عرض مشاركة واحدة
  #8  
قديم 12-07-2005, 06:25 AM
ابومحمد الشامري ابومحمد الشامري غير متصل
ابوحمد الشامري ( سابقا )
 
تاريخ التسجيل: Dec 2004
الدولة: شـبـكـة مـجـالـس العجمـــــان
المشاركات: 19,132
معدل تقييم المستوى: 10
ابومحمد الشامري قام بتعطيل التقييم

المتنبي معادل تراثي
لبعد من أبعاد تجربة الشاعر
في هذا النمط من التعامل مع المتنبي نرى الشعراء المعاصرين يستدعونَهُ حين تتلاقى بعضُ مواقفهِ أو ظروفهِ، مع بعضٍ من أبعادِ تجارب هؤلاء الشعراء على صعيدٍ شخصي ذاتي أو وطني وقومي.

قد يعيشُ الشاعرُ العربي المعاصر تجربةً ما، تدفعُ إلى ذهنه تجربة مشابهة عاشها المتنبي، فيستحضرهُ ويتحدّث من خلالهِ؛ كأن يمر العيد على يوسف الخطيب وأهلُهُ وأحبابهُ خلفَ الأسلاك فيستذكر مرورَ العيد على أبي الطيّب المتنبي وهو في بلاط كافور بعيداً عن سيفِ الدولة وغيره ممّن يُحبّهم الشاعر.

فيكتب قصيدته "بطاقة معايدة إلى أبي الطيّب"

والتي يقول فيها:

فما وحقّكَ تحتَ الشمسِ تجديدُ



عيدٌ حللتَ كما حوّلتَ ياعيدُ



ودونَ غزّةَ فولاذٌ وبارودُ



أما الأحبةُ فالأسلاكُ دونَهُمُ



والتّرجمانُ، سليمانٌ وداوودُ



ماشِعبُ بَوّان من حيفا وكَرْمِلِها



ماذا أقولُ وبلوايَ الأخاشيدُ (104)



يامن بُليتَ بإخشيدٍ بمفردهِ




وقد يجدُ شاعرٌ آخر كمحمّد مصطفى درويش في مرض المتنبي الذي وصفه لنا من خلال زائرتِهِ الغريبة (الحمّى) مُعادلاً تراثياً لتجربتهِ الخاصة مع زائرة من نوعٍ آخر:

"ليسَ من يبكي سوى زائرة الليلِ عليّ

قدري أن آكل الأحلام

إن جعتُ

وأشربْ

من جرار الندمِ..

قدري أن أسلق الشمسَ

وماءَ النيلِ في قدرٍ من الرمل

وأطوي جسدي المحمومَ

مقتولاً حنيناً للأحبةْ

قدري تابوت غربةْ" (105)

والأمثلة ليست قليلة على هذا النمط؛ لكنني اخترتُ قصيدتين سأتناولهما بشيءٍ من التفصيل، هما: "رحلة المتنبي إلى مصر" لمحمود درويش، و "موت المتنبي" لعبد الوهاب البياتي.

آ- محمود درويش والمتنبي
إن قصيدة "رحلة المتنبي إلى مصر"، هي إحدى قصائد مجموعة درويش "حصار لمدائح البحر"، وقد كُتبت هذهِ المجموعة -أو معظمُها- بعد تجربةٍ مريرةٍ في حياة الشاعر وشعبه؛ إنها تجربة حصار بيروت، وخروج المقاومة إلى "التيه"، كما يُعبّر درويش نفسه، وقد طبعت للمرّة الأولى في تونس 1984، ولو استعرضنا قصائد هذهِ المجموعة، من مرثياتهِ في ماجد أبو شرار، وعز الدين قلق وغيرهما، وقصيدة بيروت، مروراً بقصيدتنا موضوع البحث، فسنجدُ أن روحاً حزينة مُنكسرة تخيّم على هذه المجموعة، وتؤسس لروح التعب(106) عند الشاعر التي ستبدو جليّةً في مجموعاتهِ اللاحقة، وحين نقرأُ القصيدة التي بين أيدينا، وفي ذهننا -شئنا أم أبينا- تاريخٌ غير قصير من الهجرات والنكبات والنضال، فسنصلُ إلى قناعة مفادها، إن استحضار شخصيّة المتنبي -التي تكادُ تكون الأكثر ملاءمةً ودلالةً- هو عملية إيجاد معادل تراثي لبعدٍ من أبعاد التجربة الدرويشية -الفلسطينيّة في الخروج من المكان (الجغرافيا) والزمان (التاريخ).

