عرض مشاركة واحدة
  #4  
قديم 01-04-2005, 03:19 PM
ابومحمد الشامري ابومحمد الشامري غير متصل
ابوحمد الشامري ( سابقا )
 
تاريخ التسجيل: Dec 2004
الدولة: شـبـكـة مـجـالـس العجمـــــان
المشاركات: 19,132
معدل تقييم المستوى: 10
ابومحمد الشامري قام بتعطيل التقييم



الإبداع والجنون

(1)-لمحة عامة:‏


في مراحل تاريخية سابقة سادت أفكار متشابهة إلى حد ما بين العديد من المجتمعات. فحين ساد في المجتمع العربي ما قبل الإسلام تفكير مفاده أن الشاعر حين تأتيه حالة الدفق الإبداعي يكون مسكوناً بشيطانه الخاص ولشياطين الشعر العربي، كما تكلمنا سابقاً، موطن خاص به هو وادي عبقر. وخلال القرن السادس عشر مال الأطباء في إنكلترا بشكل عام اعتماداً على سلطة الكتاب المقدس إلى القول بأن التلبس الشيطاني هو المسؤول عن الجنون عند الأشخاص العاديين كما عند المتفوقين والمبدعين.‏

واستمر هذا الاتجاه الذي يربط العبقرية بالجنون حتى أيامنا هذه . وقد تم النظر عند الإغريق للجنون على أنه ظاهرة مقدسة مع أنهم عدوه أيضاً مرضاً عقلياً. لكن مصطلح الجنون لم يثبت على حال واحدة.. فقد ارتبط بشكل ما في تعريفه بالعقل غير المنظم وبأنه يمثل أنواعاً وتجليات عديدة للسلوك اللاعقلاني.‏

"وظل هناك تفاعل وتداخل بين المعاني الخاصة بالجنون باعتباره يشكل نوعاً معيناً من المرض العقلي وبين الإطار المعرفي المميز المرتبط بالسلوك اللاعقلاني. وربما كان هذا هو أحد الأسباب الكبيرة التي وقفت وراء عمليات الربط بين سلوك المبدع الغريب الشاذ في بعض الأحيان وسلوك المجنون الغريب الشاذ أيضاً(1).‏

والمجنون ليس من كانت سويته العقلية متدنية. فثمة فرق شاسع بين الجنون والبله. وقد ميز (جون لوك) بين الأبله (ضعيف العقل) وبين المجنون، الأبله محروم من العقل أو غير قادر على استخدام قدراته العقلية بشكل ناضج، بينما المجنون مضطرب لكن قدراته العقلية تكون نشطة. والمجانين في رأي لوك يبدو أنهم يعانون نقيض ما يعاني منه البلهاء لأنهم يبدون قد فقدوا قدرتهم على الاستدلال مع أنهم يقومون بالربط بين الأفكار بشكل خاطئ أنهم يضلون طريقهم، ويخطئون مثل البشر الذين يدافعون عن الحق استناداً إلى مبادئ خاطئة(2).‏

المجنون تتداخل سماته السلوكية مع سمات العاشق من حيث المخيلات القوية فهما صاحبا خيال أكثر تأثيراً.. من هنا قد يرى البعض في الشاعر أنه الذي تستبد به الخيالات والأحلام فما الحلم إلا حالة جنون عابر يشفى منه المرء حين يستيقظ وكذلك يشفى الشاعر من جنونه حالما تهدأ نفسه وترتاح مخيلته بعد ولادة القصيدة.. وكذلك الحال مع الرسام والنحات وغيرهم من المبدعين.‏

لكن الأحلام كما تحدثنا الأساطير، ويؤكد علماء التحليل النفسي وإن كانت تبدو شكلاً من أشكال الجنون، بحسب ما ذكرنا، فإنها كانت عبر العصور تعدّ سبيلاً للشفاء ففي ملحمة جلجامش ما يدلنا على ذلك الوعي العميق الذي ساد في الأساطير السومرية وفي مملكتي آشور وبابل، بالفعل الشفائي للأحلام، جلجامش يطالب الجبل أن يأتي لصديقه أنكيدو بحلم مطمئن فيقول لـه: أيها الجبل، يا موطن الآلهة، أرسل حلماً لأنكيدو، ابعث إليه بحلم مطمئن(3).‏

