عرض مشاركة واحدة
  #2  
قديم 12-07-2005, 06:38 AM
ابومحمد الشامري ابومحمد الشامري غير متصل
ابوحمد الشامري ( سابقا )
 
تاريخ التسجيل: Dec 2004
الدولة: شـبـكـة مـجـالـس العجمـــــان
المشاركات: 19,132
معدل تقييم المستوى: 10
ابومحمد الشامري قام بتعطيل التقييم

الفصَل الأوَل: مَفهومُ الفَتك ومُرادِفاته العوامل والأسباب

برزت طائفة الشعراء الفتَاك في العصر الأموي، بين طوائف مختلفة من الشعراء اتَضح ظهورها في هذا العصر الأدبي المهم في تاريخ الأدب العربي، وحققت حضوراً ملموساً في الحياة العامة، مثلما أسهمت في تسجيل جانب من معالم هذا العصر، وما شهده من ازدهار في مجالات الأدب وفنونه الشعرية والنثرية، لا سيما من حيث ظهور أُولى ملامح التجديد في موضوعات الشعر وأغراضه وأساليبه على السواء، مثلما أكد الكثير من الباحثين(1). وقد اختلف مؤرخو الأدب العربي، ودارسوه ونقاده، قداماهم ومحدثوهم، اختلافاً كبيراً في هذه الطائفة الشعرية، سواء على النعت الأنسب لها، أو على الدوافع والعوامل التي أدت إلى ظهورها، أو حتى على طبيعة حياة شعرائها وانعكاس تلك الحياة في شعرهم، ومدى الإضافة التي حققتها أشعارهم إلى تاريخ الشعر العربي في عصرهم.‏

من هنا رأيت أن ضرورات الدراسة تستدعي الوقوف - ابتداءً - على النعت الأكثر ملاءمة لطائفة الشعراء هذه من خلال تحديد معنى (الفتك) في اللغة والاصطلاح، إذ وقفت الدراسة في (تهذيب اللغة) على تعريف (أبي عبيد) الذي يقول فيه " الفتك: أن يأتي الرجلُ صاحبَه وهو غارّ حتى يشدً عليه فيقتله، وإن لم يكن أعطاهُ أماناً قبل ذلك، ولكنْ ينبغي لـه أن يُعلمَه ذلك "، وكذلك ما نقله عن أبي عبيد من تعريف الفرَاء للفتك إذ ذكر الفِتْكُ والفِتْك للرجل يفتك بالرجل: يقتله مجاهرةً، ثم عن ابن شُميل الذي ذكر :" تفتَّك فلانٌ بأمره أي مضى عليه لا يؤامر (لا يشاور) أحداً ثم عن الأصمعي الذي عرَّف الفاتك بأنه " الجريء الصدر "، وعن أبي منصور قوله: " أصل الفتك في اللغة ما ذكره أبو عبيد، ثم جعلوا كلَّ مَنْ هجم على الأُمور العظام فاتكاً "(2).‏

وفي (المحيط في اللغة) تبين أن الفتك يعني: " أن تهُمَّ بأمر فتُمضيَه " (…) وفتك فلان في أمره وأفتك: لجَّ فيه وغلا. وفتك في الخبث فتوكاً "(3)، بينما عرَّفه صاحب (مجمل اللغة) بأنه الغدر، والاغتيال(4). وفي (أساس البلاغة): " القاتل على غِرَّة " وأجاز القول: " حيَة فاتكة اللسع (…) وهذه إنسانة فاتكة: ماجنة وقد فتكت "(5)، وعرَّفه صاحب (لسان العرب) بقوله: " الفتك: ركوب ما همَّ من الأمور ودَعَت إليه النفس (…) والفاتك: الجريء الصدر، والجمْع: الفُتَّاك (…) وفَتَك بالرجل فَتْكاً وفُتْكاً فِتكاً: انتهز منه غِرَّةً فقتله أو جرحه "(6)، وهذا المعنى نفسه أخذ به صاحب (القاموس المحيط) ثم صاحب (تاج العروس) الذي أورد حديثاً شريفاً للرسول محمد، صلَى الله عليه وسلَم، جاء فيه: " قيّدَ الإيمانُ الفتكَ، لا يفتك مؤمن "(7) وقد أورد عدد من هذه المصادر اللغوية قولَ المخبَّل السعدي:‏

" وإذ فتك النعمانُ بالناسِ مُحرِماً * * * فمُلِّئَ من عوفِ بن كعبِ سلاسِلُهْ "(8)‏

وروى (الزَبيدي) بشأن هذا البيت، ملخَّصاً لحادثة تاريخية تشير إلى قيام الملك النعمان بن المنذر بإرسال جيشه إلى بني عوف بن كعب في الشهر الحرام، وهم آمنون (غارَون) غافلون، فقتل فيهم وسبى منهم معشراً، تأكيداً لعلاقة الفتك الذي يقع في حالة الغفلة واقترانه بها(9) .‏

في حين حدَّد الدكتور عادل البياتي، في بحثه وتحقيقه ودراسته لشعر (الحارث بن ظالم المرّي) الذي عدَّه من مشهوري الفتّاك في العصر السابق للإسلام، عدداً من المفهومات المتعلقة بعملية الفتك، وروى حكاية فتك الحارث بخالد بن جعفر العامري وبأخٍ للملك النعمان أو ابن يدعى (الأسوَد) وبابن الشاعر السموأل، في الحادثة الشهيرة التي تروى عن طلب الحارث من السموأل أدراع الشاعر امرئ القيس، التي كان قد أمنَّها لدى السموأل، ثم نقل الدكتور البياتي عن الحارث قوله:‏

" ألا سائل النعمانَ إن كنتَ سائلاً وحيَّ كلابٍ هل فتكتُ بخالدِ " (10) .‏

وكذلك قوله عن فتكه بخالدٍ العامري، عند إقدامه على الفتك بابن النعمان أو أخيه:‏

" فتكتُ به كما فتكتُ بخالدٍ * * * وكان سلاحي تجتويه الجماجمُ "(11)‏

وإذا كان الدكتور البياتي قد أشار إلى حقيقة وقوع خلاف بين علماء اللغة، بشأن تحديد المعنى الاصطلاحي لكلمة (الفتك) حتى في العصر السابق للإسلام، فقد انتهى بعد جولته في المعجمات العربية إلى أن الفتك كان أشرف أنواع القتل لدى العرب " لأن صاحَبه لم يغدر بالضحيَة ولم يأخذْها غيلةً "(12)، استناداً إلى رأي أبي عُبيد الذي يؤكد هذا المعنى في عبارته القائلة: " ولكن ينبغي لـه - للفاتك - أن يُعلمَه - أي صاحبَه - ذلك " مثلما مرَّ من تعريفه، وهو ما فعله الحارث بن ظالم - مثلاً - عندما قال وقد انتوى الفتك بخالد بن جعفر، وكانا معاً في حضرة الملك النعمان:‏

" تعلَّم أبيتَ اللعنَ إنّي فاتكُ * * * من اليومِ أو من بعدهِ بابنِ جعفر "(13)‏

مما ينفي عن الفاتك إتيانه صاحبَه " وهو غارّ غافل حتى يشدَّ عليه فيقتله " مثلما ذكر أبو عبيد في تعريفه، وهذا ما جعل الدكتور البياتي يشير صراحةً إلى أن هذا النوع من القتل لا يشبه ذاك، ويختلف الفتك عن الصعلكة اختلافاً كبيراً، إذ نجد أن صاحب (لسان العرب) قرَر أن كلمة (صعلوك) تعني: " الفقير الذي لا مال له، زاد الأزهري: ولا اعتماد. وقد تصعلك الرجلُ إذا كان كذلك "(14)، وقرر كذلك أن الصعاليك هم " ذؤبان العرب "، بينما رأى الفيروزآبادي والجوهري أن اللصوص من بينهم، وحدَّدا (اللص) بمن تكرّرت سرقته أو اتّخذها مهنةً يعيش منها(15)، وهذا ما درسه الدكتور يوسف خليف وفصَّل فيه تفصيلاً دقيقاً وإن كانت محاولته لتحديد مفهوم الصعلوك من الجانب الاصطلاحي، شابَها غير قليل من التداخُل الذي أدى إلى الاضطراب، فهو تارة يحَدد الصعلوك بـ " الفقير الذي لا مال لـه يستعين به على أعباء الحياة، ولا اعتماد لـه على شيء أو أحد يتكىء عليه أو يتكلّ عليه ليشقَّ طريقه فيها ويعينه عليها "، ذكره من هؤلاء الصعاليك في العصر السابق للإسلام، ليُقرر أنّهم ليسوا أولئك الفقراء المُعدَمين الذين يقنعون بفقرهم، أو الذين يستَجْدون الناسَ ما يسدّون به رمقهم "، بل هم أولئك المشاغبون أبناء الليل، الذين كانوا يسهرون لياليهم في الإغارة والغزو من أجل سلب الأموال ونهبها، والذين اتخذوا من هذه الأساليب الحرفة التي قامت عليها حياتهم، و" الأُسلوب الذي انتهجوه فيها لتحقيق غاياتهم "(16).‏

