عرض مشاركة واحدة
  #5  
قديم 12-07-2005, 06:21 AM
ابومحمد الشامري ابومحمد الشامري غير متصل
ابوحمد الشامري ( سابقا )
 
تاريخ التسجيل: Dec 2004
الدولة: شـبـكـة مـجـالـس العجمـــــان
المشاركات: 19,132
معدل تقييم المستوى: 10
ابومحمد الشامري قام بتعطيل التقييم

الاستهلال بنصٍ للمتنبي
إن استهلالَ نصٍ أدبي ما، بنصٍ آخر هو أمرٌ كثير الشيوع في الأدب المعاصرِ عامةً؛ وفي الشعرِ على وجهِ الخصوص، وهو وإن كان شديد الشبه بالتناص الثقافي؛ من حيث هو تعالق بين النص الذي يبدعُهُ الأديب ومجموعة النصوص الأخرى الهامة والشائعة، حين يستدعي السياق الدلالي ذلك، فتلتحمُ بالنص وربّما ذابت فيهِ، إلا أن النص الذي يستهلُّ بهِ الشاعرُ قصيدتُهُ -على سبيل المثال- يبقى خارجيّاً لا يندغمُ بالمتن الشعري ولا يذوب فيه.

الاستهلالُ تقنية على غايةٍ كبيرةٍ من الأهميّة، إنه في كثيرٍ من الأحوال يضَعُ بين يدي المتلقي مفتاحاً ما للنص، أو يضيءُ جانباً كانَ من شأنِهِ أن يكونَ مُظلماً، وربّما يُساهِمُ في رفد النص الجديد بأبعاد نفسيّة وجماليّة واجتماعيّة، ما كان لهُ وحيداً أن يمتلكها، وقد يكون بذرة الإبداع الأولى التي أنتَشتْ ونمت فقدّمت للشاعر الجديد قصيدته الجديدة وما إلى ذلك. لكن هذهِ التقنية الهامة قد تُصبح أحياناً في غير صالح القصيدة؛ وذلك حين يكون النص المقبوس طويلاً جداً فيصبحُ عالةً على القصيدة، وتنوء بحملِهِ، وقد نرى أحدهم يستهلُّ قصيرةً أو متوسطة بمجموعةِ نصوص لشعراءَ أو متصوّفينَ أو مفكرينَ من عصرٍ ما وكأنَهُ يُريد لقصيدتِهِ تلك أن تقولَ كل مافي الدُنيا من أفكارَ وهواجسَ ومضامين؛ قَدْ يأتي الاستهلالُ تزينيّاً وزائداً أحياناً، وهذهِ مسائلُ يستطيعُ الشاعِرُ بحسّهِ وذائقتِهِ وخبرتِهِ ألا يقعَ فيها، أو أن يتجاوزها قبلَ أن يظهَرَ عملُهُ للناس.

يستهلُّ محمود درويش ديوانه "هي أغنية... هي أغنية" الصادر سنة 1986 بشطرٍ من شعر المتنبي - "على قلقٍ كأنَ الريحَ تحتي"، وحين نعلمُ أن قصائد هذهِ المجموعة كُتبت بين عامي (1984-1985)، وسيطَرَ عليها نَفَسٌ شعريٌّ مخذولٌ وحزين، إثر الاجتياح الإسرائيلي للبنان، وحصار عاصمتها، وما تلا ذلك من هزيمة للمقاومة الفلسطينية، وتخلٍّ عربي عنها، وخروجها إلى البحر ، فسندرك أن المسألة ليست فقط مسألة إعجاب درويش بشطرٍ من بيتٍ للمتنبي، يمثّلُ حال الثاني وهواجسهُ في مرحلة معيّنة من مراحِلِ حياتِهِ الشاقة، لا. الأمرُ أعقد من ذلك.

أرادَ درويش أن يضعَ بين يدي المتلقي -وقبل أن يسمحَ لهُ بالدخول إلى عالمِهِ الخاص- تجربةً مشابهةً إلى حدٍ بعيد؛ مشابهة في الرحيل الدائم والمستمر حتى لكأن الرِحال هي أرضُ الشاعِر، مشابهة في ضياع الحُلم، وانكسار بقاياه، في الخذلان، وتنكّر الأصدقاء والإخوان، في الهزيمةِ وغيرها، ولو عُدنا إلى قصيدة المتنبي؛ تلك التي اجتزأَ منها درويش ذلك الشطر لوقعنا على الكثير مما قلت:

وحُسنَ الصبرِ زمّوا لا الجمالا



بقائي شاءَ ليسَ هُمُ ارتحالا



تهيّبني ففاجأني اغتيالا



تولّوا بَغْتَةً فكأنَ بيناً



وسيرُ الدمعِ إثرهُمُ انهمالا



فكانَ مسير عيسهِمِ ذَميلاً



مُناخاتٍ فلّما ثرنَ سالا



كأن العيس كانت فوق جفني



قتودي والغُرَيْريَّ الجُلالا



ألفتُ تَرَحّلي وجعلتُ أرضي



ولا أزمعتُ عن أرضٍ زوالا



فما حاولتُ في أرضٍ مُقاماً



أوجهها جنوباً أو شمالا (13)



على قلقٍ كأن الريحَ تحتي




وحين نترك المتنبي وندخلُ عالم محمود درويش تطالعنا قصيدتُهُ التي عنوانها "سنخرج":

"سنخرجُ؛

قلنا: سنخرجُ؛

قلنا لكم: سوفَ نخرجُ مِنا قليلا، سنخرجُ منا

إلى هامشٍ أبيضٍ نتأمّلُ معنى الدخول ومعنى الخروج

سنخرجُ للتوِ......"(14).

فنحسُّ ونحن نقرأ،أ، أننا لم ندخل عُزّلاً؛ لقد تمكنَ ذلكَ الشطر الصغير -بما استدعاهُ في ذاكرتنا- من شحننا بطاقةٍ إضافية من المشاعِر والأفكار ستكون عوناً لنا في فهم نصوص درويش وحالتِهِ النفسية والوجدانية، وعوناً لهُ علينا في الارتقاء بتلك المشاعِرِ والأفكار ومواصلة البناء عليها عبرَ ست عشرة قصيدة؛ كلها لها طعم الرحيل والاغتراب (سنخرجُ، نزل على البحر، غبار القوافل، عزفٌ منفرد، هذا خريفي كلّه... الخ).

والأمثلةُ ليست قليلة على هذا الشكل من أشكال التعامل مع المتنبيّ؛ فلفايز خضّور -على سبيل المثال- قصيدة عنوانها "المتنبي يقرأ في كتاب قاسيون"؛ تتألف من مقدّمة وستة فصول، استهلّها الشاعرُ بأبيات من شعر المتنبي، وأدونيس يفعل الشيء ذاته في ديوانه الأخير "الكتاب"؛ حيثُ يفتتح معظم فصوله بنصٍ للمتنبي، ولكنني سأتناولُ هذين المثالين بشيءٍ من التفصيل في الفقرات اللاحقة.



المتنبي عنصر في صورة جزئيّة
هنا يعمدُ الشاعِرُ إلى استخدام شخصيّة المتنبي بشكلٍ عابر، من خلال الإشارة إلى شيءٍ يخصّه (اسم، موقف، فكرة ما...)، فيخصصُ لهُ فقرة ضمن القصيدة؛ محاولاً شحن القصيدة بطاقة إيحائية كبيرة تأتي من خارج النص؛ وتكون عوناً للشاعِر، والأمثلة على ذلك كثيرة، منها استدعاء أدونيس العَرَضي للمتنبي في قصيدتِهِ "قبلَ أن ينتهي الغناء"، وهي من قصائده الجميلة التي تنضحُ من طفولتِهِ وذكرياتِهِ في القرية.

يبدأ أدونيس سفر التذكّر بغناءٍ عذب:

"عنقٌ جامِحٌ، عنقٌ حائِرُ-

الغيومُ تحيكُ عباءاتِها

والرياحُ تجيءُ خفافاً على صهواتِ الحقولْ" (15).

والشاعِرُ يبني قصيدته، وكأنّهُ يرى الأشياءَ من بعدينِ مختلفين جداً؛ من أعلى؛ وكأنه يمتلكُ عين طائرٍ يحلّقُ فوق الجبالِ والسهولِ، فيلتقطُ مشهداً عاماً لكل شيء.. للقرى وهي تتدلّى من ذؤاباتِ القمم، لساحَةِ القرية يجلسُ المتعبونَ فيها ويدور الحديث، للشتاء وهو ينزلُ من ذراه ليغطي العتبات، وما إلى ذلك.

والعين الأخرى هي عين الطفل نفسه، الذي يرى البيتَ بحبقِهِ ونعناعِهِ، والحقول التي يركضُ فيها ويُلاعُبها ويحدّثها حديثاً لم يعدْ يذكر منهُ إلا هرج العصافير؛ تغزو وتختارُ أشهى الثمار، ومن تلكَ الذكريات مايلي:

"يسمَعَ الطفلُ، ينهضُ، يمضي

ساعة الدرسِ حانتْ، والقناديلُ لازيتَ فيها.