إن فكرة ارتباط العبقرية بالجنون قد تجد ما يؤيدها في أن بعض المبدعين تكون لديهم أعراض عصابية أو ذهانية وقد تبدو قوية أكثر مما هي عند الناس العاديين. وأن كلاً منهما تتميز بخبرات عقلية يجد الفرد العادي أنه غير قادر على فهمها.. لكن هل كل مبدع مجنون؟‏

(2)-العبقرية والجنون:‏

سواء كانت العبقرية قريبة من حالة الجنون، أو بعيدة عن ذلك، أو مساوية له أو أنها أحد وجوهه. فإن حالة المبدع في لحظة إشراق الفكرة أو المعنى هي حالة خاصة متميزة ليست مما يعرف الناس من الحالة السوية للشخص أو لسلوكه.‏

ففي محاورة ايون ينسب (أفلاطون) العبقرية إلى الإلهام، فيقول: "الشاعر كائن أثيري مقدس ذو جناحين، لا يمكن أن يبتكر قبل أن يُلهم فيفقد صوابه وعقله، وما دام الإنسان يحتفظ بعقله فإنه لا يستطيع أن ينظم الشعر".‏

وبعض الشعراء لا يستغرب أن ينعت بالجنون ولا يرفض ذلك بل يذهب، بحسب (ترلنغ) إلى حد القبول بأن مرضه ملازم لقدرته على قول الصدق. وإن ملاحظة المبدع وهو في حالة إشراق الفكرة لا تخفي ما يعانيه من عذاب نفسي بل وجسدي أيضاً، لكنه عذاب مستحب، يشبه عذاب المرأة خلال المخاض، فهو يعاني عذاباً وألماً يقربانه من (الماسوشي) الذي يستمتع بإيذاء نفسه(4).‏

أما (مصطفى سويف) فإنه يرى في عملية الإبداع الشعري ما يقربها من وصف الجنون، إذا أنها كما يقول تتم عادة في مرحلة تقع بين اختلال الأنا واتزانها، وهذا أحد أسباب إطلاق وصف الجنون كصفة ملازمة في غالب الأحيان للإبداع. ففي حالة الجنون –وقد ذكرنا بعض سماته فيما سبق- وهو مفهوم فضفاض يتضمن حالات مرضية متعددة، تكثر فيها عمليات تتميز بحرية التفكير وانطلاق العقل وجموحه وإذكاء الخيال وفيضانه وحضوره، وهو حالة يتوق إليها كثير من الأدباء والفنانين. وليس غريباً على الذهن العربي وصف الشاعر على أن به مساً أو أنه مسكون بالشياطين، كما أسلفنا.‏

هذه النظرة التي تربط العبقرية بالجنون أو تقربها منه تدفعه مع نتائج الدراسات القائمة على استخدام الروائز والاستبيانات. ففي دراسة أجراها (جيز وجاكسون) وهما من علماء النفس المشهورين وجدا أن المبدعين يجنحون في إجاباتهم إلى الريبة التي يوحون بها إلى الفاحص أو المعلم، وهي ريبة غير معترف بها وينفيها المعنيّ بشدّة، وأنهم يصنفون حب الدعابة تماماً في عداد الصفات التي يتمنون أن يوصفوا بها، وتتجلى إبداعاتهم في النتاجات الخيالية، ولكن بعض الدعابات التي ظهرت في إجاباتهم غير خالية من الذوق الرديء وغرابات الخيال(5).‏

وتضيف نتائج الدراسة أن المبدعين تميّزوا بنتائج غير متوقعة، وبالدعابة، وعدم اللباقة والمخيلة، ويتميزون أيضاً بأمر يصعب شرحه يتمثل بالعنف الأكبر الذي ينتشر في قصصهم الصغيرة.‏