ويبدو واضحاً أن هذا الاضطراب في تحديد الاصطلاح الأدق للصعلوك، مردُّه علماء اللغة الأقدمون أنفسهم، الذين رادَفوا بين الفاتك والصعلوك والفارس واللص، أو بين الراغب في القتل المُقدِم عليه بملء الإرادة والتصميم، ولأسباب ودوافع تختلف اختلافاً كُلياً عن المُقدِم على القتل وسلوك سبيله من أجل الحصول على لقمة العيش، عَبر الإغارة والغزو ووسائلهما وأساليبهما، وهذا ما كان أيضا وراء اختلاف وجهات النظر إلى فتاك العصر الأُموي، من الشعراء تحديداً .‏

فهل كان الشعراء الأُمويون الذين نعتوا بـ( الصعاليك) أو (اللصوص) فتّاكا بالمعنى الذي ذكرنا ‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍؟ أم كان هذان النعتان أدق وأكثر صواباً مما أردنا لهم وتلمسناه فيهم ‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍؟ ثم: هل إن لظروف حياتهم في العصر الأُموي ومتغيّراته السياسية والاجتماعية والاقتصادية والبيئية، لا بل حتى الفكريّة (العقيدية)، علاقة مباشرة بأيٍ من النعوت الأنسب للكثيرين منهم ؟‏

من الواضح أن الإجابة الدقيقة يمكن أن تتحقق بشيء من الجلاء، إذا ما حاولنا استجلاء الآراء التي قال بها الدارسون السابقون، بشأن هذه الطائفة من الشعراء، ومن ثم مناقشتها من أجل الوقوف على حقيقة هؤلاء الشعراء، قبل الدخول في الفصول الإجرائية الساعية إلى التعرّف على مدى جدّة ما قدَّموه في أشعارهم وما أضافوه من إبداع إلى الشعر العربي .‏

لقد اعتمد الدكتور حسين عطوان - مثلاً - في نعته هذه الطائفة من الشعراء بـ" الصعاليك "، على عدد من الدراسات التي استعان بها وأفاد منها، والتي جعلته يقرر " أن الصعلكة قد ضعفت في صدر الإسلام ضعفاً شديداً "، إذ أزال الإسلام أسباب وجودها، حين ساوى بين الناس وأعطى لكلًّ حقَّه ووفّر عليه حظّه من الحياة الكريمة، ووضع القواعد والقوانين الشرعية (الحدود) لمعاقبة السارق وقاطع الطريق والخارج على الجماعة، ولمحاسبة المُفسد في الأرض وغير أولئك من المخالفين لشريعة الإسلام(17).‏

لكنه لم يبتَّ بأمر توقُّفِها - أي الصعلكة - توقُّفاً تامَاً في عصر صدر الإسلام الذي جعل من استعراضه لحركة الصعلكة فيه مدخلاً لدراسة صعاليك العصر الأموي من الشعراء، إذ توقف عند أسماء عدد من الشعراء الذين ظلَّت رواسب الصعلكة تتبدَى بوضوح عندهم، لعدم تعمُّق الإسلام في نفوسهم وعدم استقامة سلوكهم معه، ومثَّل لهم بـ" أبي الطمحان القيني وفضالة بن شريك وشبيب بن كريب الطائي وحسَكة بن عَتاب الحبَطي التميمي وعمران بن الفصيل البرجمي، الذين " أقصر بعضهم عن التصعلك القائم على الإغارة والغصب " وبقي في أنفسهم شرٌّ كثير عَّبروا عنه بمواصلة هجاء الآخرين، وهو - عند الدكتور عطوان - أهم مظهر " من رواسب الصعلكة "(18)، بينما استمر بعضهم الآخر في التصعلك القائم على سلب الناس أموالهم وقطع الطريق وشن الغارات على سكان بعض المناطق.‏

بينما رأى إحسان سركيس، أن الصعلكة اختفت في عصر صدر الإسلام، لانتفاء ما أسماه بـ" الدواعي الحادية عليها " ولاستقرار سلطة الخلافة الراشدَية، بحيث لم تعد أية قبيلة تجرؤ على حماية أيِّ خارج على ما أسماه بـ" النظام والقانون " أو إجارته، فضلاً عن اجتذاب الفتوحات الإسلامية كلَّ نفسِ مستوفزة ثائرةً وتحوي طاقاتها إلى أهداف " يشترك فيها الجميع وينعم بخيرها "(19) .‏

وثمَة رأي ثالث، قال به عبد المعين الملَوحي، مفاده أن اسم (الصعاليك) أُطلق على لصوص العصر السابق للإسلام، وأن أسلوب اللصوص استمر في عصر صدر الإسلام والعصر الأموي، مشيراً إلى أنّهم " سُمُّوا بهذا الاسم لأسباب دينية " يبدو أنه فاته تحديدها، لكَنه أوضح أنّهم قَّلما سُمّوا باسم (الصعاليك) لأنهم " كانوا يعتمدون على السيف والثورة في تحصيل أقواتهم، لا بل زاد على ذلك بقوله: أو ربما استُحدِثت أنماط من الغارة جديدة، هي الغارة على أموال الخراج أو الأموال المجموعة لتذهب إلى الخلفاء في بيوت المال"(20) .‏

هناك أسماء لعدد من الشعراء المخضرمين، من المحسوبين على هذه الطائفة، أي الصعاليك، أو الفَتاك أو اللصوص، الذين عاش بعضهم في مطلع العصر الأموي، واختلطت على الرواة والمحققين والدارسين لحياتهم وأشعارهم النعوت والتسميات، إذ ظهر هذا الترادف واضحاً في عدد من المصادر القديمة، فقد عدَّ صاحب (المحبَّر) مثلاً كُلاً من: مالك بن الريب والقَتال الكلابي وعبيد الله بن الحر الجعفي وقران بن يسار الفقعسي وعقيبة بن هبيرة وعبد الله بن خازم السلمي وعبد الله بن سبرة الحرشي وعبد الله بن الحجَاج الذبياني، فتّاك الإسلام (21) بينما كان صاحب (الأغاني) مثلاً قد عدَّ عبد الله بن الحجّاج الذبياني بين الشعراء الفتّاك الشجعان، ثم نعته - في الوقت نفسه - بالشجاع الفاتك الصعلوك المتسرَع إلى الفتن، في حين عدَّ صاحب (معجم الشعراء) مالك بن الريب: " ظريفاً أديباً فاتكاً، أصاب الطريق مدّة ثم نسك فأمَّنه بشر بن مروان "(22) ولعله أراد القول إن (مالكاً) تاب عمَا كان عليه، لأن النسك - مثلما هو معروف - يعني الانصراف إلى العبادة وليس التوبة بعد إصابة الطريق، وقد أكدَت حياته حقيقة توبته لا تنسُّكه مثلما عُرف عنه.‏

وعندما درس الدكتور نوري حمودي القيسي حياة (عبيد الله بن الحر الجعفي) بعد أن حقَّق أشعاره،، أبقى على نعوت مترادفة ومتباينة كان الرواة والمؤرخون قد ألحقوها به، فنقل عن (البلاذري) في (أنساب الأشراف) أنه " الشجاع الفاتك " وأنه " كان لا يقاتل لديانةٍ، وإنما همُّه الفتك والتصعلك والغارات " بينما نقل عن (الطبري) أنه عدَّه رجلاً " من خيار قومه صلاحاً وفضلاً وصلاةً وجهاداً، لا بل رأى فيه رأياً واضح التباين مع رأي (البلاذري) حين وصفه بأنه " ما كان في الأرض عربيِّ أغيَرَ عن حُرَّة ولا أكف عن قبيح وعن شراب منه "(23).‏

