عرض مشاركة واحدة
  #6  
قديم 01-04-2005, 03:22 PM
ابومحمد الشامري ابومحمد الشامري غير متصل
ابوحمد الشامري ( سابقا )
 
تاريخ التسجيل: Dec 2004
الدولة: شـبـكـة مـجـالـس العجمـــــان
المشاركات: 19,132
معدل تقييم المستوى: 10
ابومحمد الشامري قام بتعطيل التقييم



( إقفال النص انتهاء المعنى )

(1) النص والمعنى:‏


فرّق الجرجاني بين المعنى ومعنى الكلمة، فالأول عنده يكون عند كتابة النص، لكن النص لا ينتهي عند كتابته. فتداول النص يفسح في المجال للتأويل أي للبحث عن معنى المعنى.‏

فكأن معنى العمل الأدبي يثبت لكن التأويل هو الذي يتغير من قارئ إلى آخر كما من زمن إلى زمن مختلف وبيئة إلى بيئة مغايرة.‏

وهذا التعبير المتغير، لا مندوحة لنا –من وصفه بالمعنى من حيث هو موضوع مثالي يمكن التعبير عنه بعدة طرق، وهو هنا لا يعني الثبات (كما عرفه الجرجاني)، لأن القصد منه اختلف. فكأن الكاتب المبدع لا يرمي في نصه إلى دلالة معينة، بحسب (مالارمييه) الذي يقول:‏

لا يتكون البيت الشعري من ألفاظ ذات معنى، بل من ألفاظ ذات نوايا. فما ينتجه المبدع إنما هو مشروع معنى.. وفتح النص أمام احتمالاته الدلالية ثراء له وتخلق بدلاً من غلقه على دلالة واحدة تؤدي به إلى الانقراض، وتحوّل قراءة النص إلى عمل رتيب. (1)‏

(2)القراءة والمعنى:‏

يتولد النص –بحسب ما يعرف في سوسيولوجية القراءة –في القراءة وبها. والقراءة كما هو معروف نشاط يوظف كل مستويات الثقافة، لأنه بالقراءة تستثار المعرفة السابقة والخبرات المكتسبة، وهي جزء من اهتمامات القارئ ومن حياته الشخصية والاجتماعية. (2)‏

والقارئ خلال ما يقوم به من نشاط يحاول أن يصل إلى الحدود النهائية في تفسير العمل الفني.‏

وقد يصل في لحظة ما إلى النقطة التي يظن أنها نقطة النهاية، وأن لا شيء بعدها. لكن معاودة القراءة مرة أخرى تكشف له وهم النهاية. ذلك أنه من الناحية الواقعية يحدث ما هو مختلف عن ذلك، لأن النص نادراً ما يغلق نفسه، وبالتالي فهو لا ينغلق عند المتلقي عند الانتهاء منه، أو عندما يغدو خارج الإثارة الحسية المباشرة.‏

ففي نشاط القراءة تتجلى عمليات معرفية نشطة ومتنوعة تتعلق بعمليات التفكير والتخيّل ناهيك عن عمليات الانتباه والتذكر والإدراك.. كون هذه العمليات فعاليات عقلية تسير في اتجاهين أو مسارين بينهما كثير من نقاط التقاطع والالتقاء. أولاهما يكون تمثلاً داخلياً للوقائع والصور ورموزهما. وثانيهما يكون إعادة، لفك الرموز وتأويلها بغية فهم الواقع الخارجي لاستدخاله في عملية التلقي. وبوساطة هذه العمليات المعرفية ينشئ الذهن المعاني التي تتوالد منها معاني أخرى، وهكذا في سلسلة يصعب التنبؤ عن نهايتها.‏

حيث ينشط الإنسان ويمارس الفعل القرائي –في الحالة العادية، وبشكل أولي –فهو يبحث عن معارف، أو عما يمتع، أو للتزود بصورة أو صور، ويرمي من وراء ذلك أن يصل إلى يقين افتقده في مسألة أو حكاية أو حدث أو تاريخ أو ما شابه ذلك.. ولكن هل يصل المرء إلى يقين مهما كانت المادة التي بين يديه؟‏

