عرض مشاركة واحدة
  #3  
قديم 12-07-2005, 06:39 AM
ابومحمد الشامري ابومحمد الشامري غير متصل
ابوحمد الشامري ( سابقا )
 
تاريخ التسجيل: Dec 2004
الدولة: شـبـكـة مـجـالـس العجمـــــان
المشاركات: 19,132
معدل تقييم المستوى: 10
ابومحمد الشامري قام بتعطيل التقييم

الفصل الثاني: مضامين الإبداع الفكري والموضوعي
لابد من الإشارة – ابتداءً – إلى أن طائفة الفتّاك من الشعراء الذين تم اختيارهم للدراسة هذه من بين شعراء العصر الأموي، فتحوا آفاقاً واسعة للدخول إلى معالم إبداعهم الفكري والمضموني، إذ ظهر أن لهم فيها ما يميّزهم ممَن سبقهم من الشعراء، لاسيما أولئك الصعاليك الذين عاشوا في العصر السابق للإسلام، والذين ماثلوهم في بعض جوانب الحياة، أو اختلفوا معهم وتباينوا بهذا القدر أو ذاك .

ولتبيان هذه الحقيقة سنحاول أولاً المرور السريع على أبرز الموضوعات التي طرقها الشعراء الصعاليك في العصر السابق للإسلام، إذ سجَّل لهم الدكتور يوسف خليف جملة موضوعات حدّدها بـ: وصف المغامرات التي تمثّل "حرفتهم" في أثناء الغزو والإغارة من أجل السلب والنهب، تلك الحرفة التي قامت عليها حياة معظمهم، فهم " يتحدثون عن هذه المغامرات حديث المؤمن بقيمتها في حياته، المُعجب بها، الفخور ببطولته فيها، أو بمقدرته على النجاة من أخطارها "، بعد أن ضاقت الحياة بهم وابتعدت سُبل النجاة عن وجوههم، ثم حديثهم عن ترصُّدِهم لضحاياهم في مواقع معيَّنة كانوا يُطلقون عليها اسم (المراقب)، وهي مواقع عالية منيعة كانوا يلجؤون إليها ليلاً، ويتخفّون فيها انتظاراً لضحاياهم، ثم حديثهم عن التوعُّد والتهديد بسبب البغض لخصومةٍ أو إنتقاماً وثأراً لصديق، أو توعُّد الصعلوك للصعلوك وما في هذا الحديث كلِّه من تطرّق إلى القوة الشخصية، وإلى صفات الخصم السيئة تارةً والحميدة تارةً أُخرى. وهناك حديث الصعلوك عن أسلحته ووصفه لها، لا بل التغنّي بها، ما دامت تمثّل أهم ما يملكه من متاع من جهة، والوسيلة الأبرز لكسب عيشه من جهة ثانية، ثم الحديث عن موضوعة الرفاق الذين يرافقونه في مغامراته، حتى ليغدوَ بعضهم مثل الأم الحريصة على أبنائها، أو القائد والزعيم لجَمع أصحابه، وليس الزميل لهم فقط.

وفضلاً عن تلك الموضوعات وما عرضت لـه من خصوصيّةٍ خاصةٍ في أشعار أولئك الصعاليك، فثمة براعة في وصفهم لفرارهم وسرعةِ عَدْو رفاقهم، وفي تشبُّهِهم بعددِ من الحيوانات كالخيل والظباء والعُقبان، ثم في وصفهم لغَزواتهم على ظهور الخيل، وحديثهم عن أحوالهم الاجتماعية والاقتصادية، لاسيما حالة الفقر التي جمَّعتهم وتشرُّدهم في القفار ومواجهتهم لوحوشها بصورة دائمة([1]).