إن هذه الأمثلة القليلة، تؤكد ولا شك أن الرواة والمؤرخين القدامى كانوا يطلقون النعوت التي تبدو مترادفة ومتباينة في الوقت نفسه، على هؤلاء الشعراء وأمثالهم، استناداً إلى ما سمعوه عنهم مما كان يتناقله الآخرون، على اختلاف وجهات نظرهم فيهم، التي تعدَّدت وتشعبَّت بعد ظهور الإسلام ورسوخ أشكال النظام وتطوُّر أساليب الحكم، في عصرَيْ صدر الإسلام والعصر الأُموي. وإلا فما معنى أن يكون شاعر مثل (عبد الله بن الحجَاج) شجاعاً فتاكاً وصعلوكاً متسرِّعاً إلى الفتن في الوقت نفسه ؟! ثم ماذا يعني هذا التناقض الواضح بين رأيَيْ (البلاذري) و (الطبري) في شاعر واحد مثل (عبيد الله بن الحر) ؟!‏

إن العصر السابق للإسلام كان يقرن الفتك بالصعلكة، الفتك بمعنى الشجاعة والفروسية وجرأة الصدر والإقدام على فعل " ما همَّ من من الأمور ودعَتْ إليه النفس "، مثلما عرَّفه صاحب (لسان العرب) واوردناه، والصعلكة بمعنى الشجاعة والجرأة - لا الفقر وحده - ما دامت العرب وقتها عدَّت الصعاليك ذؤبانها، مثلما ذكر صاحب (اللسان) أيضاً، بينما جُعِل اللصوص من بينهم لأنهم مثلهم يتحصّلون أرزاقهم بسلوك أساليب النهب المعروفة نفسها، وإن اختلفت في جوانب رئيسة منها، إذ قد لا يحتاج عمل اللص إلى شجاعة وفروسية واستخدام سلاح، بل يعتمد المكر والمراوغة والاحتيال على ضحيته، إنساناً كان أم حيواناً جعله هدفاَ لـه، وإذ قد لا يكون الفاتك لصّاً يسرق أموال الناس ويُغير على ممتلكاتهم ليغصبها، بل يسارع إلى إنفاذ ما همَّ من أموره، ودعَتْه إليه نفسه على سبيل الثأر - شأن الحارث بن ظالم- في العصر السابق للإسلام، وشأن عبد الله بن الحجّاج وعبيد الله بن حر، في العصر الأُموي .‏

من هنا، يمكن القول إن التداخل بين النعوت قديماً، كان من الأسباب الرئيسة لوقوع الدارسين المعاصرين في إشكالية تسمية هذه الطائفة من الشعراء، التي دُرست بين ما دُرس من طوائف الشعراء الأُمويين، في ضوء عوامل ودوافع مختلفة، وفي إطار وجهات نظر محدَّدة إلى تلك العوامل والدوافع التي لم يكن الترادف والتباين الذي أحدث التداخل قديماً، إلاّ واحداً من محدّداتها.‏

فلو توقفنا عند دراسة الدكتور عطوان، التي سبقت الإشارة إلى العوامل التي عرضها، والتي رأى من خلالها أن الصعلكة " لم تتوقف ولم تضعف في العصر الأموي، بل استمرّت فيه وقوِيَت(24) "، وهي اختلال الحياة الاقتصادية، واضطراب الحياة السياسية، والتمسّك بالروح الجاهلية(25)، لأمكننا القول إن الفتك - وليس الصعلكة - هو الذي استمر وقويَ في هذا العصر، وأن الصعلكة واللصوصية كانا من بين ظلاله من جهة، وأن هذه العوامل والدوافع تكاد تكون عاملاً واحداً، وإن اختلفت زوايا النظر إليه، من جهة اخرى .‏

ذلك أن الدكتور عطوان نفسه يقرّر عند حديثه عن الناحية الاقتصادية، أن الأموال التي كانت ترِد إلى بيت المال لم تكن قليلة بحيث لا يتمكن الخلفاء الأمويون من الإنفاق منها على المصلحة العامة، ولكنَّ خيانة بعض العمال والسعاة الذين كانوا يجمعون تلك الأموال، واستصفاءَهم لها لأنفسهم، وتأثر بعض الخلفاء بالسياسة في تطبيق النظام المالي وجباية الصدقات وأموال الخراج، أدَّت -بحسب رأيه- إلى إفقار القبائل المناوئة لسلطة الخلافة من جهة بإبهاظها بالصدقات، وإلى إغناء القبائل المناصرة للسلطة، بتخفيف الصدقات عنها، من جهة ثانية، لينتهي إلى القول بأن " الصعاليك الأمويين كانوا متبنين لهذه السياسة، مدركين لمساوئها …"،بحيث ظهر بين هؤلاء الشعراء من ندَّد بسياسة الخلفاء الأمويين، وضرب على ذلك مثلاً بمالك بن الريب وأضرابه من الصعاليك الفقراء(26) .‏

أما عند حديثه عن العامل السياسي، فيقرّر أن تقريب الخلافة الأموية للقبائل اليمانية، وإبعادَها القبائل المضرّية، كانت دوافع وراء اضطراب الأحوال السياسية، أدت إلى نشوء مَنْ أسماهم بـ " الصعاليك السياسيين " الذين أضاف إليهم العامل الأول (الاقتصادي) دوافع أخرى لتوجيه حركتهم لا إلى الإغارة على الناس لتحصيل أقواتهم وحسب، بل أيضاً " إلى توعُّد الأُمويين الحاكمين " والسعي لتقويض دولتهم، وضرب مثلاً على هؤلاء الصعاليك بمالك بين الريب وعبيد الله بن الحر الجعفي، الذي عدَّه "أذكر صعلوك سياسي أنشأته الظروف السياسية المتقلبة المضطربة "، فضلاً عن عبد الله بن الحجّاج الذبياني، الذين هددّوا العمّال والخلفاء وساهموا في الثورة بهم ومصارعة جيوشهم، وسلبوا أموال الدولة" مانعين خراج بعض المناطق التي سيطروا عليها من الوصول إلى بيت المال "(27). وعندما يتحدث عن العامل الاجتماعي، يقرّر أن نفراً من ابناء القبائل الكثيرة التي آمنت بالاسلام وخضعت لـه، وعملت بنُظمه، وتخلت عن تقاليدها الجاهلية، ومنها " العصبية القبلية "، لم يعجبهم إذعان قبائلهم للقانون، وتحلّلها من عاداتها الموروثة، مما دفعهم إلى أن يطلبوا من قبائلهم " رفض الانصياع للقانون والخروج على السلطان "، لكن قبائلهم لم تستجبْ لهم لأنها اعتقدت بأن عهد الفوضى قد ذهب، وأن من الخير لها أن تخضع للقانون، وأنها بلغ من تمسّكِها بالقانون حدَّ أنها لم تكن تنبذهم وتخلعهم إذا تعددت جرائمهم وحسب، بل كانت أيضاً تتعاون مع الدولة وشرطتها، لكي يقبض عليهم وينالوا جزاء عبثهم وعدوانهم، مما زادهم سخطاً عليها "، ومن ثم الخروج منها واللجوء إلى الصحراء والاختفاء عن عيون الجواسيس والولاة، ومن هؤلاء: عبيد بن أيوب العنبري و الأحيمر السعدي والقتال الكلابي(28). ويذهب الدكتور عطوان إلى أكثر من هذا فيقرر أن لكل فئة من فئات الصعاليك هؤلاء مشكلة، فالصعاليك الفقراء كانت مشكلتهم الرئيسة الفقر الذي سعَوا للتغلب عليه بالاغتصاب والانتهاب، وأن الظلم السياسي كان أكبر مشكلة استولت على تفكير الصعاليك السياسيين "، وأن التخلي عن العصبية القبلية كان أخطر مشكلة أرّقت الصعاليك الخُلَعاء المنبوذين المطرودين(29).‏

