عرض مشاركة واحدة
  #5  
قديم 01-04-2005, 03:20 PM
ابومحمد الشامري ابومحمد الشامري غير متصل
ابوحمد الشامري ( سابقا )
 
تاريخ التسجيل: Dec 2004
الدولة: شـبـكـة مـجـالـس العجمـــــان
المشاركات: 19,132
معدل تقييم المستوى: 10
ابومحمد الشامري قام بتعطيل التقييم



القراءة إنتاج المعاني

(1) وظيفة القراءة‏


فعل القراءة من أرقى الأنشطة التي يمارسها بنو البشر، فعلى الرغم من التنوع الواسع في وسائل الاتصال والتثقيف والمعرفة وطرائقها، وما ابتكرته من أسباب الجذب والتشويق، فإن ما يوليه المهتمون بشؤون التربية من مربين وأولي أمور لتعليم القراءة وتشجيع النشء على اعتيادها يندرج في إطار الأهمية التي ستبقى القراءة تحتلها في مختلف شؤون الحياة، من تثقيف ومعرفة واستمتاع.‏

فلم تزل المادة المطبوعة ذات قيمة عالية في اكتساب المعرفة، وأن الوسائل السمعية والبصرية التي تتنوع أشكالها في وسائط الإعلام لا تقلل منها على الرغم من كل ما في هذه الوسائط (مذياع، تلفاز، سينما، انترنيت...) من أسباب المتعة والسهولة واليسر وتوفير الجهد والوقت.. لكنها على أهميتها تبقى وسائل مكملة للكتاب ولا تتعارض معه، ومن شأنها أن تؤدي إلى تزايد الطلب على القراءة.‏

ومنذ العصور القديمة كان اهتمام الإنسان بالقراءة. فقد ورد في تعاليم أحد الحكماء المصريين القدامى قول موجه منه إلى ولده:‏

"ليتني أستطيع أن أجعلك تحب الكتب أكثر من حبك لأمك، وليت في استطاعتي أن أبرز لك ما في الكتب من روعة وجمال، فالكتابة أشرف مهنة في الوجود".‏

وللقراءة وظائف جمة، قد لا يدرك البحث جميعها. منها:‏

1- إنها توسع في أفق الإنسان من النواحي المعرفية والوجدانية وتساعد على انطلاق الخيال وتنشيط التفكير فيرود الإنسان بوساطتها عوالم لا متناهية.. فتنمو المعارف أفقياً وعمودياً. وعبّر المخترع الشهير (أديسون) عن هذه الوظيفة الهامة بقوله: "بالقراءة تعلمت كل شيء".‏

2- إنها واسطة تعلمية هامة تفسح في المجال لتعلم ذاتي ومستديم ما دامت الحياة.‏

3- بالقراءة يمكن أن تتم بعض المعالجات للمشكلات النفسية فهي تخفف من التوتر والضيق النفسيين، وبممارستها رياضة للنفس وراحة للفكر إضافة لما فيها من متعة.‏

4- للقراءة وظيفة تشخيصية تساعد المربي والأخصائي في مجال العلوم النفسية والتربوية والاجتماعية في اكتشاف عاهات ما لدى القارئ كما تكشف كثيراً من أسباب عدم التلاؤم النفسي والاجتماعي مما يساعد على تفهم حالات كثيرة من حالات عدم التكيف أو التكيف السيء مما يساعد على العلاج في حينه ووقته المناسبين.‏

5- للقراءة آداب وطقوس بحيث يمكن تصنيف القراء تبعاً لها في مستويات مختلفة وفقاً لها وبالاستناد إلى أهداف القارئ التي تستقرأ من خلال العلاقة بالمادة المقروءة.‏

(2)القراءة والإبداع:‏

كما نصف كاتباً بالمبدع ونصف النص الذي ينتجه بالعمل الإبداعي ونصف الفعل بالفعل الإبداعي كذلك يمكن أن نتحدث عن قارئ مبدع وقراءة إبداعية. فالنص –كما يقول (دي مان) -لا يقرأ نفسه مهما كان نوعه، وإنما يحتاج إلى قارئ يكشف عنه ويحركه ويجعله نابضاً بالحياة. فالنص لا يكون كذلك إلا بفعل عيني قارئ وعقله.‏