محمود درويش يتألّقُ في استخدام المتنبي قناعاً، وأحد أسباب ذلك هو هذا القلق الذي يعيشهُ الشاعر، وهذا الرحيل المرير الذي أكرهَ عليه الفلسطيني بقوّة السلاح ولأكثر من مرّة، فخرج إلى البحر.

لقد تركَ المتنبي حلب مُرغماً، رغم عشقِهِ لها ولأميرها، ودرويش يُرغم على الاقتداء بخطوات جدّه، رغم حبّه لبيروت، لكن متنبي القصيدة يخضع لكثيرٍ من الانزياح والتحول؛ لقد أخذ درويش هذه الخامه، مُدركاً خصوصيتها، وإمكاناتِها الطبيعيّة، ولكنهُ اشتغلَ عليها كنحاتٍ ماهر، لقد استطاع استدعاءَها أولاً "من قلب المتلقّي ووجدانه كي تتحوّل بفضل موهبتهِ وثقافتهِ وخبرة تمرّسهِ الفني إلى جسرٍ للتواصل والتحاور والارتقاء. جسرٌ ينتقل القارئُ بهِ- دونَ قلقٍ أو توّجس- من قيمتهِ التقليدية الراسخة إلى قيم الشاعر النابضة بروح العصر"(107).

تبدأُ قصيدة محمود درويش بعبارته:

"للنيل عاداتٌ

وإنيّ راحلُ"

وسيكرّر هذه اللازمة ست مَرّات ليختتمَ بها قصيدته في نهاية المطاف. وهذه اللآزمة ستلعبُ دوراً هاماً في بناء القصيدة بشكلٍ عام، فهي بتظافرها مع مايشبه المنولوج الموّشح بشيءٍ من الحوار ستكون مُتكأ الشاعر حين ينتهي من فضاء معنوي ويبدأ بآخر، بالإضافة لدورها الإيقاعي.

وستمدُّ هذهِ اللازمة "القصيدة بالنفس الملحمي! فهي تفصلُ بين الأجزاء وتصل بينها في الوقت نفسه، بمعنى أنها تفصل لإفادة انتهاء مسروديّة ذات معنى جزئي وتصل بين المسروديّات كلها صوتيّاً لإكساب النص بناءه المعماري العام" 108

والقصيدةُ ذات نفسٍ واحد رغم ذلك؛ فالشاعرُ لايفصِلُ بين مقاطعها بأيّة فواصل سوى مساحة بيضاء صغيرة، بين اللازمة المذكورة والمقطع الذي يليها توحي بتوقّف الذاكرة قليلاً بغية الراحة قبل أن تُتابع حوارها مع النفس أو مشاهداتِها ومعاناة صاحبها.

أودُّ أن أشير أن هذهِ العبارة التي يبدأ درويش بها القصيدة على لسان المتنبي:

"للنيل عاداتُ/ وإنيَّ راحلُ" هي حصيلة رحلته كلّها؛ إنّها النتيجة النهائيّه، ومنها يبدأ بطريقةٍ نعرفها في فن القصّة بالارتجاع الفنّي؛ فيحدّثنا بادئ ذي بدء من أين جاء، وكيف ولماذا؟:

"أمشي سريعاً في بلادٍ تسرق الأسماءَ منّي

قدْ جئتُ من حلبٍ وإني لاأعودُ إلى العراقِ

سقط الشمالُ فلا أُلاقي

غير هذا الدرب يسحبني إلى نفسي.. ومصرَ" (109)

إنه قادمٌ من حلب بعدَ أن سقط الشمال، ولم يبقَ لهُ إلا هذا الطريق حفاظاً لكرامتِهِ وماء وجههِ، وحين نتذكّر أن الشمال تاريخياً وفي فترة المتنبي كان محميّاً بإمارة الحمدانيين، وهو لم يسقط، فسندرك أن انزياح الشخصيّة التراثية قد بدأ منذ بداية القصيدة، وأن درويش راح منذُ هذهِ اللحظة يفصِّلها من جديد على مقاسِهِ بحيث يلبسها براحةٍ ونجاح، مع المحافظة على الكثير من ميزاتها وخصوصيتها:

"كم اندفعتُ إلى الصهيل

فلم أجد فرساً وفُرساناً

وأسلمني الرحيلُ إلى الرحيل

ولا أرى بلداً هُناك

ولا أرى أحداً هناك

الأرضُ أصغرُ من مرور الرمح في خصرٍ نحيلْ

والأرض أكبرُ من خيام الأنبياءْ

ولا أرى بلداً ورائي

لا أرى أحداً أمامي " (110)

هذا هو المتنبي الخارج من حلب باتجاه مصر؛ فأين هو درويش الخارج من بيروت؟

اسمحوا لي أن استعير عباراتِهِ في وصف ذلك:

"رأيتُ السفينة ذاتها، التي حملت أوليس، أحد أحفادهِ الجدد في القرن العشرين، وعادت من الشاطئ الشرقي للمتوسط إلى أصلها في كريت؛ هزّتني الدلالةُ الجارحة لهذا التيه؛ الذي لم يجدْ لهُ شاطئاً عربيّاً، فعادَ إلى المرفأ الأول.. الرحلةُ مليئةٌ بالجراح والشعر أيضاً، ولاأعرفُ متى يرسو هذا التائه الفلسطيني؟.. الخ" (111)

ألسنا أمامَ صوتٍ واحد وحالة واحدة؟!

إنّه الإكراه! إكراه الشاعر على التخلّي عن المكان ، "وكأن التخلي عن المكان أصبحَ الظاهرة الأكثر وضوحاً في هذا الزمان العربي، الزمان الذي سقطت فيه كل الأقنعة، زمان غياب العرب وسقوط قلاعهم" (112)

وهكذا لايجدُ شاعرٌ كـ (المتنبي/ درويش) مكاناً يلتجئُ إليه، مكاناً يحمي أحلامهُ وعواطفه إلا الأغنية/ القصيدة التي تحلُّ محل الوطن:

"وطني قصيدتي الجديدةْ

أمشي إلى نفسي، فتطردني من الفسطاط

كم ألج المرايا

كم أكسِّرُها

فتكسرني" (113)

إنه البحث المؤلم عن المكان المفقود الوطن الذي يؤمّن لكَ الحماية ولايطردك ولايُلقيك إلى الأعداء؛ لكن أين تجده ومن حولك توزّع الدولُ كالهدايا، وتأكلُ السبايا بعضها، ويصبحُ الانعطافُ والانحرافُ سُنّةً ألن تَشْعر عندها أن وطنك هو صدرك... وصدرك قبرك؟، ألن تجري حينَ تجد من حولك هذا الركود المخيف؟!

"أرى فيما أرى دولاً توزّعُ كالهدايا

وأرى السبايا في حروبِ السبي تفترسُ السبايا

وأرى انعطاف الانعطاف

أرى الضفاف

ولاأرى نهراً.. فأجري

وطني قصيدتي الجديدةْ

كيف أدري

أن صدري ليس قبري" (114)

ويزدادُ حجم الفجيعه حين يُدركُ (المتنبي/ درويش) أنه جاء إلى المكان الخطأ، أو أنه غير مرغوب به هنا، ومامن شيءٍ يشدّهُ إلى هذا المكان:

"لاالحبُّ ناداني

ولاالصفصاف أغراني بهذا النيلِ كي أغفو

ولاجسدٌ من الأبنوسِ

مَزّقني شظايا" (115)

إنها مصر أخرى غير التي يعرِفُها ويُحبُّها؛ إنّها مصرُ كافور، مصر التي أُخرجتْ من حربِهِ:

"والنهرُ لايمشي إليَّ فلا أراه

والحقلُ لاينضو الفراش على يديَّ فلا أراه

لامصرَ في مصر التي أمشي إلى أسرارها

فأرى الفراغ، وكلّما صافحتُها

شقّتْ يدينا بابلُ

في مصر كافور وفيَّ زلازلُ" (116)

وتأتي مساحة بيضاء صغيرة تلتقطُ الذاكرةُ أنفاسها فيها، ليعودَ بعدَ قليل صوتُ الشاعر:

"حجرٌ أنا

يامصرُ هل يصلُ اعتذاري

عندما تتكدّسين على الزمان الصعب أصعبَ منهُ؟

خطوي فكرتي ودمي غُباري" (117)

إنه مقطعٌ محيرٌ بلا شك! كيف يعتذر هذا الشاعر إلى مصر التي جاءَها لاجئاً ومستنجداً، فكسرت حُلمه، وخيّبت أمله (ومصر هنا ليست بلاد النيل فقط). أليسَ الأولى أن تعتذرَ مصرُ إلى الشاعر؟!

أظن أن درويش قلبَ الصورة بهدفِ المبالغة في الأمر.

