المسجد مهد الانطلاقة الكبرى
بسم الله الرحمن الرحيم المسجد مهد الانطلاقة الكبرى إن الحمد لله ، نحمده ونستعيه ، ونستغفره ، ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلي الله عليه وسلم. أما بعد: فإن المسجد مهد الانطلاقة الكبرى التي شهدها تاريخ الإنسان، ولم يعرف في تاريخ أي حضارة ، ولا في سجل أي ثقافة، مسجد اثر في مسار العالم كمسجد محمد صلي الله عليه وسلم وهذا ما سنتاوله بالبحث في النقاط التالية: أولاً: الرسول صلي الله عليه وسلم يفتتح مدينته ببناء المسجد: قال الله تعالى: ( لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ)(التوبة: من الآية108) . عندما وصل عليه الصلاة والسلام إلى المدينة كان أول مشروع قام بتنفيذه في عاصمته طيبة الطيبة أن وضع حجر الأساس لبناء ذاك المسجد ، لتنطلق منه الدعوة الإسلامية، ولتربى فيه الأرواح المؤمنة، ولتهتدي فيه القلوب الصادقة. قام مسجده صلي الله عليه وسلم ليكون روضة من رياض الجنة، شيخه محمد صلي الله عليه وسلم ، وتلاميذه : أبو بكر وعمر، وعثمان، وعلى، وأبي بن كعب، ومعاذ بن حبل، وزيد بن ثابت، ومواده المقررة وحى سماوي خالد، أما مطلبه فأن تكون كلمة الله هي العليا. ثانياً: عمار المساجد هم أولياء الله عز وجل وأحبابه من خلفه: يقول سبحانه: (إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَاليوم الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ) (التوبة:18) . وعمارة المسجد عند أهل العلم على ضربين: العمارة الحسية: بالبناء والتشييد، وأجرها عظيم لمن قصد بها وجه الله عز وجل. والعمارة المعنوية: بالصلاة والذكر والدعاء وقراءة القرآن الكريم. وكلا المعنيين وارد في هذه الآية ، فلا يعمر هذه البيوت إلا أولياؤه سبحانه وتعالى، ولا يحق للزنادقة، ولا يصح للملاحدة، وليس للمنافقين طريقة إلى عمارة المساجد؛ لأن الذين يعمرون المساجد يريدون أن يعمر هذا الدين وأن يستمر وأن ينتشر ليصل نوره إلى كل مكان، فهم يبنون قلاعاً من الانتصار للرسالة الخالدة العظيمة، رسالة محمد صلي الله عليه وسلم، وهم يشيدون معاقل لرفع راية التوحيد خفافة في كل شبر من الأرض. أما أعداء الله فلا يريدون ذلك ولا يتمونه؛ لأن المساجد تهدد بقاءهم، وتحول بينهم وبين شهواتهم ، وتنهي تواجدهم في الأرض ، فهم لذلك لا يريدون عمارتها وإنما يسعون جاهدين إلى هدمها وإزالتها من الأرض، ويتمنون عدم وجودها، ولذلك وصفهم الحق سبحانه وتعالى بقوله: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ )(البقرة: من الآية114). ثالثاً: الله عز وجل يشيد بالمساجد وعمارها من الرجال المؤمنين: يقول سبحانه: (فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ) (النور:36،37). فهؤلاء رجال ورد ذكرهم بصفة المدح، وكأن غيرهم ليسوا برجال. رجال يعمرون بيوت الله سبحانه. رجال يحافظون على الصلوات الخمس جماعة في المسجد. رجال يحرصون على تلقي العلم الشرعي النافع في بيوت الله. رجال يحمون هذه البيوت أن تغلف أو تهدم أو تزال أو تضيع قداستها. فالمساجد بيوت الله عز وجل في الأرض ، وهو سبحانه الذي أذن أن ترفع، وهي أنقي بقاع الأرض ، واطهر مساحات الدنيا، وفيها تتألف القلوب المؤمنة وتتنزل الرحمات وتهبط الملائكة، وتحل السكنة والخشوع. بنفسي تلك الأرض ما أحسن الربى وما احسن المصطاف والمتربعا *ومن هنا نري أن عمارة المساجد تكون بإقامة الصلاة فيها، وحلقات الدرس ، ومجالس الذكر ، ومدراسة القرآن وتلاوته وحفظه ، وبذلك يتحقق المعني الصحيح لعمارة المساجد، وتعود لها مكانتها حيث كانت شبيهة بخلايا النحل، فلا تكاد تخلو من راكع أو ساجد أو ذاكر لله سبحانه ، أو قارئ للقرآن، أو طالب للعلم، أو عام يعلم الناس. وليس هذا فحسب ؛ بل إن كثرة التردد عليها وتحمل المشاق في سبيل ذلك أمارة الإيمان الكامل الذي يستحق الثواب الجزيل . رابعاً : حق على الأمة الاعتناء بمساجدها لأنها مظهر للرقي والفلاح: كنا أمة مبعثرة قبل ظهور الإسلام ، فلما بعث محمد صلي الله عليه وسلم جمعنا في أعظم جامعة آخت بين قلوبنا، وجمعت كلمتنا، ووحدت شملنا ، ولمت شعثنا ألا وهي المسجد ، فكان حقاً علينا جميعاً أن نظهر هذه المساجد بأجمل مظهر يعرفه الناس فنعتني بها أكثر من بيوتنا ومنازلنا. فعن عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت: (( أمر الرسول صلي الله عليه وسلم ببناء المساجد في الدور وأن تنظف وتطيب)). وتنظيفها يعني: إزالة الأذى منها ، أما تطيبها فيكون بانبعاث الرائحات الندية من العطور والبخور، وما شابه ذلك بن جنباتها، لتشتاق إليها الأرواح المؤمنة، وترتاح بها الأنفس الزكية. ومن هنا كان علينا جميعاً الاهتمام بشئون المساجد. والحرص على إقامتها في كل