عرض مشاركة واحدة
  #6  
قديم 10-11-2005, 07:18 AM
سهيل الجنوب سهيل الجنوب غير متصل
 
تاريخ التسجيل: Apr 2005
المشاركات: 873
معدل تقييم المستوى: 20
سهيل الجنوب is on a distinguished road
العـــرب فـي مواجهة العولمـة

بيروت - سمير مصطفى الطرابلسي(مفكر لبناني)

منذ بداية التسعينيات، شهدت المنطقة العربية والعالم حملة واسعة رفعت شعار «العولمة»، ودارت به باعتباره حقيقة العصر النهائية وسمته البديهية التي ينبغي تقبلها والتكيف مع مقتضياتها، كشرط ضروري لمواكبة العصر ومتغيراته. وفي مراجعة سريعة لمعظم أدبيات تلك الحملة، التي يمكن تصنيفها في إطار «القهر الدعائي»، يجد المرء أن مصطلح العولمة يختزل جملة أفكار يراد لنا التسليم بها، واستراتيجيات يراد لنا أن ننخرط فيها، نوجزها على النحو التالي: أ- إن ثورة الاتصالات والمواصلات وتطور تكنولوجيا المعلومات، حوّل العالم إلى قرية كونية تضاءلت فيها تأثيرات حواجز الجغرافيا والتاريخ والسياسة حتى التلاشي. وبات العالم متداخل النسيج خاضعاً لتأثيرات معلوماتية وإعلامية واحدة. وسوف يفضي هذا إلى نتائج أولها: تقويض التنوع الحضاري المتراكم تاريخياً لحساب نمط حضاري عالمي واحد، وسيادة اتجاهات عالمية واحدة على حساب القناعات المستقرة والولاءات الإيديولوجية. وثانيها: اندثار القوميات لترثها حالة تفتت عرقي وديني ولغوي. وثالثها: ضمور سلطة الدولة وتراجعها تحت ضغط الشركات متعددة الجنسيات التي تقفز فوق كل حدود الدول السياسية من جهة، وضغط النزعات العرقية والدينية داخل مجتمعاتها من جهة أخرى. ب- إن سقوط الاتحاد السوفيتي والمعسكر الشيوعي إذ يشكل من جهة انتصاراً حاسماً ونهائياً للرؤية الرأسمالية الليبرالية للعالم كما بلورتها الحضارة الغربية، فهو من جهة أخرى دليل على أن هذه الرؤية هي الصيغة الوحيدة الصالحة لأن تكون المرجعية الفكرية لكل البشر يكيفون حياتهم وفق مفاهيمها وآلياتها باعتبارها أرقى صيغة تطور يمكن أن يصل إليها الإنسان وينتهي بها التاريخ، كما عبر عن ذلك فرانسيس فوكوياما في كتابه «نهاية التاريخ». جـ- إن الدولة النامية لا تملك إلا طريقاً وحيداً لتجاوز تخلفها الاقتصادي والتكنولوجي، وهو سلوك الطريق الرأسمالي الغربي الذي سبقها الغرب عليه، فحقق تقدمه وازدهاره. وهذا يقتضي التسليم بقوانين السوق كمنظم وضابط للاقتصاد، والتخلي عن «الفكرة - الخطيئة» بأن للدولة مهمة اقتصادية ودوراً اجتماعياً تجاه شعبها، والانصياع لتوجيهات وقرارات المراجع الاقتصادية الدولية، وأبرزها صندوق النقد الدولي والبنك الدولي للإنشاء والتعمير ومنظمة التجارة العالمية، وبذلك تتدفق الاستثمارات ويتحقق النمو الاقتصادي ويعم الرفاه وتنتقل التكنولوجيا ويخرج العالم الثالث من فقره وتخلفه. د- إن اللحاق بالعصر، كما حددت ملامحه مفاهيم العولمة، يستلزم تصفية أفكار بالية كالفكرة القومية التي تجاوزها الزمن، ومواجهة عقائد دينية خطيرة معوقة للتطور كالإسلام. وهنا ينقسم دعاة العولمة بين تيارين: تيار متفائل يرى أنه بات ممكناً