عرض مشاركة واحدة
  #9  
قديم 01-04-2005, 03:26 PM
ابومحمد الشامري ابومحمد الشامري غير متصل
ابوحمد الشامري ( سابقا )
 
تاريخ التسجيل: Dec 2004
الدولة: شـبـكـة مـجـالـس العجمـــــان
المشاركات: 19,132
معدل تقييم المستوى: 10
ابومحمد الشامري قام بتعطيل التقييم



من إغواء الحواس إلى كشف الأعماق

(1)الحواس والطريق إلى الإبداع:‏


يطل الكائن الحي على الحياة والبيئة من خلال الحواس، والحواس، هي أحد أهم وسائل التكيف مع المحيط والتأثر به والتأثير فيه عبر عمليتي المواءمة والتمثل، وهما عمليتان نفسيتان رئيستان تنموان بنمو الإنسان. ففي المواءمة يقوم الكائن الحي في التأثير على نفسه والتغيير في آلياتها ليتطابق مع الظروف والخبرات الجديدة. فهي بالنسبة للإنسان عملية الانتباه التي تختص كلية بالتجربة الجديدة وبصورة مستقلة عن الخبرات السابقة.‏

أما التمثل فهو العملية التي يعمل من خلالها الكائن الحي في التغيير من وسطه أو بيئته ليجعل منهما وسطاً على مثاله أي يتمثل البيئة. فعندما يتعرض الكائن البشري لخبرات جديدة يحاول أن يغيرها إلى خبرات كانت مألوفة لديه.‏

فبالحواس ينفتح الذهن على الخارج. لذلك قيل "الحواس أبواب المعرفة". فالعين ترى والأذن تسمع والجلد يحس نعومة الأشياء وخشونتها يحس الحر والبرد ولحاستي الشم والذوق أيضاً وظيفتاهما. وليس ذلك فحسب فللحواس بالإضافة للوظيفة المعرفية العقلية وظيفة حيوية لأنها تقود إلى الفعل، الذي وصفناه وصفاً خارجياً في عملية التكيف بشقيها (التمثل والمواءمة)، فهي أي الحواس تؤدي إلى إيجاد شيء كان في حيّز القدرة إيجاده، وعن هذا الفعل ينتج عمل ما.‏

وهذا العمل يرتقي كيفاً بارتقاء النمو عند الكائن الحي، وبخاصة عند الإنسان من مستوى نمائي إلى مستويات أعلى، بحركة دؤوبة بين الحواس والعمل لا تستمر على الوتيرة نفسها، وإنما هي تغتني بالتجربة والتفاعل بين الفرد من جهة والمجتمع والوسط الطبيعي من جهة أخرى. من خلال هذه التجربة تنبثق الأفعال الإنسانية فهذه التجارب منذ الطفولة بذور لكل علم ومعرفة وفن.‏

يصف الفنان والأديب الراحل (فاتح المدرس) البذور المعرفية والفنية في نشأته طفلاً. فيقول:‏

"هذا الطفل ذو الثانية من عمره، الذي كنت، استراح على عواء الذئاب في الليل، وعلى سهول الأقحوان وشقائق النعمان نهاراً، وفي الصيف كنت أركض في الفلاة ألاحق جداراً زجاجياً رجراجاً من هواء الظهيرة مسدلاً بين زرقة السماء وتراب الأرض، وقبل أن أبلغه يكون قد ابتعد كثيراً، وعلمت أنه السراب".‏

بعد إغواء الحواس ومغامرة الركض والاستراحة مع صور الطبيعة، يسأل الفنان نفسه، قائلاً هل اخترقت هذا الحاجز الشفاف الرائع؟ وهل كان رائعاً بحق؟ فيسطع الجواب في ذهنه، فيقول:‏

"بلى كان رائعاً، ولكن دهشة ذلك الرائع ما وراء السراب الرهيب".(1) فإلى أي حد ظلت تثيره هذه الإحساسات وعلى أية آفاق فتحت ذهن الفنان وأية فتنة كان لها حيث قادته مغامراته الإبداعية؟‏