مكان تدعو الحاجة الى وجودها فيه، وخاصة في أماكن التواجد البشري، والعمل الجماعي، وعلى الطرق للمسافرين، وفي محطات الوقوف والانتظار، والمطارات، ودور التعليم، وأماكن النزهة والاصطياف، والحدائق وغيرها، ومن المهم جداً معرفة أنه لا يكفي أن تقام المساجد هنا وهناك دون عناية بشئونها أو اهتمام بخدمتها، أو حرص على جمال مظهرها، وإعدادها لاستقبال المصلين في كل حين. خامساً : خطورة تحويل القبور إلى مساجد والمساجد إلى قبور: وهذا لن يكون إلا إذا ضيعت الأمة رسالة ومبادئها، واختل نهجها، واضطربت مسيرتها، عندئذ يتحول المسجد إلى مقرة، وتنقلب المقبرة الى مسجد . يصبح المسجد خاوياً على عروشة ولا يؤدي رسالته العظيمة للأمة، فلا حلقات علم، ولا تدريس، ولا وعاظ، ولا خطابة، ولا إرشاد ،ولا توجيه. في حين يصبح القبر مسجداً يغض بالخرافات والبدع والضلالات . يقول الرسول صلي الله عليه وسلم : (( قاتل الله اليهود اتخذوا قبور الأنبياء مساجد)) وزاد مسلم : (( والنصارى)) . وللشيخين من حديث عائشة ـ رضي الله عنها ـ أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال : ( أولئك قم إذا مات فيهم العبد الصالح أو الرجل الصالح بنوا على قبره مسجداً )). وفيه : أولئك شرار الخلق عند الله)). لماذا فعلوا ذلك ؟! لأنهم عطلوا مكان عبادتهم ، فقادهم الشيطان إلى المقبرة ليؤسس بيتاً للشرك، وثكنة للإلحاد، وداراً للخرافة والضلال. وفي صحيح مسلم أن الرسول صلي الله عليه وسلم قال: (( صلوا في بيوتكم ولا تتخذونها قبوراً)). ولعل المسلم يلمح انحراف الأمة في آخر عهدها عن المسار الطبيعي الذي سار عليه رسولنا عليه الصلاة والسلام، وأصحابه الكرام في بناء المساجد وتعميرها بالعبادة والشريعة والدعوة الى الله، فنجد أن كثيراً من المساجد أصبحت خاوية على عروشها إلا من الصلوات الخمس، وعطلت الرسالة إلا في بعض الجزئيات. وأصبحت المساجد في البلاد، وعند كثير من الشعوب الإسلامية دوراً للخرافة والبدع والضلالات والإنحراف عن التوحيد الخاص ، فقد وقع ما حذر منه عليه الصلاة والسلام حيث قال(( فلا تتخذوا القبور مساجد فإني أنهاكم عن ذلك)). سادساً : دعوة غير المسلمين في المسجد للمصلحة أعظم ما تهدى به القلوب وتهذب به الأرواح ويطاع فيه الله: فالكافر إذا قدم على المسلمين، والذمي إذا دلف على أرضهم، وكان من المصلحة أن يدخل إلى المسجد فلا بأس بذلك ـ إن شاء الله ـ فعسي أن يلين قلبه ولعله يري الجموع السائرة إلى المسجد، ويستمع لكلام الله فيؤمن ويهتدي. قال تعالى : (وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ)(التوبة: الآية6) . إذا كان ذلك كذلك فليغير المسلم أن يدخل المسجد ليسلم، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : (( بعث النبي صلي الله عليه وسلم خيلاً فجاءت برجل فربطوه بسارية من سواري المسجد)) وهذا الرجل ثمامة بن أثال سيد بني حنيفةالذي ما أن سمع كلام الله يتلي في المسجد حتى نزل النور على قلبه فأسلم)) وكذلك وفد ضمام بن ثعلبة ـ رضي الله عنه ـ على رسول الله صلي الله عليه وسلم ودخل مسجد فتعلم منه أصول الإسلام. كما وفد عدي بن حاتم الطائي على الرسول صلي الله عليه وسلم في المسجد وكان منتصراً فأسلم وهاده الله. سابعاً : المسجد منتدى أدبي ترسل منه الكلمة الصادقة: إن أعلى منابر الأدب، وأحسن مواقع التأثير، وأعظم قنوات الاتصال ، تكون في المسجد؛ لأنه ليس مكاناً للزجر العنيف ولا للمواعظ والتخويف فحسب، ولكنه إلى جانب ذلك منتدى للكلمة الطيبة المباركة، ومنطلق للبيت الشعري الجميل، ومكان للقصة الوعظية الهادفة، وميدان للمناقشة المجدية المثمرة، ومساحة للحوار الهادئ المفيد. وقد ورد عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ أن عمر بن الخطاب ، وهو عملاق الإسلام وفاروقه رضي الله عنه ، مر بحسان بن ثابت شاعر الإسلام وهو ينشد في المسجد، فلحظ إليه عمر، فقال حسان: كنت أنشد فيه، وفيه من خير منك ـ يعني رسول الله صلي الله عليه وسلم. (1)ولقد كان النبي صلي الله عليه وسلم يقرب المنبر لحسان بن ثابت في مسجده ويقول : (( اهجم وروح القدس يؤديك)). أما إذا تحول المسجد إلى مكان للأشعار الساقطة ؛ وما فيها من مديح كذاب، وهجاء مقذع ، وكلمات بذئية ، وصار إلقاء الشعر عادة مستمرة ، وكثر ذلك حتى طغي على قراءة القرآن، وطلب العلم ، والذكر ، وأداء الطاعات؛ فإنه ينهي عنه، فعند أبي داود في السنن مرفوعاً إليه عليه الصلاة والسلام ، أنه قال : (( من سمعتموه ينشد الشعر في المسجد فقولوا له : فض الله فاك)). ثامناً : لا مكان للغوغائيين والمشاغبين في المسجد: نحن أمة النظام ، وأمة الهدوء ، وأمة الرتابة، وأعظم المظاهر الحضارية والمنشآت المعمارية في حياتنا هي المساجد، أو قرية من القرى ، أو واحة من الواحات، فلينظر إلى مساجدها ، وليرى ما مقدار اهتمام الناس بهذه المساجد؟ وما هي علاقتهم بها؟ حينها يحكم على هذا الجيل أو هذه الطائفة من الناس ومدي رقيهم الحضاري الإسلامي. ولذلك فإن للمساجد في الإسلام حقوقاً ، ولروادها آداباً ينبغي لكل مسلم معرفتها والتمسك بها، والعمل بمقتضاها، فلا يجوز لرواد المساجد أن يرفعوا أصواتهم مشاغبين أو مشوشين؛ لأنها مكان سكينة والهدوء والإنضباط . ولأن المسلم يقف فيها أمام مالك الملك ، وملك الملوك سبحانه، عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم : (( من سمع رجلاً ينشد ضالة في المسجد فليقل: لا ردها الله عليك؛ فإن المساجد لم تبن لهذا)). إذ لو فتح الباب لأصبح المسجد مكانا للدعاية الإعلان ، ورفع الصوت والضوضاء ، وهذا بدوره مخالف لهدي محمد صلي الله عليه وسلم ، ومناقض لرسالة المسجد ومهمته في الحياة. تاسعاً: مساجدنا أسواق لتجارة الآخرة لا لتجارة الدنيا: تجار الآخرة هم عمار المساجد، وتجار الدنيا هم عمار الأسواق ، والمساجد في الإسلام أسواق للآخرة ، بل هي أسواق الجنة وميادين التجارة الرابحة مع الله سبحانه، لأنها أسواق الأرواح المؤمنة والقلوب المطمئنة. أما الأسواق الدنيا فهي أسواق البطون والشهوات، عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال: (( إذا رأيتم من يبيع أو يبتاع في المسجد فقولوا: لا أربح الله تجارتك)). والمعني أنه ليس لإنسان أن ينصب سوقاً فوق رؤوس المصلين في المسجد، ولا أن يعرض تجارته وسلعة عليهم في هذا المكان ، لأنهم فيه مشغولين بتجارة الآخرة وأرباح الجنة، ولأن في ذلك تعطيلاً لهذه الأوقات الثمينة ، وصرفاً للقلوب عن بارئها ، وإشغالها بالدنيا وزخرفها الزائل الزائف. عاشراً : المسجد هيئة لتأديب القلوب وتهذيب الأرواح وليس ثكنة لإقامة الحدود والتعزيز: فالقلوب لا تتأدب إلا بالتربية المتأنية ، والكلمة اللينة، والقدوة الحسنة ، وهذه كلها وجدت في مسجده عليه الصلاة والسلام، أما أن تتحول المساجد إلى دور للتعزير والضرب وأماكن لتأديب المخطئين، فهاذ ما لا يليق بها ولا يتفق مع دورها العظيم في حياة المجتمع، عن حكيم بن حزام ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: (( لا تقام الحدود في المساجد ولا يستفاد فيها)). ولذلك فإن قطع يد السارق ، وجلد الزاني البكر، ورجم الزاني الثيب، وجلد شارب الخمر وغيرها من الحدود والعقوبات الشرعية لا تكون في المساجد؛ لأن معني ذلك أنها سوف تتحول من منازل للرحمة والسكينة إلى ثكنات للتخويف وقلاع لتأديب المجرمين والعصاة الذين يمكن تأديبهم في مكان آخر غير المسجد. · أنظر أخي المسلم إلى روعة الإسلام وجماله وكماله، حينما جعل المساجد أماكن لتربية النفوس وتهذيبها وتربيتها التربية الإسلامية الفاضلة؛ فإذا ما عصت هذه النفوس وتمردت ؛ فإن علاجها وتأديبها يكون خارج المسجد. حادي عشر: من المسجد تصرف الأدوية الربانية وفي المسجد يعالج المرضي: لم تعرف صيدليات العالم، ولا عيادات التاريخ الإنساني أعظم من صيدلية محمد صلي الله عليه وسلم وعيادته المباركة التي كتب عليها: (وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ) (الشعراء:80) وما ذلك إلا لأن دواءها وعلاجها يصل مباشرة الى القلوب فيشفيها بإذن الله. وكثيراً ما كان المرضي يأتون إلى مسجده صلي الله عليه وسلم الذي كان مكاناً لعلاج المرضى، وبخاصة في أيام الحروب والمعارك، فعن عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت: (( أصيب سعد بن معاذ يوم الخندق في الأكحل ـ وهو عرق في وسط الذراع ـ فضرب النبي صلي الله عليه وسلم ـ له خيمة في المسجد ليعوده من قريب)). وهذا يعني أن الجريح أو المريض له أن يعالج في المسجد لمصلحة، وليكون قريباً للإمام وأعيان الناس فيتمكنون من عيادته إذا اقتضي الحال ذلك، ثم لأن المسجد مكان عباده، وبقعة طاهرة تحف بها الملائكة ، وتغشاها السكينة، فيكون المريض بذلك قريباً من دعوات إخوانه المؤمنين ، فلعل ذلك يكون سبباً في شفائه وبرئه وسرعة استعادته لعافيته، وهذا سبب خفي قل من ينتبه له أو يتذكره، ومن هنا نري أن المسجد مكان طبيعي لعلاج مرضي القلوب إضافة إلى أنه من أحسن البقاع وأضلها في علاج الأبدان ـ بإذن الله سبحانه. ثاني عشر : ليس لأحد أن يسيء الأدب في بيت الله عز وجل: فبتيه سبحانه وتعالى محترم ومقدس، وينبغي أن تكون له مكانة سامية ، ومنزلة رفيعة، وحصانة شرعية تليق به، وكيف لا يكون كذلك وهو بيت مالك الملك، وملك الملوك؟! إن ملوك الدنيا لا يرضون ولا يسمحون أن يساء الأدب في بلاطهم وقصورهم وبيوتهم، ولا أن ترفع الأصوات بحضرتهم، ولا أن يكثر الضجيج في أماكن تواجدهم ، ولا أن