يقلق الإنسان فيبحث عما يبدد توتره ويدفع عنه الحيرة التي تتملكه بشكل ما أو تسيطر على زاوية ما من زوايا حياته العقلية.. هل تحقق القراءة له ذلك؟‏

(3)هل يحيل النص إلى اليقين؟‏

الركون إلى يقين يتوقف عنده القارئ يحيل إلى حالة من السكون لا ينتج عنها غير الموت أو إحدى حالاته. توارث الناس دعاء يرددونه في خوف ظاهر أو ملتبس على شخص يحقق نجاحات ما في حياته، يقولون فيه:‏

"الله، لا يكمل له سعداً"، فاكتمال السعد يعني بالنسبة لهم الموت فلا حياة بعد هذا الاكتمال الذي إن حدث فهو نقطة ما بعدها نقطة إنه نقطة النهاية.‏

حين يركن المرء (فرداً أو جماعة) إلى يقين في جانب ما من جوانب الحياة، ينغلق العقل عليه حيث يغدو ثابتاً، فإن استمرأ المرء هذه الحالة سكن، واستحالت حالته سداً يمنعه من أية انطلاقة في هذا الباب.‏

فالقراءة المبدعة -التي كما ذكرنا من قبل وهي التي تفتح أمام ذهن القارئ فضاءات جديدة يعي بعضها ويتحرك بعضها الآخر في مساحات أخرى تخلق مساربها وقنواتها لتظهر في نشاطات أخرى في مرات لاحقة. لذا فأشد ما يسيء إلى الناقد ويمنعه من الانفتاح على النص، هو وقوعه في وهم اليقين الذي يعتقد أنه قد وصل إليه.. وهو بهذا يسد على النص النوافذ التي يتنفس منها، وينشغل في لي عنق النص أو تفصيله وفق قوالب جاهزة نحتها بالاستناد إلى نظرية نقدية جاهزة أو متداولة، وقد يدفع هذا الشعور باليقين لدى الناقد بجمهرة من القراء والكتاب إلى الهاوية التي وقع هو بها.‏

فهذا الشعور يصبح في مجالنا هذا وفي محاولات أخرى، حتى في ميادين العلوم الأساسية وهماً. ومازال بعض العاملين في مجالات العلوم السلوكية والسياسية والثقافية أسرى هذا الوهم، وهم اليقين.‏

شرح (بروكس) هذه المشكلة التي أصبحت مصدر قلق الأوساط العلمية والأدبية والفكرية والعامة من الناس، قائلاً:‏

"تكمن المشكلة اليوم في أنه لم يعد لدى العلماء وعامة الناس ذلك اليقين.‏

إنّ كل أنواع المعارف هي –في التحليل النهائي –في صالح البشر، فقد ظهرت وتطورت خلال العقود الأخيرة الكثير من التطورات التكنولوجية، أقل ما يقال فيها، أن لها من المخاطر مثل ما لها من الفوائد. وسرعان ما ينبه أصحاب النظرة النقدية إلى أن العلم قد لا يكون المتسبب في خلق هذا النوع من المستحدثات التكنولوجية.‏

وعلى الرغم من ذلك، فإنه ما كان لهذه المستحدثات أن تحدث دون التقدم المذهل الذي حققته المعرفة العلمية في القرن العشرين.. وأصبح التشاؤم من النتائج المترتبة على تعاظم المعارف جزءاً من المناخ العام في زماننا. وعلى الرغم من أن العلماء أكثر تفاؤلاً عن ذي قبل، فإن فئة كبيرة منهم تسهم في إحداث جو من التشاؤم العام. ومن ثم لا يوجد مجال متعاظم للبحث يمكن أن يقال أن له مصلحة مؤكدة في إبراز الجانب الضار، كما وجد دائماً، ولا يزال لعدد كبير منهم مصلحة في إبراز الفوائد المرجوة" (3)‏