(3)-الإبداع والجنون من خلال بعض الشهادات:‏

تحدثت الرسامة (ميلي) عن زوجها (راسكين) قائلة:‏

"إنه عملاق في كل ما يخص الموهبة الأدبية، ولكنه بالنسبة إلى كل ما تبقى موجود مسكين ضعيف لا لون له، ولا قلب ولا شجاعة".‏

وسيرة حياة (راسكين) لا تكذب شهادة زوجته فيه. فقد انتهى هذا الأديب إلى المعاناة من نوبات من الجنون، وغرق في السنوات الإحدى عشرة الأخيرة من حياته في الجنون نهائياً.‏

ويضرب (كريشمنر) أمثلة كثيرة على متاخمة العبقرية للجنون من خلال ذكره لعدد من المبدعين الذين انتهوا إلى حالات منه: ستيورات ميل، دوستوفيسكي، غالتون، موباسان، نيوتن، نيتشه، روسو، شوبان، وفان غوخ. خلال جزء من حياتهم على الأقل.‏

يقول (جان بول سارتر) في ترجمته الذاتية، (الكلمات)، الصادر 1963:‏

ها أنذا أرى بوضوح، لقد خاب أملي منذ عشر سنوات تقريباً، وأنا إنسان يستيقظ بعد أن شفي من جنون طويل مر عذب معاً، ولا يستطيع الخلاص من ذلك، ولا يملك أن يذكر دون ضحك ضلالاته القديمة، ولا يعرف ماذا يصنع بالحياة(6).‏

ومما يوصف به (غوغول)، أنه كان طفلاً وديعاً ومتسامحاً تارة، وطوراً متحذلقاً لا يطاق، ويعتقد أنه أسمى من الجميع.‏

وفي رواية ما قاله جدّ نيتشه لأمه مصداقاً لما سبق:‏

"قد يصبح ذكر البط القبيح الصغير ذكرنا ذكر بجع، إنه طفل موهوب بصورة غريبة، وينبغي ألا نتوقع منه أن يلتزم بقواعد الناس العاديين"(7).‏

وهل ما آلت إليه حالة كل من خليل حاوي، وتيسير سبول إلا ضرب من الجنون؟ وفي (مي زيادة) ألم تودع مستشفى الأمراض العقلية؟‏

وفي وصف لحياة الروائية الإنكليزية (فيرجينيا وولف) نرى أنها عاشت حياتها في خوف دائم من أن تسقط فريسة الجنون، إذ كانت تنتابها أحياناً حالات من الكآبة والقنوط تهدد بانهيار قواها العقلية. وقد سبق أن أصابتها إحدى النوبات وكادت أن تذهب بعقلها فعلاً قبيل الحرب العالمية الأولى بقليل. وظلت تقاوم هذه النوبات حتى عام 1942 حين انتهت من روايتها الأخيرة وأصبحت منهوكة القوى بسبب الإرهاق في العمل والخوف الدائم إضافة إلى التوتر العصبي الذي أصابها جراء الحرب. فخرجت ذات صباح متجهة صوب شاطئ النهر كعادتها.. وحين خرج زوجها وأختها يبحثان عنها، لم يجدا سوى عصاها ملقاة على الشاطئ.‏

(4)-الأدب والخروج عن المألوف:‏

ينطلق الاتجاه الذي يربط بين العبقرية والجنون من سمة رئيسة تجمعهما تتمثل في ابتعاد من يوصف بهما عن المألوف. وكونهما يسعيان إلى صورة ما من صور الفكر، فلا يخلو فكر معقول من الجنون، فالعقل والجنون متلازمان. ويرى (باسكال) أن الناس مجانين بالضرورة، أما كونهم غير مجانين فصورة أخرى من الجنون. أما عن علاقة الأدب بالجنون فتتمثل بأن كلاً منهما يقوم على الخيال ويعمل على كشف الوهم في قلب الواقع وإبراز قيمة الإنسان.‏