القراءة تجربة تفتح النص أمام التفسير، إنها حوار جدلي بين القارئ والنص، وبين الأسئلة التي يثيرها القارئ والأجوبة التي يقدمها النص، وبين الأسئلة التي يطرحها النص والأجوبة التي يحاول القارئ الإجابة عليها. وإضافة لذلك وبين الإجابات التي لا يقدمها النص والأسئلة التي يثيرها الكاتب الجديد للنص، وهو القارئ في محاولة كتابة نص جديد(1) يكون المتلقي في أثناء فعل القراءة أكثر من مجرد نفسه، وهو يتخيل بغير خياله، ويشعر بقلب غير قلبه- على حد تعبير (ج. س. لويس)- الذي يضيف إلى ذلك قوله: "عندما أقرأ الأدب العظيم أصبح ألوف الرجال ومع ذلك أبقى أنا نفسي، إني أرى بملايين العيون، ولكن الذي يرى لا أزال أنا... وكما هو الحال في العبادة والحب والفعل الأخلاقي، وفي المعرفة فإني أسمو على نفسي، ولكنني أكون حقيقة نفسي أكثر منه في أي وقت من الأوقات".‏

قد يتبادر للوهلة الأولى أن المتلقي في حالة القراءة، سواء كانت قراءة لوحة أو نص أدبي أو غير ذلك من ضروب الفنون يكون منفعلاً أو بحالة من حالات الانفعال أو ردود الأفعال البسيطة، لكن الواقع ليس كذلك، فليس القارئ –كما يظن- مجرد جهاز استقبال أو مستقبل، أو أنه واقع تحت وضع لا يسمح له إلا باستجابات بسيطة كالاستحسان أو النفور، أو أن ما يتعرض له من تغيرات وتحولات نفسية أو عقلية إن مثل هذا التخمين أو الظن لا يتعدى الانطباعات الأولية الذاتية ليس أكثر. فالقراءة فعل وليست انفعالاً، والنتيجة السابقة فيها الكثير من التسرع والسطحية في تقويم عمل القارئ، ولا أقول هنا الناقد، فليست القراءة مجرد عمل يقصد به التسلية واستهلاك وقت الفراغ واللهو أو النسج على وهم يهدف إلى التلاؤم مع وطأة الحياة وثقل الزمن. إن القراءة فعل ذو صلة بميادين ومجالات اجتماعية وأخلاقية متنوعة. وتتضمن فعاليات حسية حركية من ضمنها عمليات النطق والإبصار وحركة الشفتين والعينين ووضعية الجلوس وحركة الحبال الصوتية وغير ذلك مما تتطلبه القراءة جهرية كانت أم صامتة، لكن القراءة الجهرية تتطلب وضعاً اتصالياً مركباً يكون القارئ في أثنائها على صلة بنص يستجيب له فيكون معه متلقياً، يحركه ويبعث الحياة في كيانه بعامة، وبعقله بخاصة، وباتجاهين أو مسارين يتفرع أحدهما عن الآخر. مسار من النص إلى القارئ، ومسار من القارئ الذي يصبح مرسلاً إلى متلق ثانٍ (مستمع) أو أكثر. وقد تتخذ العلاقة أشكالاً متنوعة من مسارات خطية إلى أخرى متشعبة أو لولببة أو أنها تتخذ شكل شبكة متعددة الصلات والتقاطعات.‏

(3)فعاليات القراءة:‏

قد تكون القراءة صامتة وهي الأكثر شيوعاً في علاقة القارئ بالنص أو المشاهد باللوحة أو المجسم.. فلا تبدو العلاقة البيولوجية حركة أو جهداً ظاهراً.. وتتخذ شكل مسار خفي لا تمكن ملاحظته ولكن بالإمكان استقراءه بعملية تقويمية مقارنة بين حالة سابقة على الاتصال بالنص وبين مخرجات الاتصال به، كما يحدث في تقويم أي امتحان أو اختبار معرفي آخر.‏