فالإحساسات في أية مرحلة عمرية كانت تتحول صوراً ذهنية، منها ما يطفو على ساحة الشعور في ساعات اليقظة ويجري استدعاؤها بيسر وسهولة، ومنها ما يغوص في الأعماق حيث اللاشعور، أو في طبقة مجاورة له تحت الشعور. وهذه الصور سواء انبثقت من اللاشعور أو من تحت الشعور وحضرت إلى الشعور فإنها تحمل معها شعوراً بالدهشة في ضمير اليقظة، وتفتح الذات على روعة الخلق وجمال الوجود.‏

عاش فنان إيطاليا الشهير (دافنشي) معرضاً عن رسم وجوه الأشخاص. وصد كل من قصده لهذه الغاية. لكنه ما أن عرض عليه وجه (موناليزا) تلك الفتاة التي صارت صورها إحدى معجزات الفن. وكانت زوجة لقاضي قضاة فلورنسة. ما أن رأى الوجه حتى انفتحت شهيته إلى رسمها ملبياً رغبة زوجها. فماذا كان بعد ذلك، لقد فعلت الفتنة التي التقطتها حاسة البصر لديه وربما ما وصل أذنيه من صوتها. واستمرت موناليزا تتردد إلى مرسمه، لتمثل أمامه عاماً كاملاً. وعند انقضاء الحول. قال لها دافنشي: لا ضرورة لأن تعودي إلى المرسم. فسألته: هل أنجزت اللوحة؟‏

أجاب: الآن سأبدأ.‏

واستغرق في العمل مستعيناً بالصور التي اختزنها حتى اكتملت اللوحة بعد تسع سنوات أخرى.(2)‏

إن خبرات السنوات الأولى من الحياة تظل محفورة في وعي صاحبها. وتحضر في أعمال إبداعية مستقبلاً أو تحضر في الأحلام وفيما تخطه الأقلام.. بعيد الفصول الأولى من كتاب (إحسان عباس) غربة الراعي، وهو سيرة ذاتية.. يكتب صاحب الكتاب عن قصة فتاة قروية تدعى مريم أحبت قاتل عمها الذي كان يريد تزويجها قسراً وظلماً من ابنه أحمد، وهو لا يزال غلاماً. ومريم فتاة جميلة تكبره سناً ترفض الزواج التعسفي الذي يدفعها عمها إليه. واللافت أن كتاب (غربة الراعي) الذي يبتدئ بعيد فصوله الأولى بقصة مريم، فهو أيضاً ينتهي بها. مما يعني أن القصة حفرت عميقاً في وعي الكاتب.(3)‏

(2)من الإحساس إلى الخيال:‏

غياب المشهد من الناحية الحسية وانحسار الإحساس لا يعني الافتراق عنه نهائياً. وإنما تعود صوره إلى الذهن بعملية إرادية أحياناً وفي أحيان أخرى بتلقائية وعفوية. ويمكن الاستدلال على صحة ذلك بما يحصل في أحلام النوم، أو أحلام اليقظة، بخاصة حين يعيش المرء حالة من نقص الفاعلية تؤدي إلى ضعف سيطرته أو فقدانها على الواقع. وفي هذه الحالة يتداخل عالما الخيال والواقع بما يسمى بالخيال الإيهامي. وفي حالات أخرى تكون السيطرة العقلية أو الواعية على الصور ضعيفة، عندئذ تجنح الأحلام للابتعاد عن الواقع فتنسج من صورها المخزونة فانتازيا يتمكن المبدع في حالات الاستشراف من التقاطها وتوظيفها في نتاج من النتاجات الفنية، بحيث تلعب الإرادة فيما بعد دورها في تشذيبها وجعلها أكثر منطقية وقبولاً من قبل المتلقي. إلا أن التخيل لا يكون نتيجة لضعف السيطرة دائماً وإنما قد يندفع المرء إليه بسبب من عنف الرغبات والدوافع وصلابة البيئة وعدم استجابتها.‏

