عرض مشاركة واحدة
  #3  
قديم 12-07-2005, 06:20 AM
ابومحمد الشامري ابومحمد الشامري غير متصل
ابوحمد الشامري ( سابقا )
 
تاريخ التسجيل: Dec 2004
الدولة: شـبـكـة مـجـالـس العجمـــــان
المشاركات: 19,132
معدل تقييم المستوى: 10
ابومحمد الشامري قام بتعطيل التقييم

أولاً -لـماذا المتنـــــبي؟

يلفتُ الانتباه هذا الحضور الكثيفُ لشخصيّة المتنبي، في أعمالِ عددٍ كبير من شعراء العربيّة المعاصرين؛ وهو حضورٌ متعددٌ ومتنوّع، ويختلفُ من شاعرٍ لآخر؛ حتى أن الدارس ليجد صعوبةً في رصدِ جوانبهِ، إذا انبرى لذلك.‏

إن المتنبي الذي ظهَرَ في القرن الرابع الهجري، بشخصيتهِ الطاغية الجبّارة، فملأَ الدنيا، وشغل الناس، وكانَ موضوع حركةٍ نقديةٍ جديدةٍ في حينها، يعودُ إلينا بصور وأشكال جديدة؛ ولو شئنا التأنّي في النظر إلى هذا الحضور الجديد، لربطناهُ بنظرةِ الشعراء المعاصرين إلى تراثهم، وطرقِ تعاملهم معه، وموقفهم منهُ بشكلٍ عام؛ بينَ شاعرٍ ينطلقُ من موقف المحافظةِ على التراث والاعتصام بهِ، والهروب إليه، وآخر يرفضه ويسعى إلى القطيعة معه، وثالث يستلهمُهُ؛ فيستدعي مايخدمُهُ فنياً وفكرياً فيصبحُ لديهِ روحاً وطاقةً جديدةً، ولا يتاحُ ذلك للشاعرِ إلا إذا واجهَ تراثَهُ مواجهةً شجاعة فألقاهُ عن ظهرهِ، وتأمّلهُ وأخذَ منهُ مايصلحُ لمستقبل الأيام. (1).‏

لعلَّ من حقنا أن نتساءل في البداية: لماذا يختارُ شعراءٌ كالأخطل الصغير وعبد الله البردوني ومحمود درويش وأمل دنقل وسليمان العيسى وفايز خضور وعبد الوهاب البياتي وآخرونَ وآخرون شخصيّة المتنبي من بين ذلك الكم الهائل من الشخصيات التُراثية الهامة لتكونَ في قصائدهم صورةً أو رمزاً أو قناعاً أو سوى ذلك؟!‏

الإجابة ليست واحدة على الإطلاق، إنها مختلفة كاختلافِ هؤلاء الشعراء، ولو حاولنا أن نجدَ شيئاً منها في بعض ماقالوه، أو كتبوه، لكان لنا ذلك؛ ها هو محمود درويش -على سبيل المثال- يقولُ في حوار معهُ: "كتبتُ حوالي المئة قصيدة، ثمّ انتبهتُ إلى أن المتنبي قال: (على قلقٍ كأن الريحَ تحتي). أنا كل ما أردتُ أن أقولَهُ، قالَهُ هو في نصف بيت (على قلقٍ كأن الريحَ تحتي). المتنبي ليسَ فقط مخلصاً لكل ما سبقهُ في الشعر العربي، وإنّما هو مؤسّس لكل الحداثة الشعرية التي تلت؛ ونحنُ نسبَحُ في فضاء المتنبي" (2).‏

أما أدونيس فيكتب: "المتنبي يفرزُ نفسَهُ ويعرِضُها عالماً فسيحاً من اليقين والثقة والتعالي في وجه الآخرين- وضدّهم، وهو في ثنايا شعره كلّهُ يحتضنُ ذاتَهُ ويناجيها ويحاورها بنبرةٍ من العبادة. إن شعرَهُ كتابٌ في عظمةِ الشخص الإنسانيّة؛ يسيّرُهُ الجدلُ بين اللاّنهايةِ والمحدوديّة: الطموحُ الذي لا يعرفُ غايةً ينتهي عندها... لقد خلَقَ المتنبي طبيعةً كاملةً من الكلماتِ، وفي مستوى طموحِهِ: ترجُّ، تتقدّمُ، تجرفُ، تهجُمُ، تقهرُ، تتخطّى..." (3).‏