اختراق العالم الإسلامي بالأفكار الغربية، كما يرى فوكوياما، وأنه ينبغي تشجيع الإسلام العلماني بنموذجه التركي، كما اقترح ريتشارد نيكسون، في مواجهة إسلام الإرهاب ودعاة القومية. وتيار متشائم يعبر عنه صموئيل هنتنجتون الذي يرى أن الإسلام شكّل خطراً على كل حضارة واجهها، وأن الصراع حتمي معه خصوصاً في ظل الزيادة الهائلة في عدد المسلمين في كل أقطار الأرض، والتمرد على السيطرة والثقافة القادمتين من الغرب الذي يبديه أتباعه، وصحوة الإيمان الديني في نفوسهم. وبتكامل هذه الأفكار، تتضح حقيقة العولمة بأنها الرؤية الاستراتيجية لقوى الرأسمالية العالمية وخصوصاً الولايات المتحدة الأمريكية، والرامية إلى إعادة تشكيل العالم وفق مصالحها وأطماعها، سائرة نحو ذلك الهدف علي ثلاثة مسارات متوازية: الأول، اقتصادي وغايته ضغط العالم في سوق رأسمالية واحدة يحكمها نظام اقتصادي واحد وتوجهه القوى الرأسمالية العالمية (الدول الصناعية السبع - الشركات المتعددة الجنسيات - والمؤسسات الاقتصادية العالمية: صندوق النقد الدولي، والبنك الدولي للإنشاء والتعمير، ومنظمة التجارة العالمية)، وتضبط حركته قوانين السوق وآلياته. والثاني، سياسي ويهدف إلى إعادة بناء هيكليات أقطار العالم السياسية في صيغ تكرس الشرذمة والتشتت الإنسانيين، وتفكك الأوطان والقوميات إلى كيانات هزيلة قائمة على نزعات قبلية عرقية أو دينية طائفية أو لغوية ثقافية، بغية سلب أمم العالم وشعوبها القدرة على مواجهة الزحف المدمر للرأسمالية العالمية والتي لا تستقر إلا بالتشتت الإنساني. وأخيراً المسار الثقافي الذي يهدف إلى تقويض البنى الثقافية والحضارية لأمم العالم، بغية اكتساح العالم بثقافة السوق التي تتوجه إلى الحواس والغرائز وتشل العقل والإرادة وتشيع الإحباط والخضوع. وتشهد منطقتنا العربية ترجمة لهذه التوجهات من خلال مشاريع الشرق أوسطية والمتوسطية. إن المروجين للعولمة والداعين لها لا يملون من تكرار القول بأنها القدر المحتوم للبشر الذي لا فكاك منه ولا بديل عنه، بسبب ثورة الاتصالات والمعلومات. وبالرغم من أن اندفاعة الرأسمالية المتوحشة المعاصرة ما تزال في عنفوان قوتها، غير أن مؤشرات عديدة برزت وتبرز عاكسة تململ أمم وشعوب العالم من نظام عالمي جائر يستهدف تأمين رخاء قلة من الشعوب الغنية على حساب حرية وحقوق وبؤس زهاء 85 بالمئة من مجموع البشر. ولا يخفي دعاة العولمة، ومن ورائهم القوى الرأسمالية العالمية، شعورهم بالقلق من المستقبل تخوفاً من نهوض مستقبلي لشعوب العالم الثالث ضد مخططات العولمة واستراتيجيتها. وتتركز مخاوفهم من مقاومة العالم الإسلامي بشكل عام وفي القلب منه الوطن العربي بشكل خاص، قناعة منهم بأن الشخصية العربية القائمة على العروبة والإسلام تحمل عقائد وقيماً ومفاهيم تمثل النقيض للعقائد والمفاهيم الغربية الاستعمارية والرأسمالية. فالإيمان بقوة الحق واعتبار الجهاد لإحقاقه ولردع الظلم فريضة دينية، والأخوة بين البشر، والتمييز بين الكسب الحلال والمال الحرام، والحث على الاتفاق