عرض مشاركة واحدة
  #6  
قديم 12-07-2005, 06:23 AM
ابومحمد الشامري ابومحمد الشامري غير متصل
ابوحمد الشامري ( سابقا )
 
تاريخ التسجيل: Dec 2004
الدولة: شـبـكـة مـجـالـس العجمـــــان
المشاركات: 19,132
معدل تقييم المستوى: 10
ابومحمد الشامري قام بتعطيل التقييم

المتنــــبي محـــورٌ لقصــــيدة
لعلّ هذا النمط من التعامل مع شخصيّة المتنبي هو الأكثر شيوعاً، بين شُعرائنا؛ حيثُ يقفُ بعضهم قبالة شخصه ويخاطبونهُ، منهم من يثني عليه ويعظّمُهُ فارساً وشاعِراً، وصاحب طموحٍ جليل، وبعضهم يعاتبه ويستنكر عليه أن يمدحَ فلاناً، وأن يقبضَ ثمناً لشعرهِ أو أن يطمحَ للحصول على إمارة، وماشابه ذلك لنقرأ مثلاً مايقوله خضر الحمصي:



إذا قلتُ شعراً هل لديكَ جوابُ؟



يسرُّ فؤادي في هواكَ عتابُ



جناحاكَ في عصفِ الرياحِ ركابُ



أبا محسدٍ والمجدُ أنتَ قرينُهُ



ونمتَ قريراً، والأنامُ غضابُ



مدحتَ كراماً واستهنتَ بغيرهم



كرامٍ فهل هجو الكرامِ صوابُ؟



تجاوزتَ بالهجوِ المريرِ لمعشرٍ



فهل نفعَ المخصيّ منكَ خطابُ (30)



ومدحكَ كافوراً تريدُ ولايةً




ومثل هؤلاء الشعراء- برأيي- هم استمرارٌ للخصومة القديمة في أبي الطيّب، التي كانت قائمة بين فريقين، أولهما يكنُّ عداءً شديداً للشاعر ويحاولُ تحطيمه، بما أوتيَ من وسائل، وثانيهما متعصبُّ له ويسعى إلى إبعادهِ عن المزالق والشبهات، وكلا الفريقين يتسلّحُ بوجهة نظر تبتعدُ عن الدقةِ والموضوعيّة وروح العمق والتحليل.

وتكادُ لا تخرجُ عن هذا النمط أيّة قصيدة، من القصائد التي قيلتْ في المناسبات الاحتفاليّة المختلفة تكريماً لأبي الطيّب؛ خاصةً تلكَ التي قيلت في بعضِ المُدن العربية والأجنبيّة في الذكرى الألفيّة لوفاة الشاعِر (31)؛ لكن أصحاب تلك القصائد -عموماً- تعاملوا مع المتنبي كشخصٍ عظيمٍ وشاعر كبير عاشَ في زمنٍ سالف، ورغمَ جودَةِ وجمال الكثير من تلك القصائد، إلا أنّها لم توّظف المتنبي رمزاً تُراثياً يشيرُ إلى شيءٍ مُعاصر؛ وظلَّ تعاملها معَهُ من هذهِ الزاوية قاصراً وضيّقاً.

وقد قُدّرَ لبعض الشعراء الذين استخدموا المتنبي محوراً لقصائدهم، أن ينجحوا -وبشكلٍ متفاوتٍ- بإخراج هذهِ الشخصيّة من زمنها، محاولين رصد دلالاتها المعاصرة وسماتها الإنسانيّة الشاملة.

سأتناول كأمثلة على هذا النمط مجموعة من القصائد الهامة.

آ-الأخطل الصغير والمتنبي:
يبدأُ بشارة الخوري قصيدته "المتنبي والشهباء"، بوصف مدينة حلب، متناولاً دورها في الماضي، وبطولة أهلها وأمرائها من آل حمدان في حمايةِ شمال البلاد، ممهداً الطريق للوصول إلى المتنبي؛ فإذا وصلَ راح يبني أسطورةً طريفةً حولَ ولادتِهِ من أبٍ هو عظيم الجن، وأم ماردة، ستحملُهُ وتجيءُ به إلى عرسِ الجن في الصحراء، فيحارُ الجميعُ في تسميتهِ:

1

فأقبلوا ينظرونَ البدعةَ العجَبَا



نادى أبوهُ -عظيم الجن- عِتْرَتَهُ



فقالَ: كلاّ.. فقالوا: عاصِفاً- فأبى(32)



ماذا نسمّيه؟ قالَ البعضُ: صاعقةً




وحين يشتدُّ النقاش بين جماعة الجن، يقومُ ماردٌ مفوّه، فيعلن أنهم سيجعلون من هذا الطفل أعجوبةً... فتنةً تشغل الناس بالشعر:



فنشعلُ الناسَ والأقلام والكُتبا



سنبعثُ الفتنةَ الكبرى على يدهِ



فإن غَووا فلقد نِلنا بهِ الأربا (33)



ونجعلُ الشِعرَ ربّاً يسجدونَ لهُ




ثُمَ يجدُ هذا المارد اسماً مناسباً للطفل:



سمّيتُهُ: المتنبي.. فانتشوا طربا



واختالَ غيرَ قليلٍ، ثُمَّ قال لهم



يهوي بهِ الرحلُ لا يدري لهُ سببا (34)



وزلزلوا البيد حتّى كادَ سالكها




وبعدَ ذلك -وفي المقطع التالي- تبدأُ مأساةُ المتنبي الشاعر، الذي يُريدُ أن يحصلَ بالشعرِ على ماهوَ دون الشعرِ مرتبةً ولكنَ الله لا يحققُ له الطلب؛ فالسلطةُ واعتلاء العرش، أمرٌ يقتلُ الإبداع.

إن الطموح الذي يفتحُ آفاقاً لا وصول إليها، هو الذي يخلق الإبداع في النفس المبدعة- ولعل هذهِ هي الفكرة الأهم في القصيدة:



فشاء ربّكَ أن لا تدركَ الطلبا



طلبتَ بالشعرِ دونَ الشِعر مرتبةً



وعطِّلَ الوكرُ، لا شدواً ولا زَغَبا



إذن لأثكلتَ أمَّ الشعرِ واحدها



بوّأتَها الشمس، أو قَلّدتها الحِقبا (35)



لولا طماحُكَ ماغنّيتَ قافيةً




ويسرعُ الأخطل يقارنُ بينَ فتوحات الشعر وفتوحات الجيوش، ونلاحظُ أن لغة الأخطل العذبة الغنائية بدأت تستعيرُ شيئاً من لغة المتنبي نفسه، ومن طريقتِهِ في الحكمة:

ولا لبستَ إليها البيضَ واليَلَبا



أبا الفتوحاتِ لم تُزجِ الخميس لها



كالفتح جَرّ عليكَ الويل والحَرَبا



ما الفتح أهدى إليكَ الروضَ والسُحُبا



من يمنع الشيءَ أحياناً فقد وهَبَا (36)



قد يؤثر الدهرُ إنساناً فيحرمُهُ




ولا ينسى الأخطل أن يذكّر المتبني، أن مصيرَ النوابغ واحدٌ في كل عصر:



لم يزرعوا حولَهُ البهتان والكذبا



عفواً بني القوافي، أي نابغةٍ



فهل تلومُهُم إن مَزّقوا الحُجُبا (37)



منعتَ عنهم ضياءَ الشمسِ فانحجبوا




وهكذا نلاحظ أن المتنبي عند الأخطل لم يرقَ إلى مستوى الرمز، ومااستطاع الشاعِر -وربّما لم يُرد- إخراج هذهِ الشخصيّة ولو قليلاً من زمنها، فظلّت تعيش في القرن الرابع الهجري، وظل الأخطل يخاطبها من بعيد، بل لعلّ خطابه- على جمالِهِ وعذوبته- كان أقل من أن يحيط بشيء من أبعاد هذهِ الشخصيّة التي استوعبت عقائد المتصوّفة والشيعة، وألمّت بالفلسفة والمنطق ووظفت كل هذهِ المعارف في الشعر.