وإضافة لما ذكر تتضمن فعالية القراءة فعاليات مكونة لها، عقلية ونفسية، وتفاعلات عاطفية وعمليات إدراكية وتذكرية يتآزر فيها فعل التصور والفهم والاستيعاب والتمثل والتطبيق والنقد والتقويم والتحليل والتركيب. وتبدو خلالها استجابات يقرأها الملاحظ في سلوك المتلقي (إقدام، إحجام، أو فيما يبدر عنه من ملاحظات أو التعليقات تتم عن الرغبة بـ، أو الرغبة عن.. الخ‏

وتختلف هذه الأفعال والاستجابة من حيث المستوى والدرجة من شخص لآخر، ومن زمن لآخر حتى بالنسبة للمتلقي نفسه.‏

ولا تستبعد من ذلك عملية التأثر بالنص وما يحمله من مضامين وما يشي به من معاني وما يحيله إلى خارج ذلك.‏

وقد تبلغ العلاقة بالنص حداً يتوحد فيه القارئ بالمادة أو النص أو الموضوع.. وإن في مستويات متنوعة. ويحدد الهدف من قراءة النص أحياناً مستوى أقل من القراءة الفعلية إذا اعتمد الفعل في البداية على مقدمات تهدف إلى كشف العلاقة وتحديدها أو استخدام النص في عمل من خارجه.‏

قد تكون القراءة هواية، وقد تكون وظيفة، وقد تكون ذات هدف يحدده القارئ مسبقاً وتتنوع بتنوع وظيفة القارئ وعمله (طالب، هاو، باحث، ناقد..) وخارج هذا القوس يكون القارئ الذي يستغل القراءة لتزجية فراغ عابر أو استجلاب النوم أو التخلص من ملل أو كسر حدة انتظار موعد.‏

تتباين الوظائف كما تتباين الهوايات، وبداية يكون التمايز مطلوباً بوضوح بين قراءة يقوم بها متلقون يقولبون تفكيرهم مع النص، أو يقسرونه للتطابق مع النص. وبين قراء ذوي عقل نقدي دون أن يكونوا من الباحثين أو النقاد أو المسؤولين والمحترفين.‏

ومما يتعلق بهذا الموضوع (الفعل، الفن، الانفعال) وكل المداورات والتفاصيل والعناوين والجزئيات وما يتكون منها ومن تفاعلها من كليات وتعميمات مهارة القراءة.. هل هذه المهارة معرض عنها في الزمن الثقيل والمثقل أم أنها في حالة تمدد أفقي أو شاقولي أو كليهما في وقت يتزايد فيه حملة الشهادات والحاصلون على الدرجات والألقاب العلمية المتكاثرة؟ هل هذا التكاثر تكاثر صحي أم أنه تكاثر سرطاني يشوه الثقافة ويسطحها ويدخلها في النفق المظلم؟‏

ومع هذا –الذي يشكو منه المهتمون ولا يرون فيه ظاهرة صحية –هل يبلغ الوجع حداً يدفع إلى التفكير والتفكر والتأمل والفحص والبحث والاستكشاف؟ أين يكمن السبب في العزوف عن القراءة؟ هل هو في المادة المقروءة؟ أم في الاكتفاء بالألقاب والأوسمة والزحف نحو المناصب وتقاسم الغنيمة وتعاطي شهادات الزور في المحافل والمؤتمرات والندوات التي يُقرأ في معظمها حال التردي..‏

قد تكون الصورة قاتمة حين يرى المرء أصنافاً من حملة الاختصاصات فقدوا صلتهم بالكتاب وبالقراءة واكتفوا بحمل الحقائب المحشوة بالأوراق الثبوتية التي تؤكد حيازتهم على الألقاب.. وتصبح هذه الأوراق كربابة البدوي الذي يتنقل بين مضارب القبائل يدعي الشعر بأشعار للآخرين لا ينقلها كما هي بل يشوهها وقد يدعيها لنفسه.‏

المجتمع المبعد عن القراءة، أو المجتمع الذي يعيش حالة الارتحال حيث السمة الأساسية له الاستهلاك والانغماس فيه...‏