تقيم تكنولوجيا المعلومات قنطرة الوصل بين المادي وغير المادي لتدل على مفاهيم مشتركة تنطبق على الظواهر المادية والمعنوية. لكن هل تستطيع هذه المفاهيم أن تثبت على حال؟ سرعان ما يتبدد ما ظهر كأنه مشترك ليغدو حالات فردية متمايزة ومتباعدة، ما تلبث من جديد أن تعيد البحث عن القواسم المشتركة من جديد. سواء كانت أرقى من الأولى أو أدنى منها، وهذا هو مسار المفاهيم الذي لا ينتهي ينقلها من الوحدة إلى التنوع، ومن التنوع إلى الوحدة.‏

(4) لا نهائية النص:‏

أوضح (جاك دريدا) من خلال مقارباته في تفكيك النص أنّ لكل نص عدداً لا نهائياً من القراءات الممكنة، وفقاً لخلفية وهدف قراءته، والعلاقات التي تربط بينه وبين النصوص الأخرى. أو فيما يسمى بعلاقات التناص بأشكالها‏

المختلفة.‏

غالباً النصوص التي تفضح بواطنها من القراءة الأولى، ليست نصوصاً على درجة عالية من الأهمية. لذلك كثيراً ما يجد القارئ والناقد في غموض النص ما يثير وما يجذب نحو قراءته. وقديماً قال (الصابي) في (المثل السائر) أفخر الشعر ما غمض فلم يعطك غرضه. إلا بعد مماطلة منه. وذمّ (طه حسين) الوضوح داعياً إلى الارتفاع عنه لأنه يفسد الفن إفساداً ويقربه من الابتذال. وربما يكون هو ما قصده (راندل جاريل) حين قال: "أعظم خيانة يرتكبها الكاتب صوغ الحقيقة الصعبة في عبارة رخيصة.‏

لكن الغموض المطلوب لا يقصد منه التعمية وكتابة الطلاسم التي لا تفك أسرارها. ويوضح (خليل هنداوي) الغموض المطلوب بقوله:‏

" في الوقت الذي نرتد فيه عن بعض الآثار الفنية الواضحة كل الوضوح ضيقي الصدور، مظلمي القلوب، تملأ نفوسنا بعض الآثار الغامضة روعة وجلالاً. على ألا يقصد بالغموض الغموض لذاته، لأن ذلك يؤدي إلى فوضى تقوّض الفن".‏

هذا القدر من الغموض يتحدى فيه النص ذهن القارئ وتبرز من خلاله علاقة الكاتب بالمتلقي اللذان يمتحا من النص مالا ينتهي من المعاني.‏

ظل (غوته) يعلن حتى النهاية أن العبقرية تثير الدهشة، تثيرها بالوحدة في التنوع، بالدينامية التي تستوعبها التقاليد، والتي تبقى كذلك على التقاليد حية، بالتعبير الذاتي والاكتشاف الذاتي اللذين يشتركان معاً في صناعة نسيج للثقافة البشرية عبر التاريخ. (4)‏

(5) الكتابة وتحولات المعنى:‏


تظل الكتابة أحد أهم الإنجازات التي حققتها البشرية خلال تاريخها المديد. وفعل الكتابة يتعلق بنشاط التعلم الذي يعمل على تميّز العنصر البشري وفرض بقائه كجنس. فقد استطاعت الكائنات البشرية في الأعشار الأخيرة من المئة من وجودنا أن تبتكر لا المعرفة الموروثة فقط، بل والمعرفة الخارجية عن الجسم أيضاً أي تلك المعلومات المخزنة خارج الجسم والتي تشكل الكتابة ذاتها أهم نموذج لها. (5)‏

قبل اختراع الكتابة كانت المعرفة البشرية مقتصرة على ما يمكن للشخص أو للجماعة الصغيرة أن تتذكر، وفي بعض الأحيان، على غرار ما حدث في كتب الهندوس الدينية الأربعة، وفي ملحمتي هوميروسِ، أمكن المحافظة على جزء هام من المعلومات، ولكن لم يوجد حسب معرفتي –يقول ساغان –سوى القليل من أمثال هوميروس. أما بعد اختراع الكتابة، فقد أصبح ممكناً جمع وتوحيد واستخدام مصادر الحكمة المتراكمة عبر كل العصور، ولكل الناس.... إن الثقافة مدخل إلى أعظم العقول البشرية وأكثرها تأثيراً في التاريخ البشري، فسقراط، ونيوتن على سبيل المثال، لهما من القراء أكثر بكثير من كل الناس الذي أمكن لأي منهما أن يجتمع به في أثناء حياته. (6)‏