يبدو سلوك المبدع أحياناً، إن لم يكن في غالب الأحيان، شاذاً عن القواعد المألوفة، لأن الإبداع يقتضي جهداً متواصلاً ليس عادياً، وصبراً ومثابرة. ويتطلب من صاحبه مرونة عقلية من جهة، بينما يكون هو ذا حساسية غير عادية من جهة أخرى. تستحوذ الفكرة عليه وهو في حالة يصبح فيها موجهاً قواه نحوها، فيبدو سلوكه شاذاً عن القاعدة أو عن المألوف، ويكون حينئذ أشبه ما يكون بمن ينتابه مرض مما يمر بالشاعر أو الفنان.‏

ومن حالات المخالفة للمألوف عند معظم المبدعين رفضهم ما يسعى إليه العموم من الثراء المادي، وعزوفهم عن السعي لتبوؤ ما يتزاحم الناس عليه من مراكز توصف بالمرموقة. فيحتقرون المناصب والمظاهر الأرستقراطية، ويرفضون بعناد أن يرتدوا عن قناعاتهم أو التنازل عنها حتى لو كانت في رأي من حولهم أفكاراً مجنونة أو منحرفة(8).‏

لكن (فوكو) يميز في الجنون ما هو في حدود المرض العقلي الذي ينتهي في غيابه كل إبداع، وبين ما هو ذو سمات إيجابية كبرى يناط بالأدب الرفيع والفكر الفذ استغلاله في إنتاج ضروب من المعارف والحقائق الباهرة التي لا تفطن إليها العقول الأليفة والسوية(9).‏

وتختلف الرؤية الأدبية للجنون جذرياً عن الرؤية العلمية، إذ ترفض الأخيرة الجنون على أنه انحراف غير مقبول، تقوم الرؤية الأولى على الذاتية الخالصة وعلى محاولة التفهم لدوافع الجنون وبواعثه، وفي حالات قصوى على تقمص شخصية المجنون أو اللجوء إلى تجارب غير عادية يقصد بها اختراق حدود العقل المألوف وكسر قوانينه وأعرافه المتوارثة(10).‏

كتب (جان لوي بودري) في مقالة له عنوانها (فرويد والإبداع الأدبي):‏

"المبدعون على صلة من نوع خاص بالجنون (...) والأثر الفني هو مظهر من مظاهر الهذيان التي يتملك المبدعين (...) الجنون، التملك، الهذيان، الإبداع هي ألفاظ، الواحدة منها قابلة لأن تحل محل الأخرى"(11).‏

في عام 1621 أعلن الكاتب والعالم ورجل الدين الإنكليزي (روبرت بروتوث) أن كل الشعراء مجانين، وأضاف إليهم فيما بعد الفنانين والفلاسفة، أما (درايدن) فيقول بالمعنى ذاته شعراً:‏

"العقول العظيمة مرتبطة يقيناً بالجنون على نحو وثيق‏

وهي الحواجز الرقيقة التي تفصل بعضها عن بعض‏

أما الشاعر الرومانسي الفرنسي المعروف (لامارتين) فهو يقول في المعنى ذاته:‏

"تحمل العبقرية في ذاتها مبدأ الهدم والموت والجنون كما تحمل الثمرة في باطنها الدود".‏

وقاد الخروج عن المألوف العديد من المبدعين إلى حتوفهم، فقدموا حياتهم ضريبة لموهبة رأى فيها الآخرون انحرافاً لم يحتملوه. فقد قتل (طرفة بن العبد) بأمر من ملك لم يتحمل خروجه عن المألوف ولم يستسغ سلوكه. ودفع المتنبي حياته ثمناً لخياله الشعري الذي صاغ فيه طموحه، فهجا من هجا، وفخر بنفسه ما رأى فيه الآخرون تجاوزاً عن حدود ألفوها، وكانت نهايته بحسب ما ترويه بعض الروايات، بسبب أحد أبيات من قصيدة له:‏