يفرز الإهمال في تعلم القراءة وتعليمها متعلمين لم يتعلموا و (مثقفين) لم يتثقفوا، وما أكثر هؤلاء في مفاصل المجتمع الحساسة اقتصادية واجتماعية وثقافية و... في خضم هذا التردي والعطالة يجد الشامتون والحالمون من ذوي النوايا السيئة وغيرهم ممن تستهويهم الشعارات الفضفافة وأولئك الذين يقولون ما لا يضمرون فيعيدون كل شيء إلى أسباب يحيلونها إلى اللغة (العلة والمرض فيها، في حركات الفتح والضم والكسر والسكون) ويتكاثر المنظرون والمتفكرون من دعاة هجر العربية وغيرهم ممن لهم أهداف لا يخفونها، تهشيم اللغة، تخريبها، إلغاء التذكير والتأنيث، التثنية امتداداً إلى جمع المذكر السالم جمع المؤنث السالم وجمع التكسير.. اللهجة المحكية حل طرح وهناك من ينفذه بإصرار عبر وسائل اتصال لها اتجاهاتها وغاياتها إضافة لجاذبيتها وعناصر التشويق التي تذروها وتعطرها.. الكتابة باللاتينية بموازاة ذلك، وتتسلسل الحلول والاقتراحات تحت لافتات متنوعة تستخدم كلمات ومفاهيماً تخرج عن الحدود التي رسمها أصحابها (تقدم، عصرنة، تربية شاملة، تنمية شاملة).‏

كيف يتسنى للقارئ ضمن هذه اللوحة المزدوجة بالزيف والتزييف أن ينمي مهاراته ويسهم في إنتاج معاني النصوص التي دبلجها القادرون أن يؤمنوا لأنفسهم زوايا وصفحات وإصدارات يحشون بها الذهن فيسهمون في وأد الإبداع وتنحيته... وليس ذلك فحسب في عملية التزاحم على النشر والتكسب من الكتابة يصبح خط المبدع في أدنى الدرجات لأن الغث صار قاعدة والسمين شاذاً. ونتيجة صرعات التطوير وولوج الحداثة لا تتعدى الشعارات والنتيجة (أطباء لا يتقنون كتابة الوصفة الطبية، يكتبون ما لا يُقرأ، استهتار بالمريض وتواطؤ مع المرض، إيهام بعظمة المختص واختصاصه، جسور معلقة وأخرى محمولة صالحة للتصوير وليست صالحة للاستعمال).‏

هذه الصورة لا تلغي تنمية المهارات القرائية التي تنمي الذكاء وتكون القادرة على كشف الخلل وإعطاء الأجوبة ذات المصداقية العالية، إضافة لدورها في تنمية لغوية ومهارات في توظيف اللغة وتوسيع أفق القارئ بما سيمتلكه من معلومات أكبر قيمة مما يحصل عليه العازفون عن القراءة.‏

تنمية مهارة القراءة مسؤولية اجتماعية ليس الآباء من يستطيع الإسهام فيها في عصر تردي التعليم وتراجع دور المدرسة والمؤسسات التعليمية.‏

والآباء اليوم هم النماذج التي يمكن أن تكون قدوة للأبناء، ولا يتم إلى ذلك في الاستسلام لسلطان الشاشة الصغيرة استسلاماً مطلقاً.‏

(4) النص والتلقي:‏

نعود للعلاقة الجدلية بين النص والمتلقي. يقول (جاك لينهاردت): "ليس النص مجهولاً جهلاً تاماً من القارئ، فهو ليس مسبوقاً بمعرفة تهمّه بالذات، وإنما كل نص سبقت قراءته هو جزء من تجربة القراءة لنص جديد"(2).‏

تفرض بعض النصوص نفسها على ذهن القارئ، تدعوه، وقد تلح في الدعوة، إلى إعادة القراءة، إلى التفكير، تستثير خياله، بعضها يجلب للقارئ دفعاً للقوى الروحية وتكون ممتعة بلا حدود ومدهشة، كما يقول جيمس.‏

وكل قراءة، مهما كانت الدوافع إليها، هي محاولة اكتشاف وفهم، بشكل ما، وعندما تستنفر قدرات المتلقي تصبح جزءاً من حالاته الإدراكية.‏

وليست عملية الإدراك، كما يظن، عملية سلبية انفعالية أي أن القارئ لا يقوم بدور سوى استقبال المدركات دون القيام بفعل ما، وإنما يعمد إلى الانتقاء والتنظيم فتشكل القراءة بالنسبة له خبرة ذات سمة خاصة تتعلق به.‏

