عرض مشاركة واحدة
  #7  
قديم 10-11-2005, 07:19 AM
سهيل الجنوب سهيل الجنوب غير متصل
 
تاريخ التسجيل: Apr 2005
المشاركات: 873
معدل تقييم المستوى: 20
سهيل الجنوب is on a distinguished road
العولمـة : «التقنية» هــي الخطــر..!

القاهرة - جــلال أمــين( مفكر وجامعي مصري)


نحن إزاء العولمة كالعميان إزاء الفيل، في تلك القصة الشهيرة التي يلمس فيها كل من العميان جانباً من الفيل، فيصفه على أنه الفيل بأكمله، دون أن يعرف أن للفيل جوانب أخرى كثيرة. كل منا في وصفه للعولمة على صواب تماماً، لولا أن معظمنا لا يريد أن يعترف بأن بقية العميان على صواب أيضاً. وكلنا مستعد للإقرار بأن للعولمة تأثيراً على الهوية الثقافية، ولكن الطبيعي أن كلاً منا لا يرى إلا هذا الأثر الذي يصدر عن ذلك الجانب من العولمة الذي يلمسه بيده، ومن ثم كان من الطبيعي أن يختلف المحللون لظاهرة العولمة حول تحديد ذلك الأثر على الهوية الثقافية: ما هو بالضبط؟ هل هو مهم أم غير مهم؟ مرغوب فيه أم غير مرغوب فيه؟ من السهل تجنبه أم من الصعب؟ هناك من لا يرى في العولمة إلا اتجاهاً متزايداً نحو تقسيم العمل وانتشار التكنولوجيا الحديثة من مراكزها في العالم المتقدم اقتصادياً، إلى أقصى أطراف الأرض، ومن ثم زيادة الإنتاج أضعافاً مضاعفة، وهو في سبيل ذلك مستعد لأن يغفر للعولمة أي تأثير سلبي يمكن أن ينتج عنها على الهوية الثقافية، بل هو مستعد للقول بأن هذا الأثر السلبي على الهوية تافه أو بسيط، بل قد يذهب إلى حد القول بأن الهوية الثقافية سوف تفيد من العولمة بدلاً من أن تضار. هناك أيضاً المفتونون بالحضارة الغربية بوجه عام، ليس فقط بكفاءتها المنقطعة النظير، في الإنتاج المادي، بل وفي نقل المعلومات وتخزينها وتوفيرها لمن يريد الانتفاع بها، وبما حققه الغرب في مضمار التنظيم السياسي والاجتماعي والإنتاج الثقافي، أولئك المفتونون بالديمقراطية الغربية، وبالعلاقات الاجتماعية الغربية، وبغزارة ونوع الإنتاج الثقافي في الغرب، ويتمنون لشعوبهم سرعة اللحاق بكل هذه الإنجازات ويجدون في العولمة السبيل إلى ذلك. ومن هؤلاء من لا تثير لديهم مسألة الهوية الثقافية إلا السخرية والاستهزاء. إذ ما هي تلك الهوية التي تبدو قلقاً عليها كل هذا القلق؟ هل تعني هذه الهوية شيئاً آخر غير التخلف والجهل والفقر والعقم، والقعود التام عن الحركة، والاستسلام للخزعبلات والتقاليد التي لم يعد لها دور في العالم الحديث؟ هناك أيضاً الكارهون للعولمة، ولكن هناك مائة سبب محتمل لهذه الكراهية. هناك من يكرهونها لأنها تتضمن مزيداً من الاستغلال الاقتصادي. ألا ترى مثلاً ما تفعله الاستثمارات الأجنبية الخاصة عندما تترك العالم في البلاد الرأسمالية نهباً للبطالة، وتذهب لاستغلال العمل الرخيص في البلاد الأقل نمواً؟ أولا ترى أيضاً شركات الأدوية العملاقة تضغط من أجل أن تفتح لها كل بلاد العالم أبوابها لتحقق مزيداً من الربح على حساب مستهلكي ومنتجي هذه الأدوية داخل هذه البلاد الأقل نمواً؟ نعم، الهوية الثقافية لابد أن تعاني من جراء ذلك، ولكن المعاناة هنا ليست إلا نتيجة الاستغلال الرأسمالي، إذ تحمل كل هذه الاستثمارات الأجنبية وهذه السلع المستوردة في طياتها ثقافة مغايرة تسحق ثقافات الأمم المستوردة لها، لا لغرض إلا لتحقيق مزيد من الأرباح، وحماية الهوية الثقافية واجبة في نظر هؤلاء، كوسيلة للتصدي لهذا الاستغلال، إذ إن إثارة الحمية الوطنية والحماس للثقافة الوطنية قد يعطلان هذا الاتجاه لدى الرأسمالية العالمية للانتشار. وهناك من يكره العولمة لا لسبب اقتصادي، بل لسبب ديني. فالعولمة آتية من مراكز دينها غير ديننا، بل هي قد تنكرت للأديان كلها، وآمنت بالعلمانية التي لا تختلف كثيراً، في نظر هؤلاء، عن الكفر. ومن ثم ففتح الأبواب أمام العولمة هو فتح الأبواب أمام الكفر، والغزو هنا في الأساس ليس غزواً اقتصادياً، بل غزو من جانب فلسفة للحياة معادية للدين. والهوية الثقافية المهددة هنا هي في الأساس دين الأمة وعقيدتها، وحماية الهوية معناه في الأساس الدفاع عن الدين. هناك من ناحية أخرى، من يرى أن العولمة ليست غزواً اقتصادياً أو غزواً علمانياً، بل غزو قومي، بمعنى تهديد هوية أمة أخرى. صحيح أن هذا الغزو يتضمن استغلال اقتصاديات، وصحيح أنه يهدد دين الأمة التي يجري غزوها، ولكن هذا وذاك ليسا إلا جزءين من ظاهرة أوسع، وهما مرفوضان لسبب أكبر وأشمل. فالاستقلال الاقتصادي ليس مطلوباً فقط لمنع الاستغلال، بل مطلوب لتحقيق نهضة شاملة للأمة، وتحقيق استقلال إرادتها. وهي كذلك تهديد للدين والعقيدة، والعقيدة جزء من نمط الحياة بأسره. ولقيم الأمة بصفة عامة، التي يعتبر الدين جزءاً منها ولكنه لا يستوعبها كلها، وذلك لصالح نمط الحياة في تلك المراكز التي تولد هذا الاتجاه نحو العولمة. في نظر هؤلاء، تعتبر حماية الهوية الثقافية هي الهدف الأصلي، وليس مجرد وسيلة للتصدي للاستغلال الاقتصادي، كما أنها هدف أشمل من هدف حماية الدين من العلمانية. إن كلاً من المواقف المؤدية والمضادة للعولمة يحمل في رأيي جزءاً من الحقيقة، وهو جزء لا يمكن الاستهانة به. نعم، العولمة تؤدي إلى تعظيم الإنتاج، على الأقل من وجهة نظر العالم ككل، والعولمة تمثل تقدماً لا يمكن إنكاره في بعض القدرات المهمة للإنسان، في المعرفة وفي السيطرة على الطبيعة، وفي بعض أنواع الإنتاج العلمي والفني. والعولمة تتضمن، بلا شك اتجاهاً نحو مزيد من الاستغلال الاقتصادي من جانب الشركات العملاقة للمستضعفين في الأرض، وتتضمن قهراً لمعتقدات ومقدسات بعض الأمم، لصالح نظرة تتخذ على الأقل موقف اللامبالاة من العقائد الدينية. والعولمة، بلا شك، تهدد أنماط الحياة الخاصة بالأمم التي كانت أكثر انعزالاً عن العالم، لصالح نمط معين للحياة هو السائد في الدول الأكثر سطوة. ولكن هذه المواقف المرحبة بالعولمة والمضادة لها، قد لا تستوعب كل المواقف الممكنة من العولمة، ومن ثم قد لا تستوعب كل المواقف الممكنة من قضية حماية الهوية الثقافية. إن هناك موقفاً يزيد ميلي إليه كلما أمعنت التفكير في ظاهرة العولمة، والهوية الثقافية، وقد يمثل جانباً يستحق الاهتمام، وقد لا يقل أهمية عن مختلف الجوانب التي ذكرتها، سواء من حيث مساعدتنا على فهم حقيقة العولمة، أو على اتخاذ الموقف الصحيح