أما الدكتورة (بنت الشاطئ) فركّزت حديثها على موضوعة الروابط التي كانت تشدُّ هؤلاء الشعراء إلى الأهل والقبيلة في خضمّ تشرُّدهم، وعلى تلك المرارة التي كانت تفيض بها مشاعرهم وهم يهيمون في الفلوات، وما تركه (الخَلْع) عن القبيلة في وجدانهم من أثرٍ عميق نافذ سجّلته أشعارهم المشحونة "بأشجان الغربة ووطأة الوحدة النفسية وقسوة الحرمان من أنس الأهل والدار"، حتى كانت معالم سلوكهم تطوي وراء الاستهانة بالحياة "سخريةً مريرةً بالحرية الفردية، وشعوراً عميقاً بالتمزُّق والضياع"، ورأت كذلك أن شعرهم لم يكن تجارة" بل كان مُتَنَفَّساً لشجنهم، وراحةً لقلوبهم المُضناة بالغربة"، وأنه كان – فضلاً عن ذلك كلِّه – صدىً لمغامراتهم المُستهينة بحياةٍ مُضَيَّعة "تنتهي – غالباً – بموتٍ في متاهة الفلاة بعيداً عن الأهل والأحباب"([2]).

ذلك أنها نظرت إلى الشعراء الصعاليك، مثلما سبقت الإشارة في الفصل السابق، على أساس أنهم (أو معظمهم) من الخُلَعاء وحدهم، وليسوا من الفئات الأخرى: الشذ‍ّاذ والأغربة السود والمتمردين على حياة الفقر أو على سلطة القبيلة وقيمتها.

أما إحسان سركيس فنظر إليهم من وجهة كونهم من فاقدي (التوافق الاجتماعي)، ومن ثم رأى في الموضوعات التي عبَّر عنها أولئك الصعاليك تصويراً للتحوّل من سلوك توافُقي مع مجتمعهم، إلى ما أسماه بـ"السلوك الصراعي" وأن شعرهم ينطوي في مُجمله "على موضوع ومنحىً نفسي يُجافيان مناحي وموضوعات القصيدة التقليدية "التي ظهرت في العصر السابق للإسلام"([3])، بينما رأى الدكتور مصطفى ناصف أنّهم جَسَّموا في أشعارهم وحياتهم موقف الحيوان في الصحراء، إذ مثلما "يصرع حيوانٌ حيواناً آخر أخذ الصعلوك يصرع في شعره أو حياته إنساناً آخر"، وهي – بلا شك – نظرة تحمل الكثير من التشويه للحالة الإنسانية التي بدا عليها أولئك الشعراء الصعاليك، وتجرّدهم من أية قيم اعتبارية أو أبعاد فكرية، سرعان ما نقضها بنفسه – بعد ذلك – إذ رأى في الشاعر الصعلوك ثائراً على الحياة، مُستهتراً ومفتوناً بها في الوقت نفسه، وأن عدوانه كان تعبيراً عن الخوف الرابض في أعماقه، لا بل إن أدوات القتال التي طال ذكر أولئك الشعراء لها، لم تكن إلاّ موضوعات يُسقِطون عليها تلك التناقضات، لأن الشاعر الصعلوك – في رأيه – كان "إذ يصِف صوت القوس الذي يرنُّ في سمعِه، فكأنه عنده هَمسات قوم يبحثون عن شيء فقدوه" وأنه وإن أبدى معنىً –ظاهراً- أقرب إلى اللامبالاة، فقد كان يخفي – باطناً- مبالاة عميقة، مثلما رأى أنّه بادّعائه الأنس إلى الوحشة إن ما كان يأنس "إنساً مُروَّعاً"([4]).

فالشاعر الصعلوك – بهذا التحليل – لم يكن يُجسّم موقف حَيوان الصحراء، ولم يكن يتصرّف بوحشية حيوانية مجرّدة من التفكير الإنساني العميق، لا بل إن هذه المشاعر النفسية المتناقضة التي حدّدها الدكتور ناصف بنفسه، تؤشر هذه الحقيقة ويكشف عنها كشفاً مُضافاً ما اختاره من أبيات ومقطعّات من أشعارهم، تأكيداً لما قال به عن ما يمكن أن نُسمّيه هنا "دواخل الكلمات" لا الظاهر المرئي أو المقروء منها.