شمعةٌ حامِلُ

وضعتْ نورها

بين أهدابهِ

نورها عاشقٌ ناحِلُ

لن يكون له أن يحيي

هذهِ الليلةَ المتنبي:

الهلالُ الذي يستضيءُ بهِ آفلُ" (16).

لقد جاء ذكر المتنبي هنا عارضاً؛ إنه أحد مكوّنات ذكريات الشاعِر، فقد كان يقرأهُ طفلاً كل ليلة؛ لكنّهُ في تلكَ الليلة، حيثُ لازيتَ في القنديل، وليس هناك إلا شمعة ناحلة، فمن المتعذّر أن يحيّيه حتى؛ قبل أن ينام.

والشاهدُ الآخر أختارُهُ لمحمود درويش: مِن قصيدتِهِ "أرى شبحي قادماً من بعيد"، التي يبدأها قائلاً:

"أطلُّ كشرفةِ بيتٍ على ما أريد" إلى أن يقول:

"أطلُّ على اسمِ أبي الطيب المتنبي

المسافِر من طبريا إلى مصرَ

فوقَ حصان النشيد" (17).

والحقيقة أن محمود درويش بهذهِ القصيدة يطلُّ على المكان الواحد، في أزمنة متعدّدة ومتعاقبة، فكأني به رياضياً، أو فيزيائياً يثبّتُ إحداثيات المكان (س،ع،ص)، ويغيّر إحداثي الزمن (ز)، فيرى من مكانهِ كل ما مَرّ على هذهِ البلاد، ويحاول أن يستشرف المستقبل، وبالتالي فاستحضارُهُ للمتنبي وغيره من رموز القصيدة ناجحٌ وموّظف.

وقد يكون الاستدعاء العرضي للشخصيّة انطلاقاً من صفاتِها أو بعض ميزاتِها دون اللجوء إلى الاسم؛ كما يفعل شوقي بغدادي في قصيدة عنوانها "سطران في آخر الشوق/ مكاشفة وداعيّة في الستين"- وهي سيرة الشاعر الذاتية مقدّمة بشكلٍ مكثّف وآسر؛ يقول شوقي:

"تُراني لأني ادعيتُ النبوّةَ

ثمَّ تماديتُ حتى سددتُ على الآخرين

فأوهمتهم أنني خاتم الأنبياءْ.

لقد حاورتني البلابلُ يوماً،

وما كانَ يكفي الحوارُ لكي أتكرّسَ،

ثم أقود المغنينَ

من أين لي كل هذي المواهبِ

كيف اقتنعتُ بأني ربُّ الغناءْ" (18).

إن هذا المقطع متعدد الدلالات والإحالات، لكنهُ -من وجهةِ نظري- يحيل أولاً إلى أبي الطيّب الشاعِر، الذي تروي إحدى الحكايات أنه ادعى النبوّة، حين كان في حمص، وسجنَهُ أميرُها لؤلؤ لهذا السبب- بغض النظر عن مصداقيّة هذهِ الحكاية التي يختلفُ فيها مؤرخو الأدب والنقّاد- وذلكَ لأن المتحدّث شاعِرٌ بالدرجة الأولى وليسَ باحثاً أو ناقداً مثلاً، شاعِرٌ يتحدّثُ عن تجربتهِ الخاصة، وحياته التي عاشها بكل أبعادها، بكلِ حلاوتها ومرارتها؛ وثانياً لأن المقطع يستندُ أيضاً إلى مايحملهُ الكثير من شعر المتنبي من "نزعةِ الزراية، ونزعة السيطرة"(19)- على حد تعبير يوسف سامي اليوسف.

وقد يعمدُ الشعراءُ إلى استدعائِهِ مستفيدين من أشعاره ذائعة الصيت؛ وهذا مافعلهُ محمّد عُمران في ديوانهِ- الذي سأعودُ إليه لاحقاً- وعنوانه "الدخول في شعب بوان"، خاصةً في القصيدتين الأولى "الدخول الأوّل -بوّان"، والثانية "الدخول الثاني -المجيء من الماء".