تحدث حركة أو لفظة غير مسئولة عندهم. فالله سبحانه وتعالى أولي بالاحترام والتعظيم والتقديس في بيوته جل شأنه. عن أنس ـ رضي الله عنه ـ قال : قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: (( البزاق في المسجد خطيئة وكفارتها دفنها)). فلا يحق للمسلم أن يبزق في المسجد، ولا أن يتفل فيه، ولا أن يضع فيه أذى أو قذراً، ولا أن يجعله مكاناً للقمامة والزبالة، وقصاصات الأوراق، وفضلات الأشياء ، فإن هذا السلوك وهذا التصرف ينبئ عن قلة إيمان من فعل ذلك ، وعن سوء أدبه وعن عدم احترامه لبيت الله عز وجل. ثالث عشر: شغل الناس بزخرفة المساجد على حساب رسالتها وآثرها في الأجيال: يعمل المسجد على تخريج مسلم على درجة عالية من الوعي والمعرفة، فالمفسر للقرآن يخرج من المسجد، وكذلك المحدث والفقيه والخطيب والمفتي والمجاهد، والآمر بالمعروف والناهي عن المنكر ، والحاكم بشرع الله، والمنفذ لأوامر الله، والداعي إلى سنة رسول الله صلي الله عليه وسلم، ولذلك فإن المسجد في عصور السلف الصالح خرج قادة الدنيا، وأصحاب التأثير في تاريخ الإنسان ، فالخلفاء الراشدون، والعبادلة الأربعة، والقادة الفاتحون والشهداء في سبيل الله ، جميعهم كانوا من المهاجرين والأنصار وغيرهم من الثلة الخيرة، والنخبة المصطفاة الذين كانوا عباداً للحجر فأصبحوا قادة وزعماء للبشر، وكانوا رعاة للغنم فأصبحوا سادة للأمم ، جميعهم تخرجوا من مسجد محمد صلي الله عليه وسلم الذي كان مبنياً من الطين، ومسقوفاً بجريد النخل. * فماذا فعلت المساجد التي بنيت بأرقي الخامات؟ وصممت على أحدث التصميمات؟. * ماذا فعلت في حياة الجيل وهي التي خططت تخطيطاً بديعاً؟! * هل أثرت في مسيرة إياك نعبد وإياك نستعين؟! * هل أخرجت لنا وللأمة المسلمة علماً نافعاً؟! * هل وقفت سداً منيعاً أمام حملات الغزو الفكري والتيارات الهدامة؟! * هل بعثت الفكر من مرقده وأيقظته من سباته؟! * هل شحذت الهمم وحركت المشاعر في النفوس؟! * هل بثت النور في قارات الأرض؟! * وهل عبرت منها الكلمات الصادقة عبر المحيطات؟! لا وألف لا . وذلك أكر يؤسف له. * أما لماذا؟ فلأننا عمرنا مساجدنا بالبناء ، ولم نعمرها بالذكر والدعاء، ولأننا عمرناها بالزخارف والألوان ولم نعمرها بتلاوة القرآن . عن أنس ـ رضي الله عنه ـ قال : قال رسول الله صلي الله عليه وسلم : (( لا تقوم الساعة حتى يتباهي الناس في المساجد)). وزاد بعضهم : (( ثم لا يعمرونها إلا قليلا)). وهذا هو الواقع الحالي في تعاملنا اليوم مع المساجد التي أصبحت مظاهر، واصبحت آيات في حسن البناء وروعة الهندسة، تعجب الناظرين وتسرهم في مظهرها إلا أنها في مخبرها وجوهرها لم تؤد رسالة ولم تحقق هدفاً .فعقم جيلها وسكنت ألسنتها، واختفت حلقاتها، وانطفأ نورها، وانعدم دورها. والمباهاة في عمارة المساجد من علامات الساعة، لأن الأمة إذا ضعفت ومرضت واهتمت بالمظهر على حساب الجوهر، وبالقشور على حساب اللباب، والكم على حساب الكيف، أفل نجمها ودب فيها الوهن والخور والعجز, روي ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال : (( ما أمرت بتشييد المساجد)) فما بعث عليه الصلاة والسلام معمارياً يبني المساجد ويزخرفها ويهتم بنقوشها في حين ينسى عمارتها المقصودة وغايتها المنشودة، وهي عمارة الدعوة والتوجيه، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في كل زمان ومكان. إن محمد صلي الله عليه وسلم بعث في فترة كانت العرب في حاجة إلى عمارات ودور وقصور، ومحتاجة إلى مصانع وصوامع، ومحتاجة إلى دور رعاية، وبيوت إغاثة ؛ ولكنه صلي الله عليه وسلم وجد الأمة في حاجة ماسة وعاجلة إلى أحياء القلوب والأرواح، وزرع بذور العقيدة في النفوس ،فاهتم بالأهم قبل المهم، وحرص على زرع النور في القلوب حتى تشرق وتبصر وتستيقظ ، حينها يكون بإمكانها إن تبني وأن تعمر وأن تشيد ، وأن تقيم ما شاءت في الأرض. رابع عشر: المؤمنون جميعاً خدم لبيوت الله، وهذه الخدمة تاج فخار ومنجم أجر: فعن أنس ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: (( عرضت على أجور أمتي حتى القذاة يخرجها الرجل من المسجد)). والخدمة لغير الله عز وجل فيها ما فيها من المآخذ، أما خدمته جل وعلا في بيوته ولأوليائه ولأحبابه من المؤمنين الصادقين الصالحين فهي شرف عظيم، وهي عنوان العز في الدنيا ومداعة للأجر والثواب في الآخرة. فالرسول صلي الله عليه وسلم أمر بتنظيف المساجد من الأقذار ومن كل ما يؤذي المسلمين، ورغب في ذلك كثيراً ، وحث عليه السلام على تطييبها بالروائح الطيبة، وجعل هذه المهمة مهمة لكل مسلم حتى لا ينفرد أحد بهذا الشرف الكبير وحده، وحتى تتاح الفرصة للجميع فيشاركون في تنظيف المساجد وتطييبها وتجهيزها للمصلين. والقذارة هنا