أمّا البيّاتي فقد قال في معرضِ حديثِهِ عن استحضار الشخصياتِ التُراثية: "إن شخصيّة الحلاّج والمعّري والخيّام وديك الجن وطرفة بن العبد وأبي فراس الحمداني والمتنبي والاسكندر المقدوني وخيفارا... وغيرها، التي اخترتُها، حاولتُ أن أقدّمَ البطل النموذجي في عصرنا هذا، وفي كل العصور (في موقفِهِ النهائي)، وأن أعبّرَ عن النهائي واللاّنهائي، وعن المحنةِ الاجتماعيّة والكونيّة التي واجهها هؤلاء، وعن التجاوز والتخطّي لما هو كائن، إلى ما سيكون، ولذلك اكتسبتْ هذهِ القصائد هذا البعدَ الجديد، الذي يجعلها تولدُ من جديد، كلّما تقادمَ بها العهد" (4).‏

ويلخّصُ أمل دنقل موقفهُ ليسَ فقط من استدعاء الشخصيات التراثية بما فيها المتنبي، بل من استلهام التراث بشكلٍ عامٍ فيقول: "إن استلهام التراث في رأيي ليسَ فقط ضرورة فنيّة، ولكنهُ تربيّة للوجدان القومي؛ فإنني عندما أستخدم أو ألقي الضوء على التُراث العربي والإسلامي الذي يشمل منطقة الشرق الأوسط بكاملها(1)، فإنني أُنمّي في المُتلقّي روح الانتماء القومي، وروح الإحساس بأنه ينتمي إلى حضارة عريقة، لا تقلُّ إن لم تزدْ عن الحضارات اليونانيّة والرومانيّة"(5).‏

شخصيّة المتنبي واحدة من مئات الشخصيات في تُراثنا العربي، وهي كلها مطروحة أمام الشعراء لاستحضارها والتحدّث من خلالها؛ فما الذي يُغريهم بهذهِ الشخصيّة أو تلك؟ إن ما يغريهم -من وجةِ نظري- هو مقدار ماتحملُهُ هذهِ الشخصيّة من سمات القدرةِ على التجدّدِ والحداثة، وتلك القيم الحضاريّة التي يمكن أن تشي بها، بالإضافةِ لقدرتها على التقاطع مع زمن آخر غير زمانها؛ وهنا يأتي دور الشاعر وقدرته على الاختيار؛ وموهبته في مُلامسةِ السمات المميّزة والدالة في الشخصيّة التُراثية؛ وهذا لا يعني أن تكون الشخصيّة -في الأساس- إيجابيّة فما الذي يمنع شاعِراً مُبدعاً من أخذِ شخصيّة عرقوب مثلاً أو أبي رغال أو قابيل أو غيرها؛ ألم يستحضر أمل دنقل شخصية كُليب وجعَلَ منهُ رمزاً للمجد العربي القتيل أو للأرضِ المسلوبة (6) - على حد تعبيره- رغم أننا قد نختلف معه بشأنها، حتى شخصيّة الزير؛ هل كانت في سياقها التاريخي التُراثي مُلائمة لدورها في قصيدة الشاعِر؟‏

الحقيقة لا!، لكن موهبة أمل دنقل ألبست هاتين الشخصيتين لبوساً مقنعاً وجميلاً، وخرجت بهما عن الحكايةِ التُراثيةِ نسبيّاً وبنت لهما ولبقيّة الشخوص عالماً فنيّاً موازياً لعالم الحكاية.‏

إن بعض الشعراء الذين استحضروا شخصيّة المُتنبي -بغضّ النظر عن مدى النجاح الذي أصابوه، أو التقنية التي استخدموها- أرادوا أن يتحدّثوا بصوتِهِ ولسانِهِ، فساعَدَهم ذلك على تقديم تجاربهم المختلفة في الطموح والانكسار والغربة والنفي وغيرها، من خلالِ هذهِ الشخصيّة النادرة والمتعدّدة الجوانب.‏