وينجحُ عمران في مواضع كثيرة منها حين يقول:

"حرنت خيلي هنا،

الفرسانُ مرّوا في طريق الريح،

هذي لغةٌ تمسكُ بي، وجهٌ من الضوءِ،

يناديني، عصافيرُ من الأعشاب. هذي

شفةٌ تخطفني..."(20)

هكذا تبدأُ القصيدةُ الأولى من الديوان ونلاحظ أن الشاعر يُريدُ أن يتقمّص شخصيّة المتنبي معتمداً على قولِهِ:

خشيتُ وإن كَرُمنَ من الحِرانِ (21)



طَبَتْ فرسانُنا والخيلُ حتى




وينجحُ في ذلك حين يتابعُ الغناء بصوت المتنبي نفسه متكئاً إلى بيتٍ آخر من القصيدة نفسها:

"آه،

يا ملعبَ خيل الجنِ، لو سار سليمانُ

لنادى تُرجماناً، غير أني

قاريءٌ كل لغاتِ الصحو في عينيكَ،

استظهرها حرفاً فحرفاً" (22).

لكن محمّد عمران لا يستطيعُ أن يفلت من تأثير قصيدة المتنبي عليه: فيظل طويلاً سابحاً في أجوائها، حتى أن بعض المقاطع لا يضيفُ شيئاً لا على صعيد المعنى ولا في اتجاه تعميق رمزٍ كأن يقول:

"يسقطُ الشرقُ في ثيابي دنانيراً

شراباً بلا أوانٍ

يصلُّ الماءُ كالحلي في حصى النفس" (23).

في المقطع السابق يقذفُ الشرقُ في ثياب الشاعر دنانير وشراباً بلا أوانٍ، ويصلَّ الماء في حصى النفسِ كالحلي.. وهذا مَسْخٌ ونثرٌ مشوّه لقول المتنبي:



على أعرافِها مِثلَ الجُمانِ



غدونا تنفضُ الأغصانُ فيها



وجئنَ من الضياءِ بما كفاني



فسرتُ وقد حجبنَ الحَرّ عني



دنانيراً تفرُّ من البَنَانِ



وألقى الشرقُ منها في ثيابي



بأشربةٍ وقفن بلا أوانِ



لها ثمرٌ تشيرُ إليكَ منهُ



صليلَ الحلي في أيدي الغواني (24)



وأمواهٌ تصلُّ بها حصاها




ويستدعي بيان الصفدي أبا الطيّب معتمداً التقنيّة نفسها في قصيدةٍ قصيرة تحمل عنوان "الشاعر":

"-من أنتَ؟

-ما أنا؟

-من أنتَ يا طريدُ؟

-أنا... أنا المُعمّى،

أنا الذي يجلُّ أن يُسمّى،

الطائِرُ الغِرِّيدُ،

إني ختمتُ بابكم بالدمِ،

هذي كلماتي جمرةٌ،

وأنتمُ الوقودُ،

أنامُ في عيونكمْ

ودارتي الأثيرةُ الوجودُ.

ذئابكم تضحكُ فوقَ لحمي،

وتنسُلُ الأعصابَ،

تنهشُ الحشا،

تبيدُ،

أبصرتكم قوافلاً

فضاؤها السردابُ والوحشةُ والقيودُ.

الخيلُ والليلُ وأوراقي معي

والسيفُ والرمحُ: وهذي البيدُ" (25).

لقد تمّ هذا الاستدعاء انطلاقاً من بيتين مشهورين للشاعِر وهوَ وإن بدا عَرَضياً- في بدايةِ البطاقةِ حين يقول الصوت "أنا الذي يجلُّ أن يُسمّى"، وفي نهايتها حين يختِمها بقولهِ "الخيلُ والليلُ.. الخ"- إلا أنه جعلَ روح المتنبي كامنةً خلفَ كل عباراتِ النص، رُبّما لأن الضمير نفسه هو الذي يتابع الإنشاد، ولولا تلك الأصوات الخفيّة إلي أُحسُّ أنها بعيدة عن صوت المتنبي كثيراً، وتقتربُ من أصواتِ غيرهِ من الشعراء؛ لقلتُ إن الشاعِر يلبسُ قناعَ المتنبي ويقدّمُهُ لنا مثالاً للشاعِر الذي يُريده: لكن الحقيقة غير ذلك؛ لقد أرادَ بيان الصفدي أن يرسم صورةً أخرى للشاعِر -المثال كما يراهُ هو، فجاءَ هذا المزيج من المتنبي ولوركا ونيرودا وماياكوفسكي وغيرهم، ممن كانت كلماتهم جماراً تُشعلُ وتضيء، ودفعوا جميعاً ثمن نقائهم وحبّهم لأوطانهم وللإنسانيّة.