هي : ما يقع في العين أو الماء من تراب أو وسخ أو نحو ذلك، فكان على المسلم أن يحرص على نظافة بيت الله، وأن لا يهملها مهما كانت صغيرة؛ بل عليه أن يلتقطها وأن يزيلها من بيت الله، وقد روي أن الإمام البخاري ـ رحمه الله ـ كان في مجلس الحديث فرأي قذاة في المسجد ، فقطع الدرس وأخذها ثم وضعها في جيبه . فما خرج من المسجد رمي بها. خامس عشر: مساجدنا لها علينا تحية الشوق والإجلال: عن أبي قتادة ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم : ((إذا دخل أحدكم المساجد فلا يجلس حتى يصلي ركعتين)). وهاتان الركعتان يسميها أهل العلم(( تحية المسجد)) فللمسجد في الإسلام تحية يحيا بها ،كما يحيي المسلم أحب حبيب أو أقرب قريب. وهذه التحية تحية متميزة وليست كغيرها من أنواع التحايا؛ فهي تربي المسلم على أدب إسلامي رفيع ، فدخول المسلم غلي المسجد ليس كدخوله إلى مكتب من المكاتب، أو سوق من الأسواق ، أو منزل من المنازل، او شارع من الشوارع، وإنما هو دخول إلى مكان مقدس، وبقعة طاهرة تختلف عن غيرها من الأماكن والبقاع. ولذلك كان من اللائق أن يحيا المسجد بركعتين طيبين يصليهما المسلم قبل أن يجلس لتكونا ـ بإذن الله ـ فاتحة خير وبداية أنس مع الله جل شأنه. بل إن بعض أهل العلم يذهب إلى وجوب هاتين الركعتين، ويستدل على ذلك بأن الرسول صلي الله عليه وسلم كما في صحيح مسلم أقام رجلاً في أثناء خطبة الجمعة جلسولم يركع ركعتين وقال له: ((قم فصل ركعتين)). وتصلي تحية المسجد على الصحيح حتى في أوقات النهي، وكم هو عظيم وجميل أن يبدأ المسلم جلوسه في المسجد بطاعة وقربي إلى الله سبحانه وتعالى؛ ليعلن بهما عن السمع والطاعة والخشوع والخضوع لرب هذا البيت جل جلاله. إضافة إلى أن هاتين الركعتين قطعاً للحديث بين المصلين وانتظارً للصلاة في خشوع ووقار وسكينة. سادس عشر : القرارات العسكرية الخطيرة في حياة الأمة تصدر من المسجد: كان المسجد في عهد المصطفي صلي الله عليه وسلم مكاناً لإعلان الحرب على أعداء الله، ولرفع راية الجهاد ولاستنهاض الهمم، وإيقاظ المشاعر، وتحريك القلوب ، وبث الحماس في النفوس، كان عليه الصلاة والسلام يعلن البيانات العسكرية من على منبره مباشرة، ولذلك كانت انتصاراتنا هائلة في بدر، وأحد، والفتح، واليرموك، وحطين، وعين جالوت، وغيرها من معرك الإسلام الفاصلة وانتصاراته العظيمة. كان عليه الصلاة والسلام يعلن حالة الحرب من المسجد، ويتكلم عن ملابسات المعركة وعن ظروفها، وعن الشهداء وأخوالهم في المسجد. فقد أعلن عن معركة أحد يوم الجمعة،وبدأت أحداثها يوم السبت، وتكلم عليه الصلاة والسلام عن الشهداء في مؤتة من على منبره وكأنه يعيش أحداثها لحظة بلحظة. وكان يرسل السراي والغزوات من المسجد، فيأتي بالقائد ليسلمه الراية من على المنبر، فتكون الغزوة مباركة والسير مباركاً. وكان عليه الصلاة والسلام يعلن نتائج المعارك من المسجد،وهذا ثابت في سيرته صلي الله عليه وسلم ، وذكر ذلك أهل العلم كصاحب زاد المعاد، وابن هشام في سيرته وغيرهما من أرباب السير ونقلة التاريخ. وقال المهلب: (( المسجد موضوع لأمر جماعة المسلمين، فما كان من الأعمال يجمع منفعة الدين وأهله جاز فيه)). سابع عشر:ميراث المصطفي صلي الله عليه وسلم يوزع في مساجد المسلمين: لم يورث المصطفي صلي الله عليه وسلم درهماً ولا ديناراً ، ولم يترك قصوراً ولا حدائق ولا بساتين ولا منشآت حضارية، وإنما ترك لأناء الأمة وحياً سماوياً ، وسنة مباركة، فميزنا عن الأمم وشرفنا بها على بقية الشعوب. ترك لنا كتاباً عظيماً وسنة مطهرة ، وتعالي ماً ربانية، وشريعة خالدة لا تختلط بالتراب ولا تدس في الطين، وإنما هي تنزيل من رب العالمين. هذا الميراث العظيم الذي تركه عليه الصلاة والسلام يقسم في المساجد وحلق العلم والصلوات الخمس وخطب الجمع والدروس والندوات والمحاضرات . والمساجد ـنسي الأماكن لهذه المهمة الجليلة خصوصاً عند اجتماع المسلمين للصلاة جماعة في كل يوم خمس مرات، وعدد أكبر يوم الجمعة تلقي عليهم خطبة الجمعة بما فيها ذكر، وتعاليم دينية ، وإرشادات ربانية، وقد كان عليه الصلاة والسلام يعقد مجالس العلم في مسجده، ويتزاحم المسلمون عليها ويتنافسون في القرب من المعلم الجليل صلي الله عليه وسلم ، حرصاً على تمام الاستفادة. روي الطبراني بإسناد حسن عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ أنه مر بسوق في المدينة ، فوقف عليها وقال : يا أهل السوق، ما أعجزكم!! قالوا: وما ذاك يا أبا هريرة؟ قال : ذاك ميراث النبي صلي الله عليه وسلم يقسم وأنتم هاهنا، ألا تذهبون فتأخذوا نصيبكم منه. قالوا: وأين هو؟! قال: في المسجد ز فخرجوا سراعاً، ووقف أبو هريرة لم يبرح مكانه حتى رجعوا فقال لهم: ما لكم؟ فقالوا : يا أبا هريرة، قد أتينا المسجد فدخلنا فيه فلم نر شيئاً يقسم. قال: وما رأيتم؟ قالوا: رأينا قوماً يصلون، وقوماً يقرءون القرآن، وقوماً يتذاكرون الحلال والحرام. فقال لهم أبو هريرة: ويحكم! فذاك ميراث محمد صلي الله عليه وسلم إنه لم يورث درهماً ولا ديناراًوإنما ورث العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر. ولذلك كانت مساجد السلف الصالح مباركة ، وعلامة بركتها هذه الأجيال العلمية الممتلئة بالمثل الحية في ضمير التاريخ، السائرة في كوكب الأرض لا تطمس ولا تنس، ولذلك وجد منهم أرباب المذاهب ، وعلماء الحديث، واساطين الفقه، وشعراء الفضيلة، وغيرهم من المفتين والوعاظ والخطباء والحكام والقضاة، كلهم تخرجوا من المسجد. وليس هذا فحسب بل إن المصلي الذي يعتاد المساجد العامرة بالدروس والمحاضرات وحلق الذكر ، ومجالس العلم لا تكاد تمر عليه فترة زمنية بسيطة إلا وقد تعلم الكثير من أمور دينه ودنياه، هذا إذا كان مجرد مستمع للدروس مواظب على المحاضرات، أما إن كان طالب علم يحرص على السماع وتسجيل الفوائد ، وحفظ الآثار فإنه سيصبح يوماً ما مثل شيخه في العلم وسعة الاطلاع. ثامن عشر: المسجد مركز اللقاءات العلمية، ومكان استقبال الوفود الدعوية: كان النبي صلي الله عليه وسلم يستقبل في المسجد الوفود التي ترد عليه لأغراض مختلفة كطلب العلم ، أو إعلان إسلام، أو عقد معاهدة، او طلب معونة، أو نحو ذلك من إغراض . وكان المسجد أشبه بقاعة الاستقبال الرسمية الدائمة، وكان جاهز ومهيأ لجميع الوفود من مختلف البلاد والأقطار. فقد استقبل النبي صلي الله عليه وسلم وفد نجران، كما استقبل وفداً من بني تميم، وقدم عليه وفد من قبائل كندة، وغيرهم من الوفود وأبناء القبائل الذين أستقبلهم عليه الصلاة والسلام وسمع كلامهم، وعلمهم أصول الدين الإسلامي، واستضافهم ، فكانت المدينة المنورة عارمة باصناف الناس الذين دخلوا في دين الله أفواجاً وبخاصة بعد فتح مكة، وإسلام ثقيف، وفراغة صلي الله عليه وسلم من معركة تبوك. وفد عليه الجميع وجلسوا إليه واستمعوا له، وهو يعلم ويبني ويوجه، وينظر ويؤسس دولة الإسلام ، ويرفع البناء عالياً شامخاً باذخاً. وحبذا لو أعيد إحياء هذه السنة النوبية المباركة، فتعقد اللقاءات ، وتنظم المؤتمرات في المساجد، سواء كانت فكرية، أو علمية، أو تربوية ، لتأسيس المناهج وإعادة بناء الثقافة، وإعداد المقررات، ودراسة المشاريع والمخططات . وحبذا لو انطلقت من المساجد لتكون مباركة خيرة سديدة راشدة، ولتؤتي أكلها كل حين بإذن ربها. وحبذا لو عقدت مؤتمرات المسلمين في المساجد، لأنها لما عقدت في القاعات ذهبت بركتها وانطفأ نورها ولم تؤد رسالتها . مؤتمرات كثيرة لكن بلا بركة، فتخرج قراراتها ميتة. وصدق من قال في شأنها: (( اتفقوا على ألا يتفقوا ، واختلفوا قبل أن يأتلفوا ، وتفرقوا قبل أن يلتقوا)) أما لقاءات المسجد فهي تلكم اللقاءات التي عقدها رسولنا الكريم صلي الله عليه وسلم ومن بعده أبو بكر وعمر وعثمان وعلى، ومن بعدهم من سلفنا الصالح عبر التاريخ والتي كانت قرارات سليمة، وكانت نتائجها عظيمة، ومكاسبها جسيمة شهد بها القريب والبعيد. تاسع عشر: مسجد واحد فعل ما لم تفعله جامعات الدنيا: ذلك المسجد هو مسجده صلي الله عليه وسلم الذي اختاره ليكون جامعة للدنيا بأسرها، ومنارة يهتدي بها في الأرض ، ومركزاً للتعليم والتوجيه والإرشاد ، ومكاناً للتفقه في علوم الدين والدنيا ويكفيه فخراً أنه مهبطاً لوحي السماء على خير الرسل والأنبياء . ذلك المسجد الذي قال فيه الحق سبحانه: (أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ_)(التوبة: الآية109) ذلك المسجد الذي كان جامعاً لأمور الدين، وجامعة لشئون الدنيا. وليس أدل من ذلك من أنه ظل معقلاً من معاقل التربية والتعليم لعدة قرون، تمكن من خلالها من تخريج الأكفاء لإقامة دولة الإسلام الممتدة من الشرق إلى الغرب، ومن الشمال إلى الجنوب ، وإمدادها بالعاملين الصادقين المخلصين في كل مجال من مجالات الحياة. فقد كانت المساجد تخرج الخلفاء والأمراء، والقواد والزعماء ، والمحدثين والفقهاء، والمفسرين، ورجال القضاء وأساتذة اللغة، والنبلاء والأبطال والشهداء والمفكرين والعلماء والمفتين، والأدباء والدعاة والشعراء وغيرهم ممن سمع لهم التاريخ، وشهد لهم الزمن ، بأنهم أصحاب التأثير العظيم في مسار عجلة الزمن، وفي ثقافة الأمم وحضارة الشعوب، والتاريخ خير شاهد بأن أذن الدهر ما سمعت بجامعة حولت أمة كانت لاهية لاغية عابثة الى أمة راشدة قائدة، رائدة ماجدة، تنطق بكتاب ربها سبحانه، وتحكم بالعدل، وتأمر بالمعروف وتنهي عن المنكر. كل هذه الإنجازات العظام انطلقت من مسجده عليه الصلاة والسلام. عشرون : الشباب الطموح ورسالة المسجد: إن مهمة أبناء الإسلام وشباب الإيمان أن يكونوا دعاة إلى الله سبحانه ، ينطلقون من المسجد لتكون انطلاقتنا الكبرى مباركة، وصحوتنا المعاصرة راشدة. من المحراب ننطلق أسوداً حين تنبثق بدين الله والإيمان ورسالة الشباب المسلم تبدأ من المسجد، فهو مكانهم المعهود ، ومركزهم المبارك، لأن الخطيب المصقع إذا أراد أن ينفع أمة محمد صلي الله عليه وسلم فإن عليه أن يصعد المنبر، وأن يوجه الكلمات تلو الكلمات والعبارات بعد العبارات ليحيي الله سبحانه بها قلوب الناس. ولكن.. ما للشباب يصدفون عن الخطابة ويصدون عنها؟! أهو الورع؟ إذا كان ذلك كذلك فإنه ورع بارد أكله حب الخمول، والبعد عن مظاهر الدنيا. وهو ورع لم نسمع بمثله في آبائنا ، فمحمد صلي الله عليه وسلم أزهد الناس، وأروعهم ، وأصدقهم ، وأبرهم، ومع ذلك فقد تولى خطابة الأمة فأسمع الأجيال كلمة الحق ، وألهب حماسها، وعاش مسيرتها، ومن بعده خلفاؤه الراشدون، والأئمة الصالحون، فمن أين علموا أن الخطابة مصدر للشهرة، ومرتكز لحب الظهور؟ ومن أفتاهم بذلك؟ حتى يتركوها لأناس لا يجيدونها، لأنهم ليسوا من فرسانها، ولا يقومون بها حق قيامها، فأصبحت المنابر فقيرة لا تؤدي رسالة، ولا ترفع أمة ، ولا تصلح خطأ ، ولا تهذب جيلاً ، ولا تقدم منهجاً، ولا ترد متهوراً . ومن المسئول عن إشغال كثير من المنابر في أنحاء مختلفة من العالم الإسلامي بغير أهلها، وتركها لأناس هم عالة على الكتاب الكريم والسنة المطهرة؟ فلا يجيدون أداءها ولا يحسنون اختيارها. ولا يقومون بآدابها ، ولا يعيشون ظروفها الزمانية والمكانية. إن هذا كله أدي إلى أن تهجر المساجد، ويقل فيها الراكع والساجد، حتى أصبحت خاوية على عروشها، وما أن تؤدي فيها الفريضة حتى تغلق بعدها لتصبح أشبه بالقبور. فهل لطلبة العلم أن يعيدوا إحياء هذه السنة في مساجدهم ،وأن ينظموا للناس حلقات للعلم، ودروساً للفقه والتفسير، ومجاميع للتلاوة، وهكذا حتى تعود أصالتها، وعمقها ، ونورها وعزها. ويا حبذا لو تفضل القائمون بالإشراف على الندوات الفكرية والثقافية، والاجتماعية، بتحويلها الى المساجد بدلاً من القاعات والمسارح التي وإن كبرت مساحتها فإن أثرها صغير ونفعها بسيط. أما لماذا كانت القاعات بهذا المستوى؟ فلأنها لم تود دورها في الحياة عندما دخلها المهرجون والمروجون لكل فكر ساقط ومنهج منحل. ولذلك فلابد من العودة إلى المساجد التي يدخلها المؤمنون الصادقون أصحاب النفوس الزكية ، والدعوات الربانية، والأفكار الإيمانية ، والأيادي المتوضئة. ** مقترحات: تعد المساجد مكاناً مناسبا لتعارف المؤمنين وتآلفهم ، فلا يتعارف أهل الحي، أو سكان الحارات أو أبناء القرى إلا في المساجد، فيعلمون بمرض المريض ويعودونه ، ويعرفون غياب الغائب فيسألون عنه ، ويلتمسون حاجة المحتاج فيمدون له يد المساعدة. فيا حبذا لو عقدت مجالس للأحياء والحارات في مساجدها، يكون من أبرز مهامها توثيق عرى الأخوة، وروابط المحبة بين رواد المسجد من المؤمنين ،وتفقد المتخلفين عن حضور صلاة الجماعة، ورعاية المحتاجين، ومد يد العون للمساكين، والشفاعة لمن أراد الشفاعة ، وتنظيم اللقاءات الدورية والزيارات الأخوية في المنازل ، والإشراف على المناسبات العامة، وإعداد فقراتها وبرامجها كالأعياد والأفراح ونحوها. ويا حبذا لو تنقل شباب الدعوة في مساجد الأحياء مذكرين واعظين. ويا حبذا لو تم إيجاد مكتبة مناسبة في كل مسجد؛ تشتمل على الكتب المقروءة والأشرطة الإسلامية، حتى تكون مرجعاً مناسباً وسريعاً للأئمة وطلبة العلم، تشتمل على الكتب المقروءة والأشرطة الإسلامية ، حتى تكون مرجعاً مناسباً وسريعاً للأئمة وطلبة العلم، ومكاناً مناسباً لتربيتهم وتثقيفهم واطلاعهم. إهداء الشريط الإسلامي النافع، والكتيب الإسلامي المفيد لرواد المسجد ولأبناء المسلمين. دعوة العلماء والدعاة والمشايخ لإلقاء الدروس والمحاضرات ، وعقد الندوات والإجابة عن التساؤلات. إيجاد صندوق مالي يدعم من أهل البذل والعطاء تكون مهمته رعاية المحتاجين ، ومد يد العون للمجاهدين ، والعناية بمتطلبات المسجد وحاجاته الضرورية. فتح أبواب المساجد ليلاً ونهاراً للمصلين، والدارسين والمرتادين، والسائلين، والمحتاجين وأبناء السبيل، والمعدمين. توفير المتطلبات اللازمة للمسجد، كوسائل الإضاءة والتكييف، والأجهزة السمعية، ونحوها من الخدمات الحضارية ، كالهاتف والصيدلية للإسعاف الأولي وأدوات التنظيف. تخصيص مكان مناسب ليكون مصلى للنساء، وإن كانت صلاتهن في البيوت أفضل، ولكن ربما كان في ذلك نفع إذا رغبن في حضور الدروس والمحاضرات. وهناك أربع ملاحظات تتكرر في كثير من المساجد فيا حبذا لو تنبه لها: الأولي: تكلف بعض الأئمة والخطباء والمؤذنين، وهذا أمر مخالف