ب- عمر أبو ريشة والمتنبي:
لا أعتقد أن أبا ريشة أصابَ نجاحاً أكبر من بشارة الخوري في التعامل مع شخصيّة المتنبي، والسبب أن الشاعِر تعاملَ مع هذهِ الشخصيّة دون رؤيا جديدة؛ لقد قرأ قصيدته في جامعة دمشق في المهرجان الألفي لأبي الطيب وكان عنوانها "شاعِرٌ وشاعِر"، وقد كان كعادتهِ حسن الاستهلال عذباً، غنيَ الصور حين بدأ يتحدثُ عن نفسهِ -لاريب- مستَعْرِضاً الوجود إصباحاً و إمساءً، رعداً وبرقاً، ورياضاً تبتسمُ جداول ورباً تفوحُ بعطورها، فكان لهُ أن يفضَّ عن الحياةِ نقابها الخادع وأن يصلَ إلى إضمامةٍ من الأفكار الهامة قدَّمها للسامعين- وللقراء فيما بعد- كما تقدّمُ الزهور؛ منها:



ظلّت في نضرةٍ وبهاءِ



كم على تُربةِ الزمان من الأوتار



في غبار النسيان كل غشاءِ



دفقاتُ التذكار تغسلُ عنها



الدهرِ في نشوةِ من الإصغاءِ



أبداً ترقصُ الحياةُ، وسمعُ



صداها ذاك القريب النائي (38)



أمِنتْ ريشةُ الفناءِ فما زالَ




ولا شك أن من أهمِ هذهِ الأوتار الخالدة هو الشاعر المتنبي:



وترٌ صيغَ من سنا الصحراءِ‍!



بينَ تلكَ الأوتار في عالمها



وناداهم بخيرِ نداءِ!‍



غمرَ العربَ سحرهُ الفاتن البكرُ



وفيه من بسمةِ العلياءِ



فيه من غضبةِ الإباء على الضيمِ



في سخاءٍ محاجرُ البؤساءِ (39)



يحبسُ الدمعةَ التي سكبتها




ويجهدُ أبو ريشة للإحاطةِ بأوصاف هذهِ الشخصيّة ويكون لهُ ما أراد، ولكن تلك المناسبة التي كتبَ الشاعِر قصيدته بسببها لعبت -فيما أعتقد- دوراً سلبياً، من حيث أنها جعلت الشاعِر غارقاً في الماضي فقط، ولم يصحُ إلا في آخر قصيدتِهِ حين يقول:

فالعربُ حيارى في قبضةٍ عَسْراءِ



شاعر العربِ، غضَّ طرفكَ



تحتَ أنيابِ حيّةٍ... رقطاءِ



يخجلُ المجدُ أن يرى الليث شلواً



ووهجُ القنا وخفق اللواءِ



أينَ لمعُ المُنى وحمحمةُ الخيلِ



وجراح الأيام خلفَ ردائي (49)



كيف أُهدي إليكَ بعض الأغاني




ومن هنا أعود لرأيٍ للشاعِر شوقي بغدادي؛ حينَ كتبَ في معرضِ حديثه عن "الزباء كما هي". قالَ:

"استلهام التاريخ في سبيل إنجاز أثر أدبي بالغ الصعوبة هو أصعب من الكتابة التي تستلهم الواقع الراهن" (41).

وذلك لأن هذهِ العملية كما عَبّر د. طيب تيزيني: "عملية معقّدة تقتضي اكتشاف الحدث الماضي (التاريخي)، في صيغته الأصليّة، بهدفِ تمثّلِهِ واستخلاص مايمكن استلهامه منه، وهذا يتطلّبُ فهماً عميقاً للماضي والحاضر، كما يشترط امتلاك أداة البحث (الجدليّة التاريخية التُراثية) على نحوٍ يسلّط الأضواء على المشكلة، وذلك في سياق الفعل الاجتماعي النشيط المبدع" (42)

ج- القروي والمتنبي:
ولرشيد سليم الخوري قصيدة عنوانها "نبي"، ألقاها الشاعِر سنة 1935، في المهرجان التذكاري، الذي أحيته العصبة الأندلسيّة في صنبول، لمرور ألف سنة على وفاة المتنبي، يبدأها الشاعِر بقوله:



وهل بعدَ إعجاز ابن كندةَ برهانُ (43)



نبيٌ ولو ضجّت شيوخٌ ورهبانُ




ويرفَعُ القروي أحمدَ بن الحسين فوق الشعراءِ جميعاً حين يقرنه بالرسول الكريم:

وأدلتْ بفرقانٍ تعرّضَ ديوانُ



إذا افتخرت أم اللغاتِ على ألُلغى



فيجمُعها عند النبيينَ إيمانُ



تَوّزَعُها بين السميينِ حيرةٌ



فللشرعِ قرآنٌ وللشعِر قُرآنُ (44)



كلا أحمديها جاءَ فيها بمعجزٍ




ويرفَعُ أمّة عدنان فصاحةً فوق كل الأمم:



إذا رفعتْ بندَ الفصاحةِ عدنانُ (44)



لتسجد ملوك الشعِر من كل أمّةٍ




والقصيدة لا تخرُجُ عن مُناسبتها قيد أُنملة، فهي مخصّصة لذكرى المتنبي، وبالتالي فإنها تذهبُ في تقديمهِ من وجهةِ نظر القروي الذي يشاركُهُ إياها مئاتُ الآلاف من أبناء قومِهِ، ويتألّقُ الشاعِرُ في الكثير من أبيات القصيدة؛ خاصةً حين يحاول أن يستخلص من تجربة المتنبي، أشياء إنسانيّة عامة:



ففي الصدرِ بركانٌ وفي العين بستانُ



تراءى لك الآمالُ نضراً دوانياً



ولو علّهُ نيلٌ وغذّتُهُ أطيانُ



إذا غاضَ ماءُ الجَدِّ فالزرعُ مجدبٌ



بحرٍ ولم يطمح إلى المجدِ فتيانُ



ولولا رجاء الفوز لم ينبُ مضجَعٌ



لما شاقنا ربحٌ ولا شقَّ خُسرانُ (45)



ولو هانتِ الدُنيا على كلِ طالبٍ




ثم ينتقلُ القروي من وصفِ طموح المتنبي وهمّتِهِ العالية إلى وصفِ موهبتِهِ الشعريّة؛ ولا يقفُ عند ذلك، بل يُعلنُ بعد قليل شوقَهُ إلى ذلكَ الينبوع الذي شربَ منهُ المتنبي.. إنهُ يتمنّى أن ينالَ حسوةً صغيرةً من الينبوع الذي وردَهُ جدُّهُ الكبير.. ومَنْ مِنَ الشعراء لا يتمنى ذلك:



فإني إلى تلكَ المناهِل ظمآنُ



ألا أيُّ ينبوعٍ سقاكَ معينُهُ



وبلّتْ لسانَ "البُحتريِّ" بهِ الجانُ



أصابَ "ابنُ أوسٍ" منهُ حسوةَ طائرٍ



يشعشِعُها بالكوثِرِ العذبِ رضوانُ (46)



وأنتَ مقيمٌ كارعٌ من دنانِهِ






ويشكو القروي لسيّد الشعر ما ينتابُ الشعراء العباقرة من خذلان وازدراء في زمنٍ لا ميزانَ فيهِ ولا معيار، لكنّهُ يعودُ فيؤكد أن التاريخ قادرٌ في نهايةِ المطاف أن ينصفَ العباقرة والمبدعين والقروي واحدٌ منهم:



أسأنا ففي بعضِ الإساءة إحسانُ



أجدنا فجنَ الحاسدونَ وليتنا



يقرُّ لها بالطعنِ بيضٌ ومُرّانُ (47)



أغاروا على ألفاظنا بمراقمٍ




وبالتالي فالحسّادُ هم هم في كل مكانٍ وزمان، وقد نالَ منهم القروي ماكانَ قد نالَهُ المتنبي.

ويختم الشاعِر قصيدتَه بإبداءِ رأيهِ في مكانةِ الشاعر ودوره في حياة أمتهِ وشعبه:



يُهددها بالموتِ والعار طغيانُ



بشاعِرها فلتفتخر كل أمّةٍ



وإن أُخمِدتْ أنفاسُها فهو بركانُ (47)



إذا طويت أعلامُها فهو بيرقٌ




ويأسفُ لما آلت إليهِ أمور أمته العريقة، فيحاولُ أن يجدَ سبباً لذلك؛ ولكنُهُ لا يصلُ إلا لما وصلَ إليه المتنبي قبله بألف عام:



وماحولَهُ إلا إماءٌ وعبدانُ



وماذا يُرجّي الشاعِرُ الحرُ بينكم



وبَدّلَ من أخلاق يعربَ طورانُ



تَصرَّمَ عهدُ العزِ واليأس والندى



وياليتهم فيكم "كوافيرُ" سودانُ (48)