وقد يلجأُ بعضُ الشعراء إلى توظيفِ فكرة معيّنة للمتنبي ضمن قصيدةٍ يحاولُ شاعِرها أن يتقمصَ هذهِ الشخصيّة إمعاناً منهُ في محاولةِ إقناعِ القارئ؛ أو جَرّهِ ليشاركَ في هذهِ اللعبة الفنيّة كما يفعل محمود درويش في قصيدتِهِ "رحلة المتنبي إلى مصر" حين يقول:

"كل الرماح تُصيبُني

وتعيدُ أسمائي إليّ

وتُعيدني منكم إليّْ

وأنا القتيلُ القاتلُ" (26).

فهو هنا يضِّمنُ معنىً لأبي الطيّب:



فمن المطالبُ والقتيلُ القاتِلُ



وأنا الذي اجتذبَ المنيةَ طرفُهُ




لقد أخذ درويش كلمتين من البيتِ كُلّه "القتيلُ القاتِلُ"، وضمنها قصيدته السابقة؛ ولو لم يأتِ هذا التضمين في سياقِهِ الذي رأيناه؛ بمعنى في قصيدةٍ يوهمِنا درويش أن المتنبي هو الذي ينشدها لاستعصى علينا المعنى؛ لأن فهم المقطع السابق بصورةٍ تُغني النصَ بشكلٍ عام يكادُ يكون مُقترناً بمعرفتنا لبيت أبي الطيّب.

ويلعبُ ناجي علّوش اللعبة نفسها ولكن بنجاح أقل حين يضمّن المعنى نفسه في مقطعٍ من قصيدتِهِ "محاورة مع أبي الطيّب" فيقول:

"وتحمّلوا عبء الدم المهراقِ في غير

القضيَّةْ....

وتذكّروا أن الدماء هي الدماء

وأنني كنتُ القتيل

وقاتلي ليسَ القتيل..

وتذكروا أني رأيتُ دمي على

قسماتِ كافور الزريّهْ..." (27).

وقد نجدُ شاعِراً يقتبسُ أحد معاني أبي الطيب لكنهُ لايحسنُ توظيفه، أو لا يتمكنُ من خلالِهِ أن يستدعي في أذهاننا شخصيّة المتبني -إن كانَ يرمي إلى ذلك- كما فَعَل عبد الوهاب البيّاتي في قصيدةٍ عنوانها "مرثيّة إلى عائشة" من مجموعتهِ التي عنوانها "الموت في الحياة".

يقولُ البياتي:

"يموتُ راعي الضأن في انتظارهِ ميتةَ جالينوسْ

يأكلُ قرصَ الشمسِ أورفيوسْ

تبكي على الفراتِ عشتروتْ

تبحثُ في مياهِهِ عن خاتمٍ ضاعَ وعن أغنيةٍ تموتْ" (28).

لقد أرادَ البياتي في السطر الأوّل أن يستحضر بيت المتنبي الذي يقول:



ميتةَ جَالينوس في طبِهِ



يموتُ راعي الضأن في جهلِهِ




والذي معناه أن الموت حتمٌ على الجميع؛ إن كان راعياً بسيطاً أو طبيباً عالماً، وبيتُ المتنبي هذا أحد أبياتِ قصيدةٍ مشهورة قالها الشاعِرُ في رثاءِ عمّةِ عضد الدولة ببغداد؛ ومن هذا الباب يكون أخذ هذا البيت، وجعله مطلعاً لقصيدة يريدُ لها البياتي أن تكون مرثيّة على لسان الخيّام لمحبوبتِهِ عائشة أمرٌ موّفق؛ لو لم يفسد البياتي نفسه المعنى المعروف للبيت، لأن قارئه في صورتِهِ الجديدة سيطرحُ على نفسِهِ عدداً غير قليل من الأسئلة، لن يجدَ لمعظمها جواباً شافياً، أهمّها مثلاً: كيف كانت ميتة جالينوسْ؟

ولماذا يموتُ راعي الضأن وهو ينتظر ميتةَ جالينوس؟

وما إلى ذلك!

وكنتُ -والقارئَ- سأعتبرُ أن من حق البياتي أن يكتب مايشاء وكيف شاء لو لم يضع في آخر مجموعتِهِ تلك هامشاً يقول:

"راجع قول المتنبي:

يموتُ راعي الضأن في جهلِهِ.. الخ" (29).

بمعنى أنهُ يحيل إلى الفكرة أو المعنى الذي أصابه المتنبي في بيتهِ المذكور.

 

التوقيع

 


تِدفا على جال ضوه بارد إعظامي=والما يسوق بمعاليقي ويرويها
إلى صفا لك زمانك عِل يا ظامي=اشرب قبل لا يحوس الطين صافيها
 
 
رد مع اقتباس