من هذا كله، يتضح أن العوامل الثلاثة في حقيقتها تعود إلى سبب رئيس واحد، هو وجود سلطة الخلافة الأموية القوية وتحولها إلى نظام (الدولة) بكل ما تعنيه، وأن هذه العوامل ما هي إلا دوافع وأسباب فرعية يتعلق الواحد منها بالآخر في جميع الاحوال.‏

أما الدكتور مصطفى الشكعة، فاختار أن يسمّى شعراء هذه الطائفة لصوصاً، ورأى أنهم أبعد ما يكونون عن مفهوم الصعلكة، الذي ظهر مقترناً ببعض صعاليك العصر السابق للإسلام ولا سيما بـ (عروة بن الورد) الذي عدّه - وحده - من المستحقين لوصف " النبل والشجاعة والفروسية "(30)، وأن من ظهر منهم في العصر الأموي، كان من الأشرار المنحرفين الذين امتهنوا اللصوصية عن رضى واختيار (31)، مشدداً عند دراسته لهم على الخُلَعاء منهم حسب، وعلى بعض مَن عدهم الدكتور عطوان قبله من الفقراء، وأبرز هؤلاء (مالك ابن الريب)، أما أبرز الخُلَعاء، فعبيد بن أيوب العنبري والقّتال الكلابي وجحدر بن معاوية.‏

في حين نظر إحسان سركيس إلى هذه الطائفة من الشعراء، من وجهة اجتماعية سياسية متداخلة بعضها مع بعض لذا اختار أن يسمي فئةَ منها بـ "الصعاليك " وقدّم ذلك بتحليل مفيد، أشار فيه إلى أنه في مواجهة الدولة قامت الأحزاب المناوئة لها، وأنه " بإزاء ما كان يقع من ظُلم وجور على الأفراد والقبائل والجماعات، كانت الشكاوى والالتماسات، وبين هؤلاء وهؤلاء قام أفراد يلتمسون الوصول إلى ما يرومون من خلال حركات تجمع بين التمرد والثورة وقطع الطريق " من بينهم جماعة اصطُلح على تسميتهم باسم " الصعاليك " تمشياً مع الاسم الذي التصق بأمثالهم في العصر السابق للإسلام، ليعود فيقرر أنه " لئن كانت التسمية تحمل قدْراً من التماثل في الدوافع الذاتية، فإنها على صعيد المجتمع والدولة الجديدَين لا تفيد المقارنة او المماثَلة "، لأن الصعلكة اختفت في صدر الإسلام، وأن ظاهرة الصعلكة الجديدة كانت وليدة " مجتمع تسوسه دولة لم تقطع الصلة تماماً مع الحياة القَبَلية " بحسب رأيه، حيث: الامتياز والحرمان، والنصفَة والمحاباة، التي كانت وراء انتشار الفقر والشعور بالحرمان بين بعض القبائل، والتي من خلالها بدأ بعض الأفراد والجماعات يتمردّون على سياسة الأمويين المالية،" والتصميم على انتزاع حقوقهم بأيديهم "، وإن تلك السياسة - في رأيه - ظلّت " أهم باعث من بواعث هذا التمرّد (32).‏

لقد صارت الصعلكة - إذاً - جزءاً لا كُلاً، وصار التمرد هو الحال الأوسع، ومن ثم صارت هذه الطائفة لديه طائفة متمردّين، وفسر سلوكها بأنه نتيجة لظهور ما أسماه بـ " مشكلة السلطة وما تملكه من وسائل ضخمة لمطاردة هؤلاء المتمردين والقضاء عليهم "، ثم ما أسماه أيضاً بـ " مشكلة الخوف من السلطة " اللتين كانتا وراء اكتفاء هؤلاء باستخدام أسلوب الإغارة والاغتصاب، ثم الاختفاء والتواري فراراً من وجهها، بعد أن وجدوا أن من الصعب عليهم جداً، " التماس حمايةٍ فعالة من قبائلهم التي كانت تخشى بدورها أن تتعرّض إلى الانتقام من جانب الدولة "، وأن هذه الحالة الجديدة أملت على هذه الفئة المتمردة حالةً نفسيّة محدّدة، تمثلت في شعورها بأنها " خارجة على الدولة والمجتمع " وليس أمامها إلا التشرِّد في الصحراء .‏

أما اضطراب أحوال بعض شعراء هذه الطائفة وتعدّد انحيازاتهم السياسية، فقد فَسَّره بكونه نتيجة للاضطرابات السياسية التي حصلت في الحياة العامة، وما قابلها من اضطراب في نفوس بعض المضطربين، مثلما حصل لعبيد الله بن الحر (33).‏

إن هذه الآراء والتحليلات تتباين أو تترادف وتلتقي إلى حد ما مع آراء الدكتور عطوان، وإنْ حمَّلها سركيس الكثير من التصورات المعاصرة عن حركات التمرُّد، وأظهر هذه الطائفة من الشعراء بمظهر أكبر من حجمها الحقيقي، وقدّم سلطة الخلافة الأموية بصورة الدولة التي لم يكن يشغلها أي من المشاغل التي عرفت بها، مثل: مواصلة الفتوحات الإسلامية في مشارق الأرض ومغاربها، وتطوير شؤون الدولة الإدارية وشؤون المجتمع الأخرى، والتي انصرفت بكُلّيتها نحو مطاردة أولئك المتمردين عليها.‏

وبالانتقال إلى آراء الأستاذ عبد المعين الملّوحي، الذي اهتم بجمع أشعار مّنْ أسماهم بـ " اللصوص وأخبارهم " وتحقيقها، ومن بينهم عدد من الشعراء الذين يدخلون في صُلب هذه الدراسة، سنجده قد أوقفته تراجم سيَرهم عند ضربين من " الناس " بحسب تعبيره، هما:‏

اللصوص الذين مارسوا اللصوصية وعاشوا أكثر حياتهم يقطعون الطرق ويسرقون.‏

واللصوص الذين رأى أنهم مدفوعون بأسباب سياسية " من الخوارج ومن الثائرين على الحكم، وكانوا مع ذلك يقطعون الطرق ويسلبون الأموال "، ورأى أيضاً أن المؤرخين أدخلوهم في طائفة اللصوص، بينما عدّهم هو - الملّوحي - من " الثوار، وسمّى (عبيد الله الجعفي) مثلاً عليهم، ثم عاد فأشار في موضع آخر إلى أن بعض من ترجم لهم من الشعراء " حشروا بين اللصوصية وربما كانوا مظلومين "، وأشار في موضوع ثالث إلى أن بعضهم كان من الشعراء الكبار الذين اوصلهم شعرهم وجانب من حياتهم إلى أنهم كانوا ممن اشترك في الحياة العامة وفي النزاعات السياسية، كالجعفي وابن الريب والقتّال والكلابي(34).‏

وقد أعاد الملّوحي إشارته الآنفة، ملاحظاً ما سجله ابن المبارك صاحب (منتهى الطلب) بشأن الجعفي، إذ نقل عنه قوله: " وجعله السُكّري مع اللصوص، ولم يكن لصاً، إن ما كان لا يُعطي الأُمراء طاعةً، وكان يضمّ إليه جماعةً ويُغير بهم "، مثلما نقل عن الباحث المعروف محمود محمد شاكر قوله: " وهم كانوا يُسمّون كثيراً من الخوارجِ اللصوصَ كما فعلوا في عبيد الله الحر الجعفي(35) "، مشيراً إلى اختلاط الفرسان والفتّاك من العرب بالشعراء اللصوص وإلى أن بعضهم كان " لصاً فاتكاً فحسب، منبهاً على ما فعله ابن حبيب صاحب (المُحبّر) حين جمع تحت عداد فتّاك الإسلام أسماء اللصوص وأسماء الفتّاك وأسماء المتمردين الخارجين على الخلافة الأموية وسلطتها .‏

ويلتمس الملّوحي العذر للمؤلفين القدماء في هذا الجمع بين هذه الفئات، فيرى السبب في ذلك راجعاً إلى أمرين :‏

* تشابُه أخبارهم أولاً .‏

* ولأن الحكام - بحسب تعبيره - كانوا " يريدون الغضَّ من الثوّار بِعَدّهم لصوصاً أو خوارج (36)"‏

إن كِلا السَببين - في تقديرنا - وجيه ومعقول، وإنهما يُلقيان جانباً من الضوء على عملية الخلط التي حصلت في النعوت والمصطلحات والمفاهيم، بشأن هذه الطائفة من الشعراء .‏