منها. كما أنه يؤدي إلى نظرة إلى الخطر الذي يهدد الهوية الثقافية، قد تختلف اختلافاً مهماً عن النظرات الأخرى. هذا الموقف من ظاهرة العولمة يدور حول النظر إليها كما لو كانت مرادفة لانتشار ما يسمى أحياناً بـ«المجتمع التكنولوجي الحديث». إن هذه الظاهرة ظاهرة انتشار «المجتمع التكنولوجي الحديث» ليست هي بالضبط انتشاراً للاستغلال الرأسمالي، وليست مجرد انتصار للعلمانية على العقائد الدينية، وليست بالضبط قهراً من جانب هوية أمة لهويات أمم أخرى، بل هي ظاهرة قد تكون أخطر بكثير من كل هذا. ومن ثم فإن الموقف الذي تستوجبه قد يكون أصعب بكثير مما نظن. وسوف أحاول شرح هذه النظرة إلى العولمة التي قد لا تزيد في الحقيقة عن محاولة إضافية من شخص آخر ضعيف البصر، إلى محاولات أخرى من جانب أشخاص آخرين ضعاف البصر إيضاً، للإحاطة بحقيقة الفيل. العولمة قديما :الغزو الثقافي سبق أن ذكرت أن الاتجاه نحو العولمة قديم جداً، ولابد أن الإنسان قد شعر بأن العالم قد أصبح «قرية واحدة كبيرة» أو بشيء شبيه بهذا عدة مرات من قبل. لابد أن الإنسان الأوروبي قد شعر بشيء من هذا عندما وطئت قدماه القارة الأمريكية لأول مرة، منذ خمسة قرون، وعندما أبحرت أول سفينة بخارية منذ أقل قليلاً من قرنين، وعندما نظر رجل الفضاء لأول مرة إلى كوكب الأرض منذ نحو أربعين عاماً. كل ذلك قبل أن يخرج إلينا الإنسان المعاصر مزهواً أو مندهشاً من بزوغ ظاهرة الشركات متعددة الجنسيات التي يفوق حجم مبيعات كل منها، حجم الناتج القومي لعدة دول مجتمعة. لابد أن ماركس وإنجلز كانا يتكلمان عن هذه الظاهرة نفسها، ظاهرة العولمة، منذ 150 عاماً، عندما كتبا في البيان الشيوعي أن السلع التي تخرج من مصانع الرأسمالية ستأخذ في الانتشار شرقاً وغرباً ولن يفلح في صدها أي سور ولو كان بمناعة سور الصين العظيم. إذن فكثرة الكلام عن العولمة في العشر سنوات الأخيرة لابد أن يكون سببها ليس نشأة الظاهرة، بل نموها بمعدل متسارع (فضلاً عن وجود مصلحة لبعض الناس، في الإلحاح على أسماعنا بأن شيئاً جديداً وطيباً للغاية، اسمه العولمة، آخذ في اكتساح الكون). ومن أي زاوية نظرنا إلى العولمة، سواء من زاوية معدل انتقال الأشخاص أو معدل انتقال السلع أو رؤوس الأموال والمعلومات أو الأفكار، نجد وراء هذا تطوراً في التكنولوجيا أو «تقدماً» فيها كما هو شائع على الرغم من أن اعتبار ما حدث من تطور تكنولوجي «تقدماً» في جميع الأحول هو محل نظر وقابل للجدل فالعولمة بنت التطور أو (التقدم) التكنولوجي، سواء تمثل هذا التطور في اختراع العجلة أو البوصلة أو المطبعة أو الآلة البخارية أو التلغراف أو الطائرة أو التليفزيون أو الكمبيوتر.. إلخ. والاعتقاد الشائع أن العولمة ظاهرة حتمية لا يمكن صدها أو الوقوف في وجهها، سببه الاعتقاد أن التطور (أو التقدم) التكنولوجي هو كذلك ظاهرة حتمية. ولكن العولمة أيضاً تحمل دائماً في طياتها نوعاً آخر من «الغزو الثقافي» أي من قهر الثقافة الأقوى لثقافة أخرى أضعف منها. فالذي فعله المهاجرون الأوائل إلى القارة الأمريكية بالهنود الحمر كان نوعاً من «الغزو الثقافي» وإن كان بالغ القسوة. وقل