عرض مشاركة واحدة
  #9  
قديم 12-07-2005, 06:27 AM
ابومحمد الشامري ابومحمد الشامري غير متصل
ابوحمد الشامري ( سابقا )
 
تاريخ التسجيل: Dec 2004
الدولة: شـبـكـة مـجـالـس العجمـــــان
المشاركات: 19,132
معدل تقييم المستوى: 10
ابومحمد الشامري قام بتعطيل التقييم

المتنبي محورٌ لكتاب
هنا يطمحُ الشاعرُ لقول ماتعجز الأنماطُ السابقةُ عن حملهِ، أو التعبير عنه، فيلجأ إلى اتخاذ الشخصيّة التراثيّة محوراً لعملٍ ضخم يمتدُّ على مساحة كتابٍ أو مجموعةٍ شعريّةٍ كاملة، محاولاً طرحَ رؤيا معيّنة شاملة أو تقديم مشروع شعري فكري ما، ومتخذاً من الشخصيّةِ فرساً لهذهِ الغاية، وقد عرفنا بعض النماذج المشابهة؛ كما فعل أدوينس في "أغاني مهيار الدمشقي" 140) وفي "الصقر وتحوّلات الصقر..." 141)

حين استحضر في الأوّلِ شخصيّة مهيار الديلمي وفي العمل الثاني شخصيّة عبد الرحمن الداخل. وكذلك فايز خضّور في مجموعتهِ الشعرية "آداد" 142) حين استحضر الإله السوري القديم آداد- إله المطر والعاصفة لاعباً على هذا التشابه بين اسم الإله واسم ابنهِ ا لبكر.

وفعل أمل دنقل الشيء نفسه في مجموعتهِ الصغيرة " أقوال جديدة عن حرب البسوس"143) حين قدّم من خلال حرب البسوس التي استمرت أربعينَ عاماً رؤيا عربيّة معاصرة؛ جاعلاً من كُليب "رمزاً للمجد العربي القتيل أو للأرض العربية السليبة التي تُريدُ أن تعود إلى الحياة مَرّةً أخرى"144)، ومامن سبيل إلى ذلك -كما يرى الشاعر- إلا بالدماء؛ وقد استحضر بالإضافة لكليب بعض شخصيات تلكَ الحرب، وجعلها تُدلي بشهاداتها.

وفيما يتعلّق بشخصيّة المتنبي وجعلها محوراً لكتاب لديّ مثالانِ بينهما من الزمنِ ربع قرنٍ تقريباً وهما "الدخول في شعب بّوان" لمحمّد عمران وقد طبعَ سنة 1974، و"الكتاب" لأدونيس وقد صدر سنة 1997.

1- محمد عمران والمتنبي
تتألّفُ مجموعة محمد عمران "الدخول في شعب بّوان" من خمس قصائد، هي على التتالي: الدخولُ الأوّل- بوّان)- الدخول الثاني المجيء من الماء) الدخول الثالث الحب)- الدخول الرابعطيبة) - الدخول الخامس البحر).

والقصائد مرتبطة بعضها ببعض؛ إنها أقرب ماتكون لعملٍ ملحمي متكامل.

منذُ اللحظة الأولى لالتقاطنا المجموعة، وقراءة عنوانها يُحيلنا الشاعر إلى أبي الطيب عموماً، وقصيدته المشهورة في شعب بوّان بشكل خاص، وتؤكد السطور الأولى من المجموعة هذا الأمر.

إن الذاكرة تأبى إلا أن تعودَ بنا إلى قصيدة المتنبي قبلَ أن تفسَحَ لنا مجالاً لندخلَ عالم محمّد عُمران:



بمنزلةِ الربيعِ من الزمانِ



مغانى الشعب طيباً في المغاني



غريب الوجهِ واليدِ واللسانِ



ولكنَ الفتى العربي فيها




ونستذكرُ ذلكَ المكان البهيج عند شيراز الذي مَرّ بهِ المتنبي غدوةً، فرآهُ أحد جنان الدنيا بمنازلِهِ الجميلة وشجره المثمرِ، ونداه وظلاله، ومياهه الوفيرة؛ حتى خشي الشاعرُ أن تحرنَ الخيلُ فلا تطاوع على السير رغمَ كرمِ أصلها...

ونتذكّرُ أن المتنبي رغمَ كل ذلك البهاء والجمال الخلابِ من حولهِ شعر أنه -وهو الفتى العربي- غريب بكلٍ معنى الكلمة.. فأهلِ تلك البلادِ أعاجم ولايتحدّثون العربيّة، وهو مجهولٌ بينهم، ولاأملاكَ أو مالَ لديهِ في منطقتهم كما أن عاداتهم لاتشابهُ عاداتِ أهلهِ، فلو كانت هذهِ المغاني في دمشق لثنى عنان جوادهِ رجلٌ عربيٌ وقدّمَ لهُ فروض الكرمِ والضيافةِ، بقلبٍ شجاعٍ على القِرى غير بخيلٍ، لأن البخل جبنٌ، لكنهُ بعيدٌ عن بلاد العرب الآن.

وشعبُ بّوان في نظر المتنبي مكان جميل يعبرهُ إلى غايتهِ، حيثُ سيصلُ إلى عضد الدولة؛ وليس الشعبُ غاية لذاتِهِ.

فما الذي يُريُده محمّد عمران من هذا الشعب؟ هل هو عندهُ ذلك المكان المنفرج بين جبلينِ قريباً من شيراز.. أم أنهُ غوطة دمشق؟ أم غابات الفرلّق على الساحل السوري؛ أو أنهُ سوى ذلك جميعاً؟ ولماذا شعبُ بوّان تحديداً؟ هل هو غاية في مجموعةِ الشاعرِ؟ أم أنه معبرٌ إلى شيء ما؟

ولن يكون لنا أن نصلَ إلى إجابة عن أسئلتنا هذهِ إلا إذا مشينا مع الشاعرِ "دخولاً.. دخولاً" ابتداءً "ببوّان" وانتهاءً "بالبحرِ" كما أراد لنا؟

يبدأُ الشاعر الدخول الأوّل بوّان) محاولاً مُباشرةً التوحيد بين تجربته وتجربة المتنبي من خلالِ استخدامهِ ضمير المفرد المتكلّم؛ والعمل على إعادةِ تشكيل وبناء حجارة بعضِ أبياتِ قصيدة "شعب بوّان" بصورة جديدة.

ويتاح لهُ ذلك في بعض المواضع ولكنُهُ يخفقُ في أكثر من مكان 145)، حتى إذا خرج من دائرة تلكَ القصيدة رُحنا نُحسُّ أنه أكثر حُريّة وطلاقة.. وإذا شعب بّوان مكانٌ أليفٌ محبب، والشاعر لايشعرُ أنه غريب فيه:

".. لاغريب الوجهِ،

هذي يدي التُرابُ، لساني

يقظةُ الصحو في عروق الحجارة

أقرأُ النسغ في خلايا التُراب، العشبِ

في الماء، أقرأُ الفرحَ المكنون فيها" 146)

وإذا بوّان الجديدُ بحرٌ، وكتابٌ:

"بوّان بحرٌ، كتابٌ

أحمر الضوء، أحمر المرج، حبرٌ

غجريٌ، بوّان قافية الأرض

خميرٌ في خبزها الوحشي"147)

ثُمّ يصبحُ بوّان في نظر الشاعر صندوق دنيا يعرض أمام بصرهِ شريطاً طويلاً متداخلاً من التاريخ:

"وبوّان صندوق الدنيا

إرم ذات العمادْ

ذاك شدادُ بن عاد يزحم الأبوابَ،

حشدٌ من عبادْ

يفتحون الأرضَ. أوديبُ على صهوة طيبهْ

يشنقُ المغولَ. وهذا قيدرٌ

يعقرُ الناقةَ، هذا يوسفٌ

يتعرّى من قميص الحسن في كفِّ زليخا" 148

ولايقف الشريطُ هنا، بل يستمرُ ليرى الشاعرُ بلقيس وموسى وبابل وسدوم وغيرها، إلى أن يقول:

"السماءُ السابعهْ

ترتمي خالاً على الخدِ،

العصور،

الزمن الغائبُ والحاضر أهدابٌ على

العينينِ، والأرضُ شفهْ" 149

بعدَ كل ذلك سينتابنا شعورٌ مفاده أن شعب بوّان الجديد ليسَ مكاناً فيزيائياً محسوساً عند عمران؛ إنه شيءٌ آخر؛ إن الشاعر يدخلُ- ويدخلنا- إلى مكان ذي مراتب متتالية.. متصاعدة.

إنهُ ينتقُلُ من مقامٍ إلى مقامٍ أسمى على طريقة الصوفيين! وكلّما ارتفعَ المقام، اشتدَ صحو القلبِ ورأتِ البصيرة مالاتراهُ العين؛ ويؤكد كلامي هذا تكرار مفردةِ "الصحو" في المقطع "1" من القصيدة ثلاث مرات .