للسنة، فتجد المؤذن يتكلف في مخارج الحروف، ونبرات الصوت بشكل يثقل على النفوس، وتشمئز منه الأرواح. قال تعالى: ) وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ)(صّ: الآية86) ويقول عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ : (( نهينا عن التكلف)). وجاء عمر بن عبد العزيز كما روى عنه البخاري أنه سمع مؤذناَ يمطط في صوته، فقال له : (( أذن أذاناً سمحاً وإلا فاعتزلنا)). وتجد الإمام يتكلف في قراءته، ويتعب نفسه في تقليد إمام آخر، ويحاول استحداث صوت ليس بصوته ، وطريقة ليست طريقته، حينما يذهب الخشوع وتجف الدموع، وتشمئز النفوس ، والحذر الحذر من هذا الصنيع. وبعض الخطباء يتكلف في إلقاء الخطبة فيتقطع صوته من على المنبر ، وكأنه يريد حنجرة غير حنجرته، وأداء غير أدائه ، وشخصاً غير شخصه، فمرة يزيد ومرة يرعد، ومرة يهدد، وأخري يتوعد، ويرفع صوته في مواطن خفض الصوت، ويخفضه في مواطن رفعه، إلى غير ذلك من ألوان التكلف المنهي عنه في مجموع النصوص الشرعية. الثانية: كثرة الملصقات والإعلانات في المداخل والمخارج والممرات، وتعالي اللوحات، وهذا الأمر لا يخلو من حالتين: أن تكون هذه الملصقات إعلانية خاصة بالمحاضرات النافعة والدروس العلمية وحلقات تحفيظ القرآن، وما شابه ذلك من أعمال الخير ، ففي هذه الحالة يكون الأمر ساغاً ومقبولاً بل يكون من وسائل الدلالة على الخير والدعوة إليه. أن تحتوي هذه المادة على دعايات تجارية أو شبه تجارية، وهذا من شأنه إشغال المصلين عن الخشوع في الصلاة، إضافة إلى أنه مخالف لما كان عليه سلف الأمة الصالح. والواجب أن يكون لهذه الملصقات والإعلانات التجارية ونحوها مكان آخر غير جدران المساجد لغير ما وجدت له فهذا أمراً لا مصلحة فيه وينبغي التنبه له. الثالثة: البعض يخطئ بحسن نية وسلامة مقصد فيعلق بعض الصور الفوتوغرافية ونحوها للمجاهدين والمنكوبين في أنحاء العالم الإسلامي بحجة أن يراها المصلون، وأن يشاهدها أبناء الإسلام؛ فيسارعون إلى دعمهم ومد يد العون لهم ، وتفريج عسرهم، وتقريب يسرهم. وهذا خطأ ، فالصور مهما كانت لا تدخل المساجد، وينبغي أن تبعد عن بيوت الله. الرابعة: الزينة المتكفلة في الزخرفة والفرش، وهذا مدعاة لإلهاء المصلين وإشغالهم بكثرة تخطيطاته، وتنميقه، وألوانه ، ونقوشه. فيا حبذا لو روعي عدم المبالغة في تزيين المساجد وزخرفتها جدراناً أو سقوفاً أو محاريب. ويا حبذا لو كانت فرش المسجد خالية من الرسوم، والأوان الصارخة، والكتابات ونحوها. دور المرأة في بناء المسجد وعمارته: لاشك أن للمرأة دوراً في بناء المسجد وعمارته، فهي شقيقة الرجل وهي نصف المجتمع، ولذلك فإن الإسلام لم يهملها وإنما اعتني بها وحياها، وكان عليه الصلاة والسلام يعظ النساء في المسجد ويعلمهن، وكن يحضرن دروس وخطبة صلي الله عليه وسلم بل إنه جعل لهن يوماً من أيام الأسبوع. وكان النساء يأتين في الصفوف الأخيرة من المسجد، ليحضرن الصلاة وهن متحجبات، وغير متطيبات ، ولا فاتنات ، ولا مفتونات، ثم ينصرفن قبيل انصراف الناس من المسجد. ومن هنا فعلى المسلمين أن يوجدوا مكاناً مناسباً ليكون مصلي للنساء، ليحضرن الصلاة، وليسمعن الخطب، والمحاضرات، والدروس العلمية، وان يكون هذا المصلي مستقلاً وخاصاً بالنساء، وله باب خاص يبعدهن عن مزاحمة الرجال في الدخول وفي الخروج. ففي المساجد تتلقي الأم المسلمة تربيتها الإسلامية الحقة، وتذهب عنها الأمية، ويزول عنها الجهل والانحراف العقدي، ويستقيم سلوكها، إلا أن هناك بعض الملاحظات التي ينبغي مراعاتها ومنها: على المرأة المسلمة ألا تتطيب وتتعطر إذا قصدت المسجد، فهذا أمر منهي عنه لما فيه من الفتنة. وعليها ألا تزاحم الرجال، فإن ذلك سبب للفتنة وطريق للمعصية. وعليها ألا تأتي إلى المسجد إلا مع محرم؛ فإن بعض النساء تأتي ومعها سائق، والخلوة بالأجنبي محرمة، فتكون قد حرصت على نافلة فارتكبت محرماً والعياذ بالله. وعلى المرأة المسلمة إذا حضرت إلى المسجد ألا تنشغل بالحديث مع أخواتها، والسلام عليهن، ففي ذلك صرف للقلوب عن الذكر وقطع للخشوع، وتشويش على الناس. وعليها ألا تحضر أطفالها الصغار إلى المسجد؛ فيتحول إلى روضة للأطفال، ويسبب ذلك إزعاجاً للمصلين، وإيذاءهم والتشويش عليهم، وربما تلطيخ المسجد بالنجاسات. فيا اخوة الإسلام، ويا شباب الإيمان ، هذا هو المسجد مهد الانطلاقة الكبرى. فهل لنا أن نعيد هذه الانطلاقة؟ وهل لنا أن نعيد للمسجد دوره العظيم في الحياة؟! وهل لنا أن نعيد له مكانته السامية في النفوس؟! وصلي الله وسلم على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.. عائض بن عبد الله القرني |
الوقت في المنتدى حسب توقيت جرينتش +3 الساعة الآن 01:57 AM . |
مجالس العجمان الرسمي