الخيل والليل والبيداء تعرفني .... والسيف والرمح والقرطاس والقلم‏

ومن المبدعين مَنْ كان ثمن إبداعاته صحته وأمنه واستقراره، خاصة حين لا يجد المبدع التقدير والتقبل من الآخرين فيتعرض للاضطراب والقلق. فهذا (نيتشه) فيلسوف القوة الكبير كان اضطراب الأعصاب ملازماً للحيّز الأكبر من حياته، عاش وهو يعاني الأرق المزمن والفساد في المعدة وكانت حياته حياة شقاء، إلى جانب أن المبدع في عناده وتشبثه بقناعاته واندفاعه في البحث والعمل يلاقي ما يلاقيه من عذاب يضع نفسه في أتونه وهو في معظم الأحيان في حالة إرادية لا قسرية، لذلك فهو يوصف في الغالب بأنه ذو شخصية (مازوشية)، كما ذكرنا سابقاً، وتبلغ به حالة الاضطراب النفسي تلك إلى العصاب أو إلى ما يشبهه.‏

هذا الخروج عن المألوف في سلوك المبدعين سهّل على الآخرين وصفهم بالجنون، وليس الأمر بدعة عصر من العصور، وإنما هو جارٍ في كل العصور. ألم يربط (أرسطو) بين الشعر والجنون؟ أما هوراس فقد فعل الشيء ذاته.‏

لكن ما يهوّن في الأمر أن أولئك الذين ينعتون المبدعين بالجنون، يعترفون في مواقف كثيرة بملازمة الجنون لتصرفات البشر، وهناك من يطلق هذه الصفة على حيوانات أخرى أيضاً.‏

والجنون، كما قلنا، درجات، وهو أمر نسبي. فما يعد اليوم جنوناً قد يغدو في يوم آخر سلوكاً مقبولاً وقد يوصف بالعقلانية أو التعقل.‏

وإذا راجع المرء سلوكه وحاول تفحص ما يطرأ على أحواله النفسية وسلوكه من تغيرات، يدرك أنه لا يستطيع التخلص من جنونه تخلصاً كاملاً، فكم يخفي مظهر الرزانة الذي يتزيا به من قلق قريب مما يتصف به الجنون، وكم من حكم يصدره على سلوكه فيصفه بالسلوك غير العاقل ويخاطب نفسه (لو كنت في عقلي الساعة لما حدث ما حدث). فكأن الحدود بين التعقل والجنون ليست واضحة..!‏

وقد ربطت بعض الدراسات السريالية بالجنون حين اعتبرت الجنون نقيض العقل.‏

وقد كان مؤسس السريالية (أندريه بريتون) يؤمن بأن الجنون يمثل الوضع الطبيعي للإنسان، واستعان بعلم النفس المرضي ومختلف ظواهر الهلوسة العصابية والفصامية من أجل تعريف الشعرية(12) .‏

(5)المبدع على حافّة الجنون:‏

للملاحظ العادي يتبدى الجنون في اضطراب الخيال الذي يقربه من حالة الهذيان، حيث يكون خيال المريض شديد الحيوية، وهي حالة تشبه إلى حد بعيد الصورة المثالية للشاعر حيث يكون أقرب إلى الجنون من أي شخص عبقري أو ينتمي إلى زمرة المبدعين.‏

(المجنون والعاشق والشاعر هم أصحاب الخيال الأكثر تأثيراً).‏

فيطلق المبدعون رؤياهم التي قد تؤذي الفئات المتسلطة أو الأعراف السائدة، (حتى الأنبياء وصفوا من مخالفيهم بالجنون..). وقد صنف (نيتشه من معاصريه ومواطنيه في زمرة المجانين وقد انتهى فعلاً إلى هاوية الجنون، لأنه كان يعد اليقين الحقيقي الطريق إلى الجنون. وكان الجنون بالنسبة له أحد المتطلبات الضرورية لإحداث التحول الجذري في وجدان الفنان وإطلاق طاقاته الكامنة. ومن نبوءاته التي كانت سبب رميه بالجنون والانحراف والشذوذ إعلانه أن الإنسان الجرماني يسير نحو الكارثة، وقال بتعريته من الأقنعة الحضارية والأخلاقية والفكرية الزائفة:‏