- ارتمي بينَ* /span> ذراع الصحو. ص11

- قارئٌ كلّ لغاتِ الصحو في عينيكَ.ص12

- يقظة الصحو في عروق الحجارة. ص13

بالإضافة لعبارات أُخرى تكرّسُ الفكرة نفسها، وإلا فكيف تُصبحُ السماء السابعة "خالاً على الخد" كناية عن قُربها، وإمكانيّة تحسُّسِها؟

وكيف يصبحُ الحاضر والمستقبلُ أهداباً للعينين، والأرض شفة؟

ويتابعُ الشاعرُ صعودَهُ، ويتدرّجُ عبر مقامات القربِ والوصول؛ فهاهو في المقطع "2" يرقى على سُلمٍ من ضلوع الريح، وفوق أمواهٍ تُصبحُ نَعلاً ليّناً له.. مستحضراً إحدى معجزات السيّد المسيح حين سار فوق الماء؛ وموّظفاً إياها بصورةٍ داخليّة بنائية ضمنَ سياقٍ جديدٍ لاعلاقة لهُ بأصل الحكاية الدينيّة بحيث حَوّلها إلى شطرٍ شعري جميل ذي مضمونٍ جديد:

"سُلّماً كانت ضلوعُ الريحِ،

كانتْ غبطتي مجنونة الأقدام

كان الماءُ نَعلاً ليّناً

حين صعدتُ

انفتح الكوكبُ باباً، خلفَ بابٍ، خلف بابْ" 149)

وسيقدّمُ المكانُ بعد ذلك قطوفَهُ الدواني للشاعر:

"هذهِ الحُمرةُ لي:

قصرٌ من الضوءِ عقيقيُ الشهى

شمسٌ من الرُمّانِ

ليلٌ من دمِ الجوري" 150)

بل أكثر من ذلك ؛ إن كل ماحولهُ ملكٌ لهُ، وبذلك نفهم شعوره- الذي نقلهُ لنا منذ البداية- بأنه ليسَ غريب الوجه واليد واللسان:

" هذا الملك لي:

التفاحُ، والحورُ، وأغصان النبيذ المثقلَهْ

ليَ هذا الكوكبُ المذهلُ

هذي الزرقة المشتعلةْ" 150)

وحتى يعزز في أذهاننا أهميّة بل قدسية المكان ، الذي وصلَ إليه الآن، يفجؤنا بعبارة تأتي بعد المقطع السابق، وبين قوسين، وكأنها صوت خارجي يسمعه الشاعر.. صوت آمر يقول لَهُ:

"اغتسل"

ليتابع بعدَ ذلك صوت الشاعر مُعدّداً أملاكهُ:

"نهرٌ من الليلكِ، عصفورٌ من الجمرِ

وأشياءُ، "اغتسلْ" كان التُرابْ

قبّة من ذهبٍ، مرفوعة فوق عواميد الذهولْ

كان بابٌ للدخولْ)" 151)

إن فعل الأمر "اغتسلْ" يتكرّر مرتين، وبهذا يريدُ منا أن نفهم أنه يتلقّى أمراً خارجيّاً، بأن يغتسل لأنه يدخلُ مكاناً نقيّاً طاهراً لايدخله إلا المطهرون...

ويستطيعُ بذلك أن يستحضر حكاية دينيّة أخرى بشكلٍ غير مُباشر؛ إنها حكاية النبي موسى حين تجلّى لَهُ اللهُ في طور سيناء نوراً؛ وكانت عبارته الأولى:

اخلع حذاءك ياموسى، إنكَ تقفُ على أرضٍ مقدّسه. إن محمد عمران يستلهم أيضاً هذهِ الحكاية المعروفة بشكلٍ ايحائي شفيف، رغمَ أنه إلى الآن لازال يستخدمُ شخصيّة المتنبي استخداماً كُلّياً؛ أي أن الشاعر "يتحدّث بلسان الرمز الأسطوري) أو يتحدّث إليه، وقد يُصّرح بالأسماء، وقد يوحي بها من دون اشارة" 152)

ويجتاز الشاعرُ الباب... باباً غريباً، ليعبرَ دهليز الموت:

"البابُ تعرّى

شفتاهُ قمرا دهشة

ادخل، ادخل، ادخل. تنصفقُ الشفتانِ

وأعبرُ دهليزَ الموت" 153)

فيجدُ في انتظارهِ الزنابقَ والعشبَ والأغنيات، المطر.. قميص الحياة..

ورُبّما لاحظنا في الأمثلة السابقة - وسنلاحظُ لاحقاً- أن عمران يمنحُ خيالهُ حُريّةً ابداعيّةً مطلقة في تشكيل صورهِ ورؤاه التي "تتجاوز الواقع إلى ماوراء العقل، حين تجمع بين أشياء لايمكن أن تقترن" 154)، ساعياً لإنشاء علاقات جديدة بين الأشياء ومحاولاً أن يوحّد بين ذاتهِ الداخليّة والطبيعة من حوله.

سيجدُ الشاعرُ وسط هذا المكان الجديد، أن لغتَهُ الأرضيّة غير قادرة على التعبير، ولن تصلح أداةً لصلاته؛ إنه الآن أحوج مايكون للغةِ الماء والنار والموت، لأصواتِ الأشجارِ والطير، للغة تحملُ رائحة الدفلى والنعنع والريحان.

ونفاجأُ حين يُصّرح الشاعرُ بعد كل ماسبق أنه بلا حُب.

هو فرحٌ، ولكنّ حُبّهُ غائب:

"يلطمُ أيامي الفرح، وحبّي غائب

آهٍ

آهٍ

يافرحُ ادخلني

ويعانقني..

آهٍ لو كان الحبُّ معي.. " 155)

إن مصدر المفاجأة والغرابة هو معرفتنا جميعاً أن مثل ذلك الصعود والسمو لايكونُ أساساً في التجربةِ الصوفيّةِ إلا بمجموعةِ سُبلٍ أهمّها وعمادها هو:



الحب.. العشق، إذاً كيفَ كان لهذا الشاعر المتنبي/ عمران) أن ينتقل من مقامٍ لمقام دون الحب؟‍

ويجيء المقطع "4" لكنّهُ لايحملُ إجابةً على هذا التساؤل، إنه يزيدُ حالة الاستغراب والدهشة عندنا؛ فهذا السالكُ الغريب يصلُ إلى مرتبةٍ يخلعُ فيها كل شيء الماءَ والترابالجسد)؛ الأرض والسماء، الوجه ولاتبقى إلا تلكَ الروح المحلّقة التي لاتحتاج إلى قدمين للمسير:

"لم تعد تلزمُ الثياب

إنني، الآن أعرى

أخلع الماءَ والتُرابْ

أخلع الأرضَ والسماءْ

جسدي؟ ليس لي جسدٌ

ليس وجهٌ، وليسَ لي

قدمٌ تعبُرُ الطريق" 156)

حتى إذا دخلنا المقطع "5" هبطَ بنا الشاعر من ذلك السمو الشاهق إلى أرض الواقع، وراحَ يلوم نفسه ويطلبُ من ذلكَ الفرح أن يطلقَ زمامَه:

"اعتقني يافرحاً، دعني أعبرُ دربَ الريح إلى صوتي

سبقتني الفرسانْ

قُتلوا. زفّوا. ولدوا. وأنا في كفّكَ يابوّانْ

العالم تسكنُهُ الأحزانْ

العالمُ جوعٌ، وجعٌ، غضبٌ، نارٌ، موتٌ

وأنا في عشبكَ يابوّان" 157)

ثم يتساءلُ الشاعرُ هل جاء إلى بوّان قبل الأوان؟

أم كان قدومهُ متأخراً؟

ويصفُ لنا كيف مرّ في الطريق : بكسرى وقيصر وجنكيز خان والاسكندر المجنون، وبيدَبا وأبي نواس والمعري والخيّام والأيام والأحلام وكانوا جميعاً في انتظارهِ... قبل وصولهِ إلى بوّان!

إن من يستعرض هذهِ الأسماء يرى أنها تضم قادةً وحكاماً وفلاسفة وشعراء ومتصوفين.. إذاً ما الذي يرمي إليه الشاعر من خلالِ هذا التعداد الذي يبدو ثقيلاً للوهلةِ الأولى.. هل يُريد أن يقول إن المعرفة والثقافة فالمرور بتلكَ الأسماء كناية عن قراءة تاريخها وانتاجها واستيعابه) هما إحدى وسائلهِ للوصولِ والتسامي عبرَ مقامات بوّان؛ مثلما هو الحبُّ في الطرائق الصوفيّة؟

أم أنهُ رَمز بتلك الأسماء إلى ماعاناهُ وخبرِهُ من ظلمٍ وقهرٍ المرور بكسرى وقيصر وجنكيز خان)، وفرحٍ ومحبّةٍ وقلقٍ ومحاولةٍ لإصلاح العالم وصوفيّة وما إلى ذلك بيدبا، المعري، أبو نواس، الخيام...) قبلَ وصولهِ إلى مكانٍ يقدرُ أن يرتاح فيه وهو بوّان؟!

إن هذا المقطع مقطعٌ إشكالي؛ فقد قدّمت لنا الشواهد السابقة شعبَ بوّان وكأنهُ يصرفُ الشاعرُ ويُلهيهِ عن رؤية حقيقةِ العالم جوع، وجع غضب، موت)

وأنا لاأستطيع أن أطابق بين ماقدَّمَتْهُ المقاطع من "1" إلى "4" مع مايُريدهُ الشاعر الآن.؟...

كيف يضعُ شعبُ بوّان "السماءَ السابعة خالاً على خدِ الشاعر والعصور كلها أهداباً على عينيهِ والأرض شفة لهُ" ثُمَ يغمضُ عينيهِ أو يلهيه عمّا هو أقرب من أنفه؟!!!

لعلّي إذاً أخطأت في فهم ماأرادهُ الشاعر من شعب بوّان؛ وذهبتُ في رأيي مذاهب لاقبل للشاعر بها؟! لكن هاهو ذا يعودُ فيستنجدُ ببوّان ويطلبُ إليه أن يحملهُ بعيداً:

"احملني، اخطفني، خبئني

في شوقِ العشب، ارفعني

في طبقان الحبِّ إليك..

الحبُّ ربابي، الحبُّ كتابي، الحُبُّ سحابي

الحبُّ طريقي، الحبُّ رفيقي، الحبُ خريفي

الحبُ طقوس حياتي، ناري ورمادي..

آهٍ،

لو أن الحبَّ معي،

لو أن الموتَ معي..

آهٍ..

كلّ الأشياءِ معي:

الله، الموتُ، الحبُ،

سلامٌ

لكنّي وحدي" 158)

مادامَ الحبُّ هو كل شيء في الدنيا بالنسبةِ للمتكلّم:

كتابهُ، ربابُهُ، سحابهُ، طريقهُ، رفيقُهُ، خريفهُ، نارهُ، رمادُهُ الخ...)

فكيف يختتم قصيدته بعد أسطر قليلة من هذا المعنى مُصّرحاً أنّ معهُ "الله، الموت، الحب" ولكنه وحيد كيف يمكن أن نقبل مثل هذا التناقض الغريب كان على محمّد عمران أن يحذف المقطع "5" من هذه المجموعة لأنهُ نسفَ كل مابناهُ من قبل. ثُمَ نسفَ نفسه بهذا التناقض غير المقبول أو المعقول!