ذلك أن الإبداع والبراعة والابتكار في شعر أولئك الشعراء الصعاليك، لم تكن تكمن كلُّها في الظاهر من أحاديثهم عن تلك الموضوعات، وما وصفوه من أحوالهم –في أشعارهم- في خلالها، وفي إغراقهم في إيراد التفاصيل الخارجية الظاهرة والمباشرة منها، بل تكمن في مواقفهم الفكرية والنفسية البعيدة الغور في أعماقهم، التي تُشكّل الأسباب والدوافع الحقيقية لإكثارهم من الحديث عنها، والإغراق في وصفهم لتفاصيلها، لا بل حتى دقائقها الصغيرة، في أحيان كثيرة.

عليه فالموضوعات الأبرز في أشعار طائفة الفتّاك من شعراء العصر الأموي، ربما تبدو أحياناً مترادفة مع الموضوعات التي اهتمّ بها وأبدع في تناولها – أكثر من سواها – أولئك الشعراء الصعاليك، وقد تبدو متماثلةً معها من حيث السطح الخارجي لهذه الموضوعة او تلك، لاسيما موضوعات التشرّد والحنين إلى الأهل والديار ولكنها تتباين معها أساساً بسبب اختلاف ظروف حياة الفريقين وطبيعتها وعواملها الفكرية والاجتماعية والاقتصادية. مثلما أوضحنا في الفصل السابق، ومثلما سيتّضح في هذا الفصل.

وثمة بين موضوعات هذه الطائفة من الشعراء ما هو جديد حقاً، من حيث مضامينُه الفكرية والموضوعية: ويحمل روح الإبداع والابتكار من هذا المنطلق، أي منطلق جدّة ظروفها وعواملها وانعكاسات تلك الظروف والعوامل على الشـعراء الذين تناولوها وأبدعوا فيها، فكراً وشعراً في الوقت نفسه.

ومن الأمور التي نرى ضرورة لفت الانتباه إليها –ابتداءً- إن هذه الموضوعات يدخل معظمها في إطار تعبير الشعراء عن أحوالهم الذاتية، وأن ما يتحدث منها بمنطق الجماعة قليل فيها، وقد جعل هذا الأمر من أشعارهم متميزة بالإغراق في إطلاق (الأنا) بدلاً من الـ(نحن)، والإغراق – من ثم – في نقل الكوامن النفسية (الشخصيّة) والحديث عنها بخصوصية تامّة. وهذان الأمران يشيران إلى أن هؤلاء الشعراء كانوا معنيين في الغالب بأشخاصهم وحدهم، إذ قلّما نقلوا صوراً عن أحوال (جماعيّة)، ولم يُعَنوا إلاّ قليلاً بتصوير حالات وأوضاع خارجية كتلك التي برزت لدى الشعراء الصعاليك السابقين، مثل: وصف المغامرات أو المَراقب أو الأسلحة، أو الحديث عن تزعُّم مجموعات وسرعة العَدْو … الخ.

ولأن هؤلاء الشعراء كانوا معنيّين بما يدور في أعماقهم – في الغالب-، وبما يدور من حولهم ثانياً، فقد اتسّمت أشعارهم بالإفصاح عن الأحاسيس والمشاعر الفكرية والنفسية، في موضوعات قابلة لحمل هذه الأحاسيس والمشاعر، يمكن تحديد الأبرز من بينها، على وفق ما يأتي :

التشرد والخوف: ويدخل ضمن هذه الموضوعة الحديث عن حياتهم في الفلوات والقفار ومصاحبتهم لحيواناتها، والأنس إلى وحوشها المعروفة أو حيواناتها الأسطورية (الغول والسعلاة) مثلاً، وما أدى إليه ذلك من إحساس بالاغتراب عن الآخرين، سواء عَبر الوصف أو التعبير عن حالة فكرية ذات صلة بهذه الحياة.