وهل أمرُّ من أن تعتذرَ لصديقٍ أساءَ إليك وتتركه وتمضي؟ أليسَ هذا أمضى وأشدُ وقعاً في النفس من أن تكيل لهُ الشتائم!

أم أن الشاعر يعتذرُ إلى مصر لأنه أصبحَ "حجراً" بفعل مامَرّ عليهِ وعاناهُ، فما من شيءٍ يفعل فعله فيه، ولاشيءَ يعنيه، وهو بالتالي غير قادر على مساعدتها في هذا الزمان، فأفكارهُ الآن هي خطواته، ودماؤه هي ماتثيرهُ فرسُهُ من عجاجٍ وغبار. أنا أرجّحُ الاحتمال الأول لأن الشاعر يتساءل بعدَ قليلٍ بصيغةِ الاستنكار:

" هل تتركينَ النهرَ مفتوحاً لمن يأتي

ويهبطُ من مراكبه إلى فخذينِ من عاجٍ وعرشٍ"(118)

ويحاول أن يترك في قلبه شيئاً من التفاؤل؛ إن الأعداءَ لن ينزلوا مصرَ، ولن يصعدوا الأهرام، وهو علي يقين من أنه شاعراً وشعباً سيكونُ دريئةً لهذهِ البلاد، وسيفنى في الغزوات المتتالية، فما الذي يجعل مصر تُعرضُ عن دموعِهِ وتنظُرُ إلى عدوّه؟

وماالذي يجعلُهُ يلتصقُ بالجميل المتبقّي منها، وكأنه هوالخالد:

"أعرفُ أنني أمتصُ فيكِ الغزو

أعرفُ أنني سأمرُّ في لمح الوطن

وأذوبُ في الغزواتِ والغزواتِ

لكن كلما حاولتُ أن أبكي بعينيكِ

التفتِ إلى عَدوّي

فالتصقتُ بما تبقّى منكِ أو منّي.

وأدركني الزمنْ"(119)

إن الالتفات إلى العدو طارئ، والشاعرُ يُدركُ ذلك، وهو يعلمُ أيضاً أن هذا الفقر، والوضع الاجتماعي السيء هو "الزائل" ، وهنا نلاحظ الانزياح الكبير في الشخصيّة التُراثية، فالمتنبي بدأ يتحدّث عن أشياءَ وأفكار ماعرفناها عنه قط:

"تمضينَ حافيةً لجمعِ القطنِ في هذا الصعيدْ

وتسكتينَ لكي يضيعَ الفرقُ بين الطينِ والفلاحٍ

في الريف البعيد

وتجفُ في دمكِ البلابلُ والذُرهْ

ويطولُ فيكِ الزائل" (120)

ومصرُ رغم ذلك محبوبةُ الشاعر، وهي وإن كانت تِفرُّ من أضلاعهِ حين يعانقها فهي تسكنُهُ، وستطاردُهُ حينَ يخرج منها، حتى تجعَلَ بلاد الشام منفى للشاعر- وهذا انزياحٌ آخر للشخصيّة التُراثية- فأية حال مُريعةٍ هذه، وأيّ عشق غريب:

"بلادٌ كلّما عانقتُها فَرّتْ من الأضلاع

لكن كلّما حاولتُ أن أنجو من النسيانِ فيها

طاردتْ روحي

فصارتْ كل أرض الشام منفى"(121)

ويقرّر الشاعر الخروج من مِصر؛ لقد خيّم الركود عليه، وأوشكَ أن ينسى أن خطاه كانت دائماً تبتكرُ الجهات؛ وها هو ذا يتحرّر من سلاسِل كافور، لكنهُ- وهذا قدره- يبقى مُقيّداً برسالتِهِ التي يحملها أبداً.

وفي المقطع قبل الأخير، وبينما يودّعُ (المتنبي/ درويش) مصر؛ نرى الألمَ يطفح والغصّةَ تصبحُ بحجم الفجيعة، فلا يستطيعُ كتمانها:

"و.... وإلى اللقاء إذا استطعتُ

وكلّ من يلقاكِ يخطفُهُ الوداعُ

والقرمطيُّ أنا، ولكنَ الرفاقَ هناكَ في حلبٍ أضاعوني وضاعوا

والرومُ حول الضادِ ينتشرون

والفقراءُ تحت العناد ينتحبون

والأضدادُ يجمعهم شراعٌ واحدٌ" (122)