فيما ينفع الناس والنهي عن التبذير.... إلخ، كلها قيم تناقض العولمة في منطلقاتها وغايتها. وهذا ما دفع بكثير من دعاة العولمة إلى تبني الفكرة الصهيونية القائلة بضرورة إقامة جبهة عالمية ضد الإسلام، تكون مهمتها الأولى إخضاع الوطن العربي، ومن ثم العالم الإسلامي عبر تعاون ثلاثي بين قوى الاستعمار الرأسمالي والصهيونية والشعوبيات. إزاء ما تنطوي عليه العولمة من أخطار، وما تحمله من مخططات واستراتيجيات، فإن التساؤلات تثور حول ما ينبغي القيام به عربياً وإسلامياً لدرء أخطارها ومواجهة مخططاتها، وحول ماهية الإمكانيات المتاحة في مواجهة هجومها الكاسح. إن نقطة الانطلاق في الإجابة عن هذه التساؤلات تكمن في تقديرنا لرؤية العولمة على أنها عملية إنتاج نظام هيمنة شامل ومعاصر، ركيزته الأساسية اقتصادية في طبيعتها، لكن تجلياته في المجالات السياسية والأمنية والثقافية والإعلامية لا تقل خطورة وأهمية عن تجلياته الاقتصادية، الأمر الذي يحول التعامل مع ظاهرة العولمة إلى مواجهة تستهدف حماية وجود الأمة واستغلالها القومي، وشخصيتها الحضارية المتميزة، وحقها في صياغة حياتها وحاضرها ومستقبلها استناداً إلى قيمها وعقائدها، وبما يصون حقوقها ويحقق مصالحها. واستناداً إلى دروس الماضي القريب والبعيد، التي أثبتت أن الاستقلال ليس مظاهر خارجية (علم ونشيد ومقعد في الأمم المتحدة... إلخ) ولكنه القدرة على التحرر من القيود التي تفرضها القوى الخارجية ومواجهة ضغوطاتها توفيراً لأكبر قدر من حرية الفعل للإرادة الوطنية. واستناداً إلى ما أثبتته وقائع تاريخنا القريب والمعاصر من أن العمل القطري في المنطقة العربية، مهما توفرت له إمكانيات ومهما حسنت نوايا القيّمين عليه، عاجز عن مواجهة التحديات الخارجية إذا لم يتكامل مع بقية الطاقات العربية فإننا نرى أن مواجهة تحديات العولمة ومشاريعها تستلزم العمل على أربعة مسارات متكاملة: أ- إعادة بناء نظام عربي سياسي وأمني على قواعد التضامن والتكامل بديلاً عن واقع التناحر والتفكك السائد حالياً، وما يترافق معه من شلل في القدرات العربية واستباحة للأمن العربي على الصعيدين القومي والقطري. وهذا يستلزم تطويق العصبيات القطرية المنفلتة من كل عقال وسياساتها، والتصدي لمشاريع الشرق أوسطية والمتوسطية وتكريس ثلاثة توجهات أساسية: أولاً: التسليم من كل قطر عربي بالكيانات العربية والاعتراف بخصائصها الوطنية، وتحريم أي تدخل سلبي في شؤونها الداخلية، واعتماد جامعة الدول العربية ومحكمة العدل العربية مرجعيتين لحل كل الخلافات. وثانياً: استنهاض مؤسسات العمل المشترك لتكون إطاراً يحقق التكامل العربي من أدنى درجاته إلى أعلى مراتبه. وثالثاً: بناء نظام أمني عربي هدفه تأمين الوطن العربي وأقطاره بالقوى الذاتية العربية ضد المخاطر الخارجية وتهديداتها وضغوطها، واعتبار وحدة وسلامة كل قطر عربي مسؤولية عربية قبل أن تكون حاجة وطنية لأبناء القطر. ب- تحقيق تكامل اقتصادي عربي تكون السوق العربية المشتركة منطلقه، وتكون غايته تحقيق تنمية عربية