*** o>

- يستهل الشاعر الدخولَ الثاني المجيء من الماء)

بالعبارة التالية: لالونَ لهُ، ولاطعم، ولارائحة).

وهذا تعريفٌ فيزيائي للماء، وسيجهدُ القارئ قبل أن يجد رابطاً هاماً وناجحاً بين العنوان والنص.

إن محمّد عمران أحد أكثر شعراء العربيّة المعاصرين استخداماً لهذا الرمز "الماء"، وإن كانَ قد أجاد في استخدامه في أعماله المتقدّمه، إلا أنُهُ- فيما أعتقد- لم يحقق ذلك في أعماله المبكّرة كالديوان الذي بين أيدينا.

إن القارئ سيدخُل إلى فضاء النص مُسلّحاً بمجموعة دلالات أهمّها، إن الماء هو مصدر الحياة، وقد تشكلت الخليةُ الأولى فيه قبل مئات ملايين السنين، وقد جاء في القرآن الكريم "وجعلنا من الماءِ كل شيءٍ حي" كما أن الكثير من أساطير الخلق تؤكد هذا الأمر؛ وعليه فإن أهم رموز الماء التي تخطرُ بالبال هي:

الحياة، الإخصاب، الخلق، الفحولة، الشفافيّة وما إلى ذلك، وعنوان الدخول الثاني يحتملُ حتى الآن كل هذهِ الدلالات؛ أما الاستهلال التعريف الفيزيائي) فلا يؤكد ذلك، ولاينفيه؛ إنه تعبير أصم شعريّاً حتى الآن)!

يبدأُ عمران الإنشاد متقمّصاً المتنبي ومخاطباً بوّان:

"أنا ياكتابَ البراري

حروفٌ من الغيم سوداءُ

سطرٌ من الريح لايُقرأُ،

امحُ الكتابة عني

امحُ وجهيَ،

إقرأ تضاريسَ حُزني

أعدْ صُنعَ خارطتي

مزّقتني اليبوسةُ في موسم الماءِ

صرتُ نفاياتِ وجهِ بغيٍ، أعدني

أعد لون صوتي، طعمي، ورائحتي

صرتُ في موسمِ الماء ماءً، إناءً

تعفنّتُ، ضاعتْ شواطيء عُريي

امحيت تفرّقتُ، رملي قتيلٌ

أعد لي بكارةَ رملي" 159)

إن هذا المقبوس، بل المقطع "1" من هذه القصيدة لايعمّقان أي دلالة ثابتة للماء كرمز، ويظلُ استخدامهُ مشوشاً ومتناقضاً بين سطرٍ وآخر؛ فتارةً هو رمز الخصب والحياة:

"مزّقتني اليبوسةُ في زمن الماءِ" 160)

وتارةً هو رمزُ ضياع الهويّة والركود لالونَ لهُ ولارائحة ولاطعم):

"صرت في موسمِ الماءِ، ماءً، إناءً

تعفنّتُ" 160)

لكن المقطع "1" يفلح في رسمِ صورةٍ للشاعر المحطّم المهزوم الذي يلتجيءُ إلى بوّان راحلاً طالباً العون:

"حطمتني الحوافرُ، لكنني

أشرتُ،

اتهمتُ

أدنتُ المراكبَ

ثمّ ارتحلتُ

اسكبِ الشمس بوّان في رئتي، فإني

تعطّلتُ" 161)

وهكذا يصبح بوّان ملجأً يفرُّ إليه الشاعر المعطوبُ من قسوة الحياة والظالمين طالباً العون والمدد.

إنه مفهومٌ جديد بدأ الشاعرُ يبنيهِ، مفهومٌ محسوسٌ أقرب إلى الواقع من الصورة التي قدّمتها القصيدة الأولى.

المقطع "2" ؛ مقطعُ بوحٍ دافيء، مُرٍ أحياناً... فاحشٍ أحياناً أخرى، إنه الشاعر يسردُ لبوّان كلّ مامَرّ عليه، وماعاناهُ، ولكن ليس كشخصٍ واحد يعيش في زمنٍ محددٍ، عُمراً مُحدّداً؛ إن هذهِ الروح الأزليّة التي لاتموتُ أبداً، التي تعبر العصور والأمكنة هي التي تفصح عن نفسها متنقّلةً بين كثيفٍ وكثيف..

فتروي كل ماخبرته وعانته.. ويبدو أن الشاعر تمكّن من جعلها تبوحُ هذا البوح، بأن حرّرها من جسدهِ الذي تسكنه، باشغالِ هذا الجسد عنها، وكيفَ ينشغلُ الجسد؟

لقد علّمنا المتصوّفة أن هذا يكون بتحطيمهِ وقهرهِ.. بالجوع والعطشِ والصلاةِ الطويلة والتأمّل وغيرها..

أما عمران فقد كان لهُ ذلك -وهذا احتمال- بمضغ "المن والسلوى" والمنُّ: في أحد معانيه- هو طلٌّ ينزلُ من السماء على شجرٍ أو حجرٍ، ينعقد ويجفُّ جفاف الصمغِ، وهو حلوٌ يؤكل، أما السلوى:

فهو شرابٌ يشربهُ الحزين فيسلو، وقد جاءَ في القرآن الكريم:

"ثُمّ بعثناكم من بعد موتكم لعلّكم تشكرون، وظللّنا عليكم الغمام وأنزلنا عليكم المنَّ والسلوى كلوا من طيّبات ما رزقناكم، وما ظلمونا ولكن كانوا أنفسهم يظلمون" سورة البقرة الآيتين 56-57. والآيتان في وصفٍ بني اسرائيل حين أظلّهم الله في التيه، ثُمّ أنزلَ المن والسلوى فاقتاتوا بهما. يتخذُ الشاعر

عبارة :" مضغتُ المنَّ والسلوى" لازمةً تتكرّرَ ست مرّات، لتفصح الروحُ في كل مَرّة عن مرحلة من مراحل انتقالها وسفرها، ولايخفى علينا - على ضوءِ الآيتين الكريمتين- أن عمران أرادَ بصورةٍ من الصور أن يعيدَ إلى أذهاننا ذلكَ التيه والضياع اللذين عاشهما قوم كفروا؛ ويسقط هذهِ الحالة على الروح التي تنتقل تائهةً من عصرٍ لعصرٍ ومدينة لمدينة:

"مضغتُ المنَّ والسلوى

سكنتُ مدائن القاتِ

أكلتُ، أكلتُ لحمَ الحزنِ

مُرّاً كان، مائي شارعُ الكلماتِ

كان حذائي المجدولِ من نُعمى الأمير على فمي

غنيّتُ في نعليهِ،

قلتُ: الشمسُ فُرشاةٌ لهُ، لمّعتُهُ

صوّرت فيهِ الناس" 162)

هُنا كان للروح أن تتقّمص شاعراً مدّاحاً.. يرتزقُ ويعيش بشعرهِ.

"مضغتُ المنَّ والسلوى

سكنتُ مدائنَ الماءِ

أضعتُ هناكَ أسمائي

غريبا كنتُ، وجهي يلبسُ القمصان كيفَ تفصّلتْ

كيف امّحتْ ألوانُها

انصَبغتْ،

لساني كان أسودَ، كان أحمرَ، كان أبيضَ

كان مصبغةً لكلِ لغاتهمْ

كانت يدي جسراً حريريّاً

تمرُّ عليه كل قوافل الكلمات

كل اللافتاتِ

كان الموت يعبُرُ في سلامٍ فوقها" 163)

وهنا أيضاً تقدّمُ الروحُ حالةً مشابهةً لسابقتها حالة شخصيّة لاصوت ولاشكلَ ولااسم لها.. شخصية تبّدل ملامحها كما لو كانت ثوباً يُرتدى ويخلع، شخصيّة تقولُ مايطلب منها، وتكتبُ مايرددهُ السلطان..

فيمُرُ الموتُ من فوقها ومن حولها وتبقى سالمة.

ولعلَّ هذا المقطع هو الذي يضيءُ لنا ماأرادهُ الشاعر من عنوان هذا الفصل والاستهلال الذي تلاه.

وتكون المحطّةُ التالية مدائن الجوع:

"سكنتُ مدائن الجوع

دخلتُ هناكَ، دهليزَ الشفاهِ

تكسّرت عينايَ في بوابةِ الأفخاذِ

كان الجوعُ طاقيّة

تخفي خلفها العتّال، والسلطان، والكاهنْ

رأيتُهُمُ جميعاً يجلدونَ الحُبَ خلفَ ستائر

حمراء

كان دمٌ يسيلُ على الستائر" 164)

وإن كنّا نُسَرُّ لهذا التوظيف الجميل لطاقيّة الإخفاء المعروفة في الحكاية الشعبيّة، لكننا لانستطيع أن نقبل كيفَ يكونُ الجوع طاقية تخفي العتّال والكاهن والسلطان؟! رُبّما وافقنا أنهم جميعاً يجلدون الحبّ لتسيل دماؤه؛ مع أننا سنستغرب أن يُجمَعَ هؤلاء الثلاثة بتلك الصورة؛ لكن الفكرة الأولى تبقى مستهجنة.

ثُمَ ينزلُ بعد ذلك مدائن الشعر؛ لكنهُ هذهِ المرّة يهتدي بالحُبّ فيحميهِ من الانزلاق:

"نزلتُ مدائنَ الشعرِ

وكان الحبُّ قنديلاً

أضأتُ فتيلَهُ، استمهلتُ، فوق سلالمِ

الظلماتِ أهبطُها سراديباً، سراديباً" 165)

ورغم أنهُ يتعثرّ ويسقط وتتلوّث أشعارُهُ إلا أنه:

"ثُمّ غسلتُ أشعاري

بماء الشمسِ

ثُمّ نشرتُها في جبهةِ النارِ" 166)

في مدائن السحر، نرى الدُنيا مقلوبةً رأساً على عقب، لامنطق ولاقانون:

"نزلتُ مدائن السحرِ

إفلاطون ينبتُ في حذاءِ محاربٍ

سقراطُ رأسٌ فوق هامةِ جندبٍ

قارونُ شحّاذٌ

وقابيل قتيل

وجه يوسف أحدبٌ

هيلين عذراءُ

وهارونٌ يُصلّي نصف عام، ثمّ يغزو

نصفه الثاني

مسيحٌ في يهوذا

كيمياءُ تبّدل الأشياء" 167)

لقد حشد لنا الشاعر عدداً هائلاً من الرموز التاريخيّة والدينيّة والأسطوريّة، ولم يترك لكلِ رمزٍ مجالهُ الحيوي الذي لابُدّ منهُ ليتحركَ فيه 168)، بل جاءت الرموز متتاليّة دون أن تترك لنا أن نلتقطَ أنفاسنا..