إلا أن الصورة في التخيل ليست نسخة طبق الأصل عن الواقع، فالمتخيل يسبغ عليها أشياء من ذاته ويسحب منها بعض تفصيلاتها مضيفاً إليها تفصيلات أخرى.‏

ففي حين يحرر التخيل الذهن من شروط الواقع القائم فهو لا يكون دائماً في المستوى ذاته بل يخضع لعملية النمو شأنه في ذلك شأن الفعاليات الذهنية والعقلية الأخرى. وهو لا يظهر كفعالية لها استقلالها وخصوصيتها قبل السنة الثانية من الحياة، لأنها تخضع كغيرها من الظواهر النمائية في الانتقال من حالة اللاتمايز إلى التمايز. فبفعل نمو القدرة على التذكر والنمو اللغوي يمكن للملاحظ أن يكتشف قدرة التخيل عند الطفل وتظهر في سلوكه خلال حالات مختلفة مثل تشخيص الأشياء أثناء اللعب، واتخاذ الطفل شخصية متخيلة له غير شخصيته. كما أن استغراقه في اللعب يستدل من خلاله أنه مستغرق خيالياً مبتعداً عن وجود من حوله ذهنياً.. كما أن الأحلام تبرز في سلوكه وإن كان لا يدرك أنها أحلام.‏

هذا الارتقاء في قدرة التخيل عند الطفل يعني أنه قد أخذ يتحرر من وطأة الواقع المباشر، وذلك بتغيير معالمه.‏

ترى (شارلوت بوهلر) في هذا التغير الخيالي لمعالم الواقع المباشر خطوة أولى نحو زيادة استقلال الذات، وهو ما سينقله إلى التغيير الواقعي لمعالم الواقع.‏

كان فرويد يميل في نظرته إلى الخيال على أنه المستوى ذاته مع الحلم والهلوسة واللعب، وعدّه شكلاً غير ناضج للأداء العقلي الذي كان أساساً شكلاً هروبياً وغير واقعي. أما (يونغ) فقد تناول الخيال بجدة وشجع مرضاه على الاستفادة منه في سعيهم إلى الصحة النفسية والاستقرار، وشجع من بلغ منهم مرحلة متقدمة من المرض على الدخول في حالة الاستغراق في التفكير الحالم...(4)‏

فالخيال إذ يحرر الذهن والتفكير من شروط الواقع القائم فهو يساعد الإبداع في اكتشاف أو اختراع الموضوع الإبداعي بعلاقاته وأشيائه.‏

والخيال لا يبعد، في حدوده السوية، التوقع فعندما يفكر الطفل في المرغوب فيه وفي انتظار الوعد، قد يثير في نفسه بنفسه صور بعض الأشياء أو المواقف التي يحرم منها.(5)‏

يفعل المبدع ما يفعله الطفل عندما يكف بالتدريج عن اللعب بالأشياء الحقيقية فيستبدل بها الخيال وأحلام اليقظة. فالخيال مستمد من اللعب.‏

لكن العملية الإبداعية ليست دائماً حالة هروبية من الواقع بل أن الفنان يحوّل أخيلته إلى نوع جديد من الحقائق التي يقدرها الناس بوصفها انعكاسات قيّمة للواقع.(6)‏

ففي كتاب (متع الخيال) لأكنسايد يقدم الكاتب عن لحظة الإبداع الشعري لمحة تتكرر كثيراً حيث يُدعى الشاعر طفل الخيال وهو ما أطلقه ميلتون على شكسبير في قصيدته (الليجرو).‏

إن عين الشاعر التي في جنون مرهف تدور‏

ترنو نظرتها من السماء للأرض ومن الأرض للسماء‏

وكلما جسد الخيال‏

صور الأشياء المجهولة، حولها قلم الشاعر‏

إلى أشكال، ومنح الخواء مقراً ووهبه اسماً‏

يتساءل الكتاب وعلماء النفس، كما يتساءل الناس من مستويات معرفية وثقافية مختلفة، ما هي القدرات المعرفية التي تهب المبدعين قدراتهم على الإبداع والابتكار؟ أهي الإحساس أم التذكر أم التخيل؟ ويرى (جيرارد) أن مفتاح السر هو الخيال لا غيره أي أن الإبداع ينشأ من الخيال.‏