"ويل لهذه المدينة العظيمة، أنا الذي تمنيت، أن أشاهد أعمدة النار التي تحترق فيها، لأن هذه الأعمدة النارية يجب أن تسبق الظهر العظيم، ومع ذلك فلهذا أوانه وقدره الخاص".‏

ليس خروج المبدعين عن المألوف هو الغالب في سلوكهم. وإنما يظهر ذلك في لحظات معينة خاصة قبل توليد الفكرة أو القصيدة أو الخطوط العامة للوحة أو الكشف عن حقيقة علمية. (خروج أرخميدس عارياً من الحمام، وهو يصيح: وجدتها وجدتها). ومن الحالات التي تبدو فيها على المبدع أشكال سلوكية تقربه من الحد الذي يوصف به الإنسان بالجنون. يحدثنا (حنا مينة) عن حالة مما ذكرنا في وصفه للشاعر الكبير (محمد مهدي الجواهري) في موقف محدد، موقف تولد فيه عنده قصيدة جديدة، إن غرابة ما شاهده في سلوك الشاعر وهو الذي يغلب على السلوك الذي يصدر عنه ما هو رزين، فيقول:‏

"رؤيتي الأولى له –يعني الجواهري- كانت في أواسط الخمسينات، حين جاء دمشق مخلفاً (غاشية الخنوع وراءه)، دخلت غرفته في الفندق الذي نزل فيه، في الظهيرة، كانت النوافذ مغلقة، والكهرباء ضعيفة، وكان يدور في الغرفة في حالة من الغضب الغضوب، وهو يتمتم بما لا أدري من الكلمات، كان الدخان منعقداً، وأعقاب السجائر في كل مكان، في المنفضة، على حديد مشعاع التدفئة على الأرض، وكان قد كتب على ظهر علبة سجائره، وعلى أوراق صغيرة، وعلى الجدران. وقال لي إنه يدون مطلع المورد في القصيدة فقط. وبعد ذلك في الملعب البلدي –الذي كان في موقع معرض دمشق الدولي الحالي –ألقى قصيدته في تأبين الشهيد عدنان المالكي، والتي مطلعها:‏

خلفت غاشية الخنوع ورائي وجئت أقبس جمرة الشهداء‏

هذه الحالة يرى فيها (أندريه جيد) بعداً جمالياً وفكرياً ما كان ليكون لولا هذه الحالة من الجنون، حيث يقول:‏

"إن أجمل الأشياء هي التي يقترحها الجنون ويكتبها العقل. ينبغي التموقع بينهما بالقرب من الجنون حين نحلم، وبالقرب من العقل حين نكتب".‏

هذا البعد الجمالي على حافة الجنون، حدثنا عنه (جبرا إبراهيم جبرا) في صورة بهية بدت في سلوك فدائية فلسطينية شاعرة، بقوله:‏

"إنني لا أنسى مطلقاً لقائي مع شابة فلسطينية جذابة قرأت لي قصيدة، أو بالأحرى عدة قصائد، سلسلة من القصائد القصيرة، كانت قد كتبتها في دفترها الصغير خلال ليلة من ليالي القتال في عمان (أيلول 1970)، وكانت إحدى المقاتلات في المقاومة وكانت تقوم بواجبها في ليلة رعب، وهي مسلحة برشاش (كلاشينكوف) تدافع مع عدد قليل من رفاقها عن أحد الأحياء... وكانت في فترة الهدوء الطارئ بين نيران المدافع والانفجارات، تضع دفترها على رشاشها وتكتب في الظلام أبياتاً ملتاعة، لم تفكر قط بأنها ستحيا لتقرأها... إن شعراً كهذا لهو صوت من الجحيم".‏