خلود الكتابة من ثراء المعنى وقدرة الفكرة أن تتسلل عبر العصور وإن كانت في تحول دائم من خلال نمو المفاهيم التي تحملها ونمو قدرات المتلقي على إنتاج معان تتناسب مع التحولات الاجتماعية والاقتصادية وتتطور معها. قد يتأثر فعل التلقي بالمعتقدات السائدة وبالأوضاع الاجتماعية والاقتصادية وما يتعلق بالعادات والقيم، فتحدث قطيعة بين القارئ والمبدع وإن إلى حين. وهو ما يفسر حتى على المستوى النقدي عدم تقبل التجديد مما دفع بعض المبدعين أن يتطوعوا لأداء دور النقاد. لكن النص المتميز يفرض نفسه مهما بعدت المسافة الزمنية بين زمن كتابته وزمن قراءته.‏

وهو ما تصدقه مقولة (هيراقليطس) لا شيء ساكن، كل شيء يتحرك.‏

من هنا يمكن لنا أن نفسر غنى الحياة وجاذبيتها في الفن وأثر الفن في الحياة... فالنص إما أن يكون مفتوحاً على الحياة يتزود منها، باستمرار، بالطاقة اللازمة لبقائه واستمراره، ويضفي عليها الجدة بما يكون محملاً به من المعنى الذي يسبغ عليه سمات تميزه وقدرته على التطور الداخلي.‏

وإما أن يكون النص مغلقاً مغرقاً في ذاتية صاحبه فيغدو غير موجود عملياً إلا من جانب نظري بحت، فيصح فيه وبكاتبه قول طرفه بن العبد:‏

كريم يروي نفسه في حياته ستعلم إن متنا غداً أينا الصدي‏

فهل انتهى طرفة حين مات جسدياً، أم أن موته كان مجازاً، وإلا فلم بقيت آثاره موضع اهتمام وبحث لم ينته ولن ينتهي..؟‏

في علاقة المتلقي مع الفن يتداخل مباشرة مع المبدع من وراء النص الفهم مع التفسير والتأويل مع التخيل. فالكشف عن بنية العمل الفني سواء كان من ناقد متخصص أم من متلق متذوق منفتح الذهن، يشير إلى بيئته ويكشف عما وراءه أي أنه يكشف ما يخفيه وما يضمره. فكل من الإلياذة والأوديسة سيظل موضع اهتمام. كما أنهما سيستهويان القراء والمبدعين في استلهام معان وأفكار تشكل أساساً لإبداعات جديدة في مجالات مختلفة (شعر، قصة، رواية، مسرحية، تشكيل فني –موسيقي..)‏

وهذا شأن النصوص والأعمال الإبداعية المتميزة. ففي كل مرة تجري قراءة مثل هذه الأعمال فإنها تخلق مناخاً خاصاً يتأثر به المتلقي، مما جعل بعض المهتمين يعتقدون بأن المتلقي يذعن مع مثل هذه الأعمال لقاعدة في القراءة، تتمثل فيما يخلفه النص ويتضمنه ويثيره من "طقوس وشعائر.. وثم فإن المعنى معنى العمل يكون معنى تفاعلياً، وأن روايته رهن إطاره. فليس للنص معنى واحد وإنما معان متعددة متواكبة مع فيض الحياة" (7)‏

ويتردد أمام الإنسان سؤال مفاده –وهو سؤال مكرر –هل يكتمل المعنى في زمان ومكان معنيين؟‏

الجواب على ذلك: نعم ولا.‏

نعم في لحظة يتراءى فيها أن المعنى اكتمل.. لكن الأمر لا يستقيم مع هذا اليقين –كما بينا سابقاً –ويكون الجواب آنئذ: لا، لن يكتمل المعنى ما دامت الحياة، والحياة في تطور مستمر.‏