بالخيال يغوص الإنسان داخل الأشياء وأعماقها.. ويفتش في أعماق الذات عما هو خالد وابدي فيبعث الحياة في الجمادات وفي كل ما هو زائل، لكن (تشارلز مورغان) يحذّر من سوء استخدام الخيال الذي يقود إلى الكثير من الحماقات فأصل حماقات الإنسان يعود إلى سوء استخدام خياله. وهو ما يميّز المبدع عن غيره.‏

ولعل الحكاية التي تُروى عن رجل أفاق ليلة القدر حيث الدعاء يستجاب فتمنى لو يطول أنفه وحين نظر إلى المرآة راعه ما رأى فتمنى أن يقصر أنفه وفي هذه المرة أيضاً لم ير في المرآة ما يسره فتمنى لو يعود أنفه إلى حيث كان.. لكن الليلة انقضت ولم يعد السؤال مستجاباً.‏

وفعل التخيل لا يتحرك ولا يكون في الخواء إنما تحركه دوافع متعددة ويبدأ عمله إذ يتحرك بين الحب والكره والحيلة والتفكير والرغبة في البقاء والخلق. وهذه الرغبة والنشاط الذي يبذل من أجلها تكون غايته بعث الحياة وتحقيق الخلود. فإيزيس التي جمعت أشلاء زوجها أوزوريس بعد أن رماها أخوه ست إله الصحراء في نهر النيل، لم تخضع لإرادة الآخرين فبالحب والإرادة والعقل والتشكيل الجمالي تمكنت من إعادة أوزيريس إلى الحياة.‏

(3)بين الخيال والدافع:‏

الدافع شحنة تمر بمراحل ثلاث هي: المصدر حيث يكون الشخص في حالة توتر داخل جسمه والهدف، الذي يتمثل بإزالة التوتر، أما المرحلة الثالثة فتكون بالأداة التي يحصل بها الدافع على الإشباع المادي أو المعنوي.‏

من هذه الدوافع دافع الحياة الذي يشمل (الليبيدو النرجسي) والليبيدو الذي له علاقة بما هو خارج الذات. وقد وصف هذا الدافع بحسب بعض مدارس التحليل النفسي بأنه (إيروس) إله الحب عند الإغريق ورمز القوة المبدعة. كما وصف بأنه إله الرغبة الجنسية وهو يتصف بالصلف والقسوة والاعتداء.. أما الرومان فأسموه (كيوبيد) وهو الطفل المجنح الذي يحمل سهام الرغبة الجنسية يصوبها أنّى شاء.‏

وإذا عدنا إلى المرحلة الأولى التي يمر بها الدافع (المصدر) فالتوتر الذي ينتاب الشخص إنما هو نتاج حاجات الإنسان التي تنتظم وفق هرم قاعدته الحاجات الضرورية وقمته الحاجة إلى الإحراز أو تحقيق الطموح وتتوسط الحاجات الاجتماعية والحاجة إلى التقدير وكذلك الحاجة إلى الأمان هذا الهرم.‏

