عرض مشاركة واحدة
  #2  
قديم 10-11-2005, 07:11 AM
سهيل الجنوب سهيل الجنوب غير متصل
 
تاريخ التسجيل: Apr 2005
المشاركات: 873
معدل تقييم المستوى: 20
سهيل الجنوب is on a distinguished road
العولمة .. حينما تفترس التماسيح أسماك البحيرة !

الرياض - إحسان علي بوحليقة (اقتصادي سعودي- عضو مجلس الشورى)

أدبيات العولمة صريحة في تبجيلها للقوة الاقتصادية، والدول المحبة للعولمة هي الدول المالكة لتفوق اقتصادي يمكنها من فرض مصالحها على العالم. ومن ذلك، فقد شهد التاريخ البشري عبر ستة آلاف سنة من التجارة الدولية حروباً طاحنة لفرض تلك المصالح ولو بالقوة. فقد نكصت قوى العالم على عهود ومواثيق عالمية مرات كثيرة. والقاسم ثابت في كل تجارب -التطاحن- السابقة التي بدأت في العصر الحجري الحديث في حروب روما وفينيقية، وتحديداً الحرب الثالثة التي أبيدت على إثرها قرطاجية عن بكرة أبيها: أن يتأكد للدول الكبرى أن «العولمة» لا تخدم مصالحها وهكذا.. فبإمكاننا القول أن العولمة هي عربات تقطرها مصالح الدول الكبرى. لوم ليس في محله! وسيسير القطار، مادامت القوى الدافعة له تحقق مكاسب متوازنة ومقبولة من وجهة نظر القوى الاقتصادية الكبرى، لكن القطار عرضة دائماً للتوقف، بل وللاختطاف وللتفجير إذا ما اختل التوازن في المصالح ، مصالح الدول الكبرى. وفي وقتنا المعاصر، اكتشف الاقتصاديون العرب ذلك ونادوا منذ الأربعينيات الميلادية وقبل ذلك بجسد اقتصادي عربي واحد، يحقق لنا ميزة في بحر تحركه المصالح الكبيرة، وترهق فيه المصالح الصغيرة. لكن مُسخ المشروع مسخاً، حتى أصبح بعد خمسين عاماً حلماً متواضعاً بأن تكون لنا منطقة تجارة حرة عربية كبرى.. ليس أكثر.. إذاً لم يبخل جيل الأساتذة من الاقتصاديين العرب في نصح أمتهم والتنظير لمستقبلها الاقتصادي تنظيراً محكماً، لكن تسويف الساسة كان هو الرد عبر نصف قرن من الزمن، فضاعت من بين أيدينا أن نشيد اقتصاداً عربياً ضخماً. وعلى النقيض من ذلك ها نحن نقف على الأعتاب يتامى في عصر «العولمة» في حين أننا جديرون بقصر منيف، وصوت مسموع. قد لا يدرك كثيرون أن المنطقة العربية تمثل أكثر من 10% من مساحة العالم، وأنها تضم أكثر من ربع مليار عربي، لديها قوة عمل تعدادها 80 مليوناً. بداية، لا يمكن لوم الآخرين على تتبعهم لمصالحهم. فهذه طبيعة الأمور. ولعل مثالية بعض الكتاب جعلتهم يخضعون العولمة لصنوف من التناول غريبة عجيبة. وإن كان لابد من لوم أحد، فالبداية المناسبة هي أنفسنا؛ لقد بلغتنا أهمية الاجتماع والتقارب لكننا لم نفعل، وأدركنا أهمية التكتل اقتصادياً لكننا زهدنا فيه لأسباب لا يمكن أن تقنع أحداً، ثم يخرج بعض كتابنا ليلوم هذه الدولة أو تلك، ثم إن مايسمى عولمة لم يبدأ فجأة ولم تلعب فيه استراتيجية المباغتة دوراً، وليس أدل على ذلك من أن مجموعات عدة من الدول التقت على أهمية الترابط للحفاظ على مصالحها، فكونت تكتلات اقتصادية أبرزها الاتحاد الأوروبي، والآسيان، إذاً: علينا أن نتحمل قسطاً من مسؤولية تبعثر المشهد العربي. حصان طروادة وليس من الإنصاف تبسيط أمر العولمة وتغليفه بلبوس من النبل والبراءة، وبالمقابل ليس مناسباً تقديم العولمة على أنها المؤامرة الكبرى، أما ما لا يمكن أن نتجاوزه فهو: كيف بإمكاننا توظيف التغيرات من حولنا؟ لعل من الضروري توضيح أن الاقتصاد العالمي يمر بحالة صعبة بالفعل، يصورها بعض الاقتصاديين بالمرحلة التي مهدت للكساد العظيم في الثلاثينيات عندما ارتدت الدول الكبرى «تحديداً الولايات المتحدة وبريطانيا» عن انفتاحها التجاري وأخذت تضع العوائق فتبعتها الدول الأخرى الواحدة تلو الأخرى. ومع هذا وبعيداً عن السرد التاريخي فالعالم عانى في السنوات الأخيرة لأسباب تذكرنا بانتهازية شركة الهند الشرقية، التي أسستها ملكة بريطانيا في العام 1600م لكسر الاحتكار الهولندي- البرتغالي لتجارة أوروبا مع الهند، ثم ما لبثت أن تحولت الشركة لحصان طروادة الذي مهد لاستعمار بريطانيا للهند لاحقاً. وبعيداً عن القرون الغابرة، لنسترجع تجربة حديثة هي ما عرف بكارثة آسيا التي تجسدت في منتصف العام 1997م بانهيار العملة التايلندية. فقد بدا في وقت من الأوقات كما لو أن لا حياة للمستثمرين دون آسيا، لكن سرعان ما تنكروا لها، فتقلصت تدفقات المستثمرين إلى آسيا بمقدار مائة مليار دولار تقريباً خلال عام واحد. وإقليمياً، فما حدث في العام السابق للاقتصاديات النفطية، وتحديداً في دول مجلس التعاون، يستحق التقصي. فنحن مازلنا نذكر حياتنا قبل النفط، لكن كيف ستكون بعد النفط؟! وليس القصد مجرد التساؤل بل وضع الخيارات غير النفطية موضع التنفيذ. وليس الهدف استعداء أحد، لكن القول أن لا أحد يرانا إلا من خلال مصالحه. فهم محلي للعولمة إن اقتصاديات الدول تماماً كبصمة الواحد منا، فريدة لا مثيل لها. وهناك من يتعرف على البصمات، لكن لايوجد من يمكن أن يصف حلولاً عامة ناجعة تصلح للاقتصادات جميعاً بتنميطها في قوالب جاهزة. ورغم ترابط اقتصادات الدول، غير أن المجتمعات تتمايز في أسواقها وتركيبتها الاجتماعية وتقاليدها المرعية مما يساهم في نحت سمة لكل مجتمع تؤثر على مجريات الاقتصاد فيه. وهكذا .. نجد أن محاولة الإصلاح الاقتصادي لا تنجح إن لم ترتكز إلى اقتناع محلي. ومع ذلك ستجد من يتبرع من المؤسسات أو المراكز الخارجية لعرض وجهات نظر حول الأوضاع الاقتصادية لبلد أو لآخر، عاقدين مقارنات تمثل اهتماماتهم في معظم الأحيان، إذ لا يمكن تجاوز أن ليس بالإمكان قياس اقتصادات الدول المختلفة على مسطرة واحدة دون التضحية بعمق المعالجة. والمقارنات الخارجية ضرورية لأهداف محددة لكنها تصلح أكثر ما تصلح للمستثمرين والتجار الوافدين، فعلاقتهم بالاقتصاد ليست دائمة بل تتمحور حول إتمام صفقة مربحة وليس الحفاظ على مستقبل أجيال متعاقبة. ويبقى الفهم المحلي أعمق حتى عندما يتعلق الأمر بتأثير الظواهر العالمية على الاقتصاد المحلي، ويتبادر إلى الذهن مثالان حديثان الأول سعودي يتعلق بالنفط والتكتل الاقتصادي بين دول مجلس التعاون، والثاني مصري يتناول بوادر تفلت الدول الصناعية من وعود العولمة. فقد تلمست شرائح عريضة قضايا اقتصادية لصيقة في خطاب الأمير عبدالله بن عبدالعزيز في أبوظبي في قمة دول مجلس التعاون في ديسمبر الماضي 1998م، فقد تناول فيه انتهاء الطفرة، والأزمة الاقتصادية، والتحول