ومحددة في إدراك العالم الخارجي وتلوينه بخبرات سابقة. وتنطوي العملية الإدراكية على أنشطة متنوعة في التعامل مع عالم مركب متشعب يمد النفس بكم من المدركات ومن لحظات الوعي(3).‏

لكون القراءة عملية إدراكية، لا يكون إدراكنا لما تنقله حواسنا صورة فوتوغرافية للواقع الخارجي، كذلك فإن مخرجات القراءة ليست مطابقة للمادة المقروءة، حتى لو تساوت الظروف (ظروف النص، وظروف التلقي). فالمخرجات تتلون بمعارف المتلقي وبحالته الوجدانية وبمعتقداته وتوجهاته لكون فعل القراءة ينطوي على عمليات عقلية متعددة ويشتمل على عنصر الإرادة دون إغفال الحالات اللا شعورية والخبرات المكتوبة التي ينكأها النص... يكوّن النص والحالة هذه دلالات تستثير دلالات أخرى. فوجود النص يكون في هذا الإطار وجود قوة أو كمون ينتقل بفعل عمليات داخلية لدى القارئ تتفاعل مع بنيته إلى حالة من حالات الوجود بالفعل هو نتيجة لما سبق تسهم القراءة في تفجره وإخراجه إلى ساحة الشعور فيتنفس من هواء النص ويكتسبان معاً حياة موحدة. هذا إلى أن العمليات الداخلية تتفاعل مع الكلمات والعبارات والجمل وهي كائنات قابلة للتأويل وإعادة التفسير بحسب الموقف، والأشخاص وتنوع التجارب.‏

يوسع النص في المجال الإدراكي، الذي هو مجال شخصي بامتياز وفردي لوعي الشخص. لكن هذا لا يعني أن الإنسان قادر على وعي كل ما في مجاله أو أنه يستطيع أن يكون واعياً بكل أجزائه على حد سواء(4).‏

وبسبب مما ذكر وما لم يذكر ينطوي فعل القراءة على عملية إبداعية على عكس ما يظن البعض- بخلاف القول إن المعنى يصنعه الكاتب أو المؤلف. هذا الاعتقاد لا يجد مصداقية في الواقع. لأن المعنى قضية تتعلق بالوعي وليس بالأشياء والعلاقات الخارجية –كما يقول كروسمان- فالكلمات تتميز بشكل ما بالغموض وبما أنه ما من كلمة تعني شيئاً محدداً فإن فهم المعنى عند المتكلم يتطلب تخميناً لقصده.‏

أي عمل فني لا يكشف عن مكنوناته دفعة واحدة ومن المرة الأولى، وإلا فإنه يتحول إلى وثيقة جامدة مكانها الأرشيف، وتبرز في حالة محددة فحسب. وما يدعى بالنظريات العلمية كثيراً ما يُكشف بعد مدة تطول أو تقصر أنها لا تنطبق مع تسميتها أو تصنيفها. فإذا كانت الطبيعة قابلة للتأويل وإعادة التفسير فكيف بالعمل الإبداعي أو النص المقروء، كما يقول وايتهد.‏

كم من أديب وفنان تشكيلي ومؤلف موسيقي حين يعود لقراءة ما أبدعه يصاب بالدهشة وأحياناً بالذهول غير مصدق أن ما يتلقاه الآن هو من إنتاجه.‏

لا تكون سيطرة المبدع على المادة التي أنتجها سيطرة مكتملة. حين سئل (نجيب محفوظ) مرة عن سر تشابه روايته (حضرة المحترم) مع قصة قصيرة له، اعترته الدهشة وعبّر في رده على السؤال بالأسف لعجزه عن تفسير الأسباب. أما (عبد الرحمن منيف) فقد أثار دهشته أحد قرائه حين تحدث عن شخصية السائق الأرمني (أكوب) في روايته المشهورة (مدن الملح) قائلاً:‏

"يسرني أنك وجدت في شخصية أكوب هذا الذي قلته". واعترف (منيف) قائلاً: إني لم أفكر بشيء منه حين كتبت الرواية. (5)‏