لكن المرء في سلوكه لإشباع حاجاته لا يستمر باتجاه تسلسل إشباع الحاجات فقد يتطلع لإشباع نوع من الحاجات لا تتفق في تسلسلها مع الترتيب الهرمي. والدوافع التي تدفع هذه الحاجات للحركة والإشباع مختلفة كما أن قوة ودرجة الإشباع تختلف من شخص إلى آخر. وسلوك الفرد من الناحية النفسية يعدّ رمزاً أو تمثيلاً لأمور كامنة ومستترة يمكن الاستدلال عليه (من تصرفاته، والعالم الرمزي الذي ينتجه الفن والأدب مستمد من الخيال ومن اللاوعي وهو ما تكشفه الأساطير التي يغذيها خيال البشر الذين خلقوها بمضامين جديدة، وربما كانت المدرسة الرمزية التي أدمجتها بعض المراجع الفنية إلى المدرستين التعبيرية والسريالية وأطلقت عليها اسم الاتجاه الخيالي (الفانتازي) هي بعض تجليات الخيال الإنساني الذي نما في الأساطير بعد أن أنتجها وتفاعل معها. وبلغ بها الخيال إلى تصور العلاقة بين الآلهة والبشر بما فيها كبير آلهة الإغريق زيوس. ويوضحها ما جاء في (الأوديسة) التي تقول فيها الآلهة موجهة كلامها إلى أوديسيوس:‏

إنك تفوق البشر والآلهة مكراً ودهاء‏

وكلانا يتقن الكذب الذي ينفع ولا يضر‏

فأنت بين البشر أرجحهم عقلاً وأفصحهم لساناً‏

وأنا بين الآلهة أكثرهم دهاء وأخصبهم خيالا(7)‏

وقد كتب (أندريه مالرو) على لسان (بيكاسو) ما يشبه ذلك:‏

"فليسقط الأسلوب هل كان لله أسلوب؟ إن الله خلق القيثارة والكلب والقط والبوم واليمام مثلي. والفيل والحوت نعم، لكن الفيل مع السنجاب؟ إنما خلق الله ما لم يكن موجوداً، أي من العدم، وها أنا أيضاً أخلق من العدم، وخلق الله من الرسم، وأنا أيضاً".(8)‏

الحاجة إلى الإحراز وتحقيق الطموح تدفع بالكاتب، سواء شعر بذلك أم لم يشعر، إلى فضاءات من الخيال لم يكن ليتصورها بشعوره وتتردد عبارة (هذا العمل هو الذي كتبني بقدر ما كتبته.. هذا ما عبر عنه الروائي والشاعر الفلسطيني إبراهيم نصر الله وهو يتحدث عن روايته (براري الحمّى).‏

(4)من الإحساس والخيال إلى كشف الأعماق:‏

حين يغمر نفوسنا حلم اليقظة ويملؤها بومضاته، يعود بنا إلى أعماق إنسانية إلى ينبوع الحياة، فيكشف بذلك عن نواة كامنة للطفولة في أعماقنا لا تحيا إلا في لحظات نادرة سامية هي لحظة الانبثاق والإلهام. يربط هذا الحلم الجميل الحالمين بالكون، ويفجر انطلاقة في نفوسهم هي خلاصة الحياة المتدفقة وجوهر الرغبة الجامحة، وحين يرتكز حلم الطفولة على دفقة الزمان الراسية وعلى لحظة تألقها المفاجئ، حينها تنفجر أحاسيس الدهشة ومشاعر التعجب التي تعدّ أساس التساؤل الإنساني الذي يفترض حالة من البساطة والسذاجة تذكرنا ببساطة الطفل وبراءته. وحين يلجأ الكاتب أو الشاعر أو الرسام إلى الجرأة والمغامرة الفكرية في غياب لحظة الإشراق الداخلي يسود إيقاع متكرر فيلجأ هذا إلى الكتابة البليغة محل الخلق والإبداع فيكتفي آنئذ بالتعامل مع الألفاظ والتحاور معها دون التعامل محل الأشياء والإحساس بها.‏

لكن حلم اليقظة حين يغمر نفوسنا ويملؤها بومضاته يرجع بنا إلى جذور الوجود وينبوع الحياة الأول، فيكشف عن نواة كامنة للطفولة في أعماقنا، لا تتأثر بكرّ الزمان ولا بضربات الخطوب لأنها تعيش خارج الزمن والتاريخ اللذين تألفهما، ولا تحيا إلا في لحظات نادرة هي لحظات الإلهام الشاعري وانبثاقه في ضمير الشاعر أو الفنان الأصيل. هذا الحلم الجميل يربط الحالمين بالكون ويفجر في نفوسهم انطلاقة هي خلاصة الحياة المتدفقة وجوهر الرغبة الجامحة إلى التمدد والتوضع إلى ما لا نهاية.(9)‏