أما عن الأسباب الرئيسة لظهور اللصوص، والشعراء من بينهم - أيّاً كان النعت أو المفهوم الذي سيحملونه - مثلما سيتضح لاحقاً، فيلتقي الملّوحي مع د. عطوان وسركيس على عدد منها، لاسيما الاجتماعية منها والاقتصادية، التي سبقت الإشارة إلى أبرزها .‏

إن طائفة الشعراء الصعاليك التي ظهرت في العصر السابق للإسلام كانت تلتقي على حالة مهمة في حياة العرب آنذاك، وهي حالة " فَقْد الإحساس بالعصبية القَبَليّة(37) ". ولأن كل قبيلة كانت تقوم على إيمان أفرادها بوحدة قبيلتهم، كونها الكيان الاجتماعي الذي يلتقي عنده هؤلاء الأفراد، فقد انفصل عنها مَن خلعتهم منها أو شذ عنها بينما كان إيمان أفراد كل قبيلة بنقاء جنسها مدعاةً لوجود أغربتها، فضلاً عن تجارة الرقيق التي كانت رائجة في مجتمع ما قبل الإسلام. وكان التباين الاجتماعي بين رؤوس كل قبيلة وبقية أفرادها، وكذلك التباين الاقتصادي بينهم من حيث درجة الغنى والفقر، عامليَن آخريَن من عوامل ظهور " الصعلكة " في الجزيرة العربية(38)، ولاسيما في مراكز المدن التجارية الرئيسة، وفي مقدمتها (مكّة) التي كانت تمتلك دوراً آخر -فضلاً عن دَورها التجاري - هو دورها الديني المعروف إلى اليوم، ممـا أسهم في ظهور (الخُلَعـاء)‏

و(الأرقّاء) السود الذين كانوا أسرع في الاستجابة للدعوة الإسلامية، عندما ظهرت فيها على حد قول الدكتور عبدة بدوي(39) .‏

وإذا كان د. يوسف خليف قد ركّز - عند حديثه عن الشعراء الصعاليك المذكورين - على الموضوعات التي تناولوها في أشعارهم، مثل وصف المغامرات وتَربُصهم بأعدائهم وترصُدهم لضحاياهم، وعلى آرائهم الاجتماعية والاقتصادية وعُقَدهم النفسية الناجمة عن انقطاع صلاتهم بقبائلهم، وعَدَّ الفقر (عُقدة العُقَد) التي كانوا يعانون منها، فالدكتورة (بنت الشاطئ) رأت رأياً مُغايراً، انصب على الجانب الفني والنفسي منه تحديداً - وقد حصرتهم بالخلعاء فقط - فأشارت إلى أن دارسيهم فاتهم أن يلمحوا الروابط النفسية التي كانت تشدهم إلى الاهل والعشيرة، وفاتَهم أن يُحسّوا تلك المرارة التي تفيض بها مشاعرهم، منبِّهة على قضية مهمة، تتمثل في أن سلوكهم نفسه "كان يطوي وراء الاستهانة بالحياة والانطلاق في الفضاء العريض والمغامرة الفتّاكة المثيرة، سخرية مريرة بالحرية الفردية، وشعوراً عميقاً بالتمزُّق والتشرٌّد والضياع" (40).‏

أما الدكتور عبده بدوي فرأى أن عقدة اللون كانت "وراء أشياء كثيرة في المجتمع العربي"، منها: الاستجابة السريعة للإسلام، والمطالبة المبكّرة بالعدل الاجتماعي، وتدعيم جانب من جوانب الشعوبية، وبروز ظاهرة الغضب في الشعر العربي، والتحوّل من ضمير الجمْع القَبلي إلى ضمير المفرد الإنساني، وأن تلك العقدة كانت الدافع لاقتراب الشاعر من ذاته، ولبروز حالة التوتر في إيقاعات القصيدة العربية واختيار الأوزان القصيرة ونظام المقطوعة، ولظهور الجُمَل الحسيَة المنتزعة " من لحم الحياة الفاتر " (كذا)، فضلاً عن إسقاط تلك العقدة لعدد من تقاليد القصيدة العربية المتوارثة(41).‏

بمعنى آخر، إن الدكتور بدوي رأى إن معظم فضائل التطوَر والتجديد في الشعر العربي، مردَها إلى عقدة اللون تلك، التي كان الأغربة من الشعراء قد أحسَوا بها، لا بل يُسجّل لها بانحياز واضح، كشْفها عمَا اسماه بـ" الشاعرية الكامنة في الأشياء البسيطة والاقتراب من لغة الحكي والتنُّبه إلى المرئيات التافهة بشفافية "(42)، وهي فضيلة مضافة إلى أولئك الأغربة وعقدة لونهم الأسوَد.‏

في حين رد إحسان سركيس ظهور الصعاليك في العصر السابق للإسلام، إلى ما أسماه بـ" عدم إدراك أهليهم أو قبيلتهم نفسيَاتهم، مما سبب نفورهم منهم وخروجهم على طاعة مجتمعهم وهروبهم منه .."، وهو تفسير غريب يتباين تماماً مع جميع الأسباب والعوامل الاجتماعية والاقتصادية التي قال بها الدارسون الآخرون، بدليل أنه يعود فيشير إلى أن المتأمل في أخبار الصعاليك وأشعارهم " يلفت نظرَه شعور حادً بالفقر وإحساس مرير بوقْعِه على نفوسهم وشكوى صارخة من هوان منزلتهم الاجتماعية وعدم تقدير المجتمع لهم …، وهذه - ولاشك - العوامل الحقيقية وراء ظهورهم، فضلاً عن عوامل أُخَرى سرعان ما يوردها بعد ذلك بقليل، يتناولها من زاوية اقتصادية على الأغلب، مع تداخلها مع الزوايا الاجتماعية والنفسية، ليقرّر بعد هذا أنهم - أي الصعاليك - جميعاً " فقدوا توافقهم الاجتماعي "، وأن فقدان هذا التوافق ينتهي بالفرد عادة إلى أن تكون صلته بمجتمعه قائمة على أساس ما يُسميه بـ " السلوك الصراعي "، منبهاً على ضرورة عدم الاستهانة بمن يدعوهم بـ " الراغبين في إعادة شكل التوافق الاجتماعي من جديد، حتى ولو كانت وسيلتهم إليه غير مُجدية أو ناجحة …(43) .‏

تلك أبرز العوامل التي أسهمت في ظهور طائفة الصعاليك في العصر السابق للإسلام، مثلما رآها وحدّدها الدارسون السابقون، وهي - مثلما اتّضح حتى الآن - عوامل ظهرَ ترادف بعضها، وبدت أشبه بالقواسم المشتركة لظهور طائفتَيْ صعاليك العصر السابق للإسلام وفتّاك العصر الأموي، لا سيما عامل (الفقر) الذي كان واحداً وإن اختلفت أسبابه ودوافعه، ومثله عامل ظهور فئة الموالي الجديدة، الذي كان مقتصراً على الأغربة السود من أبناء الإماء الحبشيات والزنجيات، وصار عاملاً يندرج تحته أبناء البلدان التي فتَحتها جيوش الفتح الإسلامي في بلاد فارس وبلاد الروم وفي مصر وشمال أفريقية مثلما أشار إلى ذلك أكثر من دارس من الدارسين المُحدثين، وإن تباينت آراؤهم بشأن هذه القضية، واختلفت اختلافاً كبيراً (44) .‏

أما بالنسبة للعوامل الأُخرى فإن ثمة فوارق نجمت عن العوامل الجديدة التي وِجدت في العصر الأموي، ومنها: العامل السياسي والديني والاجتماعي والاقتصادي، وهي عوامل طرأت عليها مستجدات مهمة انعكست على طبيعة الحياة العامة، في المناطق المدنية (الحضَرية) والمناطق القروية والبدوية، حتى إن الدكتورة بنت الشاطئ نظرت بتحامُل واضح إلى أثر هذه العوامل لا في المجتمع العربي في هذا العصر حسب، وانما في مسيرة الحياة الأدبية - ولا سيما مسيرة الشعر - فيه، وفي الاتجاهات الفنية التي شكَلت ملامحه، وإن كانت قرَرت بنفسها عدم إنكار ما كان لخلفائه من نصيب في ازدهار الشعر وفي رواجه(45) وهي حقيقة لا يمكن إغفالها أو نكرانها بأي حال.‏