وكل ماقدّمتهُ لنا هو فكرة انقلاب المفاهيم وتبدلها إلى نقيضها.. وكان يكفي أن يورد الشاعر رمزاً أو اثنين من كل ماسبق، حتى يصل إلى الغاية نفسها بتكثيفٍ وإيجاز، دون أن يقحمَ كل تلك الأسماء.

المحطة الأخيرة.. هي سفرٌ واغتراب عبر الحقب:

"ولدتُ في روما

حملتُ سلاسلي

شيّدتُ أهرامات مصر، رفعتُها حجراً

على قلبي

دخلتُ مقاصير النبلاءٍ في فرساي

كنتُ على موائد عُهرهم جسداً حريرياً

نفيتُ مع الجياع

قُتلتُ في بغداد

متُّ

ولم أزل حيّاً" 169)

إن المقطع الأخير يؤكد ماذهبتُ إليه منذُ البداية. إن الشاعر... أراد من خلال رحلتِهِ هذه على صهوة الروح أن يقدّم تجربة كليّة شمولية، تنكسرُ فيها الحواجز الزمانية والمكانية.. وتبقى التجربة الإنسانيّة في جوهرها.

ولاينسى الشاعرُ في المقطع "3" وهو آخر مقطع في الدخول الثاني- أن يذكرنا أن الذي ينشد لازال المتنبي من خلال تضمين بيتين من شعر الثاني بشكلٍ حر:

"أجيءُ إليكَ، يابوّانُ، بين الليلِ والفجرِ

أجيءُ إليكَ صخراً لاتُحرّكُهُ المدامُ ولا الأغاريدُ

وبيني والأحبّةُ ألف بيدٍ دونها بيدُ

فمدّ يديك، غُصّ بيديك، يابوّان في قهري" 170)

*** o>

ويأتي الدخول الثالث "الحب" شكلاً من أشكال الفرار! إنهُ دخولٌ إلى الحبُ، والحبُّ- كما جاء في الاستهلالِ على لسان إيلوار- "يعينُ على الحياة"، وربمّا هو خلاصة ماتُعلّمُهُ أو تقدّمهُ الحياة لأصحاب الأرواح النبيلة، فهاهو ذا أراغون يقول- ويقتبسُ محمّد عمران قبل الدخولِ إلى نصهِ- "لم تعلّمني الحياةُ إلا شيئاً واحداً: الحب".

وقد كان لأحد النّقاد أن يسجّل أن عمران ومنذُ ديوانه "أغانٍ على جدار جليدي" الصادر في دمشق سنة 1968 يفقدُ "كل إيمانهِ بالثورة والنضال والاشتراكية ليهرب من العالم المجنون) إلى الحب" 171)

لعلَّ الأمر ليس بهذه الصورة تماماً لكن الشاعر يحاولُ أن يجدَ ملاذاً في الحب من أعباء العالم ومآسيه؛ وها هو الأمر يبدو جلياً من خلال هذا الحوار القائم بين الشاعر ومحبوبتهِ؛ حيثُ يرى في عينيها ذلك الخاتم السحري الذي حَدّثتنا عنهُ بعض حكايات ألف ليلة وليلة، خاتماً يخبئُ عملاقاً قادراً أن يحقق لسيّدهِ مايرُيده:

"لَمْ تكن الشمس نشيداً

ولا رُمّانةً كانت، ولازنبقةْ

الشمس كانت مشنقةْ

- حبيبتي عيناكِ خاتمي)

خذني إلى جزيرةِ الضياعِ، نّجني، يامارداً

إلى بلاد الواقِ واقِ..)

حَملتني اصبعٌ، طارتْ عبرتُ الريحَ والسحابْ

جزتُ قشرةَ الحنين. أنزلتني

أرضاً بلا حِباالٍ..." 172)

والحبُّ أيضاً نجاةٌ للمحبوبة:

"الشمس مشنقةْ

- يداك قصرٌ، قلعةٌ عظيمة الأسوار

ياحبيبي

خذني إليكَ. نّجني.

اختطفتُ وجهكِ الطفلي من ذراعِ خوفهِ)

أسكنتهُ يدي،

رفعتُ سقفَ الحبِ فوقه..)" 173)

وسيكررُ الشاعر عبارة "الشمس مشنقة" مراراً ولا أجد تفسيراً لذلك إلا بافتضاح السر..

إن هذه الجملة المكوّنة من كلمتين تختزلُ حديثاً غير قصير.. فشروق الشمس يعني أن ينكشفَ أمرُ العشّاق، وهذا ينطوي على الخطر وربّما الموت في الكثير من المجتمعات، ولذلك كان الليل دائماً صديق المحبيّن.

العبارة السابقة لاتمثّل شعور الشاعر فقط بل شعور المحبوبة.. إنه صوتهما معاً.

ولابُدّ أن القارئ قد لاحظ بشكلٍ عام أن محمّد عمران لايحافظ على مدلولٍ محددٍ أو متقاربٍ لرموزهِ التي يستخدمها؛ فالرمزُ عندهُ قد يستخدمُ لدلالة معيّنة في مقطعٍ ما؛ ثُمّ يستخدمُ لنقيضها في مكان آخر الماء- الشمس- البحر)، وهذا يوقع المتلقي في حالةٍ ليس فقط من التشوّش والبلبلة بل من عدم الرضى وسوء الظن بمقدرةِ الشاعر! ويستعيرُ الشاعرُ في هذه الحواريّة بين العاشقين شيئاً من أجواء نشيد الإنشاد، شاحناً القصيدة ببعدٍ روحي شديد الغور:

"قلبكَ صفصافٌ على ضفافِها يغّني:

أنا خبزُ الحب والملحُ حبيبي

أنا بيتُ الحبِ، والسقف حبيبي

حين ناداني حبيبي

جئتُ من أطراف أيامي القديمةْ

بيدي الجزّةً. كسرتُ خزاناتِ أبي

من أجلها..

وركبت البرق حتى لايراني.

حين ناداني حبيبي

جئتُ من مركبةِ الملكِ إليه)" 174)

ويمعن الطرفان في التعبير عمّا يعنيه الحب لكلٍ منهما، وعمّا يفعلهُ الحبُ بهما..

"حبّكَ ياحبيبتي

سوسنةٌ زرقاءْ

فتحتُها، فكل ورقةٍ جناحْ

مبللٌ بالموتِ والصباحْ

- حُبّك ياحبيبي

رُمّانةٌ زرقاءْ

كسرتُها، فكلُّ حبّةٍ سماءْ" 157)

لكن الشاعر يقع في تكرار بعض الأفكار، وإن كانت صورهُ تكسو الفكرة ثوباً جديداً؛ فها هو ذا الحُبّ على لسان المحبوبة مارداً عفريتاً من جديد، يحملها ويطير بها:

"- حُبّك ياحبيبي

محارة مسكونةٌ بالبحر والرياحِ والأمطارْ

مخبوءةً في ضفّةِ النهارْ

لقيتُها، فتحتُها، وانتصبَ الدُخان

بين الأرض والسماءْ

صارَ عموداً. صار عفريتاً، يداهُ غيمتانِ

زرقاوان، لفنّي بغيمةٍ، فزعتُ.. الخ" 176)

لكن مهمّا حلّق الحُبُّ بالإنسان، وارتفع به أو هبط هل يتمكن من جعله ينسى حقيقته..؟ هل يحجبُ عنهُ ظل الموت والفناء؟. لا. إنه "رهين بلى" قد يتمكّنُ الحبُ في لحظات تألّقه ونشوتهِ أن يفعل ذلك!

وقد يتمكن بما يحملُهُ من بقاءٍ لنسل الإنسانِ واستمراريّة لهُ أن يخفف رهبة الموت، لكنُه لن ينسينا إياه! وهذا مايحدثُ مع الشاعر، هاهي محبوبته تسألهُ بخوف:

"- أسألُ ياحبيبي:

مانحنُ؟ وردتانِ؟ طائرانِ؟ كوكبان؟

شاطئانْ؟

مانحنُ ياحبيبي؟

الوردتان تُشنقان. الطائرانِ يُذبحانِ.

الكوكبان يغرقانْ

مانحنُ ياحبيبي" 177)

ولايكون للشاعر إلا أن يصرفها عن السؤال لأنه لايحبُّ أن يجيب:

"- لاتسألي! السؤال بابٌ مالَهُ آخر

بابٌ إذا انفتحْ

يموتُ في متاههِ الفرحْ" 177)

ولكن المحبوبة تمعنُ في السؤال وتفتحُ أبواباً وأبواب والشاعر يغلقها:

"- الريحُ حبيبي سوداءٌ

والمطرُ يبللُ نومي

- حبّي قبعةٌ

- الريحُ حبيبي سوداءُ

- حُبّي أزرق. حبّي ليلٌ أزرقُ صيفٌ أزرقُ.." 178)



وسنفهمُ أن اصرار المحبوبة على السؤال؛ وهذا الخوف المسيطر.. ليس بسبب الموت كمصيرٍ أخيرٍ للأحياء ولكن بسبب شعورهما بأنهما مُلاحقانِ؛ ومصيرهما القتلُ الشنقُ أوالذبحُ أو الإغراق!)