فالعالم النفسي المحجوب المنسي- كما يقول عالم النفس زازو- الذي لم يعشه المرء هو الذي يجعلنا نحيا ويحدد الراشد لدينا.‏

في محاولته كشف الرؤى التشكيلية عند الفنان (أحمد فؤاد سليم)، يقول محمد كامل القليوبي: "في الفعل المبدع عملية تشكيل وتكوين لعالم متكامل وفق رؤية خاصة تحتويه وتتجاوزه بمستويات مختلفة باختلاف مبدع عن آخر. فالكاتب والرسام في العملية الإبداعية يقيمان عالماً كاملاً له بناؤه ومنطقه في عملية جدل مستمر مع العالم".‏

وفي جوابها عن الإبداع، تقول برث: "ينبع الإبداع من عالم الروح أي من الوعي الجماعي، ويختلف العقل في عالم آخر عن جزئيات المخ، الذي هو مستقبل وليس منبعاً.‏

والأثر الفني ـ بحسب يونغ ـ هو الولادة الحية أو هو الإحضار للاوعي الجماعي. فالفنان يقوم بدور الأم في حمل هذا الوعي جنيناً، ثم تكون ولادته بعد تكامل نموه ونضجه في رحمه، يطوف همسات غائمة فيها الشيء الكثير من الضباب وعدم التوضيح(10).‏

في هذا التأكيد على دور اللا وعي في الإبداع نقرأ الشرح الذي يقدمه (بريتون) للسريالية التي هي المخلوق التلقائي الذي يتعدى الواقع المكشوف إلى الواقع المحجوب، فوراء الواقع أي في اللا وعي الحقيقة الشاملة التي ينطوي تحتها كل شعر، كل مجاز، كل شهوة، كل حلم، وما هذا إلا لغة النفس التي وهي في الأعماق لا تنطق إلا بالرموز المغلقة(11).‏

يصل الخيال إلى أعماق الأشياء ويجوب دواخلها، وتدور قواه حول محور الانطلاق أمام الجديد والمتنوع والمفاجئ باعثاً الحياة في السبب الشكلي، ويغوص إلى أعماق الذات باحثاً عن الأبدي والخالد فيها، وقد يكون ذلك هو ما رمى إليه محي الدين بن عربي حين قال:‏

وما الوجه إلا واحد غير أنه إذا أنت عددت المرايا تعددا‏

فيما سبق تعبير عن الوحدة العميقة داخل الشخصية الإنسانية التي يشتاق إليها الفن في نزوعه الداخلي حيث يمتلك الفنان فيصير أداة له، وكأنه لا يتمتع بإرادته الحرة، ولا هو قادر على السعي إلى غاياته. لكنه حين يصبح أسير فنه تتدفق الإبداعات عنه، تدفق الماء من الينبوع فيسمح له ذلك تحقيق أغراض الفن. فالمبدع إنسان له أحواله وإرادته الشخصية شأنه في ذلك شأن الآخرين أما كونه فناناً أو شاعراً أو.... فهو يكون إنساناً بمعنى أسمى، إنساناً جماعياً يحمل ويشكل كفرد الحياة اللا شعورية النفسية للجنس البشري.‏