قوة الإبداع في الأمثلة التي سقناها حين تستغرق سلوك صاحبها فإنها ترهنه للاوعي الذي يشكل في لحظاته تلك سلوكه وحياته أكثر مما تشكلهما إرادته الواعية.‏

وما يقرؤه علماء النفس في مثل هذه الأمثلة، يعدونه دليلاً على ما يتفرد به المبدع من سلوك بخلاف الآخرين من بني البشر، وهو نتيجة لسعة خياله وانطلاقه ولما يمتلكه من حدس ثاقب بحيث أنه يرى ما لا يراه الآخرون فيكون عرضة للاتهام في كونه شخصاً سوياً. وبسبب من ظهور البادرة الإبداعية أو الإرهاص بولادتها يكون شارد الذهن، غير قادر على توزيع انتباهه بين ما يعتمل في داخله وما يجري حوله كونه في حالة من الانتباه المركّز، فيغدو أمام الآخرين وكأنه يعيش في عالم غير عالمه فهو يعيش حلمه أو ما يشبه الحلم وفي حالة ما يسمى (تغير الوعي)(13).‏

ومع هذا فلا مسوغ لإطلاق صفة الجنون على المبدع، لأنه ثمة حدود ما زالت تفصله عن المرض العقلي. فيما يلي مثال عن (ك. غ. يونغ) يميز فيه بين سلوك الشخص العادي وسلوك المبدع.‏

طلب الروائي "جيمس جويس" نصيحة (يونغ) كمحلل نفسي بما يتعلق بسلوك ابنة الروائي التي تسبب له القلق. بعد الفحوصات الكثيرة استنتج (يونغ) أن الابنة مصابة بالانفصام لأن تفكيرها وكلامها يتسمان بالتشويه والانحراف الشديدين.‏

احتج (جويس) على هذا التشخيص قائلاً:‏

حاول يونغ أن يمدّ حدود اللغة الإنكليزية بحيث تغدو بنتي منحرفة ومشوهة.‏

فأجاب يونغ: إن جويس وابنته مثلهما كمثل شخصين ذهبا إلى قاع النهر، فبينما استطاع جويس أن يغوص إلى الأعماق النفسية للحياة ويعود منها، فإن ابنته قد غرقت فيها".‏

المريض العادي إذاً لا يستطيع أن يساعد نفسه في التفكير والكلام، بينما استطاع (جويس) أن يطور ذلك من خلال كتاباته الإبداعية.‏

فأنا المبدع تقوم على أساس من الوعي والتوجه والاستبصار ووجود إمكانات لديه للتنمية. ويتزايد الشعور بالذات عنده ويكون مطلوباً في حالات كثيرة. إلا أن هذه الأمور تكون غائبة في حالة المريض عقلياً.‏

وفي عمل المبدع ما يتوجه أساساً للتواصل مع الآخرين، ولا يكتمل عمله في ذهنه إلا بتوقع أو حدوث عمليات التلقي والاستقبال المناسبة لهذا العمل. فالإبداع في النهاية هو عملية تفاعلية قوامها الاحتكاك الإيجابي النشط بين المبدع والمتلقي بينما يتصف المريض عقلياً بالانعزال والانفصال الاجتماعيين والاجترار الداخلي.‏

لكن ذاكرة المبدع الناشطة قد تؤدي أحياناً إلى آثار سلبية تظهر عندما يحطم المبدع ما أبدع، حيث يتمثل نشاط الدافع لديه بدور الذاكرة التي تبدو على شكل حلم تغويه وتجذبه إليها مسحوراً بها مما يؤدي إلى تحطيم فنه وهلاكه، ويمثل (جبرا إبراهيم جبرا) ذلك بعروس البحر في الأساطير الإغريقية التي تغوي البحارة فينجذبون نحوها مما يؤدي إلى تحطم سفنهم وهلاكهم.‏