إنه قرمطيّ، لايمتلك سوى سيفه وجواده، ومامن شيءٍ يطمعُ فيه، ولكن رفاق السلاح أضاعوه وضاعوا، وهاهم الأعداء يحاصرونَ العرب ويحتلون بلادهم، بينما الفقرُ ينهشهم في بلادٍ ساكنةٍ راكدةٍ محكومةٍ بالعبيد:

"وسكونَ مِصر يشقّني:

هذا هو العبدُ الأميرُ

وهذهِ الناسُ الجياعُ" 123

وها هو ذا (المتنبي/ درويش) يقفُ متكئاً على روحهِ الجريح، فيهدم قصور العبيد بأغنياته ولايساوم على شيء، ولايبيع نفسه، يصرُخُ في الوجوهِ مذكراً أن الصراعَ مع العدو هو الصراع ولاشيء يغير هذهِ الحقيقة، ولاسلم إلا بحلِ هذا الصراع بطريقةٍ كريمة:

"والصراعُ هوالصراعُ

والروم ينتشرون حولَ الضادِ

لاسيفٌ يطاردهم هناكَ

ولاذراعُ" 124

وهذه الصرخة تذكّرُ بصرخةٍ شاعرٍ فلسطيني آخر حظّهُ من الشهرة أقل من درويش؛ وقد سبق أن أشرتُ إلى قصيدتِهِ التي عنوانها "محاورة مع أبي الطيب"

وهي مكتوبة سنة 1979 ومنشورة سنة 1980.

(لكن لاعِلمَ لي هل كتبت قبلَ قصيدة درويش أو بعدها)

يقول عَلّوش:

"للنيلِ عادتُهُ

وقلبي لاتغيّرهُ الرياحُ الموسميّةْ

فإذا تخاذَلَ متعبونَ على الطريقِ

وخَلّفوكَ بغير زاد

فاصبر قليلاً إن سربكَ سوفَ

يأتي من مضاربَ لاتغادرها الحميّةْ

إن الصراعَ هو الصراعُ

وإن أُصارع لو عصتْ قدمٌ، ولو كَلّتْ ذراعُ..

والنيلُ لاينسى، ولايُلهيهِ عن عطشي الضياعُ

للنيلِ عادتُهُ

ونيلي لايشتُّ ولايُراعُ

ولايكفُّ عن المسيلْ" 125

وهكذا نلاحظ أن صورة المتنبي التُراثية المحذّرة والمنبهة إلى خطر الروم من الخارج، وخطر الملوك العبيد من الداخل، والشرذمة، والاحتراب بين الاخوة، بما لبستهُ هذهِ الصورة من أبعاد جديدة ووعيٍ معاصرٍ متميّز، تنقلبُ إلى مُعادلٍ مُعاصر هو صحية محمود درويش وربّما عَلّوش في زمن قريبِ الشبهِ من زمن الجد العظيم.

ب- عبدالوهاب البياتي والمتنبي
قصيدة البياتي التي عنوانها "موت المتنبي" المكتوبة سنة 1963 هي إحدى أهم القصائد التي اتخذت شخصيّة المتنبي محوراً لها، والتي كان من الممكن دراستها تحت ذلك النمط، إلا أنني فضلتُ اتخاذها مثالاً على القصائد التي تتعامل مع هذهِ الشخصيّة كمعادلٍ تُراثي لبعدٍ من أبعاد التجربة المعاشة للشاعرِ نفسه، هذا البعد هو :"الصراع الأبدي بين الفنان، ومايملكهُ من طاقات هائلة على الخلق والإبداع، وبين السلطة الزمنية الغاشمة وماتملكهُ من أساليب البطش والخداع والمكر! هذا الصراع الأبدي الذي ينتهي بموت الفنان الفاجع؛ الموت الذي لايعني أن دورهُ قد انتهى على مدى التاريخ، بل ذاك الذي يعني الولادة الحقيقيّة على مدى التاريخ"126، وإن كانت القصيدة قد تخطّت هذا البعد- على اتساعه- وحاولت أن تقول أكثر مما ينبغي.

القصيدة لاتكتفي بقناع المتنبي، بل توّظف مجموعة من الأصوات تساعِدُ في إضاءةِ هذهِ الشخصيّة التي يتقمّصها البياتي في بعض المقاطع.