فالشعر العظيم ـ كما يقول يونغ، في مقالته الشعر وعلم النفس... يستمد قوته من حياة الإنسان من حيث هو نوع، وسنخطئ معنى الشعر بشكل تام إذا حاولنا استلال هذا المعنى من عوامل شخصية. ففاوست ـ وهو مثال ذكرناه سابقاً ـ هو الذي خلق غوته لأن فاوست موجود في أعماق كل ألماني، فالنماذج الأولية والأنماط البدائية مكونات للاشعور الجمعي وتتمثل في الصور والأفكار اللاشعورية الجمعية الموروثة من تراث الأسلاف وعبر الأجيال، وتتمثل في أفكار مشتركة بين البشر مثل الأفكار والصور الخاصة حول (الله والشيطان والحياة والموت)، وتتجسد هذه الأفكار في الأعمال الفنية العظيمة التي يطلق عليها بعض علماء التحليل النفسي اسم "الفنون الكشفية" والتي يكتشف الفنان من خلالها بالحدس، والأحلام، تلك المناطق المجهولة من الطبيعة البشرية ويكون على المتلقي أيضاً، أن يقوم بدور مماثل لاكتشاف هذه المناطق المجهولة.(12).‏

فكأن الفنان أو الشاعر يقوم بمهمة نقل ما في اللا وعي الجمعي إلى عالم الوعي. ولكن أية موهبة يمتلكها الفنان حتى يستطيع الإفصاح بما لا يستطيع الإفصاح به إنسان آخر؟ ولعل تفسير ذلك نجده في تجاوب جمهور المتلقين مع ما ينتجه الفنان وبخاصة ما أنتجه فنانون كبار مثل "بيكاسو، وماتيس" اللذين عادا إلى معين الفن البدائي.‏

هذا التوحد مع أعماق النفس حيث اللاوعي الجمعي، وحيث يثوي ماهو خالد، وتكون حياة الإنسان اللاشعورية كفرد هي الحياة اللاشعورية النفسية للجنس البشري. نقرأ ملمحاً عنه في (جدارية) محمود درويش:‏

ولا يكفي الكتاب لكي أقول‏

وجدت نفسي حاضراً ملء الغياب.‏

وكلما فتشت عن نفسي وجدت‏

الآخرين. وكلما فتشت عنهم لم‏

أجد فيهم سوى نفسي القريبة‏

هل أنا الفرد الحشود؟‏

وأنا الغريب تعبت من درب الحليب‏

إلى الحبيب تعبت من صفتي.‏

ويعبّر الكتاب والفنانون من خلال نتاجاتهم عن حالة الكشف والإبداع هذه بقول أحدهم: "يتحول الكاتب إلى جزء من لعبة ملخصها (هولا يكتب بل ينكتب)".‏

فثمة قوة خفية تفضح جوانية الإنسان بعامة والمبدع بخاصة فلا يملك أن يخفي أسرار أعماقه إلى الأبد، يقول فرويد في هذا الصدد: "من كانت له عينان ليرى وأذنان ليسمع، بوسعه أن يوقن بأنه مامن فانٍ قادر على أن يطوي سره إلى الأبد. فإن صمتت شفتاه ثرثر بأطراف أصابعه، ونضحت النميمة من كل مسامه".‏

والكاتب يردد السؤال دائماً ماذا أكتب، وعمَّ أكتب؟ حتى ليخال المتلقي أن هناك شكاً ورهبةً في العلاقة مع الكتابة. لكن كما تقول ميسون علي، في بحثها: (أثر المرجعي في تمييز بنية الشكل في رواية مملكة الغرباء، لإلياس خوري)، "الكتابة ليست شكاً بل هي بحث. في هذا البحث تتوزع ذات الكاتب وتتعدد وتتحول إلى مجموعة من المرايا المتقابلة، يتحول الكاتب إلى جزء من اللعبة هو لا يكتب بل ينكتب". وتردد الناقدة قولاً لالياس خوري نفسه في الرواية ذاتها هو: "إن الشكل الروائي الذي تتخذه محاولاتي بعد اكتمالها دائماً يفاجئني".‏

وفي مقابلة معه قال عن تجربته في (الوجوه البيضاء): "كانت الرواية مشروع قصة قصيرة وفي جلسة واحدة كتبت /110/ صفحات واكتشفت أني أكتب شيئاً لم أخطط له، كانت تقودني إلى مكان أجهله.".(13)‏

