينهْ

وصرتُ في القصور ببغاءا

عرفتُ فيها الداءا" (95)

المتنبي مريضٌ، وقد أدمَنَ الخمرةَ رغمَ كرهِهِ لها، علّها تخففُ من مرضه، وهو يُدرك سبب هذا المرض؛ إنهُ التحوّل إلى ببغاء في قصر كافور!

والمقطع الثاني لاجديد فيه، إنهُ يُطابق الحقيقة التاريخيّة:

"** أمثلُ ساعةَ الضُحى بين يدي كافورْ

ليطمئنَ قلبُهُ؛ فما يزالُ طيرهُ المأسورْ

لايتركُ السجنَ ولايطيرْ!

أبصرُ تلكَ الشفة المثقوبةْ

ووجهه المسودَ، والرجولة المسلوبَهْ

أبكي على العروبهْ!" (96)

وموقف أمل دنقل في هذا المقطع أقربُ مايكون لموقف براوننغ الذي سبق وذكرتُهُ؛ إنَّ شخصيَته التاريخيّة تتحدّث بلسانِها هي، وضمن حدود وعيها التاريخي، وإلا فكيفَ نفسّر سخريته المُرّة من سواد بشرةِ الحاكم وشفته المثقوبة، ومسألةُ خصائِهِ؛ إلا أننا حين نُحسِنُ الظن بهذه الطريقة، نجدُ أنفسَنا أمامَ مأزقٍ فني للشاعِر؛ فشخصيّة المتنبي في مقاطع أخرى خاصةً الأخير "محقونة بوعيٍ مُعاصر" هو وعي شاعر تقدمي في القرن العشرين؛ فكيفَ نفسُّر هذا التناقض؟

في المقطع التالي يجعل دنقل المتنبي رجلاً قادراً على تلمّسِ آلامِ أهل مصر؛ فهاهم يرفعونَ الرقاع والمظلمات إلى أميرهم الرخوذي السيفِ الصديء:

"** وعندما يسقطُ جفناهُ الثقيلانِ، وينكفيء

أسيرُ مُثقلَ الخُطا في ردهاتِ القصرْ

أبصرُ أهلَ مصرْ

ينتظرونَهُ.. ليرفعوا إليه المظلمات والرقاعْ" (97)

وفي المقطع نفسه يجري حوارٌ بين المتنبي وجاريته الحلبيّة التي تحثّه على العودة إلى حلب، فيستطيع الشاعِر من خلال ذلك، أن يرسم حالة الوطن العربي الراهنة حيث تفصل نقاط الحدود بين بلدانه:

"جاريتي من حلبٍ تسألني: متى نعود؟

قلتُ: الجنود يملأونَ نقطَ الحدودْ

مابيننا وبينَ سيف الدولهْ" (98)

يستحضرُ في المقطع التالي صورةَ تلكَ البدويّة "خولة" التي رآها قربَ أريحا، والتي علمَ فيما بعد أنها أُخذت سبيّة، وماذادَ عنها أحد؛ وهنا يتمكن الشاعِرُ أيضاً من سحب الحدث الماضي على الواقع الحاضر؛ فالمرأة المسبيّة من قبل الروم تجدُ لنفسها مُعادلاً موضوعياً في حاضر الأمّة.

وبعد ذلك نقرأ:

"** في الليلِ، في حضرةِ كافورٍ أصابني السأمْ

في جلستي نمتُ ولم أنمْ

حلمتُ لحظةً بكا" (99)

هنا يحلمُ متنبي القصيدة بسيف الدولة يطاردُ جنود الروم ويهزمهم، ثُمّ يعودُ إلى حلب مَحوطاً بالهتافات؛

لكنهُ حين يفتح عينيه:

"لكنني حين صحوت

وجدتُ هذا السيّد الرخوا

تصدّرَ البهوا

يقصُ في ندمانهِ عن سيفهِ الصارمْ

وسيّفهُ في غمدهِ يأكلهُ الصدأ" (100(

ومرادُ أمل دنقل واضح؛ إنه ومن خلال شخصيّة كافور يُدينُ تقاعس الحُكام، ليسَ فقط في استردادِ ماأحتُلَّ من بلادهم؛ ولكن في حماية ماتبقى؛ وتشتدُّ هذهِ الإدانة في المقطع الأخير:

"تسألني جاريتي أن أكتري للبيت حُرّاسا

فقد طغى اللصوصُ في مصرَ.. بلا رادع

فقلتُ هذا سيفيَ القاطعْ

ضعيهِ خلفَ الباب متراسا!

(ماحاجتي للسيفِ مشهورا

مادُمتُ قد جاورتُ كافورا). " (101)

إن عبارة "طغى اللصوص في مصرَ بلا رادع" كما يشير عبد السلام المسّاوي "تشكّلُ البؤرة الدلاليّة داخلِ المقطع، وتتجاوز الزمن التُراثي إلى الزمن الحاضر؛ يتخذُ اللصوص هيئة جديدة، وأساليب جد متطورة في نهبِ حقوق الشعب المصري وحرّيته". (102)

ويعمدُ أمل دنقل في نهاية قصيدته إلى تضمين بيتين للمتنبي من قصيدته ذائعة الصيت:

بما مضى، أم لأمرٍ فيكَ تجديدُ



عيدٌ بأيّةِ حالٍ عُدتَ ياعيدُ




وهو بذلك يسعى للإفادة من بعدٍ هام من أبعاد هذهِ الشخصية، فالمتنبي شاعرٌ بالدرجة الأولى.

ويعمد دنقل إلى إجراءِ تحويرٍ جزئي في بنية البيتين حيثُ نقرأ:

"عيدٌ بأيةِ حالٍ عُدتَ ياعيدُ؟

بما مضى؟ أم لأرضي فيكَ تهديدُ؟

نامتْ نواطيرُ مصرَ عن عساكِرها

وحاربتْ بدلاً منها الأناشيدُ!

ناديتُ: يانيلُ هل تجري المياهُ دماً، لكي تفيضَ

ويصحو الأهلُ إن نودوا

عيدٌ بأيةِ حالٍ عُدتَ ياعيدُ" (103).

كأني بأمل دنقل قد طفحَ بهِ الكيل، وخشيَ ألا يستطيع القارئ أن، يكشفَ قناع المتنبي عن شخصيتهِ هو، فأتى بهذهِ الأبيات الأخيرة! التي سحبت الزمن مباشرةً من القرن العاشر الميلادي إلى العشرين من خلالِ هذه التحويرات البسيطة، حيثُ بَدّل عبارة "أم لأمرٍ فيكَ تجديدُ" بقولِهِ "أم لأرضي فيك تهويدِ"، وكلمة "ثعالبها" ب"عساكرها"، وقول المتنبي "وقد بشمنَ وماتفنى العناقيدُ" بـ "وحاربت بدلاً منها الأناشيد، فأصابت القصيدةُ الكثير من غاياتها فكرياً وفنيّاً.

 

التوقيع

 


تِدفا على جال ضوه بارد إعظامي=والما يسوق بمعاليقي ويرويها
إلى صفا لك زمانك عِل يا ظامي=اشرب قبل لا يحوس الطين صافيها
 
 
رد مع اقتباس