وسيكثرُ الشاعر من تكرار مفردة "أزرق" وسيستخدمُها للدلالة على الخلود والاستمرار والنقاء وما إلى ذلك؛ خاصةً في هذا الفصل ومايليه؛ وتحديداً في وصف الحب:

"حبّكِ مدينةً زرقاء-ص60. حبّك رمّانة زرقاء-ص59.

فرحٌ أزرق- مناديل الحب الزرقاء-ص67.. إلخ" وتتكرّر هذه المفردة(14) مرّة في المقطعين الأول والثاني من "الحُبّ"؛ وكأن الشاعر يرفعها تعويذةً في وجهِ الموتِ والفناء.

ولن يجد الشاعرُ مناصاً من الاعتراف لمحبوبتهِ بأن الحياة ستستمر -رغم الموت الفردي- ولن يكون لهذه الغولِ أن تهزم الحياة أبداً:

"يُعرّفُ العَرّافُ أن الموت ليس كل شيء

يقولُ: من تُرابنا

تنبت في دفاترِ الأطفالْ

حكايةٌ. شريطةٌ زرقاءُ في جدائل البناتْ

يقولُ إن دورةَ الحياةْ

لاتبتدي باثنينْ

لاتنتهي باثنينْ" 179)

ويختتمُ هذا المقطع مُصراً على الفكرة نفسها بشكل آخر:

"يُعرّفُ العرافُ إننا نحيا بمن يجيءْ

يقول: إن شجر الحياة

مباركٌ. وإننا ثمر

وإن دورة الفصول

تجددُ الثمر" 180)

بعد ذلك يأتي الفصلان الرابع والخامس: "طيبة" و "البحر"؛ وسنلاحظُ أن ذلك الخيط الذي يصلُ الشاعر بالمتنبي- والذي وهى منذ بداية الدخول الثالث" الحب" قد انقطع تماماً؛ لكن هل أراد عمران أن يستحضر المتنبي أو يستلهمه كشخصيّة ما؟

أم أنهُ أراد من كل تجربة المتنبي شعب بوّان) وماتبعَ ذلك من توظيف لهذا المكان بالصورة التي رأيناها؟؛ أنا أُرجّحُ الاحتمال الثاني؛ وإلا كان علينا أن تقول إن عمران يوظف شخصيّة تُراثية "لاتنهضُ ملامحها بحملِ أبعادِ رؤيتهِ المعاصرة، ويتعسّف في اسقاط أبعاد رؤيته الخاصة على ملامح هذه الشخصيّة التي لاتستطيع التراسل مع مايحاول الشاعر اسقاطه عليها من أبعاد، ونتيجةً لذلك تبدو الملامح المعاصرة مقحمة على الشخصية التراثية" 181) خاصةً في الفصلين التاليين.

الحقيقة أن دور المتنبي وبوّان ينتهي مع انتهاء الدخول الثاني المجيء من الماء)؛ وسيسترفد عمران -عن وعي أو غير وعي- بشخصيّات أخرى؛ ففي الدخول الرابع طيبة)؛ وهو مكوّن من مقطعين طويلين ؛ يدركُ قارئُ الشعر المتابع أن عمران يستعيرُ تجربة الشاعر الإسباني لوركا في قصيدتهِ "الزوجة الخائنة" 182)، ليعبّر عن فقدان النقاءِ والطهارة وتفشي الخديعة والرياء والمرض في المدينة طيبة)؛ فما عاد الحبُ يعينُ على الحياة، فالحبُ نفسه غادرَ هذا الوطن طيبة) الذي لن تراه إلا الدموع في عيونه:

"آهِ من يُرجعها عذراء، ايزوريس مقتولٌ،

دعوني أرحلُ الليلةَ، ماعاد يعين الحبُ.

هاتوا وطناً لم تهجر الأمطار عينيه. اربطوني

في ذراع المركب المقلع، في شعر الرياحْ"183)

ورغم كثرة الرموز طيبة، هيلين، روما، شمشون، إيريا، طروادة، ايزوريس.. الخ) وانغراسها في الماضي السحيق؛ إلا أن هذا الصوت المنْشِد القريب جداً من صوت لوركارُبّما بسبب استعارة عُمران لأجواء القصيدة، وبعض عباراتها)؛ يجعلنا نرى في طيبة التي يقدّمها الشاعر عمران كنموذج ورمزٍ لفقدان البكارة وتفشّي الطاعون- مدريد الحرب الأهليّة، وربّما أية مدينة عربيّة مُعاصرة.

ويأتي المقطع الثاني من هذا الفصل ينضحُ تفاؤلاً وتصميماً رغم كل ماقدّمه المقطع الأول من رؤية مغرقة في سوداويتها:

"أقولُ: قناطرُ الإنسان لم تسقطْ

أقولُ: البحرُ ليس يمجُّ قاراً. أرضنا ليست

خراباً....

تعرّتْ طيبةُ اغتسلتْ

وجوكستُ التي انتحرت

تعودُ اليوم عذراءُ

استعادَ الضوء أوديبُ" 184)

وفي الدخول الأخير يجيءُ صوت محمّد عمران صافياً متفائلاً بقدرتهِ وقدرة أرضهِ:

"جسدي ينهضُ من نوم الحجرْ

اخلعي ثوبكِ ياأرضَ كآباتي، اتبعي وقعَ

خطا قلبي على درب الرياح العاصفهْ.

اتبعيني. اقتلعي أشجارك البيضاء، أنهاركِ

وردَ الحزن، زهر الصمتِ، أقدام الجنون

الخائفهْ" 185)

إن نظرة شاملة إلى نص عمران السابق تؤكّد لنا أن الشاعر استطاع أن يستفيد بشكلٍ كبيرٍ من مخزون الذاكرة لديه هذا المخزون المكّون من نصوص قديمة ومعاصرة وأساطير وتاريخ وتراث شعري؛ مما يؤكد أن النص المعاصر بصورةٍ ماليس إلا تشكيلاً عضوياً حداثياً لمجموعة من النصوص القديمة التي يُحسنُ الشاعرُ توظيفها بطريقةٍ معاصرة. 186)

ب - أدونيس والمتنبي:
يقعُ المتنبي موقعاً عظيماً في نفسِ أدونيس، ولا تكاد تقرأُ عملاً نقدياً أو إبداعياً لهذا الشاعر، إلا وترى أو تحس حضوراً ما: ساطعاً أو خفيّاً لأبي الطيب، كيفَ لا و"شعرهُ كتابٌ في عظمةِ الشخصِ الإنسانيّة"187) وهو دائماً وعلى المستوى الإبداعي "مسكونٌ بهاجسٍ وحيد: ببدايةٍ أعمق أصلاً، وبكارة أكثر عذرية"188)، إنهُ شاعِر الحركة والحياة، "يعرفُ أنّ المكان المباشر سُرعان مايصيرُ آسناً، فالوقوفُ عندهُ دلالة العجز"189).

وعلى المستوى الشخصي... أليسَ هناك ما يُغري شاعراً كأدونيس بأبي الطيب؟ بلى؛ إنّه التشابه الكبير -ومن وجهة نظر أدونيس- بينَهُ وبين المتنبي؛ وقد رأت أسيمة درويش أن هناك تماثُلاً كبيراً بين سيرتي حياتهما، تماثلاً يبلغُ حد التطابق، على مستوى الفروع والأصول190)، وقد وثّقت ذلك بشواهد من "الكتاب" نفسه، فلكليهما أبٌ فقيرٌ من عامة الناسِ، وقد بدأ كل منهما يكتبُ الشعر في سنوات الطفولة المبكّرة، ولكلٍ منهما لقبٌ غلبَ عليهِ وعُرِفَ بهِ، بالإضافة لغيرها من الأسباب، كل هذه الأمور وغيرها جعلت أدونيس في ديوانِهِ الجديد الصادر عن دار الساقي وعنوانُهُ "الكتاب"، يتخذُ من هذهِ الشخصيّة وسيلةً، وفرساً لطرحِ رؤياهِ في التاريخ العربي والإسلامي؛ وبصورةٍ ما في الذات العربيّة، من خلالِ قراءة شعريّة تاريخيّة، يستعيدُ فيها هذا التاريخ -أو الكثير منه-على ضوءِ الحاضر المعاش.

يقعُ "الكتاب" في ثلاثمئة وثمانين صفحة من القطع الكبير، وهو عملٌ هامٌ وضخم، ولا أزعمُ أنني في هذه الفقرة قادرٌ على الإحاطة بهِ، ولهذا فسأتناوله -كما يشير عنوان الفقرة ذاتها- من زاويةِ تعامِلِهِ مع شخصيّة المتنبي، ولا مفر في البداية من وصف هذا الكتاب لتسهيل -تناوله.

يحملُ العملُ بالإضافة لعنوانِهِ الرئيس "الكتاب" عنواناً فرعيّاً "أمس المكان الآن"، بالإضافة لرقم I) أسفل العنوان الفرعي، وهذا يعني أننا أمام الجزء الأول من "الكتاب"، وهو جزءٌ يتناول ماضي هذا المكان.... وحين نقرؤه؛ نجدهُ يتناول فترة طويلة من تاريخنا، تبدأ من صدر الإسلام وتنتهي بالعصر العبّاسي، وهذا رُبّما يعني أن الشاعر سيتابع مشروعه ليصل إلى الحاضر، وقد يستشرف المستقبل[1])، وعليه فسنفهم سبب تسمية هذا العمل "بالكتاب"، بما في هذهِ التسميه من رغبة في إسباغ الأهميّة والرفعة، سيّما وأن الشاعِر يحاولُ فيهِ أن يقدّم مشروعاً فنيّاً وفكريّاً مبنياً على التاريخ.

يتألفُ الكتابُ من عشرة فصول، تَدلُّ الأرقامُ الرومانيّة I-X) على ترتيبها، ويستهلُ الشاعِرُ ثمانية منها بشطرٍ أو بيتٍ من شعر المتنبي، وتفصلُ الفصولَ السبعة الأولى بعضها عن بعض ستةُ هوامش، وثلاثة فواصل استباق.