فمالتْ سيوف الدولة البيض أعظُماً




د-عبد الله البردوني والمتنبي:
قصيدة البردوني "وردةٌ من دم المتنبي"، قصيدة طويلة؛ وهي تختلف عن سابقتها بأنها ليست قصيدة مناسبة وقد قدّمت رؤية البردوني للمتنبي، وحملت هذهِ الرؤية شيئاً من الاجتهاد:



سيّد الفقرِ تحتَ أذيالِ نُعمى



أنعلوا خيلهُ نضاراً ليفنى



للنوايا أمضى من السيف حسما



وجدوا القتلَ بالدنانير أخفى



أينَ أدمى، ولا يرى كيفَ أصمى (49)



ناعمَ الذبحِ، لا يعي أيُّ راءٍ




إن الشاعِر يرى أن ذوي السلطان استطاعوا صرفَ الشاعِر عن رؤيةِ مظالمهم بإغداق النعمةِ عليه، حتى يجعلوا موهبته مُلكاً لمشيئتهم؛ وهذا موتٌ لهُ، والبردوني بذلك يلتقطُ أهم ميزات ذهنية السلطة العربيّة، التي تعملُ في البدايةِ على شراء المبدع، فإن لم تستطع قمعتهُ، أو طمستْ آثارَهُ، بطريقةٍ أو بأخرى.

وقد حاولَ البردوني أن يتميّز على صعيد الشكل، من خلال هذهِ الحواريّة بين صوتين: أحدهما صوتُهُ هو، والآخر صوت المتنبي، وقد وضعَهُ بين قوسين كبيرتين، وقد تمكّنت هذهِ الحواريّة من بعث الحيويّة والحركة في النص.

لكن صوت المتنبي -للأسف- كان صوتاً مُكرّراً، صوتاً قرأناهُ في أشعاره وربّما دونَ زيادةٍ أو نقصان.

إن فضل البردوني يتمثلُ في إعادةِ نظم مجموعة من أبياتِ أبي الطيب، على طريقتهِ الخاصة، وهذا يجعل القارئ شاءَ أم أبى يستذكر تلكَ الأبيات، ويعقد مقارنة والمقارنة ليست في صالح البردوني.

مثلاً يقول البردوني على لسان المتنبي:



ما الذي تبتغي؟ أجلّ وأسمى



ساءلتْ كل بلدةٍ: أنتَ ماذا؟



لعبةٌ في بنان "لميا" و "ألمى" (50)



غير كفي للكأس غير فؤادي




إن هذين البيتين مأخوذان من قول المتنبي:



وما تبتغي، ما أبتغي جل أن يُسمى (51)



يقولونَ لي ما أنتَ في كلِ بلدةٍ




-وهو أحد أبياتِه في رثاء جَدّتهِ- ومن قوله:



وغير بناني للزجاجِ ركابُ (52)



وغير فؤادي للغواني رميّةٌ




وفي مقطع آخر يقول البردوني:



أوجهاً تَستحقُ ركلاً ولطما



من تُداجي يا ابن الحسين؟ (أُداجي



وإلى كم أبني على الوهمِ وهما (53)



كم إلى كم أقولُ ما لستُ أعني




وهنا يعيدُ الشاعِر نظم أبيات المتنبي التي يقولُ فيها:



إلا أحقُ بضربِ الرأسِ من وثنِ



ولا أعاشِرُ من أملاكهم مِلكاً



وأقتضي كونَها دهري ويمطِلُني



للهِ حالٌ أُرجّيها وتخلفني



قصائداً من إناثِ الخيلِ والحُصُنِ (54)



مدحتُ قوماً وإن عشنا نظمتُ لهم




وقد نجدُ في القصيدةِ صوت البردوني نفسه يكررُ ما عرفناهُ من شعر المتنبي؛ مثلاً نسمَعُ الصوت يقول:



أنفت أن تحلَّ طيناً مُحمّى (55)



هل يجاري وفي حناياهُ نفسٌ




وهو مأخوذ من قول المتنبي:

بها أنفٌ أن تسكنَ اللحمَ والعظما (56)



وإني لمن قومٍ كأن نفوسَهم




ورغمَ شاعريّة البردوني وتمكّنهِ من أدواتهِ يقعُ في النظم أحياناً، كأن يقول:



لا يُرى للتحولِ اليوم حتما (57)



أين حتمية الزمانِ؟ لماذا




أو نراه يكرر الفكرة فيصبح التعبير زائداً مجانياً:



إنه يعشق الخطورات جَمّا (58)



إنه أخطر الصعاليك طُراً




فلا بُدّ لأخطر الصعاليك من أن يعشق الخطورات، وإلا لما كان خطيراً، ولما كان صعلوكاً في الأساس.