الحنين إلى الأهل والأحباب: حيث ذكر القبيلة والديار والحبيبات، وما يمثّلها من رموز مختلفة (الأرض والآبار والنخل … الخ)، وعن الأحوال الذاتية من كرَم وشجاعة وشوق ولهفة، وحيث رثاء النفس والغير والألم النفسي جَراء النأي عن تلك الحياة الحافلة بالعلاقات الإنسانية الحميمة.

عذابات السـجن: ويدخل ضمنها الحديث عن المواقف الفكرية المباشرة، وعن روح التمرّد والشكوى من ظروف السجون ومتاعبها، ووصف للسجون وما تحمّلوه من ثقل قيودها، وما عانَوه من أشكال المعاملة القاسية في داخلها، فضلاً عن حنينهم إلى حياتهم السابقة وهم بين جدرانها.

الإيمان والحكمـة: ويدخل في إطارها الحديث عن أثر العقيدة الدينية وانعكاساته في أشعارهم، وما أدى إليه هذا الأثر من تحوّلات في داخل أعماق نفوسهم، وفي فكرهم كالتأمل في شؤون الحياة، والحكمة التي استخرجوها منها، فضلاً عن طلب العفو والمغفرة من الخالق سبحانه وتعالى، والرضا بقضائه فيهم.

الاعتداد بالنفس: حيث التماسك الفكري والنفسي، وحيث الزهو بالنفس والفخر بها، بالرغم من جميع الظروف والأحوال الصعبة التي واجهوها، وهو – أي الاعتداد – بمثابة الخلاصة العامة التي مثّلت شخصيّاتهم الحقيقية في عصر تعدّدت فيه العوامل الضاغطة، السياسية والاجتماعية والاقتصادية وانعكاساتها الفكرية الشديدة الوطأة – أحياناً – على بعضهم .

وسنتناول بشيء من التفصيل ما يتعلق بكل موضوع من هذه الموضوعات، بالرغم مما تُظهره هذه الموضوعات من تداخل يبدو من خلال أشعارهم في الغالب، سواء من منطلق الوحدة المضمونية والفكرية، أو من تعدّد الموضوعات الفرعية داخل الرؤية الفكرية الواحدة التي تنطلق من إدراك واعٍ مقصود بذاته، لتمثُّلِ أشعار مَنْ سبقهم من شعراء العصر السابق للإسلام، واتباع الصيغ التقليدية للقصيدة العربية، التي كانت ما تزال قريبة العهد منهم من جهة، وتُشكّل الأنموذج المكتمَل في تاريخ الشعر العربي، حتى العصر الذي ظهروا فيه، من جهة ثانية.

1- التشـرُّد والخَـوف
كان التشرد في الفلوات والقفار أشبه ما يكون بالحالة الطبيعية التي عاشها الشعراء الفُتاك في العصر الأموي، شأنهم في ذلك شأن مَن سبَقَهم من الشعراء الصعاليك في العصر السابق للإسلام، من حيث طبيعة الحياة وظروفها، ومن حيث النظر إلى مكان العيش شبه الدائم، إلاّ في حالات معينة، وما عكسته طبيعة الحياة والمكان على موضوعاتهم فكراً ومضموناً.

بيد أنه في حين كان الشعراء الصعاليك في العصر السابق للإسلام يتخذون من الفلوات والقفار مواقع لمغامراتهم من أجل كسب قوتهم اليومي، بالوسيلة الوحيدة التي احترفوها، أي السلب والنهب والإغارة على أموال الآخرين وتجارتهم، كان الفتّاك قد عاشوا حياة التشَرد والتأبّد لأسباب أخرى ليست ذات عميق علاقة بكسب العيش وحده، بل بظروف يرجع بعضها إلى الحياة الاقتصادية والاجتماعية أو السياسية للعصر الأموي وما بدأت تتشكل فيه من بوادر متغيّرات كبيرة الأثر في سكان المنطقة التي عاش هؤلاء الشعراء في رقعتها الجغرافية.

إن الشعراء الذين تحدثوا عن تشرّدهم في الفلوات ومصاحبتهم لحيوانها الأليف، والمتوحش، لا بل حتى الأسطوري، على سبيل المثال لا الحصر، هم: القتّال الكلابي، والسمهري العكلي، وجحدر العكي، وعبيد بن أيوب العنبري، و الأحيمر السعدي، وقد التقى أغلبهم على ارتكاب الجنايات (الفتك) أو (السرقة)، مما استدعى منهم الهروب إلى القفار والفلَوات. وفي هذا الاختلاف الرئيس في العوامل والدوافع الداعية إلى التشرّد، ما يؤسس موطئ قدم للانتقال إلى حيث معالم الإبداع المضموني والفكري في هذه الموضوعة.

فهذا (القتّال الكلابي) يدعو الله تعالى إن يجزي (عماية) وهي مجموعة هضبات متتابعة أو جبل من أضخم جبال البحرين، خير الجزاء لأنها آوته وآوت أمثالـه من المُطارَدين، فيقول :

جزى الله عنّا والجزاءُ بكفِّه

عَمايةَ خيراً، أُمَّ كُلِّ طريدٍ

فلا يزدهيها القومُ إن نَزلوا بهــا

وإن أرســلَ السُلطانُ كلَّ بريدِ ..([5])


ويقول في قصيدة لـه يذكر فيها طلب الخليفة (مروان بن الحكم) إيّاه بعد هربه من السـجن :

"أيُرسِلُ مروانُ الأميرُ رسالة

لآتِيَهُ إني إذنْ لَمُضَلَّلُ

وما بيَ عصيـانٌ ولا بُعْدُ منـزلٍ

ولكنني من خوفِ مروان أُوجَلُ…"([6])


وهذا يعني أن تشرُّد (القتّال) لم يكن عصياناً ولا تمرُّداً على السلطة، ولكنه تشرُّد الهارب من يد السلطان وممثّليه لجنايةٍ جناها، خوفاً من العقوبة التي تنتظره، فهو يهاب السلطة ويهرب منها ويرضى بتشرده في (عَماية) التي ينظر إليها نظرة الولد البار بأُمّه - هو وأمثاله من المُطارَدين - إذ أصبحت القلب الحنون والحضن الدافئ الذي لجأ إليه، فحمته من العقوبة واستحقت دعاءَه لها بالخير، شأنها شأن أُمّه الحقيقية التي ابتعد عنها مُضطراً .

وعلى غرار (القتّال) في التشرّد والخوف كان حال (السمهري العكلي) الذي يقوده بأسه وخوفه من الوقوع في يد السلطان إلى مساءلة صاحبَيه في الجناية التي جناها عمّا يُقرّران بشأن تشرُّدهم معاً، وقد أحسَّ بقرب وقوعه في أيدي مُطارديه، فيقول:

"أقول لأدنى صاحبَيَّ نصيحةً

وللأسمرِ المِغوار: ما تَريانِ ؟

فقال الذي أبدى لي النُصحَ منهما

أرى الرأيَ أن تجتاز نحو عُمانِ

فإن لا تكـنْ فـي حاجبٍ وبـلادِه

نجاةٌ فقد زلَّتْ بكَ القَدمـانِ …"([7])


فهو هنا يسأل "أدنى" صاحبيهِ، وليس كليهما، ويسأل - بعدَه - صاحبَه الآخر (الأسمر) عمَا ينبغي أن يفعلوه، وقد ضاقت عليهم الأرض، وكان بينهما من أبدى النصح - وهذا صاحبٌ حقيقيٌ لـه - أن يجتاز نحو عمان، حيث يوجد (حاجب) وهو آخر أمل للنجاة من يد السلطة التي تطاردهم، مُمثَّلة بأفراد الشرطة أو حتى أبناء القبائل الذين يتعاونون معها، رغبة في الحصول على الجعالة (المكافأة).

أما (جحدر بن معاوية العكلي) اللص المتشرّد أصلاً، مثلما تراه المصادر وتذكره، فقد أبدع حقاً في نقل ما كان يجيش في أعماق عقله وروحه من مضامين فكرية تشير إلى حقيقة لصوصيته، وإلى حقيقة ما يُفكّر به من أمر تشرُّده واتّباعه السرقة سبيلاً للحصول على ثيابه - من بين حاجاته المعيشية - فهو يقول:

"وإنَّ أمرءاً يعدو وحجرٌ وراءَه

وجَوٌ ولا يغزوهما لضعيفُ

إذا حُلّـةٌ أبليتُهـا ابتعـتُ حُلّـةً

كساني بهـا طوعُ القيادِ عليفُ…"([8])


فهو يرى من الضَعف ألاّ يغزوَ (حَجراً) و(جوّاً) وهما وراءه مثلما يرى أن الحُلّة (اللباس) التي تبلى يمكن تعويضها من خلال ناقته المُطيعة، التي تستطيع أن تبلغ به المكان الذي يجد الملابسَ البديلة فيه، وهو يرى في السرقة عمليةَ (ابتياع) - أي مشروعية - يرتضيها ما دام يصل إلى حاجته بوساطة ناقته، وهذه فكرة ترتبط بالحلال والحرام برباط فكري وضعه هذا الشاعر لنفسه خلافاً للتقاليد المعروفة. فالناقة المُطيعة تكفيه مؤونة ما يحتاج إلى شرائه، وهي فكرة انفرد بها هذا الشاعر عمَّن سواه، إذ يمكنه أن يكتسي بالجديد من الثياب من خلالها بالسرقة التي يُسميها (الابتياع) !

ويبدع (جحدر) نفسه في رسم صورة دقيقة لرفاق رحلة لصوصيته، وقد انقضى عليهم الليل وهم على ظهور إبلهم، وقارَب الصبح من الانبثاق، فيقول:

" وركب تَعادَوا بالنُعاسِ كأنّما

تساقَوا عُقاراً خالطتْ كلَّ مفصلِ

سريتُ بهم حتى مضى الليلُ كلُّه

ولاحتْ هوادي الصُبحِ للمتأمّلِ

وقالوا وقد مالتْ طُلاهُم من الكـرى

أنِخْ إنها نُعمى علينا، وأفضلِ.."([9])


فلقد أخذ النعاس من رفاقه مأخذا كبيراً، لكنه هو نفسه لم يكن على شاكلتهم فهو في حالة تيقُّظِ بالغِ وأكثر، إذ رأى "هوادي الصبح" بعين المتأمل، أي المشغول الذهن بالتفكُّر في شأنِ من شؤونه، دلالة على أنه لم يكن مجرّد لص - كرفاقه - يمكن أن ينال منه التعب وطول السرى، وهي صورة نحسب إن (جحدراً) هذا عبَّر فيها خير تعبير عن حالته النفسية والبدنية المتينة المتوافقة مع لصوصيته وفلسفته فيها.



وعلى العكس من (جحدر) بدا الشاعر (عُبيد بن أيوب العنبري)، الذي تشرّد بسبب الجناية التي جناها، وصار بسببها طريد السلطة، والذي أبدى من مشاعر الخوف والهلع في شعره، ما يعكس حالةً شخصية ونفسية نادرة في غرابتها، ويكاد (العنبري) يتفرّد بين شعراء هذه الطائفة في التعبير عنها، وفي التعبير كذلك عن الأنس بالحيوانات، أليفها ووحشيّها، لا بل كان أبرز من سجَّل علاقته الحميمة مع الحيوانات الأسطورية (الغول والسعلاة).

إنه - مثلاً - يُلخّص تشرُّدَه وشدّة خوفه وعلاقته بحيوانات القفر، فيقول:

"وساخرةٍ مني ولو أن عينَها

رأتْ ما أُلاقيه من الهَوْلِ جُنّتِ

أزَلٌ وسِـعـلاةٌ وغـولٌ بقَفـرةٍ

إذا الليـلُ وارى الجِنَّ فيـه أرنَّتِ"([10])


فهو يلاقي الهَول مما يلاقي وسط الصحراء المقفرة، ويزيد من هَولِه تصايُح الذئاب والسعالى والغيلان، بعد أن يتوارى الجِنُّ في الليل الموحش، فهو وهذه الحيوانات في رفقة مع ليلٍ حتى الجن تتوارى فيه وتبتعد عن صحبته، ومن ثم فقد أراد (العنبري) أن يؤكد للساخرة منه، مدى تماسُكِه النفسي والعقلي في موقفه المرعب ذلك .

بيد أنه لابد من الإشارة إلى أن عدداً من الشعراء الصعاليك، ومنهم تأبَّط شرّاً والشنفرى، من العصر السابق للإسلام، ومن الشعراء الفتّاك وأشباههم اللاحقين في العصر الأموي، كانوا قد طرقوا موضوعة مصاحبة الوحوش من الحيوانات والأليفة منها، فضلاً عن مصاحبة الجن، في أشعارهم التي وصل منها ما وصل وذاع، وإن لم يُناظروا هذا الشاعر مناظرةً تامة في عرضهم لأحوالهم الفكرية والنفسية في هذا المجال([11]).

فالعنبري - في شدّة خوفه من الأنْس - أنِسَ إلى حيوانات الصحراء أنساً يكاد يكون بديلاً عن كل ما لـه صلة بالبشر إذ يقول مثلاً:

" وحالفتُ الوحوش وحالفتْنـي

بقُربِ عُهودهِنَّ وبالبعـادِ"([12])




يُعبّر في أبياتٍ آُخَر لـه عن هذا الخوف - حدَّ الفَزع- من أي ناظرٍ نحوه من البشر، فيقول:

"لقد خِفتُ حتى خِلتُ أن ليس ناظرٌ

إلى أحدٍ غيري فكدتُ أطيرُ

وليـس فـمٌ إلاّ بسـري مُحـدَثٌ

وليـس يـدٌ إلاّ إلـيَّ تُشيـرُ"([13])


لا بل بلغ به الهلع حدّاً جعله يخاف حتى إن مرّت به حمامة - على الرغم من وَداعتها - لأنه يرى فيها عَدوّاً أو طليعةً من طلائع البشر، فهو يقول:

"لقد خِفتُ حتى لو تمرّ حمامةٌ

لقلتُ عدوٌّ أو طليعةُ معشرِ"


وإذ يصف حالّه في أبيات أُخَر من هذه المقطعّة، بأنه أصبح كالوحشي يتبع القفار الخالية الموحشة، ويترك البلاد المأنوسة المخصبة، ويلخّص في بيتها الأخير مقدار شكّه وريبتهِ من كل ما حوله، فيقول:

"إذا قيلَ خيرٌ قلتُ هذي خديعةٌ

وإن قيلَ شرٌ قلتُ حقٌّ فَشَمّرِ"([14])


وثمة في أشعار (العنبري) الكثير من الصور والمعاني والمضامين الفكرية الفريدة، التي جسَدت مشاعره النفسية والعقلية الواضحة التناقض، في إبداء التماسك والوعي الدقيق بظروفه وأحواله من جهة، وفي إبداء الخوف الشديد من كل ما حوله من جهة ثانية مما يقرّبه من المجانين لا الأسوياء.

يتّضح مما تقدّم أن موضوعة (التشرّد والخوف) في أشعار هذه الطائفة من شعراء العصر الأُموي، أظهرت جديداً مبتكراً من الناحية الفكرية والموضوعية، لأنها عبّرت عن شؤون وأحوال وظروف لم يَعهدْها السابقون الذين عاشوا حياة التشرُّد في القفار والفلوات - لأي سبب كان - في العصر السابق للإسلام تحديداً، وهي شؤون وأحوال وظروف كانت جديدة تماماً على الشعراء، لأنها كانت جديدة على المجتمع العربي في عصر التحوّلات المتسارعة والمتشابكة، وفي مرحلة مهمة من مراحل تاريخ الأدب العربي المتعاقبة.

2- الحنين إلى الأَهل والأَحباب
بالرغم من اختيار عدد من الشعراء الفتّاك لحيوانات الصحراء أهلاً لهم يأنِسون إليها من دون بني البشر، فإنهم ظلوا ينزعون إلى أهلهم وأحبّائهم، قبائلَ أو نساءٍ معيّنات أو نخلٍ أو آبار بعينها، مدفوعين بالحنين إلى حياتهم التي عاشوها قبل التشرُّد في الفلوات، وإلى تذكّر ما كانت عليها شِيَمُهم من الكرم وإقراء الضيف، ومن مواقفَ شجاعةٍ في مواجهات ونزاعات مختلفة، ومن علاقات عاطفية انتهت كلُّها - أو كادت - نتيجةً لتشرُّدهم من جانب، أو لوقوعهم بيد السـلطة وممثليها على اختلافهم وما أدى إليه من دخولهم السجون، من جانب آخر .

إن موضوعة الحنين هذه ستحاول الاقتراب من هذين السببين الرئيسين: التشرّد والسجن معاً، وما عكساه من مشاعر حنين طاغية عبْر أشعارهم، لاسيما أن السبب الثاني منهما يختلف عن السبب الأول من نواحٍ عدة، منها أنه كان جديداً في الحياة العامة أصلاً، وأنه لم تكن وراءه دوافع اجتماعية واقتصادية حسب، كاللصوصية مثلاً، بل كانت هناك دوافع سياسية أيضاً، في حين كان السبب الأول - أي التشرّد - يكاد يُماثل في سطحه الخارجي ما عاشه الشعراء الصعاليك وغيرهم من الشعراء، في العصر السابق للإسلام.

ولا نغالي إذا أقررنا بأن (يائية) مالك بن الريب الشهيرة التي رثى بها نفسه في غربته، من أبرز النصوص الشعرية المُعبّرة عن حنين الشاعر الطاغي إلى أهله وأحبائه، وإلى أرضه وأشجارها، وإلى جميع ما لـه صلة روحية وفكريّة في أغوار نفسه ودواخلها، وفي آفاق فكره الذي ما كانت مهنة اللصوصية التي ألحقت به لتُخلخِل شيئاً منها.


--------------------------------------------------------------------------------

([1]) الشعراء الصعاليك: 180-227.

([2]) قيم جديدة: 43-45 .

([3]) مدخل إلى الأدب الجاهلي: 209 وما بعدها.

([4]) دراسة الأدب العربي: 295-298 وما بعدها.

([5]) القتال الكلابي، ديوانه: 45 - عماية: جبل عظيم أو مجموعة هضبات، يزدهيها: يستخفّون شأنها.

([6]) م. ن : 77 .

([7]) شعراء أموين: 1/145 - حاجب: هو حاجب بن خشينة العبشمي.

([8]) م.ن: 1/178. (وفي: أشعار اللصوص …: مج1 /189 (يغدو) بدل (يعدو) مع إشارة في الهامش إلى أن ورودها بالعين المهملة تصحيف، و(حَجر) و(جو): من نواحي اليمامة.

([9]) شعراء أمويون: 1/179 - طُلاهم: أعناقهم. (وأيضا :267 مطوّلة (الخطيم) المناظرة موضوعةً وزناً وقافية).

([10]) شعراء أمويون : 1/209 - أرنَّت: صاحت.

([11]) الشعر والشعراء: 1/176 وما بعدها (بالنسبة لتأبط شرّاً)، والأغاني: 18/210 والأغاني:21/141 (بالنسبة للشنفري).

([12]) شعراء أمويون: 1/211 .

([13]) شعراء أمويون: 1/214 .

([14]) م. ن: 1/216 .


يتبـــــع

 

التوقيع

 


تِدفا على جال ضوه بارد إعظامي=والما يسوق بمعاليقي ويرويها
إلى صفا لك زمانك عِل يا ظامي=اشرب قبل لا يحوس الطين صافيها
 
 
رد مع اقتباس