وفي مثال ثان. يصف (مروان قصاب باشي) ـ وهو فنان تشكيلي معروف ـ ، طريقة (عبد الرحمن منيف)، في الكتابة الروائية بقوله: "غالباً ما يبدأ عبد الرحمن بالقلم من نقطة يسيّرها بسرعة في خط متواصل ومتسمّر، يكتب فيه بدل الكلمة رسمة يرسمها بسرعة كبيرة، تأتي من شعور باطني حافز التأهب والرغبة في التخطيط ورؤية الموضوع بشكل آخر عن طريق الرسم، وهذه النقطة ما تكاد تبدأ حتى تنتهي بذلك الخط أيضاً، مع تركيز كبير". (ذات الطريقة) التي نادى بها السرياليون في استحضار العمل وسمّوها بالأوتوماتيكية في الفن، لاعتقادهم أنها الطريقة المثلى في تقديم ما يعتمل في داخلنا من أحلام وتحركات لها منطقها وصدقيتها... إن حركة النفس الداخلية والرغبة الغامرة في التعبير تأخذان إيقاعاً ملحاً يتصاعد أثناء العمل ذاته. وقد يحمل العمل الفني في طياته النبوءة... يقول (إبراهيم نصر الله): بعد إنجاز روايته (الأمواج البرية)، وقد بدأ بنشرها على حلقات في جريدة "صوت الشعب"، وقد سأله يوسف القعيد وقتها: ـ ما معنى كتابة عمل أدبي عن الانتفاضة الأولى وهي لم تزل في أيامها الأولى؟... وكيف يكون هناك كتاب عن حدث ما زال يتكون في رحم الواقع؟...‏

يقول: "هذا الكتاب تم إنجازه قبل الانتفاضة بشهرين".‏

فالدهشة التي تتملك المبدع فيما ينتج تكاد تكون عامة، فالروائي الإنكليزي (ثاكري) قال عن أحد أعماله: "أصابتني الدهشة للملاحظات التي أبدتها شخصياتي. ويبدو وكأن قوة خفية كانت تحرك القلم. فالشخصية تتصرف وتقول، وإني لأتساءل كيف تأتَّى لها بحق السماء أن تفكر بذلك".‏

إنها الرحلة مع الخيال بين الإحساس والأعماق. ذلكم جانب من التجربة الإبداعية التي تظل عصية على الامتلاك... والتي تفصح على الدوام عما هو مشترك بين المبدع والمتلقي. (ـ الإيقاظ لهم عالم مشترك واحد، ـ أما النيام فلكل عالمه)، كما يقول هيراقليطس.‏

(1) كتاب العربي- العدد 39- ص 221.‏

(2) السابق.‏

(3) جان طنوس نعوم: مجلة الطريق- 75/4- ص 178.‏

(4) انطوني ستور في العبقرية- م.س- ص 300.‏

(5) مصطفى سويف: الأسس النفسية للتكامل الاجتماعي- ص 164.‏

(6) انطوني ستور- م.س- ص 301.‏

(7) محمد صقر خفاجة: شاعر الخلود (هوميروس).‏

(8) جوزين جودت عثمان: عالم الفكر 3/8، ص 54.‏

(9) باشلار: عالم الفكر 11/2، ص 204.‏

(10) ـ عن محمد المبارك ـ الآداب ـ أيلول ـ 1970 ـ ص77.‏

(11) ـ كتاب العربي ـ 39 ـ ص25.‏

(12) ـ شاكر عبد الحميد ـ التفضيل الجمالي (ص 449 ـ 450)، عالم المعرفة 267.‏

(13) ـ الطريق ـ العدد 1 ـ السنة 2000 ـ ملف عن الياس خوري.‏

 

التوقيع

 


تِدفا على جال ضوه بارد إعظامي=والما يسوق بمعاليقي ويرويها
إلى صفا لك زمانك عِل يا ظامي=اشرب قبل لا يحوس الطين صافيها
 
 

التعديل الأخير تم بواسطة : ابومحمد الشامري بتاريخ 01-04-2005 الساعة 03:52 PM.
رد مع اقتباس