القراءة المبدعة تنتج المعنى وتكشف في النص وتقوله بما لم يخطر على ذهن مبدعه.‏

وليس شرطاً أن يكون المعنى ذاته الذي هدفه المبدع حين كتابة نصه أو بعدها. ويخترق القارئ النص بخصوصية تختلف من قارئ لآخر بقدرة تأويلية تتناسب مع مستواه الثقافي وخبراته السابقة وحالاته النفسية والجسدية. إذ لكل ذهن خصوصيته. يقول (أدونيس) إذا كانت كتابة القصيدة قراءة للعالم فإن قراءتها هي كتابة للعالم".‏

يتمايز المتلقون ويتجلى نشاطهم الإبداعي في عدم الاكتفاء بظاهر النص وإنما أيضاً في الغوص في أعماقه وبتجاوزه للكشف عما وراءه وما بعده (ماضيه ومستقبله).‏

ولا تكون معرفة دوافع المبدع، في الحالة الطبيعية، أو إدراك الفكرة التي توجهه أو العقيدة التي يصدر عنها مهمة إلا بقدر ما تكشف عن الهدف الذي يكتشفه القارئ في النص دالاً عليه.‏

تقول (هيلين غاردنر):‏

"يجد القارئ في القراءة الأمل والشجاعة لكي يلقن الأدبُ درساً في الأخلاق ويسجل التجربة الإنسانية، فلا بد أن يكون مشحوناً بالأفكار والمشاعر الأخلاقية".‏

يبقى النص العنصر الأبرز في القراءة إذ تتمحور التأويلات حوله وتنطّقه بما تحصل عند القارئ من التواصل معه.. وتلعب النصوص الأدبية والأعمال الفنية دوراً مهماً في حياة المتلقين في أثناء القراءة اليقظة، ذلك أن المعرفة وزيادة البهجة الدائمة من الطبيعة العظيمة التي تكمن في مؤلفات المبدعين –كما يقول ورد ذورث).‏

فالقراءة تخلق البهجة كما أن جاذبية النص تمد الإنسان بالمتعة حتى في بدايات تعلم القراءة.‏

عبرت عن ذلك (نادين. ج. غرانغون) بقولها: لكي يتعلّم الدارس القراءة لا بد أن يشاهد شخصاً يقرأ، وأن تتوافر لديه الرغبة في القراءة، والقدرة عليها، وأن يتقنها وهذه ملاحظة ذات قيمة كبيرة بالنسبة للمربين، إن اهتموا بها أثّروا في تنشئة أبنائهم وتلاميذهم بما يحقق لديهم تلك المهارة الجميلة، القراءة المبدعة.‏

(5) القراءة (متعة الإبداع):‏

تحدثنا (فرانسواز دولتو) عن تجربتها في تعلّم القراءة وعن شعورها وهي مستغرقة بالقراءة مستمتعة بنشاطها وبالنص الذي تتواصل معه بقولها:‏

"كنت أنصت إلى قراءتي، وكانت الجملة تتخذ معنى جديداً بالنسبة لي، وبدا الأمر رائعاً، كنت أشعر أني لا أريد أن أتوقف أبداً، لولا أنهم أعلنوا عن موعد تناول الغداء" وتتساءل:‏

هل هذا هو معنى القراءة؟ إن للجمل والفقرات معنى، نعم. ولكن. (6)‏

حين يكتشف المتلقي المعنى وهو يقرأ فإنه طفلاً أم راشداً يشعر بمتعة تملأ جوانحه بخاصة وهو يكتشف ما وراء السطور. فالقراءة وإن اتخذت طابع الاستقلال والاستهلاك ظاهرياً، فإنها في الواقع نشاط يهدف إلى إنتاج المعاني، وكما هي الحال في استراتيجيات الإدراك فإنها تتلخص في التقاء الخيارات واتخاذ القرارات. (7)‏

يعبّر (أوكتافيوباث) عن حالة الإبداع في القراءة مستشهداً بقراءة الشعر قائلاً:‏

"وكما نرى عبر جسد الحبيب حياة غنية بالمعاني، نرى كذلك عظمة الشعر عبر القصيدة في لحظة تحتوي كل اللحظات وكل الزمان. يتوقف الوقت حينها، لكنه لا يكفّ عن المرور.‏