ولو سمحتُ لنفسي أن أتقصّى أسبابَ استدعاء شخصيّة المتنبي أو استلهامِها في قصائدنا المعاصرة؛ انطلاقاً من النماذج التي بين يديّ لوجدتُ صعوبةً كبيرةً في ذلك؛ والسبب هو أنكَ -بشكلٍ عام- تكادُ تجدُ أن لكلِ شاعِرٍ أسبابَهُ ودوافِعَهُ الذاتية والموضوعيّة؛ وعليهِ فسأُحاولُ أدناه، أن أرصَدَ أهم الأسباب الموضوعيّة تاركاً للقارئ أن يلتقطَ تلكَ الأسباب الذاتية حين ننتقلُ لرصدِ أشكالِ حضورِ المتنبي في نماذج كثيرة من الشعر العربي المعاصر:‏

1-لعلَّ من أهم تلك الأسباب هو النزعة العربيّة التي كان يحملها المتنبي وتجلّت في معظم أشعاره، فقد كانَ كما يُعبّر حسين مروّة: "أعظم شاعِر عربي غنّى معاركَ النضال العربي، في زمن كانَ هذا النضال يحملُ أثقالَهُ فارسُ بني حمدان وحده من أمراء العرب" (7).‏

2-لقد كانت الحقّبة التي قُدّرَ لأبي الطيب أن يظهَرَ فيها (وهي القرن الرابع الهجري) حقبة عصيبة من تاريخ العرب، كانت البلادُ خلالها عُرضةً لهجمات الروم الطامعين، وكانت الانقسامات في الداخل شديدة، والاحترابُ على قدمٍ وساقٍ بين الأمراء، بالإضافة للانتفاضاتِ و الثورات المختلفة.‏

3-عادَ المتنبي من الباديةِ إلى الكوفة يحملُ فكرةَ الثورة، سواء لاتصالِهِ وتأثّرهِ بالقرامطة، أو لغير ذلك.‏

لقد عادَ وقد امتلأت نفسُهُ بأمرٍ كبيرٍ يدعوهُ أن "يرى الموتَ في الهيجا جنى النحلِ في الفمِ"، "كانَ في ذلكَ الحين على شعورٍ بأنه يحملُ قضية هي أكبر من قضيتِهِ الخاصة، وأن هذهِ القضية ذات صلة بنظام الحكم، أو بالأشخاص الذين يُديرونَ أمر الدولة في وطنِهِ وقومِهِ" (8).‏

4-تميّز المتنبي بإحساسِهِ العميق بتلكَ الصلة الغامضة بين قضيّتِهِ الخاصة، وهي قضية فقرهِ وحرمانه، و قضية مجتمعِهِ من جهةٍ أُخرى بما يعنيهِ ذلك من الأوضاع السياسيّة والاجتماعيّة العامة التي يفرضُها نظام دخله الفساد، أو حكامٌ فاسدونَ مفسدُون.‏

5-في شعر المتنبي على حد تعبير محيي الدين صُبحي "من الرؤيا- ما يفوقُ أي شاعِر آخر بالعربيّة. ففي أحسن حالاتِهِ يجعلنا المتنبي نعيشُ بين الحلمِ و الواقع، بين المثال والحقيقة، بين الموتِ والحياة، وأخيراً بين الخلودِ والحدوث" (9).‏

6-إن شعر المتنبي في طموحِهِ وغربتِهِ ينقلنا- على حد تعبير أدونيس- "إلى طموح الإنسان وغربته في كل وقتٍ، لا إلى طموح المتنبي وغربته وحسب إنه هنا وهناك يجعلُ من اللحظةِ أبداً ويشيعُ الأبدَ كلّهُ في لحظةٍ واحدة" _(10).‏

7-شخصيّة المتنبي شخصيّة مُحيّرة ومتعدّدة الجوانب وعلى قدرٍ كبير من الإغراء للفنانين والشعراء وهي لازالت مثيرة للجدلِ والخصومةِ حتى الآن.‏

(1) التاريخ العربي والإسلامي لا يشمل فقط الشرق الأوسط. ومن الغريب أن نسمع شاعراً كأمل دنقل يقول ذلك.‏

 

التوقيع

 


تِدفا على جال ضوه بارد إعظامي=والما يسوق بمعاليقي ويرويها
إلى صفا لك زمانك عِل يا ظامي=اشرب قبل لا يحوس الطين صافيها
 
 
رد مع اقتباس