فالنص أو أي عمل ينتمي إلى عالم الفن يخلق لنفسه قيمة تتجلى في قدرته على تحدي القدر كما يقول (أندريه مالرو). فكل إبداع فني يكشف عن إمكانية بشرية في تخطي العصور وتجاوز الأمكنة حتى لو كان منتمياً تاريخياً لحضارة اختفت أو ماتت، إذ أن فنها لا يموت. "لا نعرف شيئاً –يضيف مالرو –عن الفلاح المصري القديم أو عن الفراعنة، لكنا نعلم الكثير عن الفن الفرعوني ونتجاوب معه، فنجد التماثيل المصرية في فرنسة..." (8)‏

هكذا يتيح العمل الفني للمتلقي أن ينفتح ذهنه على فضاءاته فيتوهج الفكر وينطلق، إلا أن ذلك لا يعفينا من توضيح أمر هام يتعلق بأوهام الكاتب أو المبدع ووقوع المتلقي في مصيدتها.‏

كما أن العمل الفني نفسه قد يقع في مطب مصدره تعسف المتلقي. وفي الحالين يكون السبب كامن في الأفكار المسبقة والأحكام الجاهزة التي تقصي المعنى من وعائه أو تختصره أو تشوهه، أو أن تتعسف على النص فتسبغ عليه من الأحكام والمعاني ما ليس فيه إن سلباً، وإن إيجاباً.‏

وكثيراً ما يقع العمل الفني والمتلقي معاً في مصيدة أحد النقاد الذي يحاول إثارة زوابع حول عمل ما أو حول صاحبه متسلحاً بنظرية فيفصّل العمل على النظرية فيفقده وحدته وتوهجه. فكم من إبداعات شوهها النقد وجار على أصحابها إن قدحاً وإن مدحاً)، فأثر ذلك على المتلقي بما استقر في ذهنه من حكم يفتقد المصداقية. فيتخذ المتلقي موقفاً من العمل الفني منسجماً مع أحكام مجافية للصواب. وكثيراً ما كشفت الأيام الموقف من هذا العمل أو ذاك ومن هذا المبدع وغيره من المبدعين.‏

في ندوة عن كاتب متوفى، كان أحد المنتدين يقارن بين قصيدتين للكاتب نفسه، نقدهما بلهجة منبرية، فاستجرّ تصفيق الحضور على إحداهما باعتقاد أنها الأصدق شعرية. بينما رأى زملاؤه على المنصة أنه تعسّف على الكاتب وعلى النص فيما افتعله من لهجة منبرية.‏

وهذا ما يفسر كيف يصنع بعض النقاد وأجهزة الإعلام من لا شيء شيئاً ومن أشياء رماداً.‏

فالمتلقي تحت تأثير مواقف مما تقدم أو ما شابه ذلك قد يعزف عن نتاج هذا المبدع أو ذاك متأثراً بتقييمات الآخرين. أو أنه قد يقوم بعملية تقويمية لما تركه هذا السلوك لديه، أو ما حققه مقارناً إياه بما سمع أو قرأ عن هذا العمل أو عن صاحبه، وقد تنتابه الحيرة أهو موافق على الأحكام التي تلقاها، أم أن ذائقته ليست في المستوى الذي يؤهله لأن يكون متلقياً موضوعياً.‏

فالمعنى الذي تنتجه القراءة يتأثر بالآراء المتداولة والأفكار المسبقة عن العمل أو صاحبه.‏

ويتحدث (هاري ستون) في كتابه (ديكنز والعالم الخفي) عن إقبال القراء والنقاد على أدب ديكنز وتحول هذا الإقبال إلى عزوف بسبب بعض الآراء المعادية لهذا الكاتب المشهور الذي تجاوز صيته الحدود الجغرافية فقرأ أدبه الناس في قارات العالم الخمس وبلغات مختلفة..‏