باستطاعتنا الوصول إلى التجربة الشعرية عن طريق القصيدة التي هي إمكانية مفتوحة لكل إنسان أياً كانت قدراته ونفسيته. وفي كل مرة يعيش القارئ القصيدة يصل إلى درجة أو حالة نسميها بالشاعرية.. تشبه قراءة الشعر الخلق الشعري إلى حد بعيد. يولّد للشاعر الصور أو القصائد. والقصيدة تعيد إلى القارئ صوراً وشعراً –فهو –أي القارئ يقاتل مع (هكتور) ويتعرف مع (أوليس) إلى أرض مولده. إنه يعيش صورة، وينكر التتابع، إنه يستبعد الوقت"(8)‏

وتحتفظ القراءة بدورها في كونها الأداة الاتصالية الأفضل التي تحتكر الامتياز الثقافي. فيبقى القارئ هو المسيطر على الموقف. وهو ما لا تمتلكه أية وسيلة اتصالية أخرى، لأنه يستمر ممتلكاً القدرة على توجيه فعل التلقي. والقراءة المبدعة قادرة على صنع فهمها الخاص للنص، مهما بلغت فصاحته وقدرات مبدعه. فالقارئ ليس مجرد أداة استقبال إلا إذا كان غير قادر على امتلاك قدراته العقلية خاضعاً لأحلام اليقظة غير ممسك بعملية التداعي الداخلية منقاداً بها تتحرك عيناه فوق السطور ولا تنقلان ما تريانه إلى دماغه. القارئ مؤول قادر على الحالات الطبيعية على توليد صور يوحي بها النص، أو أن النص يوقظ عنده معاني وصوراً ليست في حسبان المبدع ولا أي ملاحظ أو قارئ آخر.‏

في المعنى ذاته يجيب (جاك لينهاردت) على سائله قائلاً:‏

"إذا لاحظنا عن كثب في القراءة فإن البنية المقترحة، البنية الأيديولوجية أو السياسية، رؤية العالم المطروحة على القارئ يعاد تأويلها وتفسيرها حسب أيديولوجية القارئ ورؤيته الخاصة للعالم. ولكي نفهم السيرورة الثقافية للأدب والقراءة، نلاحظ أن سيرورة القراءة جدّ حركية، ولا ينبغي الاعتقاد بسلبية من طرف القارئ إزاء البنية النصية المقترحة عليه، بل على خلاف ذلك هناك إعادة تأويل لا بد من التعرف عليها" (9)‏

وبعد. أتوجد وسيلة أقدر على الجمع بين كونها أداة معرفة وثقافة، وبين أنها مصدر متعة عقلية على درجة من السمو؟ وأنها رياضة عقلية توسع في قدرات المرء وتكشف مواهبه وقد تفجرّ عنده نشاطاً إبداعياً يتصف بالجمال ويبعث على الارتياح، وربما يدفع إلى نشاطات متتابعة ؟‏

ولعل أعظم دليل وأفضل برهان على ميزة القراءة هذه أن رسالة الإسلام كانت فاتحتها كلمة (اقرأ). بـ (اقرأ) تنفتح آفاق ويُعلم مجهول، وتتفجر طاقات.‏

(1)عن عبد الكريم درويش: فاعلية القارئ في إنتاج النص- ص109- الكرمل ربيع 2000.‏

(2) الفكر العربي المعاصر، ع 13 ص149.‏

(3) سيزا قاسم، عالم الفكر 3-4 / 23 ص45.‏

(4) عالم الفكر 1-2/21 ص133.‏

(5)-عن فؤاد مرعي في عالم الفكر 2-1/ 23 ص 354‏

(6) -دومنياك: الثقافة العالمية. تعلم القراءة –ع52 ص 59‏

(7) -السابق: ص 65‏

(8) -أحمد المديني: مقابلة مع جاك لينهاردت –الفكر العربي المعاصر ع13 ص 156‏

(9) -السابق –ص 147‏

 

التوقيع

 


تِدفا على جال ضوه بارد إعظامي=والما يسوق بمعاليقي ويرويها
إلى صفا لك زمانك عِل يا ظامي=اشرب قبل لا يحوس الطين صافيها
 
 

التعديل الأخير تم بواسطة : ابومحمد الشامري بتاريخ 01-04-2005 الساعة 03:44 PM.
رد مع اقتباس