مستقلة. وإذا كانت مواجهة ضغوطات قوى الرأسمالية العالمية ومصالحها تضعف حتى التلاشي في ظل التجزئة والتفكك، فإن التنمية المستقلة لا يمكن تحقيقها في ظل التجزئة، كما أنه يستحيل تحقيقها في ظل الاستسلام لمطالب دعاة العولمة بتقليص دور الدولة الاقتصادي والاجتماعي والاستسلام لاقتصاد السوق الذي يحركه دافع الربح ويقاس نموه بحجم الريع العائد من استثماراته. إن إعادة الاعتبار لدور فاعل للدولة، في ظل تكامل عربي بغية بناء اقتصاد يحركه السعي لإشباع الحاجات الأساسية للإنسان ويقاس النمو فيه بمقدار النجاح في توفير هذه الاحتياجات والعدالة في توزيعها، تمثل ركيزة تحقيق تنمية اقتصادية عربية مستقلة. جـ- مواجهة الغزو الثقافي والإعلامي لقوى العولمة، مؤسسة على ثوابت الهوية العربية وسماتها الإيمانية والحضارية الجامعة، ومسلحة بعقلية انفتاحية على كل منجزات الفكر والعلم والتكنولوجيا، تقرأها قراءة نقدية وتتفاعل معها لتطويعها بما يتناسب مع قواعد وضوابط فكرنا، فلا نرفضها بداعي الخوف والعداء لكل ما هو أجنبي، ولا نذوب فيها بتأثير عقد النقص تجاه الآخرين. إن السبيل الأسلم للتصدي لدعوات اعتماد الغرب الاستعماري والرأسمالي مرجعية فكرية والتسليم بكل ما يصدر عنه، لا يكون بالانغلاق على الذات، وإنما يتحقق بالتجدد الثقافي من داخل الشخصية الحضارية العربية، والعمل على ولوج عصر العلم والتكنولوجيا كفاعلين مشاركين وليس فقط كمستقبلين مستهلكين. وكما أن الأمن العربي لا يمكن بناؤه على التجزئة، والتقدم العربي لا يمكن تحقيقه في أجواء التفكك، فإن صيانة الهوية الثقافية والحضارية العربية تستلزم تكاملاً ثقافياً وعلمياً عربياً قادراً على بناء مؤسسات ترعى النشاط العلمي والفكري وتحقق الاتصال والتفاعل بين العاملين في حقله وتنشر ابداعاته وتستثمر انجازاته. د- إطلاق حرية قوى الشعب العربي، وتكريس حقه في المشاركة في العمل الوطني والقومي على قاعدة الشورىة، والالتزام الكلي بالحقوق الشـوريـة. فالإنسان العربي هو أمضى أسلحة المواجهة مع العولمة ومخططاتها وتوجهاتها. وتبقى ملاحظة أخيرة، وهي إن العولمة ظاهرة تداهم كل شعوب العالم الثالث وقطاعات واسعة من شعوب العالم المتقدم الذي يحذر كثيرون فيه من تنامي مشكلتي الفقر والبطالة بتأثير من العولمة الاقتصادية. وتخشى الأمم الأوروبية التأثيرات السلبية الناتجة عن «الأمركة» على هويتها الثقافية والحضارية. وبالرغم من ذلك فإن الحديث اقتصر على عرض تصور لكيفية قيام مواجهة عربية للعولمة، والسبب في ذلك أن الأمة العربية تمثل قلب العالم الإسلامي والعالم الثالث معاً، وكثير مما يمكن أن يحدث في العالم الإسلامي أو العالم الثالث، مرهون بحركة الأمة العربية وتوجهاتها. وصدق الرسول العربي الكريم محمد ص الذي يروى عنه أنه قال: «إذا عزّ العرب عزّ الإسلام وإذا ذلّ العرب ذلّ الإسلام». نشر في مجلة (المعرفة) عدد (47) بتاريخ (صفر 1420هـ -مايو/يونيو 1999م)

 

التوقيع

 

سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم

 
 
رد مع اقتباس