والبياتي أكثر الشعراء العرب المعاصرين تعاملاً بِأسلوبِ القناع، وهو يقولُ في معرض حديثهِ عن ذلك :

"القناع هو الإسم الذي يتحدّثُ من خلاله الشاعر نفسه، متجرّداً من ذاتيته، أي أن الشاعر يعمد إلى خلق وجود مستقل عن ذاتهِ، وبذلك يبتعد عن حدود الغنائية والرومانسية التي تردّى أكثر الشعر العربي فيها. فالانفعالات الأولى لم تعد شكل القصيدة ومضمونها، بل هي الوسيلة إلى الخلق الفني المستقل.

إن القصيدة في مثل هذهِ الحالة، عالم مستقل عن الشاعر- وإن كان هو خالقها- لاتحمل آثار التشويهات والصرخات والأمراض النفسية التي يحفل بها الشعر الذاتي الغنائي" 127

والبياتي يصف قصيدته هذه معلناً أنّها قصيدة يغلب عليها الأسلوب القصصي، وأنه صوّر فيها قصة حياة المتنبي الفاجعة لكنّهُ لم يتبن مواقف المتنبي، ولم يتكلّم من خلال شخصيّته، ولم يلبسهُ قناعاً128، وللشاعر - برأيي - أن يقول مايشاء عن أعمالهِ، لكن للقارئ أيضاً أن يرى مايراه ؛ فالقصيدة ، بين يديه وليسَ بإمكان صاحبها أن يُصادر آراء قُرّائه؛ فمحيي الدين صُبحي مثلاً يرى هذهِ القصيدة خطوة أوليّة نحو القناع129 عند البياتي، ويدرسها بطريقةٍ متميّزة في كتابه الهام "الرؤيا في شعر البياتي" الصادر عن اتحاد الكتاب العرب 1986.

تتكوّن قصيدة "موت المتنبي" من عشرة مقاطع تأتي على النحو التالي:

1- اللعنة الأولى/ 2- الصوت الأول/ 3- الصوت الثاني/ 4- الصوت الثالث/ 5- الصوت الأول/ 6- الصوت الرابع/ 7- الصوت الثاني/ 8- المرئية/ 9-اللعنة الثانية/ 10- الشاعر بعد ألف عام.

وتنتاب القارئ الحيرة في تحديد هويّة المتكلّم في مقاطع القصيدة؛ وهذه برأيي نقطة ليست في صالح القصيدة وإن بدتْ كذلك.

ولنقف الآن عند مقاطع القصيدة بالترتيب.

1- المقطع الأوّل: ويسميّه البياتي "اللعنة الأولى" ويأتي بصوتِ الشاعر نفسه، وقد تمكّنَ فيهِ من التعبير عن مُعاناتِهِ ونفيهِ وغربتهِ، وهزيمةِ جيله، من خلال إسقاط كل هذه الأشياء على المتنبي، وعَبْرَ خطابٍ يوّجههُ البياتي إلى المتنبي؛ خطاب يبلغ من المرارة والألم مبلغاً عظيماً بحيث يطلقُهُ الشاعر على شكل لعنةٍ عنيفة لاتُبقي ولاتذر، وكيف لا؟!

وهذهِ العامة -من وجهةِ نظرهِ - أشبهُ بجيف لاتملك شيئاً ولاتصلُحُ إلا طعاماً للضباع ورعيّةً للضفادع العمياء أو العبيد والإماء:

"لتحترقْ نوافذ المدينهْ

ولتذبلُ الحروف والأوراقْ

ولتأكل الضباعُ هذي الجيفَ اللعينهْ

وليحتضر نَسْرُكَ فوق جبلِ الرمادْ

فأنتَ بّحارٌ بلا سفينهْ

وأنتَ منفيٌّ بلا مدينةْ

ياصوتَ جيلٍ مَزّقتْ راياتهِ الهزيمة

ياعالماً عاثَ بهِ التجارُ والساسَةُ..."130

ويرى محيي الدين صبحي هنا أن المتنبي "استعارَ صوت البياتي كمكبّر حديث ليفضي إلينا في هذا العصر بتجربتهِ معَ عصره، لأن حقيقة السقوط العربي لم تتغيّر في أساسها، وهي فساد السلطة، فإذا كان البياتي لم يتكلّم من خلال شخصيّة المتنبي؛ فإن المتنبي هو الذي يتكلّم من خلال البياتي. أي أن البياتي قلبَ التقنيّة"(131)

ولعلَّ الذي قادَ صبحي إلى هذا القول وهو كلام الشاعر عن قصيدتهِ حينما قال -كما ذكرتُ أعلاه- أنه لم يتكلم من خلال شخصيّة المتنبي في القصيدة وهذا مالا أوافق الاثنين عليه.