إن شخصيّة المتنبي -على أهميّتها- لا تُشكّلُ برأيي في ذاتِها التاريخيّة المحضة شيئاً، وهي يجب ألا تعني المبدع إلا بقدرِ ما تُلبّي حاجة مُعاصرة ذاتية أو مَوضوعيّة؛ وبالتالي فإن موقف الأخطل وأبي ريشة والقروي والبردوني وتعاملهم مع المتنبي بالصور التي رأيناها كان أقرب إلى مايسميه د. نعيم اليافي "الهرب بالتُراث" (59)؛ منهُ إلى استدعاء أو استلهام التُراث.

هـ- سليمان العيسى والـمتنبي:
يقولُ سليمان العيسى في مقالتهِ التي عنوانها "تجربتي الشعريّة" (60): أعترف أنني كنتُ مشدوداً إلى التُراث في الفترة الأولى من إنتاجي، وكانت ظلالُ القرآن والمعلّقات وديوان المتنبي تحيطُ بي، وتشدُّ على يدي في كل قصيدة كتبتُها، ولكنني مالبثتُ أن انفتحتُ على عوالم جديدة. ومع هذا فقد بقيت تجربتي الشعريّة، تجربة عربيّة، تضربُ جذورها في أعماق الصحراء".

لقد قدّمت بهذهِ الكلمات على لسان الشاعرِ، لأُشير إلى أن قصيدته "إلى أبي الطيب" هي بشكل من الأشكال إحدى ظلال انشداده إلى التُراث العربي.

لقد قرأ سليمان العيسى أبا الطيب وأُعجب بهِ أيّما إعجاب، فأدهشه ذلك الطموح الهادر، والهمّة العالية التي لاحدود لها، فجاءَ ذلك على لسانِهِ في القصيدة:

أعومُ في نبضكَ الجبار... لا تعبُ

يمشي إليَّ ولا الشطآن تقتربُ (61)

ووجدَ العيسى أن بينه وبينَ أبي الطيب نقاطاً مشتركة كثيرة، منها الحزن والطموح الكبير:

"آتٍ إليكَ.. ولا تسأل.. سأتُركُها

بقية العمر فوق النطع تضطربُ

(واحرَّ قلباهُ) شاخَ الجمرُ في شفتي

وما التوت زفرةٌ عطشى ولا عَصَبُ

ربيّتُ في حَرِّها، لم تنأ عن رهقي

بيني وبينكَ من أوجاعنا نَسَبُ"(62)

ويستطردُ الشاعِرُ في وصفِ أشكالِ انشدادهِ إلى أبي الطيب، وتأثير هذا الرجل العظيم فيه؛ لكنهُ في المقطع التالي يُبيّنُ لهُ أن هناكَ ما يفرّقُ بينَهما:

"كنّا الغريبينِ.. واعذرني إذا افترقتْ

بنا المُنى.. وتنادى بيننا الطلبُ" (63)

كيفَ لا، وأبو الطيب لا يريدُ إلا تاجاً وعرشاً، بينما هو يسعى إلى غير ذلك:

"ماذا تُريدُ؟ سريراً من أسرَّتهمْ؟

للذلِ يصرُخُ فيهِ العارُ والكذبُ" (64)

فالعرشُ والسلطة- كما يرى العيسى- مستنقع، واللهبُ المحفورُ في دماء الشعراء يجب ألا يغرد لهذا المستنقع:

"لم يخلق اللهبُ المحفورِ في دمنا

لكي يُغرّد للمستنقعِ اللهبُ!" (65)

لأن دور الشاعِر دورٌ أعظم من ذلك في حياة شعبه وأمته، خاصةً حين تكون هذهِ الأُمّة منكوبة:

وراءَنا أُمّةٌ ثكلى مُشّردةٌ

وأرضنا مثلنا تُسبى وتنتَهَبُ" (66)

وهنا ينتقل سليمان العيسى، إلى التعامل مع أبي الطيب ليسَ بوصفهِ شاعراً غابراً، بل بوصفهِ رمزاً؛ "كموضوعٍ يشيرُ إلى موضوع آخر، لكن فيهِ ما يؤهله لأن يتطلّبَ الانتباه لذاتِهِ كشيءٍ معروض" (67)

لقد أرادَ لأبي الطيب أن يكونَ رمزاً للشاعِر العظيم الذي يجب ألا يُخطئ الطريق.

من خلالِ المتنبي يريدُ العيسى لكل الشعراء أن يحملوا طموحات شعوبهم، وأن يكونوا سلاحاً من أسلحة الأُمّة:

"وسُلَّ ملحمةَ الجوعى

وانزل قوافلنا صرعى

إنزل... شبيبُتنا صرعى

نساؤنا، أهلنا، أطفالنا صرعى" (68)

وإن استطاع سليمان العيسى أن يتعامل مع المتنبي كرمز؛ فإنّهُ قدّمَ رمزاً مكشوفاً، مُباشراً، وترك للهاجس السياسي أن يفسدَ عليهِ تماسك الرمز، فيجرّدهُ من بعض الغموض الشفيف المطلوب، فيقع في الخطابة العاطفيّة:

"ونحنُ غزّةُ، نحنُ اللدُّ والنقبُ

نحنُ الملايينُ، يا وهران ياحلبُ

انزل...

إلى النارِ سيفُ الدولةِ الرُتَبُ" (69)

والحقيقة أن مثل هذا التدفق العاطفي، قد يُصبح أحياناً في غير صالح الشاعَر؛ فإنك لتستغربُ مثلاً كيفَ يكرُّر الشاعِر مفردة واحدة مثل "اللهب"، أربع مَرّات:

اثنتان منها في القافية ، بالاضافة لمفردة من المادة نفسها هي "النار"، التي ترد أربع مَرّات أيضاً في حشو الأبيات.

ولو عُدنا للشاهد قبل السابق، لوجدنا أن الشاعر أرادَ أن يعبّر عن فداحة الإصابة بتعداد كل الذين يُصرعون:

"قوافلنا، شبيبتنا، نساؤنا، أهلنا، أطفالنا"، ولو أمعنا النظر في هذهِ المسميّات، للاحظنا كيفَ تتقاطع؛ فعلى الأقل يمكن حذف كلمة "قوافل"، لأن القوافل تحمل الأهل وهم: نساء وأطفال وشبيبة.. الخ.

وفي المقطع الأخير من القصيدة يتركُ الشاعِر أبا الطيب ويخاطبُ "غبشَ الدُنيا"؛ رامزاً بذلك للاستعمار، ويعلنُ أنَّ صوته -بما يمثلهُ صوت الشاعر- سيصل إليه بالقوّة:

"بالنارِ قدّستُ مسراها ستسمعني

بمنجمِ اللهب الآتي ستسمعني.." (70)

ويكرر كلمة "تسمعني" أربع مَرّات مؤكداً من خلال هذا التكرار البياني على دلالة هذهِ العبارة، وموحياً أنَ السماع لن يكونَ عن طريقِ الأذنِ فقط.

و- بيان الصفدي والمتنبي:
قصيدةُ بيان الصفدي التي عنوانها "المتنبي" تختلفُ عن سابقاتِها؛ بأنها مكتوبة للأطفال. وقد أخَذَ الشاعِرُ على عاتقهِ مهمّة أن يقدّم هذهِ الشخصيّة العظيمة لهم بأبهى ثوبٍ؛ شاركت في نسجِهِ اللغة العذبة السهلة المتينة و الموسيقا البسيطة التي تضافَرَت في تشكيلها مجموعة عوامل هي نغمة المتدارك الراقصة و القوافي المتعدّدة والمتقاربة: بالإضافة لقافية واحدة بعيدة ربطت مقاطع القصيدة الثلاث.