في القطاع الخاص المحلي، وتأثير أداء سوق النفط العالمية على الاقتصادات في دول مجلس التعاون. ومؤخراً في مؤتمر دافوس ورغم إطلاق بالونات اختبار وظهور تصريحات أننا لسنا بحاجة إلى تقنيات واستثمارات، كان للرؤية العربية حضور في دافوس، حيث برزت كلمة الرئيس المصري حسني مبارك، فأضفت رونقاً فكرياً على التواجد العربي في هذا الملتقى الاقتصادي المؤثر، فقد طرحت الكلمة تساؤلات ناضجة حول العولمة من منظور محلي: فهل العولمة ملزمة لطرف دون طرف.. وهل على الدول النامية أن «تتعولم» فما يكون من الدول الصناعية إلا أن ترتد عن دعواتها الانفتاحية؟! التلون العولمي ويبدو أن احتلال العولمة حيزاً عريضاً من الاهتمام في دافوس هذا العام جاء نزولاً عند رغبة الدول الصغيرة. فقد عاتبت دول وشركات العالم الثالث الدول الاقتصادية الكبرى على أسلوب «التلون العولمي» الذي تمارسه: فهي أحياناً عولمية وفي أحيان أخرى غير عولمية. والأمر الذي يحكم تلون الدول الصناعية إجمالاً هو عدم الثبات على أسس عالمية بل إصرارها الاحتفاظ بأسباب ذاتية لتقلب توجهاتها تبعاً لمصالحها، ولتذهب- بعد ذلك- بقية العالم إلى الجحيم! وحتى تتخلص الدول الصناعية من ضغوط سياسية، فهي لم تعد معنية بكرسي «شيخ التجار» بل تريد أن تبيع وتشتري وتكسب بمنأى عن الوجاهة المكلفة. ومن هذا المنطلق تخلصت من كل عطف تمتلكه وجيرته في منظمة يقولون لا أحد يتمتع فيها بحق النقض، وهي تفصل في النزاعات بحزم، كما يقولون . ويبدو أن الدول الصناعية ستكون غاية في الاطمئنان بأن يكون أحد مواطني الدول «الطفرانة» أميناً عاماً لمنظمة التجارة العالمية. وإمعاناً في بيان حقيقة اهتماماتها أخذت القوى الاقتصادية الكبرى «تتعارك» فيما بينها على الصغيرة والكبيرة، وليس أتفه من الشد المحتدم بين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي حول الموز. وكم كان الصراع مقنعاً لو كان حول النفط مثلاً، فالنفط سلعة استراتيجية تمنح مصانع الاقتصاديين العظيمين في أوروبا وأمريكا الطاقة، وتمنح خزائنهما الضرائب، أما الموز فهو المصدر المفضل التقليدي لمد لاعبي التنس بالطاقة بين الأشواط وليست القضية قضية موز فقط، بل إن اليابان تستعد لتشكو الولايات المتحدة إلى منظمة التجارة العالمية لعرقلتها الصادرات اليابانية من الحديد! وبالمقابل فإن هيئات أمريكية عدة تقاضي روسيا واليابان والبرازيل بدعوى إغراقها السوق الأمريكية بالحديد المدرفل، وهكذا نجد أن «التفاصيل» أخذت بتلابيب العمالقة، ونحن ننهك أنفسنا في تفسير أبعاد العولمة، ونبحث عن مستقبلنا فيها وسط حيرة شديدة، فمنا من يقول إن القطار قد فات وثان يطمئننا بأن القطار لم يفتنا بعد، وآخر يقول: إن ليس ثمة قطار. غاية الأمر أن القوى الاقتصادية تريد غزو الأسواق تحت غطاء قانوني من الاتفاقات والمعاهدات! لكن هذه القوى الاقتصادية هي تماسيح تريد أن تحتفظ بكل سمك «بحيرة» العولمة لنفسها، أو لمن يدفع إتاوات وضرائب. نشر في مجلة (المعرفة) عدد (46) بتاريخ (محرم 1420هـ -أبريل/مايو 1999م)

 

التوقيع

 

سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم

 
 
رد مع اقتباس