مثل ذلك عما فعله المهاجرون الأوروبيون إلى أستراليا لسكانها الأصليين، وسائر صور الاستعمار الأخرى، التي هي أيضاً صور للعولمة وللغزو الثقافي في الوقت نفسه. كل هذه الصور للغزو الثقافي كان من الممكن دائماً أن ننظر إليها نظرات متعددة، فقد كان من الممكن دائماً أن نصف ظاهرة الغزو الثقافي بأنها اعتداء رأسمالي على الهوية الثقافية للأمة المعتدى عليها من أجل استغلالها اقتصادياً. كما يمكن أن نصفها بأنها غزو دين لدين، أو إحلال ثقافة أمة محل ثقافة أخرى، كما أن من الممكن أن يوجد (وقد وجد بالفعل) المدافعون عن هذا الغزو الثقافي باسم تعظيم الإنتاج ونشر الحضارة. بحجة نشر الحضارة جاء نابليون إلى مصر، وبالحجة نفسها قهر الاستعماريون الأوائل مختلف الأمم الأقل تقدماً. وبحجة زيادة الإنتاج غزت الولايات المتحدة أمة بعد أخرى متخفية وراء المعونات الاقتصادية، واستخدمت حجة زيادة الإنتاج أيضاً وتعمير الأرض من جانب الصهاينة لتبرير استيلائهم على فلسطين، وبالحجة نفسها انتشر موظفو البنك الدولي وصندوق النقد في مختلف أنحاء الأرض. وقد قامت حركات المقاومة ضد كل هذا باسم الدين مرة، وباسم القومية مرة، وباسم الاشتراكية ومقاومة الاستغلال الرأسمالي مرة.. إلخ. العولمة قديمة إذن، وكذلك الغزو الثقافي، وكذلك مقاومة هذا الغزو الثقافي، وكل الشعارات التي ترفع لتبرير العولمة أو لمقاومتها قديمة أيضاً. إن من المفيد بالطبع لفت النظر إلى التسارع الهائل الذي حدث في معدل العولمة في العقود الأخيرة، ولكن من المفيد أيضاً (من حين لآخر) لفت النظر إلى أنه مجرد تسارع حديث لظاهرة قديمة ومستمرة. ولكن من الضروري أيضاً التأكيد على العامل الأساسي المسؤول عن نشأة هذه الظاهرة، ظاهرة العولمة، واستمرارها وتسارعها، وهو التقدم أو التطور التكنولوجي. ذلك أنه من بين كل العوامل الدافعة أو المساعدة أو المصاحبة للعولمة، يكاد التطور التكنولوجي أن يكون أكثر هذه العوامل استقلالاً، بحيث لا يكاد يحتاج المرء إلى البحث عن العوامل المسببة له، أو بالأحرى إنه أكثر العوامل المتصلة بالعولمة اكتفاء بنفسه، إذ لا يعتمد في وجوده إلا على ذلك الميل الطبيعي لدى الإنسان لتخفيف ما يبذله من جهد وما يتحمله من مشقة في سبيل البقاء على قيد الحياة، أو من أجل الإنتاج والاستهلاك. الإنسان يطور التكنولوجيا باستمرار، وكأنه مدفوع «بيد خفية» إلى ذلك، من أجل أن يشبع حاجاته بأقل جهد ممكن، وهو في خلال تطويره للتكنولوجيا يندفع دون أن يكون هذا بالضرورة جزءاً من مخطط واع ومدبر، نحو المزيد من العولمة. بهذا نفهم لماذا تقترن العولمة دائماً بدرجة أو أخرى من القهر الثقافي. ذلك أن هذا التقدم التكنولوجي، الذي يدفع الإنسان دفعاً إلى مزيد من العولمة، ينطوي بطبيعته على تهديد للهوية الثقافية. إن هذا التقدم التكنولوجي الذي يظنه الكثيرون شيئاً محايداً تماماً إزاء الهوية الثقافية، يحمل دائماً خطراً يهدد هذه الهوية. نشر في مجلة (المعرفة) عدد (47) بتاريخ (صفر 1420هـ -مايو/يونيو 1999م)

 

التوقيع

 

سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم

 
 
رد مع اقتباس