لنقرأ المقطع الأول:

"المتنبي

جدّي العربي

ابن السقاء المغمور

وهو فتى العربِ المشهور

لم يقعدهُ الفقر القاسي

عن أن يبرزَ بينَ الناسِ

منقوشٌ في قلب الأمّهْ

كالنجم الهادي في الظلمهْ" (71)

كما لايخفى علينا، التقطَ الشاعِرُ في المقطع السابق عاملاً من أهمِ عواملِ تكوين شخصيّة المتنبي وهو منبتُهُ الطبقي المتواضع؛ الذي لم يقف عائقاً في وجهِ طموحِهِ وموهبتِهِ؛ حتى كانَ لهُ أن يحفرَ اسمُهُ في قلب أمّتهِ.

وفي المقطع الثاني يلتقطُ بيان فكرتين على غايةٍ من الأهميّة ليسَ فقط للصغار، بل لنا نحن الكبار:

"المتنبي

عبرَ الحقبِ

ظلَّ يخلّدُهُ الإبداعُ

وكثيرٌ في الزحمةِ ضاعوا

وهو الباقي ظلَّ فريدا

صوتاً لا يُنسى وجديدا

غنّى نخوةَ سيفَ الدولهْ

جعلَ الدنيا ترقصُ حولَهْ" (72)

إن ما حفظِ لنا -ولمن يأتي بعدنا- اسمَ المتنبي هو إبداعُهُ المتميّز الذي لايمكن أن يُنسى والقابِلِ للتجددِ مع القراءات المتتالية.

والأمر الثاني هو أن صوت الشاعِر المبدع هو الذي يجعلُ الدُنيا ترقصُ حولَ القائِدِ الفارسِ الشجاع الذي يذودُ عن بلادِهِ وشعبهِ كسيف الدولة.

أما المقطع الأخير وهو أقصر مقاطع القصيدة فيقدّمُ خلاصةَ حياةِ المتنبي كلها وشعرَه حيث نقرأ:

"المتنبي

حرفٌ ذهبي

مسطورٌ في أبهى كُتُبِ:

(عش في الدُنيا بفروسيّهْ

واطلب ماعشت الحريّهْ)" (73)

لقد عاش المتنبي حياته بفروسيّة، ودفَعَ دمه في النهاية ثمناً لذلك؛ ولقد غنّى للحريّةِ دوماً؛ وكان كلّما أحسَ بأنه سيفقدها لسبب أو لآخر فَضّل حياة الرحيل والتنقّل، للقصيدةِ جانبٌ تربويٌّ تعليمي واضح لكن ذلكَ جاء بثوبٍ زاهٍ قشيب وكانت القصيدةُ للصغارِ والكبار ككلِ الشعرِ الجميل.

وقبلَ أن ننتقلَ إلى النمط التالي، من أنماط التعامل مع المتنبي لابُدّ لنا كي نكونَ موضوعيين أن نعترفَ أن توظيف الشخصيات التراثيّة؛ واستحضارها بشكلٍ فني إيحائي، واستدعاءها رموزاً تحملُ أبعاداً جديدة معاصرة قادرة على تقديم الرؤية الشعرية للشاعِر العربي الحديث، "بحيث يسقط الشاعِر على معطيات التراث ملامح معاناتِهِ الخاصة، فتصبح هذهِ المعطيات معطيات تُراثية -مُعاصرة، تعبرُ عن أشد هموم الشاعِر المعاصر خصوصيّةً ومعاصرة، في الوقت الذي تحملُ فيه كل عراقة التراث وكل أصالته، وبهذا تغدو عناصر التُراث خيوطاً أصيلة من نسج الرؤية الشعرية المعاصرة، وليست شيئاً مقحماً عليها أو مفروضاً عليها من الخارج" (74)؛ إن مثل هذا التوظيف أمرٌ ليس قديماً بالنسبة لشعرنا العربي، وربّما عرفناهُ على وجهِ التقريبِ منذ أربعة عقودٍ؛ وبالتالي علينا حين ننظرُ إلى تجربةِ عمر أبي ريشة والقروي والأخطل مع المتنبي (قصائدهم مكتوبة سنة 1935)، أن نراعي هذهِ المسألة.

 

التوقيع

 


تِدفا على جال ضوه بارد إعظامي=والما يسوق بمعاليقي ويرويها
إلى صفا لك زمانك عِل يا ظامي=اشرب قبل لا يحوس الطين صافيها
 
 
رد مع اقتباس