المبدع إذ يوصف بالجنون فذلك تجن عليه في غالب الأحيان وما ذلك –كما ذكرنا من قبل- إلا إحدى نتائج الحلم الذي –كما يقول مصطفى زيور- يجمع في أفق واحد بين العقل والجنون من حيث أنه خبرة من خبرات الإنسان العاقل ولكن طبيعته الهلوسية لا تختلف عن هلوسة المجنون.‏

وما من إنسان وخاصة المبدع إلا وحاصرته أشكال من أشكال التوتر والقلق وإن بدرجات متفاوتة من شخص لآخر. وبذا نفهم (سر غربة الراعي والسيرة الذاتية) التي كتبها (إحسان عباس) ووصفها أنها غربة نفسية، فيها نرى كيف كان هذا الكاتب الكبير المبدع يحاول نسيان نفسه من خلال عمله المتواصل، وفيها يستشف القارئ عمق المعاناة النفسية والمعرفية التي خاض غمارها إذ أنه "يرى فيما رأى النائم أن الماء قد غمر الطريق وأخذ يرتفع مع ارتفاع الجبل، لكنه أمعن في التسلق دون أن يلتفت إلى والده الذي كان يرجوه أن يعود(14).‏

وأخيراً مهما اختلفت التنظيرات المتعلقة بالعملية الإبداعية، فإن الإبداع يبقى قوة فريدة من نوعها في هذا الكون ويبقى هبة الحياة للنوع البشري. وقدرة الإنسان على استخدام خياله في الإبداع هي قدرة موجودة دائماً وهي بحاجة إلى رعاية واهتمام مستمرين.‏

ويتمتع الشخص المبدع بقدرة على استشعار الحاضر واستشراف المستقبل لأنه على اتصال دائم بعوامل لا شعورية لم تصبح بعد "موضع تقدير الرجل العادي وإن كانت مبشرة بحدوث تغييرات في المواقف الاجتماعية، لأن المبدع هو طليعة زمانه.. وهو أداة الحياة النفسية اللا واعية والقائم على تشكيلها، وهي أحياناً حمل ثقيل جداً، تحتم عليه التضحية بالسعادة وبكل شيء يجعل الحياة في نظر الإنسان العادي، جديرة بأن يحياها"(15).‏

(1) شاكر عبد الحميد: المرض العقلي والإبداع الأدبي ص45- في عالم الفكر (الجنون في الأدب)‏ 18/1، 1987.‏

(2) السابق، ص46.‏

(3) السابق، ص51.‏

(4) سامي قدوح: عملية الإبداع –ص137- الفكر العربي المعاصر، ع 13 ,‏

(5) رومي شوفان: المبدعون ص124، منشورات وزارة الثقافة، ترجمة وجيه أسعد.‏

(6) عبد الرحمن بدوي: التيارات الفكرية في فرنسا اليوم، ص29، عالم الفكر 15/2، 1984.‏

(7) رومي شوفان: س.ذ. ص164.‏

(8) عالم الفكر 15/1، ص70.‏

(9) عالم الفكر 18/1، ص19.‏

(10) السابق، ص21.‏

(11) الفكر العربي المعاصر: ع 23- ص130.‏

(12) الفكر العربي المعاصر- ع11- ص129.‏

(13)الثقافة العالمية –ع49- ص61.‏

(14) إحسان عباس: غربة الراعي- دار الشروق- عمان 1996- ص 174.‏

(15) أنطوني ستور: فرويد ويونغ ومفهوم الشخصية- في العبقرية (م. س.ذ).

 

التوقيع

 


تِدفا على جال ضوه بارد إعظامي=والما يسوق بمعاليقي ويرويها
إلى صفا لك زمانك عِل يا ظامي=اشرب قبل لا يحوس الطين صافيها
 
 

التعديل الأخير تم بواسطة : ابومحمد الشامري بتاريخ 01-04-2005 الساعة 03:42 PM.
رد مع اقتباس