للفصول السبعة الأولى بنية واحدة وجديدة على صعيد الشكل؛ إن الصفحة في هذهِ الفصول مُقسَّمة بصورة ممتعه إلى أربع مساحات على النحو التالي: يتوسّط الصفحة مستطيل ضلعُهُ الطويل يمتدُ من أعلى الصفحة إلى أسفلها، ويحملُ المتن الشعري الرئيس، ولكن خطاً أفقيّاً في أسفل هذا المستطيل يتجتزئُ منهُ حيّزاً صغيراً سيتَمّيزُ مِن الجزء الأول بنجمٍ* في بدايته؛ يشيرُ إلى تغيّرُ الصوت الشعري واختلاف المتحدّث.

القسم الأيمن من الصفحة وأحياناً السفلي أيضاً).

مخصصٌ لصوت الراوي، بينما القسم الأيسر فهو دائماً لتوثيق مرجعيّة الروايةولعلَّ صورة إحدى صفحات الكتاب المبيّنة أدناه توّضح ذلك).

وعليهَ فسنرى أن أدونيس يقدّمُ لنا في كل صفحة عدّة أصوات، وسأبيّن ذلك بالتفصيل:

- إن الجزء الأعلى من المتن الشعري يحملُ غالباً صوت المتنبي الذي يسردُ على مسامعنا سيرة حياتِهِ بما حملته من مُعاناةٍ ومرارةٍ وإبداع، مُنطلقاً من لحظةِ الولادةِ:

"أخبرتْ جَدّتي: والمحبّونَ والأصدقاء يثنّونَ).

شيءٌ هوى

ماسحاً بيديهِ

تجاعيدَ أمّي عندما كنتُ أخرجُ

من حوضها

بعضهم قالَ: هذا ملاكٌ

بعضهم قال: شيطانُهُ تراءى

قبلَ ميعادِهِ

بعضهم آثرَ الصمتَ خوفاً وتقوى

كانت الكوفةُ الأليفةُ تدخُلُ في غربةٍ"191).

ويتابعُ صوت المتنبي الصافي:

"أمي همدانيّةْ

خرجت من أحشاء الكوفة

وأبي جعفيٌّ ورثَ الفقرَ عن الإيمان

سَمّاني أحمدَ زهواً وتفاؤَلَ

في تلقيبي بـ أبي الطيّب)192).

لكنّ هذا الصوت يتحوّلُ فجأةً إلى صوت أدونيس:

"بيتُنا صبوةٌ

تتقلبُ في جَمرها

والنجومُ تجرُّ خلاخيلها حَولَهُ

مَرّةً، هبطت فيهِ جنّيةٌ غسلتني بأهدابها

واختفتْ

كم تحدّثتُ عنها إلى بيتنا وتحدّثتُ عنها

لم يكن بيتُنا يعرفُ النحوَ والصرفَ لكنْ

كل أحجاره بيانْ

مَرّةً؛

قال لي:

خطواتُكَ حُبلى بما لا يطيقُ المكانْ"193).

وقد نجدُ في مواضع عدة الصوتين معاً، ونستطيعُ أن نميّزَ كلاً منهما:

"النباتاتُ هنا في الحقول وحولَ البيوتِ يجدِدُ

أوراقَهُ: بعضُها شهواتٌ

بعضُها شُرفاتٌ

هَلْ تقولُ العريشةُ، تلكَ العريشةُ، من أينَ جاءتْ

إلى أينَ تمضي

تحتها مثلَ طفلينِ كُنّا نتغطّى بأنفاسِنا

قلتُ: لا دفترٌ، لا كتابٌ....

لم يقلْ أيَّ شيءٍ

نهرٌ من عذابٍ جرى في يديهِ

نهرٌ من حنانٍ جرى بيننا -والتقى ساعدانا

والتقى عُنقانا"194).

لكن الصوت الأكثر حضوراً في المتن الشعري الرئيس هو صوتٌ يتماهى فيه الشاعران بطريقةٍ متقنة، فلا تستطيع أن تفصل بينهما:

"زمنٌ للسقوط، وشعري هَدّامُهُ الرجيم

المدائنُ ممهورةٌ

بخواتِم أنقاضها

والدروبُ إلى كل أرضٍ

وهنٌ، أو دمٌ، أوغضبْ

وأنا لا أقصُّ الشقاءَ، وأنفرُ من وصفِهِ

زمنٌ للسقوط، وشعري

كوكبٌ يُرتقبْ

دعوةٌ للهبوطِ

إلى آخرِ الجحيمْ"195).

وفي موضعٍ آخر نقرأ:

"كيفَ لي أن أردَّ النبوَّةَ -تأتي في

قميصٍ من الضوءِ، تُلقي وجهها في

يديَّ وتنفُثُ أسرارها في عروقي

وأنا من تنبأ شِعراً

انظروا: إنّها الآنَ تفرشُ لي ساعديها

وتُسكنِني دارها

كيفَ لا أتبطّنُ أغوارهَا؟

وأنا من تنبأ شِعراً

لا يشاءُ الذي لا أشاءْ"196).

ونلاحظُ في المقطع السابق استناد أدونيس إلى ما نُسِبَ للمتنبي من أنّه ادّعى النبوّة، لكنهُ يرفَعُ عنه هذهِ التهمُه، ويقاسمُهُ، إياها بمعنى آخر، هو معنى رؤيا الشعراء المبدعة المتفرّدة، التي تُصيبُ مالا يصيبُهُ الآخرون، وتُحسُّ نبضَ المستقبل؛ والصوتُ هنا مشترك؛ إن أدونيس يرتدي قناع المتنبي -الرائي، وأدونيس يتقنُ ذلك، فقد قدّمتهُ بعضُ قصائدِهِ بصورةِ نبيٍّ وعَرّافٍ وماشابه ذلك:

"إنني نبيٌّ وشكّاك

أعجنُ خميرة السقوط، أترُكُ الماضي في سقوطِهِ، وأختارُ نفسي" 197).

وينجحُ هذا التماهي بين الشخصيتين أدونيس والمتنبي)؛ لعدة أسباب أهمّها ذلك الإحساسُ -من جانب أدونيس- بالتشابه بينَهُ وبين المتنبي، وتشابه الحقبتين التاريخيتين والأهم من هذا وذاك هو "توافق الرمز خارج الشاعر، مع الرمز داخله"198) بينمَا ظلَّ صوتُ المتنبي صافياً في الحالات التي يتحدّث فيها عن أشياء لن تكونَ بأي شكلٍ من الأشكال مشتركة مع أدونيس، إلا أن الثاني وفي كل الحالات سيقول المتنبي بلغتِهِ هو وأسلوبهِ متكئاً على فهمِهِ الذاتي لهُ ولشعرهِ.

- أما الجزء الأسفَل من المتن الشعري، الذي يميّزهُ أدونيس مِنْ سابِقِهِ بنجم* فهو جزءٌ تتعدّد فيه الأصوات، وهو غالباً يأتي تعليقاً على المتن الأعلى، أو نتيجةً أو تعميماً لهُ ويأخذُ شكل الحكمة أو المُسلّمة أو القانون:

"* ابتكر كلماتٍ

للمكانِ تصيرُ زماناً"199)"

"* لا تكتبُ أرضَ الحُريّة

إلا لغة وحشيّة"200).

"* ا تنظر خلفك: ليسَ وراءَكَ إلا

أنتَ، وإلا ظِلٌّ"201).

"* حدثُ أن تتجلَّى نارٌ في صورةِ ماء"202).

وقد يأتي على صيغةِ سؤالٍ من تلكَ الأسئلة الكبيرة المحيّرة:

"* هل يتلألأُ نورٌ

في مشكاةِ دماءْ"203).

"* ُلبُ هذا المكان ائتكالٌ

أتراهُ الزمانُ فراشٌ، ومهدٌ لَهُ"204).

والصوت الأكثرُ حضوراً في هذا الحيّز هو صوت أدونيس أو بعض الشخصيّات التي يروق لَهُ أنْ يتقمّصها، لكنكَ قد تقع على صوت المتنبي هنا وهناك كما في الصفحتين 229و230)، وفي كل الأحوال يسعى الشاعِرُ في هذا الحيّز إلى التقاط ماهو إنساني وشامل ليضعهُ بين يدي القارئ؛ وقد مَيّزَ أدونيس هذا الجزء -وسأعتبر ذلك ليسَ من قبيل التزيين أو المصادفَه-بأن جعلَ حجم الكلمات -طباعةً- أكبر من كلمات الجزء الأعلى من المتن، التي هي بدورها أكبر حجماً وأشد وضوحاً بالتالي من كلمات الرواة، أو من الإشارات التاريخيّة التي تثبتُ مرجعيّة كلام الرواة، وهذا يعني اختلاف أهميّة أقسام الصفحة وما تحتويه.

- الجزءُ الأيمنُ من الصفحة مخصصٌ للراوي، وهو كما يتضحُ ليسَ واحداً؛ بل رواةٌ كثيرون.

في هذا الجزء يعمل هؤلاء على إضاءة المكان، الذي سيولدُ فيه المتنبي، وسيتُابعونَهُ من سنة(11) هجريّة إلى نهاية العصر العبّاسي ونشوء الدويلات يبدأ أحدُ الرواة الحديث قائلاً:

"لا نعرفُ من نحنُ

الآنَ، ومن سنكونُ

إذا لم نعرف من كنّا، ولذا

سأقصّ عليكم

من كنّا

وأقدّمُ عذري للقُراءْ

إن كان حديثي سَرْدِيّاً، أو كانَ

بسيطاً لا يتودَدُ للفصحاء"205).

ويبدأُ هؤلاء الرواة بالغوص بنا إلى أعماق الجحيم، كما ستقدّم لنا الرؤيا الأدونيسيّة البلادَ التي نرثها اليوم:

"وثنى الراوية

مُغرياً سامعيهِ وقُرّاءِهِ،

للهبوطِ إلى آخرِ الجحيمِ التي تتأصّل

في أرضهم وتواريخها

قالَ: أروي لكم

بعضَ ما خبرَ المتنبي وماهالَهُ وما

صاغَهُ

بعذاباتِهِ وبألفاظِها وبسحرِ البيانِ الذي

يتبجّسُ في نكهةِ الرمزِ، أو لمحةِ الإشارةْ

في نسيج العبارة

سأخيّل حالي لابسةً حَالَهُ وأكررُ تلكَ

الجحيم بلفظي -بسيطاً، مستضيئاً بما

قالَهُ، أتقفّى، الضياءَ إلى ذرواتِ الكتابْ

بادئاً بالتُرابْ"206).