يقول صاحب الكتاب: من يستطع أن ينكر عبقرية (تشارلز ديكنز) الذي تربع على الرواية الإنكليزية، فقد شغف البريطانيون بقراءة رواياته، وفي مقدمتهم الملكة (فكتوريا) لكن ما حدث بعد وفاته، فقد خفت شهرته بسبب ما استقر في أذهان الناس من تقولات مصدرها (هنري جورج لويس) الذي نشط في التحدث عن (ديكنز) أنه مجرد كاتب ميلودرامي كاريكاتوري تتسم رواياته بالطرافة والإضحاك والتهريج، وأن قيمتها الترفيهية تعلو على أي قيمة أخرى، وأنه تنقصه النظرة الجادّة والعمق الفلسفي والإتقان الفني".‏

ومن الذين تأثروا بهذه التقييم المجحف لأدب ديكنز الروائية (فيرجينيا وولف) و(فوستر) وغيرهما... واستمر المتلقون متأثرين بهذه النظرة التي سادت عن الكاتب حتى نهاية الثلث الأول من القرن العشرين، حتى أنصف من ناقدين شهيرين هما: الأمريكي (ادموندويلسن) والروائي البريطاني (جورج اورويل) اللذين أعادا تقييم فن (ديكنز) الروائي، وأكدا جديته كما أبرزا‏

الجانب المأساوي من رواياته، وكشفا عن حسه الاجتماعي والنفسي الصادق.(9)‏

فكم من مرة وقع القارئ العربي تحت تأثير أحكام أطلقها بعض البارزين على الساحة الثقافية مباينة للصواب بعيدة عن كل صدق في القياس والحكم.. وكم من كتاب رمي زوراً بما ليس فيه ومن كاتب اتهم بالزندقة والكفر وغير ذلك من اتهامات ليس لها أساس مادي لها في سلوك هذا الكاتب أو نتاجه.. وكم من كاتب هوجم بتهمة لا يستحقها.‏

وبالمقابل من ذلك فإن كتاباً تصدروا الواجهة الثقافية لا على أنهم من المبدعين والمبرزين، بل لأنهم ينتمون إلى هذا الفريق دون ذاك...‏

في يوم كانت الموضة قراءة الماركسية، فلا كاتب ولا متلق جيد إلا من قرأها... وفي يوم آخر كانت قراءة سارتر ودوبوفوار، وفي أيام أخرى عزف عنهما... وينطبق القول على كثير من الكتاب والمبدعين عرباً وأجانب.‏

فهل يقاس عمل ما من حيث ما يمتلكه من خصائص إبداعية، بما نقرأه أو نسمعه من شهادات عن هذا الكاتب أو ذاك؟ وهل أن النصوص التي غلفها الغبار في مستودعات مؤسسات النشر، أدنى قيمة من أعمال تحقق أرقاماً عالية بالقياس لما هو سائد، على الرغم من الكساد في سوق الكتب الثقافية.‏

الحكم على ذلك ليس جاهزاً، وقد لا يكون متاحاً في المدى المنظور.‏

(1) -عبد الرحمن محمد القعود: الإبهام في شعر الحداثة –ص 326 –عالم المعرفة 279 -2002‏

(2) -جاك لينهارت" م. س ص 154‏

(3) -الثقافة العالمية –ع46 –ص8‏

(4) -مايكل بدو: غوته والعبقرية –في العبقرية –ص 159‏

(5) -كارل ساغان: تنانين عدن –ترجمة نافع أيوب –ص 82 –اتحاد الكتاب العرب‏

(6) -السابق ص 242 /243‏

(7) -شوقي جلال: مقدمة كتاب لماذا ينفرد الإنسان بالثقافة –ص 14 –عالم المعرفة‏

(8) -جوزين عثمان: مالرو –سنغور وحضارة الإنسان في عالم الفكر 13/ 2 ص 83‏

(9) -هادي سنو: ديكنز والعالم الخفي –عن عالم الفكر 13/3 –ص 315 –316‏

 

التوقيع

 


تِدفا على جال ضوه بارد إعظامي=والما يسوق بمعاليقي ويرويها
إلى صفا لك زمانك عِل يا ظامي=اشرب قبل لا يحوس الطين صافيها
 
 

التعديل الأخير تم بواسطة : ابومحمد الشامري بتاريخ 01-04-2005 الساعة 03:46 PM.
رد مع اقتباس