2-"الصوت الأوّل" في القصيدة، هو صوتُ المتنبي بلا مُنازع حيثُ يتحدّثُ عن طفولته البائسة، وماتبعها من اتصالٍ بممدوحيه من الأمراء ليعتاش على ذلك بما في الأمر من امتهانٍ لكرامتِهِ وكبريائهِ:



"سفينةُ الضباب ياطفولتي

تطفو على بحرٍ من الدموعْ

تشيخُ في مرفأها

تجوعْ

تزني على رصيفهم

تستعطفُ الخليفةَ الأبلهَ

تستجدي

تهزُّ بطنها، ترقصُ فوقَ لهبِ الشموعْ" 132

3- "الصوت الثاني": وهو على مايبدو يمثّل صوت ضمير المتنبي - وهذا مايراهُ صبحي أيضاً- يقول الصوت:

"الرخُّ ماتْ

بيضةٌ تعفّنتْ في طبق الخليفهْ

الرخُ صارَ جيفهْ

في طبقٍ من ذهبٍ- يازبدَ البحارْ

وياخيول النارْ

توّثبي واقتحمي الأسوارْ

ومزّقي الشاعرَ والدينارْ

وليأكل الخليفةُ الأوراقَ والغُبارْ

ولتسلم الأشعارْ" 133

هذا هو صوت الضمير المتألّم مما أصاب الدُنيا والشاعر من موتٍ وتحجّر، فالرُّخُّ- وهو الطائرُ الذي يتجدّدُ ويبعَثُ حيّاً من رمادِه- أصبح جيفةً في طبق السلطة الذهبي، ولهذا نرى هذا الصوت ساخطاً على مايراهُ، ثائِراً حتى صاحبهِ الذي كادَ أن يصبحَ تلك الجيفة في طبق السلطان، إنه يدعوه إلى قلب كل مايراه فلا يبقى إلا الأشعار الحيّة التي تستحقُّ الحياة والبقاء.

4- "الصوت الثالث": لعلّهُ صوت المتنبي أيضاً؛ لأنه يتكئُ على ماقرأناه من هجاءٍ لكافور كتبهُ الشاعرُ غيرَ مرّة:



" كافورُ كان سيّد الخليقةْ

والشمس والحقيقة" (134)

على أنكَ قد تجدْ من يقول إنه صوت خارجي، وربما هو صوت البياتي الذي يسحب الماضي على الحاضر، مادامت حقيقة السلطة العربيّة واحدة، رغم تعددّ الوجوه!

5- "الصوت الأول": يعود في المقطع الخامس الصوت الأوّل:

"السيفُ كان ريشتي

وراية الفجيعهْ

هممتُ أن أكسرهُ

هممتُ أن أبيعهْ

أرانبٌ هم الملوكُ، حجر السقوط

رؤيا عصرنا الشنيعهْ" (135)

إنهُ صوت المتنبي وقد يأسَ من سيفهِ في زمن ملوكٍ أرانب.

6- "الصوت الرابع": هنا يتحدث البياتي بلسانِ ابن خالويه، الذي شجَّ جبهةَ الشاعرِ وأهانهُ وأذلهُ وفرّق بينهُ وبين أشياعهِ؛ وهذهِ الشخصيّة الجديدة التي يستخدمها البياتي؛ لايرمزُ بها إلى حُسّاد ومنافسي الشاعرِ؛ بقدر مايُريد منها أن تقدّم صوت السلطة:

"أنا شججتُ جبهةَ الشاعرِ بالدواةْ

بصقتُ في عيونهِ

سرقتُ منها النور والحياةْ

جعلتُهُ سخرية البلاطِ والفرسان والأشباهْ

أغمدتُ في أشعارهِ سيفي

وأفسدتُ مُريديهِ، وظللتُ بهِ الرواة" (136)

7- "الصوت الثاني": في المقطع السابع يعودُ هذا الصوت، وهو صوت ضمير الشاعر، لكنه الآن أقل حماسة وانفعالاً، إنه صوتٌ رزان واقعي يصفُ عودة الشاعر من بلاط كافور ممزّقاً جريحاً، بعد أن لمسَ بيديهِ مظاهر تفسّخ السلطة، وسبب انهيار الدولة:

"والساسةُ اللصوص والتجار والأنذالْ

يمرّغون القمرَ الأخضرَ في الأوحالْ

ويسفحون المالْ

تحت نعال جارية

ترقصُُ وهي عاريهْ

وحولهم مهرّج الخليفهْ

يمعنُ في نكاتِهِ السخيفهْ" (137)

8- "المرثيّة": بعدَ "الصوت الثاني" تأتي هذه المرثيّة، وكأنّها تُلخّص حقيقةً معروفة! مفادها: أن من يكشف ماكشفهُ المتنبي، ومن يضع يدهُ على مظاهر فساد السلطة، ويقدّم ذلك للناس فسيكون الثمن حياته، تقبضها أيد مأجورة:

"تمزّقي ياراية الحُبِّ، فأنتِ الشاهد الوحيدْ

عشرونَ سيفاً، آه ياعراقنا، أُغمِدَ في قيثارِهِ

في قلبه الطريدْ

ضفادعٌ من كلِ فجٍ أقبلتْ تؤبن الفقيد" (138)

إنه صوت البياتي، فهو أقرب مايكون للصوت الذي أطلقَ اللعنةَ الأولى في بدايةِ القصيدة.

9- "اللعنة الثانية": يتابعُ فيها صوت البياتي ماأبتدأهُ في "لعنتهِ الأولى" وما انتهى إليهِ في "المرثيّة" ولكن بصيغة التنبؤُ! إنهُ يتنبأ لهذهِ الحضارة الميتة "حضارة السقوط والضياع"، أن تنهار تحت حوافر الخيول، وأن تأكل الضباع هذهِ الجيف، وتقضي على الخليفة السكران ومهرّجه والساسة والتجّار، لكن هذهِ النبوءة غائمة، تائهة؛ إن القوى التي ستهدم حضارة اليباس هذه قوى غريبة؛ إنها خليط من ضباع وخفافيش وفئران وخيول نار، وطوفان، وبالتالي فهي تترك القارئ مشوّشاً تائهاً! فهي قوى نبيلةْ من حيث غايتها وهدفها؛ ولكنها في الوقت نفسه مزيج غريب من قوى الشر (ضباع، خفافيش، فئران) وقوى الخير- أو هكذا يبدو لي- كالطوفان (وهو رمز ديني معروف) وخيول النار.

10- "الشاعرُ بعد ألف سنة": بهذا المقطع يختتم الشاعرُ قصيدته، إن المتنبي ورغم اتحادهِ بالتراب لم يمتْ فلا زالَ:

"حصانهُ يصهل في المساءْ..

يوقظُ في ذاكرةِ السنينْ

اللهبَ الأسودَ والحبَّ الذي يموتُ في ظلِ السيوفْ

عاصفاً حزينْ

عشرون جُرحاً

فتحت في صدرهِ فاها وصاحتْ

أشعلت في دمها النجومْ

وهو على أسوار بغدادَ وفي أسواقها يحومْ" (139)

في هذا المقطع نحسُّ بشكلٍ خفي بذلك التماهي بين المتحدّث (البياتي) وشخصيّة الشهيد (المتنبي) وقد عمدَ الشاعرُ منذ بدايةِ قصيدتهِ إلى التعبير عن معاناتهِ الشخصيّة في الغربةِ والصدام مع السلطة- كما أسلفت- من خلال هذا المزج والتماهي بين شخصيتهِ وشخصيّة المتنبي! ويحسُّ القارئُ بذلك من خلال اختيار البياتي من بين كل المدن العربيّة لبغداد التي سيظلُ الشاعرُ الشهيّد يحوّمُ فوقَ أسوارها وأسواقها رافضاً الموت... أو في المقطع الثامن مثلاً حينَ يوجه الشاعر الخطاب للعراقِ أيضاً ناعياً المتنبي المقتول وغيرها من الأمثلة.

لقد قالَ لنا البياتي بشكلٍ ما إن المبدع يعيشُ حياتين! إحداهما في عصره وهي الأمرُّ، بما تحملهُ من ألمٍ وغربةٍ وما إلى ذلك، والأُخرى في العصور اللاحقه، فيصبحُ رمزاً انسانياً؛ وبالتالي فالظلمُ والقهرُ زائلان والشاعرُ خالدٌ بقوّةِ روحهِ وفنّهِ.

 

التوقيع

 


تِدفا على جال ضوه بارد إعظامي=والما يسوق بمعاليقي ويرويها
إلى صفا لك زمانك عِل يا ظامي=اشرب قبل لا يحوس الطين صافيها
 
 
رد مع اقتباس