وسيفلِحُ الرواةُ بتقديمَ رؤيا مروّعة، وفي منتهى الدمويّة والوحشيّة لحقبةٍ طويلةٍ من تاريخنا؛ وسيكررُ هؤلاء الرواة مشهداً يكادُ يكون واحداً، على امتداد مايقارب أربعمئة صفحة، مع اختلافِ أسماءِ القتلى والمصلوبين والمحروقين:

"وثنى الراوية:

أسروا مالكاً، ضربوا عنقَهُ

وضعوا رأسَهُ تحتَ قدرٍ

نضجتْ قَبَلَهُ، قتلوا أهْلَهُ واحداً واحداً

ما عداها -زوجةً كان مالك يزهو بها.

وتزوّجها خالدٌ"207).

والطريف أن كل مايقولُهُ هذا الراوي أو ذاك يُقدَّمُ وكأنّهُ يأتي من ذاكرةِ المتنبي:

"قالَ الراوي

مغموساً في ذاكرةِ المتنبي...."208).

وسنجدُ أحد الرواةِ؛ لكثرةِ ما قصّ علينا من أسماء القتلى وطرقُ القتلِ؛ يصابُ بالبلبلةِ والهوس في الثلث الأخير من الكتاب:

"وثنى الراوية

حذراً حائراً:

رُبّما خطأٌ أن نرى السيفَ سيفاً

رُبّما كانَ وجهُ الملاكِ -مؤذناً بالهلاكْ"209).

وهل ينجو الكتّابُ والشعراءُ من هذا المصير؟ إنهم الوقود الأول لَهُ، وموتُهم دائماً أشدُ هولاً؛ وسيتذرّع ممثلو السلطة دوماً بأوهى الحجُجِ للنيل من هؤلاء الخطرين التغزلّ والتشبب بالنساء، شرب الخمر، رفض كتابة المديح بالأمراء والملوك، الكفر والزندقة، وغيرها من الحجج)، وسيقدّمُ الرواةُ عشرات الحوادث، واختارُ منها قصة ابن المقفع مع سفيان بن مُعاوية عامل المنصور على البصرة سنة 145هـ).

"قال الراوي:

أحمى سفيان تنوراً

كي يطعمَ لحمَ الكاتبْ

للجمرِ اللاهبْ

قطّعهُ إرباً إرباً ورماهُ فيهِ"210).

أمام كل هذهِ الفواجعُ يقفُ الراوي نفسه خائفاً حائراً، ومتسائلاً، عن ماهيّة مستقبل هذهِ البلادِ؛ فإذا كان الحاضُرُ كفناً:

"هو ذا الحاضرُ مرئياً بنار الزمن:

كفنٌ مندرجٌ في كفنْ"211).

والماضي قتلٌ، فماذا سيكون المستقبل؟!:

الفكرةُ قتلٌ أومقتل: تلكم مائدةُ الماضي

أتراها مائدةٌ المستقبل؟"212).

وسبب كل هذا -كما حددهُ الراوي منذ البداية- هو العرش؛ إنها حربُ على كُرسي الخلافة:

"وثنى الراوي

عرشٌ يتنقّلُ، والقتلى

عرباتُ حيناً

وجسورٌ حيناً"213).

وكلّما هوت رأسٌ جديدة، كلّما ارتفَعَ العرشُ وترسّخ:

"وثنى الراوية يتساءَل في حيرةٍ:

مالسلطانِ هذا الزمانِ يكرّرُ في

نشوةٍ: كلما قيل رأسٌ هوى

يكبُرُ العرشُ تحتي، وأعلو؟"214).

ويسندُ هذهِ الرؤيا، ويرفدها صوت المتنبي في المتن الرئيس:

"لا أرى غير رأسٍ، يُرجّلُ في عارِهِ

غير رأسٍ تدحرج، عن كتفيهِ

الرؤوس كراتٌ

في مدار العروشِ وساحاتِها

اللاعبونَ

تتمَسْرَحُ أهواؤهم فوقَ نطعٍ"215).

ويساندها صوتُ أدونيس في الجزء الأسفلِ من المتن:

"* ن يقولُ:الحياةُ ثوانٍ وتعبُرُ؟

كلاّ.الحياةُ دمٌ وأظافِرُ

وانظر لأنيابها"216).

وبالتالي فكل الأصوات تتفقُ، وعلى امتداد الكتابِ في تقديمِ هذهِ الصورةِ الدمويّة لحقبةِ طويلةٍ من تاريخنا.

- كما سبق وقلت تفصلُ بين الفصول السبعة الأولى من الكتاب المخطوطة التي كتبها المتنبي وحققها أدونيس) ستة هوامش، وثلاثة فواصل استباق، أما الهوامش فهي عبارة عن بطاقات، حملت كل بطاقة، اسم شاعِر من الشعراء العرب، وقدّمتهُ للقارئ بصوتِهِ الشخصي، وأحياناً بصوت آخر، يروقُ لي أن أعتبرهُ صوت المتنبي؛ بمعنى أن المتنبي كان قد قرأ هؤلاء الشعراء، وقدّمهم من وجهةِ نظرهِ الشخصيّة؛ وإلا فما سبب وجودهم في مخطوطة كتبها المتنبي؟!

لقد قدّمتْ لنا هذهِ الهوامش ثمانية وخمسين شاعِراً، عاشوا في أزمنةِ مختلفة من الجاهليّة حتى العصر العباسي.

- أما فواصل الاستباق فهي فصول صغيرة، يُبدي فيها أدونيس
الشخص الذي يحقق المخطوطة) رأيه ببعضِ ما قرأه؛ وما يتوقعه؛ ويأتي هذا الرأي غير بعيدٍ عمَّا جاءَ في المخطوطة وبنثره الخاص.

- الفصل الثامن يحملُ عنوان: الأوراقأوراقُ عُثَرَ عليها في أوقات متباعدة ألحقتْ بالمخطوطة)؛ وهي مقاطع مُرقَّمة بالأرقام الرومانيّة، ويتعامل أدونيس فيها مع المتنبي بطريقةِ القناع، وهي من أنجح فصول الكتاب؛ وإن كنّا في مقاطع كثيرة نسمَعُ كلام المتنبي القديم بصيغةِ جديدة:

"أهو شرٌ، إذا قلتُ: هذي المدائنُ مُنْحلَةٌ

تتهلهلُ مأسورةً

في حصونٍ -صحارى

من دمٍ واقتتالْ؟

أهو شرٌ، إذا قلتُ:

لا تكترث، لا تُبالِ؟"217).

ففي هذا النص، اتكاءٌ موفّق على قول المتنبي:

"لا تلقَ دهركَ إلا غيرَ مكترثٍ..."، وقد يقذف أدونيس قناع المتنبي جانباً ويُنشِد بصوتِ راوٍ بعيد:

"قلقٌ راسبٌ -عائِمُ

هو ذا طقسُهُ الدائم"218).

وهو هنا يتكئُ بشكل أقل نجاحاً على قول المتنبي:

"على قلقٍ كأنّ الريحَ تحتي.....".

- الفصل التاسِع يحملُ عنوان "الفوات فيما سبقَ من صفحات"، وهو فصلُ جديدٌ لأصواتِ الرواة؛ حيثُ يلقونَ على أسماعِنا، مافاتهم ذكرَهُ، في الفصول الأولى من أحداثِ القتلِ؛ فها هو ذا أحدُ الرواةِ يُحدّثنا عن حوارٍ دارَ بين الحجّاج وهمدان مؤذّن الإمام علي:

"راوٍ آخر يروي:

- إن كنتَ بريئاً،

فلماذا لا تبرأ منه؟

- لا أتبرأُ ممّن أدّبني، وتتلمذتُ عليهِ

- قم يا حَرَسي

واقطع رأسهْ"219).

- الفصل العاشر بعنوان "توقيعات" ويبدأ ببيت المتنبي:


إذا ما تأملتَ الزمانَ وصرْفَهُ



تيقنتُ أن الموتِ نوعٌ من القتلِ






وهو فصلُ قصير، ولكنهُ يكاد يضعُ بين أيدينا أجوبةً لكثيرٍ من الأسئلة التي ثارت في الأذهان في الفصول السابقة، لنقرأ مثلاً من مقطع بعنوان "توقيع منفرد":

"ماذا تفعل يا هذا الشاعرْ

في هذا البلد البائرْ؟

- أشهدُ فيهِ

تكوين بلادٍ أخرى.

- ماذا تفعل يا هذا الراوي

في هذا التاريخ الميت؟

- أشهدُ فيهِ

ميلاداً آخر

لتواريخٍ أخرى"220).

وتُسَرُّ حينَ تقرأُ في القصيدةِ التالية ما تقولُهُ الشمسُ بما تعنيهِ الشمس من مدلولاتٍ -للراوية:

"هي ذي الشمسُ تهمسُ للراويهْ

وتكررُ مزهوّةً:

حكمةُ الضوءِ أبقى وأعمقُ من ليلِ صحرائكِ الداميهْ"221).

أما لماذا السرور؟ فلأنَ هذهِ العبارة، هي إحدى النقاط القليلة جداً، التي تبعثُ في نفسِ القارئِ شيئاً من الأمل، بالإضافة لثلاثة مواقف مضيئة وفي منتهى الإنسانية، رواها الراوي عن علي بن أبي طالبص56) كرّم الله وجهه، والحسن بن علي، وعمر بن عبد العزيز ص194-197).

وعليهِ وانطلاقاً مما سبقَ أضَعُ الملاحظاتِ المختصرة التالية على العمل:

1- لقد تضافرت كل الأصوات في الكتاب الرواة- المتنبي-أدونيس- وغيرهم)، وقدّمت على امتداد ثلاثمئة وثمانين صفحة، رؤيا كابوسيّة سوداء لتاريخنا من الجاهلية حتى نهاية العصر العبّاسي، مُركّزةً الضوء على مقتل علي بن أبي طالب وسلالته وصحبه، وإذا كان أدونيس يرمي من خلالِ ذلك إلى الكشفِ عن التضليل التاريخي الذي مارستهُ، وتمارسُهُ المؤسسات التعليميّة والتربويّة في العالم العربي برمّتهِ"222). -كما يقول أحد دارسيهِ- فإن أدونيس يقترفُ الخطأ نفسه، ويقدّمُ جانباً واحداً من هذا التاريخ، بل يراهُ من زاوية ضيقة جداً.

إنك لتستغرب أن أصوات الرواة التي ترسم خلفية المشهد، وتضيءُ شخصيّةُ المتنبي، لا تقعُ على شيءٍ مضيءٍ في محيطهِ كلّه، ساهَمَ في تكوينِهِ، علماً أن القرن الرابع الهجري، الذي ولَدَ فيه المتنبي 303 هـ-915م). كانَ يشكّل ذروة الحضارة العربيّة من زاويةِ الازدهار الفكري والعلمي والتطوّر الثقافي العام، وإن كان الوضع السياسي خلاف ذلك.

2- جاءَ كلامُ الرواة لا يحمل من الشعر إلا الوزن- وحين نتذكّر أن أدونيس ميّزَ دائماً بين الشعر، والنظم؛ فسنتساءَل: لماذا يُقدِمُ على ذلك؟ أما كان من الأفضل أن يتحدّث هؤلاء نثراً؟‍‍! إن مفرداتهم كلها نكادُ نُحصيها ببضع عشرات أهمّها: قَتَلَ، حَرَقَ، ذبحَ، حَزّ، صَلَب، بَترَ، رمح، سيف، رأس، رجل، طفل، امرأة)، وهذا مثالٌ على ذلك:

"قالَ الراوي:

قالوا: سَنَّ معاويةٌ

قتلَ الطفل وقتلَ المرأةِ، أوصى

بُسْراً:

اقتلْ أصحابَ عليٍ، شيباً، شُبّاناً،

أطفالاً ونساءً.

وثنى الراوي:

طفلا ابن العباسِ

استترا في بيتٍ

ذُبحاً بيدي بُسْرٍ-

كانتْ قد أخفتْ هذين

الطفلينِ امرأةٌ

قتلوا مئةً من أهلِ المرأةِ

كي ينتقموا منها"223).

3- تأتي هوامشُ الفصول الخمسة الأولى كيفما اتفق، دون ناظمٍ ينظمها، فقد تجد هامشاً لأبي محجن يتلو هامشاً لامرئ القيس، والأهم من ذلك أن الكثير من هذهِ الهوامش لا تضيفُ شيئاً إلى الحكاية التاريخيّة لصاحبها، كأنّ يقول في هامش بعنوان "العَرْجيّ":

"قيّدوهُ، وأُلقيَ في السجنِ تسعَ سنينٍ، ماتَ فيهِ. رووا أنّه كان شخصاً كريماً وفارساً

بين أفضل من أنجبتهم قُريشٌ

قالَ في سجنهِ:

أضاعوني، وأي فتىً أضاعوا).

قبرُهُ- مطرٌ نازلٌ فوقَهُ

يتدفّقُ من سُرّةِ الغيومِ..."224).

وقد تجد أن بإمكانك إبدال عناوين بعض الهوامش بغيرها، دونَ أن تُلحِقَ أذىً بالنص، كالهامش الذي عنوانُهُ "المهلهل التغلبي"225)؛ فقد أضُعُ لَهُ -من التاريخِ العربي- العناوين التالية:"زيد الخيل"، "عمر بن معد يكرب"، "ذو الإصبع العدواني"، دونَ أن يُسيءَ ذلك إليه.

وقد يُجيدُ الشاعِر في عددٍ غير قليل من هوامِشِهِ مثل: المتلمّس وعوف بن الأحوص وعمر بن أبي ربيعة وغيرها، لكن الأهم من كل ذلك؛ هو أن هذهِ الهوامشِ الكثيرة زائدة، وعلاقتها واهيه بفصول الكتاب الأساسيّة، حتى ولو افترضنا أن المتنبي هو الذي يقرأ هؤلاء الشعراء بطريقتهِ، ذلك أن هذهِ القراءة لم تستطع إلا فيما ندر أن تقدّم شيئاً جديداً جمالياً أو فكريّاً؛ وكأن الشاعر لم يطمح هنا إلا للعبِ دور المؤرّخ الأدبي.

4- يعود أدونيس في هذا العمل إلى الكثير من الشخصيات، التُراثية التي كان قد استحضرها سابقاً، واستلهمها في أعمالهِ، مثل:علي بن أبي طالب، والحسن والحسين وزيد بن علي، ومعاوية، وعمر بن الخطاب، ووضاح اليمن، والحجّاج وغيرهم226). علماً أن معظم هذهِ الأسماء قد استُهلِكَ من قبل أدونيس وغيره من الشعراء، وصار على الشاعِر أن يتوخّى الحذر في التعامل معها؛ فإن هو لم يستطع أن يخرج بها إلى أجواء جديدة، ولم يستطع أن يراها بعين مختلفة، وشديدة الحساسيّة؛ فأولى بهِ أن يبتعدِ عنها.

وإن استطاع أدونيس أن يجيد في تعاملِهِ مع وضّاح اليمن، في قصيدتِهِ القديمة "مرآة لوضاح اليمن"221). وأن يضيفَ شيئاً جديداً، في هامشِهِ الذي ضمّه الكتاب تحت عنوان "وضّاح اليمن"228).فإنّه أخفق تماماً مع الحجّاج بن يوسف؛ إنه في كل ماقاله عن هذهِ الشخصيّة في الكتاب229). لا يضيف شيئاً إلى ماجاء في قصيدتهِ القديمة

"مرآة الحجّاج":

"واستطردَ الراوي:

.... وصعدَ المنبرَ في يديهِ

قوسٌ، وفوقَ وجههِ لثامْ

وقال، بالسهامِ، والقناعِ، لا بالصوتِ والكلامْ:

أنا ابن جلا، وطلاّعُ الثنايا....).

... أنا هو السؤال والنبراسْ

أنا هو الفَرّاسْ-

ويلٌ لمن يكون من فرائسي

وزلزلَ المكانُ

واهتزّتِ البلادُ مثلَ شجرهْ

وسقطَ المسجدُ مِثلَ ثمرة

وسقطَ الزمانُ"230).

5- استهلَّ أدونيس معظمَ فصول الكتاب بشيءٍ من شعر المتنبي، لكن هذا الاستهلال لم يكن موفّقاً دائماً، وكان قريباً من التزيين أحياناً لنرى المثالين التاليين:

يستهلِ الشاعِر الفصل الثالث بقول المتنبي: "إنَ النفيس غريبٌ حيثما كانا"، والفصل الرابع بقولِهِ: "كأني عجيبٌ في عيون العجائب"، وحينَ تقرأ هذين الفصلين ستكتشف أن بإمكانكَ أن تستبدلَ الشطر الأول بالثاني، أوالعكس ولن يغيّر هذا الأمر شيئاً، ويمكن أن تُجري العملية نفسها لكل من الفصل الخامس الذي يستهلّهُ أدونيس بقول المتنبي:


شيمُ الليالي أن تشككَ ناقتي



صدري بها أفضى أم البيداءُ








والفصل السادس الذي يستهلّهُ بقول أبي الطيب:"وجبتُ هجيراً يتركُ الماءَ صادياً".

6- وأخيراً؛ لقد ناءَ الشعِرُ بحمل التاريخِ في عديدٍ من مواضع الكتاب، خاصةً في صفحاتِ الرواة؛ الذين قدّموا لنا مايشبه المعجم بأسماء القتلى وأساليب القتل في التاريخ العربي الإسلامي، بينما استطاع صوت المتنبي وصوت أدونيس أن ينجوا من ذلك في معظم المواضع.

لابُدَّ لي وأنا أُنهي هذه الدراسة أن أُشيرَ إلى أن القصائد، التي تعاملت بشكلٍ أو بآخر مع شخصيّة أبي الطيّب، أو سيرتهِ أو شعرهِ، كثيرةٌ جداً -كما اسلفتُ في البداية- وليس بالإمكان دراستها كلّها، والحق أن هذه الدراسة ما طمحتْ إلى ذلك؛ بقدر ما سعتْ إلى رصد تلك الاشكال والمظاهر التي كان لشخصيّة المتنبي أن تتجلى فيها.

محاولةً تحديد الأُطر أو الأنماط التي تم من خلالها ذلك، وراغبةً في كشفَ تقنياتِ توظيفِ هذهِ الشخصيّةِ وصورها. وبالتالي فقد تمَّ اختيار الأعمال التي عالجتها الدراسة، كنماذج لها خصوصيتها التعبيريّة وميزاتها الفنيّة الجماليّة؛ وهذا لا يقللُ من شأنِ بعضِ الأعمال التي لم تتناولها وأذكرُ منها على سبيل المثال:

مجموعة "رسائل إلى أبي الطيّب"، لخليل حاوي، وقصيدة "يوميّات المتنبي في شِعب بوان" لمحيي الدين خريف، و"المتنبي" لعمر يحيى، و"في ذكرى المتنبي" لمحمد مهدي الجواهري، و"ولادةُ المتنبي" للياس لحوّد، وكتاب "قصة المتنبي" لأحمد الجندي، وقصيدة "غنائية في عيد المتنبي" لعبد العظيم ناجي؛ وغيرها الكثير.



أرجو أن تكون هذهِ الدراسة قد أصابت مارَمتْ إليه

واللهُ ولي التوفيق

السويداء.

15/6/1998.
/span> كذا في الأصل، والأصح: فوقَ ذراعِ الصحوِ.

[1]) صدر الجزء الثاني من "الكتاب" قبل نشر هذهِ الدراسة.

/html>

 

التوقيع

 


تِدفا على جال ضوه بارد إعظامي=والما يسوق بمعاليقي ويرويها
إلى صفا لك زمانك عِل يا ظامي=اشرب قبل لا يحوس الطين صافيها
 
 
رد مع اقتباس