في حين ردَّ إحسان سركيس إلى العوامل الجديدة وما أحدثته من متغيرات اجتماعية - سياسية في البنية المكوّنة للحياة في هذا العصر، إيجادها شعراً ذا طابع خاص يماثل شعر صعاليك العصر السابق للإسلام، لا بل يربو على سابقه أيضاً، بإمعانه في وصف التشرّد في الفلوات والقفار، بشكل لم يكن أولئك الصعاليك يستشعرونه لأسبابٍ يحددها بالآتي:‏

إن صعاليك العصر السابق للإسلام كانوا يعايشون جيراناً لهم يشابِهونهم في حياتهم وشظف عيشهم.‏

وإن هؤلاء الجيران لم يكونوا على جانب من القُدرة الفائضة عمَا تستدعيه حماية القبيلة لينصرفوا إلى مطاردتهم.‏

وإن ردَّ الفعل لم يكن أكثر من غارة صغيرة من هذه القبيلة أو تلك وليس بثقل دولة، مثلما آل إليه الأمر في العصر الأموي(46).‏

بيد أننا يمكن أن نتبيّن مظاهر هذا التباين في العوامل المؤثرة بين تلك الطائفة وهذه، وفي انعكاسها على حياتها أولاً، من خلال النقاط الآتية:‏

أولاً: كان لطائفة الشعراء الصعاليك، لا بل الصعاليك بعامَة، مفهوم محدد يعتمد الجانب الاجتماعي في العصر السابق للإسلام، فهم: خُلَعاء وشذّاذ وأغربة سود أو من أقوام أخرى غير عربية، وحَّدَهم فقدان الإحساس بالعصبية القَبلية، فضلاً عن عُقَد: الفقر واللون والجنس في الغالب، ووجدوا في عمليات الإغارة من أجل السلب والنهب وسيلة وحيدة لكسب قُوتهم ومواصلة حياتهم اليومية، فهم لصوص وقطَاع طرق أو هكذا آل أمرهم، وإن الجانب الاقتصادي كان عاملاً رئيساً في تحديد أنماط سلوكهم وتصرَفاتهمَ في أغلب الأحيان.‏

ثانياً: إن من أطلق عليهم نعت (الصعاليك) في العصر الأموي، لم يكونوا في أُصولهم جميعاً من الخُلَعاء والشذاذ والأغربة السود، بل ارتبط مفهومهم بعوامل ثلاثة، سياسية واقتصادية واجتماعية، ظهر الأول منها وترك ما ترك من آثار بظهور القوى والجماعات (الأحزاب) المناوئة للدولة الأموية، كالعلويين والزبيريين والخوارج، أما العامل الثاني فلم يكن الفقر والحرمان وحدهما من بين أسبابه، بل تكدُّس الأموال التي جُبيت تحت شروط دينية ودنيوية لدى بعض الخلفاء والعمال والولاة والعاملين عليها، وليس عن طريق التجارة وحدها، مثلما كان عليه أمرُ الأغنياء في العصر السابق للإسلام، في مقابل انعدام وجود الأموال لدى الغالبية التي صارت تدعى بـ( الرعيَة).‏

في حين ظهر العامل الثالث - الاجتماعي - نتيجة طبيعيةً من نتائج العامليَن المذكوريَن آنفاً في جزئه الأعظم، أي بسبب الفقر والحرمان وسوء توزيع الثروة، لدوافع يشكل العامل السياسي طرفاً رئيساً فيها.‏

ثالثاً: إن (صعاليك) العصر الأُموي لم يعودوا يماثلون سابقيهم، لأن أغلبهم كانوا من المتمردين على السلطة المركزية في المقام الأول، ومن الخارجين على نظام الخلافة الذي نما وتطوّر وقعَّد قواعدَ وأرسى أُسساً لم تكن معروفة من قبل، بدأ بعضها في عهد الخليفة الراشد الثاني عمر بن الخطاب (رض)، ولم يأخذ مدياته الواسعة إلا في العصر الأموي، بعد أن تحوّل نظام الحكم فيه إلى ملكية شبه وراثية، مثلما معروف وثابت تاريخياً، ومن ثم فهم لم يكونوا مجرَد صعاليك بل فّتاك شجعان، بعضهم من الفرسان، وبينهم عدد من اللصوص المحترفين، مثلما لم يكن الفتك غايةً بحد ذاته لديهم بل كانت لـه أسبابه ودوافعه، مثلما سنٍعرض لذلك عند دراسة أوضاع هذه الطائفة من الشعراء الحياتية وظروفهم المختلفة.‏

رابعاً: إن إطلاق نعت (اللصوص) عليهم يحمل الكثير من التجني ومجافاة الحقيقة، إذ تبيَّن من خلال استعراض آراء الدارسين السابقين، ومن خلال الوقوف على حياة الشعراء الذين تم اختيارهم، إن اللصوصية أساساً نعتُ من امتهن السرقة من جهة، وإن بين هؤلاء من لم يكن كذلك أصلاً، وبينهم من سلك سبيلها نتيجة لهربه من أيدي السلطة وولاتها وعمّالها، لجناية جناها بقصد ربما كان سياسياً وليس قصداً اجتماعياً، كالقتل الفردي مثلاً، فكان عليه أن يلجأ إلى سرقة ما يُقيم أَودَه، من جهة أُخرى، وإذ تبيَّن أيضاً أن الكثيرين منهم، حتى من لم يجد لـه نعتاً غير نعت (اللص) قريناً باسمه، لا يدل على لصوصيته، وإن كانت اللصوصية نفسها موضع اهتمام الرواة والمؤرخين والدارسين القدامى، وكانت أشعار اللصوص من الأهمية، حدَّ أن ذكر الجاحظ: " وقد أدركتُ رواةَ المسجدييّن والمربدييّن، ومن لم يروِ أشعار المجانين (العشّاق) ولصوص الأعراب ونسيب الأعراب (…..) فإنهم كانوا لا يعدّونه من الرواة "(47)‏

خامساً: لقد أورد صاحب (المخصَص) نقلاً عن علماء اللغة، عشرات الأسماء التي كانت تطلق على اللص، ومن بينها ما نقله عن (ابن السكيَت) من أنه (المارد الصعلوك) (48)، مما يقطع بأن الترادف في المعاني والمصطلحات والمفهومات كان حالة طبيعية لا غبار عليها، ولم تكن تمثَل مشكلة للرواة والمؤرخين القدامى، وإن تحولت إلى مشكلة أمامنا عند دراستهم.‏

المهم إن طائفة الشعراء الذين يعنينا أمرهم في حدود هذه الدراسة سيكونون من الفتاك والمتمردين على الدولة، بغض النظر عن النعوت والتسميات الأخرى التي أُلصقت بهم لهذا السبب السياسي أو ذاك السبب الفكري أو الأخلاقي، وإن دراسة مَنْ دُرِس منهم - بعد أن جُمِعت أشعاره - ستكون عوناً كبيراً في استخلاص ما يؤيد المفهوم الذي توصلنا إليه لا سيما ما جمعه وحققه المرحوم الدكتور نوري حمودي القيسي، والأستاذ الباحث المجمعي عبد المعين الملوحي، وما اخترناه من هؤلاء الشعراء لأغراض الدراسة.‏

ولكن زيادةً في تحقيق الفائدة، سنحاول عَرض ما يمكننا عرضه من سمات ومواصفات من اخترنا من الشعراء وما قدّمته أشعارهم وسيَرُ حياتهم من ملامح شخصيَة لكل منهم، تُردفه بهذه الفئة أو تلك أو تبيّنه عنها.‏

فقد لاحظنا أن كُلاً من: مالك بن الريب وعبيد الله بن الحر الجعفي والقتّال الكلابي والعُدَيل بن الفرخ العِجلي والسمهري العكلي، كانوا مثلما اتّضح بين معدودٍ من " فُتاك الإسلام " أو من " فتاك العرب " بحسب ما ذكره كل من: محمد بن حبيب، صاحب (المُحبَّر)، وأبي علي الهَجري، صاحب (التعليقات والنوادر )(49)، واتفقت لدينا آراء عدَت كُلاً من: الجعفي ومرّة بن محكان وحُريث بن عنَاب والمرّار الفقعسي من المشهورين بالكرَم، وأُخرى عدَّت كُلاً من: مالك بن الريب والجعفي بين " أصحاب المروءة والشجاعة الفائقة والفروسية "(50)، واشترك كل من حريث ومالك والقتّال بكونه من المتمردين على الولاة والعمال والسُعاة، وزاد د.عطوان على هؤلاء (عبيد الله بن الحر) فعدَّه من " الصعاليك السياسيين " كونه مثلما وصفته مصادر دراسته " أذكر صعلوك سياسي أنشأته الظروف السياسية المتقلَبة " وهو على رأس من أسماهم بـ" الساخطين الثائرين " إذ كان من الفئة التي تسعى للقضاء على الحكم الأموي ومناصبة العداء عمَال الخلافة وولاتها (51) .‏

في حين أكدت مصادر دراسة (عُبيد بن أيوب العنبري) أنه كان فارساً شجاعاً وممن اتّصف بالحكمة ورقّة المشاعر والتمسُّك بقيم الدين الإسلامي وبالإيمان العميق والخوف الشديد من الله تعالى (52)، بينما وصفت المصادر التي درست (الخطيم العكلي) بأنه كان ذا منزلةٍ متقدمة في قومه، وكان فارساً عاشقاً وإن أشارت إلى أنه " أحد اللصوص " أو (الخطيم اللص) أو إلى كونه من اللصوص (53)، بينما أشارت مصادر الدراسة إلى كون (جحدر بن معاوية) من الفتّاك الشجعان، وإلى أنه " لولا جرأة الجنان وجفوة السلطان وكَلب الزمان " مثلما وصف أحواله أمام الحجّاج بن يوسف الثقفي عندما سأله عن أمره، لكان " من صالحي الأعوان وبُهم الفرسان ومن أوفى أهل الزمان " (54)، مثلما اتفق للدراسة الوقوف على إشارات إلى كون (جعفر بن عُلبة الحارثي) من الشجعان الذين قُتلوا ظُلماً، وإلى كون (طهمان الكلابي) من بين " صعاليك العرب وفُتّاكهم " وأن (يعلى الأحول) كان قد نُعِت بـ" اللص الفاتك الخارب " وأنه كان مخلوعاً يجمع صعاليك الأزد وخُلَعاءهم فيُغير بهم على أحياء العرب ويقطع الطريق على السابلة، بينما عُدَّ (أبو النشناش) من لصوص العرب، وروى بعض المصادر أنه " كان يعترض القوافل في شذّاذ من العرب بين طريق الحجاز والشام فيجتاحها، فظفر به بعض عمَال (مروان بن الحكم) فحبسه وقيَّده "(55)، أما (عُطارد بن قُرَّان) فلم يُعرف عنه سوى كونه ممن حُبس مراراً، وأنه كان يهاجي جريراً عند هجاء جرير للمرَار البرجمي، أما أسباب حبسه المتكرر أو أية تفاصيل اُخرى عن حياته فبقيت مجهولةً حتى الآن(56).‏

وعند محاولة تبيّن الأسباب والدوافع الحقيقية وراء نعت عدد من هؤلاء الشعراء بالصعاليك واللصوص تحديداً، سنقف عند شاعر كمالك بن الريب على جوابه عن سؤال القائد العربي سعيد بن عثمان بن عفان (رض) لـه عن أسباب عبثه وفساده بقطعه الطريق، إذ يجيبه مالك قائلاً: " يدعوني إليه العجز عن المعالي، ومساواة ذوي المروءات، ومكافأة الإخوان " لذا فهو سرعان ما يتوب عن أفعاله ويلتحق بجيش سعيد الذي كان متوجَهاً نحو (خراسان) لفتحها، على أيام الخليفة الأموي الأَول (معاوية بن ابي سفيان) (57).‏

وأكثر وضوحا في مجال الفتك لأغراض سياسية – وليست لصوصية - الشاعر (عبيد الله بن الحر) الذي كانت تربطه قرابة بالخليفة الراشد الثالث (عثمان بن عفان - رض) وشهد مع خاليَه (زهير ومرثد) ابنَيْ قيس بن مشجعة معركة القادسية، ثم صار مع معاوية في عدائه للإمام علي (كَرم الله وجهه)، ثم حارب بني أُمية مناصراً مصعب بن الزبير، ثم انقلب على الأخير والتحق بالأُمويين، مما يشير إلى كونه كان مقاتلاً فارساً متمرداً من ذوي المواقف السياسية - وإن تناقضتْ - ولم يكن صعلوكاً أو لصاً بل فاتك.‏

أما (القتَّال الكلابي) فيُعَد مثلما نعته محمد بن حبيَب من (فتاك الإسلام)، وإن (القتَّال) لقب غلب عليه " لتمرُّده وفتكه " مثلما ذكر صاحب (السمط) وقد شُهر بفروسيته وشجاعته ودناءته أيضاً، وتزيد مصادر دراسته أن جريمة قتله لابن عمٍ لـه يدعى (زياداً) هي التي دفعته إلى ممارسة الفتك، بعد أن أراد زياد هذا قتله لتعلُّقِه بأُخته (العالية)، إذ نهاه هذا الأخ عن التحدث إليها وحلف أن يقتله إن وجدَه عندها ثانية، لكنّ الحُبّ جرّأَ (القتَّال) على معاودة زيارتها، فلما بصَرَ به أخوها (زياد) استلَّ سيفَه ليقتله، مما جعل (القتّال) يلجأ إلى الهرب، فتبعه زياد بسيفه، و(القتّال) يُناشده الله والرحمَ من دون جدوى، وتشاء المصادفة أن يجدَ (القتّال) في طريقه رمحاً مركوزاً (أو سيفاً) فيأخذه ويقضي به على ابن عمِّه ويولَي هارباً " (58).‏

ويرى الدكتور إحسان عباس أن القتّال الكلابي " يمثِّل صورةَ متطرّفة لمقاومة كل ما سنتَّه الدولة من تنظيمات كما يُمثِّل الثورة على الاستقرار "، فضلاً عن إمعانه في حماية نقاء الدم بين أفراد قبيلته (59)، بينما عدَّه الملَوحي "أشد نقمةً وثورةً على الأُمويّين وعمَّالهم من مالك بن الريب "(60).‏

أما (السمهري العكلي) فإنه بحسب رواية صاحب (الأغاني) لبعض تفاصيل حياته، كان صحبة (بهدل بن قرفة) حين لقيا (عون بن جعدة بن هبيرة) ومعه خاله، وهو يريد الحج من الكوفة أو يريد المدينة، وبعد حوار جرى بينهم أخذ (عون) السيف وشدَّ عليهم، مما دعا (بهدل) إلى رميه بسهم أدى إلى قتله، وإن السمهري وصاحبه سرعان ما ندِما وهربا وإن الخليفة عبد الملك بن مروان كتب إلى عمّاله في العراق والمدينة واليمامة ليطلبوا قتلة (عون) ويبالغوا في ذلك وأن يجعلوا لمن يدل عليهم جُعالة (جائزة)، مما أطال من أمد تشرَد (السمهري) حتى أُلقي القبض عليه وسُجِن، ثم دُفع بأمرٍ من الخليفة إلى ابن أخي عون - ويُدعى (عدي) - الذي سارع إلى قتله ثأراً لعمِّه"(61).‏

ويدل ما جُمع من أشعاره أنه كان عاشقاً متيّماً، وأنه ساءه كثيراً أن يودَع السجن من دون أن تفعل قبيلته شيئاً لنجدته، مما جعله يشكوها ويهجوها أسوأ هجاء.‏

ويتّضح من حكايته أنه لم يكن لصاً ولا كان قاتلاً، ولم يكن من الصعاليك الخُلَعاء أو الشذّاذ، اللهم إلاّ عند حصول هذه الجريمة وهرَبه في القفار خشيةً من مُطارديه، وهذا يعني أن نعته بالفاتك كان نتيجةُ لعواملَ وأسبابٍ أُخرى غير واضحة تماماً.‏

أما (العُدَيل بن الفرخ) الذي عدَّه (الهَجري) من الفتّاك أيضاً مثلما مَرّ بنا، فإنه في أشعاره يظهر محرَضاً لأهل العراق - تارةً - ضد الحجّاج بن يوسف، ويظهر تارةً أُخرى هارباً من يده لا سيما بعد أن طَلَبه لقتله عبداً يدُعى (دابغاً) كان مولىْ لابن عم (العُدَيل) لأسباب يسهب صاحب الأغاني في إيراد تفاصيلها، ويظهر تارةً ثالثة مادحاً الحجّاج .. وهكذا(62) .‏

ولعلّ حكاية قتل (العُديل) لدابغ هذا، كانت وراء نعته بالفاتك من جانب (الهَجري) مثلما اتّضح من رواية الأصفهاني، ومثلما يشير الجاحظ وابن قتيبة عند حديثهما عن علاقته بالحجّاج وهربه منه وتغرّبه وتشرُّده (63) .‏

أما الشعراء الذين نُعِتوا باللصوصية حسب، فيقف في مقدمتهم (عُبيد بن أيوب العنبري)، الذي كان الجاحظ قد نعته مرةً بـ"أحد اللصوص"(64)، وتنوقِل عنه هذا النعت في عدد آخر من المصادر اللاحقة، بينما لم نجد في مصادر دراسة حياته وفي ما جمع من شعره إلاّ ما يشير إلى شجاعته وفروسيته واتّصافه بالحكمة ورقة المشاعر والإيمان - حدّ الزهد - بالله تعالى، لا سيما لشدّة خوفه من الظلم ومن البطش به، الذي جعله يعيش مُشرَّداً في الصحارى والقفار.‏

وقد ذكر (ابن قتيبة) عند تقديمه بأنه: " من بني العنبر. وكان جَنى جنايةً، فطلبه السلطان وأباح دمَه، فهرب في مجَاهل الأرض، وأبعدَ لشدَة الخوف "، ثم يشير إلى ما كان الشاعر يُخبر في شعره من مرافقته الغيلان والسعالى ومُبايتتِه الذئاب والأفاعي، وأكله مع الظباء والوحش (65).‏

(1) د. طه حسين، حديث الأربعاء: 2/14 وما بعدها. وأيضاً: د. شوقي ضيف، العصر الاسلامي: 169 وما بعدها. وأيضاً: د. نوري القيسي، شعراء أمويون: 1/88 و 168 و206 و247. وايضاً: د. حسين عطوان، الشعراء الصعاليك في العصر الأموي، ومقالات في الشعر ونقده: 63 وما بعدها. وأيضاً د. مصطفى الشكعة، رحلة الشعر: 23 وما بعدها. وأيضاً: د. محمد عبد المنعم خفاجي، الحياة الأدبية - عصر بني أمية: 77 وما بعدها .‏

(2) الأزهري تهذيب اللغة: مادة (فتك).‏

(3) الصاحب بن عَباد، المحيط في اللغة: مادة (فتك).‏

(4) ابن فارس، مجمل اللغة: مادة (فتك).‏

(5) الزمخشري، أساس البلاغة، مادة (فتك).‏

(6) ابن منظور، لسان العرب: مادة (فتك).‏

(7) الزَبيدي، تاج العروس: مادة (فتك).‏

(8) د.حاتم الضامن، عشرة شعراء مُقلّون: 168 (مع التخريجات).‏

(9) الزَبيدي، تاج العروس: المادة نفسها.‏

(10) دراسات في الأدب الجاهلي،: 2/235 وما بعدها و 265 (مع تخريجات القصيدة).‏

(11) م.ن: 261 (مع التخريجات) .‏

(12) دراسات في الأدب الجاهلي: 2 / 236.‏

(13) م.ن: 2 / 264.‏

(14) ابن منظور، لسان العرب: مادة (صعلَكَ).‏

(15) ابن منظور، لسان العرب: مادة (ذأَب). وأيضاً: الفيروزآبادي، القاموس المحيط: مادة (ذأَب). وأيضاً: الجوهري، الصحاح ..: مادتّا (ذأَبَ) و (لصَّ) .‏

(16) الشعراء الصعاليك في العصر الجاهلي: 21, 55, 0180‏

(17) الشعراء الصعاليك في العصر الأموي: 29. ومقالات في الشعر ونقده: 65.‏

(18) الشعراء الصعاليك في العصر الأموي: 21 وما بعدها.‏

(19) الظاهرة الأدبية في صدر الإسلام والدولة الأموية: 316.‏

(20) اشعار اللصوص وأخبارهم: 3 /827.‏

(21) محمد بن حبيب، المحَّبر: 213 وما بعدها.‏

(22) المرزباني: 265.‏

(23) شعراء أمويون، 1 / 71 وما بعدها (مع مصادره).‏

(24) الشعراء الصعاليك في العصر العباسي الأول: 74 وما بعدها. ومقالات في الشعر ونقده: 65‏

(25) الشعراء الصعاليك في العصر الأموي: 32-76.‏

(26) مقالات في الشعر ونقده: 61.‏

(27) الشعراء الصعاليك في العصر الأموي: 74 و 75.‏

(28) مقالات في الشعر ونقده: 68 وما بعدها.‏

(29) م.ن: 73 وما بعدها.‏

(30) رحلة الشعر: 8.‏

(31) م.ن: 256.‏

(32) الظاهرة الأدبية …: 315.‏

(33) الظاهرة الدبية: 318.‏

(34) أشعار اللصوص واخبارهم: 3/701 و 707 و 709.‏

(35) م.ن :3/742، 743 (مع مصادره)‏

(36) اشعار اللصوص: 744.‏

(37) د. يوسف خليف، الشعراء الصعاليك: 119 وما بعدها.‏

(38) الشعراء الصعاليك في العصر الأموي: 141وما بعدها.‏

(39) د.عبدة بدوي، الشعراء السود وخصائصهم في الشعر العربي: 9وما بعدها.‏

(40) د. عائشة عبد الرحمن، قيم جديدة للأدب العربي: 43 وما بعدها.‏

(41) الشعراء السود وخصائصهم في الشعر العربي: 9.‏

(42) م.ن: ص.ن.‏

(43) مدخل إلى الأدب الجاهلي: 192 وما بعدها.‏

(44) د. شوقي ضيف، العصر الإسلامي: 210 وما بعدها. وأيضاً: د. عائشة عبد الرحمن، قيم جديدة …: 111 وما بعدها و 121.‏

(45) قيم جديدة …: 115.‏

(46) الظاهرة الأدبية ..: 320.‏

(47) البيان والتبيين: 4/23.‏

(48) ابن سيدة: 3/78-80.‏

(49) عدَّ الهجري العُديل والسمهري من فتّاك العرب: 1/158 و 268.‏

(50) عبد المعين الملوّحي، أشعار اللصوص: 3/778 وما بعدها.‏

(51) الشعراء الصعاليك في العصر الأموي: 78 وما بعدها.‏

(52) شعراء أمويون: 1/195 وما بعدها (مع مصادره).‏

(53) شعراء أمويون: 1/240 مع هوامشها.‏

(54) م.ن: 1/166.‏

(55) عبد المعين الملَوحي، أشعار اللصوص: 2/553 و 573 و 17 وأيضاً: الأصفهاني، الأغاني: 12/171 (بالنسبة للأخير).‏

(56) المرزباني: معجم الشعراء: 300.‏

(57) شعراء أمويون: 1/11 وما بعدها (مع مصادره).‏

(58) ينظر: البكري، سمط اللآلي وأيضاً الأصفهاني، الأغاني 20/159.‏

(59) القتّال الكلابي، ديوانه: 10 وما بعدها.‏

(60) أشعار اللصوص: 3/779.‏

(61) الأصفهاني، الأغاني: 22/330 وما بعدها.‏

(62) م.ن: 22/330-332.‏

(63) البيان والتبيين، 1/367، وأيضاً: الشعر والشعراء: 325.‏

(64) م.ن : 4/62، وأيضاً: شعراء أُمويون: 1/195 وما بعدها (مع مصادره وهوامشه).‏

(65) ابن قتيبة، الشعر والشعراء: 2/874.‏

 

التوقيع

 


تِدفا على جال ضوه بارد إعظامي=والما يسوق بمعاليقي ويرويها
إلى صفا لك زمانك عِل يا ظامي=اشرب قبل لا يحوس